الإصحَاحُ
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ

 

رابعاً:
قصة آلام المسيح وموته وأخبار قيامته (الأصحاح 22- 24)

بعدما
أنبأ يسوع تلاميذه، كيف سيضطهدون ويخافون ويقادون إلى المحاكم، ويبغضون من الجميع،
طبق أمامهم في نفسه ما قاله وتنبأ به، لكي يتبعوا جلال تواضعه وقداسة وداعته،
ويمجدوه بإطاعة الإيمان في روحه. هل تبت وتحررت من أربطة المال والهموم والرياء،
واستسلمت إلى المسيح رب المجد، الآتي قريباً؟ عندئذ تصبح مستعداً لسماع أخبار آلام
موت حمل الله الوديع، وتثبت فيه. فاقرأ الأصحاحات الثلاثة التالية مصلياً، لأنها
تتضمن آيات هي أهم من كل ما كتب في الآداب العالمية.

 

1-
قرار الزعماء قتل المسيح قبل عيد الفصح (22: 1- 2)

1
وَقَرُبَ عِيدُ ٱلْفَطِيرِ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْفِصْحُ.

 

إن
عيد الفصح انسجم في العهد القديم مع عيد الفطير بعيد واحد، يدوم جمعة كاملة حسب
السنة القمرية للتقويم اليهودي. ففي يوم الخميس الواقع في 13 نيسان من كل سنة،
ينظف اليهود بيوتهم من الخميرة العتيقة، رمزاً لتنظيف البيوت الكلي من الروح
الشرير القديم. ويأكلون خلال جمعة الأعياد خبزاً غير مخمر. وقد ذبحوا ألوف الحملان
بهذه المناسبة في ساحة الهيكل. وكانوا يأكلونها مشوية شياً في عشائهم العائلي
تذكيراً لمرور غضب الله عن شعبهم في القرن الثالث عشر ق م لما كانوا في مصر عبيداً
للفراعنة. وقد علموا جميعاً أن شركتهم الدائمة مع حمل الفصح وحدها تخلصهم من سخط
القدوس العادل، لأنهم لم يكونوا أكثر صلاحاً من الشعوب المحيطة بهم. ولكن إيمانهم
بحمل الله حفظهم من الدينونة، ولحم الذبيح الذي أكلوه، صار فيهم قوة للتقدم إلى
حفلة قطع العهد مع الله في جبل سيناء. (اقرأ سفر الخروج 12: 1- 36) هكذا عاش الشعب
كله من الذبيحة التي قدموها لله وحماية دمها. وكما أكلوا في خروجهم من مصر خمراً
غير مخمر، هكذا أكلوا خبز الضيق بعد عيد الفصح جمعة كاملة، وسموها عيد الفطير
تذكيراً لهربهم إلى البرية وخلاصهم من العبودية. فمن أكل في هذه الأيام المباركة
عندهم خبزاً وخمراً، رجم وقطع من شعبه. وهكذا كان يجتمع سنوياً مئات الألوف من
الحجاج في أورشليم، ليتقدموا معاً أمام الله ويعيشوا من نعمته الفريدة.

 

22: 2
وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ
يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا ٱلشَّعْبَ.

 

لم
يرتح زعماء الشعب، ولم يفرحوا بإقبال العيد، لأن الجماهير تراكضت إلى يسوع الشاب
الريفي، من الجليل الأممية. فأصبح بجانب الهيكل المحور الثاني للعيد. وقد قاد وفد
المجمع الأعلى للاعتراف بجهالتهم، وأدان الكتبة بالرياء، لأنهم لم يستعدوا لإطاعة
حق الروح القدس. فاغتاظ هؤلاء الرؤساء وعزموا رسمياً إيجاد طريقة لإبادة يسوع.
ولكن محبة الشعب له منعت الثعالب المكارة من تنفيذ قصدها جهراً، لأن الجماهير شعرت
أن سلطان الله يخرج من الناصري.

 

2-
خيانة يهوذا الاسخريوطي (22: 3- 26)

22: 3
فَدَخَلَ ٱلشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا ٱلَّذِي يُدْعَى
ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ. 4
فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقُّوَادِ ٱلْجُنْدِ
كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. 5 فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ
فِضَّةً. 6 فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ
خِلْواً مِنْ جَمْعٍ.

 

لا
نعرف تماماً لماذا دخل الشيطان في يهوذا. فقد كان اليهودي الوحيد بين رسل يسوع،
الذين جاءوا جميعهم من الجليل معه. وكان يهوذا محباً للمال. فاستلم صندوق الجماعة،
وصار سراقاً. وأخذ بعض العطايا لنفسه، وأمات صوت ضميره رافضاً يسوع في قلبه، لأنه
عندما تكلم ضد محبة المال، نظر إلى يهوذا مخترقاً أفكاره. وأبغض المسيح أيضاً، لأنه
لامه جهراً، لما اعترض على مسحه بالطيب في بيت عنيا (يوحنا 12: 1- 8). وربما كان
يؤمل الخائن، أن يصل بواسطة سلطان يسوع سريعاً إلى المجد والمال والشرف. ولكن لما
عملت قوة المسيح فيه وأجرت عجائب من يديه مع الرسل الآخرين ولمي يتغير ذهنه، تقسى
قلبه، وصار ظالماً. فوجد الشيطان سلطة فيه، وحل شخصياً في المنكر وقاده للتصميم
على الخيانة الخاتلة.

 

وفي
بغضة غيظه ذهب يهوذا مباشرة إلى مركز أعداء يسوع، الذين فرحوا بابتداء الانشقاقات
في وحدة محبة جماعة المسيح. فسألوا الخائن عن كل مبادئ وتفاصيل حياة الناصري،
وبحثوا معه الطريق الأفضل لإبادة هذا الزعيم الوديع بالخفاء.

 

وفي
هذه المؤامرة طغت فجأة رائحة المال وظلمه، لأن الرؤساء الأشرار والخائن الرذيل لم
يعملوا لمبدأ بل راعوا أنفسهم. فاشترى الوجهاء هذا الخائن، الذي تكالب على الثمن،
لأنه كان عبداً للمال، وليس رجل الله.

 

ففي
المال تظهر أخلاق أكثرية الناس. فأكثر الناس لهم ثمن، يمكن أن يشتروا به. وللأسف
إن ثمنهم عادة منخفض جداً، فيبيعون شرفهم وضمائرهم بثمن رخيص ضئيل تافه.

 

ومنذ
ذلك الوقت، ابتدأ الملبوس منقاداً بالشيطان إن يستقصي ويستخبر عن الطرق والأماكن
التي سيذهب إليها قدوس الله، ليصطاده وسلمه للإبادة. فهذا هو هدف الشيطان مع كل
الناس، ليملكهم وليملأهم بروحه. وليقودهم للاعتداء على الله. فهل أنت خادم المسيح
أو عبد الشيطان؟ هل تكون ينبوع المحبة أو مصدرالبغضة؟ أتتعلق بالمال أو تتكل على
الرب؟ فلا تغرر بنفسك. فإنك لا تستطيع حمل بطيختين في يد واحدة. فأما أن تحب الله
وتبغض المال، أو تعبد الذهب وترفض القدوس. لا تقسي قلبك لصوت الروح القدس. تب
لكيلا تصبح شيطاناً مريداً.

 

الصلاة:
أيها الرب، لست أصلح من يهوذا الخائن. نجني من قلبي الرديء ومن سلطة الشرير، ولا
تدخلنا في تجربة. كسر ميلي للمال، وامنحني ذهناً متواضعاً وديعاً. لأحبك من كل
قلبي وذهني وقدرتي، وأضحي بأموالي. وأطلب المساكين كما رحمتهم أنت.

 

3-
إعداد العشاء الرباني (22: 7- 13)

22: 7
وَجَاءَ يَوْمُ ٱلْفَطِيرِ ٱلَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ
فِيهِ ٱلْفِصْحُ.

 

إن
يوم 14 نيسان سنة 30 للميلاد تقريباً كان من أهم أيام التاريخ البشري على وجه
الأرض. فهذا اليوم ابتدأ في يوم الخميس مساء الساعة السادسة، إلى الجمعة في
السادسة مساء، حسب النظام اليهودي للأيام. فخلال هذه الساعات الأربعة والعشرين
ذبحت مئات الألوف من الحملان. وبنفس الوقت، ذبح حمل الله، الذي رفع خطية العالم.
فكل الأحداث الخاصة بآلام المسيح وموته المذكورة في الأصحاح 22 عدد 14 إلى الأصحاح
23 عدد 56 وقعت في هذه المدة القصيرة. ففي هذه الجمعة الحزينة العظيمة قد تم خلاص
العالم.

 

22: 8
فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «ٱذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا
ٱلْفِصْحَ لِنَأْكُلَ». 9 فَقَالا لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟». 10
فَقَالَ لَهُمَا: «إِذَا دَخَلْتُمَا ٱلْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا
إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى ٱلْبَيْتِ حَيْثُ
يَدْخُلُ، 11 وَقُولا لِرَبِّ ٱلْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ ٱلْمُعَلِّمُ:
أَيْنَ ٱلْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ ٱلْفِصْحَ مَعَ تَلامِيذِي؟ 12
فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا». 13
فَٱنْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، فَأَعَدَّا ٱلْفِصْحَ.

 

لقد
علم يسوع أن الخائن بدأ محاولاته، مستفهماً مسبقاً عن المكان الذي سيجتمع فيه
معلمه مع تلاميذه في عزلة عن الشعب، ليقدر هذا الخائن أن يسلمه إلى أيدي أعدائه
بكل سهولة وصمت.

 

ولكن
ابن الله عزم أن يصرف آخر عشية في حياته الدنيوية بفرح كبير مع تلاميذه، ليقطع
معهم العهد الجديد المقدس.

 

فما
قال لبطرس ويوحنا بدقة عن مكان الغرفة التي أراد أن يجتمعوا فيها، بل أرشدهما
ببصيرته النبوية وسط ازدحام الناس والحجاج إلى رجل يرياه حاملاً جرة على رأسه.
فهذا الرجل كان غريباً في تصرفه، إذ أن النساء عادة هن اللواتي يحملن الجرار
ويملأنها من النبع، ويأتين بها على رؤوسهن من أسفل النبع صعداً بالدرجات العالية
إلى بيوتهن في جبل القدس.

 

كان
الرجل متواضعاً، فخدم عائلته بنفسه وحمل الحمل الثقيل دون خجل من بين النساء
الكثيرات والحجاج المارين.

 

وقد
رآه يسوع مسبقاً بعين النبوة، مثلما رأى مسبقاً كل أحداث ذلك النهار، وبكل دقة
متناهية. لم يكن نبياً فقط، بل هو العليم بالذات، العارف أفكار وكلمات وأعمال
الناس قبل حدوثها، ولا ينسى الماضي أيضاً. فحياتك منكشفة أمامه بكل بيان.

 

ولما
أطاع التلميذان كلمة المسيح مصدقين، وانطلقا وسط ازدحام أزقة المدينة، فرأيا الرجل
الذي وصفه يسوع. وقد كان محضراً ومرتباً بيته بإرشاد الروح القدس، ومحضراً الوسائد
والمخدات، منتظراً ضيف الله. فأتى الرب بالذات إليه. وأصبح بيته الكنيسة الأولى،
التي قطع ابن الله فيها مع أتباعه العهد الجديد بفرح عظيم.

 

لا
نقرأ أن التلميذين قد ذبحا حملاً للفصح في الهيكل، وشوياه في بيت الرجل، الذي
أرسلهما يسوع إليه. لأنهما كانا مع ربهما مضطهدين. وأسمائهما على القائمة السوداء.
فلهذا نقرأ الأخبار عن العشاء الرباني الأول، إنه استعمل به الخمر والعشب المر
والخبز فقط. وهو ما وزعه يسوع على التلاميذ. فاحتفل المسيح مسبقاً بالفصح، كمرفوض
من الأمة. وتناول العشاء كمجرم، ليس له الحق أن يذبح في الهيكل حملاً له
ولتلاميذه. وحقاً لم يكن يسوع في حاجة إلى حمل لمصالحة نفسه مع الله، لأنه كان حمل
الله شخصياً، بدون خطية، حاملاً ثقل ذنوب العالم. ورغم هذا ثبت في صبره وسروره
المستمر. ولم يقدم لتلاميذه كأس خمر واحدة فقط، بل عدداً من الكؤوس حسب طقوس
الاحتفال، لأن عيد الفصح كان عيد الفرح الكبير، لأجل الخلاص من غضب الله.

 

4-
العشاء الرباني (22: 14- 23)

22:
14 وَلَمَّا كَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱتَّكَأَ وَٱلاِثْنَا عَشَرَ
رَسُولاً مَعَهُ، 15 وَقَالَ لَهُمْ: «شَهْوَةً ٱشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ
هٰذَا ٱلْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ، 16 لأَنِّي
أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لا آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ
ٱللّٰهِ». 17 ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: «خُذُوا
هٰذِهِ وَٱقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ، 18 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ:
إِنِّي لا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ
ٱللّٰهِ».

 

في
العلية اتكأ التلاميذ مع ربهم على وسائد ونمارق مريحة. فافتتح يسوع حفلة الله مع
الناس، وأعلن لتلاميذه صميم اشتياق قلبه، تعبيراً عن شوق الله نحو الناس جمعياً:
قد اشتقت منذ الأزل بكل مسرتي أن أقطع معكم هذا العهد الجديد المقدس. فلا تفصلكم
الخطية فيما بعد عن الله، بل تتحدون معه في الميثاق. وأنا أريد أن أتألم وأموت
عوضاً لأجل كل الناس الذين يطلبون الله. وأريد تطهيركم وتقديسكم، وامتلاءكم بروحي.
فيولد جيل جديد هو شعب الله الحق، أولاد أبي السماوي، مسيحيين حقيقيين.

 

واكتمال
هذا العهد الجديد سيتم في مجيء المسيح الثاني. فاليوم نحن على الطريق إليه وسط
صحراء دنيانا، الممتلئة بتجارب وأخطار وهجومات. أما دم الحمل فيرافقنا، وحمايته
وقداسته تقدسنا، فيبقى للمؤمن الامتياز، أنه سيحتفل مع يسوع في السماء بإكمال
العشاء الرباني. والفرح الذي سيحصل عند ذاك، لا يوصف، بل هو شكر جزيل. فعاصفة
الحمد والسجود ستنطلق من حوله مفسرة كلمات الرؤيا 5: 12 مستحق هو الخروف المذبوح
أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة.

 

22:
19 وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «هٰذَا
هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هٰذَا
لِذِكْرِي». 20 وَكَذٰلِكَ ٱلْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ ٱلْعَشَاءِ
قَائِلاً: هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ هِيَ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ
بِدَمِي ٱلَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ.

هل تبحث عن  م الأباء أثناسيوس الرسولى تجسد الكلمة 33

 

إن
المسيح هو المشرع الإلهي، الذي غير كلمات طقوس ترتيب عيد الفصح، وقرر بسلطانه أن
الخبز في العشاء الرباني يعني جسده والخمر يرمز إلى دمه. وكما أن هذين العنصرين في
العشاء الرباني يدخلان إلى جوفنا مسببين لنا قوة وحياة، هكذا يشاء يسوع نفسه أن
يحل فينا، بجوهره الروحي، ويسكن فينا ثابتاً إلى الأبد. فهدف العشاء الرباني ليس
أكل الخبز وشرب الخمر، بل حلول الروح القدس في المؤمنين، الذي هو روح يسوع والرب
بالذات. فتناولك العشاء الرباني لا ينفعك شيئاً، إن لم تقبل يسوع في قلبك، طالباً
إليه أن يمكث إلى الأبد. وهو يقول مؤكداً لك: هذا الخبز هو جسدي. آمن بي فأثبت فيك
حقاً.

 

وشهد
يسوع أيضاً أن العهد الجديد مع الله في دمه، يبتدئ من لحظة هذا العشاء الأول،
ويثبت إلى الأبد رغم عدم استحقاق كل الناس للتعاهد مع الله. فحقاً كلنا نستحق
الإبادة حالاً. ولكن حقوق دم يسوع المسيح تحمينا، وتسبب فينا حياة، وننال التبرير،
وندخل القداسة. فأصبحنا أهلاً للموثق مع الله القدوس. وهذا الامتياز مبني على
النعمة فقط، لا قائم على أعمالنا وصلاتنا وصيامنا. فالمسيح يأتي إليك تلقائياً،
ويطهرك ويربطك مع الله، في وحدة مقدسة قدوسة. هل تؤمن بهذا؟ إن الله نفسه يقطع بدم
المسيح عهداً معك ومع كل أتباع ابنه المسيح. فعندئذ يكون الله معك. والقادر على كل
شيء يحل فيك! هذا حق ويقين.

 

الصلاة:
يا حمل الله القدوس، نسجد لك ونشترك بتسابيح الحمد من أفواه كل القديسين. ونعظم
موتك ودمك، وعهدك الجديد. قد اشتريتنا لله خاصة، وجعلتنا أولاداً لأبيك السماوي،
رغم شراسة طبيعتنا. دمك يطهرنا، وروحك يجددنا. فنتهلل ونفرح ونشكرك لأنك تسكن
بالإيمان في قلوبنا.

 

5-
كلمات وداعية من يسوع إلى تلاميذه (22: 24- 38)

22:
21 وَلٰكِنْ هُوَذَا يَدُ ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى
ٱلْمَائِدَةِ. 22 وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ
مَحْتُومٌ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي
يُسَلِّمُهُ. 23 فَٱبْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «مَنْ
تَرَى مِنْهُمْ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هٰذَا؟».

 

بعد
ما قطع المسيح عهد الفرح مع تلاميذه، وثبتهم في شركة الله، كان ينبغي عليه أن يعلن
لهم حقيقة قلوبهم مبيناً أن كل واحد منهم ممكن أن يخونه. فلم يدل على يهوذا ويخصصه
بالخيانة لوحده، بل أوضح أن واحداً منهم يسلمه لكي لا يغتر أحدهم بنفسه، ويظن أنه
أفضل من الآخرين ويدين الشرير، بل أراهم أن كلا منهم يمكن أن يصدر منه ويرتكب هذه
الجريمة والعمل الخبيث.

 

وحقاً
فإن شدة محبة المسيح كسرت كل ثقة بذواتهم، واقتادتهم إلى الخجل والتوبة، حتى
اعترفوا بعدم صلاحهم وفقدان برهم، ملتجئين إلى نعمة الرب يسوع، الذي يحفظهم من
العمل الشرير.

 

وقد
قال المسيح هذه العبارة، الممتحنة للنفوس أيضاً ليهوذا، لعله يتوب. فاهتزت يد
الخائن، لما سمع إشارة المسيح إلى يده، التي غمست اللقمة في قصعة الشوربا مشاركة
يد المسيح وبقية التلاميذ في الطعام.

 

والمخلص
الذي أعلن قبل قليل العهد مع الله، قال الآن الويل الإلهي للذي يدوس هذا العهد
عمداً. فالعذاب والهلاك لهذا الإنسان هائل فوق الإدراك، لأنه قد تناول العشاء
الرباني واعياً، وحمل المسيح في قلبه، وبعدئذ أنكره وأبغضه وخانه. والشيطان نفسه
سعر جهنم في ضميره، فزال الرجاء فيه.

 

وقد
رأى المسيح طريقه الخاص بجلاء إلهي، من البداية إلى النهاية، منسجماً مع إرادة
أبيه، ليفدي العالم الشرير. فتقدم إلى الموت بمشيئته مزمعاً، وأتم تعيينه. ولكنه
بنفس الوقت تألم لأجل الخروف الضال يهوذا، الذي قد صارت له ملء النعمة. فداسها
برجليه.

 

22:
24 وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ
يَكُونُ أَكْبَرَ. 25 فَقَالَ لَهُمْ: مُلُوكُ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ،
وَٱلْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. 26 وَأَمَّا
أَنْتُمْ فَلَيْسَ هٰكَذَا، بَلِ ٱلْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ
كَٱلأَصْغَرِ، وَٱلْمُتَقَدِّمُ كَٱلْخَادِمِ. 27 لأَنْ مَنْ
هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ ٱلَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ
ٱلَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلٰكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَٱلَّذِي
يَخْدِمُ.

 

لم
يدرك التلاميذ أهمية العشاء الأخير. وسرعان ما مالوا إلى مقارنة أنفسهم. فاتهم كل
واحد الآخر، بأنه اللص والخائن. وظن بنفسه أنه الأفضل والأمين والأقرب لله. فجربهم
الشيطان حتى في تلك الساعة المقدسة لقطع العهد، لأن التلاميذ لم يكونوا قد امتلأوا
من الروح القدس بعد. ورغم ذلك بشرهم ربهم، وقارنهم بملوك الأرض. ْلأن كل خادم للرب
أعظم من أكبر ملك في العالم. ولأبينا السماوي شموس كافية ليهب لكل واحد من أولاده
مجموعة شموس. إن جوهر أولاد الله ليس الاستكبار والشوق إلى العظمة، بل التواضع
والخدمة. ولكن حتى الخدمة تتعرض للوقع في خطر الخطية، إذا أراد الخادم أن يلقب
«بالمحسن الهمام» وكان يشم بوجهه المتواضع بخور الإكرام والمديح من الناس. فإن
الشعار في العهد الجديد والمبدأ في ملكوت الله أن الأعظم هو خادم الكل. فقد مثل
يسوع بنفسه أمامنا هذا الفكر، وتواضع حتى حسب مجرماً حاملاً خطاياناً. وكما غسل
أرجل تلاميذه الوسخة، هكذا يطهر قلوبنا الملوثة، ويزيل كل وساخاتها. فمن هو الأكبر
في الكنيسة، الشاب أو الشيخ؟ فجواب المسيح: إن الذي يخدم صامتاً هو الأعظم. ومن هو
الأشهر في السماء، الزعيم أو المنقاد التابع؟ فالمسيح يجاوب: أن المصلي المتواضع،
مكتوب اسمه في السماء. وسنكون متعجبين في الآخرة، إذ سنرى بعض العبيد المؤمنين،
أبهر من الزعماء الفقراء في المحبة. وسيظهر بعض الأمراء على الأرض عبيد ذنوبهم في
الآخرة. فملكوت الله يقلب مقاييس البشر تماماً ويصبح الصغير كبيراً والكبير
صغيراً. فمن أنت، أصغير أم كبير؟

 

22:
28 أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، 29 وَأَنَا أَجْعَلُ
لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً، 30 لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى
مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ
إِسْرَائِيلَ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ.

 

ما هي
تجارب المسيح؟ قد أخلى مجده، وأصبح إنساناً ضعيفاً، مولوداً في المذود، نامياً
كفتى في جيل فاسد، مجرباً من الشيطان، منادى به ملكاً من الناس، وممنوعاً من
الذهاب إلى الصليب بمعارضة تلاميذه. مضطهداً ومحتقراً ومرفوضاً. ورغم كل ذلك، بقي
التلاميذ معه، محكومين معه سوياً. الكل علم أن الخطر متربص بهم.

 

وشكر
يسوع أتباعه لأمانتهم، وأوصى بوصيته. فما هي هذه الوصية والإرث يا ترى؟ إنها
الملكوت. لا أكثر ولا أقل. فالمسيح وصى لهم بملكوت الله بالذات. فأوصى لهم بكل
السماوات والنجوم والأرض وكل ما عليها من بشر وحيوانات، لأنهم تبعوه في ضعفه،
وآمنوا به رباً، رغم هيئته الإنسانية المتواضعة.

 

ووعدهم
بعد موتهم أن يجلسوا في الآخرة معه على مائدته، ليشتركوا في فرحه كما اشتركوا على
الأرض في ضيقه. ولن يجتمعوا هناك فرحين فقط، بل سيخدمون أيضاً. وبإرشاد الروح
القدس سيدين الرسل أسباط إسرائيل، جالسين على عروش الآباء الاثني عشر لأمتهم.
وسيمثل أمامهم كل رؤساء الكهنة والكتبة والفقهاء والفريسيون والصدوقيون،
فيدينونهم، لأنهم لم يؤمنوا بألوهية يسوع، رغم رؤيتهم له في لطفه وقدرته. ولكن ليس
صيادو بحيرة طبريا هم الحكماء المقتدرون لهذه الوظيفة القاضية، بل الروح القدس،
الذي سيملأهم ويجعلهم علماء متواضعين وخداماً للرب.

 

فهكذا
علم يسوع ملوك المستقبل الخدمة، محققاً وعده: طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. هل
تريد الاشتراك في إرث الملكوت؟ فكن أصغر الخدام بين زملائك، ونظف أحذيتهم.

 

الصلاة:
أيها الرب يسوع، أنت المتواضع الوديع. اغفر لي استكباري واحتقاري للآخرين. اعطني
من روحك المحب، لأصبح خادماً لكل الناس، لأخضع نفسي تحت أحمال إخوتي. احفظني في
التجارب، لكي أحب مبغضيَّ، وأباركهم بقوة كلمتك.

 

22:
31 وَقَالَ ٱلرَّبُّ: «سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ
طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! 32 وَلٰكِنِّي
طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لا يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ
ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». 33 فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ
أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى ٱلسِّجْنِ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ». 34
فَقَالَ: «أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ، لا يَصِيحُ ٱلدِّيكُ ٱلْيَوْمَ
قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي».

 

بعد
أن أوصى المسيح لتلاميذه بالملكوت، رأى بطرس نفسه كرئيس للوزراء جالساً عن يمين
الابن، ومالكاً معه إلى الأبد. فاتكل على خبرته الخاصة، وقوته الجبارة، وإيمانه
الجريء، وشهادته المعلنة. ولم ير الحركات المستترة في العالم الغير المنظور،
لإسقاط الرسل.

 

فالحكمة
الإلهية تسمح للشيطان، أن يمثل أمام الله، ويشتكي على القديسين، وينال السماح
لامتحانهم. وهذا الامتحان يشبه مراراً إلقاء المؤمن في غربال الريفي الخشن، الذي
يغربله فاصلاً القمح عن الزوان. هكذا نال الشرير من الله السماح، ليغربل التلاميذ
الاثني عشر بلا شفقة ليزعزعهم، وليبرهن أنهم غير قادرين لوظيفة الرسل. هل تدرك
الكفاح بين الله والشيطان لأجل أنفسنا وراء ستار الكون؟ إن إبليس يعزم إهلاكك، فهل
أنت زوان أو قمح حنطة أم شعير؟

 

وقد
خاطب يسوع سمعان مرتين باسمه القديم، ليحذره ويريه أن طبيعته القديمة الثائرة
والجبانة، ما زالت بعد. ولم ير المسيح سقوط بطرس مسبقاً فقط، بل صلى إلى الله
لأجله، متوسطاً له، طالباً تقوية إيمانه. هذا يدلنا على أنه ليس إنسان يعيش من
قدرته الخاصة، بل إيمانه ومحبته ورجاؤه هو نتيجة شفاعة المسيح. فإيمانك نعمة وليس عملك
الخاص.

 

ونظر
يسوع أكثر إلى المستقبل، ورأى ندامة بطرس وانسكاب الروح القدس فيه مسبقاً، حيث
سيقوم الفاشل والمنكر بجرأة، ليس بقوته الخاصة، بل بإرشاد الروح القدس، معلناً بلا
خوف حقائق الله في الإنجيل. هذا كان الانقلاب الجذري في حياة بطرس، إنه أدرك كيف
كان عدماً في نفسه وجباناً ومذنباً، ولكن نعمة المسيح وحدها طهرته وفوضته للشهادة
الناجحة عن فداء المسيح. هكذا أصبح من المدعى بنفسه وغير المقتدر، معزياً منكسراً
للكثيرين، ورافعاً الكنيسة في قوة الله إلى الإيمان الحي المؤسس على التوبة
الصادقة، واعترف في مجمع الرسل الأول أمام كل المعارضين بقوله «بنعمة الرب يسوع
المسيح نؤمن أن نخلص» لا بقدرتنا الخاصة الباطلة.

 

ولكن
لما كانوا في العلية آنذاك، لم يخطر لبطرص فكر سقوطه أو اهتدائه، بل ادعى أنه
سينصر المسيح في كفاحه لأجل السلطة، مستعداً حتى الموت. فنظر يسوع إليه حزيناً،
وأنبأ الذي شهد من قبل «أن يسوع هو المسيح ابن الله» أنه سيغرق غرقاً عميقاً حتى
ينكره ثلاث مرات علانية مدعياً أنه لا يعرف مخلص العالم قط ولم يره مرة أبداً.
ولكن صياح الديك سيبرهن له أن المسيح هو العليم الرحيم، الذي حذره مسبقاً لتنبيهه.

 

22:
35 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلا كِيسٍ وَلا مِزْوَدٍ وَلا
أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقَالُوا: «لا». 36 فَقَالَ لَهُمْ:
«لٰكِنِ ٱلآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ
كَذٰلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. 37
لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هٰذَا
ٱلْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ
ٱنْقِضَاءٌ». 38 فَقَالُوا: «يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ
لَهُمْ: «يَكْفِي!».

هل تبحث عن  م التاريخ كنيسة أنطاكية تاريخ كنيسة أنطاكية 06

 

لما
جرت من يسوع في الجليل عجائب وشفاءات للمرضى وطرد للشياطين كان رسله مقبولين
ومحترمين وقوبلوا في كل قرية بضيافة أمينة، ولم يحتاجوا شيئاً. ولكن في أورشليم
العاصمة، لم يكن ليسوع أصدقاء كثيرون. لأن الذين أعجبوا به خافوا من الاعتراف به
جهراً، لأن يسوع كان مضطهداً محارباً من المجمع الأعلى، واسمه على جدول المطلوبين.
فاهتم يسوع بتلاميذه لما بعد موته، وأمرهم بالاقتصاد في المصروف والمحافظة على
المؤن، حتى اقترح عليهم شراء سيفين، لكي يخاف العدو أن يهاجم. فلم يأمرهم المسيح
أن يضربوا بالسيف، بل أن يحبوا أعداءهم ويخوفوهم تخويفاً، ويفضلوا أن يموتوا من أن
يسفكوا دماً. ولم يفهم تلاميذه، ولم يدركوا، أن الدعوة إلى السيفين هي دعوة للجهاد
الروحي أولاً، ليستعدوا في قلوبهم للقتال ويطلبوا من ربهم سيف الروح للدفاع أمام
مكائد الشيطان.

 

وعلم
يسوع أن ساعته المرة مقبلة، إذ كان على القدوس أن يموت كلص، ويسميه الأتقياء
مجدفاً ثائراً. ولكن المسيح علم أنه ينبغي أن يموت محتقراً من كل الناس ليفديهم،
وهم أعداؤه. فرأى موجة الشر متدحرجة عليه، مستعدة لتغطيته. ولكنه لم يهرب، بل اهتم
واعتنى بتلاميذه لآخر لحظة.

 

الصلاة:
أيها الرب، أنت أعظم من كل نبي. أنت إله حق، وتعرف مستقبلنا وفشلنا وضعفنا. اشفع
فينا وتوسط لأجلنا لكيلا يفنى إيماننا. اغفر لنا اكتفاءنا واستكبارنا وأنانيتنا،
لنصبح أمناء لك في المحبة.

 

6-
كفاح يسوع في الصلاة على جبل الزيتون (22: 39- 46)

 

22:
39 وَخَرَجَ وَمَضَى كَٱلْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ ٱلّزَيْتُونِ،
وَتَبِعَهُ أَيْضاً تَلامِيذُهُ. 40 وَلَمَّا صَارَ إِلَى ٱلْمَكَانِ قَالَ
لَهُمْ: «صَلُّوا لِكَيْ لا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». 41 وَٱنْفَصَلَ
عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى 42 قَائِلاً:
«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ.
وَلٰكِنْ لِتَكُنْ لا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». 43 وَظَهَرَ لَهُ
مَلاكٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ يُقَّوِيهِ. 44 وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ
يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى
ٱلأَرْضِ. 45 ثُمَّ قَامَ مِنَ ٱلصَّلاةِ وَجَاءَ إِلَى تَلامِيذِهِ،
فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً مِنَ ٱلْحُزْنِ. 46 فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا
أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلَّا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ».

 

ما
فهم بطرس ولا التلاميذ يسوع في عمق كفاحه الروحي، فتبعوه كالعادة إلى جبل الزيتون،
ليناموا ويرتاحوا. أما المسيح فالتفت وسط الليلة الدامسة إليهم، وأمرهم بالصلاة
المواظبة كالقوة الوحيدة في مصارعة الأرواح. وقد علمنا الرب أن نطلب من أبينا
السماوي، لكيلا يدخلنا في تجربة، ولا يتركنا لأيدي الشيطان، لأن تجربته الخبيثة
تهدف انتزاعنا من الله وجعلنا أشراراً، مستعملين السيف وغير ثابتين في المحبة،
فنفدي أنفسنا ولا نتكل على عناية الله وحده.

 

والمسيح
نفسه دخل هذه التجربة لما انقفلت السماء في وجهه. فلم يرد الموت، ولكن أراد دائماً
النظر إلى أبيه، الذي حجب وجهه عنه، وبدا إلهاً قاضياً منتقماً من خطايا العالم في
ابنه الحبيب. وهكذا جثا يسوع متواضعاً أمام الله العظيم وتصارع مع أبيه لأجل حفظ
وحدته معه في المحبة. ولكن الروح القدس في الابن غلب ضعف أمنية جسده.

 

فيسوع
المسيح سمى الله أباه في ألف كلمة ممكنة. با أبتاه، عالماً أنه يحبه دائماً،
ويعتني به، ويريد الخير لا الشر. فهذه الكلمة ترينا المحبة العظيمة بين الآب
والابن، الجو الدائم في الثالوث الأقدس. ولم يخضع المسيح مشيئته لأمنيته، بل وضع
شوقه تحت مشيئة أبيه، لأن هذه المشيئة كانت له قدوسة، وغير قابلة للتغيير البتة.
وكان مستعداً أن ينفذها مهما كلف الأمر. هذه هي الطريقة الوحيدة للصلاة المقبولة
حيث لا نسقط في التجربة. ولا نريد ما نتمنى نحن بل ننسجم بإرادة الله، حتى ولو
ضادت شعورنا الخاص. فمن يصلي في خضوع مستمر كالمسيح ينجو من كل تجربة.

 

وطلب
الابن من أبيه، أن يمر عنه كأس الغضب، التي ترمز إلى كل مرارة وخبث وخطية ارتكبها
العالم وقصاصها. فابن الله جعل في هذه الليلة خطية عوضاً عن كل خطاة العالم، لنصير
نحن براً مقبولاً أمام الله. فالقدوس حمل أوساخ كل الناس، وأصبح هكذا الحمل الذي
يرفع خطية العالم. ولم يكن حمل ذنوب العالم الهدف الأخير للحمل القدوس، بل موته في
لهيب غضب الله عوضاً عنا، لنصبح نحن متحررين من الدينونة. فارتجف يسوع من غضب أبيه
المحبوب، لأن كل دينونات تاريخ العالم استعدت لتسطو على البريء لتبيده.

 

لا
يقدر إنسان أن يحتمل هذا الكفاح، وكان يسوع إنساناً حقاً وضعيفاً في طبيعته الإنسانية.
لهذا أرسل أبوه ملاكاً، ليقويه ويملأ جسده بقوة زائدة، ليستطيع حمل خطية العالم مع
سطو غضب الله عليه.

 

واستمر
يسوع في الصلاة راكعاً وجاثياً بكلمات الروح القدس، ولكيلا تؤثر في نفسه عوامل
بغضة العالم، ولا يسحقه غضب الله. فلا يستطيع إنسان ما، أن يدرك هذه الصلاة
الإلهية العظمى أو يفسرها. فالطبيب لوقا دلنا على شدة هذا الكفاح الغالب بوصفه
الدقيق لحالة المصلي آنئذ، إن عرقه تصبب كقطرات دم من جبينه.

 

ونام
التلاميذ بينما كان يسوع يكافح لفداء العالم. فقد سقطوا في التجربة، ولم يشتركوا
في جهاد الخلاص، لأنهم تعبوا من اليوم الطويل، وحزنوا من النبوات الغامضة، وفزعوا
من شعورهم بالمصارعة بين السماء والأرض. ولم يفهموا الحقيقة قط. فكان سهلاً
للشيطان، أن يبعدهم من المعركة بتسليط رقاد النوم عليهم. وللأسف! فهذه هي حالة
كثير من المؤمنين. فاليوم يفدي العالم، لأن على كل جيل الولادة ثانية. فمتى تكافح
مع المسيح بواسطة صلواتك المستمرة لكي تتحقق ثمار فدائه في أعدائه؟ إن المسيح
يأمرك في هذه القراءة مرتين بالصلاة مواظباً، لأن الانتصار لا يحصل في ملكوت الله
إلا بالصلاة المستمرة.

 

الصلاة:
أيها الرب يسوع المسيح، قد فكرت بصلاتك في جثسيماني بي أيضاً، وغفرت لنا تعبنا
ونعسنا. أيقظنا مع كل أصدقائنا، لنراك في كفاحك لفدائنا، ونؤمن بمحبتك، ونصلي
بمواظبة: لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك في محيطنا.

 

7-
القبض على يسوع (22: 47- 53)

22:
47 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، وَٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا-
أَحَدُ ٱلاِثْنَيْ عَشَرَ- يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ
لِيُقَبِّلَهُ. 48 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ
ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ؟» 49 فَلَمَّا رَأَى ٱلَّذِينَ حَوْلَهُ مَا
يَكُونُ، قَالُوا: «يَا رَبُّ، أَنَضْرِبُ بِٱلسَّيْفِ؟» 50 وَضَرَبَ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذُنَهُ
ٱلْيُمْنَى. 51 فَقَالَ يَسُوعُ: «دَعُوا إِلَى هٰذَا!» وَلَمَسَ
أُذْنَهُ وَأَبْرَأَهَا. 52 ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ
وَقُّوَادِ جُنْدِ ٱلْهَيْكَلِ وَٱلشُّيُوخِ ٱلْمُقْبِلِينَ
عَلَيْهِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! 53 إِذْ كُنْتُ
مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ
ٱلأَيَادِيَ. وَلٰكِنَّ هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ».

 

بينما
يسوع يصلي وسط الليلة، ويكافح مع الله لفداء العالم وتلاميذه نيام، تسلل يهوذا
وخدام المجمع الأعلى بحذر وهدوء إلى موضع عزلة يسوع. وقفزوا فجأة بتقديمهم يهوذا،
عالماً أن يسوع لا يعارض السلطة، فاحتضن يسوع وقبله كأخ وصديق.

 

لم
يبعد يسوع الخائن عنه، ولم يضربه على وجهه الوقح، بل نظر في عينيه، ودعاه باسمه.
ووبخ ضميره لآخر مرة، ليخلصه. وطعن في عمق شره، لأن الخائن ستر بقبلة المحبة بغضته
الشديدة، وغطى برمز القرابة خيانته الدامغة. وبهذا بلغت المراءاة الشيطانية القمة.
فالشيطان الحال في الخائن تبدى محباً، وألبس كذبه مومياء الثقة. فيهوذا لم يؤمن
بألوهية يسوع، بل رأى إنسانيته فقط. ولو وقف الرب أمامه في المجد، هل كان يقدر أن
يقبله أيضاً كما فعل؟ إن الشيطان كان الدافع في المسكين وأعماه. والشرير تعرفه
بقبلته الكاذبة، وبكلماته اللطيفة الممتلئة بالخيانة. كل إنسان يميل إلى مراءاة
مثل هذه. نحن المنافقين الخونة الأشرار، يطعننا يسوع في قلوبنا، بسؤاله الذي وجهه
إلى يهوذا.

 

والتلاميذ
الآخرون الذين قاموا مضعضعين من وعكة النوم، أدركوا إلى حد ما اقتراب الساعة
الفاصلة. فاستعدوا للقتال. ولم يكونوا جبناء، بل ألقوا أنفسهم لتحرير المسيح. ولم
ينتظر بطرس جواب ربه وسماحه لهم باستعمال السيف، بل ضرب رأساً الجندي الأول، الذي
حاول إمساك يسوع، ظاناً استحالة سجن يسوع ربه والقبض عليه. ولاحظ الجندي سقوط
السيف اللامع عليه، الذي استهدف فصم رأسه، فانزاح سريعاً، وإذ ذاك أصابه الحديد
الصقيل جانباً، قاطعاً أذنه اليمنى. فانبجس الدم.

 

فصرخ
به يسوع: قف، اخفض السيف وضعه في غمده، لأن من يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ. الآن تتم
مشيئة أبي، التي أخضعت لها نفسي في صلاتي طوال الليل، وإذ أنتم نيام. فيسوع كان
مستعداً لصنع مشيئة الله، ولم يعارضها مستعنفاً. أما التلاميذ فما كانوا مستعدين
لمقاومة التجربة، وسقطوا إلى فداء النفس بالنفس، دفاعاً وقتالاً. فلم يعرفوا أن
العالم لا يفدي بالعنف والقتل، بل بالتضحية بالذات واحتمال الموت.

 

وأخذ
يسوع بيده الأذن الدامية المقطوعة، وأعادها إلى مكانها في رأس عدوه. فالتصقت
كحالتها رأساً وتوقف نزيفها الجاري، وزال الألم. فسمع هذا المعافى كلمات مخلصه
وشافيه. ليت أولئك الجنود الحراس أدركوا هذه العجيبة الأخيرة ليسوع. أن يسوع قد
أحب أعداءه عملياً حتى المنتهى. فالرب نفسه شفى الذين قبض عليه. فهل تدرك أنت
الآن، من هو يسوع، وما هي أعماق محبته الإلهية؟

 

ولما
رأى التلاميذ، أن القادر على كل شيء سمح بوضع السلاسل الحديدية في يديه والقبض
عليه، تجمدت عقولهم، ولم يعرفوا يميناً أو يساراً فهربوا. وأشعلت مشاعل عديدة
آنذاك، وتقدم رؤساء الكهنة وضباط الحرس والشيوخ بلحاهم الطويلة. أولئك الذين كانوا
مستخفين، حتى تيقنوا من نجاح الجنود في القبض على يسوع. فجاءوا عند ذالك باعتداد
المنتصر ودينونة الحاكم. وكلمهم يسوع كأنما يسألهم: لماذا جئتم برماح وسيوف وعصي؟
هل تخافون مني أو أبدو لكم كلص؟ ألم تدركوا بعد وداعتي وتواضعي ومحبتي؟ إني وقفت
يومياً أمامكم، معلماً في صحن الهيكل. ولم أهرب منكم، رغم علمي بقصدكم. فلماذا لم
تقبضوا هنالك عليّ؟ إنكم لجبناء محتاجون لليل والاستخفاء بعملكم الشرير. وحتى الآن
لم تستطيعوا القبض عليّ، لأن ساعتي لم تكن قد أتت بعد.

 

ولكن
ها الآن، فإنكم لستم أنتم بالحقيقة القابضين عليّ لأن الله هو الذي سمح، وسلمني
لأيديكم، وأنا موافق لتخطيط إرادته. الآن يطفح خبثكم ظاهراً. فهذه الساعة إعلان عن
حقيقتكم الخاطئة، وبيان لنضوجكم نحو الدينونة. فلستم أنتم العاملين، بل أنتم آلات
مسكينة في يد أبيكم الشيطان. فهو يدفعكم للمنكرات، فتأتون بقناع التقوى الشديدة
بأنوار كثيرة لتضيئوا الظلمة، ولكنكم بالحقيقة تنشرون الليل الدامس، والظلم
المقشعر وألوية جهنم. فالآن يسيطر سلطان الظلمة، ويستحوذ على الحق لتغطيتي. ولكنه
سيتحطم بوداعتي، لأن المحبة والحق أقوى من العنف والاغتصاب.

 

الصلاة:
نشكرك أيها الرب يسوع لأنك لم تهرب بل سلمت نفسك لأيدي الحرس، الذين قبضوا عليك،
لتكمل فداءنا. علّمنا الوداعة ومحبة أعدائنا ومعرفة إرادة أبينا السماوي في كل
لحظة. وامنحنا القوة لنتبعها.

 

8-
إنكار بطرس وندامته (22: 54- 62)

22:
54 فَأَخَذُوهُ وَسَاقُوهُ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ.
وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ. 55 وَلَمَّا أَضْرَمُوا نَاراً فِي
وَسَطِ ٱلدَّارِ وَجَلَسُوا مَعاً، جَلَسَ بُطْرُسُ بَيْنَهُمْ. 56
فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ جَالِساً عِنْدَ ٱلنَّارِ فَتَفَرَّسَتْ فيهِ
وَقَالَتْ: «وَهٰذَا كَانَ مَعَهُ». 57 فَأَنْكَرَهُ قَائِلاً: «لَسْتُ
أَعْرِفُهُ يَا ٱمْرَأَةُ!» 58 وَبَعْدَ قَلِيلٍ رَآهُ آخَرُ وَقَالَ:
«وَأَنْتَ مِنْهُمْ!» فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَنَا!» 59
وَلَمَّا مَضَى نَحْوُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَكَّدَ آخَرُ قَائِلاً:
«بِٱلْحَقِّ إِنَّ هٰذَا أَيْضاً كَانَ مَعَهُ، لأَنَّهُ جَلِيلِيٌّ
أَيْضاً». 60 فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ».
وَفِي ٱلْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ ٱلدِّيكُ. 61
فَٱلْتَفَتَ ٱلرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ
كَلامَ ٱلرَّبِّ، كَيْفَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ
ٱلدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ». 62 فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ
وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً.

هل تبحث عن  هوت دفاعى لاهوت بولس الرسول 06

 

لقد
برهن بطرس جرأته وبطولته في الجنينة لما استل سيفه وضرب الجندي العبد. ولما منعه
ربه من الكفاح بالسيف، أطاعه رأساً ظاناً أن الرب أراد بذلك، أن يثبت أنه المسيح
بإحضار جيوش الملائكة، لنصرته وتحريره وهداية الرؤساء للسجود له. فيحل ملكوت الله
في محور المجلس الأعلى.

 

وبهذه
الحالة الانتصارية، فلا يريد بطرس أن يكون بعيداً، بل على مقربة، لينال مركز وسلطة
رئاسة الوزراء. فتسلل زعيم التلاميذ خلف الجمع الضاج من وادي قدرون، ودخل معهم من
باب المدينة المحروسة، صاعداً خلفهم الدرج المرتفع. ووصل أخيراً مستخفياً إلى دار
رئيس الكهنة.

 

وبينما
كان الحكام الدينيون يستجوبون يسوع عن تلاميذه وتعليمه وجاءوا بشهود زور، ليدمغوه
بمخالفة الشريعة، جلس بطرس في فسحة الدار وقلبه مضطرب وممتلئ تساؤلاً. ولكنه تظاهر
بالاطمئنان. وأصغى لأحاديث الحراس واستهزائهم بالملك الوديع. وسمع لعناتهم على ذلك
التلميذ المجنون، الذي قطع أذن زميلهم العبد، والذي شفاه هذا السجين الغريب.

 

وفجأة
اشتبهت جارية ببطرس على وهج النار. فتفرست فيه، وتأكدت قائلة بصوت عال فوق الجلوس:
انتبهوا؟ هذا الذي في وسطكم جاسوس، إنه من جماعة يسوع. فهذه العبارة نخزت بطرس في
القلب، وخطر له القفز والهرب. ولكنه عاد فضبط أعصابه، وأجاب بسطحية ولا مبالاة،
كأنه لا يهمه شيء: لا. لا أعرفه البتة. ماذا تقولين؟ أنت غلطانة! فالتفت الجميع
إليه عند سماعهم اتهامها وجوابه المنكر. ولكنه تظاهر بهدوء البال والبراءة
المسكينة. إنما أعصابه كانت مهتزة ومتيقظة، كنمر يشم خطراً محدقاً به.

 

ورغم
إنكاره، فقد ابتدأ الحراس يلاحظونه بدقة وأحدهم كان أيضاً قد أرى بطرس في الهيكل
مع الرب. فكرر اتهام الجارية وقولها. فاغتاظ بطرس ثانية، وجاوب بحدة وإيجاز وأنكر
علاقته بيسوع مكرراً وحلف بصدق كذبه (مرقس 14: 55-72).

 

واستمر
استنطاق يسوع في دار رئيس الكهنة. وسألوه خصوصاً عن شركائه. فلم يجاوبهم يسوع
بكلمة واحدة، أما وتلميذه الأول قد صاح في ساحة الدار، إنه لا يعرف الناصري وليس
من جماعته. فقد وقعت واقعة التجربة التي نبأه بها يسوع سابقاً. ولكن التلاميذ
كانوا قد ناموا وما استعدوا للآلام وللإيمان بإرشاد الله في كل لحظة، والقيام
بالشهادة الحقة في حكمة. فكذب بطرس ورفض ربه، وجدف بحلف كاذب.

 

هكذا
سقط بطرس سقوطاً عظيماً، وحاول ساعة كاملة أن يخرج من الباب، دون أن يلاحظه أحد.
وفي هذه الأثناء رآه ثالث، وتفرس فيه بدقة. وأكد أن هذا الرجل هو جاسوس للناصري،
لأنه يتكلم اللهجة الجليلية. فلعن بطرس نفسه إن كان يعرفه أو كانت له علاقة في كل
هذه القضية.

 

وفي
هذه اللحظة صاح الديك، الذي أخبره عنه يسوع في رحمته سابقاً. لأنه عرف قلب بطرس،
الذي يفور سريعاً، عالماً أن الثقة بالذات لا تخلصنا في ساعة التجربة، بل الاتكال
على الرب وحده. ونخز صياح الديك أذن بطرس، كصوت بوق الدينونة الأخيرة. واخترق
اضطرابه ومراءاته، فتطلع بطرس إلى يسوع، الذي قاده الجنود من بيت إلى آخر عبر الدار
في هذه اللحظات الحاسمة. ويسوع التفت وسط حراسة نحو بطرس، وتطلع في عينيه. وهذه
النظرة من ابن الله إلى بطرس حطمته وأدانته وأعلنت فساده وخبثه لآخر عمق.

 

فانكسر
سمعان وخجل لأنه أدرك عدم قدرته لعمل صالح. ولم يؤمن بنبوة يسوع حقاً، فأدرك سوء
إنكاره والهلاك المحتوم عليه، وإنه ليس أصلح من الآخرين. فذابت نفسه المفتخرة
خجلاً وخزياً، وانتهى اتكاله على ذاته، وملأت الندامة المرة قلبه المفجوع، وركض من
الباب المفتوح الآن، وبكى بكاء مراً. فانكسار بطرس كان فوز يسوع العظيم في تلك
الليلة، لأنه حرر أكبر تلاميذه من الاعتداد والإيمان بالذات، وأراه عمق الشر
المتأصل في نفسه. فلهذا هدت دموع الندامة بطرس إلى حياة جديدة مبنية على النعمة
فقط.

 

أيها
الأخ هل تطلعت مرة إلى عيني يسوع، فاخترق قلبك ولم تؤمن بقدرتك الخاصة، بل ارتميت
تائباً إلى قدمي يسوع مخلصك.

 

الصلاة:
يا رب أنا متكبر متكل على نفسي، منافق جبان رعديد. لا ترفضني، وحررني من قيود
ذنوبي. علمني أن أصبح شاهداً أميناً لأجلك في كل تواضع وحكمة، لكيلا أعمل ما أريد
أنا، بل ما أنت تريده، وأتقوى بقدرتك، لأن قوتك تكمل في ضعفي.

 

9-
يسوع أمام المحكمة الدينية (22: 63 -71)

22:
63 وَٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، 64 وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ
وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي ضَرَبَكَ؟» 65
وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ. 66
وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ ٱجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ ٱلشَّعْبِ:
رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى
مَجْمَعِهِمْ 67 قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمسِيحَ فَقُلْ لَنَا».
فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لا تُصَدِّقُونَ، 68 وَإِنْ سَأَلْتُ لا
تُجِيبُونَنِي وَلا تُطْلِقُونَنِي. 69 مُنْذُ ٱلآنَ يَكُونُ ٱبْنُ
ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ». 70
فَقَالَ ٱلْجَمِيعُ: «أَفَأَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟» فَقَالَ
لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ». 71 فَقَالُوا: «مَا حَاجَتُنَا
بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ».

 

لم
يخبرنا البشير لوقا كل التفاصيل عن المحاكمات الثلاث ليسوع المسيح أمام الهيئات
الدينية. فالأولى جرت مساء، في بيت رئيس الكهنة السابق حنان (يوحنا 18: 19-24).
والثانية جرت ليلاً أمام قيافا ونخبة المجمع (متى 26: 59-68). والثالثة جرت صباحاً
في المجمع الكامل بكل نواب الأمة. ويرتكز لوقا على هذا الاجتماع الأخير الرئيسي
الذي أثبت رسيماً الحكم المقرر السابق (متى 27: 1).

 

وبعد
الاجتماع الثاني أخذ الحراس يسخرون من يسوع المقيد واستهزأوا به. وايضاً قيافا
وسائر النواب استهزأوا بيسوع وضربوه غيظاً، وجلد الحراس ظهره بسياط الجلد، وجدفوا
على الذي عرف من قبل كل كلمة صادرة من فم الإنسان في هذه الليلة، حتى أنه أنبأ
بصياح الديك ليوقظ بطرس المنكر. فجرب الجند هذا العليم، ليبرهن لهم أنه نبي. وصفعوه
مراراً على وجهه اللطيف. ولم يعرفوا ماذا يعملون. إنهم ضاربو الله في وجهه،
ولاطموه مراراً. ولم يقل المسيح كلمة واحدة، بل تألم من تعدي الناس، الذين يحبهم.
وأحبهم إلى المنتهى، عالماً أنه قد حانت الساعة، لإعلان كل شرور البشر. وأنهم
مطيعون سلطان الظلمة كعبيد. فصلى للذين لعنوه.

 

وفي
الصباح الباكر اجتمع أعضاء المجمع الأعلى اليهودي المؤلف من سبعين عضواً، الذين
استدعاهم قيافا من أورشليم ومحيطها بسرعة. وبينهم كان رجال وجهاء من عشيرة رؤساء
الكهنة القوية، والفقهاء اللاهوتيون، والقضاة، والمدعون العامون، والمحامون،
والفريسيون الفخورون، والصدوقيون المتحررون، والنواب من كل بيت محترم، والمحترمون
من الشعب. الكل تراكضوا، ليروا المعلم الشعبي، والطبيب المعجز، والشاب الريفي
الجليلي، ليروه ويدينوه. ولم تبدأ الجسلة بأسئلة تمهيدية بل فتحوا اجتماعهم رأساً
بالشكوى الرئيسية على يسوع، التي أوضحها قيافا في الليل، واعترف بها يسوع. فسألوه
مبتسمين: أأنت المسيح المنتظر؟ وكان واقفاً أمامهم، مقيداً مضروباً مجلوداً
مبصوقاً عليه، بلا عون ولا جند ولا شهادات عليا ولا عشيرة قوية. إنه صورة مسكينة.
فلم يتجادلوا معه، لأنهم لم يعتبروه مهماً، بل أرادوا أن يسمعوا بسرعة من فمه
الشهادة، إنه المسيح، ليستطيعوا رسمياً الحكم عليه بسرعة.

 

أما
يسوع، فدان عدم إيمانهم، وطلب منهم الثقة في كلماته. عالماً أن المستمعين لم
يطلبوا الحق، بل قرروا سلفاً إبادته، وأرادوا المحافظة على العدل رياء. وبسهولة
قدر المسيح أن يسألهم عن علمهم بالكتاب المقدس، ويبرهن لهم من التوراة، أنه المسيح
الحق. ولكن كل هذا لم ينفعه ضدهم، لأنهم قصدوا عازمين قتله، لا تركه.

 

عندئذ
انتصب يسوع، واخترقهم بعينيه، ونظر من خلال الوجوه الفارغة، ورأى حتى خلف موته على
الصليب وأبصر أكثر إلى السماء ناظراً أباه والعرش المعد لأجله عن يمينه. فشهد بهذه
الحقيقة المقدسة على نواب إسرائيل. وكل الحضور علموا من سفر دانيال 13، أن الاسم
ابن الإنسان يعني ابن الله بالذات، الذي دفع إليه كل السلطان في السماء وعلى
الأرض، ليمارس الدينونة على الجميع. وعرفوا أيضاً هؤلاء المثقفون ما ذكر في
المزمور 110: 1 حيث يقول الرب للرب: اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك.
فيسوع وحد هاتين الآيتين في جوابه الدفاعي وكشكوى على قضائه. وطلب لآخر مرة من
ممثلي شعبه أن يؤمنوا به، ويسجدوا ويخضعوا له وإلا فإن شهادته تعني دينونتهم
وإبادتهم وهلاكهم.

 

اغتاظ
النواب السبعون من الشاب الريفي (المقيد أمامهم)، الذي تجرأ وتجاسر أن ينطق بهذه
العبارات عليهم. ولكنهم ضبطوا أنفسهم بأعين حاقدة، وسألوه بغيظ وحقد جملة ماكرة
واحدة، ليقودوه من المثل إلى الاعتراف بأنه هو هو، لكي يقدروا أن يحكموا عليه، هل
أنت ابن الله؟ فاليهود لم يستعملوا عادة كلمة الله. وذلك احتراماً لجلالة القدوس.
ولكنهم رتبوا سؤالهم ذاكرين الله بشكل واضح وبتحايل يجعل الإجابة بالإيجاب تجديفاً
مضاعفاً.

 

ونظر
المسيح فيهم، وجاوبهم جواباً قاطعاً، كأنما هو يقول لهم: إني أقول الحق، وأنتم لا
تؤمنون بي. لست أنا قلت، إني ابن الله، لأن هذا الكيان منذ الأزل حقيقي خارج الشك
والبحث. إن امتيازي وشهرتي إنني أصبحت ابن الإنسان، وتواضعت إلى مستوى البشر. نعم
أنا ابن الله في هيئة ابن الإنسان، إله من إله، نور من نور، إله حق، مولود غير
مخلوق، ذو جوهر واحد مع الآب. والقادر على كل شيء أبي. أما أنتم فتكونون مخلوقين
فانين، مستسلمين لأب آخر هو الشيطان الرجيم.

 

عندئذ
انتفض الجمع ساخطين ومتأكدين إن هذا الواقف أمامهم مجدف مضل مختل، وإن حكمهم عليه
سريعاً هو الطريق الوحيد الذي يخلصهم من غضب الله. فامتنعوا عن كل استفهام وشهود
وامتحان لشهادتهم لأن الجمع كله سمع كلمة التجديف الصراح، إن لله ابن. فهم عمي
متقسون أغبياء، رغم أنهم نخبة الشعب والأكثر تقوى وثقافة وغنى. ولم يدركوا دينونة
المسيح عليهم البتة.

 

الصلاة:
أيها الرب يسوع المسيح، أنت إله حق من إله حق. نسجد لك ونشكرك لأنك أصبحت إنساناً
حقاً من مريم العذارء، وخلصتنا بحق محبتك. نعظمك لأجل شهادتك أمام المجمع، ونكرس
أنفسنا لك شكراً لآلامك. اغفر لنا حيث ذنوبنا ضربت وجهك، وقدسنا في اتباعك. وافتح
أعين كثيرين، ليروك ومجدك عن يمين الآب.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي