"طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت
السماوات" [ع 3]

 

  فماذا يعني بـ "المساكين
بالروح"؟ إنهم المتواضعون ومنسحقو القلب. لأنه يعني "بالروح" هنا
نفس الإنسان وملكة الاختيار. ذلك لأنه يوجد كثيرون متواضعون ومذَلون ولكن ليس عن
اختيار وطواعية، بل مُجبَرين تحت وطأة ظروف الحياة. إنه لا يقصد مثل هؤلاء في هذا
الصدد، بل يطوِّب أساسًا هنا أولئك الذين باختيارهم يتواضعون ويذلون أنفسهم.

  ولكن لماذا لم يقل "طوبى
للمتواضعين"، بل "للمساكين"؟ لأن هذه الأخيرة أكثر اتساعًا من تلك.
فهو يعني هنا: أولئك الذين يمتلئون بالخشية والرهبة لدى سماعهم وصايا الله. هؤلاء
أيضًا الذين يقول الله عنهم بفم نبيِّه إشعياء قابلاً إياهم بحق: "إلى هذا
أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2). لأنه
بالحقيقة توجد أنواع من التواضع: فيوجد المتواضع على قدر قامته، وآخر ينزل إلى
أقصى حدود التواضع. هذا الأخير (الذي هو من القلب) يمتدحه النبي المبارك مصورًا
لنا، لا مجرد خضوع النفس، بل انكسارها كلية، وذلك عندما يقول: "الذبيحة لله
روح منسحق، والقلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله" (مز 51: 17). وها الفتية
الثلاثة يقدمون انسحاقهم هذا كذبيحة عظمى لله قائلين: "ولكن في نفس منسحقة
وروح متواضعة ليتنا نكون مقبولين لديك" (دا 3: 39) هذا هو ما يطوِّبه المسيح
الآن.

3.
ولما كانت أكثر الشرور جسامة هي الكبرياء، تلك التي بسببها دخل الذين جلبوا الخراب
على العالم: لأن إبليس إذا لم تكن له فضيلة التواضع الأولى، بل تبع الكبرياء، صار
شريرًا، كما يعلن ذلك بولس الرسول بكل صراحة ووضوح قائلاً: "لئلا يتصلف،
فيسقط في دينونة إبليس" (1 تي 3: 6). كذلك أيضًا الإنسان الأول لما انتفخ
بواسطة الشيطان الذي أوعز إليه بتلك الأمنيات الكاذبة جُعل عبرة، وصار قابلاً
للفناء (بعد أن أُعد أن يكون إلهيًا خالدًا)، وورث هؤلاء الذين جاءوا بعده
الكبرياء والطمع وقد أقحم كل منهم بنفسه في طريق الضلال متوهمًا وراغبًا أن يكون
مثل الله، لهذا أقول إن هذه الرذيلة هي أصل آثامنا، ومنبع كل شرورنا.

هل تبحث عن  ئلة مسيحية مقاومة الأفكار ر

ولكي
يعد الله الدواء الناجح للداء، وضع قانون التواضع أولاً كقاعدة قوية ومأمونة، وهذه
إذ ترسخ كأساس فإن البناء الذي يُقام عليها سيكون مضمونًا ومأمونًا كله. أما إذا
غاب الأساس، فلو بلغ الإنسان حتى عنان السماء في سيرة حياته، فإن كل شيء يتلف لا
محالة ويهوي إلى نهاية سحيقة. لو اجتمع الصوم والصلاة والصدقة والعفة وكل صلاح آخر
مهما كان – لو اجتمعت فيك كل هذه – ولكن بدون تواضع فإن كل شيء سيتلاشى حتمًا
وينتهي إلى زوال.

كان
هذا هو نفس الحال في مثل الفريسي، لأنه حتى بعد أن بلغ الذروة (في تقواه) رجع
خاسرًا كل شيءٍ، إذ لم تكن له دعامة الفضائل، فكما أن الكبرياء هي أساس كل الشرور،
هكذا التواضع هو مبدأ كل انضباط للنفس، من أجل ذلك أيضًا نجد أن الرب يبدأ باقتلاع
التعالي من جذوره، من داخل نفوس سامعيه.

ورُب
سائلٍ يقول: "وكيف يكون هذا وتلاميذه كانوا على أي تقدير متواضعين، لأنه في
الحقيقة لم يكن لهم شيء يتفاخرون به، لكونهم صيادين فقراء، وليسوا ذوي حسب أو نسب،
وأُمِّيين". لكن حتى ولو كانت تلك الأمور لا تعني تلاميذ الرب، إلا أنها
بالتأكيد كانت تهم الحاضرين، والذين سيؤمنون به بواسطة التلاميذ فيما بعد، حتى لا
يحتقرهم أحد بسبب هذا الأمر حال كونهم فقراء وضعاء.

مع
هذا كان من الأصوب أيضًا أن نقول إن تعاليم الرب كانت تعني تلاميذه، فحتى لو لم
يكونوا حينذاك
؟؟؟؟ لكن من المؤكد إنهم كانوا سيحتاجون بعد
قليل إلى هذا الدعم بالآيات والعجائب التي يجرونها، والكرامة التي ينالونها من
العالم وثقتهم في الله، لأنهم لم يكونوا قد حصلوا على الثروة ولا القوة ولا
السلطان الملوكي بالكمال حتى الملء، ومع هذا وهو أمر طبيعي حتى وقبل صُنع الآيات
أن يرتفعوا حينما كانوا يرون الجماهير الغفيرة من تابعيهم والمستمعين ملتفين حول
معلمهم، لابد وأنهم كانوا يشعرون بشيء من الزهو الناجم عن الضعف البشري. لذا أراد
الرب أن يقمع زهوهم على الفور.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ع عَزاز ز

كان
يقدم أيضًا أقواله هذه لا بطريق إسداء النصح أو الوصايا، بل بطريق المدح والتطويب،
جاعلاً كلمته هكذا أقل وطأة، وفاتحًا للجميع مجال تطبيق تعليمه الضابط للسلوك
والعمل فلم يقل هذا الشخص أو ذاك مُطوَّب، بل قال: "أولئك الذين يعملون هكذا
جميعهم مطوَّبون (طوباهم)". حتى وإن كنت عبدًا رقيق الحال، أو متسولاً، أو
مسكينًا، أو غريبًا، أو جاهلاً، فلا شيء يمكنه إعاقتك من أن تكون مطوبًا إذا ما
تمثَّلت بهذه الفضيلة

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي