الإصحَاحُ
الأَوَّلُ

 

كبرياء
أدوم

إذ سكن أدوم
على الجبال الوعرة حيث الغابات وشقوق الصخور ظنوا أنهم أمة قوية لا يقدر أحد أن
يبلغ إليها ويغزوها، لهذا جاء هذا السفر أشبه بمحاكمة لأدوم المتعجرف، فيه يُتقدم
الله كقاضي مستدعيًا أدوم ككاسر للقانون الجنائي، وقد أرسل الله رسولاً يستدعي
الأمم لحضور الجلسة ومعاينة المعركة القضائية في دار القضاء، وتقدم إليهم بالمتهم
أدوم الذي ظن أنه لا يقدر أحد أن يأتي به ويحاكمه. لهذا يبدأ السفر هكذا:

"رؤيا
عوبديا. هكذا قال السيد الرب عن أدوم: سمعنا خبرًا من قبل الرب، وأرسل رسول بين الأمم.
قوموا ولنقم عليها للحرب. إني قد جعلتك صغيرًا بين الأمم. أنت محتقر جدًا. تكَبر قلبك،
قد خدعك أيها الساكن في محاجئ الصخر، رفعة معقده، القائل في قلبه من يُحدرني إلى
الأرض؟! [1-3
].

جاءت كلمة
"رؤيا" في العبرية
Hazon وهي تُشير إلى الخبرة المنظورة، لكنها غالبًا إذ تستخدم كافتتاحية
أو عنوان لسفر نبوي تعني "ملاحظة" أو "كلمة"[1].
فما يُسجله عوبديا هنا هو ملاحظة رآها أو سمعها بالروح الإلهي بخصوص محاكمة أدوم
بواسطة الرب نفسه.

يقول
"سمعنا خبرًا من قبل الرب"، وكأنه قد تسلم تقريرًا من قِبل الرب، إنه
أرسل رسولاً بين الأمم يستدعيهم لحضور المحاكمة. وكما قيل في إرميا: "قد سمعت
خبرًا من قِبل الرب وأرسل رسول إلى الأمم، قائلاً: "تجمّعوا وتعالوا عليها
وقوموا للحرب…" (إر 49: 14). إنها جلسة قضاء، لكنها جلسة ملتهبة وخطيرة، إذ
يقول: "قوموا ولنقم عليها للحرب"، إنها أشبه بمعركة منها جلسة قضاء، إذ
يرفض أدوم الحضور ويظن أنه فوق القانون.

إذ ظن أدوم
أنه فوق كل محاكمة وحسب أن سكناه في الجبال وسط الصخر يعفيه من النزول إلى ساحة
القضاء وبّخه الرب على كبرياء قلبه، قائلاً له علانية كمن في استجواب:

"إني
قد جعلتك صغيرًا بين الأمم، أنت محتقر جدًا
" [2]، لقد ظننت بسكناك
في جبل سعير الذي تبلغ أحيانًا قممه حوالي 2000 قدمًا فوق سطح الماء، ومملوء
شقوقًا صخرية أنك أعظم من غيرك. إذ ترتفع في عيني نفسك تصغر جدًا في عيني عن بقية
اخوتك، فإنه ليس خطية تحطم حياة الإنسان مثل الكبرياء، بها يظن في نفسه إلهًا، ولكنه
في عيني الله يصير محتقرًا جدًا، ويتعرض للموت الأبدي والهلاك. لذا يقول القديس
إشعياء المتوحد
: [لاحظ نفسك بدقة متجنبًا السلطة والكرامة والمجد وحب المديح
كجروح روحية، والموت والهلاك كعذاب أبدي[2]].
ويقول الأب مار اسحق السرياني: [المجد الزمني يشبه صخرة مختفية في البحر،
لا يعرفها البحار قبل أن تصطدم بها سفينة ويتمزق قاعها وتمتلئ ماء[3]].

"تكبُّر
قلبك قد خدعك أيها الساكن في محاجئ الصخر، رفعة مقعده (مسكنه)، القائل في قلبه من
يحدرني إلى الأرض؟!
" قد تكبر قلبه، أي تعالى في عيني نفسه بفهمه الذاتي،
إذ كان القلب عند الساميين يعني مركز الفهم[4]،
فبفهمه الذاتي خدعه سكناه في مساكن أو مغاير الصخر
Sela، وربما يقصد بـ Sela هنا جبل سعير المرتفع الوعر والمملوء شقوقًا ومغاير، أو كما يرى
بعض الدارسين يقصد بها عاصمة أدوم "سالع" (قض 1: 36، 2 مل 14: 7، إش 16:
1)، وربما هي بترا
Petra (صخرة) التي في أيام الأنباط. على أي الأحوال بفكره البشري إذ رأى
نفسه يختفي وسط الصخور ويستقر على المرتفعات "رفعة مقعده" ظن أنه ليس من
يقدر أن يحدره إلى الأرض ليدخل به إلى ساحة القضاء بين الأمم.

"إن
كنت ترتفع كالنسر، وإن كان عشك موضوعًا بين النجوم، فمن هناك أُحدِرك يقول
الرب"

[4]. هكذا يحدر الله المتكبرين، الذين يطلبون لأنفسهم المرتفعات في هذا
العالم. فقد حسب أدوم نفسه كالنسر إذ أقام عشه فوق قمم الجبال وسط الغابات (تشبه
عش النسر وسط النجوم العالية)، إنه قد صار وسط النجوم، لكن هذا لا يعني أنه ليس في
متناول يد الله. لقد حمل أدوم فكر إبليس أبيه، الذي في كبريائه تشامخ إذ يقول له
الرب: "أنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات، أرفع كرسيّ فوق كواكب الله، وأجلس
على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي، لكنك
انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب" (إش 14: 13-14). إذ سقط الشيطان عن فكره
الملائكي المتضع اشتهى أن يقيم كرسيه فوق النجوم فانحطّ إلى الهاوية، أما السيد
المسيح الذي هو فوق كل خليقة فقد نزل إلينا على الأرض فجاء نجم من السماء يكرز به!

"إن
أتاك سارقون أو لصوص ليل، كيف هلكت؟ أفلا يسرقون حاجتهم؟ إن أتاك قاطفون أفلا
يبقون خصاصة؟! كيف فتش عيسو وفحصت مخابئه؟!
[5-6]. إذ يسكنون في مغاير
الصخور عرفوا أيضًا بكثرة اللصوص، فاللص يدخل إلى المخابئ ليسرق حاجته التي
يشتهيها، أي كل ما هو ثمين. إنه يدخل ليلاً وأنتم نيام لينالوا ما يطلبونه. وإن
جاءهم قاطفو العنب فإنهم لا يتركون الكروم إلا وبها القليل للغاية من الحصاد، الذي
هو نفاية. هذا ما يفعله اللصوص والقاطفون، فهل يصعب على الخالق أن يدخل مخابئ عيسو
(أدوم) ويفحص أعماقها ويسحب ما يريده لمحاكمته؟!

الآن بعد أن
أعلن له غباوة فهمه إذ كبرياؤه يحطمه ولا ينقذه ومرتفعاته تحدره ولا تسنده، الآن
يتحدث عمن يتكل عليهم: الحلفاء والحكماء.

أولاً: من جهة
حلفائه الذي دخل معه في عهد، وأكل خبزه وسالمه، هو بعينه يكون شاهدًا ضده عند
المحاكمة. لقد أثارته بابل على بغض أخيه ونهبه، وتصير هي شاهدة ضده بعد أن نصبت له
شركًا تحته. يقول له الرب: "طردك إلى التُخُم كل معاهديك. خدعك وغلب عليك
مسالموك. أهل خبزك وضعوا شركًا تحتك. لا فهم فيه
" [7]. كأنه يقول
له: كنت غبيًا فقد اتكلت لا على من يُخلصك بل من يُحطمك… هكذا يفعل الأصدقاء
الأشرار بالإنسان، فيما هم يلاطفونه، ويشاركونه الولائم والتدابير الشريرة ينقلبون
عليه ويحطمونه.

ثانيًا: لقد عرف
أدوم بحكمائه وفهمائه، فمنهم أليفاز التيماني (2: 11) من تيمان على بعد 5 أميال
شرق بترا بأدوم، لكن الله يُبيد هؤلاء الحكماء من أدوم: "ألاَّ أُبيد في
ذلك اليوم يقول الرب الحكماء من أدوم، والفهم من جبل عيسو؟! فيرتاع أبطالك يا تيمان
لكي ينقرض كل واحد من جبل عيسو بالقتل؟!"
[
8-9]. ليس فقط
أذله بسحب أصدقائه من موقف المدافعين إلى موقف ناصبي الشرك تحته والشهود ضده،
وإنما يحرمه حتى من حكمائه الذين من أدوم، فإن الذي له يعطي فيزداد والذي ليس له
فما عنده يؤخذ منه.



[1] Jerome Biblical Commentary, p. 444.

[2] Bishop Ignatius Brianchaninov: The Arena, 1970, P. 155.

[3] .J. Wensinck:
Mystical Treatises St. Isaac Syrian, P. 219.

[4] J.B. Baver: Verbum Domini, 40 (1962), p. 27-32.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي