الإصحَاحُ
السَّابعُ عَشَرَ

صورة
بابل الزانية

 مقدمة: اجتهد الشراح فى تفسير
" بالبل الزانية " هذه، وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى، فالبعض رأى فى السبعة
جبال أنها روما الوثنية، التى كانت مبنية على سبعة جبال أضطهدت المسيحيين فى عصر
الرسول يوحنا، وأن السبعة رؤوس هم الملوك الذين أسسوا روما وهم: أغسطس – طيباريوس
– كاليجولا – كالوديوس – نيرون – فاسباسيان – بنطس، وأن الثامن هو دومتيان مضطهد
يوحنا الحبيب.

أما
البعض الآخر فرأى فى بابل العظيمة أنها روما الكاثوليكية متخذا من انحرافات العصور
الوسطى ذرية لتفسيره.

لكننا
نرى أن التفسير الشامل الروحى الذى نرتاح إليه يتسع ليشمل كل قوى الشر التى تقف ضد
المسيح وأولاده مهما كان صورها، وأن الرسول استخدم بابل كمجرد استعارة من التاريخ
القديم، حيث أذلت بابل بنى إسرائيل وسبتهم إلى أرضها سبعين سنة.

جاء
واحد من ملائكة الجامات السبعة وقال ليوحنا: " هلم فأريك دينونة الزانية
العظيمة الجالسة على المياة الكثيرة ".

ونلاحظ
فى الأصحاح السابق أن بابل العظيمة ذكرت أمام الله ليعطيها " كأس خمر سخط
غضبه " (رؤ 16: 19)، أما الآن فقد صدر حكم الدينونة، والملاك يطلع يوحنا على
صورة بابل الزانية قبل تدميرها.. فماذا سيرى؟ لقد دعاها الملاك " عظيمة
" من فرط قوة تأثيرها الشرير على الناس، و" الزانية " لأنها تنحرف
بالناس بعيدا عن الله، " والجالسة على مياة كثيرة " رمز الشعوب الكثيرة
الخاضعة لسلطانها الشرير وغوايتها المدمرة " زنى معها ملوك الأرض "
إشارة للبذخ والغنى المادى وكيف يقود الناس أحيانا للبعد عن الله، " وسكر
سكان الأرض من خمر زناها " فالخطية كالخمر ينتشىء بها الأنسان للحظات ثم
يكتشف أنها دمرت حياته.

كانت
هذه هى الدعوة والآن إلى المنظر:

"
رأيت إمرأة جالسة على وحش قرمزى ".. المرأة هى بابل قوى الشر المتعاقبة ضد
أولاد الله، " جالسة " تتوهم الأستقرار ودوام المجد الأرضى " على
وحش قرمزى " رمز الدجال الذى يعطيه الشيطان كل قوته الدموية لأنه " قتال
منذ البدء " (يو 1: 44). وقد رآها يوحنا فى " برية " أى مقفرة
خاليا مما يشبع الأنسان أو يرويه، حيث الشيطان يسكن، ورأى الوحش " مملوءا
أسماء تجديف " لأنه ضد المسيح " له سبع رؤوس " رقم 7 هو الكمال أى
كمال الذكاء الشرير و" عشرة قرون " أى كمال القوة الشريرة والقسوة،
وكانت المرأة " متسربلة بارجوان وقرمز ومتحلية بالذهب والحجارة الكريمة ولؤلؤ
رمز المجد الأرضى الخداع، ومعها " كأس من ذهب " رمز الماء المالح الذى
تسقى منه تابعيها، فهو مملوء " رجاسات ونجاسات زناها ".. و" على
جبهتها (كعادة الزانيات فى القديم) اسم مكتوب: " سر "، فهو سر حقا، ليس
المقصود به بابل الحرفية، بل قوى الشر التى تقف ضد أولاد الله.. " بابل
العظيمة أم الزوانى ورجاسات الأرض ".. أى ينبوع الخطايا التى تنفث شرورا فى
كل مكان، ورأى يوحنا أن المرأة سكرى من دم القديسين ومن دم شهداء يسوع فقد كان
أباطرة الوثنيين وكل من تلاهم من مضطهدى الكنيسة يترنحون طربا بحسب كثرة من قتلوا
من المؤمنين.

ولما
رأى يوحنا ذلك المنظر تعجب بشدة.. وكأنه يقول: لماذا كل هذا؟ ولماذا تسكت يا رب؟

وأحس
الملاك بمشاعر يوحنا وبدأت هنا مرحلة الشرح:

"
لماذا تعجبت؟ أنا أقول لك سر المرأة والوحش الحامل لها برؤوسه السبعة وقرونه
العشرة " – " والوحش كان وليس الآن، وهو عتيد أن يصعد من الهاوية ويمضى
إلى الهلاك ".. وواضح أن الحديث هنا عن الشيطان، ولا فرق بين التنين والوحش،
أو بين الشيطان والمسيح الدجال فهو تجسيد له. لقد " كان " للوحش سلطانا
عظيما قبل الصليب، لكن الرب سحقه بالفداء وأسقطه ولم يعد له سلطان على البشر كم
كان قبلا، لهذا فهو " ليس الآن " أى أنه حاليا مقيد ولا يتحرك دون سماح
من الله ولا سلطان له على البشر. لكنه " عتيد أن يصعد من الهاوية " أى
أنه سيحل من سجنه فى الأيام الأخيرة.. تمهيدا لهلاكه النهائى.

وهذه
الحقيقة " كان وليس الآن مع أنه كائن " ستثير دهشة الناس الغير مدونين
فى سفر الحياة، لأنهم لم يعرفوا ماذا فعله المسيح على الصليب، وكيف قيد الشيطان
وأزال سلطانه " رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء " (لو 10: 18)
وكيف أنه ما زال حيا رغم فقده هذا السلطان.

ثم
يقول الملاك: " هنا الذهن الذى له حكمة، أى فكروا بالروح لتفهموا أن السبعة
رؤوس هى سبعة جبال عليها المرأة جالسة "، والحديث عن روما الوثنية التى كانت
القوة الشريرة المواجهة للكنيسة أيام يوحنا، والتى تشير إلى كل ما يتلوها من قوى،
وأنها إشارة إلى " سبعة ملوك: خمسة سقطوا وواحد موجود والآخر لم يأت بعد ومتى
أتى ينبغى أن يأتى قليلا "، وهذه إشارة إلى الممالك الخمسة التى سبقت مملكة
روما الوثنية وهى:

1- مصر الفرعونية: التى أذلت بنى
اسرائيل أيام موسى النبى.

2- أشور: التى سبت مملكة إسرائيل
الشمالية سنة 721 ق. م.

3- بابل: التى أسرت مملكة يهوذا
الجنوبية سنة 587 ق. م.

4- فارس: التى هزمت بابل
وأعادتهم إلى أوطانهم، بعد أن قرأ كورش الفارسى نبوة عن نصرته بالأسم، كتبها
أشعياء النبى قبل ذلك بثلاثة قرون.

5- اليونان: وانطيوخس أبيفانوس
الذى دنس الهيكل وذبح هليه خنزيرة.

ثم
جاءت مملكة روما الوثنية (المملكة السادسة) أما السابعة فلم تأت بعد وستمكث قليلا..
أى ما تلا ذلك من ممالك لم تتخذ صورة الأمبراطوريات العالمية ويرى الشراح أن رقم
عشرة دائما يعنى التفتيت بعد الوحدة (كما كان فى نبوة دانيال) حين صارت المملكة
الأخيرة عشرة ممالك متغيرة وضعيفة، لهذا يرى البعض أن العشرة ملوك المذكرين هنا هم
عشرة ممالك ستتحارب فى الأيام الأخيرة.

أما
الوحش فقد دعاه الملاك ثامنا لأنه سيكون القوة المسيطرة بعد الكل خصوصا أيام فك
قيوده أن يهلكهم الله بالتمام.

إن
الملوك العشرة سيملكون مع الوحش ويتحالفون مع الشر، " ويحاربون الخروف "..
لكن شكرا لله، لأن الخروف سيغلبهم لسبب بسيط أنه " رب الأرباب وملك الملوك
".. أى أن التاريخ كله يخدم مقاصده الإلهية، وهو الخالق هذه القوى جميعا، ولا
يسمح لها بأن تسير إلا فى اتجاه خطته النهائية.

أما
أولاد ملك الملوك فهم " مدعوون " (بكلمة انجيله) و" مختارون "
(بتجاوبهم مع عمل نعمته) و" مؤمنون " (واثقون من أبوته وقدرته ونصرته).

ثم
قال له الملاك: " المياة التى رأيت الزانية جالسة عليها هى شعوب وجموع وأمم
وألسنة " والمياة الكثيرة كانت دائما – فى العهد القديم – رمز الشعوب "
والعشرة قرون " سيبغضون الزانية أى أنهم سيمزقون الأمبراطورية بحروبهم "
ويجعلونها خربة وعريانة ويأكلون لحمها ويحرقونها بالنار " إشارة إلى أن طريق
الشر عار ودمار مهما بدت الخطية لذيذة فى البداية.

ثم
ينسب الملاك هذه النهاية المفزعة إلى الله الذى " وضع فى قلوبهم أن يصنعوا
رأيه، وأن يصنعوا رأيا واحدا ويعطوا الوحش ملكهم حتى تكمل أقوال الله "..
وهذه إشارة واضحة إلى يد الله العاملة فى الكون، والتى يستحيل أن تخرج الأحداث من
قبضتها المحكمة، التى توجه كل شىء نحو نهاية محتومة فى مقاصد الله، وأخيرا يجمل
يوحنا المشهد فى عبارة واحدة: " والمرأة التى رأيت هى المدينة العظيمة التى
لها ملك على ملوك الأرض "، إشارة إلى قوى الشر وكيف أنها أرضية زائلة.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي