الإصحَاحُ
السَّادِسُ

 

31
     الناصرة ترفض                                                        (1:66)

32      إرسالية
الاثني عشر                                                   (7:613)

خدمة
ما وراء الجليل (14:646:8):                                         

33      مخاوف
هيرودس أنتيباس                                            (14:616)

34    قضية
استشهاد يوحنا المعمدان                                       (17:629)

35      عودة
التلاميذ والذهاب إلى موضع خلاء وإطعام الخمسة آلاف     (30:644)

36
     عبور البحيرة إلى بيت صيدا:                                        

          
المسيح الماشي على المياه                                            (45:652)

37      في
أرض جنيسارت                                                    (53:656)

 

31 الناصرة ترفض

[1:66] (مت 13: 53 58) (لو 4: 16
30)

+ «ليس نبيٌّ بلا كرامةٍ إلاَّ في وطنه وبين أقربائه وفي
بيته!!«
(مر 4:6)

 

يتخصَّص
بداية الأصحاح هنا حتى العدد (6) في وصف عثرة وطن المسيح في شخصه، وكيف لم يستطع
المسيح أن يعمل آيات هناك لعدم إيمانهم. وهكذا يظهر هنا عامل الإيمان كخلفية
أساسية لعمل المعجزة. وعثرة أقاربه ومعارفه كانت أشد لأنهم كانوا يعرفون إخوته
وأخواته وصنعته السابقة، كنجَّار الناصرة.

وعلى
كل حال فإن سرد الكلام في هذا الجزء، والإحاطة بزوايا حياة المسيح الخاصة، لا يخلو
من منفعة. ويُلاحَظ أن بعض الآيات جاءت هنا كنقط تركيز ركَّز عليها ق. مرقس برؤية
ممتدة دقيقة في رواية الإنجيل كله حسب التقليد الذي انحدر إليه، وهي على وجه
التحديد:

(
أ ) «وكثيرون إذ سمعوا بُهتوا قائلين: من أين لهذا هذه. وما هذه الحكمة التي
أُعطيت له حتى تجري على يديه قوات مثل هذه.
«(2:6)

(ب)
وفي مقابل النقطة الأُولى بلغت مصادرة تعليم المسيح أنه «لم يقدر أن يصنع هناك ولا
قوة واحدة!!
«(5:6)

والذي
قاله ق. مرقس في هذا المكان عن وطنه الناصرة قاله ق. لوقا بأكثر توضيح. ومن هذا
يبدو أن ق. مرقس اختزل كثيراً في حقيقة ما جرى في الناصرة لأنه بلغ من الوقاحة
أنهم أخذوه إلى حافة الجبل حتى يطرحوه إلى أسفل (لو 29:4). ولكنه فوَّت على هؤلاء
القتلة فرصتهم إذ جاز في وسطهم ومضى (طبعاً بقوة غير معتادة)، فحقَّ له جداً أن
يقول عنهم مَثَلَهُ المشهور: «ليس نبي بلا كرامة إلاَّ في وطنه
«الذي صار
مثلاً عالمياً.

1:6 «وَخَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى
وَطَنِهِ
(الناصرة) وَتَبِعَهُ تَلاَمِيذُهُ».

يربط
القديس مرقس الحديث هنا بقصة يايرُس مباشرة، فخروج المسيح من هناك يعني من
كفرناحوم، كما استطعنا أن نحدد المكان. فهنا انتقل من كفرناحوم وانحدر إلى الناصرة
حيث بيت الأسرة. وتبعه تلاميذه بدون تحديد، وهذا يحمل معنى أن التلاميذ كلهم أو
معظمهم قد تبعوه، بما فيهم الثلاثة الذين رافقوه في بيت يايرُس وشهدوا قيامة الصبية.
وكعادة المسيح التي كان ملتزماً بها، اتجه إلى المجمع يوم السبت ودخل. وهنا
يتحتَّم علينا أن نعود إلى التقليد عند ق. لوقا لأهمية ما ورد فيه أهمية عظمى، إذ
يورد القديس لوقا دخول المسيح مجمع الناصرة ربما في مرة سابقة لهذه
وكانت قراءته في المجمع هي خطاب العرش بلا نزاع. ويبدو أن هذا كان في زمن قريب من
بداية خدمته بعد خروجه من العماد. لذلك نجد موضع هذه القصة في إنجيل ق. لوقا في
الأصحاح الرابع، أي في نفس الأصحاح، بعد العماد مباشرة وبعد تجربة المسيح على
الجبل. والترتيب في إنجيل ق. لوقا هو كالآتي:

الأصحاح
الثالث:

«ولمَّا اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً.
«(21:3)

«ولما
ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يُظن ابن يوسف بن هالي بن متثات … بن شيث بن آدم ابن الله.
«(23:336)

الأصحاح
الرابع:

«ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل.
«(14:4)

«وجاء
إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت.
«(16:4)

ومن
هذا السرد التاريخي الدقيق المشهور به ق. لوقا يكون المسيح قد اتجه إلى الناصرة
بعد العماد وبعد التجربة على الجبل مباشرة. فدخوله المجمع يوم السبت كان أول دخول
له للمجامع بعد العماد، وكان أول ظهور علني له بعد امتلائه من الروح القدس. بهذا
نستطيع أن نفهم أن قراءة المسيح في المجمع يوم السبت هذا كانت أول قراءة وأول عظة
على القراءة له في خدمته الطويلة. لذلك نسميها نحن بكل احترام وإجلال خطاب العرش:
وننقله من إنجيل ق. لوقا:

+ «وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى. ودخلَ المجمع حسب
عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدُفِعَ إليه سفر إشعياء النبي. ولمَّا فتح السفر وجد
الموضع الذي كان مكتوباً فيه: روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين،
أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأُرسل
المنسحقين في الحرية، وأكرز بسَنَةِ الرب المقبولة. ثم طوى السفر وسلَّمه إلى
الخادم وجلس. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصةً إليه. فابتدأ يقول لهم:
إنه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم. وكان الجميع يشهدون له ويتعجَّبون من
كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: أليس هذا ابن يوسف…
«(لو 4: 1622)

وللأسف الشديد سقط هذا الخطاب من تسجيل القديس مرقس.

بدأ
بعد ذلك ق. مرقس يذكر عثرات شعب الناصرة التي اختزلها أيضاً، ولكن لأهميتها
الشديدة نعود إلى ق. لوقا ونكمِّل ما تمَّ مع شعب الناصرة بعد الخطاب في المجمع مباشرة
هكذا:

+ «ويقولون: أليس هذا ابن يوسف؟ فقال لهم: على كل حال تقولون
لي هذا المثل: أيها الطبيب اشفِ نفسك. كَمْ سَمِعنا أنه جرى في كفرناحوم، فافعل
ذلك هُنا أيضاً في وطنك، وقال: الحق أقول لكم إنه ليس نبيٌّ مقبولاً في وطنه.
وبالحق أقول لكم إن أرامل كثيرةً كُنَّ في إسرائيل أيام إيليا حين أُغلقت السماء
مدة ثلاث سنين وستة أشهر، لمَّا كان جوعٌ عظيم في الأرض كلها، ولم يُرسَلْ إيليا
إلى واحدةٍ منها، إلاَّ إلى امرأة أرملة، إلى صرفة صيداء (أرملة أُممية في مدينة
أممية). وبُرصٌ كثيرون كانوا في إسرائيل في زمان أليشع النبي، ولَمْ يُطَهَّر
واحدٌ منهم إلاَّ نُعمان السرياني (قال هذا ردًّا على تعييرهم له أنه
عمل معجزات كثيرة في كفرناحوم ولم يعمل شيئاً في الناصرة. ومعنى رد المسيح عليهم
أن الله في القديم اختار امرأة أُممية ورجلاً سريانياً ليعمل فيهما معجزاته ولم
يعملها في إسرائيل كلها. فهذا أغاظهم جداً باعتبار أن الناصرة لا تستحق)
فامتلأ غضباً جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا، فقاموا وأخرجوه خارج المدينة
(الناصرة)، وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيةً عليه حتى يطرحوه
إلى أسفل. أمَّا هو فجاز في وسطهم ومَضَى.
«(لو 4: 2230)

ويبدو
أن القديس لوقا استقى تقليده هنا من شاهد عيان من ذات عائلة المسيح، وكان حاضراً
في المجمع ورافقهم من بعيد في محاولتهم المشئومة لقتل المسيح. ومعروف أن ق. لوقا
استقى حوادث الرب الخاصة في حياته من المقربين للمسيح جداً.

ومن
هنا إلى إنجيل ق. مرقس مرَّة أخرى لنروي زيارة المسيح للناصرة بحسب إنجيل ق. مرقس:

«وخرج من هناك وجاء إلى وطنه»:

واضح أنه كان في كفرناحوم، وبعد أن أكمل معجزة إقامة ابنة
يايرُس من الموت جاء إلى وطنه أي إلى الناصرة في الجليل. وهذا بحسب رأينا لم
يكن أول مرَّة
يأتي إلى الناصرة ولا أول مرَّة يدخل المجمع في الناصرة. إذ
يبدو بوضوح بحسب التحقيق، كما سنرى، أنه دخل المجمع أول مرَّة بعد نزوله من الجبل
بعد أن أتمَّ تجربته مع الشيطان حال خروجه من المعمودية، هكذا دخل المجمع وهي
المرَّة التي قرأ فيها إشعياء النبي بحسب ما جاء في إنجيل ق. لوقا. وقد أغفل ق.
مرقس ذكر قراءة إشعياء ولكنه احتفظ بالتعليق عليها كما سيجيء في الآية الثانية من
الأصحاح السادس هكذا:

2:6 «وَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ، ابْتَدَأَ
يُعَلِّمُ فِي الْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: مِنْ
أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى
تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟».

فهذا
الاستقبال وهذا الاستحسان الشديد يتنافى تماماً مع ما حدث بعد ذلك، كما جاء في
إنجيل ق. لوقا، حيث وبَّخوه في المجمع أنه عمل آيات كثيرة في كفرناحوم ولم يعمل
آيات في وطنه. وقد ردّ هو عليهم ردًّا جافاً بقوله: إن الله لم يعمل معجزات في
إسرائيل كلها في أيام إيليا، بل اختار أرملة أُممية من صرفة بيت صيدا؛ ولا اختار
الله شعب إسرائيل ليعمل فيه معجزة أيام إليشع النبي، بل اختار نعمان السرياني.
وهذا معناه تماماً أنه لم يعمل آيات في الناصرة لأنها رُفضت بسبب عدم إيمانهم، كما
جاء في الآية (5:6): «ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة … وتعجب من عدم
إيمانهم
«والتي بعدها مباشرة ثار غضب جميع الذين في المجمع فأخذوه على
منحدر الجبل وأرادوا أن يقتلوه بأن يلقوه إلى أسفل ولكنه جاز في وسطهم.

إذن،
فالمسيح زار الناصرة ودخل المجمع مرتين: المرَّة الأُولى بعد نزوله من جبل التجربة
مباشرة، وهي المرَّة التي قرأ فيها إشعياء واستحسنوا حكمته جداً وسجَّلها ق. لوقا
في الأصحاح الرابع من إنجيله
مبكراً. والمرَّة الثانية بعد أن زار كفرناحوم قبل الناصرة وعمل فيها معجزة
إقامة ابنة يايرُس
رئيس المجمع في كفرناحوم، وهذه القصة سجلها ق. لوقا
في الأصحاح الثامن
بعيداً عن الزيارة الأُولى.

لهذا
وجب تنبيه ذهن القارئ قبل أن نبدأ في الشرح أن ق. مرقس:

(
أ ) دوَّن من زيارة المسيح لمجمع الناصرة دخوله الأول، ولكن سقط منه تسجيل
قراءاته لإشعياء النبي، ولكن دوَّن فقط استحسان المجمع.

(ب)
ثم دوَّن من زيارته الثانية لمجمع الناصرة
توبيخ المجمع له لأنه لم يعمل آيات في وطنه بالرغم من أنه عمل آيات كثيرة في
كفرناحوم. الأمر الذي أثار غضبهم وأرادوا أن يقتلوه.

وما
جاء من الزيارة الأُولى ومن الزيارة الثانية جمعهما ق. مرقس معاً هنا في الأصحاح
السادس (16)، وقد أخذ القديس متى هذا الاختزال الشديد من ق. مرقس
ودوَّنه بعيداً جداً في الأصحاح الثالث عشر.

والآن
إلى ما حدث في الزيارة الأُولى لمجمع الناصرة كما جاء في (مر 2:6) فقط، لأن الآية
(1:6) تتبع الزيارة الثانية مع ما جاء في الآيات (3:66). وقد تعجَّب
العالِم فنسنت تايلور من الفارق الواضح بين الآية (2:6) الزيارة الأُولى، والآية
(3:6) الزيارة الثانية، واستشهد برأي علماء آخرين هكذا:

[إن
النغمة بين الآية الثالثة والآية الثانية سابقتها مختلفة، ويبدو هنا أنه يوجد أساس
لرأي العالِم بولتمان والعالِم شمدت أن هناك تقليدين (أو روايتين) التحما معاً.]([1])

ولكن
بالبحث اتضح لنا أنهما مختلفان اختلافاً كلياً بسبب أن كلاًّ منهما حدث في زيارة
غير الأخرى، فالزيارة الأُولى قرأ فيها إشعياء وعلَّق أن اليوم قد تمَّ على
مسامعكم الذي قُرِيءَ. ويبدو أنه ألقى عظة أذهلت قلوب الجميع ونعتوه بالحكمة
وشهدوا لقدرته وقوة معجزاته، ثم عثروا فيه لمعرفتهم لإخوته وأخواته.

ولكن
في الزيارة الثانية كان قد سبقها زيارة كفرناحوم التي فعل فيها آيات ومعجزات كثيرة
وباهرة، وقد عرفنا بعضها: مثل شفاء نازفة الدم، وإقامة ابنة يايرُس رئيس المجمع من
الموت الأمر الذي هزَّ جميع الأنحاء لأن المعجزة كبيرة وحدثت لشخصية كبيرة في بلدة
كبيرة. لهذا غار أهل الناصرة وهاجموه في الزيارة الثانية خاصة وأنه لم يستطع أن
يعمل معجزات في الناصرة وطنه وذلك لعدم إيمانهم. وابتدأوا يُهينون شخصه بقولهم:

3:6
«أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي
وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ. أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟ فَكَانُوا
يَعْثُرُونَ بِهِ».

«النجار
ابن مريم»:
 Ð tšktwn
Ð uƒÕj Mar…aj

«النجار»:
Ð
tšktwn

وفي اليونانية تصلح أن تكون أي صاحب صنعة فنية سواء معدنية
أو حجرية، ولكنها تستخدم على وجه الخصوص لتفيد النجار. ويحكي لنا يوستين([2])
الشهيد القديس الكنسي وصفه للمسيح كصانع محاريث وأنيار (جمع نير وهو ما يوضع على
رقبة البهيمة لتسحب المحراث كل اثنين معاً).

«ابن مريم»:

الغريب هنا أنه بحسب تقرير العلماء أنه لا يوجد لهذا القول «ابن
مريم«
أي ذكر آخر في جميع الأسفار وخاصة الأناجيل والرسائل، لذلك يُشَكِّل عقدة
تاريخية خاصة أنه ليس من عادة اليهود أبداً أن يسمّوا أحداً أنه ابن أُمه حتى ولو
كان الأب قد مات.

ولكن من جهتنا تأتي حجة أننا هنا في وطن المسيح وفي محيط
بيته وعائلته، فالمسألة ليست بسيطة حتى نعبر عليها كما عبر العلماء الغربيون، فهي
إشاعة صادقة، غير محققة، في محيط عائلته أنه ليس ابن يوسف ولكن ابن مريم. ولأن
مريم كانت محل تقدير وتكريم فهذا يزيد التقليد نوراً أنه عُرف كونه حُبل به بسر
إلهي، خاصة وأن الآيات والمعجزات حتى الإقامة من الأموات والحكمة التي شهدوا لها
كلها تزكي العقيدة أنه مولود من الله.

وتقليد ق. متى وضعها بنوع من الغموض: «أليست أُمه تُدعى مريم «(مت
55:13). وطبعاً ق. متى هو صاحب التقليد الكنسي الإلهي الموثق بشهود وعلامات من
السماء أنه مولود من الروح القدس. إذن، قول ق. متى يكشف نوعاً من السرية والتغطية
المقصودة، أمَّا ق. مرقس فوضعها لتكون مصدر بحث واهتمام وسؤال ثم معرفة، لأن تقليد
الميلاد من الروح القدس كان سرًّا كنسياً لم يشأ أي إنجيلي أن يتعرَّض له أكثر من
تسجيل الحقيقة الإلهية في أول إنجيله دون أي تعليق بعد ذلك. وهذا التقليد السري
احتفظ به المسيح في مفهوم الحفاظ على “سرِّية المسيَّا” علماً بأن سرية المسيَّا
تنبع أصلاً وأساساً من الميلاد من الله بالروح القدس: «ها العذراء تحبل وتلد ابناً
وتدعو اسمه عمانوئيل
«(إش 14:7). فالقديس مرقس بدلاً من أن يقول ابن العذراء
تحقيقاً لإشعياء والوحي قال: «ابن مريم
«! والقديس مرقس يُعذر جداً لأنه ترك
هذه الحقيقة دون شرح أو تعليق، فهو أُورشليمي ولم يستلم سر ميلاد المسيح من أي
إنجيلي آخر، فهو أول مَنْ كتب الإنجيل. والقديس لوقا هو الوحيد الذي استلم السر من
مصدره. وبين تدوين إنجيل ق. لوقا سنة 80 وتدوين إنجيل ق. مرقس قبل سنة 45 ما يقرب
من 35 سنة، بمعنى أن هذا السر الإلهي الذي احتفظت به العذراء في قلبها لم يكن أكثر
من همس أو مجرَّد تعبير مضغم “كابن مريم” التي يمكن أن تشيع بين محيط الأقربين دون
معرفة.

«وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان»:

“إخوة
الرب” موضوع([3])
أخذ من الكتَّاب والمعلمين والعلماء كل مأخذ، وقامت النظريات والفتاوي. ولكن
التقليد الكنسي قام منذ البدء على حقيقة أثبتها القديس إبيفانيوس سنة 382م، وهو
الذي اعتمد أساساً على التقليد الكنسي الأقدم، واتفق مع رأي إبيفانيوس من العلماء
المحدثين ليتفوت وهاريس وبرنارد، وقد استعانوا
برأي كليمندس الإسكندري وأوريجانوس ويوسابيوس
وهيلاري وامبروزياستر وغريغوريوس النيسي وأمبروسيوس وكيرلس الإسكندري
باتفاق عام على صحة التقليد
الكنسي الموروث الذي يقوم على أساس لاهوتي
عقائدي: أن العذراء القديسة مريم دائمة البتولية.

أما
المعارضات التي قدمت فهي قائمة على (لو 7:2) الذي يقول إنها ولدت ابنها البكر، كأن
هذا يشمل ضمناً أنَّ لها أولاداً بعد “البكر”. ولكن يدحض هذا معنى الترجمة
اليونانية الأصلية
protÒtokoj التي لا تفيد البكر بل فاتح رحم، لأنه تعبير تقوي فني يقوم
على أساس كتابي (خر 13: 2و12و15
؛19:34، لو 22:2) الذي
لا يفيد بالضرورة ميلاد أولاد آخرين.

علماً بأن في وقت زيارة المسيح الثانية للناصرة لم تكن بعد
أسرة المسيح (أي أُمه وإخوته) تقطن الناصرة، وهذا يحققه العالِم شمدت
([4]) بناءً على قول المجمع: «أوليست
أخواته ههنا عندنا
«

«فكانوا يعثرون به»:

وتأتي بمعنى أُعثروا في تقييم شخصيته كما هي بالحقيقة نتيجة
عدم إيمانهم بالأساس «لأن إخوته أيضاً لم يكونوا يؤمنون به
«(يو 5:7). وهذا معقول إذ هم ليسوا إخوة
ولا أخوات دم، ولكنهم أولاد ليوسف ولا علاقة دموية لهم بالقديسة مريم وبالتالي
بالمسيح. وكان أصغر منهم جميعاً لأنهم كانوا أبناءً ليوسف من زوجة سابقة، فكان
موقعه ما يقرب من موقع يوسف بين بقية الأسباط. وطبعاً كان المسيح متفوقاً عليهم
جميعاً في المعرفة والسلوك والطاعة، لذلك يحسب يوسف الذي باعه إخوته
أنه كان رمزاً مسبقاً للمسيح، لأن المسيح اضطُهد بالمثل من بني إسرائيل أي الأسباط
جميعاً ولم يتشفَّع له جنس أو نسب أو قربى.

4:6 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَيْسَ نَبِيٌّ
بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ في وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ».

وقد
صار هذا مثلاً تكرر في (لو 24:4)، (يو 44:4) وكثير من المواضع الأخرى.

«نبي»: prof»thj

المسيح
قَبِلَ هذا اللقب لأنه كان السائد بين الشعب: «لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن
أورشليم
«(لو 33:13)، «قال
آخرون إنه نبي أو كأحد الأنبياء
«(مر 15:6)، حيث كلمة «النبي«هنا هي بحسب نبوَّة موسى: «يقيم
لك الرب إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك
«(تث 15:18)، وأيضاً: «مَنْ يقول
الناس إني أنا؟ فأجابوا يوحنا المعمدان وآخرون إيليا وآخرون واحد من الأنبياء
«(مر
8: 27و28). بل وقد أشيع في بداية المسيحية شيء من ذلك ولكن سرعان ما تعدَّل
وتصحَّح.

وليس هذا المثل في أصله من أقوال المسيح، ولكنه استعاره من
تداوله المشاع ليوافق به جهالات شعب الناصرة دون حرج من نفسه أو حساسية، وهو لم
يقل أكثر مما عمله الشعب. ويقول العالِم بولتمان إن هذا المثل وُجِدَ مكتوباً في
أوراق أوكسيرينكُس([5])
في صعيد مصر، وهي البهنسا، إذ جاء فيها بالحرف الواحد: [النبي غير مقبول في وطنه
والطبيب لا يستطيع أن يشفي الذين يعرفونه]، وهي مقولة قديمة من قبل المسيح مستقلة
عن مقولة ق. مرقس وكانت شائعة في فلسطين.

والعجيب أن المسيح قالها وهو لا يحس بأي مرارة، فهو لم يحمل
في نفسه رد فعل لكل ما فعله المنكرون والمقاومون، ولكن كان إمَّا يرد على
المقاومين بِمَثَلٍ أو يرد بنبوَّة قادمة مثل: «إنكم لا تَروْنَني حتى يأتي وقت
تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب
«(لو 35:13)، على أن كل المقاومات لم
تمنعه من المضي كقوله: اليوم وغداً!! إنما كان المسيح يتعجَّب على قساوة قلوبهم
وعمى بصائرهم.

5:6 «وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ
وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ
فَشَفَاهُمْ».

يقول
العالِم فنسنت تايلور:

[إن هذه المقولة هي أشجع وأخطر حقيقة في الأناجيل، حيث تذكر
أنه من الممكن أن يكون
هناك شيء لا يستطيع المسيح أن يعمله.]([6])

هل يمكن أن المسيح يريد ويرغب ويشتاق أن يعمل لهم آية فلا
يستطيع؟ ولكننا نعلم أن بإيمان الشخص تنفتح كوى السماء لتفيض عليه بركة حتى لا
متسع، وهكذا عدم الإيمان قادر أن يغلق قلب الله!؟ إذن، فبحسب عثرة أهل الناصرة
نفهم أنه إذا لم نؤمن بالله فالله لا يقدر أن يعمل لنا شيئاً، وإذا لم نصلِّ لا
يرى عوزنا ولا ضيقتنا، وإذا لم نواظب على الصلاة لا يستطيع أن يقود حياتنا!! وهذا
يتمشَّى مع قول المسيح: «اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم
«(مت
7:7)، «إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي، اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً
«(يو
24:16)، «اذبح لله حمداً واوفِ العلي نذورك، وادعني في يوم الضيق أنقذك
فتمجِّدني
«(مز 15:50). فإذا لم تدْعُهُ لا يرفع الضيقة!! وكأنما
يطلب منا أن نطلبه لكي يعمل أكثر مما نريد، ويتمجَّد هو. فالله يتمجَّد بصلاتنا
وطلباتنا إذ يستجيب فنفرح ونهلِّل ونشكر ونمجِّد، لهذا يقول: «اطلبوا
«!

عزيزي القارئ، الله يريد أن يتمجَّد في حياتك، ألا تصلِّي
حتى تفرِّح قلب الله؟ فالمسيح قال لمرثا: «إن آمنتِ ترين مجد الله
«(يو
40:11)، «ها أنذا واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه
وأتعشَّى معه وهو معي
«(رؤ 20:3). إنه الرب يسوع بكل مجده وكرامته، فلست أنت
مُطالباً أن تقرع بابه أولاً بل هو الواقف على بابك يقرع: ولن تَسْمَعَ صوته إلاَّ
في الصلاة، ولن تقوى أن تفتح له إلاَّ إذا قمت الليل مصلياً ساجداً!! «أفلا ينصف
الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً وهو متمهِّل عليهم؟
«(لو
7:18)

وها هو المسيح مع أهل الناصرة الساخرين الرافضين الذين
أرادوا أن يقتلوه إذ حاولوا أن يرموه من فوق الجبل (لو 29:4). وبالرغم من ذلك كان
يوجد أشخاص قليلون صادقون في إيمانهم وضع يديه عليهم فشفاهم. الرب لا يذكر لنا
أيام الغربة عنه والبعاد والإهمال والجهالات، لأنه كأب واقف على الباب ينتظر
عودتنا كأبناء ليأخذنا بالحضن ويصنع الوليمة ويضع الخاتم في الإصبع!

6:6 «وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.
وَصَارَ يَطُوفُ القُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ».

لماذا يتعجَّب الرب من عدم إيمانهم إلاَّ لأنه هو الحبيب
الودود لا يطلب شيئاً لنفسه بل يطلبنا ليعطينا أحسن ما عنده، فإذا قبلناه في القلب
فتح لنا كنوز الغنى السماوي مع فرح وسرور: «تعرِّفني سبل الحياة، أمامك شبع سرور.
«(مز
11:16)

وكون المسيح يتعجَّب من عدم إيماننا معناه أننا اخترنا الموت
على الحياة، والكذب على الحق، والتيه عوض الطريق. وعلة عدم إيماننا هي أننا لم
نجرِّبه، لم نختبره، لم نذُقه كيف هو!! «حلقه حلاوة وكله مشتهيات
«(نش
16:5). ولكن جحود أهل الناصرة لم يمنعه أن يمارس حبه واتضاعه وعطاءه المجاني، فصار
يطوف القرى المحيطة يعلِّم. فالرب وديع ومتواضع القلب، لن يثنيه جحودنا عن عمل
محبته لنا.

وفي المقابل لأهل الناصرة أو بني وطنه وبيته نجد قائد المائة
في كفرناحوم يقول: «يا سيد لستُ مستحقاً أن تدخل تحت سقفي. لكن قل كلمة فيبرأ
غلامي
«(مت 8:8). وقد اهتز قلب المسيح لهذا الإيمان ووقف
مبهوراً ثم علَّق على ذلك قائلاً: «الحق أقول لكم: لم أجد ولا في إسرائيل
إيماناً بمقدار هذا
«(مت 10:8). وبعدها قرر المسيح قراره الحزين: «وأقول
لكم: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في
ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية
«(مت
8: 11و12). لهذا حذَّر المسيح وأنذر: «فسيروا ما دام لكم النور لئلاَّ يدرككم
الظلام
«(يو 35:12)، «ما دام لكم النور آمنوا بالنور «(يو
36:12). هي فرصة العمر ودعوة لن تتكرَّر: «إن سمعتم صوته فلا تقسُّوا قلوبكم.
«(عب
3: 7و8)

 

32 إرسالية الاثني عشر

[7:613]   (مت 9: 35 38، 1:10-14) (لو 9: 1
6)

 

واضح
من رواية ق. مرقس أنه اعتمد على التقليد الموروث لذلك فالرواية هنا مختصرة، وهذا
يظهر من افتتاحيتها المختصرة «ودعا الاثني عشر وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين … إلخ
«(7:6). فهنا تغيب أصول الرواية عند ق. مرقس مما يفيد أن التقليد
الشفاهي كان شحيحاً للغاية حتى لجأ إلى الاختصار الشديد: «فخرجوا وصاروا يكرزون أن
يتوبوا.
«(12:6)



ولا
ينسى ق. مرقس الجزء الكنسي التقليدي: «وأخرجوا شياطين كثيرة ودهنوا بزيت مرضى
كثيرين فشفوهم
«(13:6).
الذي صار بعد ذلك تقليد الرسل: «أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه
ويدهنوه بزيت باسم الرب
«(يع 14:5). وهذا هو تقليد كنيسة أُورشليم المبكِّر جداً.

ولكن
الذي نأخذه على العلماء في وصفهم لرواية ق. مرقس هو أنهم نظروا إليها على أساس
خاطئ، إذ قارنوها بما كتب في سفر الأعمال وفي بعض الأناجيل الأخرى التي جاءت
روايتهم بالتطويل، ونسوا أن ق. مرقس كتب إنجيله مبكراً جداً قبل أن يخرج سفر
الأعمال إلى الوجود ولا حتى أي إنجيل من الأناجيل. لذلك ما جمعه ق. مرقس من
التقليد الشفاهي يُعتبر أنه مستوفي الأركان وإن أعوزه في الحقيقة البيان والتوضيح.
فمثلاً كل ما استطاع أن يجمعه عن أعمال التلاميذ في إرسالياتهم أنهم كرزوا بالتوبة
وأخرجوا شياطين كثيرة وشفوا مرضى بعد دهنهم بالزيت. آيات مختصرة متراصة وكأنه يلصق
معلومات صغيرة بعضها ببعض.

وللعلماء تقاريظ على رواية ق. مرقس لاختيار الاثني عشر
وإرسالهم: فالعالِم ولهوزن
يقول:

[الاثنا
عشر في هذه الرواية إنما قاموا بتجربة اختبارية، وبعدها أوضحوا أنهم لا يزالون يحتاجون إلى المزيد، بالرغم من أنها كانت خبرة ناجحة
… ولو أن فكرة المسيح لم تكن لمجرَّد الاختبار، إنما قصدها من أجل الشهادة. وعلى
هذا الأساس فإرسالية الاثني عشر تعد تاريخياً أول بعثة مرسلة للبشارة في فلسطين
وعلى درجة من أهم ما يمكن في تاريخ
الكنيسة.]([7])

وللعالِم
مانسون رأي واضح جميل:

[إن
بعثة الرسل الاثني عشر تعتبر واحدة من أفضل الحقائق المحقَّقة في حياة المسيح.]([8])

وللعالِم
برانسكومب رأي شديد التأثير:

[إن
الحوادث التي ذُكرت في موضوع إرسالية الاثني عشر هي واحدة من أميز وأهم من كل ما
عداها التي احتفظ بها التقليد لنا بالنسبة لنشاط حياة المسيح.]([9])

ويعلِّق
مانسون على الرواية كلها فيقول إن ما أورده ق. مرقس في (6: 811) وعلى
عجل وباختصار يُحسب من أقوى وأصدق ما قيل بالتحقيق.

والقديس
مرقس يؤكِّد حقيقة تقليدية في «وكل مَنْ لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوا من هناك
وانفضوا التراب الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم
«(مر 11:6). وقد زادها ق. لوقا قوة وتوضيحاً عندما قال: «الذي يسمع
منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني.
«(لو 16:10)

والآن
ينفتح أمام عين القارئ مدى أهمية هذا التسجيل للقديس مرقس عن إرسالية الاثني عشر،
فبالرغم من الاختصار الشديد فهو يحمل أقدم وأعظم تراث للتقليد عن أول إرسالية في
الكنيسة من حيث ظروفها وزمانها ونجاحها!

فإذا
كانت هذه الرواية قد بدت في إنجيل ق. لوقا أكثر اتساعاً فلأن التقليد زمن ق. لوقا
كان قد ابتدأ يجمع التحقيقات، لأنه بحسب ما كتب إنه تتبَّع كل شيء من الأول.

7:6
«وَدَعَا الاِثْنَيْ عَشَرَ وَابْتَدَأَ يُرْسِلُهُمْ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَعْطَاهُمْ
سُلْطَاناً عَلَى الأَرْوَاحِ النَّجِسَةِ».

«الاثنا عشر»:

سبق
أن قدَّم لنا القديس مرقس في الأصحاح الثالث أسماء هؤلاء الاثني عشر مع قصة
اختيارهم (13:319). ويقدِّم العالم فنسنت تايلور([10])
بحثاً مستعيناً بعلماء كثيرين يؤكِّد فيه أن رواية ق. مرقس فيما يخص “الاثني عشر”
تُعتبر هي الأصل، وقد أخذها ق. متى بحذافيرها في (2:104) مع إضافة واحدة ذكرها على اسم ق. متى إذ قال: إنه
كان عشَّاراً. أمَّا رواية ق. لوقا (12:616)
فتقدِّم نفس
القائمة مع تغيير اسم تداوس بيهوذا ولا يعلم أحد شيئاً عن الاثنين. وغير قائمة الأسماء
لم يقدِّم أي إنجيلي أي شيء واضح عن أعضائها إلاَّ إنجيل ق. يوحنا فقدَّم معلومات
ضافية عن:

أندراوس (40:142و44)، (8:6)، (22:12).

فيلبُّس (43:145و48)، (5:67)،
(21:12)، (8:14).

توماً
(16:11)، (5:14)، (24:2029).

وهذه
مجرد أوصاف شخصية لا علاقة لها بتاريخ الأشخاص.

ولكن إضافة ق. توما في فصل قيامة الرب كان لها وضع إنجيلي
خاص. وغير هذا لم يحاول الإنجيليون الأربعة أن يمدونا بأي تاريخ شخصي أو كنسي عن
أشخاص الاثني عشر، إلاَّ بطرس ويعقوب ويوحنا الذين استمر ذِكر رسالتهم في أسفار
العهد الجديد، وحتى متياس الذي اختير عوضاً عن يهوذا دخلت شخصيته في الغياب بعد
اختياره مباشرة إذ لم يذكر سفر الأعمال عنه شيئاً.

ولكن من جهة تقليدنا الأرثوذكسي:

فإن “الاثني عشر” دخلوا الكنيسة كوحدة ذات قيمة عالية جداً
خلواً عن أشخاصها، سواء في إخفاقهم أو نجاحهم، إذ يعطينا التقليد أن العدد هو
تجديد للاثني عشر سبطاً، فلا الأسباط أضعف رقمها الاثني عشر ضياع سبطين ونصف، ولا
الاثنا عشر تلميذاً أنقصهم سقوط يهوذا، ولو أن الكنيسة أرادت أن تصحح سقوط يهوذا
باختيار متياس، ولكن ذاب متياس بين التلاميذ ولم يُسمع له خبر إلاَّ
في التقاليد الرسمية وظل رقم “الاثني عشر” يصوِّر في ذهننا كيف
اختارهم المسيح ليمثِّلوا الكنيسة الوليدة. فليست الكنيسة وريثة للاثني عشر، بل هي
الاثنا عشر، بل وهي الشخص المعنوي للمسيح. وقوة الهالة التي وُضِعَت على رؤوس
الاثني عشر منبعها قول الرب: «مَنْ يقبلكم يقبلني ومَنْ يُرذلكم يُرذلني
«(مت
40:10، لو 16:10). فأصبحت كرامة خدمة الرسل على مستوى كرامة خدمة
المسيح.
علماً بأن المسيح قالها للجماعة وهكذا ظلت في مفهوم الكنيسة بالنسبة
للكنيسة عامة. فالكنيسة هي بذاتها إرسالية الاثني عشر في العالم. فالتأييد الإلهي
انتقل للكنيسة عامة كإرسالية واحدة: في مَنْ يقبلها، وفي مَنْ يرذلها، وليس
للأفراد. لأنه كم من أساقفة ورؤساء أساقفة وكهنة وخدام سقطوا من الكنيسة
ولكن ظلت الكنيسة هي كما أرادها المسيح في “الاثني عشر”.

كذلك موضوع مفاتيح ملكوت السموات التي قالها المسيح للقديس
بطرس باعتباره نطق بإيمان الكنيسة ككل، فالفتح والغلق ليس لأبواب موصدة
تُفتح وتُغلق، فهذا المستوى الفكري غير موجود في المفهوم المسيحي والإنجيلي.
ولكنها كما قالها ق. بطرس فهي من جهة قوة المعرفة بالإيمان الصحيح، أي أن
كما للرسل “كاثني عشر” أُعطيت المعرفة التي بها يدخل المؤمنون ملكوت
السموات والتي دخلت في الكنيسة باسم “التعاليم الرسولية” كتقليد أساسي يعطي
الكنيسة سمتها الإلهية: «مبنيِّين على أساسِ الرسل والأنبياءِ، ويسوعُ المسيح نفسه
حجرُ الزاويةِ
«(أف 20:2)، هكذا امتلكت الكنيسة باعتبارها “كنيسة
رسولية” حق إعطاء المعرفة الرسولية الصحيحة وحدها، فهي تفتح وحدها بإيمانها
وبتعليمها أبواب ملكوت السموات أمام أعضائها، وهي وحدها قادرة إن حجزت إيمانها
وتعليمها الصحيح
عن أحد بإسقاطه من جسدها فإنها بذلك تغلق ملكوت السموات في
وجهه. وهي لا تُسقط عضواً من جسدها إلاَّ إذا سقط بإرادته عن الإيمان بالمسيح
وليس لأي سبب آخر.

بهذا نفهم عثرة الكنيسة المريعة حينما حرمت بعضها البعض
والكل في ملء الإيمان بالمسيح. وهذا يرجع بالدرجة الأُولى لعدم فهم حق الكنيسة في
فتح أبواب الملكوت وغلقها، إذ اعتبروا أن المفاتيح في أفواههم وبمجرَّد النطق
تُغلق السماء أو تُفتح، مع أن الفتح لا يكون إلاَّ بالإيمان الصحيح والتعاليم
الإنجيلية الرسولية الصحيحة،
كذلك فالغلق هو لسقوط الشخص أو الأشخاص عن الإيمان
بالمسيح.
فمَنْ الذي لا يدخل ملكوت الله بالنهاية إلاَّ الذي جحد المسيح الذي
هو بحد ذاته صاحب الملكوت.

إذن،
فماذا حدث للكنيسة ولماذا حدث؟ الذي حدث هو العداوة!! ليس إلاَّ. ولماذا حدث؟ هو
لغياب المحبة.

وكيف العودة إلى الكنيسة الرسولية الواحدة، إلى “الاثني
عشر”؟ هذا يكون حتماً برفع العداوة وعودة المحبة. لأنه قطعاً كل كنيسة تتمسك
بإيمان الاثني عشر الصحيح والتعليم الرسولي الصحيح!!

واضح أن الدعوة للاثني عشر استغرقت فترة ليست قصيرة: «ثم صعد
إلى الجبل ودعا الذين أرادهم فذهبوا إليه. وأقام اثني عشر ليكونوا معه،
وليُرسِلهُم ليكرزوا
«(مر 13:3و14). وبعدها تبعوه في طوافه في قرى الجليل
وسمعوا تعاليمه، كل ما يُقال وكل ما يُعمل. فكانت فترة تحضير للإرسالية التي أرسلهم
فيها على أثر الرفض الأعمى الذي واجهه في الناصرة، حتى يكونوا بمثابة توعية للشعب
المحتاج قبل أن يعبر عليه المسيح، كما جاء في إنجيل ق. متى قبل الإرسالية:

+
«وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى يعلِّم في مجامعها ويكرز ببشارة ملكوت الله …
حينئذ قال لتلاميذه: الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من ربِّ الحصاد أن
يُرسل فعلةً إلى حصاده.
«(مت 9: 35و37و38)

ولكن تبدأ هذه الإرسالية هناك في السماء بعدما أرسل الله
ابنه الوحيد لذات القصد وذات العمل لكي يعد لله مكاناً على الأرض وهيكلاً في قلوب
الناس، وها هو الابن الوحيد يبدأ يرسل إرسالية له لذات الغرض وذات العمل. وكما
أعطى الآب سلطانه للابن الوحيد أن يعمل به: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى
الأرض
«(مت 18:28)، هكذا وبهذا السلطان أرسل تلاميذه ليقيموا
الخدمة ويشكلوا وجه الكنيسة الإلهي على أرض الإنسان، شكَّلوها بهيئتها “الاثني
عشر”، بعد أن ولدها المسيح من لحمه ودمه على الصليب ومن جنبه المطعون، ثم نفخ فيها
من روحه بعد القيامة فوُلدت كنيسة كل الدهور بهيئتها السرية الإلهية العظمى “جسد
المسيح”. ويا لعمق هذا السر يوم أرسل المسيح الاثني عشر، وكيف انتهى إلى كنيسة
الدهور الجسد المقدَّس الذي يعيشه الابن ويدبِّره كرأس والكل فيه عضو عابد يحمل في
كيانه تاريخ هذا السر العظيم!!

«وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين»:

هذا
الاتجاه العملي من إرسال اثنين اثنين أخذ به بولس الرسول، إذ بدأ الرحلة الأُولى
مع برنابا وبعدها مع سيلا، وحسب قول الحكمة: «اثنان خير من واحد … والخيط
المثلوث لا ينقطع سريعاً
«(جا 9:4و12). لا من أجل وعورة الطريق وأخطار الرحلة فقط، بل ومن
أجل العزاء والتشدد بالنعمة المشتركة وصورة للوحدانية في نواتها الأُولى التي
يكمِّلها المسيح بحضوره السرِّي ويربطها الروح القدس في الواحد.

«وأعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة»:

كان
هذا هو أول تعبير عن السلطان الإلهي الذي ناله التلاميذ من الرب، وقد حرص المسيح
أن يجعل إخراج الشياطين أول عمل لهم، فلهذا القصد كان نزول ابن الإنسان على الأرض
ليعتق الإنسان من عبودية الشيطان واستبداده الذي مارسه على الإنسان الضعيف، لا
بالنسبة للجسد وحسب، بل وما فعله للروح إذ أذل الإنسان وأحدره إلى الخزي حينما
تسلط عليه عبر ضلالة الفكر لكي يعبد المخلوق دون الخالق في كل صور الضلالة من حجر
وخشب وحيوانات، فهذا الإنسان المديد القامة ينحني إلى الأرض ليسجد لصنم أو بهيمة.
هذا بجوار أنواع الخطايا والرذائل التي دسها على نفسه وروحه.

فلا
يستهين القارئ بقوة إخراج الشيطان من جسد إنسان فهي الدرجة الصغرى لإخراجه من
العالم كله، ولا يستهين أحد بالشيطان وأعماله فهو الذي صلب ابن الله على الخشبة،
ولكن وعلى الصليب ظفر ابن الله بالشيطان وكل الرياسات التي له والسلاطين. وكيف وفي
بدء كرازته «أصعده إبليس إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة
من الزمان. وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن لأنه إليَّ قد دُفع وأنا
أعطيه لمن أريد
«(لو 4: 5و6). ولكن
المسيح ردَّه مقهوراً بكلمة الله.

والمسيح
في تعاليمه عبَّر عن الشيطان بأنه “الرجل القوي” ولكن “الأقوى” منه دخل بيته وربطه
ونهب أمواله (انظر شرح الآية 27:3). وهنا أعطى المسيح تلاميذه سلطاناً على الأرواح
النجسة ليخرجوها، وهذا هو نهب أمواله بعد أن ربطه على الصليب وأفقده سلطانه.

8:6
«وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَرِيقِ غَيْرَ عَصاً فَقَطْ،
لاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ نُحَاساً في المِنطَقَةِ».

ولكن ما معنى لا تحملوا شيئاً للطريق؟ الواضح أنها إرسالية
داخل المدن والقرى، فلا يحمل
الكارز همّ
أكله وشربه أو الدفاع عن نفسه، فالذي أرسله هو يحفظه وكل بيت بيته وملاك
الله عن يمينه.

9:6
«بَلْ يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَالٍ، وَلاَ يَلْبِسُوا ثَوْبَيْنِ».

«مشدودين بنعال»: Øpodedemšnouj sand£lia

الاصطلاح
يفيد نفس الصندل المعروف لنا، ولكن سيوره تلتف حول الساق إلى منتصفها، وهكذا تعطي
المفهوم أن الإنسان شدّ النعال. ويبدو أن المسيح نفسه كان يلبس مثل هذا الصندل ذي
السيور الملفوفة على الساق التي يلزم حلّها أولاً قبل خلعها، والتي اعتبر المعمدان
نفسه أنه غير أهلٍ أن يفك هذه السيور، وهي عملية كان يقوم بها الخدم في البيت.

والسيور
في الصندل أو النعل طويلة، ومن السفر الطويل تفك أو تنقطع مثل ما حدث لمرقس الرسول
في رحلته الطويلة من المدن الخمس في إقليم برقة بليبيا حتى الإسكندرية، إذ انقطعت
سيور حذائه، وكان هذا مدخلاً لتعرفه على الإسكافي إنيانوس ليكون أول بابا على
الإسكندرية.

«ولا يلبسوا ثوبين»:

من
الأكيد أن الوقت كان صيفاً، فالثوب
citèn أي “قيطونه” في المخطوطات القديمة وبالإنجليزية: Tunic أو Shirt، هو ما يُلبَس تحت الرداء، المدعو ƒm£tion (انظر مت 40:5). والقصد
من الوصية أن لا يعمل الإنسان حساب العوز في إرساليته الإلهية: اسمع ما يقوله الله
عن الذي يسير تحت طاعته ويرسله الرب أمامه:

+
«فقد سرت بكم أربعين سنة في البرية لم تَبلَ ثيابكم عليكم
oÙk
™palaièqh t¦

ƒm£tia

ونعلك
kaˆ t¦ Øpod»mata Ømîn لم تَبْلَ على رجلك «(تث 29: 5و6)

وطبعاً
معروف أن بني إسرائيل لم يأخذوا أيضاً خبزاً معهم!!

وعلى القارئ أن يفطن إلى وصية المسيح للاثني عشر في
إرساليتهم فهي على مستوى إرسالية شعب إسرائيل عبر سيناء أربعين سنة، لم يغيِّروا
نعالهم ولا أثوابهم ولا كان لهم خبزٌ. ولولا تذمرهم من عدم الخبز واضطرار الله
لإرسال المن ما كانوا جاعوا ولا عطشوا ولا اعتازوا. والإرساليتان كانا باتجاه أرض
الميعاد، الأُولى على الأرض والثانية في السماء، الأُولى نحو مملكة إسرائيل
والثانية نحو ملكوت الله! وبعض القديسين كانوا يلبسون سبانية واحدة على اللحم (وهي
من صوف الغنم) لا يغيِّرونها ويطلبون أن يُدفنوا فيها إذ كان نظرهم مثبتاً نحو
النهاية السعيدة. كما أن السوَّاح ما كانوا يغيِّرون ثيابهم وما كانوا يحملون
طعاماً. فالكنيسة كانت تترجم وصايا المسيح على مستوى سرِّي حياتي.

10:6
«وَقَالَ لَهُمْ: حَيْثُمَا دَخَلْتُمْ بَيْتاً فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى
تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ».

وإزاء وصية المسيح للاثني عشر كيف يدخلون البيوت ومدة
الإقامة فيها فقد احتفظت الكنيسة بتعاليم الرسل وهو ما يسمَّى بكتاب الديداخي أو
التعليم وفيه فصل عن كيفية قبول الرسول هكذا:

[بخصوص
الرسل والأنبياء تصرَّفوا وفق تعاليم الإنجيل بالكيفية الآتية:

استقبلوا كل رسول يأتيكم كاستقبالكم للرب.

يمكث لديكم يوما واحداً أو يومين إذا دعت
الحاجة. ولكن إذا أقام ثلاثة أيام بينكم فهو نبي كاذب.

لا يحسن أن
يَقبَل الرسول عند انصرافه شيئاً سوى ما يحتاجه من الخبز حتى يبلغ مكاناً آخر
.

أمَّا إذا طلب نقوداً فهو نبي كاذب.

ليس مَنْ يتكلَّم بالروح حتماً نبياً، إنما هو
نبي مَنْ يسلك مسلك الرب.

يمكنكم إذاً أن تميِّزوا النبي الصادق من
الكاذب باختبار مسلكه.

إن النبي
الذي يأمر بنصب مائدة ينبغي أن لا يأكل منها، أمَّا إذا أكل منها فهو نبي كاذب
.

كل نبي يعلِّم الحقيقة ولا يمارسها هو نبي
كاذب.

ومَنْ قال لكم إنه إنما يتكلَّم بتأثير من
الوحي وطلب نقوداً أو أشياءً أخرى فلا تستمعوا إليه.]([11])

والمعروف
أن أوامر المسيح أخذتها الكنيسة كأساس لتعليمها.

11:6
«وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ
هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً
عَلَيْهِمْ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ
يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ».

«مَنْ لا يقبلكم»:

هنا
المسيح يقطع بالقول: «مَنْ لا يقبلكم
«أي يرفض دخولكم
وبالتالي يرفض الإنجيل والمسيح، حيث في هذه الحالة يُحسب أنه وثني، أي فاقد
الإيمان بالمسيح الذي رفضه. أي أنه في رفض قبول الرسول الحامل رسالة الإنجيل
بملكوت الله، هناك رفضٌ صريح لله والإنجيل والخلاص. حيث هنا الرفض هو رفض للمسيح
الذي أرسلهم:

+
«الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني.
«(لو 16:10)

إذن،
ليس من حق الرسول أن ينفض التراب الذي تحت رجليه إلاَّ في حالة رفض المسيح
والإيمان بالمسيح، حيث يقف التراب المنفوض من أرجلهم يشهد يوم الدينونة أن هذا
البيت قد رفض المسيح والإيمان بالمسيح. ولكن أيما أسقف نفض التراب من رجليه وكان
البيت الذي دخله يؤمن بالمسيح ويتمسَّك بالإيمان بالمسيح يكون التراب الذي نفضه
شهادة عليه هو أنه لا يحكم بالحق، ويصبح كالذين شهدوا ضد المسيح أنه خاطئ وصانع
شر.

وهكذا
يتحتم على كل رسول يحكم بحكم المسيح أن يكون له روح المسيح، لأن الحكم لن يكون
صحيحاً ونافذاً إلاَّ إذا كان بروح المسيح وبموجب روح المسيح. وهنا خطورة استخدام
أحكام المسيح بدون وجود الروح القدس وبمقتضى شهادته. فالسلطان الذي أعطاه المسيح
لرسوله لابد أن يستخدمه لتمجيده.

أعرف
أسقفاً حرم أميناً في مدارس الأحد في مدينة كبرى دون إنذار أو محاكمة، فلمَّا
استفسر الأمين عن السبب أرسل له تلغرافاً: [لكي تعلم أني لا أمسك السيف عبثاً].
هكذا أصبحت كلمة الله عوض أن تشد أزر الخدَّام أصبحت وكأنها سيف يقطع الرقاب. ألا
عودة إلى الأبوة الحانية المُحبَّة التي تجمع ولا تُفرِّق فتُلزم البنين بالحب
والخضوع.

«الحق أقول لكم
ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينة»:

والآن
نظرة إلى العقاب، فسدوم وعمورة أُحرقت بنار سماوية وانقلبت ودُفنت تحت الأرض. فلو
تمهَّل الرسول أو النبي أو الأسقف أو الكاهن قبل أن يجرؤ وينفض غبار قدميه ويفكِّر
لحظة فيما سيؤول إليه عمله لو كان قديساً حقا وعمله صحيحاً
لامتنع مهما كان السبب، فباب رحمة الله لا يستطيع أن يغلقه إنسان، والإنسان قابل
أن يتوب حتى ولو في آخر يوم من حياته.

يا
ليت رجال الكنيسة لا يحرمون بأحكام المسيح أولادهم بنار سدوم وعمورة؛ بل عليهم أن
ينقذوا الأولاد بقوة إيمانهم كشعلة منتشلة من النار:

+
«خلصوا البعض بالخوف مختطفين من النار.
«(يه 23)

12:6 «فَخَرَجُوا وَصَارُوا يَكْرِزُونَ أَنْ
يَتُوبُوا».

صيغة
ختامية لينهي بها إرسالية الاثني عشر، وقد لخَّصها ق. مرقس في اتجاهين: الكرازة
بالمسيح والتوبة. أمَّا الكرازة فهي الأخبار السارة بمجيء المسيح المسيَّا رجاء
إسرائيل ومشتهى الأُمم، الأمر الذي كان يملأ قلوب الشعب بالفرح والرجاء والدموع
معاً، لأن بمجيء المسيَّا رجعة لقلب الله على شعبه وتحقيق المواعيد الصادقة التي
كان ينتظرها الشعب بفارغ الصبر، مئات مثل سمعان الشيخ سمعت الأخبار السارة وطارت
قلوبهم من الفرح، وألوف مثل حنة النبية من العابدات والناسكات بلغن رجاءهن بسماع
الخبر المفرح بمجيء المسيَّا. وكان بمجرَّد أن سمع الشعب أخبار المسيح، مسيَّا
الله الموعود، انفتحت قلوبهم بالتوبة أي العودة إلى الله بإخلاص العبادة والشكر
والتسبيح. فالتوبة بالنسبة لليهود لم تكن تُعرف أنها توبة من خطايا بل توبة من
البعد عن عبادة يهوه. فأن يتوب اليهودي فهذا يعني أن يرجع بقلبه إلى عبادة الله
الحي، لأنه من خلال صدق عبادة اليهودي ليهوه بالحق يستعلن المسيَّا.

لذلك
كانت رسالة الاثني عشر هي إعداد القلوب لعبادة الله الحي تهيئة لاستعلان المسيح
وبدء العهد الجديد.

والكرازة
بالتوبة نادى بها المعمدان أول مَنْ نادى، بل ونادى بها المسيح نفسه بعدما خرج من
المعمودية، وصارت هي وإلى الآن كرازة الكنيسة حتى اليوم، بمعنى عودة القلوب إلى
الله الحي ليستعلن عمل المسيح والخلاص.

13:6
«وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ
فَشَفَوْهُمْ».

سبق أن تكلَّمنا عن إخراج الشياطين، ولكن هنا ولأول مرَّة
ينجح الرسل في إخراج الشياطين باسم المسيح. معنى هذا أن الكنيسة بدأت تنال موهبة
إخراج الشياطين بسلطة ممنوحة من المسيح، وهي علامة بحد ذاتها تفيد انتقال سلطة
المسيح تدريجياً لتكون سلطة الكنيسة باعتبارها جسده على الأرض.

ونكرِّر
القول بأهمية تسليم هذه السلطة بكل خواصها الإلهية فوق كل سلطان آخر على الأرض:

+
«مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاءُ دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في
القديسين، وما هي عظمةُ قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدَّةِ
قوَّته
الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في
السماويَّات، فوق كل رياسةٍ وسلطانٍ وقوَّةٍ وسيادةٍ، وكل اسمٍ يُسمَّى ليس
في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيءٍ تحت قدميه، وإيَّاه
جعل رأساً فوق كل شيءٍ للكنيسةِ، التي هي جسده، ملءُ الذي يملأُ الكلَّ في
الكلِّ.
«(أف 1: 1823)

إن
هذه هي قوة لاهوت المسيح التي سلَّمها للكنيسة لتعمل بها كما كان يعمل المسيح.
فكون الكنيسة هي جسده الذي نحن منه وفيه فقد نلنا نصيبنا السماوي في المسيح. وقصد
ق. بولس من هذا الكلام المفرح والمشدِّد للكنيسة هو أن تدرك أنه ليست بعد قوة
شيطان أو عدوٍ أيًّا كان إلاَّ وأُخضعت تحت أقدامها.

«ودهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم»:

الدهن
بالزيت منذ العهد القديم، فالدهن بقرن الزيت كان طقساً مهيباً لمسح الملوك وتكريس
الكهنوت، وكان محسوباً أنه من أسرار عمل الله. ومعلوم أن المسيح يعني الممسوح
بمسحة الله، ولكن عوض الزيت هنا يكون عمل يد الله، فالله نفسه مستعلناً بالروح
القدس هو الذي مسحه على نهر الأُردن، ولذلك استُعلن المسيح لحظة خروجه من الماء والروح
نازلاً من السماء لتكميل مسحة القدوس ابن الله بالجسد. ومن هنا بدأت المسحة
بالنسبة لكل معمَّد بعد خروجه من الماء تتم بالدعاء بوضع يد الأسقف لكي يحل الروح
القدس، بعدها يُعتبر المعمَّد ممسوحاً بالروح القدس ويُدعَى في الحال مسيحياً، أي
ممسوحاً بالروح القدس باسم المسيح. ولكن في زمن متقدِّم في أوائل التاريخ الكنسي
استُخدم الزيت للمسحة عوض وضع يد الأسقف، وأيضاً باعتبار أن الزيت يحمل سر الروح
القدس. ولكي تضمن الكنيسة أن جسد المعمَّد قد عمل فيه الروح القدس قامت الكنيسة في
ترتيب طقسها بمسح المعمَّد في جميع أعضاء جسده بستة وثلاثين رشماً بالصليب بزيت
الميرون المقدَّس بأصبع الكاهن، وهكذا اعتُبر المعمَّد «لابساً الروح القدس
«ويُعطى
ثوباً أبيضاً يلبسه، بمفهوم أنه قد لبس المسيح.

وأمَّا
زيت المعمودية هذا فقد قيل أنه أصلاً من الحنوط التي كانت على جسد المسيح. ويسمَّى
زيت الميرون المقدَّس. أمَّا زيت مسحة المرضى فهو من زيت الزيتون بعد أن تتلى عليه
صلوات خاصة معروفة باسم “القنديل المقدَّس”، وتكون عادة في يوم جمعة ختام الصوم،
ويوزع على الكهنة المرخَّص لهم فقط بالقيام بدهن المرضى. وجعلت له الكنيسة طقساً
وصلاة خاصة باسم مسحة المرضى. وكل من زيت الميرون وزيت مسحة المرضى قد حُسب سرًّا
كنسياً لأنه حامل للروح القدس، فالأول سر التثبيت والثاني سر مسحة المرضى. فالشفاء
يحدث بسبب الصلاة باسم المسيح. ودهن المريض أيضاً بالاسم.

والذي
ذكر دهن الزيت لشفاء المرضى في العهد الجديد هما القديس مرقس في إنجيله (13:6)
والقديس يعقوب الرسول في رسالته (13:5)، وهو تقليد رسولي استلمه القديس يعقوب من
الرسل الأقدم منه، ويبدو أنه من وضع الرب: «أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة
(كهنة فقط) فيصلوا عليه، ويدهنوه بزيت باسم الرب.
«(يع 14:5)

وواضح
أن إرسالية الرسل كانت في محيط الجليل فقط.

 

خدمة ما وراء الجليل

(مر 14:626:8)

 

يبتدئ
من هنا جزءٌ جديدٌ في إنجيل ق. مرقس من الأصحاح السادس عدد (14)، وفيه يقص ق. مرقس
قصص مخاوف هيرودس (14:616)، ثم موت المعمدان (17:629)
ليصنع نوعاً من الصلة مع خدمة المسيح التي كانت في جملتها خارج الجليل ما عدا
(53:656)، (11:813). كذلك في هذا الجزء لم يكن له خدمة
عامة إلاَّ في بداية الأصحاح السابع (1:723). بعد ذلك كان المسيح مبعداً عن الجليل
خاصة أثناء جولته في نواحي صور (24:723)، وفي العشر المدن (31:737).
وقد ركَّز المسيح اهتمامه نحو تلاميذه وإلى بعض الشعب الذي استمع إليه وإلى خدمته
(30:644). كما حصلت بعض الأشفية ولكن ليس على المستوى العلني وربما
دون إرادته في (24:730)، (31:737)، (22:826).
وأخيراً وصل إلى حدود قيصرية (27:8). وكانت أهم أقسام هذا الجزء كالآتي:

(
أ ) قصة هيرودس أنتيباس (14:629).

(ب)
إطعام الجموع الخمسة آلاف وما تبع ذلك (30:637:7).

(
ج ) إطعام الأربعة آلاف وما تبع ذلك (1:826).

 

33 مخاوف هيرودس أنتيباس

[14:616] (مت 1:14) (لو 7:99)

 

يروي
القديس مرقس القصة بإسلوبه (14:6)، فقد حامت شبهات هيرودس حول المسيح، وذلك واضح
من العبارة التي ذكرها القديس مرقس عن فم هيرودس: إن المسيح هو المعمدان وإنه قام من الأموات! فهنا إشارة بالأصبع أن هيرودس سيبدأ
المطاردة. أمَّا القديس لوقا فجعلها مكشوفة
هكذا:

+
«في ذلك اليوم تقدَّم بعض الفريسيين (للتخويف) قائلين له (للمسيح): اخرج واذهب من
ههنا (الجليل)، لأن هيرودُس يُريد أن يقتُلك. فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب
(هيرودس ومعه الفريسيون): ها أنا أُخرج شياطين،
وأشفي اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث أُكمِّلُ.
«(لو 31:13و32)

والقديس
مرقس دون أن يذكر أو يلمِّح بشيء، جعل عمل المسيح خارج الجليل، وكأنه يتحاشى
الوجود في مقابل هيرودس متجهاً إلى صور والعشر مدن، وبعدها يتجه نحو أُورشليم
منحدراً في طريق شرق الأُردن. ولكن لم يذكر ق. مرقس قط أن المسيح كان يخاف هيرودس.

14:616 «فَسَمِعَ هِيرُودُسُ
الْمَلِكُ، لأَنَّ اسْمَهُ صَارَ مَشْهُوراً. وَقَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا
الْمَعْمَدَانَ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ.
قَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ إِيليَّا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ
كَأَحَدِ الأَنْبِيَاءِ. وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ قَالَ: هذَا هُوَ
يُوحَنَّا الَّذِي قَطَعْتُ أَنَا رَأْسَهُ. إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ».

«هيرودس«`Hrèdhj:

هو ابن هيرودس الكبير ومالثاس Malthace وقد استلم بموت أبيه ربع الجليل وإقليم بيريه، وسعيه
أن يكون ملكاً أودى به إلى النفي في زمن الإمبراطور كاليجولا سنة 39م. وقد سمَّاه
كل من ق. متى وق. لوقا رئيس ربع الجليل
 Ð tetra£rchj. ولكن القديس مرقس أسماه ملكاً BasileÚj وهي محسوبة على ق. مرقس أنها عدم دقة
في التعبير، ولكن ربما كان ينقل عن حديث الناس.

«فسمع هيرودس»:

ماذا
سمع؟ ليس نشاط خدمة الاثني عشر بل الفكر منصب على أعمال المسيح الإعجازية في
الجليل وهي دائرة اختصاص سلطانه.

«لأن اسمه صار مشهوراً»:

اسم
يسوع المسيح ومعه أعماله وتعليمه، ويبدو أن الأعمال هذه التي بلغت أسماع هيرودس هي
التي أثارت حفيظته، وجعلته يسأل ويستفسر لعله يكون يوحنا المعمدان قام من الأموات.
فقد هيَّج سمعه عن المسيح ذكرى جريمته الشنعاء، مما جعله يفكِّر أن يأخذ خطوات
ضدَّه.

«وقال: إن يوحنا المعمدان قام من الأموات
لذلك تعمل به القوات»:

أعمال
المسيح الفائقة للطبيعة جعلت هيرودس يفكر في مصدر هذه القوات، إنها أعمال فائقة
يعملها المعمدان كمن قام من الأموات، لذلك تُعمل بواسطته هذه الأعمال الفائقة، وهذا
تعليل منطقي ولكنه سقيم، فالخوف والرعبة التي تملكت على هيرودس هي التي جعلته
يهذي.

«وقال آخرون: إنه إيليا. وقال آخرون: إنه
نبي أو كأحد الأنبياء»:

هذه
الأقوال لم يقبلها هيرودس ولا أتباعه وإنما كانت إشاعات وسط الشعب، وهي نفس
الإشاعات التي قالها التلاميذ عندما سألهم المسيح: مَنْ يقول الناس إني أنا؟ وكلها
مرتبطة بمستوى الأعمال الإلهية الفائقة التي كان يعملها المسيح.

ويلاحظ القارئ أن إشاعة القول بأنه إيليا تأتي ليس من فراغ،
لأنه معروف أن إيليا سيأتي قبل مجيء المسيَّا، والتقليد بل والمسيح نفسه اعتبر
يوحنا المعمدان أنه إيليا الذي قد أتى في شخصه وعملوا به كل ما أرادوا. إذن،
فالخلط بين يوحنا المعمدان وإيليا أمر وارد كتابياً وسط المتعلمين، أي الكتبة.

«ولكن لمَّا سمع هيرودس قال:

هذا هو يوحنا المعمدان الذي قطعت أنا
رأسه. إنه قام من الأموات»:

قول
مَنْ أفزعته رؤى رأسه. قد هيَّجت أعمال المسيح ذكرى عمله الأحمق المجرم الذي لاحقه
كلما خلا إلى نفسه. فمنظر رأس يوحنا لم يفزع هيرودس فقط بل أفزع العالم كله وإلى
هذا اليوم. والآن جاء وقت الحساب، حساب الضمير المهلهل ليسترجع حماقة عمله بلا أي
فائدة، فدم المعمدان خرج صارخاً من الأرض أمام الله كدم هابيل.

ويوضِّح
القديس لوقا رعبة هيرودس بأكثر تعبير، ويوضِّح أنه كان يطلب يسوع ولكن المسيح ترك
له الجليل كله وانطلق إلى اليهودية:

+
«فقال هيرودس: يوحنا أنا قطعت رأسه. فمَنْ هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا! وكان
يطلب أن يراه.
«(لو 9:9)

ملاحظة:

كل
الآيات السالفة من (14 16) أوردها ق. مرقس ليدخل في موضوع استشهاد
يوحنا المعمدان، الأمر الذي كان ختام الحوادث التي من أجلها ترك المسيح الجليل.

 

34
قصة استشهاد يوحنا المعمدان

[17:629] 

 

كما كانت قصة إيليا مع إيزابل امرأة آخاب واضطهاد آخاب له
حتى الموت لولا تدخل الرب بقوة ليبقيه: «وأخبر آخاب إيزابل بكل ما عمل إيليا وكيف
أنه قتل جميع الأنبياء (الكذبة الذين كانت تأويهم إيزابل) بالسيف، فأرسلت إيزابل
رسولاً إلى إيليا تقول هكذا تفعل الآلهة (الكذبة) وهكذا تزيد إن لم أجعل نفسك كنفس
واحد منهم في نحو هذا الوقت غداً. فلما رأى ذلك قام ومضى لأجل نفسه!
«(1مل
1:193). وهكذا تجيء قصة المعمدان الذي جاء بروح إيليا وشبح إيزابل وراءه، ولكن
هذه المرَّة كانت هيروديا امرأة هيرودس. وكأنما تأجل تهديد إيزابل حتى تقمصته
هيروديا، وما لم تستطع إيزابل عمله استطاعت هيروديا. ومات المعمدان بقطع رأسه.

صورة
من الصور الحزينة التي دفع ثمنها الأنبياء إزاء مواجهتهم للفجور بالمناداة بالحق.
فالنياشين لا تنتظرنا إزاء إعلان الحق في وجه الباطل، بل ينتظرنا قطع الرقبة، وهذا
هو إكليل الأنبياء الذي ختمه المسيح على الجلجثة.

17:6 «لأَنَّ هِيرُودُسَ نَفْسَهُ كَانَ قَدْ
أَرْسَلَ وَأَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ فِي السِّجْنِ مِنْ أَجْلِ
هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا».

القديس يوحنا المعمدان هو آخر أنبياء العهد القديم، والمفروض
بحسب نص ما قاله ملاخي النبي إن روح إيليا ستُرسل في شخص مَنْ يظهر في الأيام
الأخيرة (العهد الجديد) وكأنه ملاك الله، لكي يوبِّخ ويؤدِّب شعب إسرائيل قبل مجيء
الرب. وإليك نص الآية: «ها أنذا أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم
والمخوف (على الأعداء) فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم
لئلاَّ آتي وأضرب الأرض بلعن
«(مل 5:4و6) (400 سنة قبل الميلاد).
فلمَّا سألوا المسيح عن صدق هذه النبوَّة بقولهم: «وسأله تلاميذه قائلين: فلماذا
يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟ فأجاب يسوع وقال لهم: إن إيليا يأتي
أولاً ويرد كلَّ شيء، ولكني أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل
ما أرادوا
«(مت 17: 10 12). وأيضاً: «لأن جميع
الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا، وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا
المزمع أن يأتي
«(مت 11: 13و14). وأيضاً من إنجيل ق. مرقس: «لكن أقول
لكم: إن إيليا أيضاً قد أتى وعملوا به كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنه
«(مر
13:9). ويُعتقد أن قول المسيح في إنجيل ق. مرقس هو الأصل الذي أخذ منه القديس متى.

وقد
أشار الروح القدس إلى المعمدان وقت ميلاده أنه جاء بروح إيليا:

+
«ويتقدَّم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر
الأبرار لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً.
«(لو 17:1)

«كان قد أرسل وأمسك يوحنا وأوثقه في
السجن»:

كان
هيرودس المدعو أنتيباس يخاف الشعب اليهودي لأنه لم يكن من أصل يهودي نقي، وكان قد
أخذ الولاية على اليهودية بالغش والخداع والرشوة، فكانت أية تجمعات من الشعب وخاصة
تحت قيادة أشخاص زعماء تُرعب قلبه. فلما ذاع صيت المعمدان والتف الشعب كله حوله،
لم يطق الوالي الخائف فاحتال عليه وسجنه. وكما أخبرنا المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس([12])
فإنه سجنه في قلعة ماخيروس الواقعة نحو الشمال
الشرقي من البحر الميت. ولكن من رواية ق. مرقس
يُستشف أن السجن كان في
طبرية مركز حكم هيرودس وبجوار القصر الذي عمل فيه الوليمة لعيد ميلاده.

«من أجل هيروديا»: `Hrwdi£da

هيروديا
ابنة أرسطوبولس ابن هيرودس الكبير من مريمن
Mariamne.
وهيروديا كانت زوجة لفيلبُّس أخي هيرودس أنتيباس وكان لها ابنة اسمها سالومي
(الراقصة).

وهيرودس
أنتيباس هذا القاتل كان متزوجاً بنت الحارث الوالي (العربي) فطلقها وتزوج امرأة
أخيه هيروديا وبنتها سالومي. ويقول المؤرِّخ يوسيفوس([13])
أن امرأة هيرودس أنتيباس إذ علمت بنية طلاقها هربت عن طريق قلعة ماخيروس ومنها
فرَّت إلى مملكة أبيها واحتمت به. ولذلك أقام أبوها حرباً انتقامية ضد هيرودس
أنتيباس سنة 36م وهزمه شر هزيمة، هذه التي اعتبرها اليهود أنها نقمة من الله بسبب
قتله للمعمدان([14]).

18:6و19 «لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ
لِهِيرُودُسَ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ! فَحَنِقَتْ
هِيرُودِيَّا عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ وَلَمْ تَقْدِرْ».

كان
المعمدان في فرص تقابُله مع هيرودس أنتيباس هذا يوبِّخه
على زواجه من امرأة أخيه، وقطع عليه بالقول: «لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك
«وذلك طبقاً
للناموس الذي يعتبر ذلك زنا. فكانت هيروديا تسمع ذلك فحنقت عليه وأرادت أن تقتله
كإيزابل وإيليا ولم تقدر لأن هيرودس كان يخاف الشعب. ويقول إنجيل ق.
متى: «ولمَّا أراد أن يقتله خاف من الشعب لأنه كان عندهم مثل نبي
«(مت 5:14). وهذه أيضاً شهادة ق. لوقا: «أمَّا هيرودس رئيس الربع
فإذ توبَّخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبُّس أخيه ولسبب جميع الشرور التي كان
هيرودس يفعلها، زاد هذا أيضاً على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن.
«(لو 3: 19و20)

20:6 «لأّنَّ هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ
يُوحَنَّا عَالِماً أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ. وَإِذْ
سِمِعَهُ، فَعَلَ كَثِيراً، وَسَمِعَهُ بِسُرُورٍ».

إنجيل ق. مرقس هو الوحيد الذي كشف هذه العلاقة السرية بين
هيرودس والمعمدان، وهي تكشف مدى ضعف هذا الإنسان إذ تحت إغراء وإلحاح امرأة يتراجع
ويقف ضد ضميره، فقد ظل يدافع عن المعمدان «ويحفظه«من مؤامرات هذه الزوجة
الفاجرة، ولكنه انهار أخيراً أمام ألاعيبها.

«إذ سمعه فعل كثيراً»: ¢koÚsaj aÙtoà poll¦ ºpÒrei

الترجمة العربية هنا تتبع بعض المخطوطات اليونانية، أمَّا
المعنى الحرفي حسب النص اليوناني أعلاه الوارد في المخطوطات الأقدم فهو: “إذ سمعه
اضطرب كثيراً، أو صار في ضيق أو صعوبة”، ولكنه سمع بفرح. بمعنى أن كلام المعمدان
كان يصيب ضميره إصابة مباشرة فكان يضطرب ويتضايق بسبب عذاب ضميره، ولكن سحر المرأة
اللعوب كان قادراً أن يطفئ جذوة الضمير بل ويميته!! ويتضح المعنى لكلمة
ºpÒrei في إنجيل ق. لوقا هكذا: «وفيما هن محتارات
¢pore‹sqai في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب
برَّاقة
«(لو 4:24). والمعنى جميل إذ لمَّا كان المعمدان يؤاخذه
على خطيته كان يحتار جداً، ولكنه كان يسمعه بسرور. وهذه هي الثنائية القاتلة التي
أنهت على المئات والألوف من الرؤساء والعظماء والقادة، يستيقظ ضميره للحق أمام
المراجعة والتوبيخ، ثم إذ يستثار الشر والثأر في قلبه يضطهد من يوبِّخه ويقتله!!
أو يحرمه وينفيه!؟

21:6و22 «وَإِذْ كَانَ يَوْمٌ مُوافِقٌ،
لَمَّا صَنَعَ هِيرُودُسُ فِي مَوْلِدِه عَشَاءً لِعُظَمَائِهِ وُقُوَّادِ
الأُلُوفِ وَوُجُوهِ الْجَلِيلِ، دَخَلَتِ ابْنَةُ هِيرُوديَّا وَرَقَصَتْ،
فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِلصَّبِيَّةِ:
مَهْمَا أَرَدْتِ اطْلُبِي مِنِّي فَأُعْطِيَكِ. وَأَقْسَمَ لَهَا أَنْ مَهْمَا
طَلَبْتِ مِنِّي لأُعْطِيَنَّك حَتَّى نِصْفَ مَمْلَكَتِي».

يلزمنا
هنا أن نوضِّح جنسية هؤلاء الرؤساء إذ كانوا خليطاً من الأدوميين والصدوقيين النصف
وثنيين وهم في نفس الوقت من نسل شمعون رئيس الكهنة ومن سلالة الأمراء المكابيين،
جمعوا بين كل هذه الجنسيات من خلاعة ومجون مكشوف بلا خوف الله ولا حياء من أحد،
فهم في صف الملوك يقلِّدون الرومان في بذخهم ومجونهم وقسوتهم.

فالوليمة
كانت فاخرة ذاخرة بكل ما هو شهي ومثير، والضيوف على مستوى الجيش ووجهاء الجليل،
جليل الأمم!! وكفى.

«دخلت ابنة هيروديا (سالومي) ورقصت»:

لم يكن عمر سالومي يزيد عن عشرين سنة، حسب تحقيق يوسيفوس
(سنة 28 بعد الميلاد)، وهي حفيدة هيرودس الكبير. وقد أصبحت فيما بعد أميرة عندما
صارت زوجة لفيلبُّس رئيس ربع أيطورية وهو عمها بآن
واحد، ثم تزوجت بعده بابن عمها أرسطوبولس ملك حلكيس([15]). لذلك
يقول معظم علماء الغرب إنه من المستحيل أن أميرة بهذا المَحْتِد تقبل أن ترقص في
حفل عام. ولكن أين الحياء عند الزواني؟ وإن كانت نية القتل للعدو ثمناً لرقصة،
فمرحباً بالرقص. المهم أن يُقتل المعمدان. هكذا قال الشيطان ونفَّذت حواء. وطبعاً
رقصت وحدها الرقصة الشرقية بكل جسمها وبكل ما يثير الغرائز([16])
.

وما
أشبه اليوم بالبارحة!!

فقصة
هَدَسة أي أستير الجميلة حسنة الصورة اليتيمة الأب والأُم، التي تبناها مردخاي
اليهودي وهي بنت عمه، والتي اختارها الملك أحشويرش أكثر من كل الجميلات لتكون له
زوجة عوض وشتى، والتي بحسنها سلبت قلب الملك، وطلبت أن يُصلب عدو اليهود هامان على
الخشبة التي أعدَّها ليَصْلِب عليها مردخاي اليهودي. لكن أستير دبَّرت نقمتها على
عدوها بحشمة اليهود وفي حياء بناتهن. أمَّا هذه الأدومية فسخَّرت جسدها لتشتري به
رأس نبي!!

«فسرَّت هيرودس
والمتكئين معه. فقال الملك للصبية: مهما أردتِ اطلبي مني فأعطيك»:

لما
انتهت المائدة وامتلأت البطون ولعبت الخمر بالعقول، رقصت الفتاة رقصة الشيطان
فأهاجت العواطف والغرائز، ووقف الشيطان يطالب بحقه كمؤلِّف ومنفِّذ للمسرحية.

«وأقسم لها أن مهما طلبتِ مني لأعطينكِ
حتى نصف مملكتي»:

كان
عند هيروديا نصف المملكة بأموالها ورعاياها ومجدها لا يساوي شيئاً بجوار رأس
المعمدان!! ويا ويل مَنْ وقع تحت كيد النساء! فالمرأة الحاقدة لا يروي حقدها نصف
مملكة، فعطشها للنقمة لا يرويه إلاَّ الدم!!

24:6 «فَخَرَجَتْ وَقَالَتْ لأُمِّهَا:
مَاذَا أَطْلُبُ؟ فَقَالَتْ: رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ».

لقد راهنت هيروديا على نصف المملكة مقابل رأس يوحنا المعمدان
فكسبت الرهان.

25:6 «فَدَخَلَتْ لِلْوَقْتِ بِسُرْعَةٍ
إِلَى الْمَلِكِ وَطَلَبَتْ قَائِلَةً: أُرِيدُ أَنْ تُعْطِينِي حَالاً رَأْسَ
يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ عَلَى طَبَقٍ
».

يغلب على ظني أنها وضعت كلمة «حالاً«قبل الطلب أو
كأهم ما في الطلب كضمان للطلب. فالطلب الصادر من القلب الحقود الجحود والنفس التي
نوت على القتل من المهم جداً أن يكون “في الحال”، حيث السرعة الشديدة ليس سببها
كما يقول المفسرون خوفاً من أن يرجع الملك في كلامه، بل تعطشاً لتتميم النقمة
بأقصى ما تكون السرعة. فسيكلوجية الشيطان لا تحتمل البطء في تتميم القتل. فنصيحة
الشيطان اقتل، واقتل بسرعة. هذه التقطها المسيح من قلب يهوذا، بل من فكر الشيطان: «ما
أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة
«(يو 27:13). فالرجل القاتل قاتل هو،
ولكن الرجل الذي يقتل بسرعة هو قتَّال ماهر. وهكذا الشيطان دائماً «قتَّال للناس
من البدء
«(يو 44:8). فالسرعة في تنفيذ القتل هي السبب في 90% من
حوادث القتل العمد. وكانت وظيفة المعمدان أن يعدَّ بصراخه الطريق أمام الرب، ويهيئ
برأسه المقطوع طريق الجلجثة.

26:628 «فَحَزِنَ الْمَلِكُ
جِدًّا. وَلأَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَرُدَّها.
فَلِلْوَقْتِ أَرْسَلَ الْمَلِكُ سيَّافاً وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بِرَأْسِهِ.
فَمَضَى وَقَطَعَ رَأْسَهُ فِي السِّجْنِ وَأَتَى بِرَأْسِهِ عَلَى طَبَقٍ
وَأَعْطَاهُ لِلصَّبِيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ أَعْطَتْهُ لأُمِّهَا».

حُزن الملك أظهر احترامه للمعمدان كبارٍّ وقديس. وقد عبَّر
عنه ق. متى بأنه «اغتم
« ولكن ق. مرقس جعلها «جداً «كنوع من الكمد ألمَّ به، إذ شعر في
الحال بالجريمة التي وقع فيها بسبب رعونته وخبث سالومي وأمها. ولكن حقٌ هنا ما
يُقال بالمثل: “لقد سبق السيف العزل” إذ تحمَّل في هذه اللحظة جُرم روح أزهقها
خرجت تشكو أمام الله.

وهكذا قطع رأس أعظم نبي في حفلة رقص. ويُقال إن المعمدان كان
سجيناً في قصر هيرودس الكبير الذي بناه في مرتفع ماخيروس، وهذا يحتِّم أن الوليمة
كانت هناك.

لهفي على نبي البرية صاحب الصوت الصارخ، لقد خرجت منه صرخة
الموت ليكمِّل إعداد طريق الجلجثة كما قلنا، ورُفعت رأسه عن الجسد وأُهديت إلى
زانية خليعة ليُكمِّل بها عار إسرائيل ورفض المسيح في وطنه.

29:6 «وَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ، جَاءُوا
وَرَفَعُوا جُثَّتَهُ وَوَضَعُوهَا فِي قَبْرٍ».

ويقول التقليد إن تلاميذه دفنوها بجوار قلعة ماخيروس([17])
وذهبوا أيضاً حسب التقليد وأخبروا يسوع: «فتقدَّم تلاميذه ورفعوا الجسد ودفنوه، ثم
أتوا وأخبروا يسوع
«(مت 12:14). وينقل لنا التقليد أن هذه المرأة الحقود
الفاجرة لم يمت حقدها بقطع رأس المعمدان؛ بل أمرت أن ترمي جثته من فوق الأسوار
لتأكلها الكلاب. الأمر الذي ينقل لنا منظر جثة إيزابل التي أُلقيت من شباك بيتها
فأكلتها الكلاب فعلاً. هذا التقليد ذكره إيرينيئوس ونيسيفورس، كما ذكره فارر في
كتابه المترجم (حياة المسيح) صفحة 253.

هذا
هو المعمدان الذي شهد له المسيح:

+
«كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة
«(يو 35:5)

+ «ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا: ماذا خرجتم إلى البرية
لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أَإِنساناً لابساً ثياباً
ناعمةً؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هُم في بيوت الملوك. لكن ماذا خرجتم
لتنظروا أنبيًّا؟ نعم أقول لكم، وأفضل من نبي (كاهن ابن كاهن). فإن هذا هو
الذي كُتب عنه: ها أنا أُرسل أمام وجهك ملاكي الذي يُهيئ طريقك قدامك. الحق
أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان.
«(مت
11: 712)

كان المسيح يحبه ويحترمه ويقدِّر صعوبة حياته ورسالته. وقد
رفعه إلى درجة أعظم من الأنبياء.

 

35
عودة التلاميذ والذهاب إلى موضع خلاء وإطعام الخمسة آلاف

[30:644] (مت 13:1421) (لو 10:917) (يو
1:614)

 

عودة
إلى المسيح والتلاميذ الذين انقطعت أخبارهم بعد إرسالهم في الآية (13:6) عند «وأخرجوا
شياطين كثيرة ودهنوا بزيت مرضى كثيرين فشفوهم
« وأقحم ق. مرقس رواية يوحنا المعمدان وكيفية موته لتحتل من (14:6)
إلى (29:6).

وهكذا
يعود ق. مرقس إلى المسيح والتلاميذ العائدين ليدخل في قصة إشباع الجموع التي تحتل
مكاناً بارزاً جداً في كرازة المسيح، وتبدأ بعد ملاقاة المسيح وأمرهم بالركوب
والذهاب عبر البحر، ولكن الجموع تلمحهم وتعرف قصدهم ويتبارون في المشي بل والجلوس
حول البحيرة ليلاقوا المسيح والتلاميذ عند نزولهم على الشاطئ، بل ويسبقونهم إلى
ذلك الموضع غير المذكور اسمه.

30:6و31 «وَاجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى
يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا.
فَقَالَ لَهُمْ: تَعَالُوا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ
وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً. لأَنَّ الْقَادِمِينَ وَالذَّاهِبِينَ كَانُوا
كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ».

الآية آية اتصال بين حديث الإرسالية وحديث الوصول للاثني
عشر، ولكن الشيء الوحيد الجديد في رواية ق. مرقس في هذه الآية هو تحويل كلمة
الاثني عشر إلى الرسل! وطبعاً لأنهم أخذوا نعمة الإرسالية، ولكنه لم يذكرها كخبر
رسمي. ولم يسجِّل ق. مرقس أي حديث أو أي تقرير قدَّموه، بل عبر عليه كخبر. ولكن
كفّ ق. مرقس عن إبلاغ تلاميذ يوحنا المعمدان للمسيح الذي سجَّله ق. متى، وكان رد
فعل المسيح له أنه قال لهم تعالوا إلى مكان منفرد. ولكن تُعتبر هذه الآية من
الأهمية بمكان بسبب إعطاء التلاميذ لقب رسل، على أساس أن المسيح وهبهم سلطاناً على
الأرواح النجسة وأعطاهم نعمة التعليم والشفاء. وبهذا نكون قد وصلنا إلى أول ومبتدأ
مفهوم “الرسل” كرسل أرسلهم المسيح ليمثِّلوه ويعملوا باسمه. وأخيراً جداً أُكملت
مواهبهم بالشهادة لقيامة المسيح من الأموات. وتعبير الرسل هنا تحدَّد بموعد موت
المعمدان.

32:6 «فَمَضَوْا فِي السَّفِينَةِ إِلَى
مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدِينَ».

حدَّد
معظم العلماء([18])
الموضع الخلاء بالشمال الشرقي للبحيرة، ولكن يمكن أن يكون الجنوب الشرقي، على
الرغم من أن نهر الأُردن يعترض الجموع الزاحفة حول البحيرة تجاه الشرق. فالعالِم
دالمان يحكي أنه في شهر أكتوبر سنة 1921 زار المكان ورأى أنه من الممكن عبور
الأُردن على الأرضية الجافة في بدء اتصاله بالبحيرة.

33:6و34 «فَرَآهُمُ الْجُمُوعُ
مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هَنَاكَ مِنْ جَمِيعِ
الْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَلَمَّا خَرَجَ
يَسُوعُ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ
لاَ رَاعِيَ لَهَا، فَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً».

يصف
القديس مرقس هنا منظراً فريداً وعجيباً، فالمدن المحيطة بالبحيرة كثيرة ومتراصة،
حينما رأوا جماعة تجري على الشاطئ متجهين شمالاً لحقت بهم مجموعات أخرى كثيرة من
كل المدن، وقد خرجت تجري وتتجمع في نقطة تلاقي واحدة صوب السفينة الراسية على
الشاطئ. فبمجرَّد خروج المسيح من السفينة رأى الجموع المحتشدة أكثر من خمسة آلاف رجل
مع نساء وأطفال بلا عدد. فتأثر المسيح من منظرهم كخراف تجري من كل النواحي بلا
راعٍ لها. وهكذا جاء وصف ق. مرقس لهذا المنظر المحتشد طبق الأصل من الواقع عن شاهد
عيان ذي خيال خصب وتعبير واقعي أعطى الإنجيل هنا طابعاً صادقاً فريداً من نوعه.

وهكذا اندفع المسيح بعاطفة الحب كمعلِّم الأرواح، يبني
نفوسهم بتعاليمه الواعية، والتي من صميم حياتهم. ومع أن المسيح كان مجهداً هو
وتلاميذه إلاَّ أنه ظلَّ يعلِّمهم كثيراً إلى ساعات كثيرة!

ولولا أن الرب وهبنا الروح القدس الذي يعلِّمنا ويذكِّرنا
بكل ما قال يسوع، لما احتملنا هذه الخسارة إذ لم يكن أحد ليسجِّل كلمة كلمة. ولكن
شكراً لله الذي أعطانا روح الحق الذي يعرِّفنا بكل الحق!!

35:6و36
«وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:
الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ مَضَى. اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الضِّيَاعِ
وَالْقُرَى حَواَلَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ
مَا يَأْكُلُونَ».

كان
المنظر فائق التصوُّر يُذيب النفس رقة وعطفاً وحناناً. جموع كثيرة تركت بيوتها
وأعمالها وتسابقوا عَدْواً ليلاقوا يسوع. ورغم الجوع والوقت قد أزف ومالت الشمس
للمغيب، فالجموع لا تريد أن تتزحزح. أي معلِّم هذا، بل أي قلب وأي روح وأي حب هذا.
ولكن الذي سرق وقتهم بالكلام الحلو والمبادئ الجميلة المعزية والمشجِّعة على حياة
الطهارة والتقوى كان يَعلَمُ تماماً كيف يطعمهم قبل أن يصرفهم. فلم يكن التلاميذ
سبَّاقين في الرحمة؛ بل كانوا حائرين من العجز. ولمح المسيح هذه المفارقة فحاول
تصحيح انتقادهم لتباطؤ المسيح بفهمٍ كاذب وبآن واحد عن فقر في المعرفة وعجز في
العطاء، فبادرهم بالإحراج: «أعطوهم أنتم ليأكلوا
«!

37:6
«فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا».

لم
ينظروا إلى السماء، ولم يشعروا بعد بمخازن الله المملوءة خبزاً وطعاماً وخيرات بلا
حصر. بل نظروا إلى جيوبهم فوجدوا النحاس الذي فيها لا يُشبع جائعاً، حسبوها فوجدوا
أنه يلزمهم مِئَتا دينارٍ ذهبياً ليعطوا كل
واحد كسرة لا تشبع ولا تغني عن الجوع. ودائماً حسابات الإنسان
بالناقص.

 

إطعام
الخمسة آلاف من خمس خبزات

[35:644] (مت 15:1421) (لو 12:917)

 

إنها
قصة إعجازية، مهداة للمسيحية كأقوى وأعمق عملية قام بها المسيح علناً وللقلوب
البسيطة، وأعظم تعبير مكشوف عن سر الإفخارستيا، أي سر تقديم الشكر على الخبز، ولكن
على مستوى سر جسد المسيح المكسور. أمَّا عديم العمق في الفكر والقلب فيرى فيها
بركة على مستوى ملء البطن، ويتعمقها ذو العين المفتوحة فيرى فيها تلاحم الروح
بالجسد تلاحماً أنشأ الوجود الجديد من شبه العدم وكأنه خَلقٌ جديد. فهي كَسْرُ
حدود المادة لتدخل في اللانهائية واللا محدود، ودخول الروح في المادة، لإقامة
حياة. وبالنهاية هي عمل ذبيحة غير دموية قوامها الروح في خبز مكسور لائقة أن يقدم
بها الشكر لله. وهي لائقة بالله فعلاً لأنها بالروح معمولة وقادرة أن تدخل إلى أبي
الأرواح لتحكي عما وصل إليه الإنسان من القدرة الإلهية أن يصنع من خبزة على الأرض
تقدمة فاخرة يدفعها الروح الذي فيها إلى أعلى السموات.

الإعجاز
فيها غير منظور إلاَّ في حدود الفكر، كيف أن خمس خبزات تتوزع على خمسة آلاف، ثم
يفيض اثنا عشر قفة مملوءة. هو إعجاز رقمي لا يرى الفكر له حلاً. كيف؟ والسؤال يموت
على شفاه الأبلة دون حل ليس إلاَّ، أو أنها بركة الله وحسب. ولكن يرى فيها الرائي
تدخُّلاً سافراً من الله ليكسر حدود الفكر والمنطق، فهنا ينفتح الوعي ويصرخ الصارخ
إذن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! بل بكلمة الله التي تُحيي والتي تجعل القليل
كثيراً. وأن يفهم الفاهم في الحال أن اليد التي صنعت من الخمس خبزات ما يكفي خمسة
آلاف وأشبعت الجموع كلها وفاض اثنتا عشرة قفة، هي حتماً يد واهب الروح والحياة
الفائضة بلا حدود. فهذه تكون أول إشارة في تقرير مَنْ هو المسيح عن حسٍّ وأكلٍ
وشبع وانفتاحٍ وإدراك.

هذا
فهمته الجموع حسيًّا فأدركوا بالفكر الأقل أنه مسيَّا، ويتحتم أن يملك ليعطيهم هذا
الخبز للشبع كل حين، فأمسكوه بالقوة ليملِّكوه (يو 15:6) ولكنه اختفى من بين
أيديهم وذهب ليصلِّي، لماذا؟ لأنه لم يصنع وليمة الخبز المكسور لينتهي إلى أنه
مسيَّا “ملك”! بل إنه كَسَر خبزةً خبزةً وأعطى في كل كسرة من روحه وحياته، حتى إذا
أكلوا الكسر أكلوا روحه وحياته ليتحدوا به فلا يصير مسيَّا مَلِكاً وحده بل يصير
فيهم جميعاً مسيَّا الروح والحياة. فلمَّا بلغوا بإدراكهم الأقل أنه هو وحده
مسيَّا ملك لمَّا أرادوا أن يمسكوه ويجعلوه ملكاً تركهم
لأنهم خيبوا آماله. ولمَّا عبر المسيح البحيرة وجروا وراءه على الشاطئ حتى قابلوه
على الشاطئ الآخر قرب بيت صيدا وبَّخهم على إدراكهم الأقل، وبَّخهم بشدة:

+
«الحق الحق أقول لكم: أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات (وفهمتموها)، بل لأنكم
أكلتم من الخبز فشبعتم … فقال لهم يسوع: أنا هو خبز الحياة!! … أنا هو
خبز الحياة … هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت.
أنا هو الخبز الحي النازل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.
والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله عن حياة العالم.
«(يو 6: 26و35و48و50و51)

كان عمل التلاميذ الرسمي في هذه المعجزة هو تجليس الجموع
صفوفاً صفوفاً، وجماعاتٍ جماعاتٍ على الحشيش الأخضر تماماً بشبه التفاف التلاميذ
في العشاء الأخير على البساط حول المسيح، أو مثل صفوف الملائكة القديسين ألوف ألوف
وربوات ربوات يقدِّمون الخدمة. أمَّا الحركات الإفخارستية من رفع الوجه إلى السماء
والبركة والشكر والكسر والعطاء فمستوفاة، ثم التوزيع بنظام والأكل فهو قمة أعمال
المسيح في الإفخارستيا حتى نهايتها. لقد عمل المسيح الإفخارستيا بسرها الإلهي
مرتين، مرَّة للشعب الساذج فلم يفهموها، وسيان، غير أنه سلَّمهم سرّ روحه وجسده؛
ومرَّة لتلاميذه الأخصاء، وهنا اضطر أن يشرحها لهم لتظل إفخارستية لا للتلاميذ
وحسب بل والعالم كله:

+
«وفيما هم يأكلون، أخذ يسوع خبزاً وبارك وكسَّر، وأعطاهم وقال: خذوا كلوا، هذا
هو جسدي.
ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم، فشربوا منها كلهم. وقال لهم: هذا هو دمي
الذي للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين.
«(مر 14: 2224)

وهذا
هو سر الخبز المكسور في معجزة الخمس خبزات، وفي سر الإفخارستيا، وعلى الصليب فوق
الجلجثة. وقد استلمت الكنيسة السر وقدَّمته للشعب والعالم هكذا:

+
«أقول كما للحكماء: احكموا أنتم فيما أقول. كأس البركة التي نباركها، أليست
هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن
الكثيرين خبزٌ واحدٌ، جسدٌ واحدٌ، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد.
«(1كو 10: 1517)

+
«لأنني تسلَّمت من الرب ما سلَّمتكم أيضاً: إن الرب يسوع في الليلةِ التي أُسلم
فيها، أخذ خبزاً وشكر فكسَّرَ، وقال: خُذوا كُلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم.
اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشَّوا، قائلاً: هذه الكأسُ هي العهد
الجديد بدمي. اصنعوا هذا كلَّما شربتم لذكري. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم
هذه الكأس، تُخبرون بموت الرب إلى أن يجيءَ.
«(1كو 11: 2326)

وكأن
الكنيسة في العالم كله لازالت تغتذي من الخمس خبزات وتستقي من كأس العشاء والذكرى
تدوم من يوم إلى يوم إلى أن يجيء!!

قارئي العزيز أتوسَّل إليك أن تقرن معجزة الخمس خبزات
والعشاء الأخير وما تمَّ على الصليب
معاً.

38:6 «فَقَالَ لَهُمْ: كَمْ رَغِيفاً
عِنْدَكُمُ؟ اذْهَبُوا وَانْظُرُوا. وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: خَمْسَةٌ
وَسَمَكَتَانِ».

هنا
ملاحظة هامة في معجزة الخمس خبزات، فالمسيح لم يحدِّد رقم خمسة، فلو كان ثلاثة أو
واحد لكان بدأ بعمل المعجزة، فالتحديد هنا جاء تحصيل حاصل. فلم يكن عندهم بعدما
فتَّشوا غير هذا العدد وربما جمعوه من مخلاة صبي أو مخلتين. ولكن إنجيل ق. يوحنا
يقول: إنه صبي واحد صغير دسَّت له أُمه في مخلاته قبل أن يخرج من البيت هذه
الخبزات مع سمكتين. فالأم الطيبة في حنانها على ولدها حدَّدت الرقم للمعجزة. فالخمسة
أرغفة والسمكتان هما إفراز حنان أموي تقابل مع حنان أبوي من المسيح ليعطي غذاءً
سرياً للعالم. ولكن يقيناً أن الأُم لمَّا دسَّت لابنها الخمسة أرغفة كانت قد عملت
حسابها أن يشاركه فيها صغير جائع مثله. فهكذا يبدو أن فيض حنان الأُم لمَّا تقابل
مع فيض حنان المسيح صنع اثنتي عشرة قفة فاضت عن الخمسة آلاف. آه لو فاض حنان كل
أُم وحنان كل أب على غير أولادهم لفاض من العالم كله ما يكفي اثنتي عشرة سنة أو
قرناً!! لأن حنان الله إنما يعمل من خلال حنان الناس على الآخرين.

39:6و40
«فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقاً رِفَاقاً
عَلَى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ. فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً
وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ».

أمَّا التنظيم في جماعات فهو ليجمع الرجال والنساء والأولاد
بحسب هويتهم لكل مدينة، وأمَّا الصفوف فهي ليسهل التوزيع بأسرع ما يمكن دون إغفال
أحد في الخدمة. وهو ما تؤكِّد عليه الكنيسة أثناء التناول. وليسهِّل جمع الفضلات
ولتسهل مباركتهم وانصرافهم أيضاً. وهذا المنظر بحد ذاته يوحي إلينا بنظيره في
السماء، ولكن تزيد الأرقام لتبلغ حدَّها غير المعقول: «كنت أرى أنه وُضِعَت عروش
وجلس قديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار
وبكراته نار متقدة. نهر نار جرى، وخرج من قدَّامه ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات
وقوف قدَّامه
«(دا 7: 9و10). وهي التي أخذتها الكنيسة ووصفتها في جسم
الإفخارستيا.

41:6
«فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ
(إلى فوق) نَحْوَ السَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ
الأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ
السَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ».

يُلاحِظ
القارئ أن المسيح أخذ على يديه الأرغفة الخمسة والسمكتين وكأنها مادة الإفخارستيا
بمحدوديتها، وأجرى عليها الأفعال الرسمية في طقس الإفخارستيا: رفع نظره إلى
السماء، وبارك، وكسَّر، وأعطى. علماً بأن كلمة “بارك” في المفهوم العبري هي بعينها
“شكر” في المفهوم اليوناني.

أمَّا
كونه ينظر إلى السماء فهذا صلاة، وهو طقس رسمي.

يأتي باللاتينية: et elevatis oculis in coelum

ويأتي باليونانية: ¢nablšyaj
e„j tÕn oÙranÒn

ويأتي
بالقبطية:
afjou]t `e`p]wi `e`tve

 

«وبارك»: eÙlÒghsen

وهي بعينها أعطى الشكر لله، أو شَكَرَ، وأصلها في العبرية:
[مبارك أنت أيها الرب إلهنا ملك
العالم، الذي يخرج الخبز من الأرض]. ومعها يأتي
في القداس: «وشكر
«باليونانية: eÙcarist»saj.

«ثم كسَّر katšklasen الأرغفة»:

«وأعطى ™d…dou
تلاميذه ليقدِّموا إليهم»:

ولكي
يتأكَّد القارئ من ارتباط معجزة الخمس خبزات والخمسة آلاف بسر الإفخارستيا، يجد في
إنجيل ق. يوحنا أن المسيح بعدما صنع معجزة الخمس خبزات (يو 6: 14و15)، والسير على
الماء (يو 6: 1621)، يبدأ المسيح
يتكلَّم مطوَّلاً عن الإفخارستيا ومفهوم كسر الجسد (يو 6: 22
71).
ويزداد الطقس وضوحاً لأن الزمن الذي صنع المسيح فيه هذه المعجزة هو قبيل الفصح
بقليل، وكأنما أراد أن يطعمهم جسده بيديه علناً وجهاراً قبل أن يأكلوه بالسر على
المائدة.

ويرى
بعض العلماء أن ق. مرقس هو الذي أعطى هذا التماثل في الأفعال مع طقس الإفخارستيا،
ولكن الحقيقة أن ق. مرقس قد سجَّل ما قاله المسيح، وما قاله المسيح هو الطقس الذي
رتَّبه المسيح للبركة على الأكل عموماً، وانطبق بالتالي على الإفخارستيا من واقع
الحال، فصار تقليداً كنسياً كما هو الآن. ونحن المسئولون فعلاً عن إعطاء هذه
الأفعال روح الورع والمخافة والتقديس لأننا أُمميون أصلاً، أما في الطقوس اليهودية
فكان كل طقس عموماً وبينها طقس الأكل هو عملية إلهية
يحضرها الله ويباركها، وهذا هو المفهوم قديماً وحديثاً من قول الوحي: «أمَّا أنتم
فجنس مختار وكهنوت ملوكي أُمة مقدَّسة شعب اقتناء (إكليروس)
«(1بط 9:2). والقديس بطرس هنا يخاطب الكنيسة المسيحية، فإن
كانت هذه الألقاب أُعطيت سابقاً لشعب إسرائيل كامتياز، فقد انتقلت إلينا جميعها
كما هي كحق: «لكي تُخبِروا بفضائل الذي دعاكم مِنَ الظلمةِ إلى نورهِ العجيب.
الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأمَّا الآن فأنتم شعبُ الله. الذين كنتم غير
مرحومين، وأمَّا الآن فمرحومون.
«(1بط 2: 9و10)

وليتمعَّن القارئ الكلام ويفهم الذي حدث: فاليهود كشعب إسرائيل
كانوا شعباً يملكه الله ويعيش لله ويعمل في الحقل والبيت والهيكل لله، كله سيان.
فأكله خدمة مقدَّسة، وعمله خدمة مقدَّسة، وراحته خدمة مقدَّسة (السبت) وهو مدعو
سبت الله، فكان لا يمكن لرب الأسرة أن يبدأ الأكل إلاَّ بحضور الأسرة ثم تلاوة
البركات الخاصة بالله على الأكل ويرددونها جميعاً. فالكل يأكل طعام البركة مصلَّى
عليه أمام الله وفي حضرته. ولكن للأسف الشديد أننا لم نستلم أصول التقليد للشعب
المقدَّس، ولا عوايد الشعب المقدَّس، ولا قوانين صلوات البركات الثماني عشرة؛ بل
تحررنا نهائياً وكلياً من كل التزام([19]) طقسي شعبي
جماعي، ولم يبق لنا صلاة جماعية إلاَّ صلاة القداس، وذابت صلوات الأسرة وعوايدها
التي كانت تربط الأسرة معاً وبالله. وطبعاً لا نقصد: لا تذق، ولا تجس ولا تمس وغسل
أواني وأباريق وأَسرَّة، بل صلوات الجماعة وصلوات الأُسرة اليومية وفي كل
المناسبات.

 من
هنا ظهرت الإفخارستيا كالصلاة الوحيدة التي تنجمع عليها الجماعة للأكل أمام الله
وفي حضرته، حيث يكسر المسيح الجسد (القربانة) بيده ويعطي كل متناول جوهرةً في فمه
من فوق يد الكاهن كرب الأسرة الإنسانية جمعاء، ويمسك الكأس بيده ويسقي متَّقيه
بنفسه. هذا هو السر في طقس الإفخارستيا. ولكن حتى هذا المعنى وهذه الحقيقة اندثرت
هي الأخرى، وغاب مفهوم حضور المسيح في الإفخارستيا كوضعه السري الأول.

42:644
«فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ السَّمَكِ. وَكَانَ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ
الأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل».

«فأكل الجميع œfagon وشبعوا ™cort£sqhsan»:

يا لها من واقعة فريدة على أرض شقاء الإنسان، إنها عودة
البشرية إلى جنة عدن في حضرة فاديها الذي خلَّصها من الخطية والموت واللعنة. لقد
أراد المسيح أن يعود بالمتعبين الذين تبعوه ليذيقهم يوماً من أيام الفردوس في حضرة
ابن الإنسان، فأطعمهم من خبز الراحة فأكلوا حتى شبعوا أي امتلأوا. لقد زال شقاء
الإنسان، لقد هزأ المسيح بالحرث والزرع والمبيدات والآفات والحصَّادات، فرغيف يكفي
ألفاً، ويقيناً لو كانوا خمسين ألف لكان كفَّاهم الخمسة الأرغفة والسمكتان. هذا
اليوم الفريد من عمر الإنسان هو في الحقيقة عربون السعادة المعدَّة وصورة النقلة
السعيدة إلى عالم الراحة ولو بالشبه والمثال. إن المسيح في هذا اليوم أعطى أعظم
صورة اسخاتولوجية لوليمة المسيَّا الآتي وللبشرية في يومها السعيد القادم. إنه في
نظرة واحدة للعالم الآن يتبيَّن بلا أي مبالغة أن هذا الشقاء والعذاب والحروب
والخصومات تدور كلها حول لقمة العيش وكيف يشبع الإنسان. وهكذا في يوم من أيام شقاء
الإنسان خلع المسيح عن الإنسان شقاءه وأطعمه خبز الراحة والبركة والسعادة. ولهذا
جنَّ جنون هذا الشعب بعد أن ذاقوا طعم خبز الراحة والبركة وشبعوا فأقسموا أن
يمسكوه بالقوة ليجعلوه ملكاً (يو 6: 14و15). لقد استعجلوا الزمن وأرادوا في غمرة
الفرح أن يجحدوا العالم الحاضر وشقاءه. ولكن الملك اختفى من وسطهم فجأة ليعودوا
إلى خبز الشقاء، إلى أن تنفتح أعينهم ويذوقوا خبز السماء الذي أرسله الله فيأكلوا
منه ولا يموتوا؛ بل يدوسون الموت ليحيوا إلى الأبد.

ولشرح
هذه الآيات (6: 43و44) ارجع إلى شرح الآية (38:6).

 

36
عبور البحيرة إلى بيت صيدا المسيح الماشي على المياه

[45:652] (مت 22:1433) (يو 15:621)

 

قصة إعجازية تتخلل الوعظ والتعليم، وهي مرتبطة ارتباطاً
شديداً بمعجزة إشباع الجموع خاصة في إنجيليْ ق. مرقس وق. يوحنا. فالارتباط في
الرواية موجود، والتعاقب بين معجزتي “كسر الخبز” و«السير على المياه
«يجعل الرابطة حتمية، فهو تعاقب القيامة
بعد الإفخارستيا، لأن السائر على المياه قد فك ارتباطه بالأرض وجاذبيتها، وليس لها
معنى أو تدليل غير ذلك. فكسر الخبز هو بعينه الصليب حيث كسر الجسد، والسير على
المياه هو بالتأكيد قيامة. لذلك تُحسب قصة عبور البحيرة إلى بيت صيدا وظهور المسيح
سائراً على المياه قصة منفردة قائمة بذاتها؛ بل هي تكميل معجزة كسر الخبز بمعجزة
القيامة. فكل منهما رؤية داخلية لفعل منظور التحما معاً ليشرحا معاً كبرى عقائد
المسيحية: الموت والقيامة، لأعظم سرّين: التجسُّد والفداء. وهذا هو أسلوب الله
العجيب في تعليم الإنسان، فقد علَّم الشعب اليهودي قديماً لاهوت الفداء مشروحاً
شرحاً عملياً مبسطاً في الذبائح. ففي ذبيحة المحرقة كان يقدَّم ثور بقر صحيح عن
خطايا كل الشعب، وكان يقدِّمه رئيس الكهنة بأن يوقف الثور ويضع الشعب كله أيديهم
عليه معترفين بخطاياهم، ويذبحه رئيس الكهنة، ثم يأخذ دمه ليقِّدمه على المذبح، أما
جسمه فكان يُخرج خارج المحلة ويُحرق كله بالنار دون تقسيمه، أي بكل أجزائه، ثم
يأخذ رئيس الكهنة من الدم ويدخل إلى قدس الأقداس حيث يتراءى الله فوق
تابوت العهد وينضح على غطاء التابوت أمام الله.

والآن،
وبعد أن أكمل الله ذبيحة المسيح خارج المحلة، ودمه دخل أمام الله حاملاً خطايا كل
العالم، ومات على الصليب مكفِّراً عن خطايا العالم كله، أصبح طقس العهد القديم
صورة أو مثالاً توضيحياً للكفارة بدقائقها.

وهكذا
في العهد الجديد بالنسبة للشعب عينه أي شعب إسرائيل
حوَّل المسيح التعليم بالذبائح إلى تعليم بالأمثال والقصص. وكما لم يفهم شعب إسرائيل
معنى الذبائح إلاَّ الأخصاء المختارون العائشون بالروح على رجاء الخلاص، هكذا لم
يفهم من نفس الشعب معنى الأمثال إلاَّ مفتوحو العين والقلب والأذن:

+
«قد أُعطي لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله. وأمَّا الذين هم من خارج فبالأمثال يكون
لهم كلُّ شيء.
«(مر 11:4)

وهكذا
إن كان التعليم بالذبائح قديماً، أو جديداً بالأمثال والأعمال والقصص العملية، كان
فيها الله والمسيح يشرح كل سبل خلاص الإنسان، فالمعجزات صارت شديدة الوضوح على ضوء
ما تمَّ من أسرار الخلاص. والأمر لم يعد يحتاج إلاَّ إلى أذن مفتوحة وعين واعية
وقلب فهيم ليفهم السر في هذه القصص ويحفظه ويحيا به. فمثلاً:

1
ظهور المسيح للتلاميذ ماشياً على المياه في الهزيع الرابع آخر ظلام
الليل، فهو نفس ميعاد ظهوره للنسوة ومريم بعد القيامة عند الفجر والظلام باقٍ!!

2 كذلك قول البعض إنه أراد أن يتجاوزهم وهو
سائر على الماء، الأمر الذي حيَّر العلماء جميعاً لأنهم رأوا ذلك يتنافىمع الإنقاذ
المطلوب ومع تقوية إيمانهم، ولكن الحقيقة تظهر في الوضع المماثل تماماً في مسيرة
تلميذي عمواس: «ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها، وهو تظاهر كأنه
منطلق إلى مكان أبعد.
فألزماهُ قائلين: امكث معنا …
«(لو 24: 28و29). فمع أنه كان مصمِّماً
أن يدخل بيتهما ويكشف سرَّه لهما ويقوِّي إيمانهما إلاَّ أنه تظاهر أنه يريد أن
يتجاوزهما الأمر الذي زاد من وعيهما وشدَّد إيمانهما أن يُلزماه. وتعليق تلميذي
عمواس على ذلك: «فقال بعضهما لبعض: ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلِّمنا في
الطريق؟
«(لو 32:24)

3 كذلك عندما رأوا المسيح ماشياً على الماء
مقترباً إليهم فقالوا إنه خيال، هذا أيضاً حدث وطبق الأصل في رواية القيامة
من الأموات: «وفيما هم يتكلَّمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم،
فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً.
«(لو 24: 36و37)

كل
هذه العوامل المشتركة توضّح أن المشي على الماء جاء بعد كسر الخبز ليعطي معنى
القيامة بعد معنى الموت في المعجزتين.

تكميل:

هنا
آية سقطت من تقليد ق. مرقس وهي آية محورية تقوم عليها القصة لأهميتها وهي:

+
«فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي
إلى العالم. وأمَّا يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً
انصرف أيضاً إلى الجبل وحده.«
(يو 6: 14و15)

45:6 «وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ تَلاَمِيذَهُ
أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوا إِلى الْعَبْرِ، إِلَى بَيْتِ صَيْدَا،
حَتَّى يَكُونَ قَدْ صَرَفَ الْجَمْعَ».

«وللوقت ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة
ويَسبقوا إلى العبر»:

أمر
خطير للغاية، فهنا ولأول مرَّة تصير لغة المسيح جافة وذات اتجاه حاد في الأمر
بالإلزام السريع وفي الحال، لماذا؟ الحقيقة واضحة لذي العين المفتوحة، فالتلاميذ
أرادوا أن ينضموا إلى الجمهور المتظاهر الذي أراد أن يمسك المسيح ويسير به في
مظاهرة لكي يملِّكه بالقوة. فالتلاميذ المتأثرون من عجيبة الخمس خبزات رأوا أن رأي
الجمهور حق. وهنا اضطرب الموقف فاضّطّر المسيح أن يستخدم سلطانه، فأسرع وفصلهم عن
الشعب وألزمهم في الحال بالدخول إلى داخل السفينة والإقلاع في الحال؛ بل وعيَّن
لهم «بيت صيدا»([20])
المكان الذي يتجهون إليه لكي لا يكون هناك مماحكة. هذا لكي يستطيع بسلطانه أن يصرف
الشعب الهائج بقوته الذاتية.

والذي
يبرهن على صدق هذا ويؤكِّده قول ق. مرقس من عنده والذي كان فاهماً
هذه الحركة الخطيرة تماماً هكذا: «لأنهم لم يفهموا بالأرغفة إذ
كانت قلوبهم غليظة!!«
(مر 52:6). هذا التعقيب من ق. مرقس تشنيع سافر بجهالة
التلاميذ الذين أرادوا أن يسندوا ثورة الخمسة آلاف بثقلهم لتنصيب المسيح ملكاً
بالقوة.

يا
للحزن! فقد فات على التلاميذ أنه عندما كان المسيح يكسر الخمس خبزات كان يكسر جسده
بالسر ويوزِّعه على الآكلين، ولكن كان قلبهم كقلب الشعب الذي أكل وشبع وقال ليس
بعد هذا كلام، إنه لابد أن يكون ملكاً ليشبعنا من خبز الراحة.

من
هذا يتضح للقارئ أن المسيح بقي “وحده” اضطراراً، ولكي يلحق بالسفينة سار على الماء
إذ علم بالروح أنهم معذبون في التجديف،
والسفينة تكاد تكون واقفة محلها، لأن الريح كانت
معاكسة.

46:6 «وَبَعْدَمَا وَدَّعَهُمْ مَضَى إِلَى
الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ».

ودَّعهم
هنا لا تحتمل أنه يقصد التلاميذ وإنما الشعب، إذ بعد أن صرفهم مودِّعاً صعد إلى
الجبل ليصلِّي. وفعلاً بعد إحراج الموقف الأخير، كان من المعقول أن يذهب إلى الجبل
ليصلِّي. فلم يكن الصراع مع الخمسة آلاف والتلاميذ فحسب بل ومع الشيطان، الذي
تدخَّل بالضرورة وحسَّنَ للشعب والتلاميذ الخضوع له، فهي فرصة مواتية للإعلان أنه
المسيَّا الملك!

47:6و48
«وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَتِ السَّفِينَةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَهُوَ
عَلَى الْبَرِّ وَحْدَهُ. وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ، لأَنَّ الرِّيحَ
كَانَتْ ضِدَّهُمْ. وَنَحْوَ الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مَنَ اللَّيْلِ أَتَاهُمْ
مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَجَاوَزَهُمْ».

لكي تصير السفينة في وسط البحر عند المساء، يتحتَّم أن
يكونوا قد بدأوا في الإقلاع والنور باق. حيث كان المسيح على البر وحده، والمسيح
كان على أعلى الجبل، والجبل هناك يبلغ في ارتفاعه العلو الذي يكفي لأن يكشف حتى
نصف البحيرة. وطبعاً فوق الرؤية البصرية هناك رؤية فوقانية تراهم، وتراهم وهم
معذبون من التجديف المستمر بلا طائل، والسفينة واقفة لأن الريح مضادة تقذف بالمركب
نحو الشاطئ راجعة بظهرها. فالمركب كانت متجهة إلى الغرب والريح قادمة من الغرب فكانت
أقوى من تجديفهم. (وقام العلاَّمة دالمان([21]) برحلة
هناك، وهبت عليه عاصفة عنيدة، فبعد أن أقلع من كفرناحوم ردَّته الريح مرَّة أخرى
إلى كفرناحوم). ونحو الهزيع الرابع، وهو بحسب التقسيم الروماني لمراحل الليل، الذي
يساوي في تقديرنا الساعة الثالثة صباحاً أي قبل بزوغ النور بمدَّة، «أتاهم ماشياً
على البحر
« ولأيوب نشيد تمجيد لله يصلح هنا:

+
«الباسط السموات وحده والماشي على أعالي البحار.
«(أي 8:9)

«وأراد أن يتجاوزهم»:

لمَّا
رأى المسيح أنهم غير متصورين أو غير مؤمنين أنه هو المسيح إذ ظنوّه خيالاً، مرّ
بجوارهم وأراد أن يتخطَّاهم ليوقظ مشاعرهم وإيمانهم. وفي نفس الوقت يسخر من ضعف
رؤيتهم له لأنه كان واضحاً أمامهم. تماماً كما حدث مع تلميذي عمواس إذ بعدما
وبَّخهما على عدم إيمانهما وهم سائرين في الطريق معاً، وابتدأ يشرح لهما من الكتب
والمزامير والأنبياء عن أن المسيح يتحتَّم أن يموت ويقوم، وبعد هذا كله لم يعرفاه
فأراد أن يتخطَّاهما لمَّا قربت قريتهما التي كانا ذاهبَيْن إليها
مما جعلهما يمسكان فيه. وهذه الحادثة هي في صميم القيامة، فالرب كان يكلِّمهما وهو
في حالة قيامة. لذلك فإن هذه اللمحة في كون المسيح السائر على الماء متحدّياً
جاذبية الأرض أراد أن يتجاوزهم ويمضي هي في الحقيقة حالة قيامة. ولأنه كان لا يزال
بالجسد نقول: إنها كانت حالة تجلٍّ، فالجسد لم يكن خاضعاً لجاذبية الأرض.

ومن
هذا يجزم بعض الآباء القديسين ومعهم بعض العلماء أنها كانت حالة قيامة. ونحن نرى
في ذلك رباطاً قوياً بمعجزة الخمس خبزات أنها كانت حالة موت وتقسيم جسد وإشباع
الجموع من سر إفخارستيته الحاضرة في كل حين. فمن موت إلى قيامة.

49:6 «فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى
الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً، فَصَرَخُوا».

«خيالاً»: f£ntasma ومنها جاءت الكلمة الإنجليزيةphantom ([22]) أي شبح.

كان يلزم أن تأتي هذه الآية قبل الآية السابقة، لأن المسيح
لمَّا وجدهم غير قادرين أن يتحققوا شخصه لعدم إيمانهم وانغلاق أعينهم أراد أن
يتجاوزهم توبيخاً لحالهم، حتى وإن كان الظلام قد حال دون الرؤية العينية الواضحة.
ولكن أين نور الإيمان، أين المجال الإلهي الذي كان يسبقه والذي كانوا يعيشون فيه.

وألا ترى معي عزيزي القارئ أن هذا هو الذي حدث في قيامة
المسيح تماماً: «وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً، والظلام
باقٍ … ولمَّا قالت هذا التفتت إلى الوراء، فنظرت يسوع واقفاً، ولم تعلم أنه
يسوع …
«(يو 20: 1و14). فقول التلاميذ إنهم ظنوه خيالاً كان
أيضاً كما حدث عند ظهوره بعد القيامة: «ولمَّا رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكُّوا
«(مت
17:28)، «وفيما هم يتكلَّمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلام لكم!
فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم
مضطربين، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ انظروا يديَّ ورجليَّ: إني أنا هو. جسُّوني
وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي.
«(لو 24: 3640). واضح أن
المسيح كان يسير على الماء وهو في حالة تجلٍّ، أي بجسد غير خاضع للطبيعة. فقولهم
إنهم ظنوه خيالاً هو برهان لصدق حالة المسيح الفائقة للطبيعة كتصوير واقعي
للقيامة!

50:6
«لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ وَقَالَ
لَهُمْ: ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا».

واضح
هنا أن المسيح كان يدرك وضعه الفائق في منظره وفي مشيه فوق المياه، فتكلَّم في
الحال ليسمعوا صوته ويتعرَّفوا عليه، ثم هدّأ من روعهم بقوله اصطلاحه الإلهي الخاص
به وحده: «أنا هو
«
فهي العلامة على مَنْ هو التي لا تخطيء عند سماعها. وفي قوله: «لا تخافوا
«طرحها كأمر
إلهي فشملهم هدوء وطمأنينة. كان لابد أن يُدخلهم في هذا الاختبار ليعرفوا ويتيقنوا
عن قرب أنه لا يصلح أن يكون ملكاً بل إلهاً!!

يا
إخوة إن تعليم المسيح وتعريفه بذاته ليس هيِّناً أو سهلاً، وقصصه وأمثاله
وتعبيراته وتلميحاته تحمل تعبيرات إلهية ناطقة أنه هو «يسوع المسيح ابن الله
«

51:6و52 «فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى
السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ، فَبُهِتُوا وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
جِدًّا إِلَى الْغَايَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ
قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً».

التركيز
هنا واقع على التلاميذ، فالسير على الماء هو مصوَّب إلى شخصه ليدركوا «أنا هو»!
وإخماد العاصفة وتحولها إلى سكون كامل أحدث صدمة في تفكير التلاميذ.

وكان
الانفعال الذي أصاب التلاميذ إثر سكون الريح بمجرَّد دخول المسيح المركب، ومن
الكيفية التي وصل بها المسيح من الشاطئ إلى السفينة سائراً على الماء، بلغ هذا
الانفعال حد الصمت والذهول. ويبدو أن نظرة التلاميذ للمسيح حتى حادثة المشي على
الماء كانت لا تتعدَّى نظرة الذين أكلوا وشبعوا من الخمس خبزات، والتي وضعها ق.
مرقس من عنده بأنها كانت حالة “غلظة قلب”، أي عدم إدراك روحي خالص، بل توقف إلى حد
الإعجاب فقط. وكما قلنا إن التلاميذ كانوا قد انضموا للخمسة آلاف في الرأي لكي
يملِّكوا المسيح بالقوة كمسيَّا الملك الذي اكتشفوه في أكل الخبز، لولا أن المسيح
استخدم سلطانه وألزمهم بالأمر القاطع أن يتركوا الشعب للمسيح لكي يصرفه بهدوء،
ويبحروا هم بالسفينة إلى بيت صيدا يولياس.

وقول
ق. مرقس إنهم «لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة
«تعتبر سقطة
في تفكير التلاميذ عن مَنْ هو المسيح، إذ إنها لم تتعدَّ صلاحية أن يكون ملكاً على
إسرائيل يؤتي خبز الراحة كالمن الذي نزل من السماء، يجمعونه ويأكلونه وهم نائمون
بلا تعب ولا نصب. هذا هو الذي جعل المسيح يعلن لهم بتجلِّيه على وجه المياه من هو،
إذ قال لهم بصريح اللفظ: «أنا هو»، لكي يدركوا أنه ليس ملكاً هو، بل يهوه!

ولا ننسى ضيق ق. مرقس نفسه من سلوك التلاميذ إذ سمَّاها: “غلظة قلب ¹ kard…a pepwrwmšnh” وتعني: “بلا حساسية unsensible”، و“عمى blindness”. والعجيب أن المسيح نفسه كرَّرها لهم عندما لم يفهموا قوله: «تحرَّزوا
من خمير الفريسيين
«
فحسبوه أنه يقول خذوا معكم خبزاً، فقال لهم: «ألا تشعرون بعد ولا تفهمون؟ أحتى
الآن قلوبكم غليظة؟ ألكم أعين ولا تبصرون، ولكم آذان ولا تسمعون،
ولا تذكرون؟
«(مر 8: 17و18)

لقد
خذل التلاميذ معلِّمهم حينما استقر رأيهم مع رأي الشعب أن المسيح يَصْلُح ملكاً.
ولينتبه القارئ أن المسيح نفسه طلب بعد ذلك بصريح السؤال: ماذا يقول الناس عني؟
وأنتم مَنْ تقولون؟ وأنهم بلسان ق. بطرس قالوا أنت هو المسيح ابن الله الحي! فها
هوذا الذي يطلبونه أن يكون ملكاً! كذلك لينتبه القارئ أن ق. مرقس اشترك في التعبير
عن ضيقه من تصرفهم هذا لأنه كتب إنجيله كله على أساس أن “يسوع المسيح هو ابن
الله الحي”.

ونحن في الحقيقة لا يمكننا أن نعبر على قصة اضطراب السفينة
بالرياح المضادة ومعرفة المسيح بالروح للحال الذي أصبح التلاميذ فيه يجدفون بلا
جدوى، دون أن يداعبنا رجاءٌ خفي، ولكنه واثق وجازم: أنه الآن وهو على الشاطئ الآخر
ينظر إلى كنيسته في وسط العالم، وهي تقاوم التيارات المضادة الشديدة الواقعة على
هذا الجيل الرهيف الذي لم يعتَد الكفاح الروحي ولا وقفات الصلاة. الكنيسة مجهدة من
التجديف دون تقدُّم، والتيار يأخذها قليلاً قليلاً إلى خلف. الكنيسة مسروقة من
تيار تحتي لا يظهر على السطح يحملها على غير هدى، ويسائلها الشعب: إلى أين نحن
سائرون؟ لابد من تحديد هدف نسعى إليه، نحسب حسابه وننظم خطواتنا لنوقعها على
السنين والشهور! والكنيسة لا تسأل نفسها ولا تسمح أن يسائلها أحد، فلا يوجد هدف
ولا توجد خطة لمواجهة الصعاب الموجودة والآتية، ولا تدبير لتوعية الشعب وتعليمه
إيمانه وتراثه الذي يعيش به. فالأسر تفككت عن بعضها، وأعضاء الأسرة الواحدة لا
يربطهم تعليم روحي مشترك ولا يجمعهم أحد للصلاة، ولا توجد مبادئ أو عقيدة روحية أو
أخلاقية أو سلوكية تمسك بروح الأسرة وبالتالي تقود الشعب، حتى فقد الشعب هويته
القبطية الأصيلة. نعم فنحن في سفينة تلاطمها الأمواج ويدفعها التيار إلى خلف. أما
يهمُّك يا رب أننا نغرق ببطءٍ!

 

37
في أرض جنيسّارت

[53:656]
(مت 34:1436)

 

واضح الاتصال الطبيعي بين قصة السير على الماء، وقصة جنيسارت
وشعبها. وواضح أيضاً في كل من إنجيل ق. مرقس: (6: 3056 الخمس خبزات
والسمكتين)، (8: 110 إشباع الأربعة آلاف)، وإنجيل ق. يوحنا: (6: 125
وهو الخاص بإشباع الجموع من خمس خبزات وسمكتين) أنهما يكوِّنان سلسلة متماسكة من
التقليد المبكِّر جداً احتفظت به الكنيسة وتداولته بدقائقه لما له من قوة فائقة
لتأكيد شخصية ابن الله. على أنه لا يوجد تعليم محدد مذكور هنا، ولكن رحلات سريعة
حول البحيرة من شرق إلى غرب إلى جنوب. والرواية هنا تحمل طابع خدمته في الجليل
بصورها الزاهية، والأهالي يحملون مرضاهم على الطرائح الخشبية ويستقبلونه بالحفاوة
ويودعونه بالتهليل حتى أطراف مدنهم وقراهم. وهنا في سهل جنيسارت، والاسم مأخوذ من
اسم البحيرة، وجنيسارت بالأرامية تعني “جنَّة السرور”. ولم يستطع المسيح في كل هذا
الترحال أن يجد يوماً للراحة، فاختلطت رحلاته بساعات قليلة انتهزها وحيداً في
السفينة في عبورها من شاطئ لشاطئ، لذلك كانت رحلاته البحرية كثيرة ولغرض الراحة.

53:6 «فَلَمَّا عَبَرُوا جَاءُوا إِلَى
أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ وَأَرْسَوْا».

هنا أثر التيارات العنيفة، إذ جرفت السفينة من اتجاهها نحو
بيت صيدا لتنحرف نحو الجنوب، فترسو في ميناء في أرض جنيسارت على غير رغبة المسيح.
وسهل جنيسارت سهل خصيب أخضر، يبلغ طوله نحو ثلاثة أميال، وعرضه ميلاً أو أكثر، وهو
يقع جنوب كفرناحوم بتحقيق يوسيفوس المؤرخ اليهودي([23]).

54:6و55
«وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ عَرَفُوهُ. فَطَافُوا جَمِيعَ
تِلْكَ الْكُورَةِ الْمحِيطَةِ، وَابْتَدَأُوا يَحْمِلُونَ الْمَرْضَى عَلَى
أَسِرَّةٍ إِلَى حَيْثُ سَمِعُوا أَنَّهُ هُنَاكَ».

كيف عرفوه؟ أمِنْ طلعته البهية أم من ثيابه البيضاء وطوله
الفارع، لا نعلم ولكن لا بد أن المسيح كانت له

أوصاف
ومميزات جعلت الناس يعرفونه من
على بُعد، ثم
يجرون وراءه جرياً لعلَّهم ينظرون طلعته.

 

كل
هذا انطبق على عيون ومخيلة وقلوب الذين تبعوه وبايعوه ونقلوه ليسجِّله الإنجيلي
ليبقى إلى الأبد، وفي كل هذا المسير كان يبحث عبثاً عن مكان يستريح فيه وهو مريح
التعابى!

والعجيب
من شعب الريف هذا أنهم تطوَّعوا وجابوا جميع النجوع والقرى يذيعون خبر مجيء
المسيح، حتى كل مَنْ كان له مريض يحمله ويسرع به، حتى إنه لم يجد فرصة واحدة
للتعليم!! إذ لا نسمع هنا عن أي تعليم للمسيح.

56:6 «وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ
مدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ
أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ!».

ولأول مرَّة يُعطي ق. مرقس منظر الشفاء الجماعي وكأنها ساحة
مستشفى، فكل مرضى القرية أو المدينة تجمَّعوا وجلسوا في السوق، وهو أوسع مكان معد
ليتجمَّع فيه أكبر عدد من المدينة أو القرية، حيث يكون الكل متلهِّفاً أن يلمس ثوب
المسيح وهو عابر على الجميع. ويبدو أنه ذاعت هذه الوسيلة، وهي لمس ثوب المسيح
والتي لا يزال يمارسها الشعب إمَّا مع القديسين أو الصور، وهي محاولة للاتصال بأي
طريقة بالمسيح أو القديسين. وإن كانت عادة لمس الصور هي عادة مستهجنة ولكن لا أحد
يستطيع أن يقنع البسطاء في تعديل عاداتهم الموروثة. أمَّا الرد الروحي الوحيد فهو
على قدر إيمانك يكون لك. فإن كانت الوسيلة خاطئة ولكن الإيمان صحيح، والنتيجة
واضحة «فكل مَنْ لمسه شُفي
« ومَنْ يستطيع أن يصحح إيمان الكنائس،
ولكن الشعب قد تربَّى على ما تقوله الكنيسة، ولكن ليس كل ما تقوله الكنيسة صحيحاً
إلاَّ بقدر ما يطابق الإنجيل ووصايا الرب. ولكن ليس كل ما لا نستطيع أن نفهمه يمكن
أن نجحده، فوسائل الروح لا يستطيع أن يُحدَّها إنسان.



([1]) Vincent Taylor, op.
cit., p. 299.

([2]) Justin Martyr, Dial.
88.

([3]) سبق أن شرحنا هذا الموضوع في شرح الآية 31:3 وأيضاً في شرح الرسالة إلى
أهل غلاطية 19:1.

 ([4])K.
L. Schmidt, Der Rahmen der Geschichte Jesu, Berlin, 1919, p. 154.

 ([5])Vincent
Taylor, op. cit., pp. 298,301.

 ([6])Ibid.,
p. 301.

 ([7])J.
Wellhausen, Das Evangelium Marci, Berlin, 1909, p.
44.

([8]) T. W. Manson, The
Sayings of Jesus,
London, 1949, p. 73.

 ([9])B.
H. Branscomb, The Gospel of Mark, London, 1937, p. 101.

([10]) Vincent Taylor, op.
cit., p. 619 f.

([11]) الديداخي 3:1112 تعريب جورج نصور ويوحنا تابت.

([12])Josephus.,
Ant., xviii, 5.2.

 ([13])Josephus.,
op. cit., xviii, 5.1.

([14]) يقول يوسيفوس المؤرِّخ: إن هيرودس أنتيباس كان متزوجاً من ابنة ملك
النباطيين “الحارث” وطلَّقها لكي يأخذ هيروديا مما جرَّه إلى حرب ضد الحارث وقد هُزم
فيها. وبإغراء هيروديا وإلحاحها سافرا معاً إلى روما يطلبان المُلك عوض رئاسة
الربع ولكن كاليجولا سمع وشاية جاءته من أقاربه الهيروديين فنفاه إلى ليون بفرنسا
وتبعته هيروديا ونقله إلى أسبانيا حيث تُوفِّي سنة 41 بعد المسيح.

 ([15])Joseph.,
Ant., xviii 5.4.

([16]) Vincent Taylor., op.
cit., p. 315.

 ([17])Swete.,
op. cit., p. 128.

([18]) J. Weiss, op.
cit., p. 205, Wellhausen, op. cit., p. 47, Klostermann, p.
71, cited by Vincent Taylor, op. cit., p. 319.

([19]) وحتى ما قرره الرسل من تعاليم وواجبات وتوصيات جماعية وفردية سواء في
تعاليم الرسل أو كتاب الديداخي أُهمل كله واندثر! مَنْ المسئول؟؟ مع أنه كان يمثل
أيديولوجية الأُمة وله مهابة الإنجيل نفسه، وكانت الكنيسة تُحفِّظهُ للمعمَّدين
وتسمِّعه عليهم وتعاقبهم على أي تهاون!!

([20]) بيت صيدا: يقول العلماء إنها المسماة بيت صيدا يولياس وهي على فم نهر
الأُردن، والتي أعاد بناءها هيرودس فيليب وأسماها يولياس على اسم بنت أغسطس قيصر (
Joseph. Ant. xviii
2.1.
).

 ([21])G.
Dalman, Sacred Sites and Ways, Eng. Tr. London, 1935, p.
175 f.

([22]) ومنها أخذ الأمريكان الاسم ووضعوه على طائرتهم المشهورة الفانتوم.

 ([23])Joseph.
BJ, iii, 10.8.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كينج جيمس إنجليزى KJV عهد جديد إنجيل مرقس Mark 04

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي