الإصحَاحُ
الرَّابعُ

 

د –
تجربة يسوع وانتصاره العظيم (4: 1- 11)

4: 1
ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ مِنَ ٱلرُّوحِ
لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. 2 فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً
وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيراً. 3 فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ
ٱلْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ
فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ خُبْزاً. 4 فَأَجَابَ:
مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ
بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ.

كانت
معمودية المسيح حادثة مجيدة، لأن فيها أظهر الآب السماوي اغتباطه بابنه الحبيب.
ومن الغريب أنه بعد هذا العماد أصعد الروح القدس يسوع إلى البرية للمعركة
والمصارعة مع عدو الله. ليظهر قدرة ألوهيته رغم ضعف جسده.

وبقي
يسوع أربعين يوماً في شركة مع أبيه وسط الصحراء المميتة، سامعاً كلماته كما كان
الشأن مع موسى في السابق، لما نسي خلال الأربعين يوماً الأكل والشرب ليحصل على
لوحي الشريعة. وأما يسوع فلم يأت بألواح حجرية من التقائه بالله، تأسيساً للعهد
الجديد، لأنه هو بنفسه كلمة الله المتجسدة، وفيه القوة المخلّصة لأتباعه.

وأخيراً
أتى إبليس للمسيح متظاهراً بالشفقة، وأثار الجوع في يسوع. وكذب كأنه محب له، وحاول
أن يلقي قبل كل شيء بذور الشك في قلبه من جهة علاقته بالآب. وسأله: أأنت ابن الله؟
فجعل من الحقيقة تساؤلاً. إن الشيطان يعرف أكثر من الناس من هو المسيح، لأن جهنم
ترتجف منه. لو اعترف الشيطان: إنك ابن الله، لكان مؤمناً به. لكنه شوَّه الحقيقة
بقوله «إن كنتَ ابن الله، فقُل أن تصير هذه الحجارة خبزاً». وهذه الطريقة
الإبليسية دائماً: أن يزرع أولاً الريب في النفوس، فيبتعد الإنسان عن مصدره
ويتزعزع إيمانه.

وطلب
الشرير معجزة من المسيح واثقاً بقدرته على تحويل الحجارة خبزاً. إن طريقة الشيطان
في ربح العالم بالخبز لا تزال جارية لإضلال وإهلاك الجماهير. تصور لو صنع يسوع من
الحجارة أطعمة لذيذة. هل يبقى لزوم للعمل والكدّ؟ لا، بل يصبح في وسع الجميع أن
يشربوا من الجداول حليباً ومن الأنهر خمراً، فيتراكض العالم كله إلى المسيح،
ويؤمنون به، ويسجدون له، دون أن تتغير قلوبهم، ولا يحصلون على الغفران، ويبقون تحت
غضب الله ودينونته.

ورفض
المسيح من بداية خدمته الحماس الجماهيري والأعمال الخيرية لإنقاذ العالم بدون
الصليب. فخلاصه لا يهتم بالجسد أولاً، بل بفداء النفوس. هو قاصد غفران خطايانا
وتجديد قلوبنا. وأكمل هذه الغاية على الصليب. وفي جواب يسوع على الشيطان نسمع
القاعدة الإلهية لإنشاء حياتنا الروحية.

الصلاة:
أيها الرب يسوع المسيح، نشكرك لأنك لم تسقط إلى فخ إبليس، ولم تصنع من الحجارة
خبزاً. لم تسمع لصوته ولم تهتم بنفسك. ولم تجذب الجماهير بالأطعمة اللذيذة. بل
أرشدتنا لكلمة الله الفريدة لتُشبع أنفسنا وننال حياتك الأبدية. ساعدنا لنقرأ
كلمتك يومياً، ونتقوى بروحك القدوس، ونعمل إرادتك بفرح.

 

4: 5
ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ،
وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ، 6 وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ
ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ،
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلائِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ
يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. 7 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: مَكْتُوبٌ
أَيْضاً: لا تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ.

حينما
يزور رئيس دولة بلداً حليفاً يتعاظم استقباله، ويصطف العسكر، ويقدم الطلاب زهوراً،
وترتفع أعلام خفاقة، وتصدح الموسيقى، ويلبس الرسميون ألبستهم المخصصة. وتتراكض
الجماهير في بعض البلدان ليتفرجوا على الاحتفالات السياسية والدينية والرياضية.
فيجد الإنسان نفسه منضوياً مع الوحدة الجماهيرية.

وجرَّب
الشيطان يسوع لكي يصنع رواية مدهشة عظيمة، بأن يطير مع غيوم السماء، محاطاً
ومحمولاً بربوات الملائكة البراقة، فتنظره الجماهير المحتشدة ويخرّون ويسجدون له.
وهكذا جرَّب إبليس يسوع أن ينفذ مجيئه الثاني قبل الأوان، وبدون أن يسفك دمه على
الصليب، لأن الشيطان لا يبغض شيئاً كالصليب. وقاد المُجرِّب يسوع إلى محور الحضارة
الدينية في أمته، فأوقفه على جناح الهيكل. لا تظن أيها الأخ أنك وأنت ضمن الكنيسة،
تكون معصوماً من الأفكار الشريرة، لأنه في محور القداسة يُجرِّب الرجيم المستمعين
إلى كلمة الله، ليحوّل أفكارهم من الله إلى الذات المتكبرة فيخطئون ويسقطون.

وتجارب
إبليس، التي حاولها مع يسوع وأتباعه، هدفها اقتلاعهم من وحدتهم بالله. فأعاد
المحاولة لزرع الشك في قلب يسوع قائلاً «إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل وسط
الساجدين، فيلتفتون إليك ويصرخون: قد أتى مسيح الله مباشرة من السماء. وعندئذ
يتبعك العالم، فلا حاجة إلى الصليب». وأضاف الخبيث العبارة الثقيلة «مكتوب» وذكر
آية من الكتاب المقدس، حرَّفها عن معناها. وقد غلبه يسوع في التجربة الأولى بهذه
الكلمة عينها «مكتوب» ذاكراً كلمة أبيه، ثابتاً في كلمة الله الموحاة لنا. فاستخدم
الشيطان نفس الأسلوب، لكنه جعل من الحق كذباً. فانتبه! إن الشرير يعرف الكتاب
المقدس ويستخدم آياته وأفكاره بالتواء.

وجاوب
يسوع المُجرِّب مرة أخرى بكلمة قاطعة «مكتوب: لا تُجرِّب الرب إلهك». فهل عندك
قدرة السمع في قلبك لتميز صوت الله؟ هل تعرف محبته ولطفه وطهارته وتواضعه؟ فلا
تنفذ شيئاً يعارض مقاصده هذه. وإن لم تعرف ما هي مشيئة الله في أمرك فانتظر صبراً.
ليَفتَح لك باباً آخر، ويوضِّح لك ماذا يُريد هو أن تعمل أنت.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ك كلاييم مزج الأنواع ع

الصلاة:
أيها الرب يسوع نشكرك لأنك لم تطلب الأُبّهة والتظاهر، بل طريق التواضع. ونجدك عند
المرضى والخطاة والمُحتَقَرِين. وقد طلبت الهالكين. علمنا الموت عن استكبارنا،
لكيلا نتكبر بين أصدقائنا، بل ننكر أنفسنا ونطلب البائسين ونبارك الضالين، لننسجم
مع مقاصدك الخلاصية.

 

4: 8
ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً، وَأَرَاهُ جَمِيعَ
مَمَالِكِ ٱلْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، 9 وَقَالَ لَهُ: أُعْطِيكَ هٰذِهِ
جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي. 10 حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ:
ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ
تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ. 11 ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا
مَلائِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ.

كلّنا
نصلي في نهاية الصلاة الربانية «لك الملك والقوة والمجد». وبهذا السجود نسلّم
أنفسنا لله.

أما
الشيطان فمختلف كل الاختلاف عن هذا، فهو الروح الفخور، الذي طلب السجود لنفسه من
جميع المخلوقات. وقد كذب لمَّا رسم أمام المسيح ممالك العالم كله وقدَّمها له هبة،
لأن ليس له حق بما عرضه مدَّعياً تملُّكه، لأن العالم بما فيه من التقوى والمجد
ملكٌ لله ومسيحه.

ولم
يصدق المسيح كذب إبليس، فثبت متعلّقاً بأبيه. وما اشتاق إلى سلطة ومجد، لأنه أخلى
نفسه وصورته الإلهية، وصار إنساناً حقيراً ليفدي البشر كلهم. فقد اختار طريق الفقر
والاحتقار، ليبرهن أن ليس الغِنَى هو الذي يُسعد الإنسان، ولا الشهرة المالية
تساعده، بل الشركة مع الله وحده.

قال
مليونير مرة «لكل إنسان ثمن، ليعمل ما يضاد ضميره إذا نال مبلغاً ضخماً من المال».
أما المسيح فلم يبع برَّه بالمال الخدَّاع، بل أنكر ذاته، وحمل صليبه، وثبت في
القناعة وطاعة أبيه.

بهذا
الموقف الإلهي غُلِبَ إبليس، وكَشَف المسيح هدفه السرِّي وجرده، مُظهراً أن
الشيطان هو كذاب وسارق وقاتل، يريد أن يسجد الناس جميعهم له، وهو يجعل من ذاته
إلهاً، ويجرّب البشر أن يحبوا مالهم وكتبهم وسياراتهم وأمورهم الأخرى أكثر من
ربهم، فيتكلون على المخلوقات كأصنام، ولا يتكلون على الخالق وحده. وهكذا يريد
الشيطان انحراف البشر عن الله والارتباط به ليصبح الشر محور الكل!

وعند
ظهور هذا المبدأ، لم يستمر يسوع في بحثه مع عدو الله، بل أمره أن يمضي من أمامه.
وقد كملت تجربة يسوع بطلب الشيطان منه السجود له. فانتهت الرحمة وابتدأت دينونة
الله.

أبغض
إبليس يسوع الذي لم يخسر نفسه من أجل الخبز والرؤيا والسُلطة، وفضَّل القناعة
والذهاب إلى الصليب ليفدي البشر، فروح المسيح غلب روح الشيطان.

وعند
ذلك اقتربت الملائكة من يسوع وخدمته، وسجدت له طوعاً. فلو سقط يسوع في التجربة،
لزالت آخر فرصة لمصالحتنا مع الله، وحلَّت الدينونة. أما هو فثبت أميناً، فتقدم
وانتصر.

الصلاة:
يا ابن الله القدوس. نسجد لك ولأبيك بفرح وابتهاج. لأنك المنتصر على الشيطان.
اغلبنا أيضاً، لكي نعبد القدوس دائماً في قلوبنا، ونخدمه في أيامنا، ونستسلم إليه
طوعاً، ونتَّبعك في خدمتك. وساعدنا أن نفضِّل البقاء صغيرين محتقرين، من أن نشتهي
المال والسُلطة الفانية، لنبني مستقبلنا على أساس صليبك واسم أبيك القدوس وحده.

 

3 –
بداية خدمة المسيح في الجليل (4 :12- 25)

أ –
المسيح يختار كفرناحوم مسكناً له (4: 7-12)

4: 12
وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ، ٱنْصَرَفَ إِلَى
ٱلْجَلِيلِ. 13 وَتَرَكَ ٱلنَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ
ٱلَّتِي عِنْدَ ٱلْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ، 14
لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ: 15 أَرْضُ زَبُولُونَ،
وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ ٱلْبَحْرِ، عَبْرُ ٱلأُرْدُنِّ،
جَلِيلُ ٱلأُمَمِ- 16 ٱلشَّعْبُ ٱلْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ
أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً، وَٱلْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ ٱلْمَوْتِ
وَظِلالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ. 17 مِنْ ذٰلِكَ ٱلزَّمَانِ
ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ
ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ.

بعد
معمودية يسوع في نهر الأردن وانتصار النور على الظلمة بتجربة المسيح في البرية،
اكتملت خدمة يوحنا المعمدان، فقد عرَّف العالم بالمسيح. وبعدئذ أراد الله إكمال
خادمه المعمدان بالآلام، فتركه لتآمر الشيطان، كما سلَّم أيوب من قبل، لكي يعظم
انتصار الأمناء لله.

واتضح
للمسيح أن أباه لم يقُدْه إلى منطقة اليهودية التي حول الهيكل، بل إلى الأرياف
والجليل. وترك أيضاً يسوع الناصرة بلد صباه، ونزل إلى كفر ناحوم مركز المواصلات،
فسمَّى هذه المدينة مدينته، واتخذها مركزاً لخدماته وعجائبه. ووضع البشير متى
أهمية كبرى ليوضح أن كل خطوة خطاها المسيح كانت مرسومة من قبل في نبوات التوراة.
فبرهن في الأصحاحات السابقة، أن بيت لحم مكان ولادة يسوع، والناصرة مسكنه في صغره،
بحسب ما جاء في النبوات القديمة. وأدرك أيضاً في نبوة إشعياء 9: 1- 2 أن منطقة كفر
ناحوم هي المركز لأعمال يسوع حسب إرادة الله الأزلية.

إن
المسيح هو نور العالم، الذي أشرقت أنوار خدماته في الجليل أولاً، ولأطول مدة في
خدمته. وبما أن هذه المنطقة الجميلة بعيدة عن أورشليم وهيكلها، لم يتعمق سكانها
بالتوراة والناموس والشريعة كما كان الفقهاء في العاصمة، بل كانوا ريفيين خشنين.
وبعضهم كان يشتغل بالتهريب، وقطع الطريق. ففي منطقة الظلام تلك سكن يسوع. وإذ كانت
كلمة زبولون مشتقة من الاسم «زبال» فهكذا نزل المسيح إلى أسفل أنواع شعبه، ليشبع
الجياع إلى البر ويرفعهم إلى المستوى الإلهي.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ت ترتاق 1

وقد
بدأ يسوع بشارته بنفس الكلمة التي قالها يوحنا المعمدان «توبوا». وهكذا ثبَّت الله
خدمة ساعيه الأمين، وبرهن أن الروح القدس يشاء قبل كل شيء تغيير الفكر فينا، وترك
الخطايا، لأن الخطية هي سبب كل ضيقاتنا، كما أن أجرة الخطية هي الموت. فيسوع لا
يحررنا من الضيقات أولاً، بل من سبب كل الضيقات وهو الخطية، ويطلب منا الاستعداد
والعزم لننفصل تماماً عن آثامنا ونبغضها ونتركها بعون الله.

وبما
أن الخطية هي انفصالنا عن الخالق، فإن أمر يسوع بالتوبة يعني إرجاعنا من العزلة
إلى بيت أبينا وملكوته. وهذه العودة إلى مملكة السماوات أصبحت شعار إنجيل متى. فلا
يكتب البشير عن ملكوت الله، ولا عن مملكة المسيح أو الآب، بل يسميها غالباً ملكوت
السماوات، لأن اليهود لم ينطقوا باسم الله إلا نادراً، لكيلا يكسروا وصية عدم نطق
اسمه باطلاً.

إن
السماوات تتم فيها مشيئة الله. وهي ليست فوق أو تحت، بل في كل مكان حيث تجري مشيئة
الله. وفرح السماوات يحل في قلوبنا، إن سكن روح الرب فينا. وقد ظن القدماء أن
السماوات فوق رؤوسنا وجهنم تحت أقدامنا، أما نحن فنعلم أن المسيح معنا كل الأيام
إلى إنقضاء الدهر، فنثبت في رحابه، ونكون في السماء وسط جهنم دنيانا، كما أخبرنا
يسوع «ليكن لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا، أنا قد غلبت
العالم».

والكلمة
«ملكوت» تتطلب مَلِكاً يحمل في شخصه كل حكمة وسلطان ومجد، كما قال المسيح بعد موته
وقيامته «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض». وبهذه الكلمة أعلن ذاته
جلياً كملك السماوات. ونفرح بالحقيقة أن الله مالك، ويملك بواسطة ابنه، وينشيء
لنفسه شعباً.

وقد
تم مجيء مملكة المسيح تدريجياً. أولاً جاء المُمَهِّد يوحنا المعمدان، وبعده الملك
يسوع المنير لأتباعه والمطهّر شعبه على الصليب، ليستحقوا العَيْش في الشركة مع
الله. وبعدئذ حلَّ روح يسوع على مؤمنيه، محققاً دخولنا إلى ملكوت الله. وأخيراً
سيأتي يسوع في مجده لتعم مملكته على الأرض. فتاريخ ملكوت الله يعني تطوراً وحركة
ونمواً نحو الغاية والهدف السامي. إنه قد ابتدأ، وهو الآن حاضر فينا، وسيأتي
علانية. فلهذه الأسباب نسمع كلمة يسوع «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات». فهل
أنت داخل أو خارج رحابه؟ ولا تنس أن المملكة لا تعني خلاصك الشخصي فقط، بل مجموعة
المولودين ثانية في كل الأزمنة، الذين يعيشون في عائلة أبيهم السماوي.

الصلاة:
نعظّمك أيها الرب القدوس، لأنك كررت كلمة التوبة وإعلان ملكوتك، لكيلا نعيش بلا
مبالاة، بل نقوم ونترك خطايانا، بقوة اسمك، ونمارس مشيئتك الرحيمة، مترقبين مجيئك
القريب. فنطلب إليك أن تخلق فينا العزم والثبات للطهارة والقداسة، لنكرم اسمك
الملكي بسلوكنا. وارشدنا لكل الذين يشتاقون للدخول إلى مملكة محبتك، لندعوهم
ونجذبهم.

 

ب –
المسيح يدعو أول أخوين للتلمذة (4: 18-22)

4: 18
وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ أَبْصَرَ
أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ وَأَنْدَرَاوُسَ
أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي ٱلْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا
صَيَّادَيْنِ. 19 فَقَالَ لَهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ
ٱلنَّاسِ. 20 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا ٱلشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. 21 ثُمَّ
ٱجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ
زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي ٱلسَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا
يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. 22 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا
ٱلسَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ.

عرف
التلاميذ الأربعة المذكورن هنا يسوع من قبل، لأنهم لازموا المعمدان ليتخلَّصوا من
عذاب ضمائرهم، واعترفوا بخطاياهم، واعتمدوا في مياه الأردن. وأثناء بقائهم حول
المعمدان سمعوا نداءه، ورأوا إشارته الدالة على يسوع، أنه حمَل الله الرافع خطية
العالم، وأنه أعظم من المعمدان بكثير. فتبعوه. والتقوا به واستفهموا منه من هو،
والتصقوا به، ورأوا مجده في قانا الجليل.

وظهر
بعدئذ أن شركة تلاميذ يسوع تبددت لمدة. فرجعوا إلى مدنهم، وقاموا بالصيد في مهنهم،
ليرتزقوا لأنفسهم وعائلاتهم. إنما العلاقة بين يسوع وبينهم لم تنقطع. ولمَّا حان
الوقت تقدم يسوع إليهم ودعاهم أخوين وأخوين. ولم يكونوا فلاسفة ولا لاهوتيين ولا
أغنياء ولا سياسيين، بل صيادي سمك معتادين على العمل المرهق، ومجرَّبين في خطر
العواصف والأمواج. وقد اتَّقوا الله في انكسارهم، وترقبوا مجيء المسيح بشوق.

فقال
يسوع لهم الكلمة العظيمة «اجعلكم صيادي الناس». وهذه الجملة تُثبت أنهم غير قادرين
أن يربحوا أناساً لله، بل يسوع هو الذي ربَّاهم ليكونوا مبشّرين ماهرين. والمسيح
يريد أيضاً أن يجعلك من صيادي الناس. فهل أنت مستعد أن تدخل مدرسته؟

من
ينظر إلى عمل صيادي السمك في البحر، يجد أساليب مختلفة لمهنتهم، فالبعض يقفون على
الشاطيء ويلقون صنانيرهم إلى المياه، لكي يعض السمك على اللقمة التي في الشص،
وينتظرون بصبر فائق حتى يصطادوا سمكة واحدة. وهكذا نجد في ملكوت الله خدمة الانسان
للإنسان فردياً.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ذ ذهن أذهان ن

ونرى
الخدمة المشتركة في زوارق، إذ تنطلق جماعة من الصيادين داخل البحر. ليرموا الشبكة
الكبيرة إلى المياه، ويجدّفوا معاً، ويجرّوها سوياً، ليصطادوا غنيمة ضخمة. ومما لا
ريب فيه أن الفرد وحده لا يقدر أن يقوم بكل هذه الأعمال، فنحتاج في الكنيسة إلى
جماعات تصلّي وتخدم وتُبشّر معاً، لتربح بشركتها كثيرين ليسوع.

وبجانب
هذين الأسلوبين، نجد طُرقاً أخرى لكسب الخطاة لله. فهناك صيادون لا ينتظرون طويلاً
سمكة سواء أتت أم لم تأت، بل ينطلقون إلى ماء هاديء ليروا السمكة، فيرموا الشبكة
تحيطها وتجرها إليهم. فهكذا علينا أحياناً ألاَّ ننتظر استعداد إنسان من نفسه
ليأتي إلى الله، بل نتقدم إليه مباشرة، ونسأله عن أفكاره بيسوع، ونوجهه إلى كلمة
النعمة.

وشاهدنا
صيادي السمك يضعون شبكة، يتركونها ليلةً أو ليالٍ، ويرجعون بعد مدة، ويفتشون إن
دخلت سمكة إليها أم لا. وهكذا توجد كنائس وجماعات تنشيء لوحة إعلانات من الكتاب
المقدس في الطرق، أو يقومون بالتبشير الهاتفي لنشر كلمة الله، أو يسجلون البشارة
على أسطوانات وأشرطة مقدمين للعموم ملء محبة الله. فمن يقرأ ويسمع يؤمن ويتبع
المخلّص.

وتوجد
بحار عميقة، حيث لا يكفي شغل الإنسان اليدوي، تصيد فيها سفن ضخمة، كمصانع هائلة.
وهذه تشبه المحطات الإذاعية ودور النشر المسيحية، والجماعات المتعاونة لتوزيع
المنشورات. فكلهم في سفينة واحدة يتعبون معاً ليقدموا كلمة الخلاص بأوسع طريق إلى
البشر، ويصطادوا كثيراً من الجماهير ليسوع.

شاهد
يسوع الرجال الأربعة وعرفهم ودعاهم، فسمعوا كلمته، ولم يتأخروا بل قاموا وتركوا
رزقهم، وطلبوا يسوع وحده. فكل من دعاه يسوع ليدخل إلى خدمته طيلة عمره، لا يجوز أن
يلتفت للمال أو الصحة أو الشرف، بل ينظر إلى المعلم وحده.

الصلاة:
نشكرك أيها الرب يسوع، لأنك دعوت تلاميذك للخدمة، وليس للاسترخاء. أنظر إلينا
أيضاً، نحن الغير مقتدرين الأشرار وشجعنا، وعلّمنا كيف نجذب أناساً إليك، لنربح
كثيرين أفراداً وجماعات، في إرشاد روحك القدوس. آمين.

 

ج –
وصف بهي لخدمة المخلّص (4: 23-25)

4: 23
وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ ٱلْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ،
وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ
ضَعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ. 24 فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ.
فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ ٱلسُّقَمَاءِ ٱلْمُصَابِينَ
بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَٱلْمَجَانِينَ
وَٱلْمَصْرُوعِينَ وَٱلْمَفْلُوجِينَ، فَشَفَاهُمْ. 25 فَتَبِعَتْهُ
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ ٱلْجَلِيلِ وَٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ
وَأُورُشَلِيمَ وَٱلْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ.

ما
أجمل هذه الفقرات الأخيرة، التي نعتبرها خلاصة للإنجيل كله! فنقرأ في كلمات قليلة،
ماذا عمله يسوع وقاله وأين ولمن. فاقرأ النص مرة أخرى، تكسب نظرة عامة عن خدمة
يسوع الخلاصية.

1.       لم
يجلس المسيح على كرسي منتظراً إتيان الناس إليه، بل قام وتعب ومشى على قدميه من
قرية إلى قرية، وتجوَّل في الجليل كله، جبالاً وأودية وسهولاً. فانتشرت شهرته مع
الوقت، وتراكض الناس إليه من أورشليم في الجنوب، وعبر الأردن وخلف المدن العشر في
الشرق، ومن سوريا شمالاً. وهكذا أصبح يسوع محوراً مغناطيسياً جذب الجماهير إليه.

2.       وقد
عَلَّم في مجامع اليهود للأتقياء، وبشَّر في الطرق والأزقة والساحات للكافرين
المُهملين. ويرينا البشير متى الفرق الجوهري بين التعليم والتبشير. فالتعليم هو
التعمق في المعرفة بواسطة تفسير النصوص المعينة، وعرض الأفكار المنظمة حسب
العقيدة، وتقديم الأسئلة والأجوبة عليها. وأما التبشير فيشبه صوت البوق لتقديم
الخلاص ودعوة الله للخطاة البعيدين، ليدخلوا إلى نور النعمة. فالتعليم هو للمؤمنين
تعمق في المعرفة لتحقيق المباديء في الحياة العملية. بينما التبشير هو تقديم بشرى
الخلاص لغير المؤمنين. فيسوع كان معلماً ومبشراً في نفس الوقت.

3.       ومضمون
تعليمه وتبشيره كان إنجيل الملكوت. فكلمة «الإنجيل» يونانية، مستعملة آنذاك في بيت
القيصر الروماني، للإعلانات الرسمية، عند ولادة ولد له، أو لنشر خبر عن انتصاره
على الأعداء. فهي تعني إذاً بشرى مفرحة على مستوى القيصر. وأما إنجيل المسيح فيعني
أن الله يخبرنا بولادة ابنه الذي انتصر على الخطية والموت والشيطان، وأن نتيجة هذا
الانتصار هو حلول ملكوت السماوات بين الناس. ذلك الملكوت الذي ينتشر، وليس أحد
يستطيع منعه. فالإنجيل يخبرنا بنموّ سلطة محبة الله في العالمين.

4.       لم
يتكلم المسيح فقط، بل عَمِل ما عَلَّمَ به، فكان قلبه ممتلئاً بالرحمة على
المعذبين البعيدين عن الله، القابعين في سلطة الشيطان، فرحمهم وشفاهم بمحبة فائقة.

وكان
له سلطان على كل أرواح وأمراض، حتى صارت أعماله برهاناً لحضور ملكوت الله على
الأرض. وإلى الآن لا يقدر طبيب أن يشفي المشلولين والمجانين والمولودين عمياناً
بمجرد كلمته ولا بمبضعه، ولا أن يقيم الموتى، ويعلم ما في الصدور. ففي المسيح
ابتدأ الفردوس وسط دنيانا. وقد أتى الخالق إلى خلقه، وبدأ بتجديد المؤمنين به.

الصلاة:
نعظمك يا مخلّص العالم، لأنك لم ترفض الصغار المحتقرين، المرضى واليائسين، بل
قبلتهم وشفيتهم وعزيتهم. ليت ألسنتنا تنطلق لتمجيدك، فيدخل كثير من زملائنا إلى
ملكوت محبتك. يارب اشف وتكلم وادع وانتصر. نحن مزدحمون حولك، مؤمنون بقدرتك
وسلطانك. ونثق باستعدادك وعزمك لخلاصنا. ونشكرك لتحقيق مشيئتك في أمَّتنا اليوم.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي