اَلْمَزْمُورُ
الْمِئَةُ وَالثَّالِثُ

لِدَاوُدَ

بَارِكِي
يَا نَفْسِي الرَّبَّ

وَكُلُّ مَا
فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ [1].

بَارِكِي
يَا نَفْسِي الرَّبَّ،

وَلاَ
تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ [2].

الَّذِي
يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ.

الَّذِي يَشْفِي
كُلَّ أَمْرَاضِكِ [3].

v                
ربنا ومخلصنا هو الطبيب الحقيقي والكامل، يهب
الشفاء للجسم، ويرد الصحة للنفس[1].

الأب
خروماتيوس

v  دعنا
إذاً نُسْرِع إلى تقبل المنّ السماوي، الذي يُعْطِى لكل فم الطَعْمِ الذي يرغب
فيه. فلنستمع أيضا إلى ما يقوله الرب لمن يقترب إليه: "وكما آمنت يكون لك"
(مت 13:8). لذلك، فإن تقبلت كلمة الله، التي تسمعها في الكنيسة، بإيمان كامل وورع،
فستكون لك هذه الكلمة كما تشاء. فعلى سبيل المثال، إن كنت حزينًا فسيعزيك قوله: "القلب
المنكسر والمنسحق لا يرذله الله" (مز 17:50). وإذا فرحت أملاً في المستقبل، فسيزيد
فرحك عندما تسمع: "افرحوا بالرب وابتهجوا يا أيها الصديقين" (مز 11:32).
وإذا كنت غاضبًا، فستهدأ عندما تسمع: "كف عن الغضب، واترك السخط" (مز
8:37). وإن كنت في ألم، فَسَيُبْرِئُك سماع: "الرب يشفي كل أمراضك" (مز
3:103). وإن كنت منسحقًا بالفقر، فستتعزى حينما تسمع: "الرب المقيم المسكين
من التراب، الرافع البائس من المزبلة" (مز 7:103). إذاً فالمنّ الذي يعطيه لك
كلمة الله، سوف يكون في فمك بالطَعْمِ الذي تشاء.

العلامة أوريجينوس

v  في
صراع كهذا تكون النصرة عظيمة جدًا، لا إلى حين بل إلى الأبد، حيث ليس فقط ينتهي
المرض إنما لا يعود يظهر مرة أخري (هناك في الأبدية). فليس البار نفسه وهو يقول: "باركي
يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته. الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل
أمراضك" (
مز 103: 2-3).

إنه غافر
ذنوبنا إذ يسامحنا عن خطايانا. وهو شافي أمراضنا إذ يضبط الشهوة الشريرة.

غافر ذنوبنا
بعطية الغفران، وشافي أمراضنا العفة. 

الأولى
يتمتع بها المعترفون في العماد، والثانية تنفذ في نضال المجاهدين حيث يغلبون خلال
نعمته.

واحدة تحدث
إذ يصغي إلى قولنا "اغفر لنا ذنوبنا" (مت 6: 12) والأخرى عند
سماعه قولنا "لا تدخلنا في تجربة" إذ يقول الرسول يعقوب: "ولكن
كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته"
(يع 1: 14) ونحن نطلب ضد هذا
الخطأ دواء من الرب، هذا الذي يقدر أن يشفي كل مثل هذه الأمراض
لذا يلزم علي كل من يسمع هذا أن يصرخ قائلا:ً "أنا قلت يا
رب ارحمني اشف نفسي لأني قد أخطأت إليك
" (مز 41: 4) فإنه لا تكون هناك
حاجة لشفاء النفس ما لم تكن قد فسدت بصنع الخطية

فتضاد ذاتها وتكون مريضة في جسدها[2].

v  في
كل خطية توجد لا شك عمل شهوة ضد المسيح. ولكن عندما يقود ذاك الذي "يشفي
كل أمراضنا"
(مز 103: 3) كنيسته في
الشفاء الموعود به، عندئذ سوف لا يكون في أيّ عضو من أعضائنا أيّ غضن أو دنس.

إذن سوف لا
يشتهي الجسد ضد الروح قط، وعندئذ لا يكون هناك أيّ داع لكي يشتهي الروح ضد الجسد.
سينتهي هذا النـزاع. سيكون هناك اتفاق بين العصرين علي أعلي مستوي، وسوف لا يكون
هناك أحد جسديا حتى أن الجسد نفسه سيكون "روحيًا".

فما يفعله
من جهة جسده ذاك الذي يحيا حسب المسيح، إذ يشتهي ضد الشهوة الشريرة ذاتها، مقاومًا
إياها لكي يشفي، ولكنه لم يشفي بعد إذ هي فيه، إلا أنه مع هذا ينعش طبيعة الجسد
الصالحة ويلاطفها حيث "لم يبغض أحد جسده قط" (1 يو 1: 8)،
هذا أيضًا بذاته يفعله السيد المسيح من جهة كنيسته وذلك أن قارنا الأمور الصغيرة
بالأمور الكبيرة. لأن السيد المسيح يضغط عليها بالانتهار لكي لا تتكبر خلال سموها،
ويرفعها بالتعزيات حتى لا تسقط في الهاوية بالضعفات. وهذا ما يقوله الرسول "لأننا
لو حكمنا علي أنفسنا لما حكم علينا. ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا
ندان مع العالم" (
1 كو 11: 31-32) وهذا ما جاء في المزمور "عند
كثرة همومي في داخلي تعزياتك تلذذ نفسي" (
مز 94: 19)[3].

القديس
أغسطينوس

v  بالتأكيد
لا يتحقق تجديد الإنسان الداخلي في لحظةٍ واحدةٍ عند قبول الإيمان. إنه ليس
مثل التجديد الذي يحدث في العماد الروحي الذي يحدث في لحظة قبولنا لمغفرة الخطايا،
في اللحظة التي فيها يُنزع عنا كل ما هو ضدنا
، ولا يبقى
شيء بلا مغفرة (مز 103: 12).

الشفاء من
الحمى شيء، واستعادة الإنسان لصحته بعد معاناته من الضعف بسبب المرض شيء آخر.

نزع الحربة
من الجسم شيء، والشفاء من الجرح المميت بالعلاج الطويل والرعاية شيء آخر.

إني أخبركم
أن إزالة العلة هو مجرد الخطوة الأولى للعلاج. هذه الخطوة الأولى التي فيها تهتم
بشفاء نفسك هي اللحظة التي فيها تُغفر خطاياك.

بالإضافة
إلى هذا توجد حاجة إلى الشفاء من المرض الروحي نفسه. هذا يتحقق تدريجيًا، يومًا
فيومًا، إذ تُمحى تدريجيًا صورة الإنسان الساقط الذي في الداخل، وتتجدد حسب
صورة الله.

كل من هاتين
العمليتين وضعت في آية واحدة (مز 103: 3). يشير المرتل أولاً إلى ذاك الذي يغفر
كل خطاياك
. هذا يتحقق في
العماد بمراحم
الله.

ثانيا: نقرأ
أنه ه
و نفسه يشفي
أمراضكم
. هنا يتحدث عن التقدم اليومي الذي فيه تنمو صورة الله بقوة فينا.

القدِّيس
أغسطينوس

الَّذِي
يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ.

الَّذِي
يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ [4].

v    
إنها تقيم من البشر كهنة!

نعم إنه
كهنوت يجلب مكافأة عظيمة!

الرجل
الرحوم (الكاهن) لا يرتدي ثوبًا إلى الرجلين، ولا يحمل أجراسًا ولا يلبس تاجًا،
لكنه يتقمط بثوب الحنو المملوء ترفقًا، الذي هو أقدس من الثوب المقدس!

أنه ممسوح
بزيت لا يتكون من عناصر مادية بل هو نتاج الروح!… يحمل أكاليل المراحم، إذ قيل:
"يتوجك بالمراحم والرأفات" (مز 103: 4).

عوض الصدرية
الحاملة اسم الله يصير هو نفسه مثل الله.

كيف يكون
هذا؟ إنه يقول: "لكي تكونوا مثل أبيكم الذي في السماوات"[4].

القديس
يوحنا الذهبي الفم

الَّذِي
يُشْبِعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ،

فَيَتَجَدَّدُ
مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ [5].

v  لأن
البار الذي يحيا بالإيمان يرجو الحياة الأبدية دون أدنى شك وكذلك الإيمان الذي
يجعل الجياع والعطاش إلى البرّ يتقدمون به بتجديد الداخل يومًا فيومًا (2
كو 16:4) ويرجو أن يشبع به في الحياة الأبدية، حيث يتحقق ما قيل عن
الله في المزمور: "الذي يشبع بالخير عمرك" (مز 5:103)[5].

القديس
أغسطينوس

v    
لقد دعوا
نسورًا، إذ يتجدد مثل النسر شبابهم، ويحملون أجنحة ليأتوا إلى آلام المسيح
[6].

القديس چيروم

v  (35.9) لهذا فإن
لداودَ الحقَ أن يصرخ، كإنسانٍ قد تجدد، "سآتي إلى مذبح الله، إلى الله الذي
يعطي فرحًا لشبابي" (مز 43 :4). كما قال قبلاً إنه شاخ وسط أعدائه، كما نقرأ
في المزمور السادس (قابل مز 6 :8) وهو يقول هنا إن الشباب، قد استعاده بعد طول
شيخوخة وسقوط الإنسان. لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية،
وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضا بالقيامة كما يقول في
نصٍ آخر: "فيتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103 :5) فاعلموا طريقة تجديدنا: "تنضح
علَّى بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيَّض أكثر من الثلج" (مز 51 :9) وفي إشعياء :
"إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج" (إش 1 :18) ومن يتغير
من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلاً
.
لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلاً بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من
الثلج[7].

القديس
أمبروسيوس

v  لأننا
قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح
القدس
، وسنتجدد أيضا بالقيامة، كما يقول في داود نصٍ آخر: "فيتجدد
مثل النسر شبابك" (مز 103:
5) فاعلموا طريقة تجديدنا: "تنضح علَّي بزوفاك فأطهر، تغسلني
فأبيَّض أكثر من الثلج" (مز 51:
9) وفي إشعياء: "إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض
كالثلج" (إش 1:18) ومن يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة
وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلاً
. لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلاً بالدنس
الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج
[8].

القدِّيس
أمبروسيوس

v  من
المعلوم يا إخوتي أن كل منَّا يطلب راحته وسروره، إلاَّ أنه لا يطلب ذلك كما
يجب ولا حيثما يوجد
. فالأمر يتوقف على تمييز السرور الحقيقي من السرور الكاذب.
وبالعكس فإننا غالبًا ما نخدع بخيالات السرور الباطل والخير الكاذب.

فالبخيل
والمتجبِّر والشرِه والشهواني، وكل منهم يطلب السرور، إلاَّ أن هذا يضع سروره في
جمع غني وافر، وذاك في شرف الرتب والكرامات، وهذا في المآكل والمشارب اللذيذة،
وذاك في إشباع شهواته النجسة. ليس منهم من يطلب سروره كما يجب ولا حيثما يوجد من
ثم لا يجده أحد منهم رغم أن الكل يشتهونه.

فكل ما هو
في العالم لا يقدر أن يشبع النفس ويخول لها سرورًا حقيقيًا، فلماذا إذًا تتعب أيها
الإنسان الغبي، وتطوف باطلاً في أماكن كثيرة متوقعًا أن تجد خيرات تملأ بها نفسك
وترضي بها جسدك؟!!

أحبب خيرًا
واحدًا يحوي جميع الخيرات، ففيه وحده تجد الكفاية.

استرح إلى
الخير الواحد العظيم العام، ففيه الكفاية عن كل شيء.

وأما أنت يا
نفسي فباركي الرب الذي يشبع بالخيرات عمرك (مز 103: 2، 5).

القدِّيس
أغسطينوس

v  سأل
أخ عن هذه الآية: "يتجدّد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). فقال له القديس
مقاريوس: "مثل الذهب إذا حُمِّي في النار يتجدّد، هكذا أيضًا النفس إذا كان
لها من الفضيلة ما يُنقِّيها من أدناسها ومن كل دناياها فهي ستتجدّد وستطير إلى
الأعالي“. فسأله الأخ أيضًا: "ما هو الطيران إلى الأعالي يا أبي؟" فقال
له: "مثل النسر إذا طار في أعالي الجو فهو ينجو من فخاخ الصيّاد، ولكنه إذا
هبط إلى الأرض يسقط في فخاخ الصيّاد، هكذا النفس فهي أيضًا إذا كانت غير مباليةٍ
وإذا هبطت من أعالي الفضيلة فهي تسقط في فخاخ صيّاد الأرواح."

فردوس
الآباء

اَلرَّبُّ
مُجْرِي الْعَدْلَ وَالْقَضَاءَ لِجَمِيعِ الْمَظْلُومِينَ [6].

عَرَّفَ
مُوسَى طُرُقَهُ

وَبَنِي
إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ [7].

الرَّبُّ
رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ [8].

لاَ
يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ [9].

لَمْ
يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا

وَلَمْ
يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا [10].

لأَنَّهُ
مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ،

قَوِيَتْ
رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ [11].

v      
غنى الله صار ظاهرًا عندما أظهر رحمته نحو أولئك
الذين رذلهم الناس ووطأوا عليهم، هؤلاء الذين وضعوا رجاءهم لا في غناهم ولا في
قوتهم بل في الرب[9].

العلامة
أوريجينوس

v 
تحتوي كلمات النشيد
المقدسة بعض الأفكار المخفية وكأن عليها نقاب سميك تختفي وراءه فتبدوا صعبة في الفهم.
لذلك يلزم أن نوجه اِهتمامًا كبيرا للنص. وفي الحقيقة نحن نحتاج مساعدة من خلال
الصلاة وقيادة الروح القدس حتى لا تضيع منا المعاني مثل من يتطلع إلى معرفة أسرار
النجوم. فعندما نتطلع إلى جمال النجوم البعيدة لا نعرف كيف خُلقت ولكننا نتمتع
بجمالها ونتعجب للمعانها وأوضاعها في السماء. تضيء بعض النجوم التي ذكرت في الكتاب
المقدس وتتلألأ وتملأ عينا النفس بالضياء، كما يقول النبي: "لأنه مثل ارتفاع
السماوات فوق الأرض" (مز 103: 11). فإذا كان هذا مكان صعود نفوسنا، كما في
مثال إيليا حيث تخطف عقولنا إلى أعلى في المركبة النارية (2 مل 2: 11) وترتفع إلى
الجمال السماوي. نحن نفهم أن المركبة النارية هي الروح القدس الذي أتى الله
ليمنحها للساكنين على الأرض، على هيئة ألسنة قُسمت على التلاميذ. سوف لا نيأس من الاقتراب
من النجوم، أي من البحث في الأمور المقدسة التي تضيء نفوسنا بكلمة الله السماوية
الروحية
[10].

القديس
غريغوريوس أسقف نيصص

v  يؤكد
رب الأنبياء وسيد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده كما يفوق النور الظلمة
والخير الشر. أنصت ماذا يقول؟ "أم أي إنسان منكم إذا سأله ابنه سمكة يعطيه
حية؟! فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري أبوكم
الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه؟!"
(مت 7: 9-11)

كاختلاف
الخير عن الشر هكذا تعلو محبة الله عن عواطف الوالدين…

توجد أمثلة
أخري كحب الحبيب لمحبوبته، لا أن حب الله لنا يعادل هذا الحب، وإنما هو مثال من
قبيل التشبيه مع الفارق… لهذا يقول داود: "لأن مثل ارتفاع السماوات فوق
الأرض قويت رحمته على خائفيه" (
مز 103: 11).

كما أن
الإنسان في حبه يراجع كلماته بجنون خشية أن يكون قد نطق بشيء يجرح محبوبته، هكذا
يقول الرب: "ما أن تكلمت حتى ندمت على كلامي… رجع قلبي" (هو 
11: 8). فلا يستنكنف الرب من استخدام هذه الصورة القاسية لإعلان حبه
لمحبوبته[11].

القديس
يوحنا الذهبي الفم

v  يجاوب
النبي الذين اكتأبوا مرة وأتوا قائلين: "قد تركني الرب، وسيِّدي نسيني"،
قائلاً: "هل تنسى الأم رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟" (إش 49: 15-14)
كأنه يقول: يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها، فبالأولى لا ينسى الرب البشرية. وهو
بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل
حب، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه… تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم؟…

يؤكد رب
الأنبياء وسيِّد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده كما يفوق النور الظلمة
والخير الشر… هكذا تعلو محبة الله عن عواطف الوالدين…

توجد أمثلة
أخرى كحب الحبيب لمحبوبته، ليس أن حب الله لنا يعادل هذا الحب، وإنما هو مثال من
قبيل التشبيه مع الفارق… لهذا يقول داود: "لأن مثل ارتفاع السماوات فوق
الأرض قويت رحمته على خائفيه" (مز 103: 11). كما أن الإنسان في حبه يراجع
كلماته بجنون خشية أن يكون قد نطق بشيء يجرح مشاعر محبوبته، هكذا يقول الرب:
"ما أن تكلمت حتى ندمت على كلامي… رجع قلبي" (هو 11: 8). فلا يستكنف
الرب من استخدام هذه الصورة القاسية لإعلان حبه لمحبوبته…

أعمال عناية
الله أسطع من الشمس، إذ ذكر مَثَل الأب والأم والعريس… وشبَّه نفسه بالبستاني
الذي يتعب من أجل عمل يديه… وبالحبيب الذي يحزن لئلاَّ يُحزن محبوبته ولو
بكلمة… مؤكدًا لنا أن محبته مختلفة عن كل أنواع الحب هذه كاختلاف الخير عن الشر[12].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

كَبُعْدِ
الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ

أَبْعَدَ
عَنَّا مَعَاصِيَنَا [12].

كَمَا
يَتَرَأَّفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ

يَتَرَأَّفُ
الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ [13].

لأَنَّهُ
يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا.

يَذْكُرُ
أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ [14].

v  لقد
فعل إرميا نفس الشيء، محاولاً التماس المغفرة للخطاة، فقال: "وإن تكن آثامنا تشهد
علينا يا رب، فاعمل لأجل اسمك" (إر 7:14). وأيضًا: "عرفت يا رب أنه ليس
للإنسان طريقه، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته" (إر 23:10)، "يذكر أننا
تراب نحن" (مز 14:103).

من عادة
المتضرعين عن الخطاة، أنهم إذ لا يجدون أمرًا صالحًا يقولونه في حقهم، يبحثون عن
أي ظلٍ لعذرٍ لهم حتى وإن كان ليس صحيحًا حرفيًا أو لاهوتيًا، لأن ذلك يُحسب نوعًا
من العزاء للنائحين على عناد الخطاة. إذًا لا تفحص الكلام حرفيًا، لكن ضع في ذهنك
أنها كلمات تصدر عن نفسٍ مرة تسعى أن تجد فرصة لإنقاذ الخطاة، وحكمًا عادلاً
لحسابهم[13].

القديس
يوحنا الذهبي الفم

v  يستطيع
في رحمته أن ينظر إلى ضعفنا ويرانا، كما قيل: "يذكر أننا تراب نحن" (مز
103: 14)، أنه ذلك الذي صنع الإنسان من التراب وأحياه من أجل صنعته الخزفية أسلم
ابنه إلى الموت. من يستطيع أن يوضح، من يستحق أن يدرك مقدار محبته لنا؟[14]

القديس
أغسطينوس

v   (22.6)
"لماذا نسيتني" (مز 42 :9)، ولماذا رفضتني (مز 43 :12)، والله لا ينسى،
فمن المستحيل حقًا أن ينسى. لأن كل الأحداث الماضية والمستقبلة حاضرة عنده، لكن
خطايانا جعلته يوقع عقوبةَ النسيان، لكي يمحو أولئك الذين يعرف أنهم غير مستحقين لافتقاده.
لأن "الرب يعرف خاصته" (2 تى 2 :19). وعندما يقترف البعضُ شرا، يقول لهم
"أنا لا أعرفكم" (مت 7 :23)، فمن إذن يقدر أن يقول لله : " لماذا نسيتني؟"
لكن هذا الشعور يتشارك فيه القديسون ونحن الضعفاء، فالقديس يتحدث وكأنه واعٍ
لاستحقاقه، لكنه كلما ازداد قداسةً، ازداد تواضعًا. لكن إن كان القديس يتحدث
بمشقةٍ بالغة، فمن أنا الخاطئ حقا، إلا أن أعود لتلك الشكوى: لماذا نسيتَ
عملك؟(قابل عب 6 :10)، لماذا نسيت افتقادك، أجل لماذا نسيتَ ضعفي؟ لأنه من هو الإنسان
حتى تفتقده؟" قابل مز 8 :5 (4)، عب 2 :6)، لهذا لا تنسى من هو ضعيف. تذكرْ يا
رب أنك خلقتني ضعيفًا. تذكر أنك جبلتني ترابًا " قابل مز 102 (103) :14، أى10
:9)، فكيف أقوى على الوقوف إن لم تشملني برعايتك دائما لتقَّوىَ هذا الطين. حتى
تأتى قوتى من وجهك؟ "فحين تحجب وجهك يرتاعُ كل ش
يءٍ!" (مز
104 :29) إن مارستَ عنايتك فالويل لى! فأنت لا ترى فيّ سوى أدرانَ الخطايا! وما من
فائدة أن أُترك، أو يُعتنى بى، لأنه حتى ونحن موضع رعايتك، نقترف الآثام!، لكن مع
ذلك، لا تزال متيقن أن الله لا يرفض الذين يعتني بهم، لأنه يطهر الذين يراهم. ونار
توقد أمامه تحرق الخطية. (قابل يؤ 2 :3)[15].

القديس
أمبروسيوس

v  بينما
يُطلب منَّا التعمق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه، نجد
البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم. فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق
الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون
أنفسهم
، لأن بهم مساوئ ليست بأقل من مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة. لذلك
يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان ك
ل من يدين،
لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذ
ي تدين تفعل تلك
الأمور بعينها
" (رو 2: 1). فمن
الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته
الباطلة وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة.

فلنصلِ عن
مثل هؤلاء البائسين القانطين، و
لنَمِدْ لهم يدْ العون والمساعدة، ولنَسعَ
ف
ي ألاَّ نسقط
كما سقطوا. فإنَّ "الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس"
(يع 4: 11). وما ذلك
إلا لأن واضع الناموس والقاض
ي بالناموس هو واحد، ولما
كان المفروض أن قاض
ي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس
بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا
وجب علينا أن
نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، ل
أنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين
وندينهم؟!

إذن يجب ألا
يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتْك نفسك بمحاكمة الآخرين، فأعلم أن الناموس لم يُقِمك
قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك
حُرمته.

فكل من طاب
ذهنه لا يتصيَّد معاص
ي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم
وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه. هذا كان حال المر
تل المغبوط
وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يا رب يا
سيِّد، فمن
يقف"
(مز 130: 3)، وفي موضع
آخر يكشف المرتل عن ضعف الإنسان ويتلمَّس له الصفح والمغفرة إذ ورد قوله: "أذكر
أننا تراب نحن"
(مز 103: 14)…

سبق أن
بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: "لا
تدينوا لكي لا
تدانوا
".
والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة
الآخرين، والحكم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا ونجرِّدها
من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا.

فإنَّ
السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول:

كيف يمكنك
نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم وفحص أسقامهم وأمراضهم وأنت شرِّير أثيم
ومريض سقيم؟!

وكيف يمكنك
رؤيّة القذَى الذي في عين الغير، وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟!

أنك لجريء
إذا قمت بذلك، فالأولى بك أن تنزع عنك مخازيك، وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد
ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبون فيما هو دون جرائمك.

أتريد أن
تنجل
ى بصوتك فتقف
على مبلغٍ ما ف
ي اغتياب الآخرين
من مقت وشرْ؟

كان السيِّد
يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها
بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وما أن وقع نظر الفريسيِّين على
التلاميذ إلا واقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: أنظر كيف
أن تلاميذك
يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع. نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين
عبثوا بحُرْمَة القدس وتعدُّوا على وصاياه وأوامره
على حد نبوَّة إشعياء عنهم:
"كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن
فالقاتلون، صارت فضتك زغْلاً، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء
اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم، ودعوى الأرملة
لا تصل إليهم"
(إش 1: 21-23).

بالرغم  من
هذه المُنكرات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس تمادوا في خِزيهم ومكرهم
ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّ
ي على يوم
السبت المقدَّس. إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم إذ أجابهم بالقول: "ويلٌ لكم أيها
الكتبة والفرِّيسيُّ
ون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت
والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين
يُصفُّون عن البعوضة ويبلعون الجمل"
(مت 23:
23-24
).

كان
الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا، يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما
يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخاز
ي نكرانًا، وأعظم الشرور
فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: "قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة،
وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة"
(مت 23: 27).

هذا هو شأن
المرائي وهو
يدين الآخرين ويرميهم بأشنع المساوئ
والعيوب وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه.

إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا
قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا
، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة
المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نق
ي الصفحة،
طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب،
بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يصح له أن يكون نموذجًا صالحًا يُ
حتذى به، وله
عند

ذلك حق الحكم
على الآخرين
إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة.

أما إذا
كان المُرشد مهمِلاً ومرذولاً فليس له أن يدين غيره
، لأن به نفس النقص والضعف الذي
يراه في الآخرين. كذلك ينصحنا الرسل الطوباويون بالقول: "لا تكونوا معلِّمين
كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم"
(يع 3: 1). ويقول
المسيح وهو

يكلِّل
هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة
بشتَّى
التأديبات: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر
في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم، فهذا يُدعَى عظيمًا
في ملكوت
السماوات"
(مت 5: 19)[16].

القدِّيس
كيرلس الكبير

الإِنْسَانُ
مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ.

كَزَهْرِ
الْحَقْلِ كَذَلِكَ يُزْهِرُ [15].

لأَنَّ
رِيحًا تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ

وَلاَ
يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ [16].

أَمَّا
رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيه،ِ

وَعَدْلُهُ
عَلَى بَنِي الْبَنِين [17].

v      
َ بدون شك الإلهيات تفوق
البشريات، والروحيات تفوق الجسديات. لذلك من يرغب في الحياة الحقيقية ينتظر ذاك
الخبز الذي من خلال ممارسته غير الملموسة يقَّوي القلوب البشرية[17].

القديس
أمبروسيوس

لِحَافِظِي
عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ لِيَعْمَلُوهَا [18].

اَلرَّبُّ
فِي السَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ

وَمَمْلَكَتُهُ
عَلَى الْكُلِّ تَسُودُ [19].

بَارِكُوا
الرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً،

الْفَاعِلِينَ
أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ [20].

يقدم لنا
الكتاب المقدس بعهديه الملائكة كمرسلين لله وخدام له، يحملون روح الطاعة له، وروح
الحب لنا. فإن كانت الملائكة الساقطة وعلى رأسهم إبليس لا يكفون عن مقاومة الحق
فينا لكي يسحبوننا إلى البنوة لإبليس والاستعباد له، فبلا شك لا تقف الملائكة في
سلبية، بل تصلي وتعمل في شوق حقيقي لكي نتمتع بالبنوة لله ونتحرر من أسر إبليس
وملائكته.

يعبر المرتل
عن عمل الملائكة الدائم في طاعة لله وبقوة، قائلاً: "باركوا الرب يا
ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره، عند سماع صوت كلامه
" (مز 20:103).

v      
يلزم أن تميز بين كونك تعمل، وبين أن تتعب، فهذا
شيء وذاك آخر. لكن هل يوجد عمل بدون تعب؟ هل هذا ممكن؟ نعم. هكذا كانت إرادة الله،
لكنك رفضت هذه الإرادة. فقد أعدَّك في الجنة لكي تعمل، وحدد لك ما تعمله، وإن كان
لم يمزجه بالتعب. لأنه لو كان التعب منذ البداية، لما صار عقابًا بعد ذلك (تك ).
إذن كان من الممكن أن يعمل الإنسان بدون تعب مثل الملائكة. فالملائكة تعمل أيضًا.
اسمع ماذا يقول: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة الفاعلين أمره عند
سماع صوت كلامه" (مز 103: 20). إن غياب الصحة (الذهنية) هو الذي يسبب التعب
الكثير، لكن في البداية لم يكن الأمر هكذا… الله أيضًا ما يزال يعمل كما يؤكد
المسيح: "أبي يعمل، وأنا أعمل" (يو 5: 17)[18].

v      
ماذا نرى (في الملائكة) من أكبر العظائم؟ أليس
طاعتها لأوامر الله؟ تلك هي الشهادة التي يقدمها داود في حق هذه القوات بعاطفة
التعجب: "باركوا الرب يا جميع جنوده، يا خدامه العاملين مرضاته"
(مز 103: 20). ما من خير يعادل هذا الخير في تلك الأرواح الطاهرة[19].

v                
إني أطوَّب القوات غير المرئية، لأنهم يحبون
الله، ويخضعون له في كل شيء[20].

v      
عليك أن تميز بين كونك تعمل وبين أن تتعب، فهذا
شيء آخر. لكن هل يوجد عمل بدون تعب؟ هل هذا ممكن؟ نعم، هكذا كانت إرادة الله، لكنك
رفضت هذه الإرادة. فقد أعدَّك في الفردوس لكي تعمل، وحدد لك ماذا تعمل، وإن كان لم
يمزجه بالتعب. لأنه كان يوجد التعب منذ البداية، لما أصبح التعب عقابًا فيما بعد.
إذن كان من الممكن أن يعمل الإنسان بدون تعب مثل الملائكة، فالملائكة تعمل أيضًا.
اسمع ماذا يقول: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند
سماع صوت كلامه" (مز 103: 20).

إن غياب
الصحة (الذهنية) هو ما يسبب التعب الكثير، لكن في البداية لم يكن الأمر هكذا. لأن من يأتي إلى راحته "يستريح من
أتعابه" (عب 4: 4)، كما استراح الله من أعماله، لأن لله ما يزال يعمل، كما
يؤكد المسيح: "أبي يعمل وأنا أعمل" (يو 5: 17)[21].

القديس
يوحنا الذهبي الفم

v  "لتكن
مشيئتك،
كما في السماء كذلك على الأرض".
ملائكة الله
المقدسون المباركون يصنعون مشيئة الله، كما قال داود: "باركوا الرب يا ملائكته
المقتدرين قوة، الفاعلين أمره" (مز 103:
20)، وعلى
هذا نعني بالصلاة: "كما في الملائكة تكون مشيئتك،
هكذا لتكن على
الأرض فيّ يا رب"[22].

v  ملائكة
الله الطوباويون الإلهيون يصنعون مشيئة الله كما يرنم داود قائلاً: "باركوا
الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين كلمته" (مز 20:103) فعندما تصلي
بقوة تود القول: كما أن مشيئتك تتم في ملائكتك، هكذا فلتتم فينا نحن علي الأرض يا
رب[23].

القديس كيرلس الأورشليمي

v  إذ
كانوا "مقتدرين قوة" (مز 20:103) في تنفيذ مشيئة الله، وفي السعي لإهلاك
العُصاة، هذا فيه برهان على أنهم يقفون قدام الله، ويخدمونه كأنهم يده اليُمنى (لو
19:1)، وذلك نتيجة لإرادتهم الصالحة[24].

العلامة أوريجينوس

v  ليتنا
لا نقدم التشكرات فقط من أجل البركات التي تحل بنا وإنما من أجل البركات التي تحل
بالآخرين… هذا هو الأمر (الشكر) الذي يحرر الإنسان من الأرض، ويرفعنا إلى
السماء، ويجعلنا ملائكة بدلاً من أن نكون بشرًا. فإن الملائكة يشكلون طغمة تقدم
التشكرات لله من أجل الصالحات الموهوبة لنا، قائلين: المجد لله في العالي وعلى
الأرض السلام وبالناس المسرة (لو 14:2)[25].

القديس يوحنا
الذهبي الفم

بَارِكُوا
الرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ

خُدَّامَهُ
الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ [21].

v 
سينتهي شكل هذا العالم
لأنه بطبيعته غير ثابت. وهذا واضح في سفر الجامعة الذي يعلن أن مرئي أو متحرك
باطل
(جا 1: 2). ما هي إذن قوة هذا "الحقل" العالم؟ ما هي القوة
التي لا تسمح بالفكر وتمتعه بواسطة القَسَم على بنات أورشليم لينقُضْنه؟ إذا نظرنا
إلى الحقيقة الظاهرة لهذه القوة، فإن الجامعة ترفض مثل هذا الفرض. (جا 1: 2)، يُسمي
"باطل" كل شيء نراه، ويعيش في الواقع المرئي. الباطل ليس له مادة، وما
ليس به مادة ليست له قوة. وقد نحصل على إشارة عن معنى النص من استعمال صيغة الجمع
لكلمة قوة. نجد توضيحًا للكلمات من هذا النوع في الكتابات المقدسة، فعندما تستعمل
كلمة قوة في صيغة المفرد فإنها تعني قوة الله بينما حينما تُستعمل في صيغة الجمع
فإنها تعني قوة الملائكة. فمثلاً "المسيح" قوة وحكمة الله (1 كو 1: 24).
يوضح هنا استخدام كلمة قوة بصيغة المفرد على أُلوهية السيد المسيح. وعلى الجانب
الآخر نجد في (مز 103: 21) "باركوا الله في جميع قواته"، وهنا توضح صيغة
الجمع الطبيعة الروحية للملائكة. إن التعبير "المقدرة" التي تُستخدم مع
كلمة قوة تركز أكثر على المعنى. ويعمل الوحي الألهى في بعض الأحيان على جعل المعنى
أكثر تأكيدًا باستخدام كلمات لها نفس المعنى. خذ كمثال التعبير الآتي: "الرب
صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي به اَحتمي. تُرس وقرن خلاصي وملجأي. أدعو الرب
الحميد فأتخلص من أعدائي" (مز 18: 2-3). فكل كلمة تعبر عن نفس المعنى، ولكن
اسستعمال الكلمتين معًا يُعطي تأكيدًا للعبادة. لذلك فاستخدام صيغة الجمع لكلمة قُوى
وكلمة مقدرة بنفس المعنى تشير إلى طبيعة الملائكة. لذلك فالقَسَم يُلزم النفوس
التي لا تزال في مرحلة التلمذة لكي يؤكد لهم ما قد درسوه. إنهم سوف لا يُقسمون
بالدنيا الزائلة، ولكن بالطبيعة الملائكية الدائمة باستمرار. إنهم يُشجعون لكي
يكونوا متنبهين للملائكة الذين يؤكدون الحياة الثابتة والمستمرة للفضيلة
[26].

القديس
غريغوريوس أسقف نيصص

v 
نحن لا نشك أن النص يذكر
مديح العروس، ولكننا لا نعرف بسهولة كيف يكتسب هذا المديح تشريفًا حتى لو عرفنا
ارتفاع قيمته. يقرأ النص: "مرهبة كجيش بألوية" (نش 4:6). قد ترتفع قيمة
مديح العروس بالنسبة لتفسيرنا السابق عندما قورنت بالقوى التي لاِتحد. هذه القوات
المنتظمة في المعركة هي القوى الدائمة إلى الأبد والتي تمسك بزمام الأمور وتسيطر
على كل شيء، فالعروس ثابتة والسلطات تبقى خالية من العبودية وتمجد هذه القوى الله
دون انقطاع ولا تبقى السيرافيم الطائرة ثابتة ولا تتغير أماكنهم. ولا تتوقف
الشاروبيم عن حمل عرش الله العالي، ويبارك جميع جنوده خدامه العاملين مرضاته (مز
21:103). أسس الله هذه القوى لذلك يظل الأرواح والقوى الغير محدودة واضح ومستمر
وثابت، لأن الشر لا يفسده. وترتب النفس كل شيء حتى تقلد وتتعجب من هذه القوى
ونظامها. يؤدي الخوف إلى الشلل والتوقف عن البحث ولكننا سوف لا نخطئ بالوقوع في
حلقة الخوف
[27].

القديس
غريغوريوس أسقف نيصص

بَارِكُوا
الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ.

فِي كُلِّ
مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ

بَارِكِي
يَا نَفْسِيَ الرَّبَّ [22].

v  فإن
لم يكن لأي شيء، فعلى الأقل بسبب احتقارنا لأنفسنا فعلاً، نستحق أن يقع علينا أشد
العقاب، لأنه حين كان الأنبياء يرنمون والرسل يرتلون الأناشيد والله يتكلم، كنا
نحن نضل بعيدًا، ونجلب على أنفسنا ضيقات العالم، ولا نراعي وصايا ونواميس الله،
جالسين في هدوء – مثلما ينصت المشاهدون في المسارح لرسائل الإمبراطور في صمت وهدوء
– لأنه حينما تتلى هذه الرسائل هناك، والولاة حاضرون
مع المحافظين، ورجال مجلس الشيوخ، والشعب وقوفًا في صمت مطْبق أمام الكلمات، فإن
قفز أحد فجأة وسط هذا السكون الشديد وصرخ فإنه يلقى أشد العقاب؛ إذ أهان الإمبراطور،
لكن هنا، فإن الرسائل قادمة من السماء، وبينما تتلى تسود فوضى في كل مكان، مع أن
مرسل هذه الرسائل أعظم بما لا يقاس من ملكنا الأرضي، والحشد المجتمع أكثر وقارًا،
فالحاضرون ليسوا من الناس فقط، بل من الملائكة أيضًا، والرسائل تنقِل إلينا أخبار
الانتصارات، والأخبار السارة التي تثير فينا رهبة أكثر من أمور الأرض. لهذا لا
يحتشد الناس فقط، بل الملائكة ورؤساء الملائكة وكل شعوب السماء وكل سكان الأرض يُؤمَرون
بالتسبيح، كالمكتوب: "باركُوا الربَّ يا جميع أعماله" (مز 103: 22).

أجل،
فإن أعمال الرب ليست بالإنجازات الهينة، بل هي تفوق كل حديث، وكل فكر، وكل فهم
للإنسان
[28].

القديس
يوحنا الذهبي الفم



[1] Tractate of Matthew 16: 4.

[2] Continence,16.

[3] Continence,23.

[4]  In 2 Cor. Hom. 20 (P. G 61: 540).

[5] Letter & Spirit, 56.

[6] PL 23:179

[7] Prayer of David 4:9:35.

[8] Prayer of David, Book 4:9:35.

[9] Commentary on Rom. 9: 23.

[10] عظة 10 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[11] The Divine Providence.

[12] العناية
الإلهية
للقدِّيس
يوحنا
الذهبي الفم، ترجمة عايدة حنا بسطا.

[13] في مديح
القديس بولس
،
3
.

[14] Sermon on NT Lessons, 7:13.

[15] Prayer of David 4:6:22.

[16] عظة عن
إنجيل لوقا 32، 33.

[17] Exposition of Luke 4:19-20.

[18] Homilies on John,36.  

[19] الأب الياس، ص 268. 

[20] Homilies on Rom. Hom 10.

[21] Homilies on John, homily 36.

ترجمة: دكتور جورج عوض
إبراهيم.

[22] الأسرار 5، 14.

[23] Catch. Lect. 23:14.

[24] De Principiis 1:8 (Henri De Lubac).

[25] In Matt. Hom 25:3.

[26] عظة 4 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[27] عظة 15 على نشيد الأناشيد ترجمة الدكتور جورج نوّار.

[28] عظة ربنا
يسوع المسيح على الجبل.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد قديم سفر إرميا 22

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي