الفصل
الرابع عشر
إن
فسد الرسم وجبت إعادته من الصورة الأصلية. وهكذا أتى ابن الآب لكى يطلب ويخلص
ويجدد الحياة. ولم تكن هنالك طريقة أخرى ممكنة. لأن الإنسان إذ طمس بصيرته بنفسه
لم يستطع أن يبصر لكى يشفى. ولم تعد شهادة الخليقة لخالقها ذات نفع له. أما الكلمة
فهو وحده الذى استطاع أن يتمم هذا. ولكن كيف؟ ليس إلاّ بأن يأتي إلينا كإنسان.
1
وكما أنه لو كانت هناك صورة لشخص مرسومة على قماش مثبّت على لوحة خشبية وتلطخت هذه
الصورة من الخارج بالأقذار، مما أدى إلى اختفاء ملامحها، ففي هذه الحالة لابد من
حضور صاحب الصورة نفسه ثانية لكي يمكن إعادة تجديد الصورةعلى نفس قماش اللوحة، فلا يلقى بالقماش[1]،
لأن صورته رسمت عليه، بل يُجدِّد الرسم عليه مرة أخرى.
2
وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كليّ القداسة ابن الآب، إذ هو صورة الآب، لكى
يجدّد الإنسان الذي خُلِق مرة
على صورته، ويخلّص ما قد هلكبمغفرة الخطايا، كما يقول هو في الأناجيل “جئت لكي أطلب
وأخلّص ما قد هلك“[2].
ولأجل هذا أيضًا قال لليهود ” إن كان أحد لا يولد ثانية“[3] وهو
لا يقصد بهذا كما ظنوا الولادة من امرأة، بل قصد التحدث عن إعادة ميلاد النفسوتجديد خلقتها بحسب الصورة [4].
3
ولكن إن كانت العبادات الوثنية والمعتقدات الإلحادية قد سيطرت على المسكونة، وإن كانت معرفة اللهقد أُخفيت، فمن ذا الذي كان قادرًا أن يقوم بتعليم المسكونة عن
الآب؟ وإن قال أحد إن هذه هى مهمة إنسان أجبناه أنه لم يكن في استطاعة إنسان أن
يطوف المسكونة كلها وليس من طبيعته أن تكون لديه القدرة على الركض لمثل هذه
المسافات الشاسعة[5]،
ولا هو يستطيع أن يدّعي القدرة على القيام بهذا العمل. كما أن البشرلا يستطيعون من تلقاء أنفسهم أن يقاوموا غوايةالأرواح الشريرة وحيلها.
4
لأنه طالما أن الجميع ضلوا واضطربت نفوسهم بسبب غوايةالأرواح الشريرة وأباطيل الأوثانفكيف كان ممكنًا لهم أن يغيّروا نفوس البشر(الآخرين) وعقولهم[6]
وهم أنفسهم عاجزون عن رؤية النفسوالعقل؟[7]
وكيف يمكن لأى كائن أن يغيّر النفس وهو لا يراها أو يعرفها؟
5
وقد يقول أحد إن الخليقة كانت كافية[8].
لكن لو كانت الخليقة كافية لما حدثت كل هذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت
موجودة بالفعل ومع ذلك كان البشريسقطون في نفس الضلال عن الله.
6
فإلى من إذن كانت الحاجة الاّ إلى كلمة اللهالذي يبصر (ويعرف) النفسوالعقل، وهو المحرك لكل ما في الخليقة، والتي من خلالها يجعل الآب
معروفًا؟ لأن ذلك الذى بأعمال عنايته وتدبيره لكل الأشياء يعلّم عن الآب هو الذى
يستطيع أيضًا أن يجدّد ذلك التعليم عينه.
7
وكيف كان ممكنًا أن يحدث هذا؟ ربما قال امرء بأن هذا كان ممكنًا أن يحدث بنفس
الطريقة السابقة، حتى أنه مرة أخرى عن طريق أعمال الخليقة يمكن أن يعلن معرفة
الآب. لكن هذه الوسيلة لم تعد مضمونة، وبالتأكيد هى غير مضمونة، لأن البشرقد أهملوها سابقًا، بل أنهم لم يعودوا يرفعون أعينهم إلى فوق بل صاروا
يشخصون إلى أسفل.
8
ولهذا كان من الصواب، إذ أراد منفعة البشر[9]، أن يأتى
الينا كإنسان آخذًا لنفسه جسدًا شبيهًا بجسدهم من أسفل[10].
حتى يستطيع الذين لا يريدون أن يعترفوا به، من خلال أعمال عنايته وسلطانه على كل
الأشياء، أن يبصروا الأعمال التي عملها بجسده هنا على الأرضويعرفوا كلمة اللهالحال في الجسدومن خلال الكلمة المتجسد يعرفون الآب.
1 هنا يكمن
الفرق الواضح بين المسيحالإله والكائن المخلوقانظر فصل 46 حيث يتضح عمل المسيح في كل المسكونة.
3 يُرجع
القديس أثناسيوس السبب في عجز البشرعن رؤية أن لهم نفوسًا وأيضًا أن هذه النفوس عاقلة إلى أمرين هما:
ضلالات وغواية الأرواح الشريرة كما هو مذكور بالتفصيل في مقالته ضد الوثنيين فصل
34/1 فيقول “إنه كما أنكر البشر اللهوصاروا يعبدون أشياء لا نفس لها، وهكذا أيضًا بتوهمهم أنهم ليست
لهم نفوس عاقلة ينالون حالاً قصاص غباوتهم أي أنهم يُحسبون في عداد المخلوقات غير
العاقلة”. ويتابع القديس أثناسيوس شرحه فيقول ” مع أن لهم نفس خالدة وهم
لا يرونها فإنهم يجعلون من الأشياء المنظورة الفانية صورة الله ” بدلاً من أن
تكون نفوسهم على حسب صورة الله لأن ” النفسخُلقت على صورة الله ومثاله “. والسبب الثانى لهذا العجز
يكمن في كون البشر من المخلوقات بينما الكلمة وحده إذ هو الله فهو الذي
يبصر ويعرف النفس والعقل إذ قد خلقهما على صورته ومثاله، فصل 14/6.
تم نسخ الرابط