الإصحاح الثالث

 

هنا نرى صورة أخرى
للإيمان المريض. الرسول هنا يتكلم عن إنسان يسعده أن يرسم لنفسه صورة الإنسان الذى
يعلم، فيعلم كثيراً، ويجادل كثيراً. وتجد مثل هذا لسانه غير منضبط، قد يندفع ويعثر
ويثير كثير من المشاكل. أما المؤمن الحقيقى ذو الإيمان الحى فنجده قليل الكلام،
قادر على التحكم فى لسانه. واثق فى إلهه. يعرف متى يتكلم ومتى يصمت.

فى هذا الإصحاح يحدثنا
الرسول عن خطورة اللسان وأخطاء الكلام ومن بعض أخطاء اللسان.

1.           
حب التعليم.

2.           
إنفلات اللسان (لسان إنفعالى لا يهدأ ويشعل
الدنيا ناراً).

3.           
لعن الناس.

4.           
تدنيس الجسم (بكلام خاطىء يثير الشهوات).

 

أية 1 :- لاَ تَكُونُوا
مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً
أَعْظَمَ!

لا تكونوا معلمين
كثيرين = كانت شهوة اليهودى أن يصبح معلماً وسط إخوته لينال كرامة (رو 2 : 17 –
24). وهذه الشهوة ربما تسللت للمسيحيين. فمع ضرورة التعليم للمؤمنين حتى لا يهلك
الشعب من عدم المعرفة، فهناك خطر حب التعليم، فهذا يحمل فى طياته حباً للذات
وكبرياء، مع سوء تقدير لواقع النفس التى كثيراً ما تتعثر وتخطىء. والرسول يتكلم
هنا عن المعجبين بأنفسهم، الذين يريدون إثبات ذواتهم فى التعليم وليس عمن أعطاهم
الله موهبة التعليم ودعاهم لذلك. عموماً فى كثير من الأحيان علينا أن نصمت، ولكن
فى بعض الأحيان علينا أن نتكلم لنشهد لله، والله يعطى حكمة متى وكيف أتكلم، حتى
يصبح كلامى يصنع بر الله.

ولنلاحظ أن الإيمان
الميت يدفع بالإنسان إلى تغليف نفسه بمظهر التعليم، فهو يكثر من الكلام والتوبيخ
والإنتهار بدون إنسحاق داخلى. ولاحظ فى صلوات القداس الإلهى أن الكاهن يصلى عن
خطاياه وعن جهالات الشعب، والجهالات هى درجة أقل من الخطية. لذلك على المعلم أن
يتضع ويمارس هو أيضاً سر الإعتراف. والرسول قطعاً لا يقصد الأب والأم والكاهن
والمعلم الذين من واجبهم أن يعلموا بل من يريد أن يتباهى بمعلوماته.

أننا نأخذ دينونة أعظم
= من تواضع الرسول أن يضع نفسه معنا، أى من ضمن الذين يخطئون. والدينونة ستكون لأن
كلماتنا ستكون شاهدة علينا يوم الدين إذا لم ننفذ ما نقوله. بل إن من نعلمهم حينما
يرون عثرتنا سيدينوننا.

 

أية 2 :- لأَنَّنَا فِي
أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي
الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ
أَيْضاً.

نعثر جميعنا = ها هو
يضع نفسه ثانية فى صف الخطاة، لذلك يقول ذهبى الفم أنه حتى رئيس الأساقفة له
ضعفاته حتى يترفق بالضعفاء أولاده. ومن أكثر هذه العثرات وقوعاً هى عثرات اللسان
التى يقع فيها كل منا. ومن لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل = وعلى ذلك فالمعلم
(بل أيضاً أى إنسان) حتى يكون كاملاً عليه أن يضبط لسانه، حتى لا يتعرض للدينونة.
ومن يفعل هذا يكون قادر أن يلجم الجسد أيضاً = ويقصد بالجسد الإنسان كله بكل ما
فيه من سلوك وأهواء وشهوات وميول. وقد ذكر كلمة الجسد هنا بالذات لأن الجسد بواسطة
حواسه وأعضائه يتعرض أكثر لإغراء الخطية وبواسطة الجسد تمارس خطايا النفس
الداخلية. رجل كامل = فيه نضج روحى ومملوء نمو أخلاقى وصانع سلام يشبه المسيح.

 

الأيات 3 – 5 :-
هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا،
فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ. هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضاً، وَهِيَ عَظِيمَةٌ
بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ
صَغِيرَةٌ جِدّاً إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ قَصْدُ الْمُدِيرِ. هَكَذَا اللِّسَانُ
أَيْضاً، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّماً. هُوَذَا نَارٌ
قَلِيلَةٌ، أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ؟

هنا أمثلة على أشياء
صغيرة (اللجم والدفة) تدير أشياء كبيرة جداً (الفرس والسفينة). فاللجام لا يدير
الرأس فقط بل الجسم كله. والدفة توجه كل السفينة. وهكذا اللسان العضو الصغير يدير
الجسم أى الحياة كلها أى القلب الذى هو المشاعر والإرادة والقرار أى كل الداخل بل
يدير أيضاً السلوك الخارجى (مز 39 : 1). ومن يحفظ لسانه لا يركض جسده كالخيل
مندفعاً فيطوح بالنفس البشرية على الأرض محطمة. ومتى أساء الربان إستخدام الدفة
الصغيرة تهلك السفينة كلها. فمع إشتداد الموج والرياح هناك وضع سليم توضع فيه
الدفة لتوجه السفينة فى الإتجاه السليم وإلا لو وضعت الدفة فى إتجاه خاطىء لإنقلبت
السفينة. والدفة هى اللسان والسفينة التى تسوقها رياح عاصفة هى حياتى. والرياح
العاصفة هى إشارة لعنف الإنفعالات التى تسيطر على الإنسان. والرجل الكامل يوجه
الدفة أى لا يخرج من لسانه سوى كلمات تهدىء الموقف، والعكس فمن يخرج أقوالاً خاطئة
منفعلة يشعل الدنيا ناراً، ولا يحيا هو نفسه فى سلام، بل تعتل صحته وتصيبه كثير من
الأمراض، بل يمكن أن تضيع حياته كلها إذا وصل الأمر لشجار بالأيدى.

ولقد أساء نبوخذ نصر
إستخدام لسانه (الدفة) فذاق المر سنيناً (دا 4 : 23). وهكذا هيرودس (أع 12 : 23).
فقد تعظم كليهما بألسنتهما. نبوخذ نصر إستخدم لسانه خطأ وهيرودس لم يستخدم لسانه
ليعطى المجد لله. وكبرياء قلبيهما كانت الرياح العاصفة التى قلبت السفينة. والدفة
لم تستخدم بطريقة صحيحة أى اللسان لم يستخدم ليعطى المجد لله.

هوذا نار قليلة أى وقود
تحرق = اللسان وكلماته الخارجة منه هى النار. ولابد من السيطرة على اللسان وإلا
فلن يمكن السيطرة على النتائج، كما لا يمكن السيطرة على غابة محترقة. فاللسان هو
نار والوقود قد يكون حياتنا أو السلام مع الناس وبين الناس. كلمة خاطئة صغيرة قد
تشعل الدنيا ناراً.

هنا نرى فى كلام يعقوب
أن اللسان يقود القلب والحياة كلها. ولكن السيد المسيح يقول " من فضلة القلب
يتكلم الفم (مت12: 34). أى أن القلب هو مصدر ما يتكلم به اللسان. فمن يا ترى يقود
من ؟ الإجابة كليهما يقود… كيف ؟ القلب يمكن تشبيهه بخزان (حصالة)، وهذا له ثقوب
نضع فيها ما نريده والثقوب التى يتم عن طريقها التحويش فى هذا الخزان (الحصالة) هى
الحواس (العين والأذن) واللسان (كل ما نتكلم به) والفكر. وحينما يمتلئ القلب يتكلم
اللسان بما هو فى داخل القلب. ولنأخذ أمثلة :-

إنسان أصابته تجربة ما
فظل يتذمر ويشكو بلسانه طوال الوقت، فهذا يملأ القلب مرارة، والمرارة حينما تملأ
القلب تدفع الإنسان لمزيد من الكلام القاسى على الله، وهذا يزيد القلب مرارة
بالأكثر. وهكذا ندور فى دائرة رهيبة وتتجه الحياة بالأكثر إلى المرار والشعور
بتخلى الله عن الإنسان بل والخصام مع الله بما يستتبعه هذا من شعور بالوحدة والكأبة
والحزن.

مثال آخر لإنسان لا
يستخدم لسانه إلا فى الشكر وفى تسبيح الله وتمجيده، هذا يمتلئ قلبه فرحاً. ومن
فضلة الفرح يسبح بلسانه وهكذا تسير الحياة من فرح لفرح.

مثال ثالث لإنسان يتكلم
كثيراً فى الخطية ويردد نكاتاً جنسية خارجة، هذا الإنسان يشعل شهوته ويمتلئ قلبه
نجاسة، ومن فضلة قلبه النجسة لا تجد فى كلماته سوى كلمات خارجة وهكذا تضعف حياة
هذا الإنسان ويتعرض للسقوط. وهكذا الإنسان فاقد السلام الداخلى تخرج من فمه كلمات
تشعل الدنيا ناراً. والإنسان الذى يطبق وصية بولس الرسول "صلوا بلا
انقطاع" (1 تس 5 : 17). حينما ينام سيفكر ويحلم بكلمات الله " أنا نائمة
وقلبى مستيقظ (نس5: 2)

وكيف يصلح الداخل ؟ هذا
يكون بعمل النعمة التى تخلق الإنسان خلقة جديدة والنعمة تحتاج لجهاد. والجهاد
المطلوب هو السيطرة على اللسان، بترديد كلمات التسبيح والشكر والصلاة الدائمة وأن
نبارك ولا نلعن، ونصنع سلاماً مع الناس.

 

أبة 6 :- فَاللِّسَانُ
نَارٌ! عَالَمُ الإِثْمِ. هَكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي
يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ
جَهَنَّمَ.

اللسان هو نار =  أى
يفعل فعل النار، وله أثره فى حياتنا كما للنار أثر فى الوقود. وهناك طريقتان
لإضرام هذه النار.

أ) يضرم من جهنم = جهنم
كناية عن إبليس كما نقول السماء كناية عن الله. وجهنم معناها أرض إبن هنوم (أرض
باليونانية = جى) و كانوا يشعلون النار فى القمامة والحيوانات الميته فى أرض ابن
هنوم، لأنها كانت مكان قمامة وقاذورات أورشليم، وكانت النيران لا تنطفئ فيها ليلاً
ولا نهاراً. ومن هنا قيل أن جهنم هى موضع اللهيب وموضع العذاب الأبدى. وإذا أضرم
اللسان من جهنم يكون اللسان عالم الإثم = الذى يحوى طاقة كبرى من كافة أنواع
الشرور وهو يدنس الجسم بأربع طرق :-

1- إقتراح الخطية على أنفسنا ولمن حولنا.

2- بإرتكاب الخطية كاللعن والتجديف… ألخ.

3- بالدفاع عن الخطية وإلتماس الأعذار لها.

4- بإثارة الشائعات حول الناس.

فاللسان يدنس الجسم بما
يشترك فيه من أحاديث هدامة.

يضرم بالروح القدس =
فتكون كلماتنا نارية قادرة أن تشعل التوبة والإيمان فى قلوب السامعين كما حدث يوم
الخمسين. فبطرس بلسانه النارى جعل 3000 شخص يؤمنون. لقد أضرم لسانه من الروح
القدس. حينئذ نقول أن لسانه كان نار ولكنه نار عالم الكرازة وعالم التسبيح وصنع
السلام.

والإنسان هو أن يكون
لسانه نار عالم الإثم أو نار عالم التسيح والشهادة لله.
والحكيم
يقول "لا تدع فمك يجعل جسدك يخطىء" (جا 5 : 6) ويقول القديس أنطونيوس
العظيم "لا تدين أخاك لئلا تسلم إلى خطاياك القديمة".

وبالرجوع لمثل النيران،
فكما تسود النيران ما حولها بالدخان هكذا اللسان يضرم.دائرة الكون = كل دائرة الإنسان
والعواطف. هو تعبير يصور حياة الإنسان منذ ميلاده إلى نهايته، ودائرة المقصود بها
عجلة تدور. وتترجم عجلة الطبيعة والعجلة تبدأ الدوران بالميلاد وتتوقف بالموت.
واللسان منذ بداية الحياة إلى ختامها يحدد شكل هذه الحياة. فلو كان شريراً منفلتاً
لألهب الكيان بل كل دائرة الحياة البشرية مسبباً شقاقات ونزاعات وكراهية أو أحقاد،
مما يجعل الإنسان يفقد سلامه الداخلى والخارجى طوال حياته. ولو كان اللسان لا
يتكلم إلا بكلمات شهوة دنسة يشعل الشهوة فى الإنسان. وهكذا كل من يردد الشتائم. كل
هذه الألسنة مضرمة من جهنم حيث النار مشتعلة، ويسر الشياطين أن يأخذوا من هذه
النار ويشعلوا حياتهم وتكون أداتهم فى ذلك اللسان.

عالم الإثم = اللسان
صورة للإنسان، يعبر عن حال الإنسان الداخلى، فإن كان الإنسان يحيا فى عالم الإثم،
فاللسان يكون تعبيراً عن العالم الذى يحيا فيه.

 

الأيات 7، 8 :- لأَنَّ
كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالّزَحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ
يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ. وَأَمَّا اللِّسَانُ فَلاَ
يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ،
مَمْلُّوٌ سُمّاً مُمِيتاً. 

الإنسان إستطاع ترويض
الحيوانات المفترسة، لكنه لا يستطيع أن يلجم لسانه. لذلك علينا أن نلجأ لله ليروض
ألسنتنا، ومتى حدث فلننسب الفضل لله فنحن غير قادرين على هذا دون الحصول على
معونة. والله فى بعض الأحيان يستخدم تأديبات لنا وتجارب كما يستخدم مروض الوحوش
السوط. هو شر لايضبط. هذا إن لم يروضه الله (رو3: 13، 14) ويكون له تأثير سام قاتل
للنفس وللأخرين.

 

الأيات 9-12 :- بِهِ
نُبَارِكُ اللَّهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا
عَلَى شِبْهِ اللَّهِ. مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لاَ
يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ هَكَذَا! أَلَعَلَّ
يَنْبُوعاً يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ هَلْ
تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُوناً، أَوْ كَرْمَةٌ تِيناً؟
وَلاَ كَذَلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحاً وَعَذْباً!

اللسان الذى به نبارك
الله وقت الصلاة، متى إستخدمناه فى الإساءة للناس الذين هم على شبه الله، نوجه
الإهانة إلى خالقهم ونستهين بحبه الذى أحب به العالم كله. والله خلق اللسان ليبارك
الله، كما خلق التينة لتخرج تيناً. اما اللسان الشرير فلا يبارك بل يلعن. ومتى
أخرج كلمات لعنة يكون مثل تينة أخرجت زيتوناً أى ثمرة مخالفة لما خلقت لتعطيه.
المقصود أيضاً أن التينة التى تعودت أن تعطى تيناً لا يمكن           أن تأتى يوم
وتعطى زيتوناً، هكذا من تعود لسانه أن يلعن، لا يمكنه أن يبارك الله ولا الناس، بل
لن يتمكن من الصلاة أصلاً.

الينبوع الشرير =
اللسان يتكلم من فضلة القلب، لذلك فالخطر الحقيقى كامن فى الينبوع الداخلى الذى إن
طهرته النعمة صار الكلام مملحاً، ولكى تطهره النعمة يجب أن يبدأ الإنسان بأتخاذ قراره
ويضبط فمه، وهذا ما يسمى الجهاد، أى أن يغصب الإنسان نفسه على ذلك. ومن يكون
حكيماً أية 13.

 

أية 13 :- مَنْ هُوَ
حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي
وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ.

المعنى أن أعمالك
وتصرفاتك تظهرك فإن كنت تتصرف بوداعة فأنت حكيم  أما غير الوديع فهو غير حكيم.
فالحكمة الحقيقية تتسم بروح الوداعة وضبط العواطف، والتصرف الحسن الوديع هو إعلان
عن الحكمة الإلهية. فالحكمة ليست فى المعارف الكثيرة بل نراها فى الكلمات الهادئة
الوديعة المتزنة والتصرفات الحسنة. والحكيم يتحكم فى لسانه ولا ينفعل، ولكن
المنفعل غير واثق فى نفسه ولا يعرف كيف يوصل المعلومات التى لديه. ولاحظ أن فى
كلمات الرسول إشارة لليهود الذين كانوا يريدون أن يكونوا معلمين (ربيين) والمعلمين
يصنفون مع الحكماء. وهنا يطلب ممن يريد أن يعلم غيره أن يتسم بالوداعة عوضاً عن أن
يعنف الناس.

 

الأيات 14-16: وَلَكِنْ
إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَّزُبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ
تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ. لَيْسَتْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً
مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. لأَنَّهُ
حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَّزُبُ هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ.

الغيرة المرة = هذه غير
الغيرة المقدسة المسيحية الناشئة عن لهيب المحبة لله فى القلب، ومن له هذه الغيرة
يلتهب إذا أهان أحد الله أو عقيدته أو كنيسته، ولكن يتصرف أيضاً بوداعة وحكمة. أما
الغيرة المرة ففيها تحزب للأراء وفيها إنشقاق وتحزب، هى تعصب أعمى، كما حدث فى
كورنثوس إذ إنقسم الناس بين من هو من حزب بولس ومن هو من حزب ابلوس. هذا التعصب فى
حقيقته هو ذات متضخمة تعبر عن كبرياء، هو الأنا. وهذا التعصب يصنع مراراً فى النفس
ويصنع شقاقات. وبينما المعلمون ذوى الغيرة المرة يقدمون تعاليمهم، إذ بهم يفعلون
عكس ما عملوا به بسلوكهم وتصرفاتهم، وبينما هم يزعمون أنهم يتحزبون للحقيقة
المسيحية ويغارون عليها، نجدهم يسيئون إليها بتصرفاتهم التى لا تتمشى مع تعاليمهم.

لا تفتخروا وتكذبوا على
الحق = هذه عن من يفتخر بمعارفه وعلومه فى كبرياء محتقراً معارف غيره، مدعياً أن
الحق عنده وليس عند غيره. مثل هذا عنده غيرة مرة أى تعصب لنفسه وهذا يتعارض مع
الحق. والإفتخار والكبرياء والذات المتضخمة ضد الحق. جيد للإنسان أن تكون له غيرة
(2 كو 11 : 2) لكن تكون لحساب مجد الله، وليس تعصباً أعمى وتهور بلا حكمة وبحث عن
الذات. هذه الغيرة مثل غيرة بطرس حين قطع أذن عبد رئيس الكهنة. هذه الغيرة المرة
تفقد الإنسان والذين حوله الحق وتؤدى إلى تحزبات وتشويش = كما كان اليهود يفعلون
للدفاع عن ناموس موسى فى ثورات عنيفة فى كل مكان، ووصل الأمر لسفك الدماء وتعكير
سلام المجتمع = وكل أمر ردىء = كالكراهية والصراع بين الناس. وهذه الحكمة التى
تفتخرون بها والتى تؤدى للتحزب والتشويش والغيرة المرة قطعاً هى ليست حكمة إلهية
أى نازلة من السماء، بل هى من وحى إبليس ومواصفاتها أنها :-

1.      
أرضية = ليست سماوية من عند أبى الأنوار، هى
نابعة من محبة العالم، من يمتلكها لا يرتفع للسماويات، غيرته مبعثها حب المادة أى
تحقيق مكاسب مادية أو شهوانية أو كرامة أو محبة مديح. مثل هذه الحكمة تفكر كيف
تخرج بأكبر مكسب من الأرض. أما السماوية فهى لها هدف واضح.. كيف يحيا الإنسان فى
السماويات.

2.      
نفسانية = ليست من الروح القدس، ليست روحية. بل
صادرة عن الذات البشرية، من الإنسان العتيق، لذلك تتجه لإرضاء الشهوات. خدمة هذا
الإنسان متمركزة حول الأنا، فلا يريد أن يختفى ليظهر الرب، بل يخفى الرب ليظهر هو
رغم كرازته بالرب.

3.      
شيطانية = باعثها الخفى هو الشيطان، فإذ سقط
الشيطان فى الكبرياء لا يكف عن أن يبث الكبرياء فى البشر تحت ستار الحكمة والغيرة
والتعليم الذى لا يريد مجد الله. ومن المؤكد أن هذه الحكمة نجسة وغير طاهرة فهى من
إبليس.

 

أية 17 :- وَأَمَّا
الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ،
مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً،
عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ.

الحكمة السماوية مصدرها
من فوق، نازلة من عرش الله القدوس لمن يطلبها كما طلب سليمان الحكمة ففرح به الله
وأعطاها له (1 مل 3 : 5 – 13). إذاً فالله يفرح بمن يطلب الحكمة ويتمسك بذلك
ويمنحها له. وهذه الحكمة مميزاتها :-

طاهرة = أى نقية من كل
ما هو حسى أو شهوانى، بلا غرض ملتوِ، تهب صاحبها قلباً طاهراً وحياة عفيفة، فكما
أن الله طاهر يهب لمن يقتنى حكمته أن يكون كارهاً للنجاسة.

مسالمة = أى مملوءة
سلاماً، صاحبها يمتلىء سلاماً، ويفيض سلاماً على من يسمعه ويصنع سلاماً مع
الآخرين. ولا يطيق شجاراً أو صوتاً عالياً (رو 14 : 19).

مترفقة = صاحبها يترفق
بالكل مهما كانت الأخطاء والضعفات ليربح الجميع. هذا الترفق ليس مظهراً خارجياً بل
حياة داخلية. مثل هذا الإنسان لو رأى إنسان يخطىء لا يحتقره بل يقول كان ممكناً أن
أكون مثله لو لا رحمة الله.

مذعنة = مطيعة لوصايا
الله، فعمل الروح القدس أنه يعطينا خضوعاً لله ولكلمته ولوصاياه.

مملوءة رحمة أثماراً
صالحة = الحكمة الشيطانية تدفع لأعمال ردئية (أية 16) أما حكمة الله حيث الطاعة
سيكون لها ثمار صالحة. المملوء حكمة يكون له ثمار صالحة.

عديمة الريب = لا تشك
فى أحد بل توزع المحبة على الجميع، ثابتة غير متزعزعة ولا منقسمة تقسم قلب الإنسان
بين محبة الله والعالم، أو الإتكال على الله وعلى الذات.

عديمة الرياء = لا تحمل
فى خارجها خلاف ما فى باطنها، بلا نفاق ولا تملق.

 

أية 18 : – وَثَمَرُ
الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ. 

هذه الأية هى خلاصة
الإصحاح وتعنى، هل تريد أن يظهر لك ثمار بر. إذاً كن حكيماً وإصنع سلام وتكلم بما
يقود للسلام، فالمسيح ملك السلام.

ثمر البر = الثمر
الروحى للبر والقداسة، الثمار التى تظهر فيمن يحيا فى بر وقداسة.

من له الحكمة الإلهية
يحيا فى سلام ويصنع سلام مع الآخرين، مثل هذا خدمته تكون زرع كلام كرازته وتعاليمه
فى جو من السلام، مثل هذا سيحصل على ثمار بره وقداسته. ولنعلم أن ثمر البر لا يزرع
فى خصام وتشويش وتحزب بل فى السلام.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد جديد رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكى 03

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي