إِنْجِيلِ مَتَّى

 

الفصلُ
الأوَّل

"أفضَلُ
أسفارِ الكتابِ المُقدَّس"

 غالِباً
ما يُشارُ إلى الأسفارِ الأربَعة الأُولى في العهدِ الجديد كأنَّها "سِيَرُ
حياة يسوع"، لأنَّها المصادِرُ التي مِنها نَستَقي معلُوماتِنا عن حياةِ
أعظَمِ شخصيَّةٍ في التاريخ. ولكنَّ هذه الأسفار الأربَعة ليسَت سِِيَرَ حياةٍ
نمُوذجيَّة، كما هي الحالُ معَ سِيَرِ اليوم، لأنَّ اثنتَين من سِيَرِ الحياةِ هذه
لا تَذكُرانِ وِلادَةَ المسيح ولا السنوات الثلاثين الأُولى من حياتهِ.

 

 فإنجيلُ
مرقُس مثلاً يقولُ بِبساطة "يسوعُ أتى،" ومن ثَمَّ يجعَلُنا نَلتَقي
بيسوع وهُوَ في الثلاثين من عُمرِه، ونُتابِعُهُ في السنواتِ الثلاث الأخيرة من
حياتِه. ونجدُ الشيءَ ذاتَهُ في إنجيلِ يُوحنَّا. يذكُرُ متَّى وِلادتَهُ
باختِصار، وهُوَ كذلكَ يتجاهَلُ السنوات الثلاثين الأُولى من حَياتِه. لُوقا هُوَ
الوحيدُ من بَينِ كُتَّابِ الأناجيل الذي يُعطي تفاصِيلَ عن وِلادَةِ يسوع. يخرُقُ
لُوقا الصمتَ ويُخبِرُنا عن حادِثَةٍ صغيرةٍ جَرَت في الثلاثين سنة الأُولى من
حَياةِ يسوع. كانت الأولويَّةُ لدى الكُتَّاب أن يُخبِرونا أنَّ يسوعَ جاءَ ولماذا
جاءَ إلى هذا العالم.

 

الأناجيل
المُتشابِهَة النَّظرة

 عندما
تُقرَأُ الأناجيلُ الأربَعة، إحدَى أُولى المُلاحظات التي ستُلاحِظُها هي أنَّ
متى، مرقُس ولُوقا لديهم الكثيرُ من القواسِمِ المُشتَرَكَة في المُحتَوى، بينما
تِسعُونَ بالمائة من إنجيلِ يُوحنَّا لا نجدُهُ إلا في إنجيل يُوحنَّا. فبِما أنَّ
الكثير من مُحتَويات الأناجيل الثلاثة الأُولى مُتطابِقٌ، أُطلِقَ عليها إسم
"الأناجيل المُتشابِهة النظرة."

 

 يذكُرُ
مرقُس حقائِقَ عن يسوع المسيح بِكُلِّ وُضُوحٍ وإيجاز. ومن أجلِ إكتِسابِ خُبرَةٍ
في كِتابَةِ التقارير الواضِحة والمُوجَزَة، يتوجَّبُ على تلامِذَةِ كُلِّيَّات
الصحافَة أن يقرأُوا إنجيلَ مرقُس، بعدَ قِراءَتِهم لإنجيلَي متَّى ولوقا.
وإستِناداً إلى مُلاحظاتٍ ودِراساتٍ لِخَلفِيَّةِ هذه الأناجيل، كانَ رأيُ الكثيرِ
من عُلماءِ الكتابِ المقدَّس أن مرقُس كتبَ أوَّلاً، واستَقَى معلوماتِهِ من بطرُس
كونَهُ شاهِد عيان. بِرأيِ هؤلاء المُفسِّرِين، إستَخدَمَ كُلٌّ من متى ولُوقا
إنجيلَ مرقُس كأساسٍ لِكتابَاتِهِما. ولقد تيقَّنَ كُتَّابُ الإنجِيلَين الأَوَّل
والثالِث أنَّهُ كانَت هُناكَ وُجهَةُ نظَرٍ عن حياةِ يسوع لم يُسجِّلها مرقُس.
فاقتِيدُوا من الرُّوحِ القُدُس ليَكتُبُوا إنجِيلَيهِما، لأنَّهُما أرادا أن
يُشارِكانا بِوُجهَاتِ النَّظَر هذه.

 

 وبما
أنَّ تِسعين بالمائة من مُحتَوى إنجِيلِ يُوحَنَّا لا نجِدُهُ في إنجِيلِ متَّى
ومَرقُس ولُوقا، أرادَ الرَّسُولُ يُوحنَّا أن يُقدِّمَ وُجهَةَ نَظَرٍ واضِحَةٍ
عن حَياةِ وخِدمَةِ يسوع المسيح، التي لا نَجِدُها في الأناجيل الثلاثة الأُولى.
وبِما أنَّ إنجِيلَ يُوحنَّا فَريدٌ لِِعِدَّةِ أسباب، سوفَ ندرُسُ هذه الأناجيل
المُتشابِهة النَّظرة وإنجيل يُوحنَّا، كُلاً على حِدَة.

 

 إنَّ
حياةَ يسوع هي مَحطَّةٌ في تارِيخِ البَشَريَّة. فمُعظَمُ العالَم اليوم يقسِمُ
التاريخَ إلى سنوات ما قبلَ حياة المسيح وما بعدَهُ. فإذا أخذتَ أيَّةَ صحيفَةٍ أو
مجلَّةٍ في العالَمِ اليوم، سَتَجِدُ عليها تاريخَ يومِ إصدارِها. ويُخبِرُنا هذا
التَّاريخُ كم منَ السنواتِ مضَت منذُ حياةِ يسوع المسيح. وعندما ننتَهي من إستِطلاعِ
وتَلخيصِ سِيَرِ الحَياة المُوحَاة الأربَعة هذه، سَنَكُونُ قد كَوَّنَّا فِكرَةً
عن حَياةِ إنسانٍ عاشَ فقط ثلاثاً وثلاثِينَ عالماً، ولكنَّهُ تركَ هذا الأثرَ
الحَيَويَّ على تاريخِ العالم.

 

مِفتاحٌ
لأسفارِ الكِتابِ المقدَّس

 بعدَ
أن صُلِبَ يسوعُ وقامَ من الموت، تحدَّثَ معَ الرُّسُل. نقرأُ أنَّهُ أخبَرَهُم
بِشيءٍ عن الأسفار المقدَّسة، ممَّا فتحَ أعيُنَهُم ليفهَمُوا كلمةَ الله. رُغمَ
أنَّهُم كانُوا معَ يسوع لمدَّةِ ثلاثِ سنوات، يبدو أنَّهُم لم يفهَمُوا أسفارَ
الكتاب المقدَّس.

 فما
هو الأمرُ الذي أخبَرَهُم إيَّاهُ يسوع عن الأسفارِ المقدَّسة ممَّا فتحَ ذهنَهُم
ليفهَمُوا كلمةَ الله؟ نقرأُ: "ثُمَّ إبتَدأَ من مُوسى ومن جميعِ الأنبِياء
يُفسِّرُ لهُم الأُمُورَ المُختَصَّةَ بهِ في جميعِ الكُتُب." (لُوقا 24:
27). وعندما سمِعَ التلاميذُ أنَّ الأسفارَ بِجُملتِها كانت تتكلَّمُ عن المسيح،
فهِمُوا لأوَّلِ مرَّةٍ في حياتِهم أسفارَ الكِتابِ المقدَّس. (كانَ بالطبعِ
يُشيرُ إلى العهدِ القديم، عندما أخبَرَ الرُّسُل أنَّ الأسفارَ بِجُملتِها
تتكلَّمُ عنهُ.)

 

 قالَ
يسوعُ للكَتَبَة والفرِّيسيِّين، "فتِّشُوا الكُتُب لأنَّكُم تظُنُّونَ أنَّ
لكُم فيها حياة، وهِيَ تَشهَدُ لي. ولا تُريدُونَ أن تأتُوا إليَّ لكَي لا تكُونَ
لكُم حياةٌ." (يُوحنَّا 5: 39-40)

 

 يعتَقِدُ
الكاتِبُ التأمُّلي البَريطاني
Oswald Chambers أنَّ هذين العددَين هُما المِفتاحُ لكُلِّ الكتابِ المقدَّس. لن
نفهَمَ الكتاب المقدَّس بِحَقّ إلى أن نفهمَ أنَّ العهد القديم والعهد الجديد
يتكلَّما بجملتِهما عن يسوع المسيح. فالكِتابُ المقدَّس ليسَ تاريخ حضارة.
الكِتابُ المقدَّس لم يُقصَدْ بهِ أن يكونَ كتابَاً عن علم أصل الأنواع. بَلِ
الكتابُ المقدّس هو كِتابٌ يتكلَّمُ عن الخلاصِ والفِداء. فالقصدُ من الكتابِ
المقدَّس هو تقديمُ يسوع المسيح كمُخلِّصِنا وفادينا، وإعطائِنا الإطار التاريخي
الذي فيهِ جاءَ فادينا إلى العالم.

 

 لو
أعطى القادَةُ الدينيُّونَ آذاناً رُوحيَّةً صاغِيَة ليسمَعُوا يسوع، لأخذوا من
يسوعَ المفتاح الذي كانَ سيفتَحُ أذهانَهُم ليفهَمُوا العهد القديم. ولكانت
أعيُنُهم قد إنفتَحَت أيضاً لترى مُعجِزَةَ كون المسيَّا واقِفاً أمامَهُم.

 

 إن
هذه الحقيقة البَسيطة، أنَّ الكتاب المقدَّس بجُملتِهِ يتكلَّمُ عن يسوع المسيح،
يُمكِنُ أن تفتَحَ أذهانَنا لفهمِ كُلٍّ من العهدَين القديم والجديد اليوم. إنَّ
هذه الأناجيلُ الأربَعة هي الأسفارُ الأكثرُ أهمِّيَّةً في الكتابِ المقدَّس،
لأنَّ جوهرَ الكتاب المقدَّس هو يسوع المسيح، وهذه الأناجيلُ الأربَعة هي سِيرَةُ
حياتهِ المُوحَى بها من الله.

 

عمَّا
تتكلَّمُ الأناجيلُ

 كُلُّ
ما نُؤمِنُ بهِ ينبَغي أن يبدأَ بأعظَمِ إعلانٍ للحقيقة التي أعطاها اللهُ لهذا
العالم، والتي هي حياةُ وتعاليمُ يسوع المسيح. يُخبِرُنا واحِدٌ من الأناجيل
الأربَعة بالقول، "اللهُ لم يرَهُ أحدٌ قَطّ، الإبنُ الوَحيدُ الذي في حُضنِ
الآب [أي أنَّهُ كانَ في علاقَةٍ حَمِيمَةٍ معَهُ] هُوَ خبَّر."
"يُوحنَّا 1: 18). إن الكلمة اليُونانيَّة المُتَرجَمة "هُوَ
خَبَّر" هي نفس كلمة "فسَّرَ وإستخرَجَ الحقيقة." أن نُفسِّرَ
عدداً من كلمة ِالله يعني أن نستخرِجَ من هذا العدد كُلَّ الحقيقة المَوجُودة
فيهِ.

 

 يقُولُ
لنا هذا العدد أنَّ يسوع المسيح إستخرَجَ من وِحدَتِهِ الحَميمَة مع الله كُلَّ
الحقيقة التي يُمكِنُنا أن نفهمَها عن الله. هذا يعني أنَّ يسوع المسيح كانَ
أعظَمَ إعلانٍ للحقيقة سبقَ للعالم أن أخذَهُ من الله. فكُلُّ ما كانَهُ، وكُلَّ
ما عمِلَهُ، وكُلُّ ما قالَهُ، "فسَّرَ الله." الأناجيلُ هي الأسفارُ الأكثَرُ
أهمِّيَّةً في الكتابِ المقدَّس، لأنَّهَا تُخبِرُنا عن يسوع، الذي أعلَنَ اللهَ
بِشكلٍ كامِل.

 

 هُناكَ
عددٌ آخَر في إنجيلِ يُوحنَّا يُخبِرُنا عن جوهر ما تتكلَّم عنهُ الأناجيلُ
الأربَعة. يكتُبُ يوحنَّا قائِلاً، "في البدءِ كانَ الكلمة (أي يسوع)، والكلمة
كانَ عندَ الله، وكانَ الكلمة الله." (1: 1) ثُمَّ يُتابِعُ يُوحنَّا في نفسِ
الإصحاحِ قائلاً، "والكلمةُ صارَ جسداً وحَلَّ بينَنا." (14)

 

 من
أجلِ إيضاح هذا العدد العظيم، أدعُوكَ لتَستَخدِمَ مُخَيِّلَتَك. تخَيَّلْ أنَّ
لدَيكَ مُشكِلَة كبيرة معَ النَّمل. فعِندَما تَترُكُ السكاكِرَ على الطاوِلة،
وترجِعُ فيما بعد إلى المنـزلِ في المساء، تجدُ طاوِلتَكَ مليئةً بالنَّمل.
إفتَرِضْ أنَّكَ قرَّرتَ أن تحُلَّ المُشكِلة. وكُنتَ قد إكتَشفتَ أنَّ النملَ
يأتي من وكرٍ كبيرٍ خلفَ منـزلِكَ. ولكَي تتخلَّصَ من النمل، تسكُبُ البنـزين على
الوِكر وتُشعِلُ فيهِ النار، فترتفِعُ لُهُبُ النَّارِ إلى أعلَى، وينـزلُ
النَّملُ إلى أسفل. وعندما تخمدُ النار، يرجِعُ النملُ مُجدَّداً ليزحفَ إلى
داخِلِ منـزلِك.

 

 كيفَ
يُمكِنُكَ أن تجدَ حلاً لمُشكِلَةِ النمل هذه؟ إنَّ مُشكِلَتَكَ ليست أنَّكَ تكرَهُ
النَّمل، بل أن النملَ يُغطِّي مائدتكَ حيثُ تتناوَلُ الطعام. فلو كانَ بإمكانِكَ
أن تتفاهَمَ معَ النمل، لكُنتَ تقول، "إسمَعوا، أنا لا أكرَهُكُم. ولكن كُلَّ
ما في الأمر هو أنَّي لا أُريدُ أن أراكُم على مائدةِ الطعام. سوفَ أتركُ لكُم
كميَّةً كبيرَةً من الطعام في الخارِج قُربَ وِكرِكُم، إن كُنتُم تُوافِقونَ على
البَقاءِ خارِجَ منـزلي." إنَّ مُشكِلَتَكَ الكُبرى هي أنَّكَ لا تستطيعُ
التفاهُمَ معَ النَّمل. فأنتَ كائِنٌ بَشَريٌّ، وهُنَّ مُجرَّدُ نملاتٍ، وليسَ
بإمكانِ الناس التفاهُمَ معَ النمل.

 

 إستَخدِم
الآن المزيد من مُخيِّلتِكَ. فإن كُنتَ تُحِبُّ النَّملَ بِشكلٍ كافٍ ممَّا
يُزوِّدُكَ بالقوَّة لتفعلَ أيَّ شيءٍ أرتَهُ من أجلِ النمل، قد تُقرِّر أن
تُصبِحَ نملَةً، وتنـزلَ إلى وكرِ النَّمل وتقول، "إسمعنَ أيَّتُها النملات.
قد أبدو لَكُنَّ وكأنَّني نملة، ولكنَّني لستُ كذلك. أنا هُوَ الشخصُ الذي يعيشُ
في المنـزل الكبير فوق، ولديَّ إقتِراح أُقدِّمُهُ. فأنا راغِبٌ بأن أقومَ
بتضحِيَة من أجلِكُنّ إذا توصَّلنا إلى إتِّفاق. سوفَ أترُكُ لكُنَّ كميِّةً
كبيرةً من الطعام قُربَ وِكرِكُنَّ إذا وافقتُنَّ على البقاء خارِجَ منـزلي."

 

 أنا
أعرِفُ أنَّ هذا إيضاحٌ مُضحِك، ولكن هل ترى ما أُحاوِلُ قولَهُ؟ فالكلمة هي
وسيلَةُ نقلِ الفكرة. فاللهُ لديهِ حقيقَة أرادَ أن يُشارِكَها معنا، وعهدَ خَلاص
أرادَ أن يُقيمَهُ معنا. لقد أحبَّنا أبونا السماويّ لدرجةِ أنَّهُ قامَ
بِتضحِيَةٍ عظيمَةٍ بتركِهِ السماء لكي يتفاهَمَ معنا. ولكنَّهُ اللهُ، ونحنُ
مُجرَّد بَشر. وأفضَلُ طريقَة لإيصالِ فكرةٍ هو بوضعِها في شخص. لهذا سمَّى اللهُ
إبنَهُ "الكلمة"، ومن ثمًَّ قالَ لنا أنَّ الكلمة صارَ جسداً وحلَّ
بينَنا لمدَّةٍ ثلاثٍ وثلاثِينَ سنةً.

 

 إن
صيرُورَةَ إنسانٍ نملَةً لكي يتفاهَمَ معَ النمل هو تنازُلٌ كبير يقومُ بهِ
الإنسانُ من أجلِ خيرِ النمل. ولكن عندما يُخبِرُنا الكتابُ المقدَّس أنَّ اللهَ
أصبَحَ جسداً إنسانيَّاً، لكَي يتمكَّنَ من الإتِّصالِ معنا ولِكَي يُخلِّصَنا من
خطايانا، كانَ هذا أعظَمُ تنازُلٍ عرفَهُ العالم.

 

يسوعُ
آتٍ! يسوعُ أتَى!

 إنَّّ
المُشكِلَة الأساسيَّة التي يُعالِجُها الكتابُ المقدَّس هي مُشكِلَةُ كون الإنسان
قد فصلَ نفسَهُ عن اللهِ بِشبهِ طلاق، وينبَغي تدبيرَ مُصالَحَة لهذا الطلاق. إن
رسالَةَ العهدِ القديم تُلخِّصُ الحَلّ لهذه المُشكِلَة بالكلماتِ التَّالِيَة:
"يسوعُ آتٍ!" ورسالَةُ العهدِ الجديد تَصِفُ الحلَّ لهذه المُشكِلة
بكلمتَين: "يسوعُ أتَى!"

 

 عبرَ
العهدِ القديم، نسمَعُ أنبِياء وغيرَهُم يقولون، "أنا أعلَمُ أنَّ هذا
سيحدُث. فأنا أُصدِّقُ الله عندما تقُولُ كلمتُهُ أنَّهُ سيُرسِلُ المَسيَّا إلى
عالمنا." نسمَعُ أُموراً مثل نُبُوَّة أيُّوب، "أمَّا أنا فقد علِمتُ
أنَّ وَليِّي [أو فادِيَّ] حَيٌّ والآخَرُ على الأرضِ يقُوم." ولكنَّنا
نسمَعُهُ أيضاً يقُول، "من يُعطِيني أن أجِدَهُ فآتِي إلى كُرسيِّهِ."
(أيُّوب 19: 25؛ 23: 3)

 

 في
هذه الأناجيل، نسمَعُ أشخاصاً مثل أندراوُس، أخي سِمعان بطرُس، يقولُ مُتعجِّباً،
"لقد وجدنا المسيَّا." (يُوحنَّا 1: 41) وعندما قالَتِ المرأةُ
السامِريَّةُ أنَّ المسيَّا سيأتي يوماً ما، أجابَها يسوعُ بِوُضُوح، "أنا
الذي أُكلِّمُكِ هُوَ." لقد صرَّحَ أنَّهُ المسيَّا المَوعُود بهِ في الأنبِياء
في العهدِ القديم (يُوحنَّا 4: 25-26).

 

 إنَّ
الأسفار الأربَعة الأُولى من العهدِ الجديد تُسمَّى بالأناجيل، لأنَّ كلمة
"إنجيل" تعني "الأخبار السارَّة." عندما يُلخِّصُ الرُّسُل
ويُطبِّقُونَ الأخبار السارَّة في هذه الأناجيل، يُخبِرُونَنا أنَّ اللهَ صالَحنا
بمجيءِ المسيح. فهُم يُلَخِّصُونَ هذه السيَر الأربَع المُوحى بها عن حياةِ يسوع
المسيح بالطريقةِ التالية: "اللهُ يستخدِمُنا لكي يتكلَّمَ إليكُم: فنلتَمِسُ
منكُم، وكأنَّ المسيحَ نفسَهُ يُناديكم، أن تقبَلُوا المحبَّةَ التي يُقدِّمُها
لكُم – بأن تَتَصالَحُوا معَ الله" (2كُورنثُوس 5: 20).

 

 عندما
نستَطلِعُ العهدَ الجديدَ معاً، صلاتي هي أنَّكَ إن كُنتَ مُنفَصِلاً عنِ الله، أن
تختَبِرَ المُصالحة معَهُ من خِلالِ يسوع المسيح. وعندما تتَصالَحُ معَهُ وتَرجِعُ
إلى علاقَةٍ معَ الله من خِلالِ المسيح، عندما تَستطيعُ أن تتصالَحَ معَ نفسِكَ
ومعَ الآخرين. هذا هوَ جوهَرُ رِسالَةِ العهدِ الجديد.

 

 فتِّشْ
عن هذه الرِّسالة عندما تقرَأُ العهدَ الجديد: سلامٌ معَ الله، سلامٌ معَ نفسِكَ،
وسلامٌ معَ الآخرين، لأنَّك تُؤمِنُ أنَّ يسوع المسيح، المسيَّا المَوعُود بهِ، قد
جاءَ إلى العالم.

 

الفصلُ
الثاني

 "تصريحاتُ
رِسالَة يسوع"

 عندما
نقرَأُ الأناجيلَ بعِناية، نكتَشِفُ أنَّ يسوعَ كانَ رجُلاً ذا رِسالة، وأنَّهُ
عرفَ ما هي رِسالتُه. بينما تدرُسُ الأناجيل معي، أصغِ إلى يسوع يُخبِرُكَ لماذا
جاءَ. وسوفَ تسمَعُهُ يُبرِزُ ما يُمكِنُ أن نُسمِّيَهُ "همَّهُ
الأوَّل." وإذ يعرِضُ القصدَ من حَياتِهِ ورسالتِه، لن يكُونَ هُناكَ أدنَى
شَكّ عمَّن هُوَ يسوع، ولِماذا جاءَ إلى هذا العالم. مثلاً، في إنجيلِ يُوحنَّا
نسمَعُ يسوعَ يُقدِّمُ بَيانَ رسالتِهِ وأهدافَ رسالتِهِ بالطريقةِ التالية:
"ينبَغي أن أعمَلَ أعمالَ الذي أرسَلَني ما دامَ نَهار. يأتي ليلٌ حِينَ لا
يستَطيعُ أحدٌ أن يعمَل." (9: 4) وكذلكَ نسمَعُ يسوع يقُولُ لتلاميذِه،
"أنا لي طَعامٌ لآكُلَ لستُم تعرِفُونَهُ أنتُم… طَعامي أن أعمَلَ مشيئَةَ
الذي أرسَلَني وأُتمِّمَ عملَهُ." (يُوحنَّا 4: 32، 34)

 

 وعندما
وصلَ يسوعُ إلى نِهايَةِ سنواتِ خدمتِه العلنيَّة الثلاث، ذهبَ إلى بُستانِ
جُثسيماني وصلَّى قائلاً، "أنا مجَّدتُكَ على الأرض. العملُ الذي أعطَيتَني
لأعمَلَ قد أكملتُهُ" (17: 4). وكانت كلماتُهُ الأخيرة على الصليب صرخَةَ
إنتِصارٍ عظيم بِقولِهِ، "قد أُكمِل!" (19: 30).

 

القصدُ
من الحياة

 لقد
عاشَ يسوعُ حياةً نمُوذَجيَّة أظهَرَت لنا القصدَ من الحياةِ البَشريَّة. يقولُ
أحدُ قوانين الإيمان الذي يُعلِّمُونَهُ لأطفالِ الأهلِ الأتقِياء، "إنَّ
غاية الإنسان الرئيسة هي تمجيد الله، والتمتُّع بالشرِكَة معَهُ إلى الأبد."
نعم إنَّ القصد من الحياةِ الإنسانيَّة هو تمجيد الله. ولكن، ماذا يعني هذا، وكيفَ
نُمجِّدُ الله؟

 

 أجابَ
يسوعُ على هذا السُّؤال عندما صلَّى قائلاً ما معناه، "مجِّد نفسَكَ أيُّها
الآب، وأرسِل لي فاتُورَةَ الكِلفة، فأنا مُستَعِدٌّ لأدفَعَ الثَّمَن"
(يُوحنَّا 12: 23- 28). لقد برهَنَ الحقيقة، أنَّهُ بعَيشِهِ الحياة التي عاشَها،
دفعَ الثمَن الذي مجَّدَ الله، عندما أعلَنَ في نِهايَةِ حَياتِهِ: "لقد
مجَّدتُكَ على الأرض. العمَل الذي أعطَيتَني لأعمَلَ قد أكملتُهُ… قد أُكمِل!…
يا أبتاه، بينَ يدَيكَ أستَودِعُ رُوحي." (17: 4؛ 19: 30).

 

 في
الخمسينات من القَرنِ العِشرين، كانَ هُناكَ مُرسَلٌ شابٌّ إسمُهُ
Jim Elliot بالإضافَةِ إلى
أربَعةِ مُرسَلينَ آخرين كانُوا معَهُ في الإكوادُور، الذين إستُشهِدوا جميعاً
عندما هاجَمَهُم هُنود الأُوكا بالسِّلاح الأبيَض، وألقُوا أشلاءَ جُثَثِهِم في
نهرٍ في الأدغال. عندما أُرسِلَ جُنُودٌ لكَي يسترجِعوا الجُثَث، وجدوا جُثَّةَ
جيم إليُوت، ووجدوا أيضاً مُذَكِّراتِهِ اليومِيَّ. في هذه المُفكِّرَة
المُبلَّلَة بالمِياه، قرأوا الكلمات التالية: "عندما يحِينُ الوقتُ في
خُطَّةِ وقصدِ اللهِ لكَ لكي تمُوت، إحرَص أن تستَسلِمَ للمَوت بكُلِّ
جوارِحِكَ."

 

 إذ
ندرُسُ العهدَ الجديدَ معاً، سيكُونُ هدَفي واضِحاً بإستِمرار عندما أطرَحُ عليكَ
أسئلةً تطبيقيَّةً شخصيَّةً مثل: "ماذا يقُول؟ ماذا يعني؟ ماذا يعني لكَ؟
ماذا يعني للأشخاص الذي يدُورونَ في فَلَكِ علاقاتِكَ؟ ماذا يعني لأولئكَ الذين
تُعلِّمُهُم؟ وماذا يعني لله؟"

 

 لقد
كانَ يسوعُ مُنشَغِلاً طِوالَ حياتِهِ بالقِيامِ بالأعمال التي أرادَهُ اللهُ أن
يُتمِّمَها. فقالَ يوماً بعدَ الآخر، "ينبَغي أن أعمَلَ أعمالَ الذي أرسَلَني
ما دامَ نَهار. يأتي ليلٌ حِينَ لا يستطيعُ أحدٌ أن يعمَل." عندما وصَلَ
يسوعُ إلى نِهايَةِ حياتِه، لم يكُنْ لديهِ أيُّ عمَلٍ لم يتُمِّمْهُ. فكُلُّ ما
كانَ عليهِ أن يعمَلَهُ هو أن يمُوت.

 

 بينما
تُطبِّقُ هذه المُقدِّمة شخصيَّاً، أودُّ أن أطرَحَ عليكَ بعضَ الأسئِلة:

 

 ماذا
بدأَ يجري في حياتِكَ نتيجَةً لما تمَّمَهُ يسوع بالطريقةِ التي عاشَ فيها
حياتَهُ؟ هل وجدتَ العمل الذي خلقَكَ اللهُ من أجلِهِ وخلَّصكَ لكي تُتمِّمَهُ
لمجدِه؟ هل تصطادُ السمك، لا بل النَّاس، يوماً بعدَ الآخر؟ وعندما يحينُ وقتُكَ
لتَمُوت بِحَسَبِ خُطَّةِ الله، هل سيكُونُ بإمكانِكَ أن تقُول "أيُّها الآب،
أنا مجَّدتُكَ على الأرض. العمل الذي أعطيتَني لأعمَلَ قد أكمَلتُهُ؟ هل سيكُونُ
بإمكانِكَ القول، "كُلُّ ما عليَّ أن أفعَلَهُ هو أن أمُوت؟ يا أبتاهُ، بينَ
يدَيكَ أستَودِعُ رُوحي؟" أو هل سيكُونُ لديكَ شعُورٌ بالعَمَل غير المُتمَّم،
بينما تُفكِّرُ بمقاصِد الله من خَلاصِكَ في هذا العالم؟

 

حَياةُ
المسيح

 من
أفضَلِ الطُّرُق لِدراسَةِ حياةِ يسوع المسيح في الأناجيل، هي بِطَرحِ السُّؤال
التالي: ما هي تِلكَ الأعمال التي أرادَهُ الآبُ أن يُتمِّمَها والتي كانت
مُهمَّةً بالنِّسبَةِ ليسوع؟ في نِهايَةِ ألمِه، عندما صرخَ يسوعُ صرخةَ الإنتِصار
على الصليب، "قد أُكمِل!" كانَ قد تمَّمَ رسالتَهُ بِوُضُوح. ولكن ما
هوَ الذي تمَّمَهُ بالتحديد؟

 

 هُناكَ
تِسعَةٌ وثمانُونَ إصحاحاً في الأناجيل الأربَعة. أربعَةُ إصحاحاتٍ تتكلَّمُ عن
وِلادَةِ المسيح والسنوات الثلاثين الأُولى من حياتِه. وخمسةٌ وثمانُونَ إصحاحاً
تُغطِّي السنوات الثلاث الأخيرة من حياتِه. وسبعَةٌ وعشِرونَ إصحاحاً تُغطِّي
الأُسبُوعَ الأخير من حياتِه. ثمانِيَةٌ وخمسُونَ إصحاحاً تُغطِّي خدماتِهِ في
التعليمِ والشفاء وتدريبِ الرُّسُل. في إنجيل يُوحنَّا، حوالي نِصف الإصحاحات
تتكلَّمُ عن السنوات الثلاث والثلاثين من حَياتِه، بينما يُغطِّي النِّصفُ الآخر
الأسبُوعَ الأخير من حياتِه.

 

 بالنسبَةِ
لكُتَّابِ هذه الأناجيل، السنوات الثلاث الأخيرة من حياتِهِ هي أكثرُ أهمِّيَّةً
بكثير من وِلادَتِهِ والسنوات الثلاثين الأُولى من حَياتِه. الأُسبُوع الأخير من
حياتِهِ هو أكثَرُ أهمِّيَّةً بسبعِ مرَّاتٍ من وِلادتِهِ ومن السنوات الثلاثين
الأُولى من حياتِه. الإصحاحاتُ الثمانِية والخمسون التي تُغطِّي تعليمَهُ،
شفاءَهُ، وتدريبَهُ للتَّلاميذ تُبرهِنُ القيمَةَ التي علَّقها هؤلاء الكُتَّاب على
هذه الأبعاد من حياتِهِ وخدمتِه.

 

 بما
أنَّ هذا المسح للعهدِ الجديد ليسَ شامِلاً ومُفصَّلاً لكُلِّ ما جاءَ في
الأناجيل، بل مُجرَّدُ مُقدِّمة ولمحة عامَّة تُحاوِلُ أن تُظهِرَ كيفَيَّةَ
الإقتِراب من هذه الأناجيل وتكوين فكرة عامَّة عنها، سأُحاوِلُ أن أضعَ التشديد في
دِراستِنا على الأماكِن التي شدَّدَ عليها كُتَّابُ الأناجيل أنفُسِهم، وأن
أُركِّزَ إهتِمامَنا على تلكَ المناطِق الهامَّة في هذهِ السِّيَر المُقدَّسة.

 

رِسالَةُ
يسوع الأولويَّة

 ستُظهِرُ
دراستُنا لهذه الأسفار بأنَّها مُسمَّاةٌ بالأناجيل لأنَّها تحمِلُ "الأخبار
السارَّة" أنَّ يسوعَ أتى، وعندما أتى، كانَ حمل الله الذي جاءَ ليرفَعَ
خطيَّة العالم (يُوحنَّا 1: 29). فإن كانَ لدَينا وَعيٌ لكونِنا خُطاة، نَعرِفُ
لماذا إعتَبَرَ هؤُلاء الكُتَّابُ الأناجيلَ أخباراً سارَّة.

 

 عِدَّةُ
إصحاحاتٍ من هذه الأسفار تُشدِّدُ على الأُسبُوعِ الأخير من حياةِ يسوع، لأنَّهُ
نفَّذَ في هذا الأُسبُوعِ الواحِد كُلَّ ما أرادَ أن يعمَلَهُ كحَمَلِ الله
ليُخلِّصَنا من خَطايانا. التشديدُ في هذه الأَناجيل يُظهِرُ لنا أنَّ مَوتَهُ على
الصَّلِيب في أُورشَليم من أجلِ خَطايانا، وقِيامَتَهُ من الموت كانت رِسالتُهُ
الأساسيَّة، وبالتَّالِي كانت أَولَويَّتُه.

 

 ثُلثُ
مُحتَوى الأناجيل هو سِجلٌّ عن كيفَ تمَّمَ يسوعُ رِسالتَهُ الأساسيَّة المُعطَاة
لهُ من الآب، عندما أحبَّ اللهُ العالم حتَّى أرسَلَ إبنَهُ ليَمُوتَ على الصَّليب
من أجلِ خلاصِنا (يُوحنَّا 3: 15 – 19). لقد شدَّدَ الرُّسُلُ على أهمِّيَّةِ
عمَلِِ يسوع الخَلاصِيّ (1بطرُس 1: 18، 19؛ 2: 24؛ 2كُورنثُوس 5: 19، 21- 6: 1،
2).

 

هَدَفانِ
آخران لرِسالَةِ يسوع

 عندَما
نقرَأُ كيفَ حَوَّلَ يسوعُ بَيانُ رِسالتِهِ إلى أهداف رِسالتِه، نرى أنَّ هُناكَ مَجالان
في حياتِهِ وخدمتِه مُشدَّدٌ عليهِما في الأناجيل. نكتَشِفُ أوَّلَ أهداف
رِسالتِهِ عندما نقرَأُ بإستِمرار عن المجالِ الخارِق للطبيعة في حياتِهِ وخدمتِه،
الذي هُوَ تشديدٌ حاسِمٌ عندَ كُتَّابِ الأناجيل الأربَعة. لقد حقَّقَ يسوعُ
عدَّةَ مُعجِزات، مُعظَمُها كانت مُعجِزاتُ شِفاء.

 

 لو
حدَثَ واكتَشفنا هذه الوثائِق ولم تكُنْ لدَينا أدنَى فِكرَة عن ماهِيَّتِها،
فعندما سنقرأُ هذه الأناجيل، قد نظُنُّ أنَّ أفضَلَ عُنوانٍ يُمكِنُنا أن نضَعَهُ
لها هو "مُعجِزاتُ يسوع،" أو "شِفاءاتُ يسوع." حوالي ثُلث
مُحتوى الأناجيل الأربَعة يَصِفُ مُعجِزات يسوع. ومن الجدير بالإعتِبار أنَّ هذا
التشدِيد يستَمِرُّ في ظِلِّ خدمةِ الرُّسُل عبرَ الجيل الأوَّل للكنيسة.

 

 بينما
تقرأُ قصَّةً تِلوَ الأُخرى عن مُعجزاتِ الشفاء التي حقَّقَها يسوع، وعندما ترى
الرُّسُل في الجِيلِ الأوَّل للكنيسة يُحقِّقُونَ المُعجِزات ويَشفُونَ المرضى،
إسأَلْ نفسَكَ، "ما هو معنى هذه النَّاحِيَة من خدمةِ المسيح المُقام الحَيّ
اليَوم؟" فإن كانَ المسيحُ نفسُهُ الذي عاشَ هُنا منذُ ألفَي عام، يحيا الآن
فيكَ وفِيَّ، هل تظُنُّ أنَّهُ بإمكانِهِ أن يُحقِّقَ مُعجِزاتٍ وأن يَشفِيَكَ
ويشفيَني اليوم؟

 

 بالإستِناد
إلى خبرتِكَ ومُلاحظاتِكَ، هل يعمَلُ يسوعُ اليومَ عجائِبَ، من شِفاءِ المرَضى
وإقامَةِ المَوتى، كما كانَ يعمَلُ عندما كانَ في الجسدِ على الأرض؟ وهل إرادتُهُ
هي دائِماً للشِّفاء؟ وهل شفى يسُوعُ كُلَّ واحِدٍ؟ وهل كانَ يسوعُ أو هل هُوَ
اليوم أكثَرُ إهتِماماً بصحَّةِ النَّاس الجسديَّة أم بِصِحَّتِهِم الرُّوحيَّة؟
ماذا تَظُنُّ؟ عندما تُجيبُ على هذا السُّؤال في إطارِ الشفاءِ الجسدي، تأكَّد أن
تأخُذَ بِعَينِ الإعتِبار الشفاءَ الرُّوحي الذي يحدُثُ من خِلالِ الخلاص الذي
يختَبِرُهُ أولئكَ الذينَ يُؤمِنُونَ ويُصبِحُونَ تلاميذ يسوع المسيح اليوم.

 

رِسالَةُ
يسوع

 هدَفٌ
آخر من أهدافِ رِسالَةِ يسوع مُشدَّدٌ عليهِ في الأناجيلِ الأربَعة، إلى جانِبِ
موتِهِ وقيامَتِهِ ومُعجِزاتِهِ العديدة. أودُّ أن أختُمَ هذه اللمحة التمهيديَّة
للأناجيل بالمُلاحظة التالِيَة، أنَّ ثُلثَ مُحتوى الأسفار الأربَعة الأولى من
العهدِ الجديد على الأقَلّ، تُسجِّلُ كَلِمات يسوع التي نطَقَ بها.

 

 قالَ
يسوعُ أنَّهُ هُوَ الطريق والحَق والحَياة، وأنَّنا لا نستطيعُ أن نأتِيَ إلى
اللهِ الآب إلا بِهِ (يُوحنَّا 14: 6). عندما يُخبِرُنا أنَّهُ هوَ الطريقُ إلى
الله، يُشيرُ إلى عمَلِهِ على الصليب، الذي يُوفِّرُ الطريقَ الوحيد للمُصالَحة
معَ الله بعدَ إنفِصالِنا أو طَلاقِنا عنهُ، ولترميمِ العلاقة معَ أبينا السماوي.

 

 عندما
يقُولُ لنا أنَّهُ هُوَ الحياة، يُشيرُ إلى مُعجِزاتِهِ، بما في ذلكَ إعطائِنا
الحياة الأبديَّة، وتغيير حياة جَمِيعِ الرِّجال والنِّساء الذين يُؤمِنُونَ بهِ
والذين يُصبِحونَ رُوحِيِّينَ تماماً من الناحِيَتَين العاطِفيَّة والجَسَديَّة.

 

 وعندَما
يقُولُ أنَّهُ هُوَ الحقيقة، يُشيرُ بدونِ أدنى شَكّ إلى خدمتِهِ في الوعظِ والتعليم.

 

 كإبنِ
الله، كان بإمكانِ يسوع المسيح أن يترُكَ السماءَ بعدَ ظُهرِ يومِ الجُمعة،
تارِكاً وراءَهُ خدمتَهُ في المجالِ السَّمَاويّ، لكَي يُحقِّقَ خلاصَ العالم في
بِضعَةِ أيَّام. ولكن، لماذا قضى ثلاثاً وثلاثِينَ سنةً في هذا العالم؟ لا بُدَّ
أنَّهُ كانت لديهِ أعمالٌ أُخرى يُتمِّمُها من أجلِ الآب، بالإضافَةِ إلى كُلِّ ما
حقَّقَهُ من خِلالِ موتِهِ على الصليب ومن خِلالِ قِيامتِه.

 

 وعندَما
قالَ يسوعُ أنَّهُ الحَقُّ، وعندما وصَفَهُ يُوحنَّا أنَّهُ الكلمة الذي صارَ
جسداً (يُوحنَّا 1: 14)، نرى تركيزاً على خِدمَةِ يسوع التي لم يكُن مُمكِناً أن
تتحقَّقَ في بعدِ ظُهرِ يَومٍ واحِد. لقد سبقَ وأعطَانا اللهُ كَلِمَةً مكتُوبَةً،
ولكن بتدبيرِ العِنايَةِ الإلهيَّة، أعطانا يسوعُ ما هُوَ أكثر من الكلمات
المكتُوبَة. يصِفُ يُوحنَّا ما أعطانا إيَّاهُ يسوعُ بالطريقَةِ التاليَِة:
"لأنَّ النامُوس بمُوسى أُعطِيَ. أمَّا النِّعمَةُ والحَقُّ فبِيَسُوع المسيح
صارا." (يُوحنَّا 1: 17). لقد سبقَ وأعطانا اللهُ الحقَّ من خِلالِ مُوسى
والعهدِ القديم. ولكن من خِلالِ يسوع، أعطانا اللهُ الحقَّ والنِّعمَةَ أو
"الكاريزما" لنعيشَ هذا الحَقَّ. ولم يُعطِنا يسوعُ فقط الحَقّ، بل كانَ
هُوَ بِنَفسِهِ الحق الذي أعطانا إيَّاهُ. وهُوَ لم يخُبِرْنا فقط كيفَ نعيشُ
الحياة، بل عاشَ هذه الحياة، لأنَّهُ كانَ هذه الحياة. فكُلُّ ما كانَهُ يسوع،
وكُلُّ ما عمِلَهُ وكُلُّ ما قالَهُ كانَ الحقّ الذي أرادَ اللهُ أن يُعلِنَهُ لنا
من خِلالِ إبنهِ. لِهذا يَصِفُ إنجيلُ يُوحنَّا يسوعَ ككَلِمَةِ الحياة (يُوحنَّا
1: 1، 14).

 

 لقد
سبقَ ورأينا أنَّ أعظَم رِسالة أعطاها اللهُ لِهذا العالم كانت يسوع المسيح.
والجزءُ من تِلكَ الرِّسالَة التي علَّمَ بِها يُشكِّلُ ثُلثَ مُحتَوى الأناجيل
الأربَعة. رِسالَةُ يسوع تظهَرُ بِعِدَّةِ أشكال. فهُناكَ عِظاتٌ مُطوَّلَة،
كالموعظة على الجَبَل، وموعِظَةِ العُلِّيَّة، وموعِظة جبل الزَّيتُون (متى 5، 6،
7؛ يُوحنَّا 13- 16؛ متى 24، 25).

 

 هُناكَ
مواعِظُ أُخرى كثيرة، خاصَّةً في متى ولُوقا، التي ليست أقَلَّ أهمِّيَّة من
عظاتِهِ المُطوَّلة بسبب قِصرِها، تماماً كالأنبِياء الصِّغار الذين لم يكُونُوا
أقلَّ أهمِّيَّةً بسببِ قِصرِ أسفارِهم. كثيرٌ من هذه العِظات ظهَرَت بشكلِ أمثالٍ
وصُوَرٍ مجازِيَّة، ومُعظَمُ رِسالَةِ يسوع ظهَرَ بِشكلِ حِوار. الحِوارُ هُوَ
غالِباً حِوارٌ عَدائِيٌّ معَ القادَةِ الدينيِّين في زمان المسيح، وغالِباً ما
كانَ يسوعُ هُوَ الذي يبدَأُ هذا الحوار بطرحِ أسئِلَةٍ عليهم. (طرحَ يسُوعُ
ثلاثاً وثمانِينَ سُؤالاً في إنجيل متَّى وحدَهُ.)

 

 يبدو
أنَّهُ درَّبَ الرُّسُل على طرحِ أسئِلَةٍ عليه. فعِظَةُ جبل الزيتُون (متى 24،
25) وكذلكَ أطوَلُ عِظَةٍ مُدوَّنَة ألقاها المسيحُ، أي عظة العُلِّيَّة (يُوحنَّا
13- 16) أُعطِيَت جواباً على الأسئِلة التي طرحها الرُّسُل، وأجابَ عليها يسوع.
مُعظَمُ هذا الحِوار هو حِوارٌ عدائِيٌّ معَ رِجالِ الدِّين. سوفَ تجِدُ أيضاً الكثير
من هذا الحوار في لِقاءاتِ يسوع المُتعدِّدة. بعضُ تصريحاتِهِ الأكثر عُمقاً هي
جوابٌ على أسئِلةً طرحَها في إطارِ لقاءاتِهِ معَ النَّاس.

 

 بينما
تقرَأُ الأناجيل، في كُلِّ وَقتٍ قالَ فيهِ يسُوعُ شيئاً ما، سواءٌ أكانَ عظةً
رئيسيَّة، مثلاً، صلاةً، أو أيَّ أمرٍ سألَهُ أو قالَهُ جواباً على سُؤالٍ سبقَ
وطَرَحَهُ في مُقابَلَةٍ ما، أو في حِوارٍ عدائِيّ، تذكَّرْ أنَّهُ هو كلمة الله
الأزَليّ الذي صارَ جسداً، وحلَّ بينَنا. وعندما يتكلَّمُ، فهُوَ يكشِفُ ويُفسِّرُ
لنا الله ويُعطينا أكمَلَ إعلانٍ عنهُ عرفَهُ العالم (يُوحنَّا 1: 18).

 

 طريقَةٌ
جَيِّدَةٌ للإقتِرابِ من الحقيقَةِ التي علَّمَها يسوع هي أن نقتَرِبَ من تعليمِ
يسوع طارِحينَ السؤالَ التالي: "ماذا كانَ نظامُ قِيَمِ يسوع المسيح؟
إستِناداً إلى كُلِّ تعليمِهِ، وبِغَضِّ النَّظَر عن الشكل الذي أعلنَ فيهِ هذا
التعليم، ماذا كانت قِيَمُ يسوع المسيح؟"

 

 بينما
تقرَأُ الأناجيل، أُنظُرْ إلى الرِّسالة الأساسيَّة ليسوع المسيح، التي تحقَّقَت
على صليبِهِ عندما نلتَقي معَ يسوع كالطريق الذي يُصالِحُ النَّاسَ معَ الله.
أنظُرْ أيضاً إلى معجِزاتِ يسوع، خاصَّةً مُعجِزات الوِلادَةِ الجديدة والشِّفاء،
والتي تُقدِّمُ يسوعَ على كونِهِ الحياة. إبحَثْ عن خدمةِ تعليمِ يسوع، عندما
أصبَحَ كلمةُ اللهِ جسداً وحلَّ بينَنا، مملُوءاً نِعمَةً وحَقَّاً. إقرَأ
الأناجيل لكَي ترى يسوع كالطريق والحَقّ والحَياة.

 

 الفصلُ
الثالِث

 "إستراتيجيَّةُ
يسُوع"

 في كُلٍّ
من الأناجيل الأربَعة، نرى يسوع مُصوَّراً كأكثَرِ من رجُل ذا رِسالة. نراهُ
مُصوَّراً كرَجُلٍ ذا إستراتيجيَّة لتتميم هذه الرسَّالة. هذا يصحُّ بِشكلٍ خاص
على إنجيلِ متى.

 

 فلو
عرفتَ مثلاً أنَّهُ لم يعُدْ أمامَكَ لِتَعيش إلا ثلاث سنوات، وأردتَ أن تَصِلَ إلى
العالَمِ أجمَع برِسالتِك، ماذا ستفعَل؟ لقد عرفَ يسوعُ أنَّهُ لم يعُدْ لدَيهِ
إلا ثلاث سنوات ليعيش، وأرادَ أن يَصِلَ إلى العالمِ أجمَعِ بإنجيلِه. فما الذي
فعلَهُ على ضوءِ معرِفَةِ هذا الأمر؟ إنَّ طرحَ هذا السؤال والإجابَةَ عليهِ بينما
نقرَأُ إنجيلَ متَّى، سيُحدِّدُ إسترايجيَّة يسوع لإتمامِ أهدافِ رِسالتِه.

 

 إذا
أخذتَ دُرُوساً حولَ كيفَ يُمكِنُكَ أن تكون مُديراً تنفيذيَّاً، سيُقَالُ أنَّكَ
لِكَي تُصبِحَ مُديراً تنفيذيَّاً فعَّالاً، عليكَ: بالتحليل، بالتنظيم، بالتفويض،
بالإشراف، وبالمُعاناة.

 

 في
إنجيلِ متى، كُلَّ مرَّةٍ نقرَأُ فيها أنَّ يسوعَ رأى الجُمُوع وأشفقَ عليهم، نرى
صُورَةً عن شفقتِهِ على العالَمِ أجمَع، وعن ستراتيجيَّتِهِ للوُصُولِ إلى
العالَمِ أجمَع برسالةِ خلاصِه. عندما نظرَ يسوعُ إلى الجمُوع بعَينِ الشفقة، قامَ
دائماً بعمَلٍ ستراتيجيّ. أوَّلُ مرَّةٍ نرى هذا يَرِدُ في إنجيلِ متى، هو عندما
كانَ يسوعُ يشفي كُلَّ مرَضٍ في الشعب على ضِفافِ بحرِ الجليل. لقد حلَّلَ حاجات
الجُمُوع، ومن ثمَّ نظَّمَ ما أُسمِّيهِ، "الخُلوَةُ المَسيحيَّةُ
الأُولى،" حيثُ أعطَى عظتَهُ على جَبَلِ الزَّيتُون (متى 4: 23 – 5: 2).

 

 المرَّةُ
التالية التي نظرَ فيها إلى الجُموع بعَينِ الشفقة، فوَّضَ بعضاً من الذين أصغُوا
إلى تعليمِهِ على قِمَّةِ الجبل، ليكُونوا رُسُلاً أو مُرسَلين، بالمعنى المُعاصِر
للكلمة. هُناكَ فرقٌ بينَ التلميذ والرَّسُول. لقد كانَ لدى يسوع عدَّة تلاميذ –
أو أتباع، ولكن لم يكُنْ لديهِ إلا إثنا عشرَ رسُولاً.

 

 بإمكانِنا
أن نقُول أنَّهُ الآن قد حَلَّلَ، نظَّمَ، وفوَّضَ أُولئكَ الذين سيُطبِّقُونَ
ستراتيجَّتَهُ للوُصُولِ إلى العالم. وإذ نتَتَبَّعُ آثارَ ستراتيجيَّتِهِ عبرَ
إنجيلِ متَّى، نقرَأُ عن حادِثَتَين شِبه مُتَطابِقَتَين. هُنا نظَرَ يسوعُ
مُجدَّداً إلى الجُمُوع وأشفَقَ عليهِم. هذه المرَّة، بالإضافةِ إلى كُلِّ
مشاكِلِهم الأُخرى، كانُوا جِياعاً. فجاءَ الرُّسُل إليهِ وطلبُوا منهُ أن يُرسِلَ
الجُمُوعَ بعيداً لكَي يبتاعُوا طعاماً. فتحدَّى يسوعُ رُسُلَهُ بالسؤال التالي،
"كم من الخُبزِ لدَيكُم؟ ثُمَّ قالَ لهُم أنَّهُ لا يتوجَّبُ على الجُموع أن
يذهبُوا إلى أيِّ مكان، لأنَّ الرُّسُل كمُفَوَّضين عنِ المسيح، بإمكانِهم أن
يُلبُّوا حاجات هؤلاء الجُمُوع. إنَّ هذه القصَّة المألُوفة، والتي هي مُعجِزَةُ
يسوع الوحيدة المُسجَّلة في كُلٍّ من الأناجيل الأربَعة، هي بالحقيقَةِ مثَلٌ عن
رُؤيا يسوع الإرساليَّة (متى 14: 14- 36؛ 15: 32- 39).

 

 إذا
لاحظنا أنَّ الجُمُوعَ يُمثِّلُونَ العالم بِكُلِّ حاجاتِه، – عندما نراهُ
يُكلِّفُ الرُّسُلَ ستراتيجيَّاً ويُفوِّضُهم ليحمِلُوا بركاتِهِ لسَدِّ حاجاتِ
هذه الجُمُوع، نُدرِكُ أنَّنا نقرَأُ قصَّةً ترمُزُ إلى ستراتجيَّة يسوع لسدِّ
حاجاتِ العالم. إن توفير أو تدبير الله الخارِق للطبيعة لِسدِّ حاجاتِ الجُمُوع،
لا ينتَقِلُ مُباشَرَةً من يسوع إلى الجُموع. إنَّ بركات الله مرَّت من يسوع إلى
الجمُوع من خِلالِ أيدي الرُّسُل. إنَّ هذه لا تزالُ خُطَّتُهُ اليوم. فالمسيحُ
المُقامُ الحيُّ يختارُ أن يستَخدِمَ تلاميذَهُ لِكَي يُمرِّرَ حقَّهُ وإنجيلَهُ
لأولئكَ الذين يحتاجُونَ خلاصَهُ.

 

 إن
القصَّةَ المُوحى بهِا من الله لهذه المُعجِزة هي بِشكلٍ واضِح قصَّةٌ يأخُذُ فيها
النَّاسُ والأماكِنُ والأشياء معنَىً أعمَق. إنَّ ستراتيجيَّة يسوع المُمَثَّلَة
بهذه المُعجِزة تجِدُ أقصى معناها في نِهايَةِ إنجيلِ متَّى عندما يُسجِّلُ متى
الطريقة التي أعطى بها يسوعُ ما نُسمِّيهِ المَأمُوريَّةَ العُظمَى (متَّى 28: 16-
20). عندما كانَ يسوعُ على وَشَكِ الإرتِفاع عن هذا العالَم ومُغادَرَتِه، أمرَ
هؤلاء الرِّجال بأن يذهبُوا إلى العالَمِ أجمَع كمُمَثِّلينَ عنهُ.

 

 قد
نستطيعُ القول أنَّهُ بعدَ صُعودِهِ، إتِّخَذَ يسوعُ آخِرَ خُطوَتَين كمُدِيرٍ
تنفِيذِي فعَّال، مُشرِفاً على تلاميذِهِ عبرَ أكثر من ألفَي عام من تاريخِ
الكنيسة، بينما هُم يُحاوِلونَ الوُصُول إلى العالم من أجلِ المسيح. ويبدو من
المَنطِقِيّ أن نستَنتِجَ أنَّهُ أيضاً تألَّمَ عندما راقَبَ جُهودَهُم. وهذا
يَصِحُّ بِشكلٍ خاصّ على مراحِل الإضطِّهاد الفظيع الذي عانى منهُ المسيحيُّونَ في
القُرُون الثلاثة الأُولى من تاريخِهم. بإمكانِنا أن نفتَرِض أنَّ المسيحَ إستمرَّ
بالمُعاناةِ والألَم طِوالَ الألفي سنة من الإضطِّهاد الذي حدَثَ في تاريخ الكنيسة
ولا يزالُ يحدُثُ اليوم في عدَّةِ أماكِن من العالَم. بإمكانِنا أيضاً أن نفتَرِض
أنَّهُ تألَّمَ عندما كُتِبَت بعضُ الفُصُول الرهيبَة من تاريخِ الكنيسة.

 

 ينبَغي
أن يُساعِدَنا هذا على فهمِ كنيسةِ اليوم. بإمكانِنا أن نرى جَوهَرَ قصد الكنيسة
إذ نُراقِبُ يسوعَ وهُوَ يُطبِّقُ ستراتيجيَّتَهُ في إنجيلِ متى. إنَّ الكَنيسَةَ
هي مُؤسَّسَةٌ إرساليَّة‍، وهي مُصَمَّمَةٌ ومُحرَّكَةٌ من قِبَلِ المسيح لتكُونَ
وسيلَةَ نقلٍ من خِلالِها تُعلَنُ نِعمَةُ وحقُّ يسوع المسيح لِهذا العالم. جميعُ
الخُطَط والبرامِح والنشاطات في الكنيسة ينبَغي أن تكونَ وسيلَةً تُؤدِّي نحوَ هذه
الغايَة.

 

 إنَّ
التأكيدَ العظيم لهذه الحقيقة هو سفرُ الأعمال. إنجيلُ متى يُختَمُ بمأمُوريَّةِ
يسوع لكنيستِهِ لتَذهَبَ وتكرِزَ بالإنجيل للعالَمِ الهالِك. وإذ يذهَبُون، عليهِم
أن يُقيمُوا تلاميذ، ويُعمِّدُوهُم، ويُعلِّمُوهم جميعَ ما علَّمَهُم إيَّاهُ
يسوع. في سِفرِ الأعمال، هذا بالتحديد ما كانُوا يفعَلُونَهُ. ففي يومِ الخَمسين
قَبِلُوا مَوهِبَةَ الرُّوحِ القُدُس – قُوَّة الله – لكي يعمَلُوا هذا الأمر،
وبينما هُم يُتمِّمُونَ هذه المأمُوريَّة العُظمَى، وُلِدَتِ الكنيسةُ.

 

 إنَّ
سفرَ الأعمال هُوَ بِبَساطَة سَردٌ لِذهابِ الرُّسُل إلى عالَمِهم، وكيفَ أقامُوا
تلاميذ وعمَّدُوهُم وعلًَّمُوهُم جميعَ ما علَّمَهُم إيَّاهُ الرَّبُّ. إنَّ سِفرَ
الأعمال وتاريخَ الكنيسة يُخبِرانِنا أنَّ ستراتيجيَّةَ يسوع هي سارِيَةُ
المفعُول. ونحنُ الذين نُشكِّلُ الكنيسةَ اليوم، لا نـزالُ مَدعُوِّينَ لنذهَبَ،
لنُتَلمِذَ، لِنُعمِّدَ ولِنُعلِّم بكُلِّ ما علَّمَ بهِ يسوع.

 

الفصلُ
الرَّابِع

 "أحداثٌ
هامَّةٌ في حياةِ المسيح"

 رُغمَ
أنَّ شخصيَّةَ يُوحنَّا المعمدان هي ذات دلالة بالِغة الأهمِّيَّة، ولكن لم
يُخصَّصْ لهُ إلى فسحة قليلة في الأناجيل. قالَ يسوعُ أنَّ هذا الرَّجُل كانَ
أعظَمَ رجُلٍ وأعظَمَ نَبِيٍّ ولدتْهُ امرأَة (متَّى 11: 11؛ لُوقا 7: 28).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ش شـميداعيون ن

 

 وُصِفَت
حياةُ يُوحنَّا المعمدان بإيجاز في الأناجيل الأربَعة. فما هي الدلالَةُ من
حياتِه؟ أوَّلاً، لم يكُنْ فقط أعظَمَ الأنبِياء، بل وكانَ آخِرَ الأنبِياء. لقد
كرزَ الأنبِياءُ بالأخبارِ السارَّة أنَّ المسيَّا آتٍ. أمَّا هذا النَّبِيُّ
فأشارَ إلى رجُلٍ يسيرُ على طريقِ الجَليل وقالَ لتلاميذِهِ، "هُوَّذا حَمَلُ
الله الذي يرفَعُ خطِيَّةَ العالَم." (يُوحنَّا 1: 29). لقد كانَ يُوحنَّا
المعمدان آخِرَ الأنبِياء المَسياوِيِّين، وكانَ الشخص الذي عرَّفَ شعبَ الله على
المسيَّا.

 

معمُوديَّةُ
يسوع

 هُناكَ
بِضعَةُ أحداثٍ في حَياةِ يسوع المسيح، تُوصَفُ في الإصحاحات الأُولى من إنجيلِ
متَّى، مرقُس، ولوقُا. ذاتَ يوم، كانَ يُوحنَّا يُعمِّدُ ورأى رجُلاً شابَّاً
مثلَهُ ينتَظِرُ دورَهُ ليعتَمِدَ منهُ. فعندما رأى يُوحنَّا يسوع، قال، "أنا
مُحتاجٌ أن أعتَمِدَ مِنك." ولكنَّ يسوعَ أجابَ بِما مَعناهُ، "إسمَحِ
الآن، لأنَّهُ ينبَغي أن نُتمِّمَ كُلَّ بِرّ." وهكذا عمَّدَ يُوحنَّا يسُوع،
وعندما فعلَ ذلكَ، نـزلَ الرُّوحُ على يسوع بِشكلِ حمامَةٍ، وتكلَّمَ اللهُ الآبُ
قائِلاً،"هذا هُوَ إبني الحَبيب الذي بِهِ سُرِرت." تُسمَّى هذه
الحادِثة بِشهادَة يُوحنَّا المعمدان (متَّى 3: 17).

 

 لم
تكُنْ معمُودِيَّةُ يَسُوع تماماً مثل معمُوديَّتَنا اليوم. فمَعمُوديَّتُهُ هي
واحِدَةٌ من الحوادث الهامَّة في حياتِه. لقد كانت بِمثابَةِ تدشينٍ لخدمتِهِ
العلنيَّة التي استمرَّت ثلاث سنوات. عندما يُنتَخَبُ شخصٌ كرئيس أُمَّة، تُقامُ
لهُ حفلةُ تدشين. وفي هذا التدشين، يقومُ الرئيسُ الجديدُ بإلقاءِ خُطابَ القَسَم
الذي يفتَتِحُ بهِ رئاستَهُ. ولقد بدأَ يسوعُ خدمتَهُ بتدشينٍ إفتِتاحِيّ. ولكن في
هذه الحالة، كانَ اللهُ القديرُ هُوَ المُتكلِّم، وكانَ خطابُهُ قصيراً جداً، إذ
قال بِبساطة: "هذا هوَ إبني الحَبيب الذي بِهِ سُرِرت." (متى 3: 17)

 

تجرِبَة
يسوع

 في
الإصحاحِ الرابِع من إنجيلِ متَّى، نقرَأُ أنَّ معمُوديَّة يسوع أُلحِقَت بحَدَثٍ
مُهِمٍّ آخر. إقتادَهُ الرُّوحُ إلى البَرِّيَّة حيثُ كانت لهُ مُواجَهَةٌ معَ
الشيطان، بعدَ أن قضى أربعينَ يوماً في الصَّوم، حيثُ جُرِّبَ ثلاثَ مرَّات.
أوَّلاً جاءَ إليهِ المُجرِّبُ وقالَ، "إن كُنتَ إبنَ الله، فقُلْ لهذه
الحِجارة أن تَصيرَ خُبزاً." فأجابَ يسوع، "مكتُوب، ليسَ بالخُبزِ
وحدَهُ يحيا الإنسان، بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تخرُجُ من فَمِ الله." لقد كانت
الكلمَةُ التي نطَقَ بها يسوع والمُسجَّلَة في الأناجيل المُتشابِهَة النَّظرة،
"مكتُوبٌ." (متَّى 4: 4)

 

 التجرِبَةُ
الثانِيَة حدَثَت عندما جرَّبَ إبليس يسوع بأن يقفُزَ من أعلى مكانٍ في هيكَلِ
سُليمان. "إن كُنتَ إبنَ الله،" قالَ الشيطان، "فاطرَحْ نفسَكَ إلى
أسفَل. لأنَّهُ مكتُوبٌ أنَّهُ يُوصِي ملائِكتَهُ بِكَ. فعلى أيادِيهِم
يحمِلُونَكَ لِكَي لا تصدِمَ بِحَجَرٍ رِجلَك." (متى 4: 6) هُنا نجِدُ
الشيطانَ يقتَبِسُ آياتٍ من الكِتابِ المقدَّس. فهُوَ يعرِفُ هذا الكِتاب جيِّداً،
وهُوَ يُحِبُّ أن يُغيظَ المُؤمِنين بذكرِهِ لهُم آياتٍ تدينُهم أو تُخيفُهم.

 

 كانَ
يسُوعُ سيُعلِنُ قريباً أنَّهُ اللهُ في جَسَدٍ إنسانيّ. فكَيفَ كانَ يُمكِنُ
لأيٍّ كانَ أن يُؤمِنَ بهكذا تصريح؟ هُنا نرى الشيطان يقتَرِح أن يستَخدِمَ يسوعُ
قِواهُ الخارِقة للطبيعة لكَي يُبرهِنَ إدِّعاءَهُ. ولكنَّ يسوع أجابَ الشيطان،
"مكتُوبٌ أيضاً، لا تُجرِّبِ الربَّ إلهكَ." (متى 4: 7)

 

 التجرِبَةُ
الثالِثَةُ ليَسُوع هي عندما أراهُ الشيطانُ كُلَّ ممالِكَ العالم ومَجدَها. وقالَ
لهُ "أُعطيكَ هذه جميعَها إن خَرَرتَ وسجدتَ لي." ولكنَّ يسوعَ أجابَهُ،
"إذهَبْ يا شيطان. لأنَّهُ مكتُوبٌ للرَّبِّ إلهِكَ تسجُد وإيَّاهُ وحدَهُ
تعبُد." (متى 4: 8- 10)

 

 ما
هي دَلالَةُ تجرِبَةِ يسُوع في البَرِّيَّة؟ أوَّلاً، أعتَقِدُ أنَّهُ لو كانت
هُناكَ أيَّة طريقَة للشَّيطان لكَي يتجنَّبَ هذه المُواجَهة، لكانَ تجنَّبَها.
نحتاجُ أن نفهَمَ أنَّ رُوحَ الله كانَ يقودُ يسوع المسيح لكَي يتواجَهَ معَ
الشيطان في بِدايَةِ خدمتِهِ العَلَنيَّة. وإذا تكلَّمنا مجازِيَّاً، "هذا
هُوَ الأخُ الأكبَر – يسُوع" الذي يُسوَّي حِسابات أخيهِ الأصغَر
–آدَم،" والذي كانَ الشيطانُ قد أغراهُ وأسقطَهُ في جنَّةِ عدَن. إنَّ
تجرِبَةَ يسوع الأُولى هي بجَوهَرِها التجربة ذاتَها التي واجَهَها آدَم وحَوَّاء
في جنَّةِ عَدَن.

 

 كما
لاحظنا سابِقاً، أجابَ يسوعُ على تكرار تجرِبَةِ جنَّة عدَن بالإقتِباس من كلمةِ
الله: "مكتُوبٌ ليسَ بالخُبزِ وحدَهُ يحيا الإنسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ
تخرُجُ من فَمِ الله." (متى 4: 4) في جنَّة عدَن، طرحَ الشيطانُ السؤالَ
التالي، "أحقَّاً قالَ الله؟" فأجابَ آدَم وحَوَّاء بما معناه،
"نعم هذا ما قالَهُ اللهُ." فأجابَ الشيطانُ بما معناهُ، "حسناً،
إنَّ ما قالَهُ اللهُ ليسَ صحيحاً." فبعدَ أن شكَّكَ بقضيَّةِ ما إذا كانَ
اللهُ قد تكلَّمَ بأيِّ شيءٍ بتاتاً، شكَّكَ بعدَ ذلكَ بكَلِمَةِ الله وتحدَّاها
وعصا عليها.

 

 هل
يبدو هذا لكَ مألُوفاً. إبليس لم يتوقَّف عن طَرحِ هذا النَّوع من الأسئِلة عبرَ
تاريخِ شعب الله المُطوَّل. إنَّ كُلاً من هذه التجارِب هي أيضاً وصفٌ لتجارِب
الخطيَّة التي نُواجِهُها اليوم. وهذا أيضاً تعريفٌ للخطيَّة. فالخطيَّةُ هي ما
نعمَلُهُ أو لا نعمَلُهُ حيالَ ما نعلَم أن اللهَ قالَهُ.

 

 الحقيقَةُ
الهامَّةُ التي يتجاوَبُ معَها في هذه التَّجرِبَة الأُولى هي أنَّنا إذا أردنا أن
نعيشَ، فإنَّ كلمةَ الله سوفَ تُرينا كيفَ نعيش. فبِمقدارِ ما نفهَمُ الكِتابَ
المقدَّس، بمِقدارِ ما سنفهَمُ الحياة. وبمِقدارِ ما نفهَمُ الحياة، بِمقدارِ ما
سنفهَمُ الكتابَ المقدَّس ونقدُرُهُ حقَّ قدرِهِ. فالكِتابُ المُقدَّسُ والحياة
يُلقِيانِ الأضواءَ على بعضِهما البَعض. فالقصدُ من الكِتابِ المقدَّس هو أن
نعرِفَ كيفَ نعيش.

 

 في
جنَّةِ عَدَن، كانَ جوهَرُ التجرِبَةِ أن تضعَ حاجاتِكَ المادِّيَّة أوَّلاً، وأن
تضَعَ ما يُريدُكَ اللهُ أن تعمَلَهُ ثانِيَاً. بِكَلِماتٍ أُخرى، فسِّر كَلِمَةَ
اللهِ على ضوء حاجاتِكَ الجسديَّة. لقد أرادَهُم اللهُ أن يُفسِّرُوا حاجاتِهِم
الجسديَّة على ضوءِ كَلِمتِهِ لهُم. بمعنىً آخر، كانت التجرِبَةُ، "حاجَاتُكَ
أوَّلاً، وكلمةُ اللهِ ثانِيَاً."

 

 عندما
جُرِّبَ يسوعُ بأن يُحوِّلَ الحجاَرةَ خُبزاً، كانت التجرِبَةُ، "لقد كُنتَ
صائِماً لمُدَّةِ أربَعينَ يوماً. فاستخدِم قِواكَ الخارِقة للطبيعة لكَي تضعَ
حاجاتِكَ المادِّيَّة أوَّلاً، وكلمة الله ومشيئتَهُ ثانِياً. فكانَ جوابُ المسيح،
"كَلِمَةُ اللهِ أوَّلاً، والحاجاتُ ثانِيَاً."

 

 يُمكِنُ
إيجازُ رِسالَةِ الكتابِ المقدَّس بكَلِمتَين هُما: "اللهُ أوَّلاً."
إنَّ أجوِبَة يسوع على التجارِب الثلاث يُمكِنُ تَلخِيصُها بهاتَين الكلمتَين
أيضاً. تذكَّرْ أنَّ التجرِبَة ليسَت خطيَّة. بل كيفيَّة تجاوُبِنا معَ التجربِة
هي إمَّا غلبَة أو خطيَّة. إنَّ تجاوُبَنا معَ التجربِة اليوم ينبَغي أن يكونَ
تطبيقاً لهاتَين الكلمتَين أيضاً – "اللهُ أوَّلاً."

 

 في
التَّجرِبَةِ الثانِيَة، إقتَبَسَ الشيطانُ من كَلِمَةِ اللهِ وإقتَرَحَ أن
يُبرهِنَ يسوعُ أنَّهُ إبن الله بأن يقفُزَ من أعلى مكانٍ في هيكَلِ سُليمان. كانت
الفِكرَةُ أنَّهُ عندما سيُنقَذُ عجائِبيَّاً من قفزَتِهِ، كانَ سيُبرهِنُ أنَّهُ
إبن الله.

 

 هُنا
أيضاً أجابَ يسوعُ بالإقتِباسِ من كَلِمَةِ الله، مُشيراً إلى الشيطان، أنَّ اللهَ
قالَ أنَّهُ علينا أن لا نُجرِّبَهُ. هُناكَ فرقٌ دَقيقٌ بينَ أن نضعَ جزَّةَ
الصوف، كما فعلَ جِدعَون، وبينَ أن نُجرِّبَ الله (قُضاة 6: 37، 38). عندما
ننضَمُّ في صُفوفِ "جامِعَةِ الإيمان" – قابِلِينَ التحدِّي بأن نُصبِحَ
أتباعَ المسيح، لا يَحِقُّ لنا أن نُخضِعَ اللهَ للإمتِحان. بل هُوَ من لهُ الحقُّ
بأن يمتَحِنَنا ساعَةَ يشاء، وليسَ نحنُ من لنا الحقُّ بإمتِحانِ اللهِ.

 

 المرَّةُ
الثالِثة التي جرَّبَ فيها الشيطانُ يسوع، عرضَ عليهِ أن يُعطِيَهُ كُلَّ ممالِكِ
العالَم، إذا سجدَ يسوعُ لهُ وعبدَهُ. هُنا أيضاً، أجابَ ربُّنا من مقطَعٍ من
كَلِمَةِ الله ينسجِمُ معَ جوابِهِ على التجرِبَةِ الأُولى. "مكتُوبٌ،
للرَّبِّ إلهِكَ تسجُد وإيَّاهُ وحدَهُ تعبُد." إنَّ جوهَر ما تعنيهِ هذه
الكلمات هُو، "اللهُ أوَّلاً،" الأمرُ الذي عُبِّرَ عنهُ كالتالي:
"إيَّاهُ وحدَهُ." (متى 4: 10)

 

 إنَّ
التطبيقات الشخصيَّة على حياتي وحياتِكَ لهذه التجارِب الثلاث التي اجتازَها يسوع
هي واضِحَةٌ جداً. التطبيقُ الأوَّل هُوَ: "اللهُ أوَّلاً!" أوَّلاً
كلمةُ الله ثُمَّ حاجاتُنا. إعبَدُوا الله وإيَّاهُ وحدَهُ. جميعُنا نجتازُ في
أوقاتٍ نُجرَّبُ فيها أن نستَغنِي عنِ الإيمان بأن نضعَ اللهَ أمامَ الإمتِحان،
ناسِينَ أنَّ اللهَ هو الذي ينبَغي أن يضعنا أمامَ الإمتِحان.

 

 بعدَ
أن رفضَ يسُوعُ مَشُورَة الشيطان للمرَّةِ الثالِثة، نقرَأُ أنَّ الشيطانَ غادَرَ
يسُوعَ "إلى حِين." إنَّ هذه الكلمات تعني أنَّهُ كانَ هُناكَ هُجومٌ
شيطانِيٌّ قَويٌّ، مُستَمِرٌّ، ولا يتراجَع ضِدَّ المُخلِّص، عندما عاشَ آخِرَ
ثلاث سنوات من حَياتِه. يَصِحُّ هذا خاصَّةً عندما إقتَرَبَ يسُوعُ من الأُسبُوعِ
الأخِير الذي فيهِ ماتَ وقامَ من الموت من أجلِ خلاصِنا.

 

 يتساءَلُ
البعضُ ما إذا كانَ من المُمكِن أن يسقُطَ يسُوعُ في إحدى تجارِبِ إبليس. ولكن
عندما كانَ يسوعُ يُجرَّبُ في البَرِّيَّة، هل كانَ اللهُ يتطلَّعُ من شُرفَةِ
السماء، حابِساً أنفاسَهُ، مُتسائِلاً، "هل سينتَصِرُ إبني على
التجربة؟" هل تظُنُّ أنَّ الأمرَ كانَ كذلك؟ أُؤكِّدُ لكَ أنَّ اللهَ عرفَ
أنَّ إبنَهُ لن يكُونَ مثل آدَم ويستسلِم لهذه التجارِب. فعِندَما جُرِّبَ في
البرِّيَّة، كانَ من المُستَحيل أن يسقُطَ يسوعُ أمامَها.

 

 فلِماذا
جُرِّبَ إذاً؟ كانَ من المُهمِّ بِنَظَرِ الله أن يُبرهِنَ لنا، في بِدايَةِ حياةِ
وخِدمَةِ مُخلِّصِنا، أنَّهُ لا يُمكِن أن يسقُطَ. أحدُ آخِرِ الأعداد في الكتابِ
المقدَّس يقولُ عن يسوع المسيح: "وللقادِر أن يحفَظَكُم غَير عاثِرين وأن
يُوقِفَكُم أمامَ مجدِهِ بِلا عَيبٍ في الإبتِهاج…" (يهُوَّذا 24). إن كانَ
المسيحُ الذي جُرِّبَ ولم يسقُطْ يحيا فينا، هل بإمكانِهِ أن يحفظَنا من
السُّقُوط؟ بالطبع يستطيعُ. إذا وثِقنا بهِ ومَشَينا معَهُ، سيحفَظُنا من
السُّقُوط.

 

 لقد
أظهَرَ لنا يسُوعُ بالطريقَةِ التي واجَهَ بها تجارِبَهُ، كيفَ ينبَغي علينا أن
نُواجِهَ تجارِبَ إبليس اليوم. الشيطانُ لا يتعَب ولا يَكِلُّ مُحاوِلاً أن يقُولَ
لكُلِّ واحدٍ منَّا: "ضَعْ الحاجات المادِّيَّة أوَّلاً والرُّوحِيَّة
ثانِيَاً. ضَع أيَّ شيءٍ أوَّلاً في حَياتِكَ قبلَ الله."

 

 إنَّ
العدُوَّ الأكبَر للأحسَن غالِباً ما يكُونُ الحَسَن. بِهذهِ الطريقة يُجرِّدُنا
الشيطانُ من الأحسَن الذي يُعدِّهُ اللهُ لنا. فهُوَ يُجرِّبُنا بأن نعمَلَ الحَسن
لكَي نكتَفِيَ ونُقصِّرَ عن الأحسَن الذي يُريدُهُ الله لنا. ولأنَّ اللهَ
يُحبُّنا، ويعرِفُ أنَّنا متى نضعُهُ أوَّلاً سيُعطينا أحسن ما عِندَهُ، لِهذا
فهُوَ يُريدُنا أن نضعَهُ أولاً وأن نهزِمَ تجارِبَ الشيطان.

 

الفصلُ
الخامِس

"أعظَم
عِظة من عِظاتِ يسُوع"

 لقد
ألقَى يسُوعُ عِدَّةَ عظاتٍ عظِيمَة. بطَريقَةٍ ما، كانت أعظَمُ عِظاتِهِ
المَوعِظة على الجَبل. فالمَوعِظَةُ على الجَبَل هي مُلخَّصٌ للتعليمِ الأخلاقي في
الكتابِ المُقدَّس بكامِله. وهي أيضاً مُلخَّصٌ لتعليمِ يسوع عن الأخلاقِ
والعلاقات. عندما نتأمَّلُ في الإطار الذي أُعطِيَ فيهِ هذا التعليم، نُدرِكُ
أنَّهُ لم يكُنْ عِظَةً نمُوذَجِيَّة كما نظُنُّ بالعِظاتِ اليوم.

 

الإطارُ
الذي قُدِّمَت فيهِ العِظة

 من
المُهم أن ننظُرَ إلى الإطار قبلَ أن نتأمَّلَ في مُحتَوى هذه العظة العظيمة التي
ألقاها يسوع. إحدَى قَواعِد دَرس الكِتاب المُقدَّس هي أن نُحاوِلَ باستمرار أن
ننظُرَ إلى المقاطِع في إطارِ القرينة التي قُدِّمَت فيها. إن كَلِمة
"قرينة" تعني "مع النَّصّ." من المُهمِّ دائِماً أن نرى ماذا
يأتي معَ النَّصّ الذي ندرُسُهُ، ماذا يأتي قبلَهُ، أو ماذا كانَ يحدُثُ في الزمَن
الذي أُعطِيَ فيهِ التعليم، وماذا يأتي بعدَ التعليم أو الحَدَث الذي ندرُسُهُ في
مقطَعٍ في الكِتابِ المقدَّس. إنَّ القَرينَة ستُساعِدُنا على تفسيرِ النَّصّ الذي
ندرُسُهُ.

 

 في
نِهايَةِ الإصحاحِ الرابِع من إنجيلِ متَّى، نرى وصفَ متى لإطارِ أو لِقرينَةِ هذا
التعليم. نقرَأُ أنَّ يسوعَ كانَ يشفي المرضى الذي قطعُوا المسافات الطويلة،
قادِمينَ من عِدَّةِ مُدُنٍ وقُرى مُجاوِرة، لكي يحصُلوا على الشِّفاء. (متى 4: 23
– 5: 1)

 

 عندما
كانَ يسوعُ يشفِي الجمُوع الذين تجمَّعُوا على ضِفافِ بحرِ الجَليل، دعا البعض من
تلاميذِهِ لكَي يُلاقُوهُ على تلَّةٍ أعلى بينَ التلالِ المُتصاعِدَة قُربَ بحرِ
الجَليل (مرقُس 3: 13). إنَّ هذه الدعوة قَسَمتِ الجمعَ إلى قِسمَين؛ في أسفَلِ
الجَبل كانَ هُناكَ الأشخاص الذين يُشكِّلُونَ جُزءاً من المُشكِلة. وفي قِمَّةِ
الجَبل حيثُ كانَ يسوع، كانَ هُناكَ أُولئكَ الذي أرادُوا على الأقلّ أن يكُونُوا
جُزءاً من الحَلِّ والجَواب. الإصحاحاتُ الخامِس، السادِس، والسابِع من إنجيلِ
متَّى تُسجِّلُ العظةَ العظيمة التي ألقها يسُوعُ هُناك.

 

 أنا
أُسمِّي قرينَة هذا التعليم العظيم، "الخُلوة المسيحيَّة الأُولى."
عندما نظَّمَ يسوعُ هذه الخُلوة، كانَ التحدِّي الذي ألقاهُ هُو، "هل أنتَ
جزءٌ من المُشكِلَة أم أنَّكَ تُريدُ أن تكُونَ جُزءاً من الحَلّ؟" في
الخُلوة، جنَّدَ يسوعُ تلاميذَ ليكُونُوا جُزءاً من حَلِّهِ وجوابِهِ لأولئكَ
الذين لا يزالونَ جزءاً من المُشكِلة. كانَ يسُوعُ يخدُمُ الجمُوعَ ومرضاهُم،
وعرفَ أنَّهُ كإنسانٍ واحِد بالجَسد، لن يكُونَ بإمكانِهِ أن يحُلَّ مشاكِلَ هؤُلاء
جميعاً، رُغمَ أنَّهُ كانَ الله في جسد إنساني، أي أنَّهُ كانَ إبنَ الله.
فحلَّلَ، ثُمَّ نظَّمَ الخُلوَةَ المسيحيَّةَ الأُولى. بالنسبَةِ لمرقُس، كانَ
الحُضُورُ في هذه الخُلوة التي عُقِدَت على مُستَوىً أعلى، كانَ الحُضور فيها
محدُوداً بناءً على دعواتٍ خاصَّة. (مرقُس 3: 13). نقرأُ في الإصحاحِ السابِع أنَّ
يسوعَ ختمَ هذه الخُلوة بدعوَة مَهُوبَة. أنا مُقتَنِعٌ أنَّهُ عندما أعطى يسُوعُ
هذه الدعوَة، لم يتجاوَب معَهُ إلا إثنا عشَر رجُلاً. وأنا أبني قناعَتي هذه على
أساس أنَّهُ بعدَ نـزول يسوع عن رأسِ الجبل بِوقتٍ قصير، كلَّفَ تلاميذَهُ الإثني
عشر بالمُهمَّة الإرساليَّة. أعتَقِدُ أنَّ يسُوعَ كانَ يُجنِّدُ رُسُلَهُ الإثني
عشر في الخُلوَةِ المَسيحيَّةِ الأُولى.

 

مُحتَوى
العِظة

 بدأَ
يسُوعُ عِظَتَهُ بتعليمِ تلاميذِهِ بعضَ المواقِف الجميلة (وتُسمَّى التطويبات)،
والتي ستجعَلُ منهُم جزءاً من حَلِّهِ للمشاكِل المَوجُودة على سفحِ الجَبل (متى
5: 3- 12). إنَّ هذه المواقِف أو الفضائل الثمانِيَة تُبرزُ طريقَةَ تفكير تلميذِ
يسوع. بِحَسَبِ يسوع، الطريقة التي بِها نرى الأُمُور يُمكِنُ أن تُشكِّلَ الفَرق
بَينَ حَياةٍ مِلؤُها النُّور وأُخرى ملؤُها الظُّلمة (متى 6: 22، 23).

 

التطويبات:
مُلاحظاتٌ عامَّة

 تُشكِّلُ
التطويبات الثمانِيَة قَلبَ العِظة، وكُلُّ ما تبقَّى يُشكِّلُ تطبيقَ العظة. إنَّ
أفضَلَ المُعلِّمينَ والوُعَّاظ يصرفُونَ القليلَ من الوقت في تقديمِهم للحقيقة
التي يُريدُونَ تعليمَها، وجزءاً كبيراً من الوقت في توضيحِ وتطبيقِ هذه الحقيقة.
في هذه العِظة، إتِّبعَ يسُوعُ هذا النموذج كونَهُ صرفَ القليلَ من وقتِهِ في
تقديمِ الحقيقة التي علَّمَها، "التطويبات"، وصرف مُعظم وقتِهِ في
توضِيحِ وتطبيقِ هذه التطويبات.

 

 إنَّ
قرينَةَ هذه العظة تُقدِّمُ لنا الأزمة الناتِجة عن صَيرُورَةِ الإنسان تابِعاً
للمسيح، أو مسيحيَّاً. المواقِفُ الجَميلة تُظهِرُ كيفَ ينبَغي أن تكونَ شخصيَّةُ
المسيحيّ الحقيقي. إنَّ الصُّورَ المجازِيَّة الأربَع التي تتبَعُ التطويبات –
المِلح، النُّور، المدينة، والسِّراج – تَصِفُ التحدِّي الذي يبرُزُ عندما
يُؤثِّرُ المسيحيُّ على الحضارَةِ العِلمانِيَّة. القَضِيَّةُ الجَوهَريَّةُ هي،
"هل أنتَ جزءٌ من المُشكِلة، أم أنَّكَ جزءٌ من حَلِّ يسوع؟ هل أنتَ واحِدٌ
من أجوبتِهِ أم أنَّكَ لا تزالُ تطرَحُ الأسئِلة؟"

 

 هُناكَ
"خطٌّ رُوحِيٌّ وَهمِيٌّ فاصِلٌ" بينَ التطويبَتين الرابِعة والخامِسة.
عبرَ الكِتابِ المقدَّس هُناكَ نمُوذَجٌ يبرُزُ عندما يُجنِّدُ اللهُ قادَةً
لعمَلِهِ. هؤُلاء القادَة لديهم ما نُسمِّيهِ "إختِباراتُ المجيء" إلى
حضرةِ الله، و"إختِباراتُ الذهاب" من حضرةِ الله. عادَةً يكُونُ لديهم
مجيءٌ مُؤثِّرٌ إلى حضرَةِ الله قبلَ أن يكُونَ لديهم ذهابٌ مُثمِرٌ من أجلِ الله.
وهُم عادَةً ما يكُونُونَ عابِدين للهِ قبلَ أن يكُونُوا عامِلينَ من أجلِ الله.
التطويباتُ الأربَع الأُولى تُمثِّلُ مواقِفَ الذين تمرَّسُوا في المجِيءٍ إلى
الله، والتطويباتُ الأربَع الأخيرة تُبرِزُ المواقِفَ التي نحتاجُ أن نتعلَّمَها
لِكَي نذهَبَ من أجلِ الله.

 

 إنَّ
المَوهِبَةَ يُمكِن أن تُطوَّرَ في الوِحدَة، ولكنَّ الشخصيَّةَ ينبَغي أن
تُطوَّرَ في تيَّار الإنسانيَّة، أي بينما نكُونُ في علاقَةٍ معَ النَّاس.
التطويباتُ الأربَع الأُولى تُطوَّرُ على قِمَّةِ الجَبل، أو في ما سيصِفُهُ
يسُوعُ فيما بعد "إختِبارات المخدَع" معَ الله (متى 6: 6). بإمكانِنا أن
نتعلَّمَ وأن نُعلِّمَ التطويبات الأربَع الأُولى في علاقتِنا الفرديَّة معَ الله،
ولكنَّ التطويبات الأربَع الأخيرة ينبَغي أن تُتَعلَّمَ وأن تُطوَّرَ في علاقاتِنا
معَ النَّاس.

 

 تُقسَمُ
التطويباتُ أيضاً إلى أربَعَةِ مجمُوعاتٍ من التطويبات المُزدَوِجَة: المساكينُ في
الرُّوح الذين يَئِنُّون؛ الوُدعاء الذي يجُوعُون ويعطَشُونَ من أجلِ البِرّ؛
الرُّحَماء الذين يتمتَّعُونَ بِقَلبٍ نقِيٍّ، وصانِعي السلام الذين يُضطَّهَدُون.
إنَّ كُلاً من هذه التطويبات المُزدوجة تُبرِزُ بصيرةً رُوحيَّةً يحتاجُ تلميذُ
المسيح أن يتعلَّمَها قبلَ أن يُصبِحَ جزءاً من حلِّ المسيح ومن جوابِهِ.

 

 التطويبتان
الأُولى والثانِيَة تُعلِّمُ التلاميذ أن يقُولُوا: "ليسَتِ القضيَّةُ ما
أستطيعُ أنا أن أعمَل، بل ما يستطيعُ هُوَ أن يعمَل،" أو "بِدُونِهِ لا
أستطيعُ أن أعمَلَ شيئاً." التطويبتان التاليتان تُخرجُ الإعتِرافَ التالي من
فمِ التلميذ: "ليسَ المُهِمُّ ما أُريدُهُ أنا، بل ما يُريدُهُ
الرَّبُّ." الزوجُ الثالِثُ من التطويبات تُمثِّلانِ هذا السِّر الرُّوحي:
"ليسَ المُهِمُّ من أو ما أنا، بل من وما هُوَ الرَّب." الزوجُ الرابِعُ
من التطويبات تشهدانِ لنتائجِ هذه التطويبات والإعتِرافات: "لم يكُنِ
المُهِمُّ ما عَمِلتُهُ أنا، بل ما عَمِلَهُ الرَّبُّ."

 

 أخيراً،
التطويباتُ هي مِثل تسلُّق الجَبَل. الأُولى تأخُذُنا في رِحلَةٍ قصيرَةٍ نحوَ
الجبل، الثانِيَة تأخذُنا أبعد من الأُولى، والوداعَةُ تأخُذُنا إلى ثلاثة أرباع
الطريق إلى الجبل، وجوعُنا وعَطَشُنا إلى البِرّ يصِلانِ بِنا إلى قِمَّةِ الجَبل.
إنَّ هذه التطويبات "التسلُّقيَّة" هي تطويباتُ المجيء إلى محضَرِ الله.

 

 كُلُّ
خُلوة تصِلُ إلى نِهايتِها، وأولئكَ الذينَ يحضُرُونَها عليهِم أن يترُكُوا
القِمَّةَ في النَّهايَة. إن تطويبات الذهاب تُحدِرُنا من أعلى الجبَل إلى أسفَل.
عندما يمتَلِئُ تِلميذٌ بِبِرِّ الله، كيفَ يبدو؟ هل يبدُو مثل الفرِّيسيّ
النامُوسي المملُوء بالبِرّ الذاتي؟ كَلا، فنحنُ نقرَأُ أنَّهُ سيكُونُ رحيماً،
وذا قَلبٍ نَقِيّ. وصيرُورتُهُ رحيماً وذا قَلبٍ نَقِيّ تبدأُ بإحدارِهِ من
قِمَّةِ الجبل إلى أسفل، ليكُونَ حَلَّ الله لمشاكِلِ الجُموع المُحتاجة. عندما
يكُونُ التلميذُ صانِعَ سلام، ويُضطَّهَدُ من أجلِ ذلكَ، نعرِفُ أنَّهُ يَقِفُ
عندَ أسفَلَ الجَبَل حيثُ تسودُ المشاكِل.

 

"طُوبَى
للمَساكِينِ بالرُّوح."

 أن
نكُونَ مَساكِين بالرُّوح هو الموقِفُ الصحيحُ تجاهَ نُفُوسِنا. هذا المَوقِف هو
إدراكنا أنَّنا لن نَكُونَ أبداً حلَّ الله إن كُنَّا بِمَعزَلٍ عنِ الله. علينا
أن نكُونَ مُواطِنينَ عندَ المَلِك، الذي هُوَ نفسُهُ الحَلّ. هذا هوَ الموقِفُ
الأوَّل الذي ينبَغي أن نتَحَلَّى بهِ إن كُنَّا نُريدُ أن نكون جزءاً من حَلِّ
الله لحاجة البَشر، كما أرادَ المسيحُ أن يعمَلَ من خِلالِ تلاميذِه. بكَلِمَةٍ
واحدَة، إنَّ حالَة النِّعمَة المَوصُوفَة "بالمساكين بالرُّوح" هي
"التواضُع."

 

"طُوبَى
لِلحَزَانَى."

 المَوقِفُ
الثاني الجَميل هُو، "طُوبَى لِلحَزَانَى." (متى 5: 4) التفسيرُ
والتطبيقُ المبدَئِيّ لهذه الطُوبَى الثانِيَة هُوَ أنَّنا لن نَكُونَ أبداً حَلَّ
وجَواب يسُوع لكُلِّ مُعاناةِ الجُمُوع عند سَفحِ الجَبَل، إن لم نتألَّم ونُعانِي
نحنُ بأنفُسِنا. تفسِيرٌ وتطبيقٌ آخر لِهذه الطُوبَى هو أنَّنا نحزَنُ عندما
نعرِفُ أنَّنا مَساكِين بالرُّوح، أو أنَّنا لا نستطيعُ أن نعمَلَ شيئاً بِدُونِه.

 

"طُوبَى
للوُدَعاء."

 الوَداعَةُ
هي لَرُبَّما واحِدَةٌ من أكثَرِ المفاهِيم التي يُساءُ فهمُها في الكتابِ
المقدَّس. فهِيَ لا تعني الضَّعف، ولكن الترويض. تَصوَّر حِصاناً بَرِّيَّاً
جبَّاراً ولكنَّهُ غَيرُ مُروَّض – أي أنَّهُ حَيَوانٌ لم يسبِق لأحدٍ أن وضعَ
رَسغاً بَينَ فَكَّيه، أو لِجاماً على رأسِه، أو سَرجاً على ظهرِه. فكُلُّ قُوَّةِ
ذلكَ الحَيوان هي خارِج سيطَرتِنا. ولكن عندما يخضَعُ الحيوانُ في النِّهايَةِ
ويقبَلُ الرَّسغَ واللجامَ والسَّرج، عِندَها يُصبِحُ هذا الحَيوانُ مِثالاً
للكَلِمة الكِتابِيَّة "وداعَة."

 

 قالَ
يسُوعُ أنَّهُ كانَ وَديعاً. وعندما صرَّحَ بِهذا، كانَ يقُولُ الشَّيءَ نفسَهُ
كما عندما كانَ يقُولُ تصريحاً آخَر. قالَ مُتَكلِّماً عنِ الآب: "لأنَّي في
كُلِّ حِينٍ أفعَلُ ما يُرضِيه." (يُوحنَّا 8: 29). لقد قَبِلَ يسُوعُ
بالنِّير، أو بِنظامِ مشيئَةِ أبيهِ. هذا ما جعَلَ منهُ وَديعاً. في هذه
الطُّوبَى، يُعلِّمُ يسُوعُ أنَّنا سنكُونَ جزءاً من حَلِّهِ وجوابِهِ في هذا
العالَم فقَط عندما نُسلِّم مشيئتَنا لله، ونقبَل ترتيبَ مشيئَتِهِ لِحَياتِنا
وخدماتِنا قبلَ رغباتِنا الشخصية.

 

"طُوبَى
لِلجِياعِ والعِطاشِ إلى البِرّ."

 هذه
الطُوبَى لا تَعني أنَّهُ عَلَينا أن نجُوع ونعطَش من أجلِ السَّعادَة، بَل من
أجلِ البِرّ. لاحظِ التشديد في هذه العِظة على حقيقَة أن يكُونَ تلاميذُهُ
أبراراً. بالإضافَةِ إلى هذه الطُوبى، يُعلِنُ المسيحُ بركَةً على التلميذِ
المُضطَّهَد من أجلِ البِر؛ فأولويَّةُ التِّلميذ ينبَغي أن تكُونَ البِرّ، وبِرُّ
التلاميذ ينبَغي أن يزيدَ على بِرِّ الكتبَة والفَرِّيسيِّين (5: 10،20؛6: 33).

 

"طُوبَى
لِلرُّحَمَاء."

 إنَّ
كَلِمَة "رَحمة" تعني "محبَّة غَير مَشرُوطة." طُوبَى
للمَملُوئينَ من مَحبَّةِ اللهِ آغابِّي". هذه العِبارَة ستكُونُ أفضَلَ
تفسيرٍ لهذه الطُّوبى. فإن كُنتَ تُريدُ أن تنـزلَ من عَلَى الجَبل لتَكُونَ جزءاً
من الحَلّ لأُولئكَ الذين يتألَّمُونَ عندَ سفحِ الجَبل، عَليكَ أن تمتَلِئَ من
محبَّةِ الله. وأن تمتَلِئَ بالبِرّ هو أمرٌ مُوازٍ للإمتِلاء من محبَّةِ الله.

 

"طُوبَى
للأنقِياءِ القَلب."

 إن
كَلِمَة "أنقِياء" في هذه الطُّوبى هي كَلِمَة يُونانِيَّة منها أخذنا
كَلِمة "تطهِير بالتفريغ." وجَوهَرُ هذا المَوقِف هو أنَّهُ عندما
يُحِبُّ التلميذُ بمحبَّةِ اللهِ غير المَشرُوطة، فإنَّ كُلَّ الدوافِع
الأنانِيَّة سوفَ تُفَرَّغُ وتُطهَّرُ من قَلبِه.

 

"طُوبى
لِصانِعِي السَّلام."

 إنَّ
صانِعَ السَّلامِ هُوَ مُصالِحٌ. المُشكِلَة الأساسيَّة في أسفَلِ الجَبل هي
الإنعِزال عنِ اللهِ. كَثيرٌ من مَشاكِلِ النَّاس تنبَعُ من إبتِعادِهم عن الله
وعن أشخاصٍ آخرين في حَياتِهم. لِهذا تحدَّى يسُوعُ تلاميذَهُ في هذه الخُلوة
ليَكُونُوا صانِعي سَلام.

 

 بحَسَبِ
بُولُس، إنَّ هدَف المُهمَّة أو الرِّسالة المُوكَلة إلى تِلميذِ يسُوع هو رِسالة
وخدمة المُصالَحة. عَلينا أن نخرُجَ خارِجاً ونقُول للنَّاس: "اللهُ تصالَحَ
معكُم بِواسِطَةِ يسُوع. وكَخادِمٍ للمَسيح، أتوسَّلُ إليكُم أن تتصالَحُوا معَ
الله." (2 كُورنثُوس 5: 20).

 

"طُوبَى
للمُضطَّهَدِين."

 قد
تَظُنُّ أنَّهُ لو كانَ هُناكَ أُناسٌ لديهم هكذا مواقِف جميلة اليوم، لكانَ
الجميعُ سيُصفِّقُ لهُم. ولكن الطُّوبَى الثامِنة تُخبِرُنا أنَّ تلاميذَ يسوع
المسيح هُم مُضطَّهَدُونَ من أجلِ كُلِّ مواقِفِهم الجميلة.

 

 إنَّ
التلاميذَ بِمواقِفِهم هذه، يُواجِهُونَ العالم بِنَمُوذَجٍ عمَّا ينبَغي أن
يكوُنُوا عليه. وعندما يختَبِرُ النَّاسُ هذه المُواجَهة، يُمكِنُهُم أن يتُوبُوا
عن مواقِفِهم غير المُلائِمة وأن يتعلَّمُوا كيفيَّةَ إكتِسابِ المواقِف
المُبارَكة، أو بإمكانِهم أن يُهاجِمُوا التلاميذ ذوي هذه المواقِف الجميلة.
لأكثَر من ألفَي عام، كانَ تلاميذُ المسيح يختَبِرُونَ الحَلَّ الثاني.

 

 إنَّ
رَسُولَ المُصالَحة يذهَبُ حيثُ يُوجَدُ صِراعٌ أو نـزاع، وهذا غالِباً ما يكُونُ
مكانَاً خَطِراً. إنَّ التلاميذَ الحقيقيِّين كانُوا دائماً ولا يزالُون اليوم،
يبذُلُونَ حياتَهُم من أجلِ خدمَةِ المُصالَحَة. إنَّ التلاميذَ الأتقِياء
بإمكانِهم أيضاً أن يقُوموا بمُهمَّةِ صُنعِ السلام في منازِلِهم، كنائِسِهم، بينَ
جيرانِهم، في صُفوفِ مدارِسهم، وفي مراكِز عمَلِهم.

 

الفصلُ
السادِس

"تطبيقُ
المَوعِظَة"

 بعدَ
أن قدَّمَ يسُوعُ وصفاً للإنسانِ المُتَمثِّلِ بالمَسِيح، قدَّمَ أربَع صُوَرٍ
مَجازِيَّة تُظهِرُ لنا ماذا يحدُثُ عندما يُؤثِّرُ هكذا إنسانٌ على الحضارَةِ
الوَثَنيَّة. لقد علَّمَ تلاميذَهُ أنَّهُم مِلحُ الأرضِ … نُورُ العالم …
مدينَة موضُوعة على جَبَل لا يُمكِن أن تُخفَى، وسِراجٌ على مَنارَة (متى 5: 13-
16). يبدَأُ تطبيقُ العظة بِهذه الصُّوَر المجازِيَّة الأربَع. فدَعونا نتأمَّلُ
في كُلٍّ من هذه الصُّور المجازِيَة، واحدةً بعدَ الأُخرى:

 

"أنتُم
مِلحُ الأرض."

 أحد
التفسيرات والتطبيقات لهذه الصُّورة المجازِيَّة مُرتَبِطٌ بأنَّ المِلح كانَ
الطريقة الوَحيدَة لِحفظِ اللحم في تِلكَ الأيَّام. كانَ يسُوعُ يقُولُ أنَّ
العالَمَ فاسِدٌ مثل اللحم الفاسِد، وتلاميذُهُ كانُوا "المِلح" الذي
سيحفظُ العالمَ من الفسادِ الأخلاقي والرُّوحي. نقرَأُ في اللُّغَةِ الأصليَّةِ
لهذا المقطَع، "أنتُم وحدَكُم مِلح الأرض."

 

 تطبيقٌ
آخَر لِهذه الصُّورَةِ المجازِيَّةِ هو أنَّهُ لا يُوجد كائِنٌ حَيٌّ يستطيعُ
العيشَ بدُونِ الملح. بِحَسَبِ هذا التفسير، كانَ يسوعُ يقُولُ لتلاميذِه: أُولئكَ
الجُمُوع عندَ سفحِ الجَبل ليسَ لديهم حَياة. ولكن، إذا عِشتُم أنتُم هذه المواقِف
الثمانِيَة الجميلة، ستكُونُونَ الوسيلَةَ التي من خِلالِها سيكتَشِفُ الجمعُ
الحياة."

 

"أنتُم
نُورُ العالَم."

 عندما
نظَرَ يسُوعُ إلى الجمَع، كانَ الأمرُ الذي حرَّكَ قلبَهُ بالشفقة عليهم أكثَرَ من
أيِّ شيءٍ آخر، هو كونهم كخِرافٍ لا راعي لَها. لم يكُونُوا يعرِفُونَ يمينَهُم من
شِمالِهم. فبِما أنَّكُم تعرِفُونَ ما لا يعرِفُونَهُ، فأنتُم النُّور الذي
يحتاجُونَهُ. هُنا أيضاً نقرأُ في اللغَةِ الأصليَّة لهذا النَّص، "أنتُم
وأنتُم وحدَكُم نُورُ العالَم."

 

"سِراجٌ
على المَنارَة."

 في
هذه الصُّورَة المجازِيَّة، كانَ يسُوعُ يقُولُ بِشكلٍ مبدَئِيّ: "قبلَ أن
تتجدَّدوا لتُصبِحُوا واحِداً من حُلُولي، كُنتُم مثل سِراجٍ غير مُضاء. ولكن الآن
وقدِ إختَبَرتُم "الوِلادَةَ الجديدة" التي حدَثت عندما صِرتُم
تلاميذِي، أُوقِدَ سِراجُكُم. في كُلِّ مرَّةٍ أُوقِدُ السِّراج، أكونُ قد اختَرتُ
منارَةً في مكانٍ ستراتيجيّ لِكَي أضعَ عليها هذا السِّراج." يقُولُ يسوع،
"أنتُم سِراجٌ على منارَة."

 

"مَدينَةٌ
على جَبَل."

 الصُّورَةُ
المَجازِيَّةُ الرابِعة هي مدينَةٌ على جَبل، لا يُمكِن أن تُخفَى. إن كانَ لدَينا
التطويبات الأربَعة في حَياتِنا، لا يُمكِن عندها أن تُخفى شهادَتُنا للمسيح. ليسَ
هُناكَ ما يُسمَّى تِلميذاً سِرِّيَّاً ليسُوع المسيح.

 

سُلحُفاةٌ
على جِدارِ السِّياج

 هل
سبقَ ورأيتَ سُلحُفاةً على جِدارِ السِّياج؟ في أيِّ وقتٍ ترى سُلحُفاةٍ على
جِدارِ السِّياج، هُناكَ شيءٌ تعرِفُهُ بالتأكيد عن هذه السُّلحُفاة – لا بُدَّ أن
أحدَهُم وضعَها هُناك، لأنَّ السُّلحُفاة لا يُمكِنُها أن تتسلَّقَ جِدارَ
السِّياج. إنَّ كُلَّ تِلميذٍ ليسُوع الذي وُضِعَ ستراتيجيَّاً في مكانِهِ، ينبَغي
أن يشعُرَ كالسُّلحُفاةِ على جِدارِ السياج. علينا أن نتطلَّعَ حوالَينا ونُدرِكَ
أين وُضِعنا ستراتيجيَّاً في هذا العالم. وإذ نُفكِّرُ بالسراجِ الموضُوعِ على
المنارة، وبالمدينة الموضُوع على الجَبل، علينا أن نقُول لأنفُسِنا، "أنا
حيثُ أنا اليَوم لأنَّ المسيحَ الحَيَّ المُقام وضعَني حيثُ أنا، لأكُونَ جُزءً من
الحَل لمشاكِل العالم المُحتاج."

 

وَيَستَمِرُّ
التطبيق

 يُتابِعُ
يسوعُ تطبيقَ عظتِهِ في أصعَبِ جزءٍ من هذه العِظة (5: 17 – 48). يبدأُ يسُوعُ هذا
الجزءَ من تطبيقِهِ بإعطائِهِ تصريحَين هامَّين: الأوَّل هو أنَّهُ لم يأتِ
لينقُضَ النامُوس، بل ليُتمِّمَ نامُوسَ الله. جوهَرُ هذا التصريحِ الثانِي هو
أنَّهُ إن لم يَزِد بِرُّ التلاميذ على بِرِّ الكتبَةِ والفرِّيسيِّين، فلا
يكُونُوا قد فَهِمُوا تعليمَهُ (17 – 20).

 

 لاحِظْ
أنَّهُ في هذا المقطَع المُطوَّل من الإصحاحِ الخامِس، يقُولُ يسُوعُ ستَّ
مرَّاتٍ، "سَمِعتُم أنَّهُ قِيلَ لكُم … أمَّا أنا فأقُولُ لكُم."
(متى 5: 21- 48) مُعظَمُ الوقت الذي إقتَبَس فيهِ يسُوع ما قِيل، لم يكُن يقتَبِس
من مُوسى، بل من الكتَبَةِ والفَرِّيسيِّين. كانَ يقتَبِسُ شيئاً علَّمُوا بهِ
ولكنَّهُ لم يكُن تعليم مُوسى، ولا كلمة الله. وعندما أشارَ يسُوعُ إلى أمرٍ
علَّمَهُ مُوسى، لم يُوافِقْهم على طريقَةِ تفسيرهم لمُوسى.

 

 جَوهَرُ
التعليم هُو: "كُلُّ ما أُعلِّمُهُ يتَّفِقُ معَ كَلِمةِ الله. ولكن تعليمي
لا يتَّفِقُ معَ تعليمِ وتقاليد الكَتَبَة والفَرِّيسيِّين." في هذا الجزء من
عظتِهِ العظيمة تحدَّى يسوعُ تعليمَ هؤلاء القادَةِ الدينيِّين. ولقد إستمرَّ
بِتَحدِّي تعليمِهِم وقِيَمِهم إلى أن أدرَكُوا أنَّهم لم يعُدْ بِوُسعِهم أن
يتعايَشُوا معَهُ، فصَلَبُوه.

 

القصدُ
من الأسفارِ المُقدَّسة

 الفرقُ
الأساسيُّ بينَ طريقَةِ يسُوع وطريقَةِ القادة الدينيِّين لتَفسيرِ الأسفارِ
المقدَّس، كانَ أنَّهُ قبلَ أن طبَّقَ يسُوعُ نامُوسَ الله على حياةِ النَّاس،
مرَّرَ نامُوسَ اللهِ هذا عبرَ عدَسَة محبَّة الله. ولكن عندما علَّمَ الكتبَةُ
والفرِّيسيُّونَ نامُوس الله، لم يفهَمُوا ولم يتذكَّرُو القصد أو الغاية من
النامُوس عندما أُعطِيَ لمُوسى على جَبَلِ سيناء – والذي كانَ خير شعبِ الله.

 

 كانَ
نامُوسُ اللهِ تعبِيراً عن محبَّةِ اللهِ لِشعبِهِ. من الواضِح أنَّ يسوعَ لم
يغِبْ أبداً عن ناظِرَيهِ هذا القصد من النامُوس. هذا هُوَ جوهَرُ ما تحدَّى بهِ
يسُوعُ تلاميذَهُ، لكي يتعلَّمُوهُ ولا ينسَوهُ عندما ينـزلونَ إلى الجمُوع عندَ
أسفَلِ الجَبَل. كانَ يُعلِّمُ تلاميذَهُ أنَّهُ عليهِم أن يعرِفُوا كيفَ
يُطبِّقُونَ كلمةَ الله على حياةِ شعبِ الله، إذا أرادوا أن يكُونوا نُورَ العالم.

 

البِرُّ
في العلاقاتِ (21 – 48)

 بعدَ
أن قدَّمَ يسُوعُ هذه التصريحات بِخُصُوصِ أهمِّيَّة الأسفار المُقدَّسة في حَياةِ
التلميذ، أظهَرَ يسُوعُ لِتلاميذِهِ كيفِيَّةَ تَطبيق تعليمِهِ في علاقاتِهم.
أوَّل علاقة يتعامَلُ معَها هي العلاقة معَ الأخ أو التِلميذ الآخر. من المُثيرِ
للإهتِمام أن نُلاحِظَ أنَّهُ أحياناً علَّمَ أنَّ الأولويَّة ليسَت دائماً الله
أوَّلاً، ولكن أحيانا "أخاكَ أوَّلاً، ثُمَّ الله." إنَّ هذه الأولويَّة
المُركَّزَة تُرينا كم يُقدِّرُ يسُوعُ علاقاتِنا معَ إخوتِنا المُؤمِنين. فليسَ
بإمكانِنا أن نربَحَ العالَمَ إذا كُنَّا نخسَرُ بعضُنا البعض.

 

 لقد
علَّمَهُم كيفَ ينبَغي أن يتعامَلُوا معَ العَدُوّ. فنحنُ نعيشُ اليومَ في عالَمٍ
مملوءٍ بالمُنافَسة. وخَصمُنا هُو مُنافِسُنا، أو عدُوُّنا (25، 26). ولقد كان
ليسُوع ما يقُولهُ عن التعامُلِ معَ النِّساء (27 –30). (وبما أنَّهُ لا تُوجد
هُناكَ تَعليمات عن كيفَّة التعامُل معَ الرِّجال، نستطيعُ أن نفتَرِضَ أنَّ
الخُلوَةَ كانت مُخصَّصَةً للرِّجالِ فقط.) كَثيرُونَ يُسيئُونَ فهمَ هذا التعليم.
فَهُوَ لم يكُنْ يُعلِّمْ أنَّ التفكير بالزِّنَى كانَ خَطيراً على نفسِ المُستَوى
مثل إقتراف خطيَّة الزِّنَى. ولكنَّ التعليم المُوجَّه لنا كانَ أن نربَحَ
المعرَكَة معَ التجرِبَة عندما تكُونُ لا تزالُ عندَ مُستَوى النظرة أو الفِكرة.

 

 بعدَ
ذلكَ تكلَّمَ يسُوعُ عن علاقةِ الرِّجال معَ زوجاتِهم (31- 32). لقد علَّمَ أنَّ
علاقاتِهِم معَ زوجاتِهم ينبَغي أن تكُونَ علاقَةً دائمة. إربُط هذا التعليم معَ
ما علَّمَ بهِ عن علاقاتِهم معَ النِّساء. إنَّ أحد أسباب عدوى الطَّلاق
المُتفشِّيَة اليوم هو عدم الأمانة. وعندما تكُونُ هُناكَ عدوى طَلاق، تكُونُ
هُناكَ أيضاً عدوى عائلات مُفكَّكة وأطفال يتألَّمُون. مُعظَمُ الألَم والمُعاناة
عندَ أسفَلِ الجَبَل هي بِسبب كون الرِّجال يخسَرُونَ معرَكَتَهُم عندَ التجرِبَة
التي تكلَّمَ عنها يسُوعُ في الأعداد 27 – 30.

 

 لقد
تعلَّمُوا أيضاً أن لا يُرفِقُوا تعهُّداتِهم بِقَسَم، كما كان يفعَلُ
الفَرِّيسيُّون. فعندما يقُولونَ "نعم" ينبَغي أن يعنُوا
"نَعَم." وعندما يقُولُونَ "لا" ينبَغي أن يعنُوا
"لا." فلا ينبَغي أن يكُونُوا رِجالَ كَلِمَةِ الله فحَسب، بل رِجالَ
كَلمتِهِم أيضاً، ذوي إستِقامة. (33- 37)

 

الأخلاقُ
الرَّفِيعة (38- 48)

 يختُمُ
يسُوعُ هذا المقطَع التطبيقي الطويل بإعطائِنا أسمى مبدَأ من مبادِئ أخلاقِهِ
الرفيعة. والذي علَّمَ بهِ يسُوعُ في هذه الأعداد الأخيرة يُمَثِّلُ أسمى تعليم
أخلاقي في كُلِّ الديانات. لقد كانَ هذا التعليمُ عامِلاً حَيَويَّاً في مَوتِ
الرُّسُل وكذلكَ كانَ بالنسبَةِ للملايين من التلاميذ في تاريخِ الكَنيسة. إنَّ
هذه الأعداد تُعتَبَرُ أيضاً أصعَبَ تعاليم يسوع. إثنتان من تصريحاتِهِ الأكثَر
صُعُوبَةً أنَّهُ علينا أن لا نُقاوِمَ الشَّرَّ بِالشرّ، وأن نُحِبَّ أعداءَنا.

 

 تذكَّرْ،
إنَّ يسُوعَ لم يُعلِّمْ هذا التعليم الأخلاقِي عندَ أسفَلِ الجَبَل للجُمُوع المُختَلَطة.
بل أعطَى تعليمَهُ هذا على رأسِ الجَبل لتلاميذِه. كانَ تلاميذُهُ أشخاصاً قامُوا
بإلتِزامٍ أن يتبَعُوهُ وحتَّى أن يمُوتُوا من أجلِه (لُوقا 9: 23 – 25؛ 14: 25-
35). لقد أوضَحَ لجميعِ الذين إعتَرَفُوا بأنَّهُم تلاميذَهُ، أنَّهُ عليهم أن
يحمِلُوا صليباً خِلالَ إتِّباعِهِم لهُ. عندما قالَ يسُوع، "لا تُقاوِمُوا
الشَّرّ،" و "أحِبُّوا أعداءَكُم،" كانَ يقُولُ لهُم بِكُلِّ
بَساطَة، أينَ، مَتى، كيفَ، ولِماذا أرادَهُم أن يمُوتُوا.

 

 خِلالَ
"الحُروب الصليبيَّة" حوالي العام 1220، كانَ فرنسيس الأسيزي يُعالِجُ جُروحَ
جريحٍ تُركِي أُسِرَ في الحَرب. فنظَرَ أحدُ الصليبيِّينَ من عَلى حِصانِهِ إلى
فرنسيس وإلى الجَريحِ التُّركِي، وقالَ، "إذا تحسَّنت حالُ هذا التُّركِي،
سوفَ يقتُلُكَ يا فرنسيس." فأجابَ فرنسيس، "ولكن عندها سيكُونُ قد عرفَ
محبَّةَ المسيح قبلَ أن يقتُلني."

 

 إنَّ
جَوهَرَ هذا المقطَع هو السُّؤال الذي طَرَحَهُ يسُوع، "ماذا تفعَلُ أكثَر من
الآخرين؟" (47) يُعلِّمُ يسُوعُ بِشكلٍ أساسِيٍّ من خِلالِ هذه العِظة أنَّكَ
"كَتِلميذٍ ليسُوع المسيح ينبَغي أن تكُونَ مُختَلِفاً." تُعبِّرُ إحدى
الترجمات عن هذا السؤال الذي طرحَهُ يسُوعُ كالتالي: "إن كُنتُم تُحِبُّون
فقط أولئكَ الذين يُحبُّونَكُم، فأيُّ فَضلٍ لكُم؟ فلا يلزَمُ أيَّةُ نِعمَةٍ
خاصَّة لكَي تُحبُّونَ الذين يُحبُّونَكُم."

هل تبحث عن  الكتاب المقدس أخبار سارة عربية مشتركة عهد قديم سفر إرميا 46

 

 إنَّ
كَنيسةَ العهدِ الجديد كانَ فيها نِعمة، التي إستَلمُوها يومَ الخَمسين (أعمال 2).
هذه النِّعمة أعطَت شعبَ العهدِ الجديد القُدرَةَ ليكُونُوا مُختَلِفين. علينا أن
نُصلِّي طلَباً للنِّعمَة عندما نُحاوِل أن نُطبِّقُ مبادِئَ يسوع الأخلاقيَّة
الرفِيعة على علاقاتِنا معَ أعدائِنا.

 

الفصلُ
الثامِن

"ثلاث
وُجهات نَظَر للعَيش"

 عِندَما
عَلَّمَ يسُوعُ المَواقِف الجميلة، تحدَّى تلاميذَهُ بأن ينظُرُوا إلى أعماقِ
نُفُوسِهم وأن يُفكِّرُوا بِالعَقلِيَّةِ التي تَتَحكَّمُ بِحَياتِهم. في المقطَعِ
المُطوَّل الذي تَبِعَ التطويبات، تحدَّاهُم يسُوعُ أن ينظُرُوا حولَهُم
ويُطبِّقُوا التطويبات في علاقاتِهم الأكثَر أهمِّيَّةً. عندما سَمِعَ التلاميذُ
الذين حضَروا تِلكَ الخُلوة على الجَبل، عندما سَمِعوا كيفَ تنطَبِقُ التطويباتُ
على علاقاتِهم، خاصَّةً علاقاتِهم معَ أعدائِهم، كانُوا أكثَر من مُستَعِدِّين
لوُجهَةِ النَّظَر الثالِثة نحوَ الحَياة، والتي شاركَها يسُوعُ معَهُم.

 

 إذ
نبدَأُ بِدراسَةِ الإصحاحِ السادِس من إنجيلِ متَّى، نقرَأُ أنَّ يسُوعَ قالَ
لتلاميذِهِ أن ينظُرُوا إلى فَوق ويتأمَّلُوا بالنُّظُم والقِيَم الرُّوحِيَّة
للتلميذِ الحقيقيّ. (الكَلِمة "نِظام" والكلمة "تِلميذ"
تشتقَّانِ من نفسِ الجذر.) لقد شارَكَ معهُم بهذه النُّظُم الرُّوحيَّة الثلاثة،
وعلَّمَ أن كُلاً من النُّظُم الثلاثة ينبَغي أن تُطبَّق عامُودِيَّاً وليسَ
أُفُقِيَّاً.

 

 كانَ
لدى الفَرِّيسيِّين بِرٌّ أُفُقِيّ، أي بِرٌّ يُمارِسُونَهُ لكي يحظَوا
بمُوافَقَةِ وتصفيقِ النَّاس لهُم. أمَّا يسُوع فلقد تحدَّى تلاميذَهُ بأن
يتحلُّوا بالبِرِّ المُمارَس عامُودِيَّاً، أي لكَي يحظَى بمُوافقة الله. هذا على
الأقَلّ جزءٌ ممَّا قصدَهُ عندما علَّمَ أنَّ بِرَّ تلاميذِهِ ينبَغي أن يكُونَ
أعظَم من بِرِّ الكتَبَة والفَرِّيسيِّين (5: 20).

 

نِظامُ
العَطاء (1- 4)

 النِّظامُ
الرُّوحِيُّ الأوَّلُ الذي يُعلِّمُ بهِ يسُوع هُوَ ما نُسمِّيهِ اليوم بالوَكالة.
فصِحَّتُنا الروحيَّة وإزدِهارُنا الرُّوحي يتأثًَّرانِ بشكلٍ حَيَويّ بمُمارَستنا
الأمينة لهذا النِّظام الرُّوحي. وعطاؤُنا ينبَغي أن يكُونَ عامُودِيَّاً، أو أمامَ
الله وليسَ لِكَي ينالَ إعجابَ النَّاس. فإن كُنَّا نُعطي لله، فلا حاجَةَ لنا أن
نُخبِرَ النَّاسَ عمَّا نُعطيهِ لله.

 

نِظامُ
الصَّلاة – الإتِّصالُ بالله (5- 15)

 لا
تستطيعُ أن تُحِبَّ عدُوَّكَ، أو أن تَكُونَ جزءاً من حَلِّ المَسيح في حَياةِ
النَّاس الذين لا يزالُونَ جُزءاً من المُشكِلة، إن كُنتَ لا تعرِفُ كيفَ تُصلِّي.
في الحقيقة، لا تستطيعُ حتَّى أن تَجِدَ حَلاً لمشاكِلِكِ الشخصيَّة إن كُنتَ لا
تعرِفُ كيفَ تُصلِّي. لهذا علَّمَ يسُوعُ تلاميذَهُ وأوضَحَ لهم نِظامَ ترتيبَ
الصلاة.

 

 النقطَةُ
الأساسيَّةُ في تعليمِهِ عنِ الصلاة هي أنَّهُ علينا أن نكُونَ مُتأكِّدِين
بأنَّنا نتكلَّمُ معَ الله عندما نُصلِّي. لقد علَّمَ يسُوعُ أنَّنا إذا أرَدنا أن
نتأكَّدَ بأنَّنا نتكلَّمُ معَ الله عندما نُصَلِّي، علينا أن ندخُلَ إلى المَخدَع
(أو أي مكان نستطيعُ أن نكُونَ فيهِ بمُفرَدِنا) ونُغلِق بابَنا. بما أنَّهُ لا
يُوجَدُ أَحَدٌ نَنالُ إعجابَهُ هُناكَ إلا الله، فإنَّ صلاة المَخدَع هي أفضَل من
الصلاة العَلَنيَّة، بالنسبَةِ ليسُوع. فهُوَ يَعِدُ بأنَّ إلهَنا الذي يرى في
الخَفاء سيُجازِينا علانِيَةً ويستَجيبُ لِصلواتِنا الصادِقة في الخفاء.

 

 في
هذا الإطار يُعطي يسُوعُ أعظَمَ تعليمٍ سمِعَهُ العالَمُ عن كيفَ ينبَغي أن
نُصلِّي. إنَّ هذا التعليم ينبَغي أن يُسمَّى، "صلاة التلاميذ." هُناكَ
سبعُ طَلباتٍ في هذه الصلاة. بعدَ مُخاطَبَة الله كأبينا السماوي، هُناكَ ثلاثَةُ
نَواحٍ نُخاطِبُها في العِنايَةِ الإلهيَّة: إسمُكَ، ملكُوتُكَ، ومشيئتُكَ. عندها
فقط سيكُونُ بإمكانِنا أن نُصلِّي قائِلين، "أعطِنا."

 

 من
خِلالِ هذه النواحي الثلاث التي نُخاطِبُها في العِنايَةِ الإلهيَّة، تكُونُ
صلاتُنا، "اللهُ أوَّلاً." فالصلاةُ ليسَت مجرَّدَ إقتِرابٍ من حضرَةِ
الله وبِيدِنا لائحة مُشتَريات نُرسِل الله لكَي يجلُبَها لنا. عندما تُصبِحُ هذه
الأولويَّة في مكانِها الصحيح، عندَها يُصبِحُ بإمكانِنا أن نُصلِّي مُقدِّمِين
طلباتِنا الشخصيَّة. الطلباتُ الشخصيَّةُ هي: "أعطِنا، إغفِرْ لنا، لا
تُدخِلنا، ونَجِّنا."

 

 الطِلبَةُ
الشخصيَّةُ الأُولى هي، "أعطِنا هذا اليَوم خُبزَنا اليَومِي." (11)
يرمُزُ الخُبزُ إلى كُلِّ حاجاتِنا. الخُبزُ الذي نطلُبُهُ هو فقط لليوم. بعدَ
ذلكَ علينا أن نُصلِّي، "إغفِرْ لنا." (12) يسُوعُ لا يُعلِّمُ أنَّ
غُفرانَهُ لنا مُؤسَّسٌ على غُفرانِنا للآخرين. بل نحنُ نغفِرُ للآخرين لأنَّنا
سبقَ وتمتَّعنا بالغُفران. فَكَيفَ يُمكِنُ أن لا نَغفِرَ للآخَرين عندما يكُون قد
غُفِرَ لنا بِهذا المِقدار؟ ولكنَّنا سوفَ نختَبِرُ الغُفران فقط عندما نُمارِسُ
الغُفران، بالنسبَةِ ليسُوع.

 

 الطَّلَب
الشخصي التالي هُوَ، "ولا تُدخِلنا في تَجرِبَة." (13) هذا الطَّلَب
هُوَ بالحقيقة: "أيُّها الآب، إن كُنتَ تقُودُ خُطواتي، وإن كُنتُ أنا أتبَعُ
قِيادَتَكَ لخُطواتي، فلن أُواجِهَ التجارِبَ أبداً."

 

 الطَّلَبُ
الرابِع هُو، "وأنقِذنا من الشرِّير." (13)

 تَعلَّمنا
أن نختُمَ صلواتِنا بنفسِ الطريقة التي بدأناها بِها، وذلَكَ بأن نقُولَ ما
معناهُ، "اللهُ أوَّلاً." وهكذا نختُمُ مُعتَرِفِينَ وقائِلين،
"القُوَّة لإستِجابَةِ صلاتِنا ستأتِي دائِماً مِنكَ، وبالنتيجة سيكُونُ لكَ
دائِماً المُلك والمجد إلى الأبد."

 

نِظام
الصَّوم (16- 18)

 مِثل
العطاء والصلاة، علَّمَ يسُوعُ أنَّ النِّظامَ الرُّوحِيَّ لِلصَّوم ينبَغي أن
يكُونَ أيضاً عامُودِيَّاً (16- 18). فالصَّومُ يُصرِّحُ أمامَ اللهِ وأمامَنا
أنَّنا نُعطي قيمَةً للرُّوحِيَّات أكثَر ممَّا نُعطِي للجَسَدِيَّات. بالنسبَةِ
ليسُوع، الصَّومُ يُبَرهِنُ صِدقَ صلواتِنا. فبَعضُ المُعجِزات لن تحدُثَ إلا
بالكَثيرِ من الصَّومِ والصلاة. (متَّى 17: 21)

 

نِظامُ
القِيَم العامُودَيَّة (19- 34)

 ثُمَّ
علَّمَ يسُوعُ نِظامَ القِيَم السماوِيَّة (19 – 34). في هذا المَقطَع يُبرِزُ
سَبَباً آخَر لآلامِ أولئِكَ النَّاس عندَ سفحِ الجَبَل. يتألَّمُ النَّاسُ
لأنَّهُم لا يملِكُونَ قِيَماً رُوحيَّة. فلِكَي يكُونَ تلاميذُهُ جُزءاً من
حَلِّهِ ومن أجوِبَتِهِ للناس الذين لا يزالُونَ جُزءاً من المُشكِلة، عليهِم
بِكُلِّ بَساطَة أن يتَحَلُّوا بقِيَمِ المسيح السماوِيَّة العامُوديَّة والرُّوحِيَّة.

 

 هُناكَ
كُنُوزٌ في السماء وكُنُوزٌ على الأرض. وعلى تلاميذِهِ أن لا يَكنـزوا لهُم
كُنُوزاً على الأرض، لأنَّها ستفقُدُ قيمتَها أو ستُسرَق. بل عليهِم أن يكنـزوا
لهُم كُنُوزاً في السماوات، حيثُ لا تفقُدُ هذه الكُنُوزُ قيمتَها ولا يسرِقُها
سارِقُون. لقد تكلَّمَ يسُوعُ بمُنتَهَى الصَّراحَة عندما أخبَرَ تلاميذَهُ كيفَ
يعرِفُونَ ما هي قِيَمُهُم بالحَقيقَة. تفسيِرُ وتَلخيصُ هذا التعليم اليوم
سيكُونُ كالتالي: "إذا أردتُم أن تعرِفُوا ما هي قِيَمُكُم، تطلَّعُوا إلى
الوَراء وانظُرُوا كيفَ صرفتُم أموالَكُم، وأنظُروا إلى مُفكِّرَاتِكم للأعوام
الخمس الماضِيَة وتأمَّلُوا كيفَ صرفتُم وقتَكُم."

 

 حيثُ
يكُونُ كنـزكَ هُناكَ يكُونُ قلبُكَ أيضاً، وإذا أردتَ أن تعرِفَ أينَ هي
كُنُوزُكَ، إطرَح هذه الأسئِلة على نفسِكَ: "كيفَ تصرِفُ مالَكَ ووقتَكَ؟
ماذا تفعَلُ طِوالَ النَّهار؟ ماذا تُريدُ طِوالَ النَّهار؟ وبماذا تهتَمُّ طِوالَ
النَّهار؟" إن كُنتَ ستُقيِّمُ نشاطاتِكَ وطُموحاتِكَ وهُمُومِكَ ومَخاوِفِك،
سوفَ تُركِّزُ على قِيَمِكَ.

 

 يختُمُ
يسُوعُ هذا الخطاب عن القِيَم العامُوديَّة بتعليمِ تلاميذِهِ أنَّ القيمَةَ
الأولويَّةَ المُطلَقَة عندَهم ينبَغي أن تكُونَ ملكُوتَ الله وبِرَّهُ – الأمرُ
الذي سبقَ وبَرهَنَ لهُم صِحَّتَهُ. فإن كانَ أولئكَ الذين يجُوعُونَ ويَعطَشُونَ
إلى البِرّ سيجعَلُونَ من هذا قيمتَهُم الأولويَّة المُطلَقَة، فاللهُ سيُبارِكُهم
ويُوفِّرُ لهُم كُلَّ ما يحتاجُونَهُ، عندما يضعُونَ ملكُوتَ اللهِ أَوَّلاً.

 

أُنظُرْ
إلى الداخِل (7: 1-5)

 عندَما
نقرَأُ الإصحاح السابِع من إنجيلِ متَّى، نُدرِكُ أنَّ يسُوعَ يَصِلُ هُنا إلى
خِتامِ خُلوتِه. بعدَ أن تحدَّى تلاميذَهُ بالنَّظَرِ إلى الداخِل، وحولَهم،
وفوقَهم، يَصِلُ بتعليمِهِ إلى مرحَلَةِ القرار، وذلكَ بطَلَبِهِ منَ التلاميذ أن
يُفكِّرُوا بِقرارِ النظَر لتفحُّصِ ذواتِهم. نراهُ يُعلِّمُ بِواسِطَةِ صُورَةٍ
مجازِيَّةٍ فُكاهِيَّة، أنَّهُ علينا أن لا ننظُرَ القَذَى في عَينِ أخينا بينَما
علينا أن نرى الخشبة التي في عينِنا. علينا أن ننظُرَ إلى الداخِل وأن نطلُبَ من
الله أن يحكُمَ علينا قبلَ أن نُحاوِلَ أن نقومَ بمُساعَدَةِ الآخرين. لِهذا علينا
أن نتَّخِذَ قرارَ النَّظَر إلى الداخِل لكَي نُخرِجَ الخشَبَةَ من عينِنا قبلَ أن
نُساعِدَ الآخرين. يُخبِرُنا يسُوعُ هُنا أن لا نُفرِطَ بالإنتِقاد بمُراءاة.

 

أنظُرْ
إلى فَوق (7: 3- 5)

 يُتابِعُ
يسُوعُ إختِتامَ تعليمِهِ بدَعوَةِ أولئِكَ الذين سَمِعُوا تعليمَهُ، بأن
يتَّخِذُوا القرارَ بالنَّظَرِ إلى فَوق. وهكذا يَصِلُ بتعليمِهِ عن الأنظِمة
والقِيَم الرُّوحيَّة إلى قَرارٍ بدَعوَةِ هؤُلاء التلاميذ لينظُرُوا إلى فوق
بمُثابَرة – أن يسألُوا، يطلبُوا، ويقرَعُوا باستِمرار. ثُم يذكُرُ وعداً
ثُلاثِيَّاً: لأنَّ كُلَّ من يسأل يأخُذ؛ ومن يطلُبْ يَجِدْ؛ ومن يقرَعْ
باستِمرار، سيَجِدُ نفسَهُ واقِفاً أمامَ بابٍ مَفتُوح (لُوقا 11: 9- 13).

 

أنُظُرْ
حَولَكَ (7: 12)

 بينَما
كانَ الذين سَمِعُوهُ على وَشكِ مُغادَرَةِ قمَّةِ الجَبل، دعاهُم يسُوعُ
ليتَّخِذُوا قراراً بالنَّظَرِ حولَهُم. يُسمَّى هذا التعليمُ، "القاعِدة
الذهبِيَّة." هذا العدد المُوجز يُعتَبَرُ تلخيصاً لتعليم يسُوع الأخلاقي
المُختَصّ بالعَلاقات ولِكُلِّ الكتابِ المقدَّس.

 

 التحدِّي
الأساسِيّ لِهذا التعليم هُوَ: "إذا أردتَ أن تكُونَ مِلحَ الأرضِ ونُورَ
العالم الذي يُعتَبَرُ الناسُ بأَمَسِّ الحاجَةِ إليهِ في هذا العالم، ضَعْ نفسَكَ
في مكانِ كُلِّ شخصٍ تلتَقيه. ثُمَّ إسألْ نفسَكَ هذا السُّؤال: "إن كُنتَ
ذلِكَ الشخص الآخر، ماذا كُنتَ تتوقَّعُ من التلميذ الذي سمِعَ ما سَمِعتَهُ أنتَ
على هذا الجَبل أن يفعَل؟" عندما تحصَلُ على جوابٍ لهذا السؤال، إعمَل بهِ.
هذا هُوَ تعليمُ كُلِّ الكِتابِ المقدَّس حولَ موضُوع العلاقات الإنسانِيَّة.
فكُلُّ ما تُريدُ أن يفعَلَ الناسُ بِكَ إفعَلْ هكذا أنتَ أيضاً بِهِم."

 

 تطبيقاً
لهذا، ضَعْ نفسَكَ مكانَ زوجَتِكَ، أولادِك، أهلِكَ، أقرِبائِكَ، وإخوتِكَ
المُؤمِنين. طبِّق هذا التعليم على كُلِّ الأشخاص الذين تلتقيهم في حياتِكَ. وإن
كُنتَ أنتَ مكانَ هؤُلاء الناس، ماذا كُنتَ ستَفعَل؟

 

 تأكَّدَ
بأن تُطبِّقَ هذا التعليم على أُولئِكَ الذين لم يُؤمِنُوا بعد بيسُوع المسيح، ولم
يختَبِرُوا أيَّاً من بركاتِ خلاصِه. ثُمَّ إسألْ، "لَو كُنتُ أنا ذلكَ
الشخص، ماذا كُنتُ سأتَوقَّعُ من تلميذٍ ليسُوع المسيح أن يعمَلَ حِيالَ هذه
المواقِف؟" عندما تحصَلُ على جوابٍ لِسُؤالِك، إعمَلْ بهِ، لأنَّ هذه هي
القاعِدة الذهبِيَّة للتَّبشير.

 

الدعوَة
(7: 13- 27)

 عندما
بدَأَ يَسُوعُ خُلوَتَهُ، كانت دعوتُهُ "هل أنتَ جزءٌ من المُشكِلة أم أنَّكَ
تُريدُ أن تكونَ جُزءاً من الحَلّ؟" في نِهايَةِ هذا التعليم، يَضَعُ أمامنا
يسُوعُ التحدِّي ذاتَهُ الذي وضعَهُ في البِداية – ولكن في هذا الوقت فقط أُولئكَ
الذين سمِعُوا دعوتَهُ سبقُوا واعتَرَفُوا أنَّهُم يُريدُونَ أن يكُونُوا جُزءاً
من الحَلّ. إذ يختُمُ يسُوعُ الخُلوة، يُقدِّمُ يسُوعُ الدعوةَ التالية:
"أيَّ نوعٍ من الحَلّ تُريدُ أن تكُون؟"

 

 لكَي
يُلخِّصَ ويُفسِّرَ هذه الدعوة، ختَمَ يسُوعُ هذه الخُلوة بالقَول: "هُناكَ
نوعانِ من التلاميذ – الكثيرونَ والقَليلُون، المُزيَّفُونَ والحقيقيُّون، أُولئكَ
الذين يقُولُونَ وأُولئكَ الذين يفعَلُون. يظُنُّ الكثيرُونَ أنَّ هُناكَ طريقٌ
سَهلٌ ليكُونُوا حلاً وجواباً. ولكنَّهُم لن يُصبِحُوا أبداً جُزءاً من حَلِّي.
ولكنَّ القَليلينَ يُدرِكُونَ أن صيرُورتَهُم ملح الأرض ونُور العالم تبدأُ
بالطريقِ الضيِّق الذي تتبعُهُ حياةٌ شاقَّةٌ في الإنضِباط والتلمذة. فهل ستكُونُ
واحداً من الكَثرة أم من القِلَّة؟ وهَل ستكُونُ واحِداً من المُزيِّفين أم من
التلاميذ الحقيقيِّين، الذي يُصبِحونَ جزءاً من حَلِّي؟ وهل ستكُونُ واحداً من
أُولئكَ الذي يكتَفُونَ بالقَول أم واحداً من الذين يعمَلُونَ بما علَّمتُهُم بهِ
على هذا الجبَل؟"

 

 الصُّورَةُ
المجازِيَّةُ العظيمة التي يختُمُ بِها يسُوعُ أعظَمَ عِظَةٍ من عِظاتِه، تُقدِّمُ
نَوعَينِ من التلاميذ الذين كانُوا على وشكِ النـزولِ عن قمَّةِ الجَبل. يُصوِّرُ
يسُوعُ بيتَين (حَياتَين)، واحداً مَبنِيَّاً على الصخر (التلميذ الذي يُطيعُ
تعليمَ يسوع) وآخر مَبنِيَّاً على الرَّمل (التلميذ الذي لا يُطيعُ تعليمِ يسُوع).
كِلاهُما سَمِعا هذا التعليم، ولكنَّ واحِداً – الغَبِيّ – لا يُطبِّقُ بتاتاً ما
سَمِعَهُ. أمَّا الآخر فلقد سَمِعَ كُلَّ التعليم، وهُوَ يُطبِّقُهُ. إنَّ هذه
الخاتِمة المُؤثِّرَة تُقدِّمُ هذه الحقيقة كالتالي: أنَّ الفرقَ بينَ هذين
التلميذَين هو ما يعملانِهِ حِيالَ ما يَعلَمانِه. (متَّى 7: 24- 27).

 

الآن
وقد إطَّلعتَ على هذا التعليم العظيم، أيّ تِلميذٍ ليسُوع المسيح سوفَ تكُون؟
وماذا ستفعَلُ حِيالَ ما تعلَم؟

 

الفصلُ
التاسِع

"مأمُوريَّةُ
المُلتَزِم"

 ليسَت
لدينا فكرَةٌ عن عدد التلاميذ الذين حضَروا الخُلوةَ المَسيحيَّةَ الأُولى. وكما
لاحظتُ سابِقاً، بعدَ أن ختمَ يسُوعُ تعليمَهُ على الجبل بوقتٍ قصير، مُستَخدِماً
تِلكَ الدَّعوة، كلَّفَ إثني عشرَ تلميذاً ليكُونُوا رُسُلَهُ. من الواضِح أنَّ
يسُوعَ جنَّدَ هؤلاء الرُّسُل في الخُلوة، ومن ثمَّ كلَّفَهُم لاحِقاً
ليُشارِكُوهُ رسالتَهُ – ليكُونُوا جزءاً من ستراتيجيَّتِهِ للوُصُولِ إلى
العالَمِ أجمَع بالخلاص الذي أتى بهِ إلى هذا العالم.

 

 وكما
سألتُ سابَقاً، لو عرفتَ أنَّ لَدَيكَ ثلاث سنوات فقط لتَعيشَ وتُتَمِّمَ
رِسالتَك، ماذا كُنتَ ستفعلُ؟ لقد عرفَ يسُوعُ بالتأكيد أنَّهُ كانَ لديهِ ثلاث
سنين، ولهذا كلَّفَ وفوَّضَ هؤلاء الرُّسُل ليُحقِّقُوا رغبَتَهُ بإيصالِ الخلاص
إلى العالم. ولقد نشرَ تلاميذُهُ الخبرَ السارَّ بأمانَة خِلالَ حياتِهم. بعدَ
خمسة قُرُون من تكليفِهِ لهُم بهذه المأمُوريَّة، لم يعُدِ الإنسانُ قادِراً أن
يحصَلَ على وظيفَةٍ في الأمبراطُوريَّة الرُّومانيَّة إن لم يكُن يعتَرِف بأنَّهُ
مَسيحيّ. بنفسِ الطريقة، علينا أن نكُونَ أُمَناء لنَشهدَ بالمسيح لعالمِنا، بينما
نُعلِنُ الإنجيل للعالم الذي نعيشُ فيه.

 

إلتَقِ
بالرُّسُل الإثني عشَر

 قضى
يسُوعُ ليلَةً بكامِلِها في الصلاة، قبلَ أن يُكلِّفَ تلاميذَهُ الإثني عشَر
(لُوقا 6: 12، 13). الرُّسُل الأربَعة الأوائِل المَذكُورون في متى هُم مجمُوعَتان
من الأشقَّاء: بطرُس وأندراوُس، ويعقُوب ويُوحنَّا. هؤلاء الأربَعة كانُوا
يعمَلُونَ مَعاً في مِهنَةِ صيدِ السمك.

 

 ذُكِرَ
فيلبُّس وبَرثُولماوُس دائِماً معاً، وكذلكَ الأمرُ بالنسبَةِ لتُوما ومتَّى. كانَ
فيلبُّس رجُلَ أعمال يعمَلُ في حقلِ النقلِ بواسِطَةِ الخَيل. ولربَّما كان
سيعمَلُ في مهنَةِ السيَّارات لو عاشَ في أيَّامِنا. عندما نُقارِنُ لوائِحَ
التلاميذ المذكُورة في الأناجيل الأربَعة المُختَلِفة، علينا أن نستَنتِجَ أنَّ
برثُولماوُس كانَ معرُوفاً كنثنائِيل.

 

 كانَ
تُوما مُفكِّراً، ذا عقلٍ باحِث. اليوم نُسمِّي هكذا شخص "تُوما
المُشكِّك." كانَ متَّى جابِي ضرائِب، أو عشَّاراً، الذي كانَ يجمَعُ
الضرائِبَ لروما من أهلِ شعبِهِ اليهود، ممَّا يعني أنَّهُ كانَ خائِناً لِشعبِه.
سوفَ تُلاحِظُ أنَّ الأناجيل تذكُرُ "خُطاةً وعَشَّارِين." هذا لا يعني
أنَّ العشَّارينَ لم يكُونُوا خُطاةً. بل يعني أنَّ العشَّارينَ كانُوا طبقَةً
مُمَيَّزَةً من الخُطاة بحدِّ ذاتِها. ولقد كَرِهَ الشعبُ اليهوديُّ العشَّارينَ
بشدَّة. ومن المُثيرِ للإهتِمام أنَّ يسُوعَ إختارَ عشَّاراً ليكُونَ واحداً من
الإثني عشر.

 

 الأسماء
الأربَعة الأخيرة على اللائحة هي أسماءٌ تتكرَّرُ في لائحةِ الإثني عشر. مثلاً،
كانَ هُناكَ سِمعان، بالإضافَةِ إلى سِمعان بطرُس. سِمعانُ الآخر هذا كانَ يُسمَّى
"الكَنعانِيّ" أو "الغَيُور." هذا يعني أنَّهُ كانَ نَقيضَ
رجُلٍ مثل متَّى. ولقد إنتَمَى إلى الغَيُورين، الذين كانُوا بمثابَةِ ميليشيا من
المُحارِبينَ الذين كانُوا يُقاوِمُونَ رُوما، رُغمَ أنَّ اليهودَ كانُوا يخضُعونَ
لرُوما. اليوم، قد نُسمِّي شخصاً مثل هذا بالثَّوريّ. يعتَقِدُ المُفسِّرونَ أنَّ
ثلاثَةً أو لرُبَّما أربَعَةً من الرُّسُل كانُوا من الغَيُورين.

 

 طالَما
تساءَلتُ عن أيَّة مُحادَثَة كانت تدُورُ بينَ سِمعان الغَيُور ومتَّى العشَّار –
هذا إذا كانا يتكلَّمانِ معَ بعضِهما البعض – بينما كانا يسيرانِ معَ يسُوع في
الجليل واليهُوديّة وأورشَليم والسامِرة. تصوَّر الدراما عندما أخبَرَ يسُوعُ
متَّى العشَّار وسمعان الغَيُور أن يغسِلا أرجُلَ بعضِهما البعض ويُحِبَّا
بعضُهُما البعض (يُوحنَّا 13: 34، 35).

 

 هُناكَ
يعقُوبٌ آخر في لائحةِ الإثني عشر، والذي يُدعَى "يعقُوب بنُ حَلفَى."
يعقُوبُ هذا يُشارُ إليهِ أيضاً "بيعقُوب الصغير"، الذي يعني أنَّهُ
كانَ أقصَرَ أو أصغَرَ عُمراً من الباقِين (مرقُس 15: 40). كانَ هُناكَ أيضاً
رجُلانِ على اللائِحة يجمِلانِ إسم يهُوَّذا. فهُناكَ "يهُوَّذا أخو
يعقُوب،" والذي يُدعَى أيضاً "تدَّاوُس" أو "لَبَّاوُس،"
وهُناكَ يهُوَّذا الإسخريُوطيّ الذي خانَ يسُوع. كانَ على التلاميذ أن يكرِزُوا
بالإنجيل ويُبَرهِنُوا ملكُوتَ الله من خِلالِ الآياتِ والمُعجِزات. كانَ عليهِم
أن يشفُوا المَرضَى، يُطهِّرُوا البُرص، يُخرِجوا شَياطِين، ويُقيمُوا المَوتَى.
كانَ عليهِم أن يكرِزُوا بالإنجيل ويُقدِّمُوهُ مجَّاناً للناس بدونِ أن يطلبُوا
أيَّ شيءٍ من أيٍّ كان، مُستَسلِمينَ للهِ ليَسُدَّ إحتِياجاتِهم، عائِشينَ
بالإيمان.

 

 حذَّرَ
يسُوعُ الرسُلَ بأنَّهُم لن يكُونُوا مَوضِعَ ترحيبٍ. حذَّرَهُم قائِلاً، "ها
أنا أُرسِلُكُم كغَنَمٍ في وسطِ ذِئاب." (متى 10: 16). كانَ يُحذِّرُهم
قائِلاً، "العالَمُ لن يُريدَ لكُم الخَير عندما تُطيعُونَ مأمُوريَّتِي
وتُطبِّقُونَ ستراتيجيَّتِي." ولا يزال هذاُ صحيحاً اليوم.

 

واجِبٌ
دِراسِيّ

 لا
بُدَّ أنَّكُم ستستنيرونَ وتتبارَكُون إذا أجبتُم على هذه الأسئلة السِّتَّة عن
هؤلاء الرِّجال الإثني عشَر، الذين قضى معهُم يسُوعُ ثلاثَ سني خدمتِهِ العلنيَّة،
والذين إستَودَعَهم رسالتَهُ إلى هذا العالم:

 

 ماذا
كانَ يعمَلُ هذا الشخص عندما إلتَقى بِيَسُوع؟

 كيفَ
تغيَّرَ هذا نتيجَةً للِقائِهٍِ معَ يسُوع؟

 أينَ
كانَ هذا التلميذ عندما مات؟

 من
خِلالِ ما تستطيعُ تعلُّمَهُ من كلمةِ اللهِ ومصادِر أُخرى، كيفَ ماتَ؟

 لماذا
اختارَ يسُوعُ هذا الشخص بالتحديد ليَكُونَ رسُولاً؟

 لقد
طالَبَ يسُوعُ بمُستوىً رفيعٍ من الإلتِزام عندما قدَّمَ الدَّعوَةَ على قِمَّةِ
الجبل، لأنَّهُ عرفَ أنَّ هؤلاء الرُّسُل سوفَ يتألَّمُونَ ويمُوتُونَ من أجلِه.
فما هُوَ مُستَوى الإلتِزام الذي إتَّخذتَهُ أنتَ تِجاهَ يسُوع؟ وهَل أنتَ تلميذهُ
الحقيقيّ؟ وهل ترغَبُ بأن تتَّخِذَ إلتزاماً ليسُوع مثل الإلتِزام الذي يظهَرُ
مِثالُهُ في حياةِ الرُّسُل؟

 

الفَصلُ
العاشِر

 أمثالُ
يسُوع في إنجيلِ متَّى

 يُعتَبَرُ
الإصحاحُ الثالِث عشر من إنجيلِ متى إصحاح الأمثال العظيم في هذا الإنجيل. إنَّ
كَلِمَة "مَثَل" (باليُونانِيَّة = بارابَالُّو) تشتَقُّ من كَلِمتَينِ
يُونانِيَّتَين. الكَلِمة "بارا" تعني "إلى جانِب". والكَلمة
اليُونانيَّة "بالُّو" تعني "إلقاءَ الشيء." وهذه الكلمة هي
نفسُها التي استُخدِمَت في اللغاتِ الأُورُوبِيَّة للإشارَةِ إلى الطابَة التي
نُلقِيها بعيداً. فالمَثَلُ هو قصَّةُ نُلقِيها إلى جانِب الحقيقَةِ التي نُحاوِلُ
تعليمَها. وكانَ يسُوعُ بارِعاً في إستخدامِ الأمثال.

 

 كانت
هُناكَ مرحَلَةٌ في خدمتِهِ علَّمَ فيها فقط بأمثال. والسببُ هوَ أنَّ السُّلطات
ما كانت لتُلقِيَ القبضَ عليهِ لمُجرَّد كونِهِ يحكي قِصَصاً لا يفهمُوها. فقط
أُولئكَ الذين كانَ لهُم الرُّوحُ القُدُس ليُعلِّمَهُم، إستطاعوا أن يفهَمُوا
أمثالَ يسُوع. الإصحاحُ الثالِث عشر هو إصحاحُ الأمثال والقصص في إنجيلِ متى. وبما
أنَّ هذه دِراسَةٌ ومُقدِّمَةٌ لإنجيلِ متَّى، سوفَ يكُونَ لديَّ الوقتُ فقط لكَي
أُعرِّفَكُم على مفهُومِ المَثَل، ولأُعطِيَ بعضَ النماذِج عن الأمثال التي علَّمَ
بِها يسُوع.

 

 يبدَأُ
يسُوعُ بمَثَلِ الزَّارِع. يخرُجُ الزَّارِعُ ويزرَعُ البُذُورَ في حقلِهِ. يأخُذُ
الزَّارِعُ البُذُورَ من جُعبتِهِ ويبذُرُها في الحقل. فتسقُطُ بعضُ البُذُورِ على
أرضٍ يابِسة كونَها طريقاً داستَها أرجُلُ المارَّة. فتبقى هذه البُذُورُ على سطحِ
الأرض، غيرَ قادِرَةٍ على إختِراقِ التُّربَة، فتأتي الطُيُورُ وتأكُلُها.

 

 وبعضُ
بُذُورِ الزارِع سقطَت على أرضٍ طريَّة، فمدَّتِ البُذُورُ جُذُورَها في التُّراب،
ولكن تحتَ سطحِ التُّربَة كانَ هُناكَ صخرٌ. فاصطدَمَتِ الجُذُورُ بالصخرِ
وإرتدَّت إلى فوق. وعندما أشرَقَتِ الشمسُ، إحتَرَقتِ النبتاتُ التي أنتَجتها
تِلكَ البُذُور، فلم تأتِ بِثَمَر.

 

 وسقطَ
بعضُ البُذُورِ على أرضٍ جيِّدَةٍ عميقة، رطبة، فمدَّتِ البُذُورُ جُذُورَها. ولكن
عندما أفرخت النبتاتُ ونمَت، إلتَفَّ حولها الشوكُ فخنقَها فلم تأتِ بِثمرٍ أيضاً.

 

 وآخِرُ
بُذُورِ الزَّارِع سقطَت على أرضٍ جيِّدَةٍ لم يكُن فيها أيَّة مشاكِل تحتَ السطح.
فأنتَجَت هذه البُذُورَ الثِّمارَ؛ بعضُ ثلاثين، وبعضٌ ستِّين؛ وبعضٌ مئة ضعف من
كمِّيَّةِ البُذُورِ التي زُرِعَت؟

 

 عندما
نقرَأُ هذا المَثَل لأوَّلِ مرَّةٍ، نتَّفِقُ على أن نُسمِّيَهُ "مَثَل
الزَّارِع." ولَكِن عندما ندرُسُ هذا المثلَ بعِنايَة، قد نظُنُّ أنَّهُ
ينبَغي أن يُسمَّى "مثل البُذُور." لأنَّ "البذُورَ هي
الكلمة،" لِهذا فإنَّ هذا المثل هو تعليمٌ عميقٌ عن كلمةِ الله وعنِ القضايا
التي تحدُثُ عندما يُكرَزُ ويُعلَّمُ بِكَلِمَةِ الله. "فانظُرُوا كيفَ
تسمَعُون" كَلِمَةَ الله: هكذا يُطبِّقُ لُوقا معنى هذا المَثل (لُوقا 8:
18).

 

 بعدَ
أن علَّمَ يسُوعُ هذا المَثَل، عندما كانَ وَحيداً معَ الرُّسُل، سألُوهُ عن
المَثَل ففَسَّرَهُ لهُم. قالَ لهُم أنَّ بِذارَ الزارِع هي كلمة الله، وأربَعة أنواع
التُّربَة تُشيرُ إلى أربعةِ طُرُقٍ يتجاوَبُ بها الناسُ معَ كَلِمَةِ الله.

 

 عندَما
نقرَأُ تفسيرَ الرَّبّ للمَثَل، نُدرِكُ أنَّ عُنواناً أفضَل يُمكِن أن يُعطَى
لهذا المثل هو، "مثل أنواع التُّربَة." وبينما نتأمَّلُ في كَونِ المثل
يُركِّزُ على كيفيَّةِ تجاوُبِ الناس معَ كلمةِ الله، نُدرِكُ أنَّ أفضَلَ عُنوانٍ
مُمكِن أن يُعطى لهذا المثل هو، "أربَعُ طُرُقٍ لِسَماعِ كَلِمَةِ
الله،" لأنَّ هذا المَثَل يُبرِزُ أربَعَ طُرُقٍ يتجاوَبُ بها الناسُ معَ
كلمةِ الله التي يسمَعُونَها.

 

 فعِندَما
تُقدَّمُ الكَلِمة، النَّوعُ الأوَّلُ من الناس هو الذي لا يفهَمُ حتَّى الكلمة؛
لأنَّ ذهنَهُ وفهمَهُ قاسٍ لا يُختَرَق، ولِهذا لا يأتي بِثَمَر.

 

 النَّوعُ
الثاني هو الذي يفهَمُ الكلمة التي تختَرِقُ ذهنَهُ، ولكنَّ التُّربَةَ المُحجِرَة
الصخريَّة التي تمنَعُ البُذُورَ من مدِّ جُذُورِها إلى عُمقِ الأرض تُشيرُ إلى ما
يُسمِّيهِ يسُوعُ في مكانٍ آخر "القَلب المُتَقَسِّي." هذا يُشيرُ إلى
إرادة هذا النوع من الناس، التي لا تُختَرَقُ، وإلى إلتزامِهم السَّطحِيّ. إنَّهُم
يُؤمِنُونَ بالكَلِمة، وعندما تأتي الضيقاتُ والإضطِّهادات، يسقُطُونَ بسُرعَةٍ
ويتدهوَرُونَ، فلا يأتُونَ بِثَمَر.

 

 النَّوعُ
الثالِثُ من الأشخاص هو أولئكَ الذين لا يُزعِجُهُم شيءٌ تحتَ الأرض، أي في
حياتِهم، مثل قُدرتِهم الذهنيَّة على الفهم أو إلتِزامِهم الإرادِيّ. ولكن
تهزمُهُم قُوىً أُخرى فوقَ التُّراب، أي خارِج حياتِهم، مثل غُرور الغِنى، وما
يتبَعُهُ من مَلَذَّات. وقد تهزِمُهم أيضاً هُمُومُ هذا العالم، أو السعي وراءَ
الثَّروة التي يملِكُونَها أو يسعُونَ لإمتِلاكِها. في هذا المثَل، تبدُو هذه
العقباتُ بشكلِ الأشواك التي تخنُقُ النبتة التي تُريدُ الكلمة غرسَها في تُربَةِ
حياتِهم. هذا النَّوعُ الثالِثُ هُوَ أيضاً لا يأتِي بِثَمَر.

 

 قد
نستطيعُ القَول أنَّ الشخصَ الأوَّل هو من يرتَدي "قُبَّعَةً قاسِية."
والثاني هو من لديهِ "قلبٌ قاسٍ." والثالِثُ هو الذي تُلهيهِ
"الإختِيارات القاسِيَة."

 

 النَّوعُ
الرابِعُ يُشيرُ إلى الطريقة التي يُريدُنا يسُوعُ أن نتجاوَبَ بِها عند سماعِنا
لكلمةِ الله. فليسَ هُناكَ تحتَ الأرضِ ولا فوقَها ما يُعيقُ النُّمُوَّ والإتيان
بالثمَر. وهذا يُشيرُ إلى الشخص الذي يُقرِّرُ أن لا يسمَحَ لأيِّ شيءٍ في
حياتِهِ، مثل عقلِهِ أو إرادتِهِ العنيدة، أن يمنَعَهُ عن الإتيانِ بالثمر. وهُوَ
يُقرِّرُ أيضاً أن لا شيءَ في هذا العالم، ولا قُوَّة خارِج حياتِهِ ستَقِفُ
عائِقاً بينَهُ وبينَ إتمامِ مقاصدِ الله بإعطائهِ كلمة الله.

 

 يَصِفُ
لُوقا هذا النَّوع من الناس كالتالي: "والذي في الأرضِ الجَيِّدَة هُوَ الذين
يسمَعُونَ الكَلِمة فَيَحفَظُونَها في قَلبٍ جَيِّدٍ صالِح ويُثمِرُونَ
بالصَّبر." (لُوقا 8: 15) ويَصِفُ لُوقا جوهَرَ المثل بالكلماتِ التالِيَة:
"فانظُرُوا كيفَ تسمَعُونَ كَلمةَ الله" (8: 18).

 

 إنَّ
حقيقَةَ هذا المَثل العَميق هي واضِحَةٌ جداً لِكُلِّ من يُعلِّمُ أو يَعِظُ
بِكَلِمَةِ الله. عندما تُعلَّمُ كَلِمَةُ اللهِ أو يُكرَزُ بِها، نجدُ أمامَنا
دائماً هذه الأنواع الأربَعة من النَّاس، ويستطيعُ الواعِظُ أو المُعلِّمُ أن
يُشيرَ إليهِم ويُميَّزَهم بِوُضُوح.

 

 جميعُ
أُولئكَ الذين يسمَعُونَ ويُعلِّمُونَ بكلمةِ الله عليهم أن يُفكِّرُوا مَلِيَّاً
بهذا المَثَل، عندما يسمَعُونَ أو يُعلِّمُونَ كلمةَ الله. أوَّلاً، علينا أن
ننظُرَ إلى تُربتِنا. أيّ نوع من التُّربَة تستقبِلُ كلمةَ اللهِ في قُلوبِنا؟ وهل
نسمَحُ لكلمةِ اللهِ أن تحمِلَ ثمراً؟ وهل نحنُ مُثمِرُونَ جداً (100 %) أم أنَّنا
لا نُؤتي إلا القليلَ من الثِّمار (30 %)؟ ثانِياً، أولئكَ الذين يُعلِّمُونَ
الكلمة ينبَغي أن يكُونُوا واعِينَ للحقيقَةِ القاسِيَة، أنَّ التعليمَ أو الوعظ
بكلمةِ الله لن يكُونَ مُثمِراً إلا إذا فَهِمَ أُولئكَ الذي يتعلَّمونَ الكلمة
معنى هذه الكلمة التي يسمَعُونَها.

 

 علينا
أن نُدرِكَ أنَّ تعليمَنا ووعظَنا سيكُونانِ بِلا ثَمَر، إلا إذا إختَرَقَ
تعليمُنا ووعظُنا إرادَةَ السامِعين. لِذلكَ عندما نُعلِّم، عَلينا أن نُعلِّمَ
بِبَساطَةٍ بشكلٍ كافٍ ليختَرِقَ تعليمُنا فهمَ السامِعين. وعلينا أن نقودَ
تعليمنا ووعظَنا بِروحِ الصلاة ليَصِلَ بالسامِعينَ إلى قرارٍ، عندما يختَرِقُ
الرُّوحُ القُدُس إرادَتَهُم.

 

 فالتحدِّي
الذي يُوضَعُ أمامَنا هُنا في هذا المَثَلِ العظيم ليسَ أن نُنتِجَ "خُبراءَ
في الكتابِ المقدَّس" يعرِفُونَ الكتابَ بشكلٍ مُعمَّق، بل بأن نُنتِجَ
تلاميذَ مُلتَزِمينَ بالرَّبّ، يُطبِّقُونَ الكلمة التي إختَرَقت عُقولَهُم
وإراداتِهم. لِهذا، علينا بكُلِّ بساطَةٍ أن نسمَعَ، نُعلِّمَ، ونعِظَ بالكلمة،
مُصلِّينَ لِكَي يفتَحَ الرُّوحُ القُدُسُ الأعيُنَ الرُّوحيَّة عند الذين
يسمَعُونَنا، لكَي يفهَمُوا ويُطيعُوا كلمةَ الله. علينا أن نُصَلِّي لِكَي يُعطيَ
الرَّبُّ لنا ولأُولئكَ الذين يسمَعُونَنا عَطِيَّةَ الإيمان، والإرادَةَ للعمَلِ
بالكلمة، لكَي تُثمِرَ هذه الكَلمةُ فينا (يُوحنَّا 7: 17؛ فيلبِّي 2: 13).

 

 علينا
أيضاً أن نعتَمِدَ على الله لكَي يُعطِيَنا نحنُ والذين يسمَعُونَنا القُوَّةَ
للتغلُّبِ على تِلكَ القُوى في هذا العالم، التي تهدِفُ بِشتَّى الوسائِل إلى
جعلِِ سماعِنا وتعليمِنا ووعظِنا للكلمة غير مُثمِر. وحدَهُ اللهُ يستطيعُ أن
يعمَلَ هذه الأُمُور. لهذا عندما ندرُسُ ونُعلِّمُ ونخدمُ الكلمة، ينبَغي أن
تترافَقَ "الصلاةُ وخدمة الكلمة؛" الإثنانِ معاً (أعمال 6: 4).

 

مَثَلُ
الحِنطَة والزُّوان (متَّى 13: 24- 30؛ 36- 42)

 إنَّ
هذا المَثَلَ الصغير العميق، بالإضافَةِ إلى تفسيرهِ، يُشكِّلُ تعليماً هاماً جداً
من تعاليمِ يسوع، لأنَّهُ جوابُهُ على سُؤالٍ حيَّرَ اللاهُوتيِّين والفلاسِفة
منذُ وُجِدَ علمُ اللاهُوت والفلسفَة. هذا السُّؤالُ هُوَ:"من أينَ أتى
الشَّر؟" أو بِكلماتٍ أُخرى، "كيفَ يُمكِنُنا أن نفهَمَ وُجودَ الشَّرِّ
في عالَمٍ مُخلوقٍ ومُسَيَّرٍ من قِبَلِ إلهٍ مُحِبٍّ قادِرٍ على كُلِّ شيء؟"

 

 إنَّ
جوابَ يسُوع المُعبَّر عنهُ بمَثَل هُوَ، "هُناكَ عدوٌّ مُعيَّنٌ لي قد فعلَ
هذا، بينَما النَّاسُ نِيام." إنَّ أصلَ الشَّرّ يرجِعُ إلى
"عدُوِّي"، وكذلكَ إلى إهمالِ الإنسان. إنَّ تفسيرَ يسُوع هذا لربَّما
كانَ مصدَرَ الوحي لشخصٍ كتبَ التالي: "إن كُلَّ ما يَلزَم لكَي ينتَصِرَ
الشَّرُّ على الخير هو أن لا يعمَلَ الأبرارُ شيئاً."

 

 في
هذا المثَل، "البُذُور" ليسَت كلمة الله التي تقَعُ على تُربَةِ حياةِ
النَّاس، بل البُذُورُ هي أبناءُ المَلكوت الذينَ يُزرَعونَ في أرضِ هذا العالم.
قد لا نفهَمُ هذا، ولكنَّ عندما نقبَلُ حقيقَةَ الشَّرّ، يُصبِحُ التحدِّي: ماذا
سنفعَلُ حِيالَ هذه المُشكِلة؟ "الحَقلُ هُوَ العالم،" بحَسَبِ قولِ
يسوع، وهذا يجعَلُنا نُفكِّرُ بأمرٍ شغلَ بالَهُ وتكلَّمَ عنهُ دائماً. فلقد سبقَ
وطلبَ من تلاميذِهِ أن يُصلُّوا لَكي يُرسِلَ اللهُ فعلَةً إلى كَرمِهِ، لأنَّ
الحَصادَ كثيرٌ والفعلةَ قليلون (متَّى 9: 37، 38).

 

 لقد
فَهِمَ جُونَ وِسلي وُجهةَ نظر المسيح هذهِ، وتنبَّاها عندما قالَ، "العالَمُ
هُوَ أبرَشِيَّتِي." علينا أن لا نفقُدَ رُؤيةَ حقيقَةِ أنَّ "الحَقل
هُوَ العالم،" وليسَ فقط الزاوِيَة الصغيرة من ذلكَ الحقل حيثُ نعمَلُ نحنُ.
علينا أن نتحلَّى دائِماً بِرُؤيا عالَميَّة، وأن نقبَلَ التحدِّي بكونِ الخَيرِ
والشرِّ كِلَيهِما يتواجَدانِ معاً في عالمِنا.

 

مَثَل
حبَّة الخَردَل والخميرة (متَّى 13: 31- 33)

 إنَّ
هذين المَثَلَين المُقتَضَبَين قد تحقَّقا عبرَ تاريخِ الكنيسة. يُعَلِّمُنا هذان
المَثلانِ الصغيران أنَّ الملكوت الذي غالِباً ما تكلَّمَ عنهُ يسُوعُ سوفَ يبدَأُ
صغيراً، مثل حبَّة الخردَل الصغيرة جداً، والتي تُصبِحُ شجرَةً كبيرةً، ومِقدارُ
الخميرة التي تُوضَعُ في العجين عندَ صِناعَةِ الخُبز، والتي تتَسرَّبُ عبرَ
الخُبزِ وتجعَلُهُ ينتَفِخ.

 

 ولكن
في هذين المَثَلَين، يتنبَّأُ يسُوعُ أنَّ هذا الملكوت سوفَ ينمُو بِشكلٍ غير
إعتِيادِي كما تنمُو حبَّةُ الخردَل، وسيكُونُ لهُ تأثيرٌ عجيب يُشبِهُ تأثيرَ
الخميرِ في العجين. بعدَ ألفي عام، لا يزالُ هذا العالمُ يُؤرِّخُ الأحداث ما قبلَ
وما بعدَ حياة هذا الشخص الفريد الذي يُدعى يسوع، بسبب تأثيرِهِ العجيب.

 

 إنَّ
مبدَأَ الخميرة وحبَّة الخردَل لا يزالُ يعمَلُ اليوم. فعندَما نتأمَّلُ في
نُمُوِّ الكنيسة، حتَّى في أماكِن سادَ فيها الإضطِّهادُ، نرى تحقُّقَ هذين
المثلَين بحذافِيرِهما.

 

 ومثلَ
مثل الزَّارِع، الطُّيُورُ التي تتآوى في أغصانِ هذه الشجرة، هي رمزٌ سَلبِيٌّ
يُصوِّرُ الجُموع المُختَلَطة التي لا تنتَمِي للمَلَكُوت، رُغمَ إعتِرافِها
الإسمي بكونِها في الملكوت. إنَّ القصدَ الرئيسيّ من هذا التعليم، كما أعتَقِدُ،
هو النُّمُو والإنتِصارُ النِّهائيُّ للملكوت، وتأثيرُ أبناءِ وبناتِ الملكوت.

 

 ورُغمَ
أنَّ الخميرةَ تُشيرُ في أماكِنَ أُخرى في الكتابِ المقدَّس إلى الشَّر، ولكنَّها
لا تُشيرُ إلى الشَّرِّ في هذا المَثَل، بَل تُشيرُ إلى حُضُورِ وتأثيرِ
المَلَكُوت في هذا العالم. ولو كانت الخميرَةُ تُشيرُ إلى الشَّرِّ في هذا
المَثَل، عندها يكُونُ تعليمُ هذا المَثَل هو فساد الملكوت كُلِّيَّاً، الأمرُ
الذي لا ينسَجِمُ معَ تشديدِ كلمةِ الله فيما يتعلَّقُ بإنتِصارِ الخَيرِ على
الشَّرّ في النهايَة، وإنتِصارِ اللهِ على الشيطان، وإنتِصارِ المسيح كَمَلِكِ
المُلوك ورَبِّ الأرباب.

 

مَثَلا
الكَنـز واللُّؤلُؤة (متَّى 13: 44- 46)

 إنَّ
هذين المَثَلَين المُوجَزَين واللذَين يأتِيانٍ معاً كَتوأمَين، هُما صُورَةٌ
جميلَةٌ عن الإلتزام الكُلِّي السعيد للملِك ولِمَلَكُوتِه. وهُما يقُولانِ لنا،
"إن كانَ يسُوعُ المسيحُ يعني أيَّ شيءٍ بالنسبَةِ لكَ، عندها يكُونُ يسُوعُ
المسيحُ هُوَ كُلُّ شيءٍ بالنسبَةِ لكَ، لأنَّهُ إن لم يُصبِحْ يسُوعُ المسيحُ
كُلَّ شيءٍ لكَ، عندها يكُونُ لا يعني لكَ شيئاً."

 

 فنحنُ
لا نرى فِعلاً الملكوت الذي يُعلِّمُ عنهُ يسُوع، إلى أن نرى أنَّ هذا المَلَكُوت
هُوَ أعظَم شيء رأيناهُ في حياتِنا. إنَّ ملكوتَ السماوات يستَحِقُّ منَّا كُلَّ
إلتزامٍ بِسعادَةٍ وفَرَح. إنَّ هذين المَثَلَين يُعلِّمانِنا أنَّنا لن نفهَمَ
بِحَقّ ولن نَقدُرَ بِحَقّ الملكوت إلى أن نرغَبَ بفَرَح أن نبيعَ كُلَّ ما لنا
وأن نتخلَّى عن كُلِّ ما لنا من أجلِ المَلِك الذي يقودُ الملكوت.

 

مثَل
الغُفران (متَّى 18: 15- 35)

 إنَّ
الإطارَ الذي يُقدَّمُ فيهِ هذا المَثَل هو تعليمٌ عن الغُفرانِ للأخ. سألَ بطرُس
كم مرَّة عليهِ أن يغفِرَ لأخيهِ الذي يُخطِئُ إليه. الوَضعُ التقليدِيُّ في تِلكَ
الأيَّام كانَ أن تغفِرَ لأخيكَ سبعَ مرَّاتٍ في اليَوم، ولهذا ذكرَ بطرُس
المرَّات السَّبع. كانَ تعليمُ يسُوع أنَّ غُفرانَكَ لأخيكَ ينبَغي أن يكُونَ
غَيرَ محدُود. المعنَى الحقيقيّ هو "سبعينَ مرَّةً سبعَ مرَّات،" الذي
سيكُونُ عدداً غيرَ محدُودٍ من المرَّاتِ كُلَّ يَوم. ويأتي المَثَلُ التالي
ليُعبِّرَ عن كمِّيَّةِ هذا الغُفران الذي يتكلَّمُ عنهُ يسُوع.

 

 إنَّ
الدَّينَ الكَبير الذي سُومِحَ بهِ المَديُون يُشيرُ إلى غُفرانِ خطايانا الكثيرة
عندما نختَبِرُ الخلاص. إنَّ خلاصَنا يعني إلغاءَ دُيُونِنا أو غُفران كُلّ خطيَّة
إقتَرَفناها.

 

 إنَّ
هذا المَثَل هو مُلحَقٌ هامٌّ لصلاةِ التلاميذ. لقد علَّمنا يسُوعُ أن نطلُبَ أن
نُسامَحَ بِدُيُونِنا كما نُسامِح مَديُونِينا. ولقد أتبَعَ يسُوعُ هذا التعليم
عنِ الصلاة بتعليقٍ مُخيف يقول أنَّنا إن لم نغفِر للنَّاس زلاتِهم لن يغفِرَ لنا
أبُونا السماوِي زلاتِنا.

 

 يُختَمُ
هذا المَثَلُ بمثلِ هذا التعليق. فإنجيلُ الخلاصِ يُعلِنُ قائلاً، "عندما
ماتَ يسُوعُ على الصليب، دفعَ ديناً لم يكُنْ هُوَ المسؤول عنهُ، لأنَّنا كُنَّا
نرزَحُ تحتَ دَينٍ لا نستطيعُ إيفاءَهُ." فنحنُ لا يُغفَرُ لنا لأنَّنا
نغفِرُ للآخرين. بل نحنُ نُبَرهِنُ أنَّنا فِعلاً آمنَّا أنَّنا تمتَّعنا
بالغُفران عندما نغفِرُ للآخرين. علينا بِبساطَة أن نغفِرَ للآخرين، كما غفرَ
اللهُ لنا من أجلِ المسيح (أفسُس 4: 32؛ كُولُوسي 3: 12، 13).

 

مَثَلٌ
عنِ الوَزَنات (متَّى 21: 23، 28 – 31)

 يُعتَبَرُ
هذا واحِداً من أكثَرِ أمثالِ المسيح إثارَةً للإهتِمام. عندما صارَ اللهُ إنساناً
وجاءَ إلى هذا العالم، الأمرُ الذي يُعطي قيمَةً كُبرى للوَزَنات، أصبَحَ إنساناً
بدُونِ وَزناتٍ باستثناءِ أعمالِهِ. واحدٌ من الفُرُوقاتِ المُتعدِّدَة بينَ يسوع
والفَرِّيسيِّين هو كونهُ أولى للأعمالِ قيمةً أكبر جداً من القيمَةِ التي أولاها
للأقوال. أمَّا الفرِّيسيُّونَ فكانت أولويَّتُهم عكس أوليَّة المسيح. هذا
الإختِلافُ هُوَ جوهَرُ هذا المَثَل الصغير.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد قديم سفر إرميا أوريجانوس 51

 

 لقد
إعتَرَفَ الإبنانُ في هذا المَثل بأمرٍ مُعَيَّن، ولكنَّهُما فعلاً أمراً آخَر.
لِهذا كانَ إعتِرافُهما بدُونَ معنىً، وشكَّلَ عملُهُما قيمتَهُما الحقيقيَّة.
التطبيقُ الذي كانَ واضِحاً لدى رِجالِ الدِّين كانَ أنَّ كُلاً من يسُوع
ويُوحنَّا المعمدان لم يكُن لديهما أيُّ سُلطانٍ يعتَرِفُ بهِ العالمُ الدينيُّ
المعرُوفُ في زمانِهما. فبِعُرفِ أقوالِهما، لم يُعرِّفا عن أنفُسِهما أنَّهما
أبناء الله اللَّذَينِ يعمَلانِ في كرمِِ الله. ولكن بِعُرفِ أعمالِهما، كانَ
واضِحاً أنَّ كُلاً من يسُوع ويُوحنَّا المعمدان كانا في الكَرمِ، وكانا يعمَلانِ
عملَ الآب.

 

 من
جِهَةٍ أُخرى، كانَ رجالُ الدِّينِ جميعاً رجالَ أقوالٍ لا رجالَ أعمال.
فبإثوابِهم وعمائِمهم وإمتِيازاتِهم كانُوا يقولونَ أنَّهُم أبناءُ اللهِ وأنَّهُم
يعمَلُونَ في كَرمِهِ. ولكن إستِناداً إلى أعمالِهم، كانَ واضحاً أنَّهُم لم
يكُونُوا في كرمِ الآب، ولم يكُونُوا يعمَلُونَ عملَهُ.

 

 عندَما
سُئِلَ يسُوعُ عن أوراقِ إعتِمادِهِ، أو بأيِّ سُلطانٍ يعمَلُ ويُعلِّم، كانَ هذا
المَثَلُ جوابَهُ العميق. كانت أعمالُهُ هي أوراقُ إعتِمادِه. ونحنُ نَغُشُّ
أنفُسَنا إلى أن نُدرِكَ أنَّ أعمالَنا، وليسَ أقوالَنا، هي أوراقُ إعتِمادِنا
الحقيقيَّة. هُناكَ حوالي مَليُونَي راعي كنيسة في هذا العالَمِ اليوم، ولكن أقَلّ
من مائة ألف منهُم يحمِلُونَ شهاداتٍ في اللاهُوت. هذا يعني أنَّ أكثَريَّةَ
الرُّعاة في هذا العالَمِ اليَوم يحتاجُونَ أن يسمَعُوا مَثَلَ يسُوع هذا. وما
يتبعُ هو بمثابَةِ تعليقٍ على هذا المَثَلِ العَميق.

 

حَياةٌ
مُستَوحِدَة

 "وُلِدَ
في قَريَةٍ مَجهُولَة، وكانَ إبنَ إمرأةٍ مُزارِعة. عمِلَ في مَحَلِّ نِجارَةٍ
مُتواضِع، إلىأن أصبَحَ في الثلاثَين من عُمرِهِ، وبعدَ ذلكَ ولمُدَّةِ ثلاثِ
سنواتٍ تجوَّلَ في بِلادِهِ، مُتوقِّفاً هُنا وهُناك لِكَي يتكلَّمَ معَ النَّاس
ويُصغِيَ إليهِم، ويُساعِدَهُم حيثُ أمكَنَ ذلكَ.

 

 "لم
يكتُبْ كِتاباً، لم ينظُم معزُوفَةً مُوسيقيَّة، لم يدرُسْ في جامِعة، لم يسعَ
وراءَ وظيفَةٍ عامَّة، لم تكُن لديهِ عائِلة، ولم يملِكْ منـزلاً. لم يفعَلْ شيئاً
من الأُمور التي تُساهِمُ في العظَمَة. لم تكُن لديهِ أيَّة أوراق إعتِماد أو
سُلطة إلا نفسه.

 

 "عندما
كانَ في الثالِثَةِ والثلاثِينَ من عُمرِه، تحوَّلَ الرَّأيُ العامُّ ضِدَّهُ،
ورفضَهُ أصدِقاؤُهُ جميعاً. عندما أُلقِيَ القَبضُ عليه، قلَّةٌ من الناس فقط
أرادُوا أن يتعرَّفُوا عليه. وبعدَ مُحاكَمَةٍ غيرِ عادِلَة، نُفِّذَ فيهِ حُكمُ
الإعدام من قِبَلِ الحُكومَة إلى جانِبِ لُصُوص. ولو لم يتقدَّم أحدُ أصدِقائِهِ
الكُرَماء بوضعِ جسدِهِ في مقبَرتِهِ الخاصَّة، لما كانَ هُناكَ مكانٌ لدفنِه.

 

 "كُلُّ
هذا حدَثَ منذُ عشرينَ قرناً، ورُغمَ ذلكَ لا يزالُ هو الشخصيَّةَ القِيادِيَّة
الأكثَر أهمِّيَّةً في التاريخ البَشَريّ، ومِثالُ المحبَّةِ المُطلَقَة. فليسَ من
المُبالَغَةِ الآن القَول أنَّ كُلَّ الجُيُوشِ الجرَّارَةِ التي زحَفت، وكُلَّ
الأساطيل التي أبحَرَت، وكُلَّ الحُكَّام الذين سادُوا على الأرض، إذا وضعناهُم
معاً مُجتَمِعين لم يُؤثِّرُوا على حياةِ الإنسانِ على الأرض كما أثَّرَت عليها
حياةُ هذا الإنسان الوَاحِد المُستَوحِد."

 

مَثَلُ
أحدِ الشَّعانِين (متَّى 21: 33- 46)

 ملايين
النَّاس يعرِفُونَ أنَّ يسُوعَ دَخَلَ إلى أُورشَليم راكِباً على جحشٍ صغير في
أَوَّلِ أحدِ شعانين. هل سبقَ وقرأتَ ما فعلَهُ يسُوعُ عندَما نـزلَ عن ذلكَ
الجحش؟ لقد حضَّرَ يسُوعُ خلفِيَّةً لهذا المثل الرهيب بِلَعنهِ التِّينَة
وتطهيرِهِ للهَيكَل. ولقد وصلَ هذا المثَلُ بالحِوارِ بينَ يسوع وهؤلاء القادة
الدينيِّين إلى قِمَّةِ العداوَة.

 

 إنَّ
مُحتَوى المَثَل هو صُورَةٌ عن إرسالِ اللهِ لأنبِيائِهِ (خُدَّامِهِ) ليطلُبُوا
ثِمارِ المَلكُوت. عندما يُعامَلُ هؤُلاءُ الخُدَّامُ بطريقَةٍ شائِنة، يُرسَلُ
إبنُ صاحِبِ الكَرم لكَي يطلُبَ ثمرَ كَرمِ أبيهِ. إنَّ صاحِبَ الكَرمِ يظُنُّ
أنَّهُم سيحتَرِمُونَ إبنَهُ، ولكن بدَلَ أن يحتَرمُوه، قتَلُوه. بالطبع، يسُوعُ
هُوَ الإبنُ في هذا المَثَل، وهؤلاء القادَة الدينيِّين يتآمَرُونَ لقتلِهِ في
تِلكَ اللحظة.

 

 إحدَى
أقسى الكلمات التي نطَقَ بها يَسُوعُ نجِدُها في خاتِمَةِ هذا الإصحاحِ الطَّويل،
حيثُ يستَخدِمُ يسُوعُ صُورَةً مَجازِيَّةً ليُطبِّقَ هذا المثل على رِجالِ
الدِّينِ اليَهُود. فهُوَ يستَخدِمُ هذه الصُّورَة المجازِيَّة لكَي يُعلِمَ رِجال
الدِّين اليهُود، أنَّهُ بسبب عدم إتيانِهم بِثمارِ الملكوت، فإنَّ الملكُوتَ
سيُؤخَذُ منهُم ويُعطَى لِشعبٍ يصنَعُ ثِمارَ هذا الملكوت.

 

 هذا
ما نراهُ يحدُثُ حرفِيَّاً في سفرِ الأعمال، حيثُ تُصبِحُ الكنيسَةُ شعبَ اللهِ
المُختار (أعمال 10، 11). إنَّ الصُّورَةَ المجازِيَّةَ التي يُعلِّمُها هذا
المَثَل هي عندَما يفشَلُ شعبُ اللهِ بالوُقُوعِ على صخرةِ الإلتِزامِ بالمَسيح
وإختِبارِ الإنكِسارِ من أجلِهِ، ومن أجلِ مشيئتِهِ وعملِه، فإنَّ هذه الصخرة سوفَ
تقَعُ عليهم وتسحقُهم.

 

 تُشيرُ
شجرَةُ التِّينِ في كَلمَةِ اللهِ إلى شعبِ إسرائيل. وعندما نربُطُ الصُّورَةَ
المجازِيَّةَ في نِهايَةِ هذا الإصحاح بلَعنِ المسيح للتِّينَة، نُدرِكُ أنَّهُ
يَقُولُ لِرجالِ الدِّين في شعبِ إسرائيل أنَّ اللهَ الآب يعَمَلُ من خِلالِهِ نفس
الشيء الذي عمِلَهُ معَ الشعب في البرِّيَّة. إنَّ هذا الإصحاح الرَّابِع عشَر من
سفرِ العَدَد ينبَغي أن يكُونَ مُرتَبِطاً بهذا المَثَل المُثير للقَلق. لقد
برهَنَ اللهُ نفسَهُ بصبرٍ وطُولِ أناةِ لشعبِ إسرائيل في البَرِّيَّة، عشرَ
مرَّاتٍ، من خِلالِ المُعجِزات. وأعلَنَ أنَّهُم سيمُوتُونَ في البَرِّيَّة
لأنَّهُم لم يُؤمِنُوا ليجتاحُوا كنعان ويملِكُوا أرضَ المَوعِد.

 

 بِمَعنَىً
ما قامَ يسُوعُ بِطَردِ رِجالِ الدِّين اليَهُود عندما نقَلَ الملكوتَ منهُم في
يومِ دُخولِهِ إلى أُورشَليم أوَّلَ أحَدٍ للشَّعانِين. عبرَ تاريخِ الكنيسة،
تحقَّقَ مَثَلُ يوم الشعانين هذا لِعِدَّةِ مرَّاتٍ. يبدُو أنَّ اللهَ نقلَ
"مَركَز عَمَلِيَّاتِهِ" من الكنيسة في أماكِنَ مُعَيَّنَة من العالَم
حيثُ لم تعُدْ تُؤتي ثِمارَ الملكوت، إلى أماكِنَ أُخرى تُؤتي فيها الكنيسةُ
ثِمارَ الملكوت.

 

كيفيَّةِ
الإقتِراب من أمثالِ يسُوع

 هُناكَ
سبعَةٌ وأربَعُونَ مثَلاً في الأناجِيلِ الثلاثة المُتشابِهة النَّظرة. لقد
إختَرتُ بِضعَةَ أمثِلَة فقط، لكَي أُعَرِّفَكم على هذا المجال من تعليمِ يسوع في
إنجيلِ متَّى. وأُشجِّعُكُم أن تقُومُوا بِدِراسَةٍ خاصَّة ومُعمَّقَة لأمثالِ
يسُوع. وبينما تقومُونَ بِهذه الدِّراسَة، لدَيَّ بعضُ الأفكار عن كيفَ يُمكِنُ
الإقتِراب من هذه الأمثال، والتي أَوَدُّ أن أترُكَها معكُم:

 

 تذكَّرُوا
أنَّ المَثَلَ هُوَ قِصَّةٌ يُلقِيها مُعلِّمٌ إلى جانِبِ حقيقَةٍ يُريدُ أن
يُعلِّمَها. لقد كانَ يسُوعُ السيِّدَ المُطلَق بِدُونَ مُنازِع لهذا الأُسلُوب من
التعليم. عَلينا أن نبحَثَ عن الحقيقَة المَركَزِيَّة لكُلِّ مَثَلٍ من الأمثالِ
التي علَّمَ بِها يسُوع، لأنَّ أمثالَهُ أُلقِيَت عادَةً إلى جانِبِ حقيقَةٍ
مركَزيَّة.

 

 بينَما
نُحاوِلُ أن نُفسِّرَ أمثالَ يسُوع، من المُهِمِّ أن نفهَمَ إطارَ أو خلفِيَّةََ
كُلِّ مَثَل. لِهذا، عندما تدرُسُونَ أمثالَ يسُوع، عليكُم أن تطرَحُوا على
أنفُسِكُم هذه الأسئِلة: ماذا كانَ الإطار الذي فيهِ أُعطِيَ المَثَل؟ وأينَ
أُعطِيَ هذا المَثَل؟ ومتى أُعطِيَ هذا المَثل؟ ما هي الظُّرُوف والأفعال أو
رَدَّات الأفعال معَ النَّاس الذين إقتِيدُوا لتعليمِ هذا المثَل؟ لمن وُجِّهَ هذا
المَثَل؟ بِرأيكُم، ماذا كانَ هدَف يسوع من تعليمِهِ هذا المَثَل؟ ما هِيَ
الحقيقَةُ الأساسيَّةُ التي ألقَى يسُوعُ هذه القصَّة إلى جانِبِها؟ إذا أُعطِيَ
أيُّ تفسيرٍ من قِبَلِ يسُوع، إقبَلُوا هذا التفسير. وإلا، فسِّرُوا بتَواضُع.
يُمكِنُ أن يكُونَ للمَثَلِ تفسيرٌ واحِدٌ وعدَّة تطبيقات. إسألُوا أنفُسَكُم
"كيفَ يُريدُ اللهُ أن يُطبِّقَ هذا المثَل في حياتِنا وعائلاتِنا
وكنائِسنا؟"

 

الفَصلُ
الحادِي عشَر

"تعالِيمُ
يسُوع القَيِّمة في إنجيلِ متَّى"

 

دَعوَةٌ
أُخرى عظيمَة

 "تَعالَوا
إليَّ يا جَميعَ المُتعَبِين والثَّقِيليّ الأحمال وأنا أُريحُكُم. إحمِلُوا
نِيرِي عليكُم وتعلَّمُوا منِّي. لأنِّي وَدِيعٌ ومُتواضِعُ القَلب. فَتَجِدوا
راحَةً لنُفُوسِكُم. لأنَّ نِيري هَيِّن وحِملِي خفيف." (متى 11: 28- 30)

 

 كما
رأينا في خاتِمَةِ أعظَمِ عِظَةٍ من عِظاتِ يسُوع، أحَبَّ أن يصِلَ بتعليمِهِ إلى
قرار، وذلكَ بتقديمِهِ دَعوَةً تُعتَبَرُ واحِدَةً من أعظَمِ دَعَواتِه. إنَّها
مُوَجَّهَةٌ إلى جميعِ أولئكَ الذين لديهم أحمالٌ ثقيلَة، وهُم يُحاوِلُونَ
جاهِدينَ أن يحمِلُوا أحمالَهُم الثقيلَة بقوَّتِهم الذاتِيَّة، ولكن دُونَ جدوى.
وهكذا تُصبِحُ الأحمالُ أثقَلُ والأتعابُ لا تُحتَمَل. إنَّ الدعوَةَ هي للمجِيءِ
إلى المسيح، لِكَي نتحرَّرَ من أعبائِنا الثقيلة، ونجدَ راحَةً لنُفُوسِنا،
ونكتَشِفَ أنَّهُ من المُمكِن أن تكونَ الحياةُ سهلَةً، ومن المُمكِن لأحمالِهم أن
تكونَ خفيفَةً.

 

 في
البِدايَة يبدُو الأمرُ وكأنَّنا نأتي بِبساطَةٍ وهُوَ يُعطينا راحَةً من
أحمالِنا. ولكن، إذ نتأمَّلُ في هذه الدَّعَوة عن كَثَب، نُدرِكُ أنَّهُ يدعُونا
لنأتِيَ ونتعلَّمَ. نحنُ مَدعُوُّونَ لنتَعلَّمَ عن حِملِهِ، عن قَلبِهِ، وعن
نِيرِه.

 

 فليسَ
هُناكَ من كائِنٍ بَشَريّ كانَ لهُ حِملٌ أثقَل من الحِملِ الذي حمَلَهُ يسُوعُ في
هذا العالم. ورُغمَ ذلكَ نسمَعُهُ يقُولُ، "حِملِي خَفيف!" فإذا أردنا
أن نجِدَ راحَةً لنُفُوسِنا وأن نتحرَّرَ من أثقالِنا، فإنَّ الذي علَّمنا قائِلاً
بالطُّوبَى للوُدَعاء، يدعُونا لنتعلَّمَ عن قَلبِهِ الوديع المُتواضِع.

 

 ومن
ثَمَّ يدعُونا لنتعلَّمَ عن نِيرِه. فنحنُ مَدعُوُّونَ لنقبَلَ ترتيبات وأنظِمة
يسوع المسيح الرُّوحيَّة، وأن نحمِلَ النِّيرَ معَ المسيح كتلاميذٍ لهُ. إنَّ
مفِتاحَ فهم هذه الدَّعوَة هُوَ أن نُدرِكَ ما يعنيهِ عندما يدعُونا لنأخُذَ
"نيرَهُ" هذا في حَياتِنا.

 

 إنَّ
النِّيرَ ليسَ حِملاً، بل أداةٌ تُمكِّنُنا من إزاحَةِ حِملٍ ثقيل. تَصَوَّرُوا أن
هُناكَ عَرَبَةً مُحمَّلَةٌ بأثقالٍ، وأنَّكُم تُريدُونَ أن يجُرَّ ثَورٌ هذه
العَرَبة. ستُدرِكُونَ عندها القصدَ منَ النِّير. فالثَّورُ لا يتمتَّعُ
بالذَّكاءِ والإنضِباط ليُحرِّكَ العرَبَة بِرأسِهِ، ولكن يُمكِن أنَ نضعَ لهُ
نيراً ليَجُرَّ بهِ هذا الحِمل. فالنِّيرُ هُوَ أداةٌ تُمكِّنُ الثَّورَ بأن
يعمَلَ المُستَحيل وينقُلَ الحِملَ الثقيل.

 

 بِنفسِ
الطريقة، فإنَّ تعاليم وأنظِمة يسُوع الرُّوحيَّة هي بمثابَةِ "نِير"
يُمكِّنُنا من إزاحَةِ أحمالِ الحياةِ الثقيلة. هذا ما قصدَهُ يسُوعُ عندما وعدَنا
أنَّنا بِقُبولِنا نيرَهُ فإنَّ هذا سيجعَلُ حياتَنا سهلَةً وأحمالَنا خفيفَةً،
لأنَّهُ يحمِلُ معنا أحمالَنا تحتَ نفسِ النِّير.

 

 إنَّ
هذه الدَّعوة العظيمة هي أن نأتِيَ إلى المسيح. فهُوَ لا يدعُونا أن نأتِيَ إلى
كنيسة، أو إلى إجتِماعِ درسِ الكِتاب المُقدَّس، أو إلى أيِّ نَوعٍ من الإجتِماعات
أو النَّشاطات التي تقومُ بها الكنيسة والتي يُفتَرَضُ أن تقودَنا للمسيح. إنَّهُ
يدعُونا لكي نأتِيَ إليهِ مُباشَرةً لتكونَ لنا علاقَة معَهُ. وهُوَ يدعُونا
لنُواجِهَ الحياةَ كما واجَهَها هُوَ. فإن كُنَّا سنرى الحياةَ من خِلالِ قِيَمِهِ
وأنظِمتِهِ الرُّوحيَّة، فإنَّهُ يَعِدُنا بأنَّنا سنَجِدُ راحَةً لنُفُوسِنا،
وراحَةً من أحمالِنا الثقيلة، وحياةً سهلَةً بأنَّنَا نشتَرِكُ في علاقَةٍ معَهُ
تحتَ نفس النِّير.

 

المَلَكُوتُ
يُصبِحُ كَنيسَةً (متَّى 16: 13- 23)

 يُعتَبَرُ
هذا مقطَعاً هامَّاً في الأناجيل لأنَّ يسُوعَ يذكرُ فيهِ الكنيسةَ للمرَّةِ
الأُولى. لقد بدأَ كُلٌّ من يسُوع ويُوحنَّا المعمدان خدمتَهُما العَلَنيَّة
بالكِرازَةِ بالأخبارِ السارَّةِ المُختَصَّةِ بمَلَكوتِ الله. فعلى رأسِ الجَبَل
وفي أمثالِهِ، أعلَنَ يسُوعُ إنجِيلَ ملكوتِ السماوات، أو ملكوتِ الله. في هذه
المُناسبة، أعلَنَ يسُوعُ أنَّهُ سيبنِي كنيستَهُ وأبوابُ الجحيمِ لن تقوَى عليها
ولن تمنَعَهُ من بنائِها. ولقد أعلَنَ أيضاً أنَّهُ سوفَ يبنِي كنيستَهُ على
الرَّسُول بُطرُس.

 

 إنَّ
إطارَ هذا الإعلان هوَ أنَّ يسُوعَ سألَ رُسُلَهُ قائِلاً، "من تقُولُونَ
إنِّي أنا؟" فأجابَ بطرُس، "أنتَ هُوَ المسيح." بمِقدارِ
أهمِّيَّةِ إعتِراف بطرُس هذا، كانَ جوابُ يسُوع على إعترافِ بطرُس هذا أكثَر
أهمِّيَّةً. لِكَي نُفسِّرَ ونُلَخِّصَ هذا الجَواب، وكأنِّ يسُوعَ يقُول:
"يا سِمعان، أنتَ لستَ على هذا المِقدار من الذَّكاء! إنَّ أبي هوَ الذي
أعلَنَ لكَ هذا! وسوفَ أبني كنيستِي على مُعجِزَةِ كونِ إنسانٍ مثلَكَ إستطاعَ أن
يقولَ شيئاً عجيباً كهذا، يا بطرُس – وأنَّ النَّاسَ العادِيِّين سيكُونُونَ
قادِرينَ على عملِ أشياءَ غير إعتِيادِيَّة بسبب سُكنَى الرُّوحِ القُدُس فيهم.
وقُوَّاتُ الجحيم لن تقوَى على هذه الكنيسة يا بطرُس، لأنَّ القُوَّةَ الكامِنَة
في هذه الكنيسة ووراءَها ستكونُ قوَّةَ الرُّوحِ القُدُس!"

 

 على
الرُّغمِ من كَونِ هذه صُورَة بَلاغِيَّةً مُختَلِفة، علينا أن لا نراها كتناقُض.
فهل كانَ يسُوعُ يبنِي ملكُوتاً أم كنيسةً؟ ليسَ الأمرُ إمَّا الواحد أو الآخر،
بلِ الإثنانِ معاً. فالملكوتُ هو تعبِيرٌعن مَشيئة الله على الأرض كما هي في
السماء. والكنيسةُ ستكُونُ نفسَ الشيء عندَما ستكُونُ فِعلاً كنيستَهُ،
مُتَمِّمَةً مشيئتَهُ على الأرض.

 

 يُعتَبَرُ
هذا المقطَع مُهمَّاً أيضاً لأنَّ يسُوعَ عندما أخبَرَ بتصريحِهِ عن رسالتِهِ
بالموت في أُورشَليم، وبَّخَهُ بطرُس. فالتَفَتَ يسُوعُ إلى نفسِ هذا الرَّجُل،
الذي كانَ منذُ فترَةٍ وجِيزة أداةً تكلَّمَ اللهُ من خِلالِها، وهُنا دعاهُ يسُوع
بالشيطان. لقد أخبَرَ يسُوعُ هذا الرَّجُل بطرُس أنَّه يَقِفُ بوجهِ مشيئَةِ
اللهِ، ليسَ مُعبِّراً عن إرادَةِ اللهِ بل عن إرادَةِ الشيطان.

 

 إنَّ
هذا التبادُل العجيب بينَ بطرُس ويسُوع، يُعلِّمُنا بوُضُوح أنَّنا نستطيعُ أن
نكُونَ أشخاصاً عادِيِّين الذين من خِلالِنا تُعمَلُ أُمُورٌ غير إعتِيادِيَّة
بِفضلِ قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس. إنَّ هذا التبادُلَ الدينامِيكيّ يُعلِّمُنا
أيضاً تناقُضاً رهيباً. بإمكانِنا أن نكُونَ إناءً تُحجَزُ من خِلالِهِ إرادَةُ
اللهِ على الأرض، ومن خِلالِهِ تُعمَلُ إرادَةُ الشيطانِ على الأرض. وكُلٌّ من
هذين الإحتِمالَين يُمكِن أن يُعَبَّرَ عنهُما من خِلالِ نفسِ الشخص في غُضُونِ
دقائِقَ معدُودة.

 

من نَقُولُ
أنَّ يسُوعَ هُوَ؟

 تُخبِرُنا
قِصَّةٌ أنَّ يسُوعَ رَجَعَ في مُنتَصَفِ الليلِ إلى أبوابِ كُلِّيَّةِ لاهُوت.
فقَرَعَ الجَرَس، وعندما أجابَ رئيسُ كُلِّيَّةِ اللاهُوت، سألَ يسُوع، "من
تقُولُ أنِّي أنا؟" فأجابَ رئيسُ كُلِّيَّةِ اللاهُوت، "لماذا، فأنتَ
الأصلُ الوُجُودِيُّ لكيانِنا. أنتَ الكِرازَةُ التي بِها نُرَسِّمُ حُدُودَ
علاقاتِنا معَ الأشخاص!" فأجابَ يسُوع، "ماذا؟" من المُهِمّ جداً
أن يكُونَ لدينا الجواب الصحيح على هذا السُّؤال الذي طرَحَهُ يسُوعُ على
الرُّسُل. نحتاجُ أن نعرِفَ أنَّهُ يسُوعُ المسيح، المسيَّا، الفادِي والمُخلِّص
المَوعُود بهِ للعالَم.

 

فلسفة
القِيادة عندَ يسُوع (متَّى 23: 1- 12)

 

 إنَّ
هذا المقطَع يُقدِّمُ لنا فلسفة يسُوع الثَّوريَّة في القِيادة. إنَّ هذا التعليم
شَبيهٌ جِدَّاً بتعليمٍ مُبَكِّرٍ ليسُوع عندما علَّمَ تلاميذَهُ أن يخدُمُوا بعضُهُم
بعضاً، كما أنَّهُ هُوَ خدمَهُم (متَّى 20: 20- 28). لقد أظهَرَ لهُم وعَلَّمَهُم
هذه الحقيقة نفسَها عندما غسَلَ أرجُلَهُم في العُلِّيَّة (يُوحنَّا 13: 1-17).
لقد كانَ أكثَرَ وُضُوحاً في هذه المُناسَبَة عندما تكلَّمَ عن نِظام القِيادَة في
ملكوتِهِ (الكنيسة)، المَبنِيّ على الخِدمَةِ والتواضُع.

 

 إذا
كُنَّا جَدِّيِّين في تطبيقِ فلسفَةِ القِيادة هذه في كنائِسنا اليَوم، سنُدرِكُ
أنَّهُ لا يُوجَدُ أيُّ شيءٍ في العالَم مثل الكنيسة. فبِحَسَبِ هذا التعليم،
والتعليم المَوجُود في متى الإصحاح العِشرين، الكنيسَةُ ينبَغي أن تَكُونَ
مُجتَمَعاً فريداً، حيثُ لا يكُونُ فيها طبقَة عُليا وطبقة سُفلى، كما هي الحالُ
في العالم.

 

 هُناكَ
ثلاث ممنُوعاتٍ مُحدَّدة ذكرَها يسُوعُ هُنا. فخِلالَ تقديمِهِ لفلسفتِهِ في
القِيادة، إستَخدمَ الكتبَةَ والفَرِّيسيِّين لِكَي يُحضِّرَ تلاميذَهُ ليسمَعُوا
هذه المَمنُوعات الثلاث. لقد كانَ الكتبَةُ والفَرِّيسيُّونَ نقيضَ كُلّ ما آمنَ
وعلَّمَ بهِ يسُوعُ في فلسفتِهِ القِيادِيَّة. لقد أحَبَّ هؤُلاء أن يكُونَ هُناكَ
من هُوَ "فوق" ومن هُوَ "تحت"، وبالطبعِ أن يكُونُوا هُم فوق
وعامَّة الشعب تحت. لقد أحبُّوا المُتكآات الأُولى في الولائِم، وأن تُقدَّمَ لهُم
التحيَّةُ في الأسواق بدعوتِهم "رابِّي،" "مُعَلِّم"،
و"أب."

 

 لقد
أبرزَ يسُوعُ هذه الممنُوعات الثلاث في نظامِ القيادَةِ في كنيستِهِ، مُستَخدِماً
رِجالَ الدّينِ كنمُوذَجٍ عن سُوءِ القِيادة التي يُحذِّرُ منها. لقد علَّمنا
قائلاً أن لا ندَعَ أحداً يدعُونا "سَيِّداً أو مُعلِّماً"، لأنَّ لدينا
مُعلِّمٌ واحِد هو المَسيح، ونحنُ جميعاً إخوة على نفسِ المُستَوى. يُخبِرُنا
يسُوعُ في هذا الإطار بأن لا ندعَ أحداً يدعُونا "أباً" أو
"مُعَلِّماً." بعضُ الترجمات تُسمِّي المُعلِّم بالقائِد. الفِكرةُ
وراءَ هذا التعليم هي أنَّ اللهَ هوَ أبُونا، وأنَّ مُعلِّمنا أو قائِدنا هو
يسُوع، وأنَّنا جميعاً إخوة على نفسِ المُستَوى.

 

 كيفَ
نُطبِّقُ فلسفَةَ يسُوع عن القِيادة على نظامِ القِيادَةِ في كنائِسنا؟ يَصعُبُ
عليَّ أن أفهَمَ التشديد على "الفوق والتَّحت" في الكَثيرِ من الكنائِس
في هذه الأيَّام. إنَّ الفِكرَةَ العِلمانِيَّة عن الطبقاتِ والرُّتب، بكُلِّ ما
فيها من زخرفات ورُمُوز ومظاهِر، كعلامات خارِجيَّة تقولُ أنَّ هذا الشخص هُوَ فوق
آخر الذي هُوَ تحت، هي سائِدَةٌ في قِطاعات كَنَسيَّة كثيرة بشكلٍ لا يَقِلُّ
عمَّا نراهُ في الرُّتَب العسكَريَّة. أمَّا يسُوع فيُعلِّمُ أنَّ نظامَ
القِيادَةِ في الكنيسة ينبَغي أن يكُونَ مُختَلِفاً (متى 23: 11، 12؛ يعقُوب 2: 1-
9).

 

عظة
جبل الزَّيتُون (متَّى 24، 25)

 هذه
هي عِظَةُ يسُوع عن مجيئهِ الثاني وعن نِهايَةِ العالم. وكما هي الحالُ في عظةِ
العلِّيَّة، تبدَأُ هذه العِظة كَحِوار، ولربَّما كانَ هُناكَ الكثيرُ من الحِوار
عندما تُلقى المواعِظ. كانَ هُوَ والتلاميذ يزُورُونَ هيكَلَ سُليمان، فقدَّمَ
الرُّسُلُ بعضَ المُلاحظات عن عظَمَة الهيكل. فأجابَ يسُوعُ بأنَّهُ سيأتي وقتٌ لن
يبقَى فيهِ حجَرٌ على حجَرٍ في هذا الهيكل.

 

 طرحَ
التلاميذُ ثلاثَةَ أسئِلة: "متَى ستحدُثُ هذه الأُمور؟ ما هي علامَةُ
مجيئِكَ؟ وما هي علامَةُ نِهايَةِ العالَم؟" بينَما تدرُسُ هذه العِظَة
ليَسُوع، دَعْ هذه الأسئِلة الثلاث التي طرَحَها الرُّسُل، والأجوبَة التي أجابَ
بها يسُوع، دَعها تُشكِّلُ عناوين هذه العِظة لكَ.

 

 إنَّ
مجيءَ المسيح ثانِيَةً ليسَ مُجرَّدَ حدَثٍ واحِد، بل سلسِلة أحداث مُتعاقِبَة.
وكما هي الحالُ معَ سائِرِ النُّبُوَّاتِ الكِتابِيَّة، التحدِّي هو الفصلُ بينَ
حدَثٍ كانَ سيجري في المُستقبَلِ القريب،عن أحداثٍ تُنُبّئَ عنها للمُستَقبَلِ
البَعيد. فبعدَ أربَعينَ سنَةً من إلقاءِ يسُوع لهذه العظة، دمَّرَ الرُّومانُ
الهيكَلَ تماماً. ولم يبقَ فيهِ حجَرٌ على حجَر. يتِمُّ إبرازُ هذا الحدَثِ
الكارِثيّ بشكلٍ واضِحٍ في هذه العِظة.

 

 "هذه
الأُمُور" في سُؤالِ الرُّسُل وجوابِ يسوع، تختصُّ بهذا الحَدَث.
"يُؤخَذُ الواحِدُ ويُترَكُ الآخر"، يُشيرُ إلى إختِطافِ الكنيسة كما
يُعلِّمُ عنهُ بُولُس الرسُول في 1تسالونيكي 4: 13- 17). والضيقَةُ العُظمى
تتوازَى معَ أحداثٍ في سفرِ الرُّؤيا، حيثُ نجدُِ دينُونات الأختام، الأبواق،
والجامات تُنبِئُ بضيقَةٍ عُظمَى آتِيَة على العالم (رُؤيا 6- 91).

 

 لقد
سألَ الرُّسُل عن علامَةِ هذه الأحداث. ولقد علَّمَ يسُوعُ أنَّ لا أحدَ يعلَم متى
ستأتي هذه الأحداث، ولكن كما أنَّنا نرى علامات الطقس الرديء تقتَرِب، ستكُونُ
هُناكَ علاماتٌ لمَجيئِهِ ولِنهايَةِ العالم. بعضُ هذه العلامات هي: حُرُوب وأخبار
حُروب. (وهذا ما نُسمِّيهِ بالحَربِ البارِدَة.) تقومُ أُمَّةُ على أُمَّة
ومملكَةٌ على مملكة (وهذا ما نُسمِّيهِ بالحُرُوبِ العالميَّة). مجاعاتٌ، زلازِل،
وإرتدادٌ؛ هذه أيضاً علاماتٌ نأخُذُها بمُنتَهَى الجَدِّيَّة.

 

 تنبَّأَ
يسُوعُ بأنَّ مجيئَهُ سيكُونُ منظُوراً، كالبرقِ الذي يبرُقُ في السماء، ورُغمَ
كُلِّ هذه العلامات، سيكُونُ مجيئُهُ في ساعَةٍ لا نَظُنُّ أنَّهُ سيأتي. رُغمَ
ذلكَ، فإنَّهُ يضعُ أمامَنا التحدِّي لكي نُراقِبَ ونستَعِدَّ، حتَّى عندما يأتي،
يجدُنا كالخادمِ الأمين.

 

 إنَّ
تطبيقَهُ لهذه العظة يأتي بِشكلِ ثلاثَةِ أمثالٍ في الإصحاح 25. المَثَلُ الأوَّلُ
يتكلَّمُ عن أن مجيئَهُ سيكُونُ دينُونَةً على كُلِّ سِراجٍ فارِغ. فالزَّيتُ هو
رمزٌ للرُّوحِ القُدُس في الكِتابِ المقدَّس. فالعذارى الجاهِلات، اللواتي لم
يكُنْ معَهُنَّ زَيتٌ في أسرِجَتِهِنَّ، تُشِرنَ إلى أولئكَ الذين هُم في الكنيسة،
ولكنَّهُم لا يتمتَّعونَ بالولادَةِ الرُّوحيَّة عندما يرجِعُ المسيح. إنَّ
التحدِّي الذي يُقدِّمُهُ هذا المَثَلُ الأوَّلُ هو أنَّهُ، عندما يأتي العَريسُ
(أي يسوع)، سيفُوتُ الأوانُ على هؤُلاء ليذهَبُوا إلى الذين يبِيعُونَ زيتاً
(المُؤمنين) ليشتَرُوا زيتاً لأسرِجتِهِنَّ.

 

 وجوهَرُ
المثلِ الثاني هو أنَّ مجيئَهُ سيكُونُ دينُونَةً على كُلِّ يَدٍ فارِغة. هذا هُوَ
المَثَلُ المألُوف عنِ الوزنات. سوفَ يُطرَحُ علينا السُّؤال الذي طرحَهُ اللهُ
مرَّةً على مُوسى، "ماذا تَحمِلُ في يَدِكَ؟" (خُروج 4: 2) تُخبِرُنا
مقاطِع أُخرى في كَلِمَةِ اللهِ أنَّ كُرسيّ دينُونَة المسيح سوفَ يتبَعُ مجيءَ
المسيح ثانِيَةً (1كُورنثُوس 3: 13 – 15؛ 2كُورنثُوس 5: 10) إنَّ هذا المثَل يُعلِّمُنا
أن نكونَ خُدَّاماً ووُكَلاءَ أُمَناء على ما إستَودَعنا إيَّاهُ اللهُ من وزنات.

 

 المثلُ
الثالِثُ يُطبِّقُ هذه العظة العظيمة بالتعليمِ أنَّ مجيءَ المسيح ثانِيَةً
سيكُونُ دينُونَةً على كُلِّ قَلبٍ فارِغ – أُولئكَ الذينَ لم يهتَمُّوا للعِطاش،
للجِياع، للعُريانِين، للمَرضَى، للمَساجِين. الأشخاصُ الذي يَصِفُهُم يسُوعُ
كإخوتِهِ، والذي يتألَّمُونَ من هذا المَصير الصعب، قد يكُونُونَ تلاميذَهُ الذين
عانُوا من هذه الحاجات، بينَما كانُوا يخدُمُونَ في إرسالِيَّةِ المسيح العُظمى
التي أوكَلَها لكنيستِه.

 

 الفصلُ
الثانِي عشَر

 "أعظَمُ
أزَمَاتِ يسُوع المسيح" (متى 26- 28)

 بينما
تُسَجِّلُ هذه الإصحاحاتُ الثلاثَة موتَ وقِيامَةَ يسوع المسيح، تذكُرُ أيضاً بعضَ
تعاليمِهِ وأمثالِهِ الهامَّة. في هذا الإطار حَوَّلَ يسُوعُ شَكلَ العِبادَةِ
اليهُوديَّةِ الأساسِيّ للفِصح إلى شكلِ العبادَةِ الرئيسيّ في الكنيسة، والذي
يُسمَّى "الأفخارِستيَّا"، أو "مائدة الرَّب"، أو
"الإشتِراك." أيضاً في أعظَمِ أزمَاتِ يسُوع نسمَعُهُ يُصلِّي صلاةً في
بُستانِ جُثسَيماني، والتي كانَ ينبَغي أن تُسمَّى "صلاة الرَّب،" أو "الصلاة
الرَّبَّانِيَّة."

 

 بعدَ
قِيامَتِهِ أعطَى رُسُلَهُ والكثيرَ من التلاميذ مأمُوريَّتَهُ العُظمَى. لِهذا،
بينما تقرَأُ هذه الإصحاحات التي تَصِفُ أزمتَهُ، تأمَّلْ بِرَويَّة بشكلِ
العِبادَةِ الرئيسيّ في الكنيسة، وبِنَمُوذَج صلاة يسوُع، وبمأمُوريَّة يسُوع
العُظمى.

 

مائِدَةِ
الرَّبّ (متَّى 26: 17 – 35)

 عندَما
يتحتَّمُ على زَوجٍ أن يَغِيبَ عن عائِلتِهِ لوقتٍ طَويل، يتُركُ أحياناً صُورَةً
لهُ معَ عائِلتِه. وتُصبِحُ هذه الصُّورَة هامَّةً جِدَّاً للعائِلة طالَما كانَ
الزَّوجُ بعيداً عنها. وعندَما يرجِعُ من سَفَرِهِ، وتتمتَّعُ العائِلَةُ
بحُضُورِهِ في دائِرَةِ محبَّتِها، لا يعُودون يحتاجُونَ لِصُورتِه. بِطَريقَةٍ ما
هذه هي الطريقة التي أسَّسَ بها يسُوعُ هذا الشكل من العِبادة. لقد عرفَ أنَّهُ
كانَ سيمضِي بعيداً ولِوقتٍ طَويل. لِهذا، أعطَى كنيستَهُ "صُورَةً" عن
نفسِهِ، وقالَ لنا، بمعنَىً أو بِآخَر، "عندما أكُونُ بَعيداً، أُريدُكُم أن
تتذكَّرُوني بالنَّظَرِ إلى صُورَتي." وعندما سيرجِعُ ثانِيَةً، لن نَعُودَ
بحاجَةٍ لِصُورَتِه، ولكن إلى أن يَجِيء، هذه هي الطريقة التي إختارَها
لنتذكَّرَهُ بها.

 

 عندَما
إلتَقى يسُوعُ برُسُلِهِ في العُلِّيَّة، عرفَ أنَّ بعضاً من هؤُلاء سوفَ
يُخلِّدُونَ ذِكراهُ بِصُوَرٍ مكتُوبَة، كَونَهُم كتبُوا الأناجيل الأربَعَة. من
بَينِ جميعِ الطُّرُق التي عرفَ أنَّهُم سيتذكَّرُونَهُ بِها – إقامَةِ المَوتَى،
شفاء المرضى، تهدِئة العاصِفة، محبَّة الخاطِئ، تعليم وتفويضِ الرُّسُل – أعطاهُم
هذه الصُّورَة وقالَ ما معناهُ، "هذه هي الطريقة التي أُريدُكُم أن
تَتَذكَّرُوني بها! فكُلَّما أكلتُم هذا الخُبز وشَرِبتُم هذه الكأس تُخِبرُونَ
بمَوتي إلى أن أجيءَ ثانِيَةً!" (1كُورنثُوس 11: 26) إنَ مائِدَةَ الرَّبّ هي
"الصُّورَة" التي أعطاها يسُوعُ لكنيستِهِ عن نفسِه، وهذا هُوَ التعليمُ
الوحيدُ الذي أعطاهُ يسُوعُ لكنيستِهِ عن العِبادَة.

 

صلاةُ
الرَّبّ (متَّى 26: 38، 39)

 بما
أنَّ يسُوعَ لم يُصلِّي أبداً الصلاةَ التي أعطاهَا لتَلاميذِهِ ليُصلُّوها، فإنَّ
هذه الصلاة هي التي ينبَغي أن نُسمِّيَها صلاةً نمُوذَجِيَّة لنا جَميعاً.
الكَلِماتُ المِفتاحِيَّة هي، "لِتَكُنْ لا إرادَتي، بل إرادتُكَ!" هذه
الحقيقَةُ ذاتُها هي في قَلبِ صلاةِ التلاميذ. هذه الصلاة تُعلِّمُنا أيضاً أنَّ
الصلاةَ هي بشكلٍ أساسيّ تناسُقٌ بينَ إرادَةِ المُؤمِن وبينَ إرادَةِ الله – وهيَ
إختِبارُ حُضُورِ اللهِ الذي يجعَلُنا ننسَجِمُ معَ إرادَتِهِ، وينتُجُ عن ذلكَ
كونُنا مدعُوِّين حسبَ قصدِهِ (رُومية 8: 26- 28).

 

 الجزءُ
الأوَّلُ من صلاة يسُوع هذهِ هُوَ أيضاً تعليميٌّ ونمُوذَجي: "أيُّها الآبُ،
إن أمكَن فلتَعبُرْ عنِّي هذه الكأس." كأولادٍ لله، لدينا دائماً الحَقّ بأن
نُصَلِّي بِهذهِ الطريقَة. فإذا تَمَّ إخبارَكَ بأنَّهُ تمَّ إكتشاف مرض السرطان
الخبيث عندَك، أو عندَ أحدِ أحبَّائِكَ، لدَيكَ الحَقُّ والمَسؤُوليَّةُ بأن
تُصَلِّي بهذه الطريقة. بِكَلماتٍ أُخرى، لديكَ الحقُّ بطَلَبِ الشفاء. ولكن أن
تُصلِّي كما صَلَّى يسُوعُ في هذه الصلاة النَّمُوذَجِيَّة، عليكَ أن تُنهِي هذه
الصلاة بالقَول، كما تُعبِّرُ عن ذلكَ إحدَى الترجمات: "ليَكُن لا ما
أُريدُهُ أنا بل ما تُريدُهُ أنتَ."

 

 يعتَقِدُ
الكثيرونَ أنَّهُ من عَدَمِ الإيمان أن نُصلِّي للشِّفاء ونحنُ نقُول، "إذا
كانت هذه مشيئتُكَ يا رَبّ." أنا لا أستطيعُ أن أفهَمَ كيفَ يُمكِنُ أن
يقُولَ الناسُ هذا، بينما إبنُ اللهُ نفسُهُ صَلَّى بهذه الطريقة في أعظَمِ
أزَمَةٍ إجتازَها. ولو لم يُصَلِّ يسُوعُ بهذه الطريقة فيما يتعلَّقُ بالصليب، لما
كان هُناكَ خلاصٌ لأيٍّ منَّا. فكُلُّ المُخَلَّصِين سيكُونُونَ مَمنُونِينَ للأبد
أنَّهُ، نتيجَةً لصلاةِ يسُوع النمُوذَجِيَّة هذه، حصلَ إنسجامٌ بينَ مشيئةِ اللهِ
الآب، وبينَ مشيئَةِ اللهِ الإبن، الأمرُ الذي أدَّى إلى خَلاصِنا.

 

مَوتُ
يسُوع المسيح (متَّى 27: 11 – 34)

 عِندَما
تَصِفُ الأناجِيلُ الثلاثَةُ الأُولى موتَ يسُوع المسيح، تتَكلَّمُ بِفصاحَةٍ في
ما لم تُفصِحْ عنهُ. فهِيَ لم تُعطِنا تفاصيلَ الصلب المُؤلِمة والمُثيرة
للإشمِئزاز. بل هِيَ تَصِفُ ذلكَ الحدَث الرَّهيب بِكَلِمَةٍ واحِدة:
"صَلَبُوهُ." فلو نَظَرنا إلى هذه الكَلِمة بِإمعان لاكتَسَبنا مزيداً من
الفهم لمعنى موت يسوع.

 

"صَلَبُوهُ"

 لقد
كانَ الصَّلبُ نَوعاً قاسِياً فَظَّاً من أنواعِ الإعدام الرُّومانيَّة. وكانَ
مُمكِنا أن يأخُذَ الأمرُ خمسَةَ أيَّامٍ لكي يمُوتَ الشخصُ المُعلَّقُ على
الصَّلِيب. وكانَ من غَيرِ المسمُوح أن يُنفَّذَ حُكمُ الإعدامِ صلباً بمُواطِنٍ
رُوماني، لأنَّ الصلبَ هوَ ضَربٌ من التعذِيب. وكانَ يُعتَبَرُ قصاصاً لاإنسانيّ،
وبِما أنَّ ضحاياهُ كانُوا يُصلَبُونَ عُراةً، إعتُبِرَ الصلبُ عاراً وذُلاً أيضاً
(متَّى 27: 35؛ فيلبِّي 2: 8).

 

 بالمعنى
الكِتابِيّ، الأمرُ المُهِمُّ فيما يتعلَّقُ بطريقَةِ مَوتِ المسيح كانَ أنَّها
تمَّمَت النُّبُوَّة. يتنبَّأُ الإصحاحُ 53 من سفرِ إشعياء والمَزمُورُ الثانِي
والعِشرون عن بعضِ تفاصِيلِ موت يسوع المسيح، التي تحقَّقَت بحذافيرِها عندما
صُلِبَ يسُوع. ولكن، بحَسَبِ المقاطِع التي ذُكِرَت أعلاه، ومقاطِع أُخرى غيرَها،
كانَ الألَمُ الرُّوحِيُّ والنـزاعُ في نفسِ المسيح هُوَ الذي حقَّقَ خلاصَنا.
عندما أصبَحَ خَطِيَّةً لأجلِنا، صرخَ قائلاً،"إلهي إلهي لماذا
تَركَتني؟" بحَسَبِ الأنبِياءِ والرُّسُل، عندما حَدَثَ هذا الألَمُ
الرُّوحِيُّ في نفسِ المُخَلِّص، وُضِعَ عليهِ تأديبُ سلامِنا. عندها وعندها فقط
تحقَّقَ خلاصُنا. لهذا صَرخَ بعدَها، "قد أُكمِل،" و"أيُّها الآب،
بينَ يَديكَ أستَودِعُ رُوحي،" وعندما إنتَهى ألمُهُ ختَمَ غُفرانَنا بدَمِهِ
(إشعياء 53؛ 2كُورنثُوس 5: 21؛ 1بطرُس 2: 21- 25؛ يُوحنَّا 19: 30؛ لُوقا 23: 46).
هذا هُو المعنى المُتَضمَّن في عِبارَة "صَلَبُوهُ."

 

"صَلَبُوهُ"

 نقتَرِبُ
أكثَر من معنى موت المسيح الحقيقيّ عندما نضَعُ التشديد على آخِِرِ حرفٍ من هذه
العِبارَة. لقد صَلَبت رُوما الآلاف المُؤلَّفة من النَّاس، الذين عُلِّقُوا على
صُلبانِهم لمُدَّةٍ أطوَل جداً من مُدَّةِ صَلبِ يسُوع، ولربَّما إجتازُوا في
آلامٍ جَسَدِيَّةٍ مُبَرِّحَةٍ أكثَرَ من آلامِ يسُوع. ولكنَّ الآلامَ
المأسَاوِيَّة لهؤلاء الآلاف، حتَّى أُولئكَ الذين ماتُوا من أجلِ المَسيح ومن
أجلِ إيمانِهم بهِ، ما كانَ مُمكِناً أن تُساهِمَ في التكفيرِ عن خطايا العالم.

 

 علينا
أن نُشدِّدَ على أنَّ المُهِمَّ في مَوتِ يسُوع المسيح لم يكُن فقط آلامهِ
الجسديَّة. المُهِمُّ كانَ ذلكَ الذي تألَّمَ على الصَّلِيب، هوَ الذي جعلَ صلبَ
المسيح أساساً لِخلاصِنا.

 

 فعندما
ماتَ على الصليب، لو لم يكُنْ إبنَ الله عندما ماتَ هُناك، لما كانَ لمَوتِهِ أيُّ
تأثيرٍ على خطايانا بعدَ ألفي سنة من صلبِهِ. هذا هُوَ المُهِمُّ في عِبارَة
"صلبُوهُ!" (متَّى 27: 22، 23؛ 1كُورنثُوس 1: 23 – 2: 2).

 

"صَلَبُوهُ."

 في
النِّهايَة، إذا شدَّدنا على أوَّلِ جزءٍ من هذه الكَلمة، نُثيرُ سُؤالاً حولَ
أعظَم أزَمة للمَسيح. فمَن هُوَ الذي قتلَ المسيح؟ الجَوابُ الأوَّلُ على هذا
السُّؤال هو أنَّ الرُّومان هُمُ الذين قتَلُوا يسُوعَ المسيح. ولكن، حتَّى ولو
أنَّ جُنديَّاً رُومانِيَّاً هوَ الذي غرسَ المساميرَ حرفِيَّاً في يدي يسوع وطعنَ
جنبَهُ بحَربَة، ولكن إذا قرأنا النَّصَّ بِرَويَّة، نستنتِجُ أنَّ اليهُود هُمُ
الذين صَلَبُوا يسُوع (متَّى 27: 25).

 

 الجَوابُ
الكِتابِيُّ على هذا السُّؤال هُوَ أنَّ اللهَ هُوَ الذي ضَحَّى بإبنِهِ من أجلِ
خطايا العالم. دَعونا ننظُرُ إلى بعضِ الأمثِلة: ففي ذلكَ الإصحاحِ المَسياويّ
النَّبَويّ العظيم، إشعياء 53، نقرَأُ، "فَسُرَّ الرَّبُّ بأن يسحَقَهُ
بالحزن." (إشعياء 53: 10). ويُعبِّرُ العهدُ الجديدُ عن ذلكَ كالتالي:
"لأنَّ اللهَ جعلَ الذي لم يعرِفْ خطِيَّةً، خَطِيَّةً لأجلِنا، لنَصيرَ نحنُ
بِرَّ اللهِ فيه." (2كُورنثُوس 5: 21).

 

 علينا
أن نتذكَّرَ هذا عندما نتأمَّلُ بعِبارَة "صَلَبُوهُ."

 

قِيامَةُ
يَسُوع (متَّى 28: 1- 15)

 إن
قِيامَةَ يسُوع المسيح يُمكِنُ أن تُبَرَهنَ بالتغيِير الذي حصلَ معَ رُسُلِهِ
وتلاميذِه. علينا أن لا نقسُوَ كثيراً على بطرُس، لأنَّهُ عندما أُلقِيَ القَبضُ
على يَسُوع، نقرَأُ أنَّ "الجميع تركُوهُ وهربُوا." (متَّى 26: 56)
عندما واجَهَ يسُوعُ أعظَمَ أزَمَةٍ في حياتِه، لم يكُنْ لدَيهِ ولا أيُّ تابِعٍ
أو تلميذٍ واحِد. وَصَلَ عددُ عُضويَّةِ كنيستِهِ إلى الصفر!

 

 فما
هُوَ الأمرُ الذي سبَّبَ رُجوعَ كنيستِهِ إلى الوُجود؟ إنَّها قِيامَةُ يسوع
المسيح. كانَ هذا جُزئيَّاً بسبب كونِهِ قد قالَ لهُم، وهُم سمِعُوهُ يقُولُ
لآخرين، أنَّهُ سيُبرهِنُ أُلوهِيَّتَهُ ويُصادِقُ على كُلِّ تصريحاتِهِ عن
نفسِهِ، بعدَ موتِهِ، من خِلالِ قيامتِهِ من الموت. نقرَأُ: "فلمَّا قامَ من
الأموات تذكَّرَ تلامِيذُهُ أنَّهُ قالَ هذا فآمنُوا بالكِتاب [العهدِ القديم]
والكَلام الذي قالَهُ يسُوع." (يُوحنَّا 2: 22).

 

 في
عِظتِهِ العظيمة يوم الخَمسين، أشارَ بطرُس إلى أنَّ أسفارَ العهدِ القديم علَّمت
عن قِيامَةِ وموتِ يسوع المسيح (أعمال 2: 30- 32؛ مزمُور 16). ولقد أوضَحَ بطرُس
أيضاً أنَّ كُلَّ الآيات والعجائِب يوم الخمسين كانت من عَمَلِ يسُوع المسيح
القائِم من الأموات، المسيحُ الحَيُّ (أعمال 2: 33). وقِيامَةُ المسيح هي التي
تُبَرهِنُ أنَّ موتَهُ كانَ كفَّارَةً عن خطايانا، وأنَّهُ يُؤمِّنُ رجاءً
أبديَّاً للكنيسةِ اليوم (1كُورنثُوس 15).

 

المأمُوريَّةُ
العُظمَى (متى 28: 18- 20)

 إنَّ
ستراتيجيَّة يسُوع كانت أن يَصِلَ إلى العالَمِ أجمَع من خِلالِ رُسُلِهِ
وتلاميذِه. وهذا ما يُرى بِوُضُوح في خاتِمَةِ إنجيلِ متَّى. لقد أرسَلَ يسوُعُ
رُسُلَهُ وأشرفَ عليهِم ودرَّبَهُم. والآن، يقومُ بالإحتِفالِ بتخريجِهم من
كُلَّيَّةِ اللاهُوت التي إستَمَرَّت لِثلاث سنوات، بينما يُرسِلُهُم لكي يصنَعُوا
لهُ تلاميذ من كُلِّ خَليقَةٍ وكُلِّ أُمَّةٍ في العالم.

 

 تتألَّفُ
المأمُوريَّةُ العُظمَى من وَصِيَّةٍ واحِدة ذات ثلاثة فُروع. الوصِيَّةُ هي:
"تَلمِذُوا." أمَّا الفُرُوعُ فهِيَ: إذهَبُوا، عمِّدوا، وعلِّمُوا.
"فبينما تذهَبُونَ، وبينما تُعمِّدُون، وبينَما تُعَلِّمُون، إصنَعُوا
تلامِيذ". فهدَفُنا عندما نُعلِنُ الإنجِيل للعالم ليسَ أن نقُولَ لهُم،
"خُذُوا هذا الشيء الذي لا يُكَلِّفُكُم شيئاً. يُمكِنُكُم أن تحصَلُوا على
الخلاص بالإيمان، وبعدَ ذلكَ تعيشُونَ على هواكُم." ولكنَّ رِسالتَنا هي أن
نصنَعَ تلاميذَ ليسُوع المسيح.

 

 كتبَ
الدكتُور
Robert S. Glover، الذي
كانَ شخصيَّةً بارِزَة في العملِ الإرسالي، كتبَ يقُول: "إنَّ المأمُوريَّةَ
العُظمَى هي "شُرعَة الكنيسة ودُستُورُها." وكَكُلِّ مُؤسَّسَةٍ أُخرى،
على الكنيسة أن تُطبِّقَ شُروطَ شُرعَتِها، وإلا إندَثَرت واضمحلَّت."

 

 يُخبِرُنا
عُلماءُ الكِتابِ المقدَّس أنَّ هُناكَ خمسمائة تعليم ليسُوع في الأناجيلِ
الأربَعة. ولقد شاركتُ معكُم القليلَ فقط من تعاليمِهِ في هذه المُقدِّمَة
للأناجيل والمسح الشامِل المُوجز لإنجيلِ متَّى. عندما نتأمَّلُ في المأمُوريَّةِ
العُظمَى بِرَويَّة، نكتَشِفُ أنَّ صِناعَةَ التلاميذ تتطلَّبُ تعليمَ هؤلاء
التلاميذ كُلَّ ما عَلَّمَهُ يسُوعُ لتلاميذِهِ.

 

 عندما
أصبَحَتِ الكنيسَةُ وسيلَةَ النقل، علَّمَ هذا التلاميذ بأنَّ المأمُوريَّةَ
العُظمى هي التي وَلَّدَت الكنيسة. إنَّ هذه المأمُوريَّة نفسَها جعَلت من يومِ
الخمسين ضَرورَةً، لأنَّ هدَفَ يوم الخمسين كانَ ولا يزالُ مَدّ الكنيسة بالقُوَّة
لتُتَمِّمَ شُروطَ شُرعتِها. فالكَنيسَةُ هي المُؤسَّسَةُ الوَحيدَةُ في العالَم
التي تُوجَدُ من أجلِ خَيرِ الأشخاص الذين ليسُوا أعضاءَ فيها.

 

 في
الكُتَيِّبِ المُقبِل، سوفَ نُتابِعُ دِراستَنا للأناجيل، وأنا مُتيقِّنٌ أنَّكَ
ستُتابِعُ دِراسَةَ هذه السِّيَر الرائعة لحياةِ يسوع المسيح. بالنتيجة، أُريدُ أن
أطرَحَ عليكَ بضعةَ أسئِلة: هل سبقَ وتعرَّفتَ على يسُوع المسيح، المسيَّا
المَوعُود بهِ؟ هل آمنتَ بموتِِ يسُوع ليدفَعَ ثمَنَ خطاياك؟ وهل قرَرتَ أن تكُونَ
تِلميذاً أو تابِعاً للمسيح؟ وماذا ستعمَلُ بما تَعلَمُهُ؟ أُصلِّي أن يُساعِدَكَ
برنامج "في ظِلالِِ الكلمة" على الدُّخُولِ إلى كَلِمَةِ الله، ودُخُولِ
كَلِمتِهِ إليك.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي