"لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء" [ع17]

 

3.
الناموس القديم وناموس ربنا يسوع المسيح

لماذا
يقول ذلك؟ هل ارتاب أحد في الرب؟! أو من اتهمه حتى يدفع عنه هذا الاتهام؟ وهل ساور
الناس الشك بسبب ما قيل قبلاً. كيف هذا؟ وهو يوصي الناس بالوداعة والتواضع والرحمة
ونقاوة القلب والجوع والعطش لأجل البرّ. فهل يدل ذلك على مثل هذا الشك، أم أن
العكس هو الصحيح، ولأي سبب يا ترى يقول ذلك؟ هناك سبب جدٍ معقول:

فهو
مزمع أن يشرِّع لوصايا أعظم من وصايا العهد القديم قائلاً: "قيل للقدماء لا
تقتل، أما أنا فأقول لكم لا تغضبوا"، وحتى يمهد لهم الطريق إلى حديث إلهي
سماوي، وحتى لا تضطرب نفوس السامعين لغرابة ما يسمعونه ولئلا يتمردوا ضد ما يقوله،
اتبعَ هذه الوسيلة ليعدهم إعدادًا جيدًا سلفًا.

 فعلى
الرغم من أنهم لم يكملوا الناموس فإن وعيهم مسودٌ من الناموس تمامًا. وبينما
يقاومون الناموس كل يوم، كانوا يتمسكون بحرفيته، ولا يبدلونه أبدًا. وحتى لا يضيف
أحد إليه أي شيء جديد، فإنهم ربما كانوا يدفعون رؤساءهم أن يضيفوا المزيد لا
للأفضل بل للأسوأ. لأنهم هكذا اعتادوا أن يتخلوا عن الكرامة اللائقة بآبائنا
بإضافاتٍ من عندهم، بل كانوا يتحررون من كثير من الأمور الموصى بها (مر 7: 11–13)،
بإضافات في غير محلها. ولأن المسيح في المقام الأول لم يكن من السبط الكهنوتي،
ولأن الأمور التي كان مزمعًا أن يقدمها كانت بمثابة إضافات، لا تقلل بل تزيد من
الفضيلة، وإذ كان يعلم بسابق علمه أن تلك الأمور ستزعجهم، وقبل أن يدوِّن في
أذهانهم هذه القوانين العجيبة، طرح أولاً ما تراكم عندهم من أمور ماضية، فما هو
ذلك الشيء الراكد الذي كان يشكل عقبة؟

 

 2.
لقد ظنوا أنه يتكلم هكذا بغرض إلغاء أو نقض القوانين القديمة، لهذا راح يعالج شكهم
هذا في كل مناسبة. فحين حسبوه مقاومًا لله، إذ بحسب ظنهم لم يحفظ السبت، وحتى
يعالج ارتيابهم فيه كان يعلل ما يقول بأسباب تليق بشخصه وطبيعته مثلما يقول:
"أبي يعمل… وأنا أعمل" (يو 5: 17)، وبعض أعماله تلك كانت أعمال تنازل
وعطف، مثلما كان يأتي بالخروف الضال في يوم سبت (مت 12: 11) مشيرًا إلى أن عمله
هذا لا يؤثر في حفظ السبت، فذكر لهم الختان كأمر له نفس التأثير (يو 7: 23).

حرصه
أن يزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم لله

لذلك
نجده في أحوال كثيرة ينطق بكلمات أدنى من مرتبته، ليزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم
لله. ولهذا السبب فإن الذي أقام آلاف الموتى بكلمة واحدة منه، وحتى قبل أن ينادي
على لعازر من القبر، صلى، ولئلا يظهر لهم وكأنه أدنى من الآب، وحتى يصحح هذا الشكل
أضاف "قلت ذلك… لأجل هذا الجمع الواقف ليؤمنوا أنك أرسلتني" (يو 42:
11)، ولم يكن يعمل كل الأعمال كواحدٍ يعملها بقدرته الذاتية، حتى يقوِّم ضعفهم
بشكل صحيح، ولا كان يفعل كل شيء بالصلاة، لئلا يترك في قلوبهم ارتيابًا شديدًا من
جهته، وكأنه مجرد من القوة والسلطان، وكان يمزج هذا بذاك. بحكمة لائقة بشخصه، لأنه
وهو يصنع الأعمال العظيمة بسلطانه كان يرفع عينيه نحو السماء.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد قديم سفر راعوث 04

هكذا
حين كان يغفر الخطايا، ويعلن عن أسراره، ويفتح الفردوس ويطرد الشياطين، ويطهر
الأبرص ويقيد الموت، ويقيم الموتى بالآلاف. كان يفعل كل ذلك بسلطانه وأمره، لكنه
في أمور أقل من هذه بكثير حين كان يبارك الخبزات القليلة لتصبح كثيرة بوفرة، كان
يرفع عينيه إلى السماء مشيرًا إلى أنه لم يكن يفعل ذلك عن ضعف، لأن الذي يقدر أن
يحقق عظائم الأمور بسلطانه، كيف يصلي في الأمور الأقل؟ ومثلما كنت أقول لكم أنه
يفعل ذلك ليخرس خزيهم، وأنا أطلب منكم نفس الشيء حيال كلماته عن الأمور الصغيرة.
ومن حيث كلامه أو أعماله فإن هناك أسبابًا كثيرة نُعللها.

فمثلاً
لا يليق بنا أن نعتبره غريبًا عن الله من حيث تعليمه وانتظاره للناس كلهم، ومن حيث
تعليمه التواضع. ومن حيث أخذه جسدًا، وعدم قدرة اليهود سماع كل ذلك في الحال،
وتعليمه لنا ألا نتحدث عن أنفسنا بكبرياء، ولهذا السبب عينه كان في كل الأوقات
يتكلم بتواضع عن نفسه، أما عظائم الأمور فكان يترك للآخرين مهمة الحديث عنها. و في
حديثه إلى اليهود والرد علي مجادلاتهم كان يقول: "قبل إبراهيم أنا كائن"
(يو 8: 58).

أما
تلميذه فكتب يقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة
الله" (يو 1:1). وأيضًا هو نفسه الذي خلق السماوات والأرض والبحر، وما يُرى
وما لا يُرى، فإنه لم يكن يعبر شخصيًا أو بذاته عن ذلك في أي موضع، لكن تلميذه كان
يقولها بصراحة، ولم يخفِ شيئًا، وكان يؤكد ذلك المرة تلو المرة أن: "به كان
كل شيءٍ، وبغيره لم يكن شيء مما كان، وأنه كان في العالم وكُوِّن العالم به"
(يو 3: 1-10).

ولا
نتعجب أن كثيرين آخرين قالوا عنه أمورًا أعظم من التي ذكرها هو عن نفسه في كل
الأحوال. فما أظهره بأعماله وكلامه لم يجاهر به علانية. فالذي خلق كل البشر أظهر
ذلك بكل وضوح مع المولود أعمي، لكن في حديثه عن خلقتنا في البدء لم يقل أنا صنعت
بل قال: "الذي خلق من البدء، خلقهما ذكرًا وأنثى" (مت 19: 4). والذي خلق
العالم كله بكل ما فيه من موجودات، أظهر ذلك باستخدامه الأسماك والخمر. والأرغفة
(أرغفة القمح) وإسكات البحر وشعاع الشمس الذي سلطه علي عود الصليب، وأمور أخرى
كثيرة لكنه لم يقل ذلك صراحة في أي موضوع تكلم فيه. مع أن تلاميذه ظلوا يعلنون ذلك
باستمرار. هكذا فعل يوحنا وبولس وبطرس. وهم الذين كانوا يسمعون عظاته ليل نهار.
ويرونه وهو يصنع المعجزات، وهم الذين شرح لهم الرب كل شيء علي انفراد ووهبهم قوة
عظيمة لإقامة الموتى، وجعلهم كاملين، حتى تركوا كل شيء لأجله وتبعوه. فإن هؤلاء
وحتى بعد أن مارسوا أعظم الفضائل في إنكار ذات، ولم تكن لديهم القدرة علي الشهادة
بذلك، قبل حلول الروح القدس عليهم، فكيف يمكن لليهود العديمي الفهم البعيدين كل
البعد عن هذا السمو، أن يقتنعوا بكلامه، ولا يزعمون أنه غريب عن الله، وهم كانوا
حضورًا بلا ترتيب وعن غير قصد حين كان يقول أو يفعل شيئًا. إن لم يكن قد قصد هو
عمليًا أن يمارس التواضع في كل حين، وكان تواضعه عظيمًا.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس تشكيل فاندايك وسميث عهد قديم سفر يشوع 13

وعلى
هذا الأساس نرى حتى وهو يبدو لهم أنه يكسر السبت، لم يأتِ بمثل هذا التشريع وكأنه
عن عمدٍ مقصودٍ، بل يضع معه العديد من الأسانيد للدفاع عن الحق، فحين كان يوشك أن
يلغي وصية ما، كان يتحفظ كثيرًا في كلامه حتى لا يربك السامعين. بل أكثر من ذلك
أنه حين كان يضيف إلى الناموس السابق، تشريعًا أو قانونًا آخر كان يريد أن يظهر
منتهى الانضباط، والانتباه، وليس فقط بغرض إنذار سامعيه، ولهذا السبب عينه، لا
نراه يعلِّمُ في أي مكان بوضوح حول لاهوته، لأنه إن كانت إضافته للناموس تحيرهم
كثيرًا – وهذا مؤكد – فكم بالحري إعلانه عن نفسه أنه هو الله.

 

3.
لهذا السبب، نطق المسيح بأمور كثيرة، أدنى بكثير من الكرامة التي تليق به. وهنا
وإذ يوشك أن يضيف إلى الناموس، أدخل عددًا وفيرًا من التصحيحات مسبقًا، فهو لم يقل
إنه "لا يريد أن ينقض الناموس" مرة واحدة وكفى، بل كان يكرر هذا القول
مرات عديدة، بل وأضاف شيئًا آخر أعظم، فعند قوله: "لا تظنوا إني جئت
لأنقض"، أردف قائلاً: "ما جئتُ لأنقض بل لأكمل"، وهكذا أوقف عناد
اليهود وسد أفواه الهراطقة الذين يقولون إن العهد القديم هو من الشيطان. لأنه إن
كان المسيح قد جاء ليحطم طغيان إبليس، فكيف يبيد القديم، بل أن يكمِّله. لأنه لم
يقل فقط: "أنا لا أنقضه" وكان يكفيهم هذا القول، بل يقول "بل
لأكمل" وهي كلمات إنسان لا يناقض نفسه بل بالحري لديه كل الثقة فيما يقول.
ورب سائلٍ: وكيف لا ينقضه؟ وما البرهان على أن الرب قد أكمل بالأحرى كلاً من
الناموس والأنبياء!

 

قد
أكمل الرب الأنبياء بقدر ما أكمل من أعمال أيدت كل ما قيل عنه
"بالأنبياء"، حيث اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل ما يجرى بواسطة الرب،
"لكي يتم ما قيل بالأنبياء" وذلك حين وُلدِ (مت 1: 22-23)، وحين ترنم
الأطفال له الترنيمة العجيبة عندما امتطى ظهر الأتان (مت 21: 5–16). وفي مناسبات
عديدة أكمل أمورًا سبق التنبؤ بها والتي لم تكن لتتحقق كلها لولا مجيئه في الجسد0

أما
الناموس فقد أكمله بعده طرق: إنه لم يتعدَّ أية فريضة في الناموس، بل أكمل الناموس
كله0

اسمعوا
ما يقوله ليوحنا المعمدان "يليق بنا أن نكمل كل برّ" (مت 3: 15) ويقول
لليهود أيضًا "من منكم يبكتني على خطية" ( يو 8: 46) ويقول لتلاميذه
كذلك "رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيِّ شيء" (يو 14: 30) وقال النبي
عنه منذ القديم: "أنه لم يعمل خطية" (إش 53: 9). وهذا كله جانب واحد من
جوانب إكماله للناموس.

أما
الجانب الآخر فقد أتم الناموس فينا، وهذا هو العجيب في أنه ليس هو نفسه فقط الذي
أكمله، بل منحنا هذا بالمثل. وهو ما يعلنه بولس الرسول قائلاً: "لأن غاية
الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن" (رو 10: 4)، وقال أيضًا: "دان
الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس بحسب الجسد"
(رو 3: 8-4)، ثم قال: "أنبطل الناموس بالأنبياء، حاشا، بل نثبت الناموس"
(رو 3: 31) لأن الناموس كان يهدف إلى أن يتبرر الإنسان، ولما لم تكن له القدرة على
ذلك، جاءنا الرب عن طريق الإيمان، فأسس ما أراده الناموس وما لم يستطعه الناموس
حرفيًا، أتمه المسيح بالإيمان، وعلى هذا الأساس يقول: "لم آت لأنقض الناموس".

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد قديم سفر أخبار الأيام الثانى 09

 

4.
لكن إذا سأل إنسان بإمعان أكثر، فسنجد معنى آخر في سياق الأمر، خاص بقول المسيح:
"ما جئت لأنقض بل لأكمل"، فما هو هذا المعنى وما هو مفهوم الناموس
المستقبل الذي يوشك المسيح أن يسلمه لهم؟ لأن أقواله لم تكن نقضًا للسابق، بل
امتدادًا له حتى الكمال، فمثلاً وصية "لا تقتل" لم ينقضها بقوله
"لا تغضب" بل أكملها بالحري، إذ وضعها في صيغة أكثر أمنًا. وهكذا الحال
بالنسبة للوصايا الأخرى.

هكذا
ترون أنه كما سبق وطرح بذار التعليم دون ما شك، حتى إذا ما جاء الوقت الذي فيه
يقارن بين الوصايا القديمة والجديدة ويتعرض للشبهة أنه وضعها متناقضة! فقد سبق
فوضع النتيجة النهائية لصياغة الوصية القديمة بعد تكميلها بالجديدة، فقد نشر الرب
قبلاً هذه التعاليم ٍبشكل سري مخفي: فمثلاً عندما قال: "طوبى للمساكين"
كانت هي نفسها – وإن كانت بصورة أخرى – عندما طالبنا أن لا نغضب. و"طوبى
لأنقياء القلب" تعادل "لا تنظر إلى امرأة وتشتهيها في قلبك"، ووصية
النهي عن "كنز كنوزنا في الأرض" تتطابق مع "طوبى للرحماء".
فالحزن وقبول الاضطهاد والطرد والتعيير تتفق كلها مع "الدخول من الباب
الضيق"، و
"الجوع" و
"العطش" من أجل البرّ هو نفس ما قاله الرب فيما بعد: "كل ما تريدون
أن يفعل الناس بكم افعلوه أنتم أيضًا بهم" (مت 7: 12).

وعندما
أعلن الرب "طوبى لصانعي السلام" كان يعني نفس الشيء عندما أوصى أن يترك
المسيحي "قربانه على المذبح" ليتصالح مع أخيه الذي أحزنه، وأن
"يتراضى مع الخصم".

وإذا
كان في بداية عظته قد بدأ بوضع المكافأة لمن يعملون الصلاح، فكما قال في ذلك
الموضع: "الودعاء يرثون الأرض" هكذا هنا يقول: "من قال لأخيه يا
أحمق يكون مستوجب نار جهنم" وهناك قال: "أنقياء القلب يعاينون
الله" وهنا يعتبر كل من نظر نظرة شهوانية بغير تعفف زانيًا بالفعل. وإذ قال
هناك "إن صانعي السلام يدعون أبناء الله" فإنه يحذرنا هنا من خطر الوقوع
في يدي الخصم لئلا يسلمنا إلى الحاكم.

 وهكذا
أيضًا مثلما يبارك ويطوِّب الحزانى والمضطهدين، نراه في المرة التالية وهو يؤسس
نفس التشريع، يهدد بالهلاك أولئك الذين لا يسلكون الطريق الضيق، بل يدخلون من
الباب الواسع، حيث يلقون في النهاية حتفهم. وحين يقول: "لا تقدرون أن تخدموا
الله والمال" يؤكد نفس المعنى السابق في قوله "طوبى للرحماء" و
"طوبى للعطاش والجياع إلى البرّ".

وكما
قلت، ولأن الرب مزمع أن يوضح تلك الأمور لهم أكثر، بل ولكي يضيف إليها المزيد؛
لأنه لم يعد يطلب من الإنسان أن يكون رحيمًا فحسب، بل طالبنا بالأكثر، أن نعطي
ثيابنا، ولا يطلب أن يكون الإنسان وديعًا فحسب، بل أن نحول خدنا الآخر لمن لطمنا
على خدنا الأول، لهذا يبدأ أولاً في إزالة أي تناقض ظاهري "لا تظنوا إني جئت
لأنقض"، ثم يضيف: "ما جئت لأنقض بل لأكمل".

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي