"سمعتم أنه قيل عينٍ بعين، وسنٍ بسن. وأما أنا فأقول لكم، لا
تقاومُوا الشرًّ، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحِّول له الآخر أيضًا" [ع38-39]

 

في
الترفق بالآخرين

هل
رأيتم أنه لم يكن يتكلم عن العين قبلاً؛ عندما وضع الشريعة الخاصة بقلع العين
المعثرة، بل عن ذاك الذي يؤذينا بصداقته ويلقي بنا في لجة الهلاك؟ فالسيد الذي
يستعمل هذه القوة العظيمة للتعبير في هذا الموضع، والذي لا يسمح لك بضرب من يقلع
عينك، كيف يَشرع بضرب الآخر؟

 لكن
إن كان أحد ما يتهم الناموس القديم بأنه يأمر بالثأر والانتقام، فهو يبدو لي بلا
خبرة كافية عن حكمة المشرع، يجهل مدى الربح الذي يجنيه من التنازل. لأنه لو عرف من
هم السامعون لهذه الأقوال، وكيف كانت ميولهم وهم يستلمون مثل هذه الشرائع، لأدرك
على الفور حكمة معلِّم الناموس الإلهي، ولعلم أن الواحد نفسه هو الذي وضع
الناموسين القديم والجديد. وأنه هو الذي كتب كليهما لنفعنا إلى أقصى درجات النفع
وفي وقتها المناسب. لأنه إن كان الرب قد أدخل هذه الوصايا الفائقة السمو منذ
البداية، وما استطاع الناس قبولها، لا هي ولا وصايا أخرى، لكنه شرَّعها، كل شريعة
منها مفردة وفي وقتها المناسب، فقوَّم العالم كله بالناموسين القديم والجديد.

 وقد
أمر السيد الرب ألا تضرب عين الآخر، ليس هذا فحسب، بل أن تكف أيدينا عن ملاحقته.
لأن التهديد بالألم يمنعنا كليةً أن نميل إلى هذه الأمور. لهذا يضع السيد المسيح
وفي صمت بذرة ضبط النفس. على الأقل وهو يوصي بعدم الثأر لنفس الأعمال، فإن الذي
بدأ بتعدٍ مثل هذا يستحق حتمًا عقوبة أشد، وهذه هي متطلبات وطبيعة العدل المجردة.

وإذ
يمزج الرب الرحمة بالعدل، فإنه يدين من كانت تعدياته فادحة بالنسبة لعقوبة أقل
يستحقها، ليعلمنا أنه حتى ونحن نتألم علينا أن نظهر مزيدًا من الاهتمام.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م منا 1

 وبعد
أن ذكر الناموس القديم وأقر بكل ما فيه، يشير مرة أخرى أن من فعل كل ذلك ليس أخونا
بل الشرير. ولهذا يكمل قائلاً: "أما أنا فأقول لكم، لا تقاوموا الشر"،
فهو لم يقل "لا تقاوموا أخاكم" بل "الشر". مشيرًا إلى أن
الناس يتجاسرون على ذلك بإيحاء من الشرير، ومن ثم فإنه يهدئ من روعنا ويزيل بطريقة
سرية معظم غضبنا ضد المعتدي، بتحويله اللوم إلى آخر (الشيطان).

وقد
يقال: وماذا بعد؟ ألا ينبغي علينا مقاومة الشرير؛ حقًا يجب ذلك لكن ليست بهذه
الطريقة، بل كما أوصى الرب بتسليم الإنسان نفسه إلى احتمال الألم بشكل سليم. وبهذا
يستطيع أن يغلبه، لأن النار لا يمكن إطفاؤها بنار أخرى، بل بالمياه نطفئ النيران.
ولكي يعرِّفكم أنه في ظل الناموس القديم، من يتألم هو الذي يظفر في النهاية وينتصر
ويربح الإكليل، عليكم أن تفحصوا ما تم لتروا أن ربحه كان عظيمًا. لأن من يبدأ
بأعمال ظالمة، يُهلك عينيّ جاره وعينيه هو. ولهذا يكرهه الجميع، ويتهمه الكل.

أما
المتضرر فلا يكون قد فعل شيئًا مروعًا، بل يتعاطف الجميع معه. حتى بعد ثأره
المتعادل، ورغم أن الخسائر واحدة لدى الطرفين، إلا أن الحكم الواقع على كلٍ منهما
ليس بنفس القدر، سواء لدى الله أو الناس. لهذا تبدو الفاجعة في النهاية غير
متساوية.

 وفي
حين قال الرب في البداية: "من يغضب على أخيه باطلاً" و "من يدعو
أخاه يا أحمق" يكون مستوجب نار جهنم. فإنه هنا يطالب بمزيد من ضبط النفس،
فيأمر المتضرر بألا يكون هادئًا وحسب، بل أن يكون أكثر جدية بدوره بأن يحوِّل الخد
الآخر. وهو لا يقول هذا بهدف تشريع وتقنين اللطمة الثانية، بل ليعلمنا كيف نمارس
مبدأ احتمال الآخر في كل ظروف حياتنا. لأنه مثلما يقول:

هل تبحث عن  كتب أبوكريفا عهد قديم وصايا الآباء وصية دان 00

 "من
يدعو أخاه بالأحمق يكون مستوجب نار جهنم"، فإنه لا يتحدث عن هذه الكلمة فقط
(كلمة أحمق) بل كل كلمة خصومة أخرى. هكذا هنا أيضًا، حين يشرع قانونًا ما ليس لكي
نصبح أكثر رجولة واحتمالاً إذا ما تلقينا لطمة من آخر، بل حتى لا نضطرب مهما
كابدنا من آلام. لأنه يشير هنا إلى أكثر الإهانات إيلامًا وقسوة وهي لطمة الخد،
والتي تسبب تحقيرًا بالغًا للمضروب. لهذا يوصى الضارب والمضروب معًا. فلا يظن
المهان أنه يعاني أيّ أذى، إذ يمارس ضبط النفس، بل إنه قد لا يشعر بالإهانة، إذ
يجتهد لأجل الجعالة التي ينالها بسبب اللطمة. ومن يلطم سوف يشعر بالخجل، فلا يكرر
لطمته رغم أنه يكون أشد قسوة من حيوان مفترس، بل بالحري سيدين نفسه من كل قلبه
بسبب ما فعله. لأنه ما من شيء يمنع فاعلي الشر أكثر من موقف المضروب حين يتلقى
الضربة في رقة، بل إن رقته لا تمنع ضاربيه من الاندفاع الأهوج وحسب، بل تدفعهم إلى
التوبة بسبب فعلتهم. وعندما يواجه المضروب ضرباتهم بالترفق والاحتمال فإنهم سرعان
ما يتراجعون، بل يحوِّلهم رفقنا بهم إلى أصدقاء وخاصة لنا، ويصيرون خدامًا وليسوا
أصدقاء فقط لنا. بدلاً من كارهين وأعداء. وبدلاً من أن ينتقم المرء لنفسه. عليه أن
يفعل النقيض، لأن الانتقام يخزي الطرفين ويجعل حالهما أسوأ، ويزيد من لهيب غضبهما
الذي يشتعل أكثر فأكثر. فلا ينتهي هذا الأمر إلا بالموت ويتبدل الحال من سيِّئ إلى
أسوأ.

لهذا
لم يحرم الرب فقط أن يغضب الإنسان إذا لُطم على وجهه، بل يشجعنا أن نُشبع رغبة
الطرف الآخر، حتى لا تبدو اللطمة الأولى وكأنها ضد إرادتنا. لهذا وحتى توقعوه في
خزي، لا تلطموه بالمثل بضربه بقبضتكم، حتى تجعلوه رقيقًا بعض الشيء ويصير خزيه
كبيرًا.

هل تبحث عن  م الكتاب المقدس جولات فى الكتاب المقدس 05

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي