الإصحَاحُ
السَّادِسُ

 

1
وَفِي السَّبْتِ الثَّانِي بَعْدَ الأَوَّلِ اجْتَازَ بَيْنَ الزُّرُوعِ. وَكَانَ
تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا
بِأَيْدِيهِمْ. 2 فَقَالَ لَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ:«لِمَاذَا تَفْعَلُونَ
مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السُّبُوتِ؟» 3 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ
لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ وَلاَ هذَا الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ هُوَ
وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ؟ 4 كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَخَذَ خُبْزَ
التَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ، وَأَعْطَى الَّذِينَ مَعَهُ أَيْضًا، الَّذِي لاَ يَحِلُّ
أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ» 5 وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ
هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا». (عدد 1-5).

 

القول
السبت الثاني بعد الأول على نوع من الإبهام في الأصل اليوناني، ولكن المرجح أنهُ
يشير إلى السبوت الواقعة بين الفصح وعيد الخمسين. لم يكونوا قد وضعوا منجلاً للقمح
بعد، ولكن قطف بعض سنابل باليد لسدّ الجوع كان جائزًا، ولم يكن الاعتراض على
التلاميذ من هذه الجهة بل من جهة عملهم عملاً كهذا في السبت. راجع (مَتَّى 1:12-8؛
مرقس 23:2-28) فنرى أن لكلٍ من الثلاثة بعض تفاصيل خاصة بهِ لا توجد في غيرهِ مع
أن الحادثة واحدة. لاحظ أن لوقا يحدّد وقتها بتدقيق بخلاف عادتهِ وأما مَتَّى
ومرقس فلا يُحدّدانهِ ولعلّ مقصد الوحي بتحديد الوقت ليُظهر القباحة الزائدة التي
كانت للعمل المذكورة في نظر الفريسيين؛ لأنه لم يحدث في السبت فقط بل في أحد
السبوت المُعتبرة عندهم على نوع خصوصي. وقد رأينا جملة أشياء في جواب الرَّبِّ كما
ذكرهُ مَتَّى ومرقس، وأما لوقا فلا يذكر إلاَّ أن الرَّبَّ برَّر العمل بذكرهِ ما
عملهُ داود حين كان مرفوضًا وطريدًا وجاع وأخذ من خبز التقدمة وأكل وأعطى أيضًا
أتباعهُ وجاز لهُ هذا العمل لانحطاط النظام من سوء حالة إسرائيل. ثمَّ يستنتج من
ذلك، أو بالحري يتخذ الفرصة منهُ ليصرح بأن ابن الإنسان: هو ربُّ السبت أيضًا. لا
يُخفى أن السبت كما سلَّمهُ الله لإسرائيل كان علامة عهدهِ معهم. فلما عتق العهد
بل أوشك أن يضمحل لمخالفتهم إياهُ مرارًا بلا عدد فصارت علامتهُ هذه من الأشياء
التي استطاع الرَّبُّ أن يعمل فيها كما شاء. غير أنهُ لا يقول هنا أنهُ يلغي السبت
لأنهُ بالحق لم يلغهِ لليهود بل إنما يقول: أن لهُ السلطان عليهِ لأنهُ وضعهُ
لإسرائيل وقرنهُ مع العهد الأول وقد سبق فشبَّه ذلك النظام بثوب عتيق وأوضح
الاختلاف بينهُ وبين الجديد الذي كان مزمعًا أن ينظمهُ لتلاميذهِ فدائرة لوقا هنا
أضيق مما كان لمَتَّى ومرقس لأن أولهما قصد أن يظهر الاختلاف الواقع بين رؤسائهم
وبين المسيح من جملة أوجه، والثاني أي مرقس أدرج جواب الرَّبِّ بتمامهِ كجزء من
خدمتهِ لإسرائيل. لذلك تحديد الوقت لم يكن مما يساعد مقصدهما.

 

6
وَفِي سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ الْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ
يَدُهُ الْيُمْنَى يَابِسَةٌ، 7 وَكَانَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ
يُرَاقِبُونَهُ هَلْ يَشْفِي فِي السَّبْتِ، لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً.
8 أَمَّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَدُهُ
يَابِسَةٌ:«قُمْ وَقِفْ فِي الْوَسْطِ». فَقَامَ وَوَقَفَ. 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ
يَسُوعُ:«أَسْأَلُكُمْ شَيْئًا: هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ
فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلاَكُهَا؟». 10 ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ
إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ:«مُدَّ يَدَكَ». فَفَعَلَ هكَذَا. فَعَادَتْ
يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. 11 فَامْتَلأُوا حُمْقًا وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ
فِيمَا بَيْنَهُمْ مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ. (عدد 6-11).

 

هذا
الفصل موجودًا أيضًا في (مَتَّى 9:12-13؛ مرقس 1:3-6)، ويستفيد القارئ الفوائد
الخصوصية في كل موضع إذا قابل العبارات مع بعضها على أن الجميع يتفقون في أن رؤساء
الدين ومعلمي الناموس جزموا في رفض يسوع وإهلاكهِ لما أجرى هذه الآية. كان في
المجمع المذكور رجل إسرائيلي يدهُ اليمنى يابسة. وكان مقاومو يسوع يراقبونهُ؛
ليروا هل يشفيهِ في السبت؟ لكي يجدوا عليهِ شكاية. فيتضح أنهم بعد المشاورة اجمعوا
الرأي على أن ذلك يحسب تعديًا على الوصية الرابعة. معلوم أنهم كانوا من زمان تركوا
إجراء القتل في الذين خالفوا السبت، ولكن النَّاموسيين دائمًا يستعملون الناموس؛
لتنفيذ أغراضهم الشخصية، ويحكمون بهِ على الآخرين بينما هم أنفسهم يخالفون. فالوحي
يكشف خبثهم إذ لم يكن فيهم أقلُّ شفقة على ابن جنسهم المعدوم القوة المُحتاج إلى
الشفاء، ولكنهم امتلأُوا بغضًا قتالاً ضد يسوع الشافي الحنون. وأما اليد: فعبارة
عن القوة والمهارة في العمل قال داود. الذي يعلّم يديَّ القتال فتحنى بذارعيَّ قوس
نحاس (مزمور 34:18). فكان ذاك الرجل في ضعفهِ واحتياجهِ الشديد إلى المسيح، مثالاً
مُحزنًا لحالة إسرائيل ونظامهم بحيث أنهُ مع كل افتخارهم لم ينتج لهم من الشريعة
سوى يبس قوتهم والضعف المُتزايد وأما مقاصد الرؤساء الخبيثة، فلم تجعل المسيح
يمتنع عن تكميل خدمتهِ. فسألهم قدام الجميع: ما هو حكمهم في حفظ السبت؟ هل يحلُّ
فعل الخير فيهِ أو فعل الشر؟ لم يسألهم: هل يحلُّ فعل الخير في السبت أو عدم فعل
الخير؟ لأن الامتناع عن عمل الخير إذا كان في طاقة أيدينا أن نصنعهُ فذاك خطية.
فكان المسيح قادرًا على تخليص تلك النفس من مصيبتها، وكان قد أُرسل لأجل أعمال
كهذه فشفى اليد اليابسة رغمًا عن أفكارهم السيئة فعادت صحيحة كالأخرى. وكنا نظن أن
رؤية عمل صالح مثل هذا يكفي لينزع كل مقاومة، ويملأ الجميع حمدًا وشكرًا لا سيما
الذين تكلفوا بتعليم الشعب وإرشادهم. ولكننا نرى عكس ذلك في رؤساء إسرائيل، فأنهم
امتلأُوا حمقًا وأخذوا يتشاورون في ماذا يفعلون بيسوع لكي ينزعوهُ من وسطهم إذ فضَّلوا
مداومة سلطانهم الكاذب على الشعب الإسرائيلي الميبَّس الفاقد القوة على خدمة
راعيهم وشافيهم.

 

12
وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ
كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ للهِ. 13 وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ،
وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا «رُسُلاً»: 14
سِمْعَانَ الَّذِي سَمَّاهُ أَيْضًا بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ
وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. 15 مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ
حَلْفَى وَسِمْعَانَ الَّذِي يُدْعَى الْغَيُورَ. 16 يَهُوذَا أَخَا يَعْقُوبَ،
وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي صَارَ مُسَلِّمًا أَيْضًا. (عدد 12-16).

 

نرى
في هذا الفصل الدعوة الخصوصية للاثني عشر ليكونوا رسلاً. كان الرب قد دعاهم شخصيًا
قبل ذلك ليكونوا تلاميذ لهُ كما دعا كثيرين غيرهم، وأما هنا فاختارهم اختيارًا
خصوصيًا للخدمة الرسولية. لا يوجد تحديد الوقت في لوقا فأنهُ إنما يقول وفي تلك
الأيَّام. (انظر أيضًا مَتَّى 1:10-4؛ مرقس 13:3-19). ولوقا وحدهُ يخبرنا بأن
الرَّبِّ صلى قبل إجراء هذا العمل بل قضى الليل كلهُ في الصلاة لله. وهو أيضًا في
مواضع أخرى يذكر صلوات الرَّبِّ أكثر من البشيرين الآخرين. لا يُخفى أن ممارسة
الصلاة لله تليق بالإنسان باعتبار مقامهِ ونسبتهِ إلى الله والظروف المكربة
والملتبسة التي هو فيها. ليس مذكورًا أن الملائكة الأطهار يُصلّون ونحن أيضًا لا
نحتاج إلى الصلاة بعد دخولنا إلى المجد. كان المسيح الإنسان الكامل. «طوبى للرجل
الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم
يجلس. لكن في ناموس الرَّبِّ مسرَّتهُ وفي ناموسهِ يلهج نهارًا وليلاً فيكون كشجرة
مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانهِ وورقها لا يذبل. كل ما يصنعهُ
ينج (مزمور 1:1-3). سلك المسيح بالانفصال عن الخطاة ووجد مسرَّتهُ بعمل مشيئة الذي
أرسلهُ، وكان يأتي بالأثمار المرضية لله في كل حين. جميع البشر أشرار وخطاة حسب
طبيعتهم، وأما الذين يرفضون نور الله في وقتٍ ما فيتقسون ويزدادون شرًّا، ولا يلبث
أن يستهزأُوا كما كانت الحال مع رؤساء إسرائيل، ولكن لم يزل المسيح كشجرة مُثمرة
أصولها تشرب من المياه الإلهية كما نراهُ في الفصل إذ خرج إلى الجبل وقضى الليل
كلهُ في الصلاة لله ثم اختار من تلاميذهِ عدَّة أشخاص ووظَّفهم وظيفة الرسالة. كان
الآب قد أعطاهُ إياهم على نوع أخصَّ من الآخرين (يوحنا 6:17-19). وأما من جهة
خدمتهم، فكانت أولاً إسرائيل إذ استخدمهم الرَّبُّ مدة حياتهِ للشهادة عنهُ
لإسرائيل. ثمَّ بعد موتهِ وقيامتهِ وحلول الروح القدس أرسلهم للعالم أجمع، وكان
معهم على نوع خصوصي ليرشدهم في إنشاء الإيمان المسيحي، وتسليمهم للمؤمنين التعليم
الصافي. فهذه كانت مسئوليتهم. وأما نحن فمسئوليتنا أن نحافظ على ما تسلمناهُ منهم
لأن الكنيسة أُقيمت كعمود الحق وقاعدتهِ يعني للمحافظة عليهِ. فأن كنا لا نفعل ذلك
تخالف مسئوليتنا ولا نستحقُّ أن نعتبر جماعة الله على الأرض.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م مبخوسة ة

 

17
وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْل، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ،
وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ
وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، الَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ
أَمْرَاضِهِمْ، 18 وَالْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا
يَبْرَأُونَ. 19 وَكُلُّ الْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ، لأَنَّ قُوَّةً
كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي الْجَمِيعَ. (عدد 17-19).

 

قيل
في مَتَّى أنهُ صعد إلى الجبل فلما جلس تقدَّم إليهِ تلاميذهُ… إلخ. (مَتَّى 1:5)
فالمرجح أن لوقا يشير إلى وقت آخر. فأن مَتَّى أدرج موعظة تناسب إسرائيل على وجه
العموم، كنداء ملكي باعتبار استعدادهم ليقبلوا الملكوت العتيد أن يُقام لهم إذا
تابوا. معلوم أنهم لم يتوبوا فتأخرت إقامة الملكوت، ولكن الملك الوارث الحقيقي كان
حاضرًا في وسطهم وعرض عليهم الملكوت، وأما الكلام الوارد في لوقا فلهُ مقصد آخر
كما يتضح من مطالعتهِ. ونرى في آخر الفصل الذي نحن في صددهِ أن الشعب لم يزالوا
يجتمعون إليهِ لأجل المنافع الجسدية، وبادروا إلى لمسهِ فقط لأن قوةً كانت تخرج
منهُ، وتشفي جميع الذين احتاجوا للشفاء. كان الرؤساء المستهزئون قد جزموا
بإهلاكهِ، ولكن قوتهِ الشافية بقيت تجري مجراها ولم تكفَّ عن علها ما دام احتياج
المُصابين ألجأهم بالحضور إلى مصدرها الإلهي. كانت تراعي أعواز البائسين لا كبرياء
المُستهزئين.

 

20
وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ:«طُوبَاكُمْ أَيُّهَا
الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ. 21 طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ
الآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ،
لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ. 22 طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ، وَإِذَا
أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ
ابْنِ الإِنْسَانِ. 23 اِفْرَحُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فَهُوَذَا
أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
بِالأَنْبِيَاءِ. 24 وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ
قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. 25 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ
سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ
سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. 26 وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ
النَّاسِ حَسَنًا. لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ
الْكَذَبَةِ. (عدد 20-26).

 

فنطق
أولاً بأربع تطويبات للتلاميذ باعتبار قبولهم إياه وهو مرفوض. فكانت دعوتهم
لممارسة الصبر وهم تحت الإهانة وفي الظروف المُكربة. وُضع آدم في جنة عدن لأجل
التمتُّع بالخيرات وكذلك إسرائيل فيما بعد حين دعاهم الله من مصر إلى كنعان، فأنه
عرض عليهم أن يأكلوا خير الأرض الجيدة. نعلم أنهم خانوا، واصبحوا في الضيق، ولكن
لو تابوا عند كرازة يوحنا المعمدان وقبلوا المسيح كملك لكان قادرًا أن يباركهم
ويعطيهم الراحة في أرضهم. ولكن بعد إظهارهم عدم التوبة صارت الدعوة لبقيَّةٍ منهم
فقط، وهي تختلف عن الدعوة الأصلية.

 

طوباكم
أيُّها المساكين لأن لكم ملكوت الله. لا يُخفى أن البشير متى وحدهُ يستعمل العبارة
ملكوت السموات، فقد رأينا معناها في درسنا إنجيلهُ أنهُ يستعملها نظاميَّا يعني
باعتبار نظامات الله، أو تدابيرهِ في العالم، وإنما يذكر أقامتهُ كقريبة، ولكنها
معلَّقة على توبة إسرائيل، وأما هذه العبارة ملكوت الله قد حضر بشخص ابنهِ بقطع
النظر عن توبة إسرائيل وإقامة النظام الخصوصي لهم. فأن تابوا أم لا، فملكوت الله
قد حضر وسيُعطى للتلاميذ المساكين، ولا يُخفى أنهُ جارِ الآن فأننا دخلناهُ
بالولادة من فوق. طوباكم أيُّها الجياع الآن لأنكم تشبعون. فالجوع هنا حرفي، ومن
وصف الذين تبعوا المسيح يعني أن حالتهم كانت كحالة اتباع داود حين أُضطهد وطُرد كما
سبق الكلام عنهم في أول هذا الإصحاح حين اضطرَّ التلاميذ بأن يقطفوا سنابل الحنطة
لسدّ جوعهم. وأما الشبع الموعود بهِ هنا فروحيٌّ بلا شك لأن المواعيد لنا في مدة
رفض المسيح وغيابهِ تطلق خصوصًا على البركات الروحيَّة. طوباكم أيُّها الباكون
الآن لأنكم ستضحكون. كانت للتلاميذ أحزان لاقترانهم مع السيد المُبغض لكنه وعدهم
بأن حزنهم يتحول إلى الفرح (انظر 22:16)، وتم ذلك بعد قيامتهِ وحلول الروح القدس.
طوباكم إذا أبغضكم النَّاس وإذا أفرزوكم وعيَّروكم واخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن
الإنسان. كلما أمعنَّا النظر في كلام لوقا نرى أنهُ إنما أدرج ما يناسب حالة اتباع
المسيح عمومًا، وما لا بدَّ أن يجري عليهم، ولو مُحيتْ الأمة الإسرائيلية. نعم
التلاميذ كانوا يهودًا في وسط اليهود وبالضرورة يوجد بعض إشارات إلى ظروفهم
الخصوصية يراعيهم في هذا الإنجيل كقسم من البشر فمثلهم مثل: الآخرين أيضًا، ولا
يوجد فرق. لم يكن نسل إبراهيم مع كل افتخارهم بجنسيَّتهم إلاَّ كالشعب نظير الأمم
ومجدهم كزهر العشب الذي يذبُل قبل العشب نفسهِ. وكان الرَّبُّ قادرًا أن يميّز في
اليهودي المُفْتَخر شكل آدم وذريتهِ كافةً فلذلك لا نراهُ ف هذا الإنجيل يراعي
أحوالهم الخاصة إلاَّ ليصوّر بها صورة الإنسان الساقط كما هو ثم يأتي بالعلاج
الإلهي المُحتاج إليهِ الجميع. افرحوا في ذلك اليوم وتهللوا. فهوذا أجركم عظيم في
السماء، لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء. كان لليهود بعض امتيازات، ولكنهم
أساءوا استعمالها دائمًا وأبدًا. إن افتقدهم الله في وقت ما وأرسل لهم أنبياء
لإرشادهم فاضطهدوهم. وكان المسيح مزمعًا أن يرسل تلاميذهُ لخدمة كهذه فلا بدَّ
أنهم ينالون الإهانة والرفض كالأنبياء القدماء بل كسيدهم نفسهِ، ولا يمكن لهم أن
يرتاحوا ويجازوا على الأرض، ولكن ينبغي أن : ينتظروا أجرًا عظيمًا في السماء.ولم
يزل هذا القانون لنا نحن أيضًا. ثمَّ نطق بأربعة ويلات تصدق على جميع النَّاس
العائشين للشهوات ولذَّاتهم في العالم الحاضر. ولكن ويلٌ لكم أيُّها الأغنياء
لأنكم قد نلتم عزاءكم. (انظر إصحاح 19:16-30). يشعر الإنسان بشقاوة حال البشر بحيث
أنهُ قد حكم عليهم بالتعب خارج الجنة النفيسة التي أُخرج أبوهم منها، ولكنهم لم
يزالوا يطلبون راحتهم وتعزيتهم في هذه الأرض الملعونة بسببهم. فعندهم السماء بعيدة
والأرض قريبة فينسون الأولى ويتمسكون بالثانية يكثرون كل واحد على قدر إمكانهِ:
الثروة، كأن إقامتهم في الأرض للأبد، ولكن ليس لهم إلاَّ سنون قليلة معدودة وبعد
ذلك ينحدرون إلى التراب الذي أُخذوا منهُ أصلاً، ثم يأكُلْهم الدود. (انظر مزمور
49) على بطلان أتعاب الإنسان. وأما الرَّبِّ فينادي، بالويل للعائشين هكذا لأن ليس
لهم ألاّ مقدار التعزية الذي يحصلون عليهِ مدة حياتهم الدنيا. ويلٌ لكم أيُّها
الشباعى لأنكم ستجوعون. الشبع الحرفي، والجوع مجاز غير أن الشبع يُطلق أيضًا على
الاكتفاء بالأمور الحاضرة المناسبة للشهوات والجوع يشير إلى حالة الناس الدنيويين
بعد الموت إذ لا يكون لهم شيءٌ مما تلذذوا بهِ هنا حتى نقطة ماءٍ بارد لا تعطى لهم
لتُبرّد لسانهم في شدة العذاب. ليتهم ينتبهون الآن ويطلبون ماءَ الحياة مجانًا
ويشربون منهُ ويعيشون بالراحة والسعادة إلى الأبد. ويلٌ لكم أيُّها الضاحكون الآن
؟ لأنكم ستحزنون وتبكون. قلت أنا في قلبي: هلمَّ امتحنك بالفرح فترى خيرًا. وإذا
هذا أيضًا باطل. للضحك قلتُ مجنون وللفرح ماذا يفعل (جامعة 1:2، 2). ولا شك أنهُ
من أشدَّ الجنون في البشر أ، يصرفوا وقتهم في الضحك والفرح العالمي وهم نازلون إلى
حيث يحزنون ويبكون إلى أبد الأبديين. ولكن وا أسفاه! على الأكثرين؛ لأنهم يمارسون
ضحكهم، ويفضلونهُ على التوبة والحزن الروحي الذي من شأنهِ، أن يهيئهم للفرح
المؤبد. ولا ينتبهون لإنذارات سليمان الحكيم، ولا يصغون لصوت المُعلّم الحنون الذي
هو أعظم من سليمان. «الصيت خير من الدهن الطيب، ويوم الممات خير من يوم الولادة.
الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة؛ لأن ذاك نهاية كل إنسان
والحي يضعهُ في قلبهِ. الحزن خير من الضحك؛ لأنهُ بكآبة الوجه يُصْلَحُ القلب.
قلبُ الحكماء في بيت النوح، وقلب الجُهَّال في بيت الفرح. سَمْعُ الانتهار من
الحكيم خيرٌ للإنسان من سَمْعِ غناء الجُهَّال؛ لأنَّهُ كصوت الشَّوك تحت
الْقِدْرِ هكذا ضحكُ الجُهَّال. هذا أيضًا باطلٌ» (جامعة 1:7-6). «ويلٌ لكم إذا
قال فيكم جميع النَّاس حسنًا؛ لأنَّهُ هكذا كان آباؤُهم يفعلون بالأنبياء الكذبة».
هذا الويل للتلاميذ أنفسهم إذا نسوا مقامهم ودعوتهم وتساهلوا مع العالم. لا يزال
تلاميذ المسيح في تجربة، أن يعيوا من المسكنة والجوع ثم يمتنعون عن الشهادة
الصريحة لسيدهم المرفوض لكي يخلصوا من إهانة العالم. فالشيطان دائمًا يعرض عليهم
سبيلاً أسهل من حمل الصليب، وهو مشاكلة الدهر الحاضر الشرير فلا ينكرون لاهوت
المسيح، ولكنهم يتصرفون كأن لا توجد مضادَّة كليَّة بين مُعلّمهم وبين العالم،
وربما يمدحهم النَّاس على مساهمتهم، ولكن الويل لهم من فم الرَّبِّ.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ض ضرة ة

 

27
«لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ،
أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، 28 بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ
الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. 29 مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ
الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا.
(عدد 27-29).

 

قد
رأينا آنفًا مقام التلاميذ كمساكين وجياع في الحزن والإهانة، وهذا يطلق علينا
جميعًا غير أن الاثني عشر سبقونا في هذا الطريق وتركوا لنا قدوةً (انظر كورنثوس
الأولى 9:4-16). وأما في هذا الفصل فيبتدي بإيضاح كيفية السيرة نحو الآخرين أولاً
الأعداء والظالمين. فبحسب طبيعتنا سؤُ المعاملة من الآخرين يهيج الغضب والنقمة
فينا ليحملنا أن نعاملهم بالمثل، وكان ذلك جائزًا لليهود على نوع ما، ولكن روح
المسيح يقودنا وراء قدوتهِ إذ ظُلم وتذلَّل ولم يفتح فاهُ. «بذلت ظهري للضاربين
وخدّي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق» (إشعياء 6:50).

 

30
وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ.
31 وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا
بِهِمْ هكَذَا. 32 وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل
لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يُحِبُّونَ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُمْ. 33
وَإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْل
لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا. 34 وَإِنْ أَقْرَضْتُمُ
الَّذِينَ تَرْجُونَ أَنْ تَسْتَرِدُّوا مِنْهُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟ فَإِنَّ
الْخُطَاةَ أَيْضًا يُقْرِضُونَ الْخُطَاةَ لِكَيْ يَسْتَرِدُّوا مِنْهُمُ
الْمِثْلَ. (عدد 30-34).

 

هذا
يُرينا كيف يجب أن نتصرف نحو النَّاس عمومًا ولا سيما المحتاجين. كان اليهودي
الغني، مأمورًا بأن يساعد أخاهُ الفقير، ولكنهُ انتظر أن يستردَّ ما أقرضهُ لهُ أو
على الأقل ينال نوعًا من المكافأة فقط كان محرَّمًا عليهِ أن يظلم أخاهُ أو يكون
لهُ كمرابٍ. ولكن في قدوة المسيح نرى شيئًا أزيد من ذلك لأنهُ صنع خيرًا مع الذين
لا يمكنهم أن يكافئوه. وأما قولهُ: وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم
أيضًا بهم هكذا – فقد شرحت عليهِ في موضعهِ في إنجيل مَتَّى- لاحظ أن لوقا إنما
يذكرهُ في سياق الكلام ولا يقول: أنهُ فحوى تعليم الناموس والأنبياء من جهة هذا
الموضوع. فأن الوحي أدرج في مَتَّى ما يكفي لإقناع اليهود الذين يخاطبهم خصوصًا في
ذلك الإنجيل، وأما هنا فيذكرهُ من ضمن إرشاداتهِ لتلاميذهِ في كل حين.

 

35
بَلْ أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا وَأَقْرِضُوا وَأَنْتُمْ لاَ
تَرْجُونَ شَيْئًا، فَيَكُونَ أَجْرُكُمْ عَظِيمًا وَتَكُونُوا بَنِي الْعَلِيِّ،
فَإِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى غَيْرِ الشَّاكِرِينَ وَالأَشْرَارِ. 36 فَكُونُوا
رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ. 37 «وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ
تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا
يُغْفَرْ لَكُمْ. 38 أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا
فَائِضًا يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ
تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ». (عدد 35-38).

 

فيوجب
عليهم ممارسة المحبة للأعداء والإحسان والإقراض للمحتاجين. معلوم أن المحبة
للأعداء غير ممكنة لنا إلاَّ من فعل نعمة الله فينا لتجعلنا نسلك بحسب الإنسان
الجديد ونظهر صفاتنا كأولاد الله. فنتمثل بهِ في تصرُّفاتنا نحو أعدائنا كما في
أفعالنا الأخرى أيضًا، وأما ممارسة الإحسان والإقراض على الكيفية المذكورة هنا
فللمحتاجين ولا يوجد عليها شرط إلاَّ أننا نميّز أنهم في الاحتياج حقيقةً ثمَّ
نساعدهم على قدر طاقتنا وبالكيفية التي نراها أنسب لخيرهم ولمجد الله. فإذًا حسبما
لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان (غلاطية 10:6). الإقراض يفرض
أن المقرض في ظروف أحسن من المستقرض (انظر تثنية 6:15؛ 12:28؛ مرقس 7:22).
فالتجربة للأول أن يستعبد الثاني؛ فيكون في احتياج صحيح ولكن لا يطلب الصدقة بل
قرضًا فقط على الأمل بأنهُ يردُّهُ. فيجب أن يكون غرضنا في الإقراض سدّ الاحتياج
لا استرجاع القرض. فلا مدخل هنا للإقراضات التجارية غير أنهُ لا يجوز لنا أن نمارس
المتجر حسب قوانين العالم. غير إني أقول: أن الرب في هذا الفصل إنما يظهر الروح
الذي يجب أن يتصف بهِ تلاميذهُ بالمقابلة مع أهل العالم ليس أجراءُ أفعالهم
بالتفصيل، فأن الوحي يعطينا إرشادات لذلك في مواضع أخرى كما لا يُخفى. فيكون أجركم
عظيمًا. سبق وقال عن احتمالهم الاضطهاد من أجلهِ أن أجرهم يكون عظيمًا في السماء
(عدد 23)، وأما هنا فيصرح بأن أجرهم يكون عظيمًا بدون ذكر السماء، لأن الله في
سياستهِ في الأرض يجد طرقًا لإظهار رضاهُ في الذين يسيرون بحسب قدوة المسيح في
الأشياء المذكورة وخير لنا أن نحصل على بركتهِ في بيوتنا من أن نخزن الثروة
بلعنتهِ. وتكونوا بني العلي فأنهُ مُنعم على غير الشاكرين والأشرار. يعني لكي
يظهروا كبني العلي بالتصرُّفات التي تبرهن نسبتهم إليهِ في وسط هذا العالم المُتصف
بمحبة الذات. معلوم أن بني آدم جميعًا يظهرون صفات أبيهم الذي ترك الله لكي يحسن
حالتهُ كما فهم من كلام المُجرّب. فأول فكر في كل واحد أن يصنع خيرًا لنفسهِ وقد
جرى ذلك كقانون مطلق بين البشر. «لأنهُ في حياتهِ يبارك نفسهُ. ويحمدونك إذا أحسنت
إلى نفسك» (مزمور 18:49). فيستغربون العمل بحسب قدوة الله الذي لا يزال يصنع خيرًا
للجميع حتى للذين يتمتعون ببركاتهِ بقلبٍ عديم الشكر. وأما المُداومة على صنع
الخير فتمتحن قلوبنا الضيقة. ربما نساعد شخصًا مرَّةً أو مرتين، ولكن إذا رأيناهُ
قليل الشكر. نملُّ ولا نريد أن نساعدهُ أيضًا. فالملل قريب إلينا والتجارب شديدة.
فالوحي عرف ذلك وسبق وأنذرنا قائلاً: فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقتهِ
أن كنا لا نكلُّ (غلاطية 9:6).فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم. فالرحمة هي
للمتضايقين من مصائب هذه الحياة، فينبغي أن نمارسها لأمثال هؤلاء لأن أبانا يعمل
هكذا. وقد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية بالولادة الثانية فنظهرها بالاحساسات
اللطيفة الحنونة. أن كنا قساة القلب عائشين لذواتنا فلا يظهر أقل فرق بيننا وبين
الآخرين. تكفي ولادة واحدة لتجعلنا أولاد آدم، متصفين بحب الذات، فنحتاج إلى
الولادة الثانية من فوق لتجعلنا بني العلي، ثمَّ نعمتهُ تقودنا وتقوينا للعمل
مثلهُ. تدينوا فلا تدانوا (انظر مَتَّى 1:7)، والشرح عليهِ. لا تقضوا على أحدٍ فلا
يقضي عليكم. الدينونة المذكورة قبل هي المذمَّات الناموسية بالأفكار والكلام وأما
القضاءُ فأزيد منها فيشير إلى أجراء المحاكم القاسية. فالله يعاملنا في سياستهِ
كما نعامل الآخرين. اغفروا يُغفر لكم. وهذا أيضًا يصدق على سياسة الله لنا في هذا
العالم. إذا تركنا للآخرين زلاتهم فالله لا يحاسبنا الآن على زلاتنا العديدة نحوهُ
لأننا نشعر باحتياجنا إلى الغفران منهُ ونلتجئ إلى باب الرحمة فلذلك نسامح
الآخرين. فلا يربطُ خطايانا علينا للتأديب. لا يُخفى أننا كثيرًا ما نجلب تأديب
الله علينا لعدم مسامحتنا لأخوتنا. أعطوا تعطوا كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزا فائضًا
يعطون في أحضانكم لأنهُ بنفس الكيل الذي بهِ تكيلون يكال لكم. فقولهُ: يعطون في
أحضانكم، اصطلاح ومعناهُ يُعطي لكم، ولا يعني أن الناس يفعلون هكذا معنا مع أن الله
قادرًا إذا شاءَ أن يجعل الحق والشفقة في قلوبهم نحونا، ولكن مقصد هذا التشبيه
لإيضاح كيفية العطاء والعمل فكما أن الإنسان الكريم النفس المُتعاطي العطاء والآخذ
يعطي كيلاً فائضًا وزائدًا على مجرد الحق لأجل السرور، هكذا يليق بنا نحن أن نفعل
أيضًا في ممارستنا واجباتنا نحو الآخرين لأن المُعطي المسرور يحبهُ الله. فالكيل
عبارة عن كيفية تصرُّفنا في أشياء كهذه فإن كنا نمارسها بقلب مسرور نتمثل بإلهنا
ونرضيهِ.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م مصر 3

 

39
وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً:«هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا
يَسْقُطُ الاثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟ 40 لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ
مُعَلِّمِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ. 41
لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ
الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 42 أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ
لأَخِيكَ: يَا أَخِي، دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِكَ، وَأَنْتَ
لاَ تَنْظُرُ الْخَشَبَةَ الَّتِي فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً
الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى
الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ. (عدد 39-42).

 

لا
يزال كلامهُ عن مقام التلاميذ وسلوكهم في العالم. هذا المثل موجود في (مَتَّى
14:15)، ولكن الرَّبُّ يخصّصهُ هناك برؤساء إسرائيل، وأما هنا فيذكرهُ لإفادة
التلاميذ في شأن قيادة الآخرين. فينبغي أن يكون عندهم التعليم الصحيح الذي هو
كالنور والبصيرة الروحية أيضًا. كان هو نفسهُ معلّمهم ولكنهُ سبق فدعاهم كرسل لكي
يفيدوا الآخرين. فمن الضرورة لا يمكن للتلميذ أن يكون أفضل من معلمهِ يعني أن يكون
أفهم منهُ أو يسبقهُ في الطريق التي هو سالك فيها ويدعو الآخرين أيضًا بأن يتبعوهُ
فيها. بل كلُّ من صار كاملاً يكون مثل معلمهٍِ. فالكمال هنا عبارة عن مبدأ السلوك
أو الطريق الذي سلكهُ المُعلَّمْ العظيم. طوبى للكاملين طريقًا، السالكين في شريعة
الرَّبِّ (مزمور 1:119؛ انظر أيضًا فيلبي 15:3). فالإسرائيلي السالك بحسب النظام
القديم كان كامل الطريق، وأما تلاميذ المسيح فيجب أن يتبعوا سيدهم في الطريق
الجديد، وبحسب المبادئ السامية التي أوضحها لهم آنفًا. فالتلميذ يكون مثل معلَّمهِ
إذا تبعهُ في طريقهِ، انظر بولس وسائر الرسل. وهذا المطلوب منا جميعًا كتلاميذهِ.
من قال: أنهُ ثابت فيهِ ينبغي: أنهُ كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضًا (يوحنا الأولى
6:2). لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك؟ وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها…
إلخ. لاحظ أن هذه الإنذارات مذكورة هنا خصوصًا لإفادة التلاميذ فأنهم لا يزالون في
تجربة أن يسيئوا التصرُّف في النور الجديد المشرق عليهم من العلاء ويأخذون يعلّمون
الآخرين بدون أن يحافظوا لأنفسهم على النور المُعطى لهم، فحينئذ يحاولون إصلاح
الآخرين بدون إصلاح أنفسهم. وينتج من ذلك الرياءُ الممقوت عند الله أكثر من كل ما
سواهُ. فيجب عليهم وعلينا نحن أيضًا المحافظة على البصيرة الروحية والالتفات إلى
سيرتنا أكثر من ممارسة وظيفة الإرشاد للآخرين. مع أن هذه واجبة في محلّها ووقتها
(انظر رومية 17:2-29).

 

43
«لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا رَدِيًّا، وَلاَ شَجَرَةٍ
رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا جَيِّدًا. 44 لأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا.
فَإِنَّهُمْ لاَ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ تِينًا، وَلاَ يَقْطِفُونَ مِنَ
الْعُلَّيْقِ عِنَبًا. 45 اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ
الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ
الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ
فَمُهُ. (عدد 43-45).

 

فيدلُّهم
هنا على حقيقة معروفة في الطبيعة أن كل شجرة تظهر جنسها بالثمر فيصدق هذا التشبيهِ
على جميع تعليميهِ لهم من جهة سلوكهم بحيث أنهم قد صاروا من جنس جيد جديد، فعليهم
أن يظهروا ذلك بسيرتهم. نعلم من مواضع أخرى أن أصل الجنس العتيق باقٍ فينا أيضًا
فإذا سلكنا بحسبهِ أن أصل الجنس العتيق ما يأتي بأثمارهِ، ولكن كلام الرَّبِّ هنا
مطلق لا مفصّل ويُعلن الحقيقة العامة أننا لا بدَّ أن نبرهن شكلنا بأعمالنا.
الإنسان الصالح هو المُتجدد بالروح القدس والقلب الصالح عبارة عن العواطف الجديدة
التي نظهرها بالمحبة حتى لأعدائنا، وبصنع الخير للمحتاجين إليهِ بسرورٍ وبموجب
قدوة أبينا السماوي. فأنهُ من فضلة القلب يتكلم فمهُ. فإنما يذكر كلام الفم هنا
لأنهُ مما يدلُّ سريعًا على حالة القلب، ولا يذكر الإنذارات الشديدة من جهة سوء
استعمال اللسان المذكورة في (مَتَّى 34:12، 35) التي يجب أن نراجعها كثيرًا ونحترز
جدًّا من جهة كلامنا. نعم بلا شك كلامنا يظهر حالة قلوبنا، ولكن علينا واجبات
صريحة أن نضبط ألسنتنا في خوف الله بقطع النظر عن كونها دليلاً على جنسنا وشكلنا.

 

46 «وَلِمَاذَا
تَدْعُونَنِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ، وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ 47
كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ أُرِيكُمْ مَنْ
يُشْبِهُ. 48 يُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتًا، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ
الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذلِكَ
الْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى
الصَّخْرِ. 49 وَأَمَّا الَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَانًا
بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ النَّهْرُ فَسَقَطَ
حَالاً، وَكَانَ خَرَابُ ذلِكَ الْبَيْتِ عَظِيمًا!». (عدد 46-49).

 

 فينبههم
هنا على لزوم الطاعة لهُ كربّهم ومعلّمهم. لا ينفعهم انتسابهم إليهِ شفاهًا فقط.
فالنعمة العاملة فينا تقودنا دائمًا إلى الطاعة المُدققة لتعليم ربنا وأما الروح
الناموسية المُتصف بها اليهود في ذلك الوقت فلم تأتِ بثمر الطاعة وهكذا الحال الآن
مع المتعصبين بالناموس فأن الإنسان الناموسي أن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا بالاسم
يعتدُّ ببر نفسهِ، ويكتفي بمجرد انتسابهِ لإبراهيم أو للمسيح فلا بدَّ أن يأتي وقت
لامتحان البناء الذي بناهُ على أساس عاطل كهذا. فعندما تحضر دينونة الله للعالم،
أو لكل إنسان بمفردهِ تكشف حقيقة حالتهِ هل هو مبني على المسيح أو على برّ نفسهِ.
كم من الناس قد انتسبوا إلى المسيح كتلاميذ بالاعتراف الشفاهي فقط والعمل بكلامهِ
أمرٌ بعيد عن أفكارهم. يقترب إليَّ هذا الشعب بفمهِ ويكرمني بشفتيهِ، وأما قلبهُ
فمبتعد عني بعيدًا وباطلاً يعبدونني وهم يعملون تعاليم هي وصايا الناس (مَتَّى
8:15، 9). كلام المسيح يأتينا بسلطان إذا انتبهنا إليهِ، وينخس ضمائرنا، ويكشف
خفايا الشر الكامنة في أعماق قلوبنا، ويجعلنا نشعر بقداسة الله، وباحتياجنا الشديد
إلى الكفارة بدم ابنهِ الحبيب. ثمَّ يعلن لنا ذات المسيح، وقيمة عملهِ كأساس
إيماننا والواسطة الوحيدة لسلامنا وقبولنا أمام الله. فالانتباه الحقيقي لكلامهِ
يشبه إنسانًا بنى بيتًا وحفر وعمَّق ووضع الأساس على الصخر بحيث أنهُ يقتضي
الاعتناء والافتكار والالتفات إلى المستقبل أيضًا. فيكون فينا حينئذٍ الإيمان
القلبي الذي لا يتزعزع إلى الأبد. والامتحانات مهما كانت شديدة إنما تبرهن
متانتهُ. وأما جميع المكتفين بالصورة الظاهرة فليس قدامهم سوى الخراب والحزن. ربما
في الوقت الحاضر بيتهم المبني على الأرض من دون أساس يظهر أنهُ مثل: البيت
المؤسَّس على الصخر أو أحسن منهُ بحيث أنهُ مزيَّن بتحف كالهيكل الذي افتخر بهِ
اليهود، ولكن المسئلة العظمى هي عن الأساس لا عن التحف التي تبهج أبصار الجهلاء
فقط ولا تقدر أن تخدع الذي لهُ عينان كلهيب نار.

 

يا
أخوتي، لنتمسك بكلام سيدنا ونتبعهُ ونطلب أن نوجد أمامهُ في السلام عند مجيئهِ
متزيَّنين بالأعمال الصالحة، الماضي إيضاحها في هذا الإصحاح التي هي من أثمار
الإيمان القلبي لأن دينونة الله مقبلة بسرعةٍ وكل ما تجدهُ ليس مبنيًّا على المسيح
تحطمهُ كما يهدم السيل البيت المبني على الرمل.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي