عظة (4)

"فليضئ
نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في
السموات"

(مت
5: 16)

 

وما يبدو مناقضا لها "احترزوا
من أن تصنعوا برّكم
[1] قدام الناس لكي ينظروكم"

 (مت
6: 1)

 

1. أحبائي الأعزاء إن
ما جاء في عظة ربنا يسوع المسيح الواردة في الإنجيل تحيِّر الكثيرين إذ بعد ما قال
"فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في
السموات" قال "احترزوا من أي تصنعوا برّكم قدام الناس لكي ينظروكم"،
لأنه يضطرب عقل ضعيف الفهم هكذا فإذ يرغب في طاعة كلا الوصيتين يتشتت فكره بسبب
الاختلاف والتناقض بينهما. لأنه كما يشهد المخلص نفسه في هذه الموعظة بأنه لا يقدر
أحد أن يخدم إلا سيدًا واحدًا، فلو خدم سيدين قد تعطي له أوامر متضادة. ماذا يفعل
العقل عندما يتردد إذ يفكر في استحالة تنفيذ الوصيتين، (وفي نفس الوقت) يخاف من
عصيان أحدهما. فإذا أظهر أعماله الحسنة ليراها الناس حسب الوصية القائلة:
"فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في
السموات"، فإنه يشعر بأنه قد أذنب بمخالفة للوصية الأخرى القائلة:
"احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس لكي ينظروكم". فإذا ما خاف
وتجنب ذلك مخبئًا أعماله الحسنة يظن أنه قد عصى ذلك الذي أوصى قائلاً: "فليضئ
نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة".

2. أما صائب الفهم فهو
ينفذ الوصيتين، وبذلك يطيع رب الكل في كليهما. فإن لم تكن هناك إمكانية لتنفيذ
الوصايا ينبغي أن لا يدين الخادم المتواني في تنفيذها.

أصغوا إلى بولس
"عبد يسوع المسيح المدعو رسولاً المفرز لإنجيل الله" (رو 1:1)، إذ عمل
وعلم بهما. انظروا كيف أضاء بنوره قدام الناس حتى يروا أعماله الصالحة. لقد قال
"مادحين أنفسنا لدى ضمير كل إنسان قدام الله" (2 كو 4: 2). وأيضًا
معتنين بأمور حسنة ليس قدام الرب فقط بل قدام الناس أيضًا" (2 كو 8: 21). وأيضًا
"كما أنا أيضًا أرضوا الجميع في كل شيء" (1 كو 10: 33). انظروا من
الناحية الأخرى كيف يحترز من أن يصنع برّه قدام الناس لينظروه إذ يقول:
"ليمتحن كل واحد عمله وحينئذ يكون له الفخر من جهة نفسه فقط لا من جهة
غيره" ( غلا 6: 4). وأيضًا: "لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا" (2 كو
1: 12). كذلك هذا النص الأوضح من الجميع "فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا
للمسيح" (غلا 1: 10). ولكن لئلا يفتري أحد المرتبكين في وصايا ربنا
نفسه – فينظرا إليها كأنها متناقضة – ضد رسوله قائلاً: كيف يقول "كما
أنا أيضًا أرضوا الجميع في كل شيء" ومع هذا القول "فلو كنت بعد أُرضي
الناس لم أكن عبدا للمسيح"؟ ليت الرب الذي تكلم في عبده ورسوله يكون معنا
مظهرًا لنا إرادته معلنًا لنا الوسائل التي نطيع بها الوصايا.

3. إن نفس كلمات
الإنجيل تحمل في ذاتها تفسيرًا لها، دون أن تسد أفواه الجائعين إليها، إذ ترى أن
عليها تقتات قلوب أولئك القارعين فينبغي أن نهتم بنية قلب الإنسان واتجاهاته
ومقاصده، فالذي يرغب في أن يرى الناس أعماله الحسنة مظهرًا أمامهم عظمته ومحاسنه
باحثًا عن هذا المجد في نظر البشر لا ينفذ أي الوصيتين التي علَّمنا إياهما الرب
في هذا الموضوع. إنه يهتم بصنع البرّ أمام الناس لكي ينظروه فلم يضئ نوره قدام
الناس فيروا أعماله الحسنة ويمجدوا أباه السماوي.

إنه يرغب في مجد نفسه
لا في مجد الله ساعيًا وراء مصلحته الخاصة غير محب لإرادة الله. يقول الرسول عن
مثل هؤلاء "إذ الجميع يطلبون ما هو ليسوع المسيح" (في 2: 21)، لذلك لا
تنتهي الآية بهذه الكلمات "فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم
الحسنة"، بل أضاف الهدف من هذا العمل وهو "فيمجدوا أباكم الذي في السموات"
فالإنسان الذي يصنع الأعمال الحسنة يكون هدفه هو صنع الخير من ضميره دون أن يقصد
معرفة الناس له إلا لتمجيد الله، لمنفعة الذين يعرفونه، فإليهم تريد المنفعة إذ
يسرون بالله الذي أعطى الإنسان هذه القوة وبذا ألا ييأسون بل تمنح لهم القوة عينها
إن أرادوا.

إنه لم ينهي الوصية
الأخرى "احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس" إلا بهذه الكلمات
"لكي ينظروكم". لم يضيف في هذه الحالة "فيمجدوا أباكم الذي في
السموات". وبذلك أظهر لنا أن لا يكون مؤمنيه مثل هؤلاء الذين يسعون وراء
المكافأة في هذا الموضوع حتى يراهم الناس، فيوجهون كل اهتمامهم فيما ينظرونه إليهم،
وبذلك تسر كبرياء قلوبهم وغرورهم وتعظمهم وتشامخهم وفسادهم، لأنه لماذا لم يكتف
بالقول "احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس" بل أضاف "لكي
ينظروكم"، إلا لأن هناك من "يصنعون البرّ أمام الناس" من أجل أن
يراهم الناس بل لكي ترى الأعمال نفسها فيمجدوا الآب السماوي الذي وهب تلك العطايا
للأشرار الذين يبرهم؟

4. إن أمثال هؤلاء لا
يصنعون البرّ كأنه منهم بل من الله بواسطة الإيمان الذي به يحيون حيث يقول الرسول
أيضًا "لكي أربح المسيح وأوجد فيه وليس لي برّي الذي من الناموس بل الذي
بإيمان المسيح البرّ من الله بالإيمان" (في 3: 8-9). وفي موضع آخر يقول
"لنصير نحن برّ الله فيه" (1 كو 5: 21). وأيضًا حيث يظهر خطأ اليهود بقوله
"لأنهم إذ كانوا يجهلون برّ الله ويطلبون برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ
الله" (رو 10: 3)، فالذين يرغبون في إظهار أعمالهم الحسنة للبشر حتى يمجدوا
ذاك الذي أخذوا منه هذه الأعمال الظاهرة فيهم، فيدفع الذين يرونهم نحو تقليدهم
بواسطة الإيمان، فبالحق يضيء نورهم أمام الناس لأن منهم تنبعث أشعة نور المحبة.
فليس نورهم مجرد رائحة كبرياء، ففي عملهم يحذرون من أن يظهروا أعمالهم للناس بحيث
يفهمون أن هذا البرّ منهم، ولا لكي يظهرون أنفسهم، بل يعرف الله الذي يتمجد في
الذين تبرروا، وبذلك يعطي الله الذين يمجدونه الأمور التي يمجدها الآخرون فيها، أي
أن الله يجعلهم هم أنفسهم موضع التمجيد.

لاحظوا الرسول أيضًا
كيف أنه عندما قال: "كما أنا أيضًا اِرضوا الجميع في كل شيء" (1 كو 10:
33)، فإنه لم يقف عند هذا كما لو كان إرضاء الناس هو هدفه النهائي وإلا كان كلامه
باطلاً عندما يقول "لو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبدا للمسيح" (غلا 6: )،
بل أردف للحال عن سبب إرضاءه للناس قائلاً: "غير طالب ما يوافق نفس بل
الكثيرين لكي يخلُصوا" (1 كو 10: 33). لذلك فإنه لا يُرضي الناس لأجل منفعته
الخاصة وإلا فلا يكون "عبدا للمسيح"، بل يرضي الناس لأجل خلاصهم حتى
يكون رسولاً أمينًا للمسيح، لأنه يكفيه ضميره في نظر الله بالنسبة لنفسه، ومنه تشع
أمورا يقتدي بها الناظرين إليه.

 

+++

العظة الرابعة:

1                   
طبعة الكاثوليك 1951

2                   
رؤ1: 1

3                   
2كو4: 2

4                   
2كو8: 21

5                   
1كو10: 33

6                   
غلا6: 4

7                   
2كو1: 12

8                   
غلا1: 10

9                   
في2: 12

10                  
في3: 8، 9

11                  
1كو5: 21

12                  
رو10: 3

13                  
1كو10: 33

14                  
غلا1: 10

15                  
1كو10: 33

16                  
1كو10: 33



[1] . طبعة الكاثوليك 1951م.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القس أنطونيوس فكرى عهد جديد سفر أعمال الرسل 11

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي