الإصحَاحُ
الرَّابعُ عَشَرَ – الإصحَاحُ الْخَامِسُ عَشَرَ

 

يقدم
لنا أصحاح 14 سبعة مشاهد وحوادث متتالية كأنها هي الرد الإلهي على العدو الأساسي
الخفي إبليس (ص12) وعلى آلتيه الشريرتين (ص13). أو بالحري إنقاذ الرب لقديسيه
وحمايته لهم من هذا العدوان الثلاثي. ويمكن اعتبار أصحاح14 تلخيصاً لأحداث النصف
الثاني لأسبوع دانيال السبعين، أي لأحداث الضيقة العظيمة. أو إن شئت فقل إنه فهرس
محتويات تلك الفترة العصيبة. وإن كان الشيطان قد أقام رَجُليه على الأرض؛ الوحش
والنبي الكذاب، فإن الآب في رده الغاضب يقول «أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل
قدسي» (مز2: 6).

 

والحوادث
أو المناظر السبعة في هذا الأصحاح هي كالآتي:

 

المنظر
الأول: هو منظر سابق لدوره التاريخي في الأحداث، (كحالة الجمع الماسك سعف النخل في
أصحاح 7) وهو جمع بعدد رمزي 144 اْلفاً، لكنه يختلف عن عدد مماثل له ورد في أصحاح 7.
فهذا الرقم هناك هو بقية من الاثني عشر سبطاً سيدخلون الملك الألفي كما ذكرنا، أما
هنا فيمثل عدد البقية التقية من سبطي يهوذا وبنيامين فقط؛ السبطين اللذين إليهما
جاء الرب أولاً، لكنهم رفضوه وقال آباؤهم «لا نريد أن هذا يملك علينا» (لو19: 14).
أما هذه البقية الأمينة فإنهم سيتبعون الخروف حيثما ذهب. وكما يميز أتباع الوحش
وجود سمته على أيديهم أو جباههم، فإن هؤلاء المفديين عليهم اسم الخروف واسم أبيه
على جباههم.

 

سيأتي
الرب ويملك على بقية تقية من سبطي يهوذا وبنيامين (هم البقية التقية؛ العروس
الأرضية) الذين احتملوا الضيقة العظيمة. لذلك فما أن سمعت ترنيمة شهداء الضيقة
الموجودين في السماء، حتى تجاوبت معها هذه البقية الواقفة على جبل صهيون، أولئك
«الذين اشتُروا من بين الناس باكورة لا علاقة لهذه الباكورة مع الكنيسة، رغم أن
الله أبانا شاء فجعلنا باكورة من خلائقه (يع1:  18)، والكنيسة تدعى «كنيسة أبكار»
(عب12:  23). لكن إذ أن الحصاد المذكور في هذا الفصل (ع 15) هو حصاد أرضي لا سماوي
فكذلك الباكورة هنا هي باكورة أرضية لا سماوية. لله وللخروف».

 

أما
المشاهد الثلاثة التالية فهي عبارة عن ثلاثة ملائكة يظهرون تباعاً (والملائكة هنا
للدلالة على سرعة نقل الرسالة واتساع نطاق إعلانها)، ومع كل واحد من هؤلاء
الملائكة رسالة خاصة.

 

الملاك
الأول: «معه بشارة أبدية». وهي أبدية أي غير مرتبطة بالتدابير المختلفة، بل هي ذلك
الخبر السار الذي كان دائماً، وسيظل باستمرار صادقاً، والذي يفيد أن الوعد القديم
بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية قد حان أوان تنفيذه الفعلي. فمنذ السقوط والإيمان
متمسك بهذا الوعد. على أنه الآن «لا يكون تباطؤ بعد»، وسر الله عتيد أن يتم. ولهذا
يأتي التحذير «خافوا الله وأعطوه مجداً لأنه قد جاءت ساعة دينونته»، وهذا يتمشى مع
يوحنا 16: 8 – 11، حيث يربط دينونة رئيس هذا العالم بكلمة تحذير للخطاة، وكأن
الروح القدس في تبكيته للناس يقول إن كان رئيس هذا العالم قد دين فسوف تدانون أنتم
أيضاً حتما إن سرتم وراءه.

 

الملاك
الثاني: يعلن سقوط بابل ويرد تفصيل ذلك في أصحاحي 17، 18 كما سنتأمل في المحاضرة
التالية.

 

الملاك
الثالث: إنذار للذين يسجدون للوحش؛ أي العالم الذي كان مسيحياً قبل حدوث الارتداد
العلني العام، ومن يدور في فلكه. إن دينونة بابل ستتم بواسطة الوحش، كما سنرى في
حينه، أما دينونة الوحش نفسه فستكون من الله رأساً.

 

لقد
رأينا في ص13 الذين قتلهم الوحش، أما هنا فنرى الذين تحالفوا معه وحظوا برضاه.
ويتضح هنا كم سيكون أفضل جداً أن يموت الإنسان بواسطة الوحش، عن أن يكون نصيبه
العذاب معه. وحقاً ليس أحمق من يضحي بما لا يقدر أن يحتفظ به، ليربح ما لا يمكن
الاستغناء عنه. وكما أشار الوحي إلى صبر القديسين وإيمانهم في أصحاح13، هكذا فعل
هنا أيضاً في ع12 يشير الوحي إلى الذين «يحفظون وصايا الله»، وهم الذين لن يسجدوا
لتمثال الوحش الأول، والذين «يحفظون.. إيمان يسوع» وهم الذين يرفضون إكرام ضد
المسيح؛ الوحش الثاني..

 

بعد
ذلك يأتي الحدث الخامس: وهو تشجيع للمؤمنين في فترة الضيقة. فرفقاؤهم الذين
استُشهدوا وإن كانوا قد خسروا امتياز أن يكونوا رعايا الملكوت، فقد كسبوا أنهم
سيكونون ملوكاً مع المسيح، فانتقلوا من فريق الأرضيين إلى فريق السماويين. وكما
يطوبهم الرائي هنا عندما يموتون، فيستريحون من أتعابهم من الجميل ملاحظة المقابلة
التي يضعها الروح القدس بين الذين يسجدون للوحش والذين يُقتلون بواسطته. فالفريق
الأول انتقل من نعيم وقتي إلى حيث «لا تكون راحة نهاراً وليلاً» (ع11). أما الفريق
الآخر فإنهم سيبدأون راحتهم الأبدية (ع13).، فإنه يعود ثانية ويطوبهم عندما يقومون
من الأموات فيكافئون عن أتعابهم بملكهم مع المسيح (ص20: 4،6).

 

الحدث
السادس: الحصاد – وهو كناية عن دينونة مميزة، ترتبط بظهور المسيح (كملك البر)، وهي
تذكرنا بملاك القضاء "المهلك" الذي اجتاز في أرض مصر وميّز بين بكر
وآخر، هكذا سيكون هنا «اثنان في الحقل يؤخذ الواحد ويُترك الآخر. اثنتان تطحنان
على الرحى تؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى». وهذا الاقتباس ليس عن الاختطاف بل «كذلك
يكون مجيء ابن الإنسان * ** حيثما يرد في الكتاب تعبير مجي ء ابن الإنسان فالإشارة
تكون عن ظهور المسيح لكي يملك، فهو سيملك على الأرض كابن الإنسان (مز8:  4-8، دا 7:
 13،14)، أما مجيئه السري للاختطاف فهو مجي ء الرب، العريس، لأخذ كنيسته عروسه
إليه.*». فكما جاء الطوفان وأخذ الأشرار (مت24: 39)، كذلك ستأتي الضربات وتأخذ
المرتدين. أما الذين يُترَكون فسيدخلون إلى الملك الألفي «في وقت الحصاد أقول
للحصادين اجمعوا أولاً الزوان واحزموه حزماً ليُحرق. وأما الحنطة فاجمعوها إلى
مخزني» (مت 13: 30).

 

الحدث
السابع: المعصرة – وهي كناية عن دينونة عامة على الأمة اليهودية المرتدة، وكذلك
على الجيوش المجتمعة على أورشليم للمحاربة كما سنرى في الجام السادس. في يوم سابق
عُصر شخص المسيح تبارك اسمه؛ الكرمة الحقيقية، وسال دمه الكريم. ولقد قال اليهود
الأردياء في ذلك اليوم «دمه علينا وعلى أولادنا» (مت 27: 25)، سيأتي ذلك اليوم
الرهيب قريباً وفيها يجري دم أولادهم الأشرار نظير آبائهم بالتمام، نعم سيجري دمهم
جريان العصير في المعاصر!

 

ولقد
اقتني يهوذا الخائن في ذلك اليوم حقلاً من أجرة الظلم، عُرف بين اليهود بحقل الدم
ومقبرة الغرباء (مت27: 6-8، أع1: 18-20)، وما كان اليهود يومها يدرون أن بلادهم
على مدي ألفي عام ستصبح مقبرة للغرباء، وأنه ينتظرها أيضاً أن تكون "حقل
دم" بكل معني الكلمة. الآن وقد نضجت عناقيد كرم الأرض التركيز هنا على كرم
الأرض، أي إسرائيل والدينونة الرهيبة التي ستقع عليهم. أما في إشعياء 63 فإن
التركيز هو على الأمم.، فلابد لها من أن تعصر. وسيدوس الرب المعصرة وحده تتميماً
لإشعياء 63، سيدوسها "خارج المدينة" انتقاماً لدمه الذي سُفك خارج
المدينة، حتى أن الدم سيجري أنهاراً ويصل إلى لجم الخيل ويكون ذلك لمسافة 1600 غلوة
أي نحو 300 كيلومتر وهي طول أرض إسرائيل كلها!

 

يعود
الرائي في أصحاح 15 ليصف لنا الضربات الأخيرة التي بها أكمل غضب الله * ** الغضب
الذي سينصب على العالم في فترة الضيقة يُنسب إلى الله (قارن مز 110:  1، إش9:  7).
أما ما يلي ذلك من غضب سواء في الظهور ودينونة الاْحياء والملك ثم دينونة الأموات
(وهي الفترة التي تسمي بيوم الرب) فهي كلها مرتبطة بالرب يسوع المسيح. وفي المزمور
الثاني الذي يتحدث عن ملك المسيح؛ بينما يبدأ المزمور بالإشارة إلى غضب الله (ع5)
فإنه يختم بغضب الخروف في الظهور (ع12). قارن إشعياء63:  1-6.*. لكن قبل ذكر هذه
الضربات يرسم لنا الوحي مشهداً يرتاح فيه الرب، إذ يصور لنا الفئة المقابلة للفئة
المذكورة في أول أصحاح 14. فأولئك هناك هم الواقفون على جبل الملك مع الخروف، أما
هؤلاء هنا فهم الموجودون في المجد؛ الواقفون على البحر الزجاجي (أنظر ص4: 6).
الفريق الأول هم الذين يتبعون الخروف على الأرض (14: 4)، والفريق الثاني هم الذين
يرنمون له في المجد! هناك نجد من تعلم الترنيمة، وهنا نجد من رنمها.

 

وهذا
البحر الزجاجي مختلط بنار، بالنظر إلى كونهم قد اجتازوا الضيقة العظيمة ونيرانها
الممحصة. ونسمعهم يرتلون ترنيمة موسى عبد الله وترنيمة الخروف. وترنيمة موسى هي
ترنيمة نصرة الشعب على فرعون؛ إنها النصرة الأولى في تاريخهم، لكن بقيت نصرة أخيرة
لهم لا على فرعون فحسب بل على كل الأعداء عبر كل تاريخهم الطويل، وهذه النصرة لا
تنسب لموسى بل للخروف. الترنيمة الأولى كانت بجوار البحر الأحمر، أما هذه فبجوار
البحر الزجاجي الناري. الترنيمة الأولى نجدها في خروج 15 والثانية في رؤيا 15.

 

وحقاً
ما أجمل كلمات ترنيمتهم للخروف «عظيمة وعجيبة هي أعمالك أيها الرب الإله القادر
على كل شئ. عادلة وحق هي طرقك يا ملك الأمم. من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك لأنك
وحدك قدوس؛ لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك لأن أحكامك قد أُظهرت». وترنيمة
السجود هذه لله على أعماله وطرقه تدل على أن ما لا نقدر أن نفهمه هنا من معاملات
الله معنا سنفهمه هناك عندما نقف على البحر الزجاجي. والذين اختبروا أمانة الرب في
ظروف عصيبة نارية (ع2) ستكون لهم نغمة أعلى وأحلى. فإن الضيقة الوقتية الخفيفة
تنشئ أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً (2كو4: 17)، وأيضاً فرحاً وترنيماً أبدياً (1بط4: 13)!

 

أما
باقي الأصحاح فيصف لنا خلفية صب جامات الغضب الإلهي على الأرض. ومدلول الجامات أن
محتوياتها تسكب حتى آخر قطرة، بسرعة فائقة، وفي فترة زمنية أقل. وياله من مدلول
رهيب! والمقابلة بين السكيب الذي كان يسكب على الذبائح قبل إيقادها، وبين الجامات
التي ستنصب على العالم قبل حرقه ذات دلالة هامة. ولهذا فلقد امتلأ الهيكل هنا، لا
من سحابة البخور العطر، بل من الدخان المقبض الخانق. لكن سواء في هذا أو في ذاك
فإن مجد الله قد تحقق (ع 8). لكن ليس المجد المرتبط بالنعمة في الخلاص، بل المجد
المرتبط بالبر في القضاء (قارن مع رومية 9: 22،23).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي