الإصحَاحُ
الأَوَّلُ

 

أولاً:
افتتاحية الإنجيل

(1:14)

 

اعتنى
ق. لوقا بأن تكون افتتاحية إنجيله على أرقى مستوى من الأدبيات اليونانية،
كما اعتنى بتركيبها لتكون صورة عامة لمستوى اللغة والأدب الذي مارسه في كتابة
إنجيله بأجمعه. وقد وفَّر بهذا الاعتناء لإنجيله مركزاً مرموقاً بين أدبيات
الإنجيل للكنيسة عن جدارة، حتى صار إنجيل ق. لوقا جديراً بكل قارئ مهما علت
ثقافته. ومما لا شك فيه أن ق. لوقا بهذا المستوى الذي بلغه في كتابته لإنجيله كان
قد أضمر لإنجيله أن ينتشر في الكنيسة وفي كل مكان.

علماً
بأن قصد ق. لوقا من إنجيله بالدرجة الأُولى أن يُهدي القارئ صورة جميلة وقوية
لتقليد الكنيسة في أيامه أكثر جداً مما أنه حاول أن يكتب أدبيات لها.

وباعتماد ق. لوقا على مَنْ سبقه من الذين ألَّفوا قصة في أمور المسيح المتيقنة، ثم بإضافته لما يجعل
هذه الاقتباسات على مستوى الصحة والدقة، يكون
قد أشاد بمن كتب قبله دون أن يرجع على أحد
بلائمة أو تقصير. وبهذا يكون ق.
لوقا قد قدَّم أكمل صورة لتقليد الكنيسة القائم على شهادة عيان وسماع أذن لأقوال
وأعمال المسيح، إنما على مستوى التحقيق التاريخي ليضيف إلى أصالة الروح أصالة التحقيق الزمني. ولكن واضح من اعتناء ق. لوقا أنه
كان يرجِّح أصالة الروح فوق كل تاريخ وزمان.

وواضح
في إنجيل ق. لوقا عمل روح الإلهام منذ أول آية، وبالدراسة والتحليل الدقيق الذي
سنجوزه في كيف تمَّ ترتيب إنجيله واختيار آياته ووضعها في موضعها، سينكشف لنا أنه
مُساق بالنعمة، لأنه يمتاز بكونه يرتِّب آياته ويجمعها ليؤكِّد بها هدفاً معيناً
يسعى إليه.

وإذا
أردنا أن نلخِّص هذه الافتتاحية الفاخرة نقول إنه سار فيها على أربع قواعد:

(
أ ) يذكر موضوعه الذي سيخوض فيه ولن يستكمله أبداً.

(ب)
يعطي منابع ومصادر معرفته التي اعتمد عليها.

(
ج ) يصف منهجه الذي سيسير بمقتضاه.

(
د ) يوضِّح غرض إنجيله.

ولكن
تسألني ما هو موضوعه الذي سيشغل كل حيِّز تفكيره وعمله ورجائه ولن يستوفيه أبداً،
أقول: إنه “الكلمة”، كما ذكر ذلك عرضاً في الآية (2): «كما سلَّمها إلينا
الذين كانوا منذ البدء معاينين وخُدَّاماً للكلمة
lÒgoj». وهذا هو الاسم الذي اذّخره في قلبه ليذكره كآخر ما
كتب في
الإنجيل، لأنه واضح أنه كتب
الافتتاحية كآخر ما كتب بعد أن أدرك عمق المسيح وخاض في مشاعره وخفايا أسراره التي
تركها تحكي عنه عند القلوب الواعية. فالكلمة هو لقب المسيح النهائي عند ق. لوقا،
وكأنه بعد أن أدرك بشرية المسيح وأحسَّ بلاهوته، عاد في النهاية وألبس اللاهوت
بشريته فكان اللقب الكلمة. وكأنه يريد أن يقول إنه الكلمة الذي تجسَّد! فبعد أن
أوفى حق المسيح يسوع في إنجيله أراد أن يلخِّصه في “الكلمة”.

وقد
ارتأى ق. لوقا أن لا يذكر اسمه في إنجيله، إذ اكتفى أن يكون أحد هؤلاء الذين خدموا
الكلمة وإن كانوا لم يسعدوا بمشاهدتها.

1:1 «إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا
بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ المُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا».

«إذ
كان
كثيرون»: ™peid»per

اصطلاح
يوناني أدبي لم يَرِد في أي موضع آخر في العهد الجديد، وهو فاتحة بليغة على
المستوى المدرسي تشير إلى حقيقة معروفة سابقاً بمعنى “بقدر ما هو كائن”، وهي تأتي
هنا سببية لما سيقوله أو سيعمله ق. لوقا.
وبهذا الاصطلاح يُنْبئ بأنه قد نوى أن يستخدم ما قام به الكثيرون قبله إيجابياً

ليعزز ما سيقوله هو. فإن كان هؤلاء هم كثرة فهو
يقدِّم نفسه كمن يوازن الكثرة بالدقة التي سيلجأ
إليها في سرد أخباره على مستوى ما كان قبله، مؤكِّداً أن دقته مع هذه
الكثرة ستأتي بالجديد
الكامل.

«قد أخذوا بتأليف قصة»:

«تأليف»:
¢nat£xasqai من الفعل ¢nat£ssomai

وهي
تفيد التجميع، وهنا ينكشف المعنى البديع، إذ التجميع هنا تجميع مقولات غالباً
شفاهية وأحياناً مكتوبة. وهنا يبرز التقليد الكنسي في تحوُّله محفوظاً بدقة من
الوعي العقلي بالحفظ إلى الوعي الكتابي بالتسجيل.

«قصة»: di»ghsin

وهي تفيد الرواية أكثر منها القصة، لأن القصة قد يدخل فيها
تركيب ذاتي من الذي يقص، ولكن الرواية تفيد النقل الحرفي
لمعلومة من فم لفم، وهنا تبرز دقة التقليد الشفاهي المحفوظ
والمسلَّم من الله.

«الأمور المتيقنة عندنا»:

طبعاً
يقصد بالأمور الحوادث التي حدثت، ولكن
» المتيقنة peplhroforhmšnwn عندنا «تفيد أكثر
من اليقين، لأن أصل الكلمة اليونانية مشتق من
plhr الذي يعني الملء. فالقديس لوقا يضم نفسه بالنسبة لهذه الأمور أي
الحوادث فهو
يعرفها إلى أقصى ملء قياسها. وهنا يُبرز ق. لوقا
عمله بالإضافة إلى عمل مَنْ سبقه من الكثيرين الذين جمعوا الروايات ليزيدها هو
بمعرفته إلى ملء قياسها الحقيقي. أمَّا اليقين فهو موضوع على القارئ الذي يسمع أو
يقرأ هذا الجمع للتقليد الذي بلغ كماله. لذلك فكلمة “المتيقنة” تفيد
ملء
الاقتناع.

أمَّا المعنى الروحي واللاهوتي المختبئ وراء الكلام فيفيد أن الأخبار الخاصة
بالحوادث التي حدثت، وهي طبعاً أخبار وحوادث الفداء والخلاص، وهي حوادث إلهية سبق
ووعد بها الله، قد صارت الآن إلى
ملء اكتمالها. وقوله
عندنا
™n ¹m‹n تفيد المؤمنين أعضاء الكنيسة حيث بلغت إلينا وفينا بكل عملها
الدائم وقوتها. وبالاختصار الشديد تكون الأمور المتيقنة عندنا هي هي خلاصنا الذي
نعيشه كاملاً الآن، الذي اشترك فيه كثيرون بالرؤيا والسماع معاً بالنسبة لحضور
المسيَّا ابن الله بالجسد.

وفي
عرفنا أن هذه الآية التي قدّم بها ق. لوقا لإنجيله لا تَفْرُق كثيراً عن الآية
التي قدَّمها ق. مرقس في إنجيله بقوله:
» إنجيل يسوع
المسيح ابن الله
« فكلٌّ منهما بدأ
بالأخبار السارة في حالة كمالها ويقينها كتعبير وتقديم عن الإنجيل كله.

2:1
«كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ».

«كما»: kaqèj

«كما» هنا لا
تعني التساوي بل بمقتضى أو “من واقع”.

بعد
أن استوفى ق. لوقا كل التآليف التي كُتبت في
» الأمور المتيقنة
عندنا
«وهي بالضرورة الموت والقيامة والصعود إضافة إلى تعاليمه، كشف
عن مصدر آخر لا علاقة له بالكتابة ولا بالتأليف، بل سُلِّم
paršdosan وهي المختصة في التقليد بتسليم الأسرار فماً لأُذن
من أُناس رأوا وعاينوا وخدموا
» الكلمة « والكلمة هنا ليست كلمة منطوقة؛ بل هو » الكلمة «المشخَّصة
أو المؤقْنمة أي
hypostatized لأنها تقبل المعاينة والخدمة.

وكلمة
“عاينوا” جاءت “
aÙtÒptaiوهي شهادة العين!! أي الذين
شاهدوا المسيح وخدموه
في أيام جسده.
ويُلاحِظ القارئ المتعلِّم أن هذه الكلمة طبيَّة وهي تعني المشاهدة العينية. ولكن
ما قيمة شاهد العيان إلاَّ أنه يعطي أول وأهم صورة موصوفة بدقة بعد الرؤيا
واليقين. وهذه الكلمة بالذات تُستخدم الآن في فحص حالات بعد الموت
autopsy فتعطي الانطباعات الشخصية عن الحالة.
لذلك أردف الطبيب لوقا مع شهود العيان “خدَّام الكلمة”، بمعنى أنهم رأوه وفحصوه
جيداً بمقتضى الوجود والتزامل والخدمة، وهكذا أصبحت روايتهم واضحة وصادقة بكل
يقين!! كل هذا يدفعنا لنقول إنه تواجه مع مريم العذراء القديسة والأُم، وسمع منها
ووعي كل ما حفظته في قلبها إلاَّ أنها أوصته أن لا يذكر اسمها!

وهنا يتضح للقارئ الباحث الذي يهمُّه البحث أن ق. لوقا سار
في منهج البحث العلمي
والتقصي في مساره القانوني حسب أصول البحث، فالتجأ إلى كل
المخطوطات والقصاصات، ولمَّا استكمل مادة البحث عاد بعدها يبحث ويتقصَّى عن
الينابيع الحية الأُولى التي كانت على يديها تجري الأمور لتحقيق صحة الأمور
ويقينها. وقد استخدم هذا المنهج العلمي الملهم والموهوب في كل ما قرأ وسمع وكتب.
وهنا يضع ق. لوقا الأساس الموثوق به للأخبار التي تخص المسيح. فالأولون أخبرونا
بالأمور كما هي، علماً بأنهم كانوا منذ البدء معاينين وخدَّاماً للكلمة. فهنا
الثقة بالخبر المسلَّم إلينا يقينية.

«سلَّمها إلينا»: paršdosan

كلمة
«سلَّمها» هنا هي نفس الكلمة التي تفيد “التقليد”، فالتقليد الكنسي هو
“التسليم
par£dosij
سواء بالخبر أو العمل. فالإيمان تسليم والمعمودية تسليم. والتسليم أو التقليد
تعبير فني تِقْنِيٌّ، لأن تسليم الشيء هو نقله من يد إلى يد أو من فم إلى فم أو من
كتاب إلى كتاب، وهذا يحوي أدق فنون النقل وتوصيل المعلومة دون أي خلل أو إضافة أو
حذف أو تنويع أو تغيير. وهنا نكون قد بلغنا إلى أعظم أسرار الكنيسة والإنجيل وهو
معنى التقليد وأهميته. فإن كانت الكنيسة حيَّة الآن فلأن تسليم الإنجيل في الكنيسة
قائم على أدق قواعد وأصول النقل والتسليم. فنحن نتقبَّل من الكنيسة في قراءة
الإنجيل اليوم ما نطقه المسيح وسلَّمه لتلاميذه يوم نطقه وعلَّم به:

+
» فأمدحكم أيها الإخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء، وتحفظون
التعاليم كما سلَّمتُها إليكم.
«(1كو 2:11)

+ » لأنني تسلَّمت paršlabon من الرب ما
سلَّمتُكم
paršdwka أيضاً … «(1كو 23:11)

+ » فإنني
سلَّمت
paršdwka إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً: أن المسيح مات من أجل خطايانا
حسب الكتب
«(1كو 3:15)، هنا
حديث عن حقائق موثوق بها.

«الذين كانوا منذ البدء معاينين
وخُدَّاماً للكلمة»:

«معاينين»:
aÙtÒptai
أي
لا يتكلَّمون إلاَّ بما رأوا.

و«خُدَّاماً»: Øphrštai وتقبل أيضاً di£konoi بمعنى تعيَّنوا بالروح القدس للكرازة
والمناداة بالإنجيل.

وهكذا
يضعنا ق. لوقا في مواجهة قوة الإنجيل الشديدة التماسك المنقولة بالعين والأذن
والفم كوسائل حفظ تؤمِّنها النعمة كذاكرة محفوظة بالروح القدس.

وقوله:
«منذ البدء»، يعني بدء خدمة المسيح العلنية:
» فينبغي أن
الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج، منذ
معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه …
«(أع 1: 21و22). و«الكلمة» هنا تفيد الرسالة الإنجيلية
بكاملها دون أي تغيير، حيث يقصد بها تسجيل كلام المسيح وأعماله:
» الكلمة التي
أرسلها إلى بني إسرائيل يبشِّر بالسلام بيسوع المسيح. هذا هو رب الكل…
«(أع 36:10)

ويقول
العالِم فوّييه([1])
إن اسم الكلمة هنا
(hypostatized) أي مؤقنم، فهو يعني » الكلمة «ابن الله
الذي يُرى ويُشاهد ويُلمس كما جاء في (1يو 1:1)
» الذي كان من
البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة
الحياة
«

3:1 «رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ
تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى
التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ».

«رأيت أنا أيضاً»: œdoxen
k¢mo…

هنا
يدخل ق. لوقا بمشروع إنجيله، معتمداً على أنه استحسن عملهم، لأن كلمة رأيتُ هنا لا
تعني الرؤية أو المشيئة، ولكن الاستحسان
œdoxe أي استحسن لنفسه أن ينضم إلى هؤلاء.

«تتبَّعت»: parhkolouqhkÒti

تأتي
في اليونانية بمعنى فحصت.

«على التوالي»: kaqexÁj

وهو
اصطلاح فني دقيق، وصحتها حسب اليوناني ليس على التوالي بل بنظام وترتيب. وهنا تدخل
الآية في ثوب آخر ينطق بالروعة والجمال:
» استحسنت أنا
أيضاً إذ فحصت كل شيء من الأول بتدقيق ووضعته مرتَّباً بنظام، أن أكتب إليك أيها
العزيز ثاوفيلس
«

وهذا
هو سر إنجيل ق. لوقا أنه لمَّا حصل على الحقائق الأُولى عاد فرتَّبها على أساس
منهج مدروس لتعطي المبادئ الأساسية للإنجيل، لأن الذي ينقل التقليد المرئي
ويرتِّبه بدقة وأمانة يكون كأنه رأى. فوثوق ق. لوقا من الأدوات التي اعتمد عليها
في تسجيل إنجيله، وهم الرسل الذين خدموا الخلاص، والأخصاء جداً الذين عاينوا الرب
واستُعلنت لأذهانهم شخصيته، جعل تدوين الإنجيل كرازة بالمنظور والمسموع؛ حيث اجتمع
صِدق خُدَّام الكلمة، مع أمانة الذين رأوا وعاينوا، مع تتبع ق. لوقا وتدقيقه. ثم يضيف ق. لوقا ظرفي زمان يجعلان التتبع
والتدقيق يشملان كل شيء فعلاً.

الظرف
الأول: من الأول:
¥nwqen، والظرف الثاني: بترتيب kaqexÁj

فـ«من
الأول»
تُفيد منذ بدء ظهور المسيح وظهور الخدمة وتُفيد ضمناً ميلاده، وبترتيب
بمعنى دون أن يسقط شيء، فكل حادثة مرتبطة بما قبلها وما بعدها وهكذا. وهنا الفحص
الدقيق والترتيب يخص معاني الأحداث. وبهذا يأخذ الإنجيل معناه الروحي كأخبار سارة
قائمة على أساس مُتْقَن يعطي الحوادث معناها. فالميلاد يعطي للصليب معناه، والصليب
يعطي للقيامة معناها، والصليب والقيامة يعطيان الخلاص كماله ودوامه.

ويعود
في النهاية يخاطب العزيز ثاوفيلس كغاية الإنجيل وكأنه يخاطب القارئ بلا شك.

4:1
«لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ».

«لتعرف صحة الكلام»:

هنا
يكشف ق. لوقا قيمة إنجيله بالنسبة للتعاليم الأخرى التي تقبَّلها ثاوفيلس شفاهاً،
فهو التعليم الصحيح المسلَّم من المسيح للتلاميذ. وواضح أن ثاوفيلس كان قد تقبَّل
تعليماً مبدئياً عن الإيمان المسيحي اكتشف فيه ق. لوقا أنه ناقص أو محرَّف، وهنا
اشتعلت نفسه برغبة تعليم الحق لصديقه أو عزيزه ثاوفيلس. وطبعاً كانت دائرة التعليم
الصحيح عن المسيح في نظر ق. لوقا هي في شخص المسيح نفسه، فهو ابن الله القدوس الرب
الإله المحيي والمخلِّص والفادي، ثم في تعليمه المجاني عن الفداء والخلاص للجميع
بلا استثناء.

«صحة»: ¢sf£leian

وهذه
الكلمة من خصائص الإيمان المسيحي، فهي تفيد اليقين الموثوق والمعتمد.
فإنجيل ق. لوقا كانت “الأسفاليا” محور خبر الإيمان الذي قدَّمه.

 

ثانياً:
ميلاد المسيح وصبوته السعيدة

(5:152:2)

 

أن
يبدأ ق. لوقا إنجيله بميلاد المسيح فهذا بمثابة إدخال حياة المسيح كُلِّها وأعماله
في دائرة سر الله. فكوننا نعرف يقيناً ومن فم شهود عيان أن المسيح وُلد من الروح
القدس ومن عذراء قديسة، يعني أننا صرنا من أول الطريق وفي أول خطوة أمام حياة
إنسان مقتدر اقتدار الله في كلامه وأعماله. فهذا كان رأي خُدَّام رئيس الكهنة
الذين أُرسلوا ليقبضوا عليه عنوة ويحضروه، فبعدما وقفوا أمامه وسمعوا كلامه لم
يستطيعوا أن يلمسوه بل ذهبوا مذهولين. ولمَّا سألهم رئيس الكهنة: لماذا لم تأتوا
به؟ كان ردُّهم:
» لم يتكلَّم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان «(يو 46:7). فهو إن تكلَّم يتكلَّم كإنسان، ولكن ليس كأي إنسان قط.
وإن عمل يعمل ولكن يبدو عمله أنه ليس عمل إنسان قط. فميلاده من العذراء القديسة
أعطاه هيئة إنسان، ولكن ميلاده من الروح القدس أعطاه أن يُظهر قوة الله:
» الله ظهر في
الجسد
«(1تي 16:3). فلأنه
وُلد كإنسان أمكن أن يموت بالجسد لمَّا حمل خطايانا في جسده، ولكن لأنه وُلد من
الروح القدس قام من الأموات، ولأنه وُلد كإنسان دُعي ابن الإنسان، ولأنه وُلد من
الروح القدس دُعي القدوس ابن الله.

إذن،
لكي يسرد ق. لوقا كل حياة المسيح وأعماله وأقواله كان يتحتَّم أن يكشف أولاً سر
ميلاده من العذراء القديسة مريم ومن الروح القدس، وإلاَّ تصبح أقواله وأعماله غير
مفهومة.

كذلك،
فإن ميلاد المسيح من عذراء قديسة بالروح القدس كان بحد ذاته معجزة عظمى. وهكذا كان
ينبغي أن تتم هذه المعجزة العظمى ليصنع المسيح من واقع حياته وكيانه هذه المعجزات
الكبرى التي أكملها في حياته. لذلك صحَّ قول إشعياء النبي في التعبير عن اسمه:
» ويُدعى اسمه
عجيباً
«(إش 6:9).
نعم، فالذي دُعي اسمه عجيباً فهو حتماً يكون صانع عجائب.

بهذا
نرى أن ميلاد المسيح في حقيقته الإلهية هو مفتاح فهم شخص المسيح وأعماله وكل
أقواله. أمَّا لماذا بدأ ق. لوقا بسرد رواية ميلاد المعمدان ثم المسيح، وبعد ذلك
تشابكا معاً حتى افترقا بموت المعمدان، ذلك لأن ميلاد المسيح لم يبدأ من بيت لحم
بل من وعد سابق سحيق الزمن بدأ من زمن إبراهيم بل من فم الله لحواء، فهو النسل
الذي سيسحق رأس الحية، وهو النسل الذي ستتبارك فيه كل أُمم الأرض. لذلك تحتَّم أن
يكون هناك شاهدٌ للنبوَّة وممثلٌ للعهد القديم يسبق المسيح ليسلِّمه العهد
ويسلِّمه النبوَّة:

+
» وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال
لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس. وأنا
قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.
«(يو 1: 33و34)

والمُلاحَظ أن خدمة المسيح بدأت عندما انتهت خدمة المعمدان:
إذ لمَّا سمع المسيح أن يوحنا أُسلم للموت، صعد المسيح إلى الجليل ليبدأ كرازته
(مت 12:4)، وعندما سمع المعمدان أن المسيح بدأ أعماله الإعجازية قال:
» إذاً فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك
يزيد وأني أنا أنقص … مَنْ له العروس
فهو العريس، وأمَّا صديق العريس الذي يقف
ويسمعه يفرح فرحاً من أجل صوت العريس. الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من
الأرض هو أرضي، ومن الأرض يتكلَّم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع
«(يو 3: 2931)، » أنا
أُعمِّدكم بماءٍ ولكن يأتي مَنْ هو أقوى مني … هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار
«(لو 16:3). هكذا لابد من الماء، وهكذا لابد من الروح القدس.

وخدمة
المعمدان سجَّلتها الكنيسة في خزانة طقوسها لتكون هي بداية الغسل للتغيير، وبعدها
الميلاد بالروح للبس الإنسان الجديد.

 

( أ ) البشارة بميلاد يوحنا المعمدان

(1: 525)

 

5:1 «كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ
الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا،
وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ».

ابتدأ
القديس لوقا هنا يوقِّع حركات السماء على حركات الأرض. قالوا: إن ق. لوقا يؤرِّخ،
ولكن ق. لوقا لم يؤرِّخ، فالتأريخ هو حصر الحوادث الأرضية في الزمن، وق. لوقا لا
يحصر حوادث لأنها حركات سمائية غير محصورة. لأن الأمر الذي يتحتَّم على القارئ أن
يدركه، بدءَ ذي بَدء، أن أفعال الله والسماء ليست زمنية وليست محصورة، لأن فعل
الله أزليٌّ هو، لا يختص بالزمن، ليس له ماضٍ ولا حاضرٍ ولا مستقبل. فحينما نقول
إن الله عمل، فعمل الله معمول منذ الأزل ولا نهاية لما يعمل. فحينما يقول الله أو
يعمل تنطبع أقواله وأعماله على صفحة الزمن. الزمن تُطوى صفحاته ويتلاشى، وكلمة
الله وعمله باقية كما هي لا تتغير ولا تزول.

فالقديس
لوقا هنا يسجِّل أقوال الله وحوادث عمله لتصبح هي الأخبار السارة لمن يقبلها ويؤمن
بها، وهذا هو الإنجيل. والإنجيل هو قول الله وعمله وهو باقٍ ببقاء الله. فهو ليس
مجرَّد خبر ولا هو مجرَّد عمل، ولكنه فعل يؤثِّر في الزمن ليلغيه ويبقى هو فوق
الزمن وبعده. وكل مَنْ يخضع لفعل الله أي كلمته وعمله يبقى بقاء الفعل:
» الكلام الذي
أكلِّمكم به هو روح وحياة
«(يو 63:6)، » مَنْ آمن بي ولو مات
فسيحيا، ومَنْ كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد.
«(يو 11: 25و26)

«هيرودس»:

هو هيرودس الكبير وهو واحد من عائلة عيسو، أدومي، ومعروف أن
عيسو كان الأخ البكر ليعقوب. وورث هذا الملك كل مقومات البغضة لليهود بني يعقوب،
وقد عيَّنه الرومان ملكاً على اليهود سنة 40 ق.م وحكم من سنة 37 ق.م حتى سنة 4
ق.م. وكان قاسياً، حَكَمَ اليهود بيد من حديد وكان سفَّاكاً للدماء، وذبحه لأطفال
بيت لحم يليق بأخلاقه (مت 16:2). وبموته اقتسم أولاده الملك: أرخيلاوس على
اليهودية وأدومية والسامرة، وأنتيباس على الجليل وبيرية، وفيلبُّس
على أراضي الشمال الشرقية الباقية (لو 1:3). ولكن الرومان أسقطوا أرخيلاوس سنة 6م
وتعيَّن بدلاً منه حكام رومانيون كان بيلاطس السادس منهم. وهيرودس أنتيباس هو
المذكور في الإنجيل أيام خدمة المسيح، تولَّى سنة 4 ق.م حتى سنة
39 م، وهو الذي تزوَّج هيروديا وقطع رأس المعمدان هدية لابنتها
الراقصة. أمَّا فيلبُّس (4 ق.م 34م) فكان حاكماً أيام خدمة المسيح.

وفي
غضون سنة 37 41م آلت كل هذه الأراضي إلى أغريباس الأول الملك وهو ابن
أرسطوبولس (ابن هيرودس الكبير الذي مات سنة 7م)، وظل ملكاً حتى سنة 44م. وكان
يسمَّى في سفر الأعمال باسم هيرودس، وهو الذي قتل ق. يعقوب الرسول وحضَّر لقتل ق.
بطرس ولكنه تعظَّم. وهو الذي ضربه الله ووقع ومات وأكله الدود (أع
12: 2023). وفي سنة 50م نُصِّب ابنه أغريباس الثاني وكان ملكاً على
شمال فلسطين وحكم حتى سنة 93م([2])
ومات. وهو الملك أغريباس الذي وقف أمامه ق. بولس يحاجج في أمر حبسه (أع 13:25
إلخ).

«كاهن اسمه زكريا»:

واسم
زكريا يعني: “الله يتذكَّر”، وكأنما فعلاً تذكَّر الله شعبه في أيام خدمته.
وخدمة الكهنة للهيكل كانت مقسَّمة إلى 24 فرقة، وكل فرقة عددها من 49
عائلات (1أي 24: 119). وباستثناء
الأعياد الثلاثة الكبرى كانوا يتناوبون على الخدمة أسبوعين كل سنة(
[3]).
أمَّا فرقة أبيّا
‘Abi£ المذكورة هنا ومعناها
يهوه الآب، فقد كانت رتبتها الثامنة في الجدول (1أي 10:24). وكان يتحتَّم على
الكاهن أن يتزوَّج عذراء من إسرائيل (لا 7:21)، ولكن أن يتزوَّج بنت كاهن فكان هذا
امتيازاً
([4])، كما كان
حظ زكريا الكاهن. وقول ق. لوقا “بنت هارون” يعني بها بنت كاهن، وكان اسمها
أليصابات وربما كان معناه الرب نصيـبي. وللمناسبة البديعة فامرأة هارون أخي موسى كان
اسمها أليشابع الذي هو أصل اسم أليصابات (خر 23:6).

وهكذا
ينتهي بنا المطاف إلى أن يوحنا المعمدان هو من أصل كهنوتي، والمعروف أن إيليا كان
من أصل كهنوتي واعتبر في التاريخ المقدَّس أنه “كاهن مسيَّا الأعلى”
([5]).

يلاحِظ
القارئ أن ق. لوقا بعد المقدِّمة التي خاطب بها ثاوفيلس العزيز، دخل مباشرة في
الأسلوب التسجيلي للعهد القديم إنما بقدرة وبلاغة يُحسد عليها، لأنه أُممي أصلاً،
حيث بدأ يتحفنا بالأسلوب القصصي المميَّز للسبعينية الذي ينضح بالأصالة والروح.

6:1 «وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ
اللهِ، سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ».

يسبق
القديس لوقا هنا الحوادث ليوضِّح للقارئ أنه ليس جزافاً أن يختار الله زكريا
وأليصابات لكي يبدأ بهما تنفيذه لعهده الأبدي الذي تكلَّم عنه جميع الأنبياء
وترقَّبوه وتمنُّوه.

«بارين»: d…kaioi

البر
هو ما يكتسبه اليهودي باتباعه نواميس الله، فهو مستوى أخلاقي عام، ولكن أن يضيف ق.
لوقا عبارة «أمام الله»، فيؤخذ في الحال البر بمفهوم التديُّن
المقبول في نظر الله الذي سِمَتُه الطاعة الشديدة لصوت الله، ويكمِّلها ق. لوقا
بقوله:
» سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه «

«بلا لوم»: ¥memptoi

وبهذه
الصفة الواضحة في حياة التقوى يهدف ق. لوقا أن ينبِّه ذهن القارئ لما سيأتي بعد
ذلك أنهما لم يُرزقا ولداً، حتى يكون القارئ على وعي أن عقمهما لم يكن بسبب خطية
أو عصيان أو تأديب من قبل الله. وهكذا نشعر أن ق. لوقا مخطِّط ماهر وموهوب ومقتدر
بالروح لكي يكتب إنجيلاً!! لأن العقم في العهد
القديم كان عقوبة من الله (لا 20:20؛ 2صم 23:6؛ إر 30:22، 30:36)، ولكن عقمهما كان
بتدبير إلهي لكي يكون الابن القادم من بعد عقم حاملاً جلال الله وقوته.

وفي رأينا أن طريقة ق. لوقا وأسلوبه المميَّز المنطبع بالعهد
القديم كان امتداداً إلهياً لمستوى العهد القديم، أي التوراة، كمدخل رسمي محكم
لأسلوب العهد الجديد، أي أن المسألة ليست اصطناعاً وإنما نعمة.

7:1 «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ
كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا».

فكون أنهما هو وامرأته يخدمان الهيكل ويعبدان الرب باستقامة
ولا يكون لهما ولد فهذا عارٌ عند اليهود، وقد حسبته أليصابات هكذا:
» هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي
فيها نظر إليَّ لينزع عاري بين الناس
«(لو 25:1). ولكن الذي عقَّد الأمور
جداً في رجاء زكريا وأليصابات من جهة أنه ربما يتحنَّن الله ويرزقهما بولد هو
كونهما كانا متقدمين في الأيام، أو بمعنى أوضح أنهما صارا شيخين وانحنى ظهراهما
وتوقف جهاز تناسلهما عن العمل. وهذا تدركه المرأة جداً أكثر من الرجل. ومعروف من
العهد القديم أن العقم والإنجاب كانت تعمل فيه يد الله بصورة فائقة للطبيعة لحساب
تدبيرات الله الأزلية. فإبراهيم وسارة افتتحا سجلاَّت الميلاد في الشيخوخة بتدخُّل
إلهي وإعلان، وبعدهما إسحق ورفقة، ثم يعقوب وراحيل،
وألقانة وحنة. ففي هؤلاء تدخَّلت يمين العلي ليولد ابنٌ
مختارٌ مدعوٌّ لتكميل مقاصد العلي، وهكذا يُحسب المولود ابن بركة يحمل البركة لشعب
الله، وابن الرجاء المحقَّق بقدرة الله ليحمل الرجاء للأجيال الآتية. ولكن أن يولد
للعذراء ولدٌ فهذا ابن المستحيل ليحمل المستحيلات لبني الإنسان، هو البركة في
جوهرها وهو الرجاء عينه، رجاء الله الذي يتحقَّق به رجاء الأجيال والدهور كلها.

8:1
«فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ».

«يَكْهَنُ»: ƒerateÚein

وتعني
يمارس خدمة الكهنوت حسب الطقس الموضوع
™n tÍ t£xei (التي تُرجمت » في نوبة «، وهي أصلاً كلمة تفيد النظام العملي المقرر في خدمة الكهنوت داخل
الهيكل (1أي 19:24 في السبعينية) المحسوبة أنها تُؤدَّى أمام الله أي في حضوره.
وكان الطقس في العهد القديم يُعبِّر عن حضور الله في الزمان والمكان كعلاقة دائمة
ارتاح الله فيها ليقترب من شعبه، يسمعهم ويتكلَّم معهم. أمَّا في العهد الجديد،
فأصبح حضور الله غير محصور في زمان أو مكان. فبعد ميلاد ابن الله الكلمة وأخذه جسد
الإنسان ليحضر فيه ويسكن، حضوراً وسكناً أبدياً دائماً، ارتفع مستوى الطقس الإلهي
ليملأ كل زمان ومكان، حيث الزمان أصبح زمان الخلاص المنزَّه عن التغيير، والمكان
أصبح هو هيكل الإنسان:
» إنكم هيكل الله وروح
الله يسكن فيكم
«(1كو
16:3)،
» فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله. «(1كو 20:6)

ولكن
بسبب تأسيس المسيح لسر العشاء وهو سر الشكر الجماعي، دخل الطقس في العهد الجديد
التزاماً، حيث تحضر الجماعة في حالة صلاة وحب وألفة شديدة تمهيداً لحضور المسيح:
» لأنه حيثما
اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم
«(مت 20:18). وتُقدَّم تقدمة الشكر المحسوبة أنها ذبيحة من خبز وخمر
كما أسسها المسيح ليلة العشاء الأخير لتحمل بالسر الإلهي ذبيحة المسيح على الصليب،
فيصير الخبز هو جسد المسيح والخمر هو دم المسيح، وتشترك الجماعة معاً في الأكل
والشرب منهما تحقيقاً لاحتواء المسيح في أرواحنا. وبهذا وبالإيمان والصلاة يتحقَّق
فينا ما حققه المسيح بالجسد من أجلنا، أي نصبح متحدين في موت المسيح وقيامته،
وبهذا ننال الحياة الأبدية فنُحسب أننا وُلدنا ثانيةً كأعضاء في ملكوت الله
الجديد.

وبهذا
أصبح الطقس في العهد الجديد هو عمل إلهي فائق يتم فيه سر الله الذي أكمله الآب في
ابنه ليصبح كل من يتقبَّله يتقبَّل فيه كل ما عمل المسيح، بل ويتقبَّل منه المسيح
نفسه! وما يُقال ويتم في ذبيحة الشكر يُقال ويتم في المعمودية، فكل طقوس الكنيسة
أصبحت أعمالاً إلهية يتقبَّل فيها الإنسان أسرار المسيح للشركة فيه لنوال كل ما
للمسيح. لذلك تختلف الطقوس المسيحية عن أي طقوس في العهد القديم أو غيرها من
الطقوس في أنها أعمال تتم فيها أسرار الحياة الأبدية.

9:1 «حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ،
أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ».

«حسب عادة الكهنوت»: kat¦
tÕ œqoj

“عادة
الكهنوت” أي عادة خدمة الهيكل في تقديم ذبيحة البخور مع ذبيحة المحرقة اليومية مرة
مساءً ومرة صباحاً. وذبيحة المحرقة تُقدَّم حسب أصول وترتيبات خاصة من ضمنها أنه قبل
ذبيحة محرقة الصباح وبعد ذبيحة محرقة المساء (خروف ابن سنة)، تُقدَّم ذبيحة
البخور على مذبح البخور داخل الهيكل، علماً بأن خدمات الهيكل الكهنوتية اليومية
المختلفة تحتاج إلى 18000 كاهن([6])،
وغير مصرَّح للكاهن أيًّا كان أن يُقدِّم ذبيحة بخور إلاَّ مرَّة واحدة في حياته

إذا وقعت عليه القرعة. لذلك كان يعتبرها الكاهن أنها فرصة العمر وبركة حياته كلها
أن يبخِّر في هيكل الرب.

10:1 «وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ
يُصَلُّونَ خَارِجاً وَقْتَ الْبَخُورِ».

وهكذا
بينما كان زكريا الكاهن يكمِّل خدمته في تقديم ذبيحة البخور داخل الهيكل، كان كل
الشعب يصلِّي ويبتهل خارجاً بكل هدوء وسكون وصمت كامل، حيث اعتاد الشعب أن يحضر في
مواعيد تقديم ذبيحة البخور. وكان ينتظر إلى أن يفرغ الكاهن من تقديم خدمته لينصرف.

وهنا
يلزم أن نعود إلى العلماء الذين شرحوا إنجيل ق. لوقا في هذا المكان إذ يقولون إن
حضور الشعب كان مجرَّد حضور للفرجة، أمَّا نحن فنقول إن وقت رفع البخور في العهد
القديم كما سبق ونبَّهنا على الآية (8) هو وقت لحلول الله في هيكله ليتقبَّل
البخور الصاعد إليه. وكان مناسبة وحيدة لكي يكلِّم الله إسرائيل عن طريق كاهن رفع
البخور، وهذا الأمر له إشارة واضحة في سفر التثنية:
» يعلِّمون
يعقوب أحكامك وإسرائيل ناموسك، يضعون بخوراً في أنفك ومحرقات على مذبحك
«(تث 10:33). ويُقال إن يوحنا هركانوس اقتبل في وقت البخور
استعلاناً من الله، وكان رئيس كهنة([7]).

والآن
هي فرصتنا لكي نقول للقارئ إن رفع البخور وهو يُحسب رمز العبادة
الخاشعة المرفوعة والصاعدة إلى السماء قديماً وجديداً في باكر قبل
تقديم ذبيحة القداس في الكنيسة على المذبح، هو بحد ذاته ذبيحة إلهية برفع البخور،
وهو بحسب التقليد المقدَّس الأول (القديم) هو أيضاً وقت حلول الله في وسط شعبه
ولا نقول في الهيكل بعد. لذلك حرصت الكنيسة حسب تقليدها في العهد الجديد المُلهم
والمُرتَشِد بالنعمة أن تُقدم الأواشي، أي صلوات الكنيسة، من أجل المرضى
والمسافرين والمعوزين والمضيَّق عليهم والذين في السبي والسخرة في المناجم،
والتائهين في الجبال والبراري وشقوق الأرض، والذين ليس لهم مأوى، كذلك من أجل مياه
النيل والزرع والعشب ومن أجل كل شجرة مثمرة، ثم صلاة من أجل الرياح والهواء
والعواصف، ومن أجل سلام الكنيسة والذين في كل مَنْصِب، كما تُقدَّم الصلوات من أجل
الموتى في رفع بخور المساء. بمعنى أن الكنيسة تجمع كل صلواتها وتُقدِّمها لله في
وقت رفع ذبيحة البخور في باكر وعشية (المساء). وفي أثناء رفع البخور يدور الكاهن
على كل فرد من أفراد الشعب رجالاً ونساءً ويقف أمامه لحظة وكأنه يجمع صلوات الشعب
فرداً فرداً، ثم يعود أمام الهيكل ويقف مصلِّياً رافعاً صلوات الشعب لله. وفي
أثناء الذبيحة ودورة البخور ـ والذبيحة فوق المذبح ـ يعود ويمر في دورة البخور
ليجمع اعترافات الشعب فوق الشورية (المجمرة) فرداً فرداً، ثم يقف على باب الهيكل
ويقول: “اقبل إليك اعترافات شعبك”. ثم يخطو داخل الهيكل ويرفع الابروسفارين، أي
الغطاء الذي يغطي الكأس (الدم)، ويعطي البخور فوق الدم، بمعنى أن يضع اعترافات
الشعب بخطاياهم على الدم. هذا عمل الكنيسة
رسمياً،
ولكن لا يُغني عن تقديم
صلواتنا، كل إنسان في مخدعه صباحاً ومساءً. فما
كان من صناعة بني هارون في العهد القديم قد صار من واجب ونصيب كل مؤمن
بالمسيح في العهد
الجديد:

+
» وأمَّا أنتم فجنسٌ مختارٌ (الشعب المسيحي كله)، وكهنوتٌ
ملوكيٌّ
( على طقس مَنْ هو على طقس ملكي صادق ملك الملوك ورب المجد)، أُمَّةٌ
مقدَّسةٌ، شعبُ اقتناءٍ (أي مخصَّص لله)، لكي تُخبِروا بفضائل الذي دعاكم مِنَ
الظلمةِ إلى نورهِ العجيب. الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأمَّا الآن فأنتم شعبُ
الله. الذين كنتم غير مرحومين، وأمَّا الآن فمرحومون.
«(1بط 2: 9و10)

وكان
زكريا الكاهن قبل الإعلان الإلهي واقفاً أمام مذبح البخور الواقع في القدس بين
مائدة خبز الوجوه والمنارة الذهب([8]).

11:1
«فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ».

«فظهر»: êfqh

يلاحِظ
القارئ أن الملاك ظهر عياناً وليس برؤيا وخطف العقل، فهو ظهور ملائكي حقيقي
وواقعي. ونقرأ عن ظهور ملائكي آخر واقعي وحقيقي أثناء صلاة المسيح في جثسيماني:
» وظهر له êfqh ملاك من السماء يقويه «(لو 43:22). وكان ظهور الملاك عن يمين مذبح البخور، حيث اليمين رمز
الكرامة وتعبيراً عن رضى الله، بينما زكريا يضع البخور فوق المذبح على الجمر
المتقد ثم ينطرح على الأرض ساجداً حسب ما هو مدوَّن بالطقس([9]).

12:1
«فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ».

«اضطرب ووقع عليه خوف»: ™tar£cqh – fÒboj

محيط
الإنسان الطبيعي ضيِّق، واعتياده على المنظور والمسموع فقط جعله يرهب بشدة ما هو
غير منظور وما لم تألفه العين، كذلك يجزع من سماع صوتٍ غير ما تعوَّدته الأُذن،
لأن طبيعة الإنسان المخلوق من تراب الأرض لا تحتمل الاقتراب من الطبيعة السماوية
والنظر إليها. فلأول وهلة إذا ظهر ملاك يكون ظهوره مخيفاً للنفس، حيث لا تهدأ
النفس حتى تأخذ رسالة السلام والأمان كعطية
سماوية ترتاح لها النفس، فيسهل عليها قبول الرسالة من فوق. والسبب الأساسي في ذلك
هو الغربة التي عاشها الإنسان بعيداً عن الله وملائكته وغلاف الخطيئة الذي طمس
العين عن الرؤيا والأذن عن سماع ما لله. ولكن إذا ما حلَّت النعمة في الإنسان
وارتاح فيه روح الله تُرفع هذه القساوة وتنفتح
عين الروح وتنجلي الرؤيا
وينجلي السماع، ولا يعود الإنسان يجفل من ظهور غير المنظور السمائي.

13:1 «فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَفْ
يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ
سَتَلِدُ لَكَ ابْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا».

دائماً
أبداً حينما يعطي الله أو الملاك أمراً بـ
» لا تخف «يكون
المرافق لهذا الأمر قوة روحية خاصة ترفع في الحال كل الإحساس بالرهبة والخوف،
ويكون عوضه هدوء وسلام كبير للنفس، فيستقبل الإنسان الرسالة بملء الوعي والسلام
والفرح.

«طلبتك قد سُمعت»:

أي
طلبات؟ لأول وهلة يفكِّر الإنسان أن طلبته وصلواته كانت من أجل النسل الذي حُرم
منه. ولكن هل يمكن لكاهن وقور متقدِّم في الأيام أُعطي نعمة أن يدخل ليقدِّم ذبيحة
بخور أمام الله عن إسرائيل الذي حُرم من وعد المسيَّا هذه الدهور كلها، وطلباته
التي وُضِعَت في فمه حسب الطقس أن يطلب المراحم من قِبَلِ الله أن يتحنَّن ويُرسل
مسيَّا الموعود، هل يمكن أن يغفل الموقف الرهيب وواجب الكهنوت المُلِح وهو واقف
كمرَّة وحيدة أُعطيت له أن يقدِّم ذبيحة بخور عن الشعب الواقف خارجاً يؤازره ويلح في الصلاة والطلبة من أجل مراحم الله من أجل
المسيَّا، فهل بعد هذا
يتذكَّر حرمانه
من النسل الذي انقطع رجاؤه نهائياً منذ 40 سنة أو أكثر بسبب شيخوخة أليصابات

العاقر؟

ولكن
الرب لا ينسى صلوات ودموع الزوجين كل سني شبابهما وهو متمهِّل، لأن زمان يوحنا
المعمدان مربوط بزمان “يسوع”، وزمان “يسوع” لم يَحِنْ بعد! ولمَّا حان الزمان حلَّ
زمان استجابة الطلبة، طلبة زكريا وأليصابات وطلبات الشعب والآباء والأنبياء. وهكذا
ضمَّ الله طلبات البخور من أجل إسرائيل والوعد مع طلبات زكريا الكاهن وأليصابات.
وكان اسم «يوحنا» القاسم المشترك الأعظم، فـ“الله تحنَّن” على إسرائيل وعلى
زكريا وأليصابات، لأن هكذا هو معنى
» يوحنا « فكما أن زكريا وأليصابات ظلاًّ يطلبان ويتوسلان من أجل النسل حتى
شاخا وانقطع الرجاء، هكذا إسرائيل ظلَّت تطلب المسيَّا حتى كلَّت عيناها وشاخت
وانحنى ظهرها. لهذا كان ينبغي أن يأتي يوحنا هكذا متأخراً جداً جداً في حساب زكريا
ليناسب العمل العظيم الذي جاء يكمِّله بعد أن تأخَّر جداً جداً العهد بالنسل
الموعود لإبراهيم!

لهذا
كان مجيء يوحنا المعمدان يعبِّر عن جمال المناسبة بالنسبة لمجيء يسوع
لهذا عندما تقابلا معاً وهما لا يزالان في البطن جاءت التحية حارة حتى ارتكض
الجنين في بطن العاقر تحية للجنين في بطن العذراء. فالأرواح تعارفت قبل الأجساد!!

14:1 «وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ،
وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ».

«فرح وابتهاج»: car£ –
¢gall…asij

ليس
فرح كفرح زكريا وليس ابتهاج كابتهاج أليصابات، لا لأنهما رُزقا ابناً في شيخوختهما
وحسب، ولكن لأنهما رُزقا نبيًّا وأعظم من نبي. لأن كل نبي وُلد ليتنبأ، ولكن يوحنا
وُلد ليضع يده على المسيَّا نفسه ويُسلِّمه النبوَّة بكل روحها ويشاهد الروح
نازلاً عليه وتنفتح عيناه ويراه ابناً لله. لمَّا رأت عينا زكريا مولوده يوحنا نطق
معبِّراً عن الفرحة والابتهاج التي تنبأ بها له الملاك فقال:
» وأنت أيها
الصبي نبي العلي تُدعى لأنك تتقدَّم أمام وجه الرب لتعدّ طرقه
«(لو 76:1). لم تكن فرحة زكريا لأنه صار له ابنٌ، بل لأن الله
اختاره ليكون أباً لنبي يُعِد طريق المسيَّا!

«وكثيرون سيفرحون بولادته»:

«كثيرون»:
pollo‹

كلمة » كثيرون «أصلاً
في العبرية تعبير لا يعني فقط الكثرة بل تتضمَّن معنى “الكل”، فهي ليست “كثرة”
ولكن “كليِّة”([10]).
فكلمة
» كثيرون «تأتي هنا في اليونانية مرادفة لمعنى كل
الشعب

p©j Ð laÒj كما جاءت في (لو 10:2). وقوله » سيفرحون بولادته «لا تعني الولادة بحد ذاتها ولكن تعني “الفرح بمجيئه”، لأن يوحنا
المعمدان لم يشعر به الشعب إلاَّ بعد ظهوره في
البرية كارزاً
بقرب مجيء الرب.

15:1
«لأَنـَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ
يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِىءُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ».

«لأنه يكون عظيماً أمام الرب»:

عبارة
» أمام الرب «جاءت في اليونانية
بمعنى: “في عَيْنَي الرب” أو “في تقديره”. فهنا تقدير يوحنا المعمدان في عَيْنَي
الرب يتركَّز في شخصيته أولاً، وهذا ما عبَّر عنه المسيح بأقوى تعبير. فمن أوصاف
المسيح التي أعطاها للمعمدان والتي تكشف عن مدى إعجابه بشخصيته قوله:

+
» ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبةً تحركها الريح؟

بل
ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنساناً لابساً ثياباً ناعمة؟…

بل
ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبياً؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي!

لأني
أقول لكم: إنه بين المولودين من النساء ليس نبيٌّ أعظم من يوحنا المعمدان.
«(لو 7: 2428)

وواضح
من وصف الرب أن يوحنا كان ذا شخصية قوية وبأسٍ، وكان متقشِّفاً ناسكاً فقيراً
نذيراً للرب يطيل شعره قانونياً (عد 5:6)، وإنه تنبأ عن قرب ملكوت الله كما رآه
بالعيان، وافتتح الطريق إليه ومهَّده بتعليمه وصراخه. إذ لم يُسْمَع عن كل شخصيات
العهد القديم جميعاً من استطاع أن يقول للفريسيين والصدوقيين الذين جاءوا ليعتمدوا
منه:
» يا أولاد الأفاعي مَنْ أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي «(مت 7:3). ولم يَقُمْ نبيٌّ استطاع أن يوبِّخ ملكاً في وجهه وأن
يقول له لا يَحِلُّ لك!! كما فعل يوحنا المعمدان.

وكونه
لم يشرب خمراً ولم يَذُقْ مُسكراً([11])
فهو لأنه نذر نفسه لله وكرَّس حياته لخدمته منذ فجر شبابه، فإنه عوض الخمر يقول
الملاك إنه يمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه. فقد حدث ذلك بالفعل لمَّا دخلت
مريم القديسة وهي حامل بالرب في بطنها وأعطت السلام لأليصابات، فأصاب السلام
الجنين في بطنها أيضاً وهو المعمدان.

وهكذا
ندخل معاً أيها القارئ في جو الملائكة والنبوات العالية وحركات الروح القدس وهي
تخط خطوطها الإلهية على وجه التاريخ لتُرسي الأساسات الأُولى في بناء الخلاص
الشامخ.

والجو
حقـًّا رهيب ومشحون بطاقة الروح القدس، التي يكاد الإنسان أن يحسَّها وهي تهز
كيانه.

16:1
«وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمْ».

«يرد كثيرين من بني إسرائيل»: ™pistršyei

كلمة » يَردُّ «هنا
تعني “يُغيِّر ويرجع بالخطاة إلى التوبة”، وهو اصطلاح دخل المسيحية بمعنى “التوبة
=
ميطانيا”، ولكن في العبرية تعني التغيير من عبادة الأوثان
التي ضرب بها شعب إسرائيل إلى عبادة الرب إلههم.
كما يُعتبر يوحنا
مجدِّداً أخلاقياً وهو ما أشار إليه ملاخي النبي:
» ها أنا
أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء
على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلاَّ
آتي وأضرب الأرض بلعنٍ
«(مل 4: 5و6)، ومعروف أن هذا كان
عمل إيليا النبي
سابقاً.

17:1
«وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ
الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ
يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدًّا».

«ويتقدَّم أمامه»: proeleÚsetai أو proseleÚsetai وهي الأصح

وقد
وردت في بعض المخطوطات بوضعها الثاني وتُحسب خطأً بسيطاً من الناسخ اليوناني، لأن
الكلمة أصلها
prošrcomai أي “يتقدَّم أمام” وجاءت بهذا المعنى في (لو 47:22).

وهذا
الاصطلاح يفيد تهيئة اتجاه عمل وفكر يوحنا المعمدان كسابق للرب يُعِدُّ الطريق
أمامه:

+
» وأنت أيها الصبي نبي العلي تُدعى لأنك تتقدَّم أمام وجه الرب
لتعد طرقه لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم.
«(لو 1: 76و77)

والملاك
يتكلَّم هنا بقوله:
» أمامه « والهاء هنا تعود على الشخص السابق في الآية السابقة وهو » الرب إلههم « فهنا إشارة الملاك إلى أن المسيح هو “الرب الإله” بالنسبة لشعبه.

كما
أن قوله:
» يتقدَّم «هنا يعني يسير أمامه
على الأرض، وهي إشارة واضحة لتجسُّد الرب الإله ومسيرته على الأرض. وعمل يوحنا
يشبه عمل إيليا بالنسبة ليهوه الرب الإله وسط الشعب، أي أن نفس فكر وعمل إيليا
يكون ليوحنا المعمدان، وبالتالي وحتماً روح إيليا وقوته قد أُعطيت له من الله في
ذلك الزمان، بمعنى أن يوحنا المعمدان هو بالضرورة إيليا عائداً من وراء السماء.

ويلزم
هنا توضيح شخصية يوحنا المعمدان أنها ذات طابع ملائكي فعلاً كما نص عليها ملاخي النبي
أيضاً في نبوَّته:
» ها أنا أُرسل ملاكي فيهييء الطريق أمامي ويأتي
بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه (المسيَّا) …
«(مل 1:3)، حتى أن التقليد الكنسي اعتبر يوحنا المعمدان بهيئة ملاك،
ورسمه بعض الرسَّامين بجناحين، ولكن هذا شطط، فهو كان إنساناً عادياً تحت الآلام
وذُبح على يد زانية. ولكن معنى قول
» ملاكي «هو خادمي
المُرسل أمامي. ولكن لا يمكن أن يفوت علينا قول ملاخي بالنبوَّة:
» ها أنذا «وقوله: » الطريق
أمامي
« فهنا المتكلِّم هو
يهوه الله الرب الإله مشيراً إشارة شديدة التعبير عن تجسُّده.

( أ ) «ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء
والعُصاة إلى فكر الأبرار»،

(ب) «لكي يُهيِّيء للرب شعباً مستعداً»:

هنا
عمل المعمدان على مرحلتين: الثانية معتمدة على الأُولى بصورة مطلقة. في شرح الجزء
الأول ( أ ) واضح أن مهمة المعمدان هي إعداد “الأسرة” بروح الأبوة للآب،
الذي يحنو على أولاده ويتعهَّدهم بالأخلاق والسلوك، حتى يقبلوا عطية الله الآب
كأبٍ للأسرة البشرية ككل في شخص ابنه يسوع المسيح. فإعداد الأسرة عماد الإيمان
بالله والمسيح. وفي أصل النبوَّة عند ملاخي يوجد أيضاً أن يرد قلوب الأبناء إلى
آبائهم، وهنا الرباط الأسري يبلغ مدى قوته وإعداده بروح المسيح ابن الله. فانعطاف
الآباء على الأبناء وانعطاف الأبناء على الآباء هو عماد قيام شعب مستعد لقبول روح
التجديد والدخول في مخافة الله ثم محبته.

أمَّا عودة فكر العصاة إلى فكر الأبرار فهو عودة ما تخلَّف
من روح الأسرة سواء آباء عصاة أو أبناء عصاة، هؤلاء يختصُّهم الله بنوع خاص جداً
من التعامل الداخلي الذي يسكبه الله بالنعمة في قلب المعمدان، ليجتذبهم إلى فكر
الأبرار سواء بالإغراء أو بالتخويف. وقد حمل المعمدان عوامل الاثنين، فبقامته
المديدة وشعره المُسْتَرسِلَ ووجهه النحاسي الذي لَفَحَتْه الشمس، وعينيه الناريتين
وثوبه الطويل المهلهل، ومنطقته الجلدية التي تقبض على حقويه كالخاتم للإصبع،
وصندله الممزق كان هذا مُعزياً أشد العزاء للنفوس الجامحة الطموحة مع
كلماته النارية وتوبيخه المريح للنفس العاصية كل هذا بلا شك جذب
النفوس العاصية. فلقد نجح المعمدان في أن يجمع الأُمة من أقصاها إلى أقصاها
» واعتمد جميع الشعب «(21:3)!! على كلمة التوبة لقبول مغفرة
الخطايا تمهيداً لمحوها!!

أمَّا
في عصرنا هذا الذي تعمل فيه النعمة، فقد أغنانا الروح القدس عن النذير والشكل
واللبس والصوت الصارخ والفأس الموضوعة على أصل الشجرة. فهو الذي يتبرَّع بالحديث
مع القلوب بكل أشكالها، والأرواح البشرية بكل قاماتها، فبالصوت الواحد والكلمة
الواحدة من على منبر النعمة يأتي النمر مع الحمل بانصياع واحد لروح الله القادر أن
يجمع ذوي الشكل الواحد في بيت، ويَهْدي النمور والدببة والذئاب ليتبناهم مع
الحملان، ويطعمهم من لحم الحمل ويسقيهم من دم ابن الله، لتتحوَّل البشرية كلها عن
كل أشكالها وألوانها لتصير بشكل الابن الوحيد في القداسة والحق!!

أعرف
رجلاً نمراً كان لا يكف عن شرب الخمر، يدخل بيته فتقف الزوجة أمامه مرتعدة الأوصال
تخدم أهواءه ومزاجه، ويتوزَّع الأولاد في أركان الغرف رعباً من الظهور أمامه. وفي
يوم وفي ساعة مقبولة من ساعات الله الفريدة حدَّثه الرب في الطريق وهو حامل زجاجته
الغالية المحبوبة فما كان منه قبل أن يقترب من البيت إلاَّ وأن وضع الزجاجة في
هدوء دون أن يلمحه أحد في صندوق القمامة، ودخل البيت والتجأ إلى غرفته وأوصدها
خلفه فظنَّت الزوجة والأولاد أنه يحتسي الخمر، ولمَّا طال انتظارهم فتحوا الغرفة
بمنتهى الحذر فوجدوه راكعاً يحتسي النعمة، وقام واحتضنهم وصارت الأسرة لا ضمن
الشعب المستعد بل من الكارزين بروح النعمة.

18:1
«فَقَالَ زَكَرِيَّا للْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ
وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟»

حاول
العلماء تبرير زكريا الكاهن في سؤاله الذي ينمُّ عن عدم تصديق، متماحكين بنفس
الأمر الذي حدث لأبرآم حينما وعده الله بنسل أكثر من نجوم السماء، موضِّحاً أيضاً
أن وارث بيته لن يكون أليعازر الدمشقي بل سيكون من أحشائه (تك 6:15)
» فآمن
بالربِّ فحسِبَهُ له برًّا
« ثم وعده مرَّة أخرى بأنه سيرث الأرض التي كان واقفاً عليها: » فقال (له)
أيها السيد الرب بماذا أعلم أني أرثها
«(تك 8:15)، فكان رد الرب أنْ عَمِلَ مع إبراهيم عهداً تأكيداً
لكلامه:
» في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرآم ميثاقاً قائلاً لنسلك أُعطي
هذه الأرض من نهر مصر (بقرب العريش)([12])
إلى النهر الكبير نهر الفرات
«(تك 18:15). وواضح من هذا أن حالة إبراهيم مختلفة تماماً.

أمَّا
اختلاف حالة زكريا الكاهن عن إبراهيم فهو راجع كون زكريا كاهناً يعيش تحت وعود
الله الصادقة السابقة، أمَّا إبراهيم فكان يجاهد ليأخذ الوعد وأخذه بأمانته
وتصديقه للمستحيلات. لذلك لم يكن من حق زكريا أن لا يصدق كلام الملاك، فعنده حالة
إبراهيم يقرأها كل يوم وحالة ألقانة وحنة وصموئيل. أمَّا إبراهيم فلم يسبق أن سمع
وعداً كهذا يتم بحروفه. لهذا واجهه الملاك:
» لأنك لم
تُصدِّق كلامي.
«(لو 20:1)

19:1 «فَأَجَابَ الْمَلاكُ وَقَالَ لَهُ: أَنَا
جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ
بِهذَا».

«أنا جبرائيل»:

ومعناها
“رجل الله” وهو واحد من السبعة ملائكة([13])
الذين يقفون في حضرة الله كخدَّام المشورة، ويُدْعَون رؤساء الملائكة أو أمراء
الملائكة، وهم مذكورون في العهد القديم والجديد وليس فيهم تغيير. وأمَّا الملائكة
وهم رتبة تحت رؤساء الملائكة فلا نهاية لعددهم. وأول مَنْ رآهم وقدَّر عددهم بجيش
هو يعقوب (إسرائيل) ذو العين المفتوحة:
» وأمَّا
يعقوب فمضى في طريقه ولاقاه ملائكة الله وقال يعقوب إذ رآهم هذا جيش الله
«(تك 32: 1و2). وذكرهم المزمور بحسب كثرتهم كخُدَّام
التجسُّد:
» لأنه يُوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي
يحملونك لئلاَّ تَصدِمَ بحجرٍ رِجلَك
«(مز 91: 11و12). كذلك دانيال النبي ذكرهم بكثرتهم بألوف
الألوف:
» وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف
النقي، وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة، نهر نار جرى وخرج من قدَّامه، ألوفُ
ألوفٍ (أي ملايين) تخدمه، وربواتُ ربوات (أي عشرة آلاف مضروبة في عشرة آلاف عدة
مرَّات 10000×10000 أي مائة مليون لعدة مرَّات) وقوف قدَّامه
«(دا 7: 9و10). وهم خلائق روحانية موطنها السماء بحسب طبيعتهم
المخلوقين عليها، أُقيموا على الخدمة للعمل بين الله والخليقة وخاصة الإنسان.
ويُقال في التقليد الموروث والمحقق أن لكل إنسان يولد في المعمودية يخصِّص الله
ملاكاً حارساً للنعمة.

ولهم
خدمات ذُكرت بوضوح. فالملاك ظهر لهاجر وهي في البرية وأعانها:

+
» فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي
في طريق شور وقال لها: يا هاجر جارية ساراي من أين أتيتِ؟ وإلى أين تذهبين؟ فقالت:
أنا هاربة من وجه مولاتي ساراي، فقال لها ملاك الرب: ارجعي إلى مولاتكِ واخضعي تحت
يديها.
«(تك 16: 79)

كذلك
لهم حكاية طريفة مع جدعون:

+
» وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة([14])
التي في عفرة التي ليوآش الأبيعزري وابنه جدعون (أحد قضاة ومحاربي إسرائيل
الأقوياء) كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهرِّبها من المديانيين (الذين أغاروا على
إسرائيل واستعبدوها). فظهر له ملاك الرب وقال له: الرب معك يا جبَّار البأس، فقال
له جدعون: أسألك يا سيدي: إذا كان الرب معنا، فلماذا أصابتنا كل هذه؟ وأين كل
عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا؟ … فالتفت إليه الرب وقال: اذهب بقوتك هذه وخلِّص
إسرائيل من كف مديان! أما أرسلتك؟ فقال له: أسألك يا سيدي: بماذا أُخلِّص إسرائيل؟
ها عشيرتي هي الذُّلَّى في منسَّى وأنا الأصغر في بيت أبي. فقال له الرب: إني أكون
معك وستضرب المديانيين كرجل واحد.
«(قض 6: 1116 إلخ)

وإشعياء
النبي وأيوب الصدِّيق نسمع منهما أن الملائكة يشكِّلون خوارس ويقدِّمون تسابيح
لله:

+
» في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسيٍّ عالٍ
ومرتفع ومجده ملء كل البيت، والسيرافيم (جمع سيراف) واقفون حوله وكل واحد له ستة
أجنحة وبجناحين يغطون وجههم وباثنين يغطون أرجلهم وباثنين يطيرون. والواحد صرخ
للآخر قالوا: قدوس قدوس قدوس رب القوات مجده ملء الأرض كلها.
«(إش 6: 14 عن السبعينية)

وأيوب
يحكي عن هُتاف الملائكة إذ حسبهم بني العلي:

+
» عندما ترنَّمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني العلي. «(أي 7:38)

وهُم
رُسُل الله للأُمم:

+
» (أحد الملائكة) قال
لي: يا دانيال أيها الرجل المحبوب جداً افهم الكلام الذي أُكلِّمك به … رئيس
مملكة فارس (يبدو أنه شيطان عدو) وقف مقابلي واحد وعشرين يوماً وهوذا ميخائيل
رئيسكم (الملاك الحافظ لإسرائيل) واحدٌ من الرؤساء
(princes) جاء وأعانني وتركت ميخائيل هناك في مواجهة رئيس
فارس وجئتُ لأُخبرك عن كل الذي سيأتي على شعبك في الأيام الأخيرة لأن الرؤيا إلى
أيام كثيرة
«(دا
10: 1014 عن النسخة السبعينية).

+
» ولكني أخبرك بالمرسوم في كتاب الحق ولا أحد يتمسَّك معي على
هؤلاء إلاَّ ميخائيل رئيسكم.
«(دا 21:10)

+
» وفي ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك
ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أُمة إلى ذلك الوقت. وفي ذلك الوقت يُنجَّى شعبك
كل مَنْ يوجد مكتوباً في السفر. وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون.
هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي، والفاهمون يضيئون
كضياء الجلد، والذين ردُّوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور.
«(دا 12: 13)

وقد
التقطنا ثلاثة أسماء منهم وذلك من الأسفار: جبرائيل (دا 16:8)، ميخائيل
(دا 13:10)، ورافائيل (طوبيا 15:12).

ويكشف
لنا سفر الأعمال عن سر تدخُّل الملائكة في تشكيل ناموس موسى:
» الذين أخذتم
الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه
«(أع 53:7)، وكرَّر هذا بولس الرسول في رسالة غلاطية: » فلماذا
الناموس؟ قد زيد بسبب التعديات، إلى أن يأتي النسلُ الذي قد وُعِدَ له، مرتَّباً
بملائكةٍ في يدِ وسيطٍ
«(غل 19:3). ويكرِّر أيضاً ق. بولس هذا في سفر العبرانيين: » لأنه إن
كانت الكلمة التي تكلَّم بها ملائكةٌ قد صارت ثابتةً، وكل تعدٍّ ومعصيةٍ نال
مجازاةً عادِلةً، فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره، قد ابتدأ الرب
بالتكلُّم به، ثم تثبَّت لنا من الذين سَمِعُوا.
«(عب 2: 2و3)

وبحسب
تعليم المسيح نفسه عرفنا أن الملائكة كائنات روحية:
» لأنهم في
القيامة (بالنسبة لأرواح القديسين) لا
يزوِّجون ولا يتزوَّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء.
«(مت 30:22)

وقال
الرب أيضاً: إن الملائكة ينظرون وجه الله دائماً:
» انظروا لا
تحتقروا أحد هؤلاء الصغار لأني أقول لكم: إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون
وجه أبي الذي في السموات
«(مت 10:18)، وهذا يعني أنهم في الحضرة الإلهية يقومون. وقد
قرَّر المسيح أن الملائكة سيرافقونه في مجيئه الثاني:
» فإن ابن
الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته …
«(مت 27:16). وقد أعلن الإنجيل جهاراً أن الملائكة قد رافقوا تجسُّد
المسيح بكل فرح واهتمام:
» ولكن فيما هو متفكِّر
في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن
تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس
«(مت 20:1)، » وإذا ملاك الرب وقف بهم
ومجد الرب أضاء حولهم … وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبِّحين
الله قائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرَّة.
«(لو 2: 914)

وقد
ذكر الكتاب أن الملائكة جاءت وخدمت الرب في البرية:
» ثم تركه
إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه
«(مت 11:4). وهناك أيضاً في جهاده في الصلاة في جثسيماني: » وظهر له
ملاك من السماء يقويه
«(لو 43:22).
وكان هناك اثنا عشر جيشاً من الملائكة تحت إمرته مهيَّأة لتظهر في الحال:
» أتظن أني لا
أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدِّم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة
«(مت 53:6). وكانت الملائكة أول مَنْ شاهد وشهد لقيامة الرب: » وإذا زلزلة
عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه.
وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج … فأجاب الملاك وقال للمرأتين لا تخافا
أنتما فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب، ليس هو ههنا لأنه قام
«(مت 28: 26)، » فنظرت
ملاكين بثياب بيض جالسَين واحد عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع
موضوعاً. فقالا لها يا امرأة، لماذا تبكين؟ … والتفتت وراءها فنظرت يسوع واقفاً
«(يو 20: 1214)

أمَّا
سفر الرؤيا فهو كله يدور في موطن هؤلاء الملائكة فذكرهم بلا عدد: فهم يعبدون
كنموذج لعبادة الكنيسة المنتصرة، وخدماتهم في نهاية العالم ستكون بحسب تعليمات
المسيح.

أمَّا في عصر الآباء فقد كَتَبَ عن درجاتهم ديونيسيوس
المعروف خطأ بالأريوباغي، كما أسهب في أوصافهم غريغوريوس الكبير، وأوريجانوس
تكلَّم عن أجسادهم الأثيرية، وشاركه في هذا أُغسطينوس.

ولكن
أكثر مَنْ كَتَبَ عن أنظمة وطبقات الملائكة هو بولس الرسول:

في
رســالة أفسس:
» وأجلسه عن
يمينه في السماويات فوق كل رياسة (للملائكة) وسلطان، وقوة، وسيادة.
«(أف 21:1)

في
رسالة كولوسي:
» فإنه فيه خُلِقَ الكلُّ: ما في السماوات وما على الأرضِ، ما
يُرى وما لا يُرى، سواءٌ كان عروشاً أم سياداتٍ أم رياساتٍ
أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق.
«(كو 16:1)

فإذا
جمعنا هذه الرتب معاً نخرج منها بخمسة أسماء رتب الملائكة الأساسية. أمَّا هذه
الرتب فهي أصناف مختلفة من طبائع الخلائق السماوية. وربما يكون رؤساء الملائكة
بمفردهم أي غير الرياسات، ويُضاف إليهم السيرافيم كما جاء في إشعياء، والشاروبيم
المذكور في حزقيال وهو الثاني في طبقات الملائكة التسعة بحسب ترتيب ديونيسيوس، وهو
المنوط به ملاحقة الحضرة الإلهية أينما حلَّت وهو المعروف بالكاروبيم، وهو الذي
كان المنوط به حراسة شجرة الحياة بعد طرد آدم:
» فطُرِدَ
الإنسان وأقام شرقي جنة عدن والكروبيم ولهيب سيف متقلِّب لحراسة طريق شجرة الحياة
«(تك 24:3). وهو الذي صُنع على صورته كروبان يقفان فوق غطاء
التابوت الذهبي:

+ » وتصنع كروبَين من ذهب صنعة خراطة تصنعهما على طرفي الغطاء. فاصنع كروباً
واحداً على الطرف من هنا وكروباً آخر على الطرف من هناك … ويكون الكروبان باسطين
أجنحتهما إلى فوق مُظلِّلين بأجنحتهما على الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الآخر.
«(خر 25: 1820)

+
» وأنا أجتمع بك هناك وأتكلَّم معك من على الغطاء من بين
الكروبين
اللذين على تابوت الشهادة.
«(خر 22:25)

وبخصوص
رتب الملائكة تضع الكنيسة الشاروبيم مع العروش، كما تضع السيرافيم مع الشاروبيم
دائماً([15]).
وعلى العموم فإن ترتيب هذه الرتب الملائكية السمائية قد حدَّده وثبَّته ديونيسيوس
المدعو خطأ بالأريوباغي في مؤلَّفه: “الرتب السماوية” وقد نظَّمها وقسَّمها إلى
ثلاث رتب، وكل رئاسة لها ثلاثة صفوف، وهي بالترتيب كالآتي:

الرتبة
الأولى:

سيرافيم

شاروبيم

عروش

الرتبة
الثانية:

سيادات

قوات

سلاطين

الرتبة
الثالثة:

رياسات

رؤساء
ملائكة

ملائكة

ومن
هذه المجموعات اختص رؤساء الملائكة والملائكة بالإرساليات للبشر. وقد تمادت
الكنيسة الكاثوليكية في تنويعها وتقسيمها وإضافاتها، ولكن الكنيسة القبطية بقيت
على هذه الترتيبات المسلَّمة من الآباء. ولكن أضيف ضمن أسماء السبعة رؤساء ملائكة
ما جاء في بعض الكتب غير القانونية وهي أسماء
سورييل وسداكييل وساراثييل وأنانييل، وهي مذكورة في التسبحة السنوية

المقدَّسة.

20:1
«وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتاً وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى
الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لأَنَّك لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي
سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ».

كان
العقاب بالصمت وعدم القدرة على الكلام من نفس نوع الخطأ في عدم القدرة على السماع
وإتقان الطاعة والفهم والخضوع. فالذي لا يسمع لا يتكلَّم. وكان قصد التوجيه الإلهي
هو حفظ هذا السر في أضيق حدوده العائلية حتى يتم “الإعلان” عن المسيَّا،
فلا يرتبك القوم بين المعمدان ويسوع أيهما صاحب الوعد وأيهما المسيَّا.

على
أنه تبقى مشورة الله في هذا الأمر مغلقة إلى حد كبير عن إدراك الإنسان سواء في
اختيار الأزمنة أو الجزاءات الهامشية التي تبدو وكأنها عقاب، وهي في حقيقتها للنفع
بلا ضرر. وعلى الإنسان أن يمتثل لتدبيرات الله بلا فحص أو سؤال لأنها كلها في
النهاية تُفْصح عن سببها وغايتها.

21:1
«وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعَجِّبِينَ مِنْ إبْطَائِهِ
فِي الْهَيْكَلِ».

كان
يتحتَّم أن يخرج كاهن الخدمة إلى الشعب بعد تقديم ذبيحة البخور ويعطي الشعب البركة
الهارونية:
» كلِّم هارون وبنيه (الكهنة) قائلاً: هكذا تباركون بني
إسرائيل قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك، يضيء بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه
عليك ويمنحك سلاماً. فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أباركهم.
«(عد 6: 2326)

22:1
«فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ
رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتاً».

فكان
صمت زكريا الكاهن آخر بركة هارونية ذات نفع، بل والتي ألغت كل بركة للعهد القديم
كله. وكان هذا هو الصمت الذي هو أقوى من كل كلام، فبهذا الصمت صمت صوت العهد
القديم كله لأن الرب تكلَّم ببدء العهد الجديد، الرب الذي يقف عنده كل الأنبياء
صامتين وكل ترتيب وكل طقس وكل خدمة! فمبارَكٌ
هو صمت زكريا الذي فتح أسماعنا ولساننا ليتكلَّم باسم المسيح.

«بقي صامتاً»: kwfÒj

وتعني
أصم وأخرس معاً، كما يُفهم من الآية الأخيرة:
» ثم أومأوا
إلى أبيه ماذا يريد أن يُسمي فطلب لوحاً وكتب قائلاً: يوحنا. فتعجَّب الجميع
«(لو 62:1). وأمَّا تعجُّبهم فهو لأن أُمه أليصابات أعطته ذات الاسم
وقت الختان في اليوم الثامن قبل أن يكتب زكريا على اللوح اسمه. فمن تعجُّبهم هذا
يُفهم أنه لم يَسْمَع الاسم الذي قالته أليصابات. وهذا يُضاف إلى كلمة
» أومأوا «ليؤكِّد أنه
كان أصماً لا يسمع وأخرس لا يتكلَّم.

23:1 «وَلَمَّا كَمَلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ
مَضَى إِلَى بَيْتِهِ».

كانت
نوبة الخدمة محدَّدة لكل كاهن، فبعد أن أكمل نوبة خدمته ذهب إلى بيته بعيداً عن
أُورشليم لأنه كان يعيش في التلال المتاخمة للمدينة، كما ذُكر في زيارة القديسة
مريم للبيت:
» فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى
مدينة يهوذا.
«(لو
39:1)

24:1
«وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ
نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً».

وبعد تلك الأيام أي بعد الرؤيا التي رآها زكريا في الهيكل
وعودته إلى بيته. وأخفت نفسها داخل بيتها خمسة أشهر، وذلك لكي تظهر مرَّة واحدة
وهي حامل بصورة واضحة، لأنها كانت تريد أن تثق في حملها إذ كفاها تعييراً العمر
كله. فالاختفاء من الناس هنا ليس خجلاً بل لتستوثق من حملها قائلة:

25:1
«هكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ الرَّبُّ فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا نَظَرَ
إِلَيَّ، لِيَنْزعَ عَارِي بَيْنَ النَّاسِ».

بدأت
أليصابات تعطي شكرها لله معترفة بفضل عمله الذي عمله إذ اعتبرته أنه افتقدها
أخيراً بنسل، الذي يُعتبر أنه رد اعتبار لها بعد أن تعذَّبت من تعيير الناس لها
خاصة بين النسوة معاً، لأن العاقر كانت في إسرائيل تُعْتَبر أنها مغضوب عليها من
الله كعقاب.

هكذا
فعلت هاجر في سارة:
» ولمَّا رأت (هاجر) أنها حبلت صغرت (مولاتها) في
عينيها … يقضي الرب بيني وبينك (عتاب لإبراهيم الذي أنجب نسلاً من هاجر).
«(تك 5:16)

وكذلك
في أمر راحيل:
» فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها
وقالت ليعقوب هب لي بنين وإلاَّ فأنا أموت.
«(تك 1:30)

وكذلك
أيضاً في أمر حنة امرأة ألقانة:
» وكانت ضرَّتها تغيظها
أيضاً غيظاً لأجل المراغمة لأن الرب أغلق رحمها.
«(1صم 6:1)

كذلك
ميكال امرأة داود (بنت شاول):
» ولم يكن لميكال بنت
شاول ولد إلى يوم موتها
«(2صم 23:6)، ويُعتقد أن ذلك العقم كان بسبب تعييرها لداود.

وضع العقم في المسيحية:

لم
يعد لأولاد المسيح عارٌ بين الناس لا بسبب عقم أو مرض أو تشوُّه أو فقر أو تدنِّي
المركز المالي أو الوظيفي، فالذي اغتنى بالمسيح لن يُحسب بين أولاد المسيح فقيراً،
وبعد أن أصبح لنا ميلادٌ جديدٌ بالماء والروح تقهقر ميلاد الرحم. فالذي قَبِلَ
الآب أباً له لا يعود يطلب أباً من بين الناس:
» لا تدْعُوا
لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات
«(مت 8:23). والذي ليس له أم أصبحت كل الأمهات أمًّا له: » ها أمي
وإخوتي لأن مَنْ يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي.
«(مت 50:12)

هذا العمق المسيحي الضارب
جذوره في السماء أدركه القديسون منذ البدء فتركوا الأب والأُم والأخ والأخت والولد
من أجل المسيح والإنجيل، فاحتضنهم المسيح والآب ليكون لهم في المسيح والآب ملء
اكتمال الأسرة والقربى والعزوة. المسيح أيقظ فينا هذا الوعي السماوي حينما قال: إن
لم يترك الإنسان أباه وأُمه وإخوته وأخواته حتى نفسه لا يكون لي تلميذاً. هكذا،
فالذي تتلمذ على المسيح والإنجيل لا يعود يجد في الحسب والنسب والبنين والبنات
مسرَّة لروحه، إذ أصبح له في النعمة ملء سرور. ولكن
المسيحية لا تحض على
ترك الأهل والقربى بين الناس، ولكنها تبحث عن الأفضل بين الأرض والسماء وتَهْدي الإنسان إلى مصدر حبه الحقيقي وأمنه
وسلامه وفرحه الكامل الذي لا يُنزع منه.

 

(ب) البشارة بميلاد المسيح

(26:138)

“وتجسَّد من الروح
القدس ومن مريم العذراء”

 

هذا
هو قانون الإيمان الرسولي المسلَّم من الرسل.

وقد خصَّص له القديس لوقا الإنجيلي أصحاحين في بدء إنجيله
واستوفاه تاريخياً من جانب العذراء
مريم، فوضع أساس الإيمان المسيحي بولادة يسوع
المسيح ابن الله الذي نصَّ عليه قانون الإيمان الرسولي.

كما
أفرد له القديس متى الرسول أصحاحين في بدء إنجيله أيضاً، واستوفاه تقليدياً من
جانب القديس يوسف خطيبها بحسب استلام الكنيسة.

أما القديس يوحنا الرسول، فانطلق بالروح بحسب الوحي الإلهي
ليرى المسيح قبل ميلاده بالجسد
قائماً في الأزلية مع الله باعتباره أنه هو “الكلمة”
أي النطق الإلهي الفعَّال لله، حيث “الكلمة” في المفهوم اللغوي
lÒgoj لا تعني النطق فقط، بل والفعل أيضاً، لأن “الفعل” كلمة. وقد جاء
في الترجمة الفرنسية للإنجيل في الأصحاح الأول لإنجيل القديس يوحنا:
» في البدء
كان الفعل
Le Verbe « ثم دخل في مفهوم “الميلاد للكلمة” لاهوتياً
فاعتبره ق. يوحنا تجسُّداً بقوله:
» والكلمة صار جسداً «(يو 14:1)، بمعنى صار إنساناً وبالتالي “حلَّ بيننا”، ولكن
اعتُبِر حلوله حلولاً فائقاً
عن مستوى
البشر فوصفه:
«ورأينا مجده مجداً كما
لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً.»
(يو 14:1)

أما
القديس بولس الرسول، فقد كانت أول معرفته بيسوع المسيح أن رآه في السماء بوجه يشرق
بلمعان أقوى من الشمس وقت الظهيرة، فكان تعبيره عن ميلاد المسيح في هيئة إنسان
بقوله:
» الله ظهر في الجسد «(1تي 16:3). وعاد ليكمِّل مفهوم الميلاد كإنسان وقال: «مولوداً
من امرأة»
(غل 4:4). ولما كان القديس بولس غير مشغول بقصة ميلاد المسيح من
عذراء، إذ كان شغله وهمُّه الأوحد أن: كيف صار الله إنساناً، لذلك اكتفى بتحديد
ميلاده بدون رجل: «مولوداً من امرأة».
وهذا فيه كل مفهوم العذراوية للمرأة
التي وُلِدَ منها.

أما
القديس مرقس الرسول والإنجيلي، فافتتح إنجيله بتعريف المسيح تعريفاً يحمل مفهوم
الميلاد والموت والقيامة معاً مع قصة كرازته وعمله وحياته كلها في معنى البشارة
المفرحة. فأوجز استعلانه في بدء إنجيله بقوله: «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن
الله»
(مر 1:1)، باعتبار أن “يسوع” هو اسمه بالميلاد، و“المسيح” لقبه بالصليب،
و“ابن الله” بمفهوم لاهوته الأزلي فهو كيانٌ واحدٌ لا يتجزَّأ؛ لأن انشغال القديس
مرقس بالرب يسوع لم يكن بتعريفه تاريخياً، ولا وصفه شخصياً، ولا سرد أعماله، بل
استعلانه إيمانياً. فالقديس مرقس يقدِّم يسوع المسيح للكنيسة، للإيمان به كمسيَّا
ابن الله. ومعنى أن الله أبوه، أنه ليس من أب جسدي، وفي هذا استعلان لميلاده
العذري.

أما
إنجيل القديس لوقا فيمتاز بأنه بدأ رواية ميلاد المسيح من العذراء في تاريخ مبكِّر
أكثر من كل المواضع الأخرى المقابلة في بقية الأناجيل، لذلك اخترناه أولاً. ومن
الأمور المعترف بها ثبوت أصالة إنجيل القديس لوقا التاريخية والتقليدية. ولا يغيب
عن القارئ أن القديس لوقا كان زميلاً للقديس بولس في أسفاره. وهنا تنفتح علينا
الأصالة اللاهوتية والعمق الإنجيلي والاستقامة الأرثوذكسية. كما لا يفوت على
القارئ الاتصال المباشر الذي عاشه القديس لوقا مع يعقوب الرسول أخي الرب في
أورشليم
لمدة سنتين أثناء سجن القديس بولس في قيصرية:
» ولما وصلنا
إلى أورشليم (القديس لوقا كاتب سفر الأعمال يتكلَّم) قَبِلَنا الإخوة بفرح. وفي
الغد دخل بولس معنا (لوقا وسيلا) إلى يعقوب، وحضر جميع المشايخ…
«(أع 17:21و18)، وهي المدة التي فتَّش فيها القديس لوقا وبحث وحصل
على أصول
» الأمور المتيقنة عندنا كما سلَّمها إلينا الذين كانوا
منذ البدء معاينين وخدَّاماً للكلمة
«(لو 2:1). ولكن تأكيد القديس لوقا على المصادر التي استقى منها
دقائق قصة الميلاد أنها كما سلَّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين
وخدَّاماً للكلمة، فهنا لا يمكن أن يفوت علينا قصده الذي يشدِّد عليه بإلحاح.
فمَنْ هم الذين كانوا “منذ البدء” “معاينين وخدَّاماً للكلمة”؟ إلا العذراء نفسها
أو أخرى لها سرُّ العذراء؟ ولكن تشديده على القول: “معاينين” يكون قد حصر المصدر
الوحيد وهو العذراء في ضميره ولم يقوَ على البوح به، لأن هذا ما اعتزمت عليه
العذراء منذ البدء:
» وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام
متفكرة به في قلبها
«(لو 19:2). ومرة أخرى يسجِّل القديس لوقا نفسه هذا الكلام عن
العذراء:
» وكانت أُمه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها. «(لو 51:2)

والسؤال:
مَنْ الذي كشف له سرَّ العذراء هذا؟ فمَنْ يقرأ قصة ميلاد المسيح وأمور صُبوَّته
يدرك بغير مجال للشك أن القديس لوقا قد حصل على دقائق ميلاد وحياة صُبوَّة المسيح
من نفس مصدرها!! وهو يوجِّه فكر القارئ وقلبه إلى منتهى تدقيقه في الحصول على صحة
هذه الرواية بقوله في البداية لثاوفيلس المُرسَل إليه الإنجيل:
» لتعرف “صحة
الكلام”
الذي عُلِّمتَ به
«(لو 4:1). والقديس لوقا جعل كلمة “صحة”، وهي الأساس في
الجملة تأتي في نهاية الجملة اليونانية على غير عادة
بشيء من لفت النظر والتأكيد:
¢sf£leian = reality.

ولنا
شهادة دامغة من العلماء اللغويين الذين فحصوا رواية القديس لوقا عن الميلاد وصبوة
المسيح، إذ قرَّروا أن اللغة اليونانية التي كتب بها القديس لوقا قصة الميلاد
بدقائقها تفصح عن أصلها الأرامي وصيغتها الفلسطينية:

[إن
حقيقة ما جاء في إنجيل القديس لوقا (5:152:2) هو بصورة أكيدة يهودي
فلسطيني الرواية.](
[16])

وهذه الحقيقة تظهر حتى في أي ترجمة، إذ تنضح بلغة العهد
القديم وأسلوب الأنبياء فكراً وروحاً ولغة، مع الاصطلاحات العبرية المشهورة. إذن،
فليس القديس لوقا هو مؤلف رواية الميلاد، لأنه أممي يوناني.

نص البشارة:

(
أ ) الجزء الأول (لو 26:133).

(ب)
الجزء الثاني (لو 34:1و35).

(
ج ) الجزء الثالث (لو 36:138).

(
أ ) الجزء الأول: (لو 26:133):

26:133
«وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ
(لبشارة زكريا بميلاد يوحنا المعمدان بواسطة
الملاك) أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلاَكُ ( وتفسير اسمه:
“رجل الله” أو “قوة الله”) مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ
الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ
دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا
الْمَلاَكُ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكِ أَيـَّتُهَا المُمْتَلِئَةُ نِعْمَةً
(وذلك بحسب الترجمة
اللاتينيـة في الفولجـاتا، حيث جاءت: “
Ave gratia plena”، وكذلك في الترجمة القبطية: xere
qheqme `nmot
،
أما الترجمة العربية العادية فتأتي: “المُنْعَمُ
عَلَيْهَا” وذلك عن الأصل اليوناني: ca‹re kecaritwmšnh) الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي
النِّسَاءِ
(وصحتها: أكثر من جميع النساء). فَلَمَّا رَأَتْهُ
اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ
التَّحِيَّةُ! فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ
قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ
ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ
يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ
عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ».

هذه
هي بداية قصة ميلاد المسيح، حيث المبادرة تأتي من السماء فتحيط القصة برهبة وجلال
وتدخل بالإنسان في دائرة تدبيرات الله الفائقة للعقل. فبمجرد أن بادر الملاكُ
العذراءَ القديسةَ بقوله: “سلامٌ لكِ أيتها الممتلئة نعمة… لا تخافي لأنكِ قد
وجدتِ نعمة عند الله”، أدركنا في الحال أنه قد انفتح تاريخ معاملات الله الفائقة
بعد أن تعطَّل كل الدهور السالفة. ففي هذه اللحظة الفريدة في نهاية أزمنة شقاء
الإنسان، تزاحمت كل مواعيد الله الصادقة والأمينة، إنْ لإبراهيم أو إسحق أو يعقوب
أو موسى أو داود وجميع الأنبياء، إذ وجدت لها منفذاً تنحدر منه على رأس هذه الصبية التي خطبها الله لنفسه، ليصنع بها كل مسرات
قلبه التي احتجزها للإنسان في قلبه منذ
الأزل.

 فإن
كانت العذراء قد جزعت إلى لحظة عندما انفتح وعيها لترى جبرائيل الملاك أمامها،
إلاَّ أنها ارتاحت حالاً إذ أحسَّت بحضرة الله التي غشيتها لما أحاطتها النعمة
وملأتها، فتهيَّأت بالفعل والقوة لتقبل منه تدبيرات الأزل. أليس هنا وفي
أحشائها سيحلُّ الذي
» اختارنا فيه (الله) قبل تأسيس العالم، لنكون
قديسين وبلا لوم
«(أف 3:1) ونقف
أمامه محبوبين؟ إذن، ليس باطلاً أن يظهر جمهور الجند السمائي برفقة الملاك الذي
بشَّر الرعاة ليسبِّحوا بالفرح العظيم لحظة ميلاد الابن الموعود، ويعطوا المجد لله
في الأعالي التي منها انحدر الابن المحبوب وعلى الأرض
السلام لما وطأت قدماه أرضنا.

 وكما
سبق الله وأعطى لإبراهيم اسم ولده إسحق قبل أن يُحبل به في البطن، إذ كان منه
سيأتي النسل الموعود لبركة الأمم، هكذا أعطى الملاك سر الاسم الموعود للعذراء:
“يسوع” الذي يحمل معناه خلاص العالم. ولكن لم يكن هذا الأمر مخفياً عن أُذن إشعياء
النبي الذي أذاعه على الملأ قبل أن يُسمَّى بسبعمائة سنة:
» اسمعي لي
أيتها الجزائر واصغوا أيها الأُمم من بعيد. الرب من البطن دعاني، من أحشاء أُمي
ذَكَرَ اسمي
.
«(إش
1:49)

ولم
تكن هذه البشارة مجرد إطلالة من السماء على بُعد، بل انفتاحاً سماوياً عريضاً
وعميقاً على الإنسان. صحيح هي عذراء الله التي اختارها وقدَّسها لنفسه، وقد سبق
وأشار إليها بالنبوة على فم إشعياء:
» يعطيكم السيد نفسه آية.
ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (الذي تفسيره الله معنا)
«(إش 14:7)، ولكنها بآنٍ واحد عذراؤنا.
أفخر مَنْ خرج من صلب آدم وبطن حواء، عيِّنة أفرزتها البشرية بتدخُّل إلهي لتصمد
أمام هذا الحدث السماوي الرهيب، لتحمل في أحشائها ابناً جديداً للإنسان موطنه
السماء من جنس الله، هو ابنه، وقد حدَّده الملاك تحديداً أنه «ابن العليِّ
يُدعى».
ولأن العظمة الحقيقية هي لله وحده، فقد قرر الملاك أنه يكون “عظيماً”.

إذن،
فالبشرية قد حَصُلَ في عمقها انفتاحٌ على الله. فلولا أن البشرية أفرزت عذراءَ مثل
هذه، ما تنازل الله ليجد في أرضنا كياناً يرتاح فيه. فها هي البشرية تحمل ابن الله
لما حملت به العذراء. فإن لزم لزوماً شديداً أن تتقدس العذراء ليحل فيها مولود
السماء، إلاَّ أنه لما ولدته تقدَّست به البشرية كلها. فإن كانت العذراء استضافته
تسعة أشهر، فقد استوطنت فيه البشرية أبد الدهر. فهو ابننا بحسب النبوة:
» لأنه يولد
لنا ولد، ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه…
«(إش 6:9). وما عادت السماء وما عاد أبوه يستردُّه منَّا إلا ونحن
فيه. فكما انفتح بالسر الإلهي بطن العذراء وحلَّ فيها، فقد انشق جسده بسر الموت
على الصليب وحللنا فيه. وكما أخذ جسدنا مولوداً، أخذنا جسده قائماً من بين
الأموات. وكما “ظهر الله في الجسد”، ظهر الإنسان وتراءى أمام الله في ذات
الجسد.

هذا
حَدَثٌ مهيب، سماوي هو، تترامى أصداؤه إلى السماء وسماء السموات ويردِّده الأبد.
فهو يملك علينا ولا يكون لملكه نهاية، ونحن نملك معه ونرث فيه إلى كل ميراث الله!
ولولا أن أسماعنا أصابها التلف لسمعنا أكثر من هذا، ولسوف نسمع!

(ب)
الجزء الثاني من البشارة: (لو 34:1و35):

34:1و35
«فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ
رَجُلاً؟ فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ
عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ
الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ»
.

القديسة مريم هنا تنتبه انتباهة روحية لقول الملاك: “ستحبلين
وتلدين” وكأن الأمر واقع، وهو
بحسب الله حتماً واقع. فالله إن قال يكون،
وإرادة الإنسان حتماً منصاعة لا قهراً بل عن طاعة. وهنا تضطر القديسة مريم أن تعلن
عن عفَّتها التي كرَّستها لله كما بقسم، فإن كانوا قد خطبوها ليوسف، فقد سبقت
وخطبت نفسها لله. فكما أعدَّها الله لنفسه، أعدَّت هي نفسها له!! فمن أين تأتيها
ثمرة البطن، وبطنها قد تقدَّست لله! والجسد إن تقدَّس اشتعل ناراً، فلا يُرى إلاَّ
هيكلاً لله!! فإن تساءَلَتْ: كيف يكون لي هذا؟ فليس تشكيكاً فيما يقول الملاك أو
عدم تصديق، ولكنه لطلب المزيد من المعرفة ليكون جوابها عن رضى وقناعة. وهكذا لاق
بالبطن العُذْريِّ أن يحل فيه روح الله بارتياح.

وهكذا
استدرجت مريم القديسة الملاكَ ليكمِّل بشارته. فلما قال لها: «الروح القدس
يحلُّ عليكِ»،
احتوى روح القداسة الرَّحِمَ وصاحبته، فكان بمثابة البذرة
الإلهية التي سكنت كيانها الأنثوي. وأما قوة العليِّ التي ظللتها، فكانت بمثابة
الحضن الأبوي للابن الوحيد الذي نزل منه. وهكذا حتماً، وبالضرورة، أخذ الجنين منذ
ساعته الأولى اسمه الأزلي:
» لذلك فالقدوس المولود
منكِ يُدعى ابن الله
« وهذا ليس مجرد اسم أو لقب، بل كيان إلهي من كيان إلهي: » أنا والآب
واحد
«(يو 30:10). فإن
كان قد خرج من الحضن الإلهي، فقد خرج والحضن لا يزال يحتويه؛ ولكن عودته هي الأمر
المذهل لنا حقاً، لأنه يعود مرتفعاً ونحن فيه ليجلسنا عن يمين أبيه.

يحكي
المسيح في إنجيل القديس يوحنا عن حقيقة تجسُّده الذي أتمه بجسده الذي أخذه من
العذراء، فيقول:
» أنا فيكم «(يو 20:14)، وفي المقابل: » اثبتوا فيَّ «(يو 4:15)؛ وأيضاً: » أنا فيهم «(يو 26:17)، وفي المقابل: » ليكونوا هم
أيضاً فينا
«(يو 21:17). فكان
هو صاحب المبادرة في الاتحاد بالإنسان. ولكن بمجرد أن اتَّحد بجسدنا حصلنا على
المقابل الحتمي، أنْ صرنا فيه متحدين، والذي أكمله هو بالاتضاع نكمِّله نحن
بالإيمان. فالذي صنعه هو بجبروت تنازله الإلهي ليتحد ببشريتنا، طرحه ليكون حقاً
لكل بشر، كل مَنْ يؤمن؛ إذ أنه لا يستطيع أن يمنع بشراً يطلب ما له فيه:
» مَنْ
يُقْبِلْ إليَّ لا أُخرجه خارجاً
«(يو 37:6). لقد آمنت العذراء بهذا، فكان لها حالاً: » فقالت مريم:
هوذا أنا أَمَةُ الرب. ليكن لي كقولك
«(لو 38:1)، فكان!

عظيمة
هذه العذراء بنت إبراهيم التي جسَّدت إيمان إبراهيم، كإبراهيم الذي
» آمن بالرب
فحسبه له برًّا
«(تك 6:15). والعجيب
أن الموعد الذي وُعِدَ به إبراهيم هو هو نفس الذي وُعدت به العذراء فآمنت، فحلَّ
في أحشائها ذاك الذي به تتبارك كل أمم الأرض وتتبرَّر.

وهكذا
ونحن أمام رواية القديس لوقا، وبلغة العهد القديم في حوار الملاك مع العذراء، نشعر
وكأننا نكمِّل قصـة إبراهيم مـع الله نحن الأمم ونحن
على بُعْـد أربعة آلاف سنة (هذا نراه نحن
الآن):
» فقال
الـرب لي: أحسنت الرؤيا، لأني ساهـر على كلمتي لأُجريها
«(إر 12:1). نعم » يا
ربُّ عملك في وسط السنين أحْيِهِ.
«(حب 1:3)

+ » اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها. لأن الرؤيا بعد إلى
الميعاد، وفي
النهاية تتكلم ولا تكذب، إن توانت فانتظرها، لأنها ستأتي
إتياناً ولا تتأخر.
«(حب 2:2و3)

وصحَّ
القول:
» أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنةٍ!! «(2بط 9:3)

( ج ) الجزء الثالث من البشارة: (لو 36:138):

36:138
«وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِابْنٍ فِي
شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ
عَاقِراً، لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ. فَقَالَتْ
مَرْيَمُ: هُوذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ. فَمَضَى مِنْ
عِنْدِهَا الْمَلاَكُ».

كانت
مريم في هذه الساعة في أشد الحاجة إلى سند يسند إيمانها بالذي سمعته والذي قالته.
وهكذا استدرك الملاك، وأعطى السند وأعطى المشورة، وكأنه يدعوها لاستزادة إيمانها
من التي سبقتها في هذه الدعوة العظيمة القدر والفائقة على العقل. وكأنه كان يسمع
صوت العذراء في قلبها، أهذا ممكن؟ فبادرها للتو: «ليس شيء غير ممكن لدى الله»،
فانتهت مريم من نفسها وقبلت الدعوة برمتها بلا فحص ولا سؤال، كطفل ارتضى أن ينام
في حضن أبيه بعد جهد عنيف! وكان بهذا الإذعان لمشيئة الله أن دخل الوعد الإلهي حيز
التنفيذ. أما هذا الذي قبلته العذراء فهو ليس بالأمر الهين، بل وليس في اللغة ما
يصف هوله ولا روعته، ولا يقوى بشر أن يحدد أبعاده ونهاياته:

1
فبالنسبة لها: فقد نالت إنعام الله وأعظم كرامة نالها بشر،
وكفى أن صارت أُمًّا لابن الله.

2
وبالنسبة للبشرية: فقد كُتب لها عهد جديد مع الله، هو على
مستوى الخَلْق الجديد بعينه. فالذي ملأ الحشا البتولي هو آدم الجديد الذي من جسده
ودمه أخذنا خلقتنا الجديدة كأبناء لله، وورثنا فيه موطننا السماوي.

3
وبالنسبة للذي وُلد منها:
فهو بحسب ما نطق الملاك:
» القدوس
المولود منكِ يُدعى ابن الله
« وهو يكون عظيماً وابن العليِّ يُدعى في العالم وبين الناس، كما هو
في الله الابن الوحيد المحبوب. من الروح القدس ومن العذراء القديسة وُلد، قدوس بلا
عيب ولا خطية، فتأهَّل أن يحمل خطايا العالم كله ويمزِّقها على الصليب ليفدي
المسكونة ويخلِّص بني الشقاء، ويقوم ليخلق في جسده بشرية جديدة لله.

 

 ( ج ) زيارة العذراء لنسيبتها أليصابات

(1: 3956)

 

كان
لفت نظر الملاك للعذراء أن نسيبتها هي أيضاً حُبلى في شهرها السادس لتلك المدعوة
عاقراً، إيحاءً واضحاً صريحاً ينبغي أن تتحقق منه بنفسها لذلك:

39:145
«فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَذَهَبَتْ “بِسُرْعَةٍ” إِلَى الْجِبَالِ
إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى
أَلِيصَابَاتَ. فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ “سَلاَمَ مَرْيَمَ” ارْتَكَضَ
الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ،
وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ
وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ
أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ “صَوْتُ سَلاَمِكِ” فِي أُذُنَيَّ
ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ
يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ».

لقد أصاب الملاك الحقيقة حينما أوحى للعذراء بزيارة
أليصابات، فقد كانت العذراء في حاجة
شديدة وملحَّة للغاية أن تبوح بسرِّها
لامرأة مثلها حازت نعمة القدير، تحكي لها عن خبرتها الجديدة التي لم تختبرها عذراء
قط. وهذا واضح في سلوك العذراء:
» فقامت مريم في تلك
الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا
« لم تعدم العذراء الهادئة المحبوبة رفقة للسفر من أقرباء وأصدقاء،
لأن الرحلة خطيرة وشاقة لعذراء وحدها، فهي لأربعة أيام على أقل تقدير. كان الفرح
والبِشْر يملآن قلبها وروحها وهي تطفر على جبال يهوذا التي ملأها داود أبوها
بصولاته وجولاته وأصوات مزماره.

كان
يلفُّ العذراء رزانة القداسة. فالروح يغمر أحشاءها وقوة العليِّ تظللها. لم تكن
تدري العذراء بهذا كله، ولكن هذا كله انكشف لحظة دخولها بيت زكريا الكاهن، فمجد
الله لا يُخفى والروح القدس لا يُحجب. فعندما رنَّ سلامها في أُذن أليصابات، فجأة
انتفض الجنين في بطن أليصابات، وفي الحال انكشف الحجاب عن وعيها وأحسَّت بالروح
القدس يملأ كيانها هي، وأدركت أن الجنين في بطنها إنما يؤدي تحية الفرحة للقائم
أمامه في أحشاء العذراء. وهنا صرخت أليصابات ونطقت بالنبوَّة:
» مباركةٌ
أنتِ في النساء (أكثر من كل النساء) ومباركةٌ هي ثمرة بطنكِ
« وانفتح وعي أليصابات لترى الرب في أحشاء العذراء، وفي الحال شعرت
بعلو قامة العذراء فدعتها «أم ربي»، وحسبت زيارتها لها شرفاً لها وفرحة
ملأت كيانها، وبانسحاق اعترفت بعلو كرامة مريم:
» من أين لي
هذا أن تأتي “أم ربي” إليَّ
«¹ m»thr toà Kur…ou mou التي هي بعينها “الثيئوتوكوس”
QeotÒkoj، أي والدة الإله! التي أقرها مجمع أفسس رسمياً في الكنيسة سنة
431م.

وهكذا
برؤيا نبوية خاطفة، أدركت أليصابات كل ما قيل للعذراء من قِبَلِ الله، فطوَّبتها:
» فطوبى للتي
آمنت أن يتم ما قيل لها من قِبَلِ الرب

« وإننا نتعجَّب إن كانت أليصابات وهي ممتلئة بالروح القدس، ونطقت
بالنبوة نطقاً واعياً صاحياً بأن العذراء هي
«أُمُّ ربي» أي والدة
الإله

الثيئوتوكوس
وطوَّبتها فوق جميع النساء، فكيف لا تطوِّبها
الكنيسة كلها؟ وكيف تدعوها بغير لقبها كـ “أُم ربي” أي والدة الإله؟ طوباكِ أيتها
الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي لم تكف قط عن التسبيح للعذراء الثيئوتوكوس الليل
والنهار وكل الأيام منذ التجسُّد وإلى نهاية الدهور.

وما
أن نطقت أليصابات بالروح تطويبها:
» من أين لي هذا أن تأتي
أُم ربي إليَّ
«
حتى انفعلت القديسة العذراء مريم وفتحت فاها تسبِّح الله بإلهام النبوَّة:

46:155
«فَقَالَتْ مَرْيَمُ: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ
مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ
جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ،
وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ.
أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنْ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ
الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. عَضَدَ إِسْرَائِيلَ
فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ
إِلَى الأَبَدِ».

عندما
التهب قلب العذراء بالروح، أنشدت نشيدها كـ “نبيَّة”. نعم، آخر نبية في
العهد القديم وأول أنبياء العهد الجديد قاطبة. فما من نبية أو نبي في العهد القديم
نال من التقديس والنعمة وحلول الروح القدس الدائم وقوة العليِّ مثل ما نالت
العذراء، بل وكل طغمة الأنبياء بجملتها لم تحتوِ ولو بفكرها ما احتوته العذراء في
أحشائها متجسداً!!

وهنا
لأول مرة نسمع نشيد الفرح من إيقاع الروح على قيثارة النعمة، بفم عذراء المسيح.
فليس من فراغ ولا هو اجتهاد أن تعظِّم الربَّ نفسُ العذراء، فهو تحصيل حاصل.
فالعظيم والفريد في عظمته يحتل هيكلها ويضبط فكرها ويحرِّك لسانها، وهي تعظِّمه
ليس بالكيل البشري أو بقدرة الإنسان، بل لأن القدير صنع بها عظائم. فمن عظمة ما
صنع فيها تعظِّمه في ذاته، وهي لا تضيف عليه ولا له من عندها شيئاً، بل من عظمة
نعمته أخذت ولعظمة نفسه تردّ. فمَنْ ذا الذي يمنعها من أن تعظِّم؟ ومَنْ ذا الذي يستكثر عليها التسبيح بالروح، والذي تسبِّحه
السموات كائن في أحشائها؟

أما
ابتهاجها بالروح فليس هو كلاماً ولا هو ترتيلاً، بل هو جمرة نار الله المتقدة في
قلبها، اشتعلت نفسها بهـا ابتهاجـاً كمركبـة خلاص امتطتها لتصير فوق كل ما في
الجسد والدنيا وتربُّص الأعداء! وهوذا زكريا النبي يراها من على بُعْد ويعزز
ابتهاجها مرات ومرات: «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا
ملكك يأتي إليكِ…»
(زك 9:9). ولم ترتخِ عين العذراء الناظرة إلى العليِّ عن
اتضاع نفسها وبيتها وعشيرتها، ورمت ببصرها في رؤية نبوية ممتدَّة، فرأتنا والأجيال
الآتية بعدنا نطوِّب بطنها التي حملت رب المجد، والثديين اللتين أرضعتاه طفلاً في
المهد، ونفسها وروحها والجسد، هذا الذي منه تنازل مسروراً وتجسَّد. وقالت وهي لا
ترى كيف: إنَّه بقوة ذراعيه صنع القوات، وبنفخة شفتيه شتت المستكبرين، وبموته أنزل
الأعزاء عن الكراسي، وبقيامته رفع المتضعين! من جسده المكسور أشبع جياع الروح
بخيرات السماء، والأغنياء بذواتهم والدنيا صرفهم فارغين! رفع رأس إسرائيل حبيبه
وحقَّق وعد إبراهيم خليله!

فما
من منشد من كل المنشدين بلغ قامتها، لا من قبل ولا من بعد!

56:1
«فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجِعَتْ
إِلَى بَيْتِهَا».

 

(
د ) ميلاد يوحنا المعمدان

(57:180)

 

بدء
تحقيق وعد الله منذ الدهور

 

بميلاد
المعمدان يدخل وعد الله الثابت الدهري إلى حيِّز التنفيذ، والرواية كما يسردها ق.
لوقا شديدة الواقعية وكأنه يدعونا لحضور حفلة تحقيق وعد الله، ويصوِّر لنا الفرح
الذي عمَّ القلوب، قلوب كل منتظري بدء مجيء المسيَّا وظهور شخص إيليا في صورة
الطفل يوحنا، المولود بالإعجاز وبتدخُّل الإرادة الإلهية، لتطويع المستحيلات لحساب
تكميل وعد الله. ومنذ تحديد اسم الطفل، بل اسم النبي الصابغ السابق، تُستعلن
الإرادة العلوية ليكون الاسم هو تعبير عن واقع عمل الله في هذا النبي، وبالتالي
بداية عهد الرحمة والنعمة.

وبميلاده
فعلاً ينطق الأخرس، والأصم الواقع تحت حصر الروح، ليعلن بالصوت العالي أنه نبي
الله العلي. هكذا تعيَّن منذ الإعلان الأول عن الحبل به من عاقر عجوز، وتُعلن
مسيرة يوحنا هذا متقدِّماً أمام مسيَّا الله، ليعدَّ له الطريق، وينادي له ولحسابه
بالخلاص والفداء حينما يراه حمل الله الذي يرفع خطية العالم. وكأنما وُلد المعمدان
ليفتتح لاهوت الفداء بإشارته الفريدة لذبيحة المسيح التي ستمحو كلمة الخطية
وعقوبتها من كتاب حياة الناس.

والذي
يتمعَّن حركات الروح مع زكريا الكاهن وأليصابات يتأكَّد أن قصة المعمدان قائمة
بذاتها محفورة على لوح العهد، لتتم حسب التدبير الموضوع لها، ثم بعد ذلك تتحرَّك
لتدخل في موكب المسيَّا كمصباح يضيء في عتمة آخر الليل معلناً بزوغ الشمس، وبعدها
ينسحب ليترك الشمس لنهار المسيَّا والسائرين في نوره.

ويُلاحظ
القارئ النبيه أن في كل قصة المعمدان من أولها حتى آخرها لم يحتل المعمدان من
شخصية المسيَّا ولا مقدار إصبع. فجاء مستقلاً تماماً عن المسيَّا ليستطيع أن يعلن
عنه دون التباس. لذلك في أمور فحص الروايات لدى العلماء المتمهرين يتأكَّد لدينا
ولدى كل المؤرِّخين العظام أن ق. لوقا لم يستمد مفردات رواية المعمدان من مصدر
مسيحي قط، فخلوها نهائياً من الإشارات الخاصة بالمسيَّا تؤكِّد أن الذي قالها
والذي نقلها كان ما يزال بعيداً عن معرفته بالمسيح وحياته. وهذا التحقيق بحد ذاته
يعطي للقديس لوقا الأصالة والصحة في سرده لقصة المعمدان. كما تبرِّئه تماماً من أن
يكون هو الذي خطَّط خطوطها. فلو دقَّق القارئ يجد انفصال الروايتين اللتين للبشارة
والميلاد للمعمدان ومثيلتها للمسيح مما يؤكِّد
استقلال مصدر كل منهما عن الآخر الذي استقى منه ق.
لوقا.

والأمر
الذي زيَّف على العلماء وحدة التطابق بين تسبحة زكريا وتسبحة مريم حتى قالوا بأن
مؤلفهما واحد للتشابه الشعري والفني والروحي معاً، ناتج من أنه فات على هؤلاء
العلماء أن الروح الذي حلَّ على زكريا هو هو الروح الذي حلَّ على العذراء القديسة،
فجاء النطق شديد التطابق بكل مميزاته الروحية والشعرية. وهل ينكر العلماء أن
الرواية برمتها إن كانت في فصلها الأول لحساب المعمدان بشارةً وميلاداً، والثاني
الذي جاء لحساب المسيَّا بشارة أيضاً وميلاداً هي من صنع الملائكة والروح الذي صاغ
فصولها وختم على نهايتها؟ فإن كان هناك تطابق في الكلام أو الأفعال فليس هو من صنع
ق. لوقا ولا المصادر التي أخذ عنها، بل هو من مصدرها السمائي الذي استحضر إيليا من
وراء الزمن والمسيَّا من وراء الأزل وصنع منهما ضفيرة ذهبية متلألئة، فيها ما
للإنسان وفيها ما لله بتكيُّف شديد الإتقان، حتى لتعجز العين البشرية من أن تفرِّق
بين هذا وذاك.

وليس
عسيراً على القارئ الواعي أن يجد نقطة التلاقي الفني والروحي معاً في قصة المعمدان
وقصة المسيح، فهي متركِّزة وواقعة في
لحن البركة Benedictus الذي انطلق من روح زكريا، ولحن التعظمة Magnificat الذي انطلقت به العذراء من ملء الروح الذي سكن قلبها وأحشاءها،
وفي هذا واضح أن التلاقي هو تلاقي الروح في قلبين تلقَّيا معاً رحمة من الله وعزةً
واقتداراً.

57:1 «وَأَمَّا
أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ابْناً».

«فتمَّ زمانها لتلد»:

هو
بعينه الاصطلاح الوارد في العهد القديم في (تك 24:25) في ميلاد يعقوب وعيسو:
» فلمَّا كملت
أيامها لتلد
إذا في بطنها توأمان … « واضح هنا أن ق. لوقا أديب له شاعرية العهد القديم من عشق وتأثُّر
صاغ فكره وأسلوبه، ولكن الأمر الذي يجعل أسلوب ولادة يعقوب وعيسو يأتي هنا فجأة في
ذهن ق. لوقا هو المناسبة الفريدة: فولادة رفقة لتوأميها إنما جاءت تتميماً لوعد
الله:
» فمضت لتسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنكِ أُمَّتان ومن
أحشائكِ يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب وكبير يُستعبد لصغير.
«(تك 23:25)

58:1
«وَسَمِعَ
جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ الرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا،
فَفَرِحُوا مَعَهَا».

«الرب عظَّم رحمته لها»: ™meg£lunen

الرب
رحيم هو، هذا طبعه، ولكن أحياناً يعظِّم رحمته ليُظهر مكنونَ قلبه تجاه أحبائه
الذين اختارهم ليكشف فيهم وبواسطتهم أعماق رحمته وحبه لبني الإنسان. لو كانت
أليصابات فتاةً بنت العشرين وولدت ما كان هذا يُحسب عظيم رحمة، ولكن إن كانت
عاقراً وقضت ثمانين سنة أو أكثر في عقمها ثم ولدت فهنا تتعظَّم رحمة الله جداً،
ليس لها وحدها، بل يقول الكتاب أن جيرانها وأقرباءها اشتركوا في فرحها. إذن، فقد
فتح الله بابَ عظيم رحمته ليعطي فرحاً لهذه الأسرة ومحيط أقاربها، تمهيداً للفرح
العظيم الذي يكون لكل الشعب بحسب رؤية الملاك ونطقه:
» فقال لهم
الملاك: هاأنذا أبشِّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. إنه
وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلِّصٌ هو المسيح الرب.
«(لو 2: 10و11)

ولكن
الذي يهمنا في هذا هو أن نلفت نظر القارئ أنه زمان الفرح الإلهي، وهو فرح عظيم،
لأن مؤسِّسه ومرسله هو الله، ليغيِّر الإنسان
زمانه الحزين بزمن الله، ويستمد من المولود الذي حُسب
مولودنا
» نُعطى ابناً «(إش 6:9) الفرح العظيم الذي سجَّله الله لحساب
البشرية ولن يُنزع منها إلى
الأبد!!

عزيزي
القارئ، إن أي حزن يعتريك هو كاذب لأن الفرح العظيم يبتلع كل حزن، فلا يوجد لا
اعتباطاً ولا عفوياً أو نظرياً، فالمسيح
» أحزاننا
حملها وأوجاعنا تحمَّلها …
«(إش 4:53)

هذا
ليس وعظاً ولا إقناعاً بأمور غيبيَّة؛ بل هذا سر الحق وسر المسيح والله. إن آمنت
وصدَّقت سوف تصفِّق بيديك لأن الفرح سيغشى قلبك وعقلك وروحك ويدسِّم جسدك. سوف تحس
بالفرح كقوة إلهية جارفة تكسح أمامها كل همٍّ وكل ضيقٍ وكل حزنٍ، وبهذا يتمجَّد
الرب وتفرح الملائكة. فإن كان الأقارب والجيران فرحوا بفرح أليصابات لأن الرب
عظَّم رحمته لها، فما بالك بالذي عمله الله في العذراء، فالقدوس حلَّ في أحشائها
وتعظَّمت فيها رحمة إلهنا حتى إلى أقصى الأرض وعنان السماء، وخرج من أحشائها ليزرع
الحب والسلام والفرح، ليس حب الناس وسلامهم وفرحهم، بل حب الله وسلامه وفرحه زرعه في
روحنا، في لحمنا ودمنا. فالذي امتلك في المسيح حب الله وسلامه وفرحه فمن يستطيع أن
يقلقه أو ينزع فرحه
» أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم
سيف؟
«(رو 35:8)، ففي هذه
كلها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. فلقد صرنا جيران الله وأقرباءه بل وأهل بيته!!

59:1 «وَفِي الْيَومِ
الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ
زَكَرِيَّا».

وكانت
العادة أن رأس العائلة هو الذي يختن أولاده، حيث يشترك الأهل والأقارب في الطقس.
وكانت العادة أن يسمُّوا الولد على اسم جدِّه ليحمل اسم العائلة. ولكنهم هنا
أرادوا أن يسمُّوه باسم أبيه تيمُّناً بكهنوته ومركزه في الهيكل. ولكن إعطاء الاسم
وقت الختان لم يكن عادة متأصِّلة قديماً. ولا توجد إشارة أخرى قديمة عنها. إلاَّ
أنها صارت معروفة منذ بدء القرن الثامن
([17]).

60:1 «فَأَجَابَتْ أمُّهُ
وَقَالَتْ: لاَ بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا».

واضح
أن أليصابات قد أخذت إعلاناً بمفردها، ومن الأمور المتيقنة عند الروحيين أنه إذا
توافق اثنان بالروح وبالأخص إن كانا زوجين فإن الإعلان الذي يراه الزوج تراه
الزوجة وفي نفس الوقت، ويكون هذا لتأكيد صوت الله كما يراه الله لمجد اسمه. ويبدو
هنا أن هذا حدث أيضاً، فأليصابات علمت بالروح أنه يسمَّى يوحنا فرفضت اسم زكريا.

61:1
«فَقَالُوا
لَهَا: لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاِسْمِ».

هذا
يفيد إفادة قاطعة أن اسم يوحنا لم يجيء ليناسب العائلة؛ بل هو اسم يناسب الله
وبالتالي البشرية كلها. وفرق أن يولد إنسان للناس من أن يولد لله ولتمجيد اسم
الله. هذا حتماً أدركه يوحنا نفسه فيما بعد وأدرك معناه والقصد منه.

62:1و63 «ثُمَّ أَوْمَأُوا
إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى. فَطَلَبَ لَوْحاً وَكَتَبَ
قَائِلاً: اسْمُهُ يُوحَنَّا. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ».

«أومأوا»: ™nšneuon

ومعناها:
“أعطوا إشارة لزكريا” لأنهم لم يرتاحوا إلى أن أُمه تعطيه الاسم، فعادوا حسب
التقليد إلى أبيه، خاصة وأنهم أدركوا ما يحيط هذا الصبي من أسرار. وهنا طلب زكريا
لوحاً وغالباً ما يكون من الخشب المصقول الملوَّن، وكتب عليه
«اسمه يوحنا». وهنا كان
العجب بالنسبة للناس لأنهم أدركوا أن الاسم أُملِيَ على الوالد كما أُملِيَ على
الوالدة، كما أنهم رأوا زكريا ينطق بعد صمته الطويل الذي دام حتى الآن تسعة شهور
وثمانية أيام وفتح شفتيه وسبَّح الله.

64:1 «وَفِي الْحَالِ
انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ».

هنا
انفتاح فم زكريا هو المقابل للصمت الذي وقع عليه، فالأول كان بإرادة الله والثاني
حتماً يكون بهذه الإرادة. فالأول لم يكن عقاباً بقدر ما كان تدخُّلاً إلهياً لحفظ
السر في بيته:
» سرِّي لأهل بيتي « والأول يوازيه تكرار طلب المسيح من تلاميذه والناس وحتى الأرواح
الشريرة أن لا تكشف سر مسيَّانيته قبل أوانه. وهنا الاحتفاظ بسر ميلاد المعمدان
يدخل حتماً في هذا السر. فلمَّا رُفع عنه الحظر انطلق يسبِّح الله بنفس القوة التي
ضغطت عليه أن لا ينطق. وطبعاً قوله هنا:
» بارك الله «يشير إلى التسبحة
المشهورة لزكريا التي سنأتي على ذكرها حالاً. ومنها ندرك كيف اختير هذا الكاهن
المبارك ليدخل بل ليفتح العهد الجديد بشهادته وتسبحته التي جاءت كموسيقى المارش
لإعلان ظهور الملك.

65:1 «فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى
كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهذِهِ الأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ
الْيَهُودِيَّةِ».

قصد
الله هذه الهزَّات التي أراد بها أن يوقظ الشعب النائم في ظلمة الموت. ولكن الذي
يُذهلنا جداً أن يغيب الهيكل وخُدَّام الهيكل ورؤساء الهيكل عن هذه المعجزات ولا
تُقلِق لهم نوماً أو سباتاً، مع أن الهيكل كان أول مسرح لأعمال نعمة الله لبدء
استعلان تحقيق عهود الله ومواعيده. فالخوف هنا يشمل اليهودية، أي كل ما يحيط
بأُورشليم والهيكل. وأن يُستثنى منه رجال السنهدرين هنا تحُسب ضربة تأديب، لأنه
المكان الوحيد والأشخاص الوحيدون الذين وقفوا منذ الأجيال يرصدون حركات الروح والسماء
ومجيء المسيَّا وحساب أيامه ومكانه عن دراية وتسليم! يَغُطُّون في نومهم وبوق
النعمة يدوِّي ويغطِّي البلاد كلها.

لذلك
أشرق نهار الخلاص وأمَّا هم فحسبوه لا يزال ليلاً:

+
» صرخ إليَّ صارخٌ من سعير: يا حارس ما مِنَ الليل (ماذا بقي
على الفجر) يا حارس ما مِنَ الليل، قال الحارس: أتى صباحٌ وأيضاً ليلٌ. إن كنتم
تطلبون فاطلبوا. ارجِعوا تعالوا.
«(إش
21: 11و12)

أمَّا الخوف فلأن الله بدأ يعمل عمله العظيم والناس في
تخاذل أعظم. أمَّا كون قصة المعمدان قد
صارت
أغنيةً على ربابة فالناس تجمَّعوا ليسمعوا وانصرف كل واحد إلى حاله. وأمَّا تعبير
المسيح عن
هذا الحال فهو أنه بحلول ابن
الله الحجارة تصرخ، ولكن الذين عميت عيونهم وسُدَّت آذانهم لا يرون
ولا يسمعون ولا يتكلَّمون. فإذا تكلَّموا فباللعن
والتجديف. والزمان دواليك وما كان بالأمس كان
اليوم.

66:1 «فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ السَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ: أَتَرَى
مَاذَا يَكُونُ هذَا الصَّبِيُّ؟ وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ».

كانت
الأعمال التي عُملت أمامهم سواء في زكريا أو أليصابات، وما جرى أثناء ختانة الصبي
توضِّح أن هنا عملاً عظيماً يُعمل، فما بال الصبي ماذا سيكون، والكل ترجَّى أن على
قدر عظمة الأعمال التي عُملت من الرحمة والعناية في ميلاد طفل المعجزة يوحنا سيكون
حتماً عمله وشأنه، ولكن ماذا سيكون؟ فهذا أودعوه للزمن، فالولد لا يزال يرضع ويوضع
على الكتف.

ولكن الذين تعقَّبوه سواء في طفولته أو صُبوَّته أحسُّوا
بيد الله ترعاه وتقوده وقوة القدير تحيط
به.

67:1
«وَامْتَلأَ
زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلاً:»

هنا
يضعنا القديس لوقا أمام واقع نبوي: امتلاءٌ بالروح القدس وتنبُّؤ! هنا ندخل مع ق.
لوقا في مجال نطق الروح القدس وتعبيراته وإشاراته. هنا يكف ق. لوقا عن الكلام
المسلَّم من خُدَّام الكلمة، ويبدأ ليعطي الكلمة نفسها فرصة الكلام. القديس لوقا
هنا يصبح دون أن يدري من زمرة الأنبياء، ينعطف بعيداً عن رواية إنجيله ويرتفع ليرى
المشهد من فوق كما رآه الله وخطَّطه، هي إطلالة سماوية عمَّا حدث ويحدث وسيحدث،
الروح انسابت بعيداً عن الزمن لترصد حركات الزمن من بُعد وتخضعه للخلود.

أيها
الناقدون المتعلِّمون والمتعاظمون بعلمهم، كفُّوا، فالمتكلِّم هنا ليس ق. لوقا بل
هو روح الله. الناطق بكلام الله. فالذي يخضع يزداد فهمه والذي لا يخضع فالذي يفهمه
في الأول يفقده في الآخر. نحن هنا أمام مزمور تسابيح لا يقل عن الذي كان لداود.
فهنا يتم قول ق. بولس:
» أُصلِّي بالروح
وأُصلِّي بالذهن أيضاً
«(1كو 15:14)، فالكلام هنا صلاة وفق الذهن اليهودي.

68:1 «مُبَارَكٌ الرَّبُّ
إِلهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ».

إنها
تسبيح بركة لإله إسرائيل وليس ذكراً للأُمم، فهو تسبيح يهودي صرف نطقه زكريا وهو
مفعم بأخبار ووعود الله قديماً، إذ اليوم حدث افتقاد فعلي أي زيارة منظورة ومسموعة
لشعبه.

وكلمة
» افتقد «هنا ™peskšyato هي كلمة كنسية، هي زيارة، هي نظرة أسقفية. فالاسم من هذه
الكلمة هو
™p…skopoj أي أسقف أو ناظر من عَلٍ نظرة شاملة ™pi-skopoj
فالحرف الأول
™p… يعني فوق، من عَلٍ، المقطع الثاني skÒpoj يعني النظر والملاحظة، فالإبيسكوبوس هو مَنْ يُلاحِظ أو يُفتِّش أو يحرس أو يحمي، ولا تقال إلاَّ
للملوك والآلهة بمعنى من ينظر ويرعى ويفتِّش من
فوق.

فهي
هنا تعطي الله صفة الأسقفية العليا، لذلك في الدعاء نقول: إن الله هو أسقف نفوسنا
(1بط 25:2)، وهو دعاء طقسي
([18]) بمعنى الذي
يحكم ويقود ويرعى.

فهذه
الأنشودة التي افتتح بها زكريا العهد الجديد افتتحها باستعلان وظيفة الله الجديدة
أن يأتي ويستلم شعب رعايته ويمارس حكمه السماوي:
» فقال الرب
لقد رأيت مذلَّة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم، إني علمت أوجاعهم
فنزلت لأنقذهم …
«(خر 3: 7و8). وهذا هو الذي تحمله كلمة “افتقدنا من
العلاء”. هذا هو فجر عمل الخلاص المزمع أن يكون لبدء صنع الخلاص المعدّ منذ الدهور،
والذي تكلَّم عنه الآباء والأنبياء متواتراً.

والخلاص الذي يتكلَّم عنه زكريا الكاهن ليس هو الخلاص
الروحي بل الخلاص من الأعداء
الظاهرين المُستَولين
على البلاد. كذلك الفداء، فلم يدرك زكريا بعد الفداءَ العام لكل العالم؛ بل فداءً
محدوداً
للشعب كالفداء من مصر. ويخطئ
العلماء الذين ينسبون مفهوم الخلاص والفداء هنا إلى العصر
المسيحي، فزكريا
مثل يوحنا ابنه مثل بقية الآباء القدامى
» في الإيمان
مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد، بل من بعيد نظروها وصدَّقوها وحيُّوها
وأقرُّوا بأنهم غرباء ونُزلاء على الأرض.
«(عب 13:11)

هنا
ننبِّه أنه لا يجوز الخلط بين ميلاد المعمدان وميلاد المسيح، فالأول يمهِّد للثاني
ولكن لا يتداخل فيه بأي حال من الأحوال، وإلاَّ نُخطئ خطأً كبيراً لشخصية المعمدان
الذي لم يكن إلاَّ صوت صارخٍ في البرية، ومصباحاً صغيراً أضاءَ إلى ساعة. فهو لم
يكن
» النور «بل جاء ليشهد » للنور «ومن بعيد،
ويكفيه هذا فهو عمل لم يقم به غيره.

69:1
«وَأَقَامَ
لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ».

كان
زكريا على وعي تام أن يوحنا ابنه لم يزد عن كونه
» نبي العلي
يُدعى
« أمَّا صاحب
النبوَّة الذي جاء المعمدان يخدمها وينير الطريق أمام صاحبها فهو من بيت داود حسب
جميع النبوَّات. علماً بأن لا زكريا ولا أليصابات من بيت داود. إذن، فهو يتكلَّم
هنا جهاراً عن المسيَّا القادم.

«وأقام لنا قرن خلاص»:

تعبير
يهودي عن قوة الخلاص القادم على الفتك بالأعداء. إذن، فزكريا لا يزال محصوراً في
مناظر الخلاص قديماً التي تمَّت بالقوة القاهرة وسحقت الأعداء ونجَّت الشعب بجبروت
الله. ونحن لا نستطيع أن نصف خلاص المسيح على الصليب بأنه قرن خلاص، لأن المعركة
الفاصلة التي تمَّت لحساب خلاص العالم لم تكن بالقوة المنظورة بل بتحمُّل ضعف
الإنسان على الصليب الذي به حطَّم قرون العدو. لذلك فتصوُّر الخلاص الذي رآه زكريا
بأنه على مستوى القرن الضارب هو تصوير قديم يناسب ما قبل الصليب. لذلك يبقى سر
الخلاص إلى آخر لحظة في العهد القديم منحجباً، فمن ذا يصدِّق أن
» بالموت داس
الموت
« ونظرة إشعياء في
هذا صارخة تحمل أقوى تعبير عن وسيلة الخلاص الذي تمَّ:
» ونحن حسبناه
مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا،
تأديب سلامنا عليه …
«(إش 53: 4و5)، » لا بالقدرة
ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود.
«(زك 6:4)

70:1 «كَمَا تَكَلَّمَ
بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ».

هنا
دخل زكريا في أسلوب الليتورجيا على أنغام أصوات العهد القديم، فهي لغة هيكلية.
فكأنه يجمع التاريخ القديم كله ويستودعه على عتبة الإشراقات الأُولى لبني العهد
الجديد:
» وأنت أيها الصبي « و» القديسين منذ الدهر «الذين
تكلَّموا عن الخلاص العتيد أن يكون في آخر الأيام، يبدأون منذ آدم ووعد الله كأول
رنَّة خلاص ردَّدها الزمن، يجيء بعدها من فم موسى كأول حركة للخلاص في صورته
البدائية.

والقديسون
تكلَّموا منذ الدهر حقيقة «عن الخلاص العظيم» الذي سيكمِّله الآتي ولن يبطئ،
ولكنهم تكلَّموا أيضاً عن
» أزمنة رد كل شيء التي
تكلَّم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر
«(أع 21:3). فهي نفس الآية بحروفها كما جاءت في سفر الأعمال على
لسان ق. بطرس. الأُولى عن الخلاص والثانية عن مجيء المسيح بعد أن قبلته السماء إلى
زمان رد كل شيء. وهنا تبدو هذه اللغة أنها موروثة في التعبيرات النبوية عن تسجيلات
الله عبر الزمان.

71:1
«خَلاَصٍ
مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أِيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا».

هنا
تحديد الأعداء والمبغضين يكشف عن معنى الخلاص المقصود، فالأعداء والمبغضون هم
الأُمم أعداء كل الدهور السالفة لليهود. إذن، فالخلاص هو خلاص سياسي بمعنى
التحرُّر من عبودية الرومان والوقوع تحت ظلم حكومتهم وعدائهم. وهذا هو الذي كان
يقصده زكريا من قوله السابق
» لأنه افتقد وصنع فداءً
لشعبه
« وطبعاً قوله: » خلاص من
أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا
«يأخذ هنا مفهومه القديم
اليهودي غير مفهومه في العهد الجديد الذي هو الشيطان والخطية وأهواء الجسد.

وفي
الحقيقة يُحتسب أن الأعداء والمبغضين سواء في العهد القديم في مفهوم العبودية
السياسية، أو في العهد الجديد في مشاغبة
الشيطان وتسلُّط الخطية وسيطرة أهواء الجسد، إن كان هذا أو ذاك،
فهو عامل أساسي يجعل العبادة فاقدة سرورها وفرحها
وانطلاقها. فإن تخلَّصنا منها “فإننا بلا خوف
نعبده”.

72:1
«لِيَصْنَعَ
رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ».

يُلاحَظ
هنا أن زكريا يعتبر الوعد أنه عهد، وأن بداية تنفيذ الوعد أو العهد هو الافتكار
فيه أو تذكاره. أمَّا
» يصنع رحمة مع آبائنا «فوضعها شاذ
وينبغي أن تُفهم على أن الله يذكر رحمته مع الآباء فيبدأ ينفِّذ عهده. لأن السبب
الأساسي في إجراء العهد مع إبراهيم وإسحق ويعقوب هو محبة الله لهم التي أفاضت
أحشاء رحمته عليهم، فظلَّت المحبة والرحمة في قلب الله لم تنطفىء إلى أن جاء
ميعادها ليظهرها وينفذها في نسلهم. فلو تذكرنا أن وعد الله لإبراهيم أن بنسله
(المفرد) سوف تتبارك الأُمم كان أساساً لحبٍّ شديد للغاية سكبه الله على إبراهيم
فأفاض حنانه ورحمته عليه ثم على نسله؛ ثم لو علمنا أن هذا النسل (المفرد) الذي
وُعد به إبراهيم هو هو يسوع المسيح، وهو في الحقيقة “الرحمة” بعينها
مشخَّصة بابن الله، حينئذ نفهم معنى قول زكريا ليصنع الرحمة التي أظهرها لآبائنا.
بمعنى أن ميلاد المعمدان ليعدّ الطريق أمام المسيَّا الموعود به والذي حُبل به في
البطن فعلاً، هو تذكُّر الله لعهده المقدَّس الذي صنعه كرحمة مع آبائنا. وحتى
البركة التي نلناها نحن من تكميل وعد الله ورحمته مع آبائنا هي تكميل وامتداد
لرحمته وبركته للآباء:
» وتتبارك فيك جميع قبائل
الأرض.
«(تك 3:12)

73:1
«الْقَسَمَ
الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا».

جميل
هنا أن نذكر القَسَم الذي هو سبب بركة الأرض كلها:
» بذاتي أقسمت
يقول الرب إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة
وأُكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب
أعدائه ويتبارك في “نسلك” (بالمفرد) جميع أُمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي
«(تك 22: 1618). ثم يعود الله ويكرِّر
وفاءه بالقَسَم لإسحق ابن إبراهيم:
» تغرَّب في هذه الأرض
فأكون معك وأُباركك لأني لك ولنسلك أُعطي جميع هذه البلاد، وأُوفي بالقسم الذي
أقسمت لإبراهيم أبيك وأُكثر نسلك كنجوم السماء وأُعطي نسلك جميع هذه البلاد
وتتبارك في نسلك جميع أُمم الأرض
«(تك 26: 3و4).
ثم عاد الله وكرَّر الوعد ليعقوب:
» وهوذا الرب واقف عليها
(السلم) فقال أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحق. الأرض التي أنت مضطجع عليها
أُعطيها لك ولنسلك. ويكون نسلك كتراب الأرض وتمتد
غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض
«(تك 28: 13و14). ويذكر هذا القَسَم إرميا النبي هكذا: » لأُقيم الحلف الذي حَلَفت لآبائكم أن أعطيكم أرضاً تفيض لبناً وعسلاً كهذا
اليوم
«(إر 5:11). ويتغنَّى داود بهذا
العهد:
» ذكر إلى الدهر عهده، كلاماً أوصى به إلى ألف دور، الذي عاهد
به إبراهيم وقسمه لإسحق. فثبَّته ليعقوب فريضة ولإسرائيل عهداً أبدياً.
«(مز 105: 811)

74:1
«أَنْ
يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا،
نَعْبُدُهُ».

هنا
يركِّز زكريا مضمون القَسَم والعهد الذي صنعه الله مع آبائنا أنه حتماً سيمنحهم أن
يعبدوه بلا خوف وهم منقذون من أيدي أعدائهم.

حقيقة
أن هذا الوعد والقَسم بهذا العهد أُعطي منذ القديم جداً لإبراهيم وإسحق ويعقوب
كرؤوس آباء، ولكن قط لم تنعم إسرائيل بعبادة بدون خوف وبدون أعداء، وحتى وإن نعمت
به بصورة مادية قليلة في أيام داود وسليمان. ولكن واضح جداً أن هذا القَسَم انصبَّ
على الأيام التي سيأتي فيها النسل (بالمفرد) الموعود وهو يسوع المسيح ابن الله.
لأن القَسَم مرتبط أساساً ببركة كل الأُمم في هذا النسل (بالمفرد) وهذا لم يحدث
إلاَّ بالمسيح.

لذلك
كان نشيد زكريا هنا بتذكار هذا القَسَم وبدء تتميمه هو أول عهد العبادة بلا خوف.
لأن العبادة الروحية ترتفع وتترفع عن كل تهديدات أرضية مهما كانت:

+
» مَنْ سيفصلنا عن محبة المسيح (وعبادته) أشدَّة أم ضيق أم
اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف …
ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا (بلا خوف) بالذي أحبنا.
«(رو 8: 35و37)

75:1 «بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ
قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا».

هنا
العبادة بالقداسة والبر لم يعرفها العهد القديم قاطبة. لأن عبادة القداسة قائمة
أساساً على شركة الروح القدس وتقديس القلب والفكر لله، أمَّا البرّ فهو لا يقوم
على أي عمل بشري مهما كان، وإنما هو هبة المسيح رأساً التي نلناها بالقيامة من
الأموات. فالبر هو بر المسيح الشخصي كابن الله، بمعنى أن عبادة القداسة والبر هي
عبادة في المسيح يسوع والروح القدس.

وهنا
يقولها زكريا بالروح، وهو لم يعرفها ولم يذُقها بعد إلاَّ كسبق رؤيا:
» نظروها من
بعيد وحيُّوها
« ويراها ق. بولس
أنها هدف الله الأسمى والأزلي من خلقتنا:
» كما اختارنا
فيه (في المسيح) قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في
المحبة.
«(أف 4:1)

أمَّا
قوله:
» كل أيام حياتنا «فهذا اصطلاح أُخروي
لأنه تعبير عن الحياة الأبدية، وهي التي ستُستعلن فيها حقـًّا عبادة القداسة والبر
في ملء حقيقتها. لأنه متى يتسنَّى للإنسان أن يحيا الخلاص والفداء في معناه
الحقيقي الكامل والتخلُّص من الأعداء والمبغضين والعبادة بلا خوف إلاَّ عندما يلبس
هذا الفاسد عدم الفساد ونكون مع الرب كل حين!!

وهكذا
بدأ زكريا نشيده يهودياً صرفاً وانتهى برؤية ليست من هذا الدهر!

76:1
«وَأَنْتَ
أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ
وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ».

بعد
ما انتهى نشيد البركة بذكريات البركات والعهود والمواعيد والقَسَم الذي ظلَّ الله
حافظه هذه الدهور كلها، الآن جاء دور الموعود به وصاحب القَسَم الذي تتبارك به كل
أُمم الأرض، الذي هو محور النشيد كله. ولكن زكريا يسبق الحوادث قليلاً، فصاحب
الوعد الذي على رأسه عقد الله لواء القَسَم لا يزال في بطن العذراء، وإنما الذي
وُلِدَ فهو الذي تعيَّن أن يسبقه لمجرَّد أن يعدَّ الطريق أمامه، ولكنه وُلِدَ
بدرجة نبي، وتخصيصاً أخذ لقب نبيّ العليّ لأنه لا يتنبأ عن أمر آتٍ بل يتنبأ
عمَّنْ أتى، ينادي والمسيح وراءه ويشير إليه
في وجهه:
» هوذا
حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
«(يو 29:1)

كان
يوحنا الصبي عظيماً في عيني زكريا أبيه كنبي، ولكنه كان في عين المسيح
» أفضل من
نبي!!
«(مت 9:11).
كان في عُرف زكريا مولود العقم من امرأة أضناها الرجاء واستبدَّ بها اليأس، أمَّا
في عُرف المسيح:
» فلم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا «(مت 11:11)، فهو الذي صبغ ابن الله الصبغة الأُولى بالدفن في
الماء. وهو الذي رأى الروح نازلاً عليه وشهد أنه ابن الله، وهو الذي سار أمامه
يهييء له في قفر قلوب الناس سبيلاً. فكان أول شاهد للمسيح وكان له أول شهيد! وعلى
يديه كما يقول إشعياء: أُعلن مجد الرب ورآه كل بشر (إش 4: 35).

77:1
«لِتُعْطِيَ
شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ».

واضح
هنا أن لقب
» نبي العلي «تحدد في تعليم
الشعب،
تمهيداً لتعليم المسيح. فيوحنا يتقدَّم أمام المسيح، بمعنى أن يبدأ قبل
أن يبدأ المسيح، في إعداد قلوب الشعب لقبول الخلاص العظيم الذي يقدِّمه المسيح
بالفداء. وهذا الإعداد هو تعليمي بتقديم منهج التعريف بالخطايا وإيقاظ القلب
للإحساس بها والندم عليها وطلب التوبة من رحمة الله بالاعتراف الكامل بها. وهذا
سوف يظهر في بدء خدمة يوحنا المعمدان كنبيٍّ مُرسل مِنْ قِبَل الله يحمل التوبيخ
الصارم مع الاستعداد لقبول الندم والتوبة والتهديد بالعقاب، مع الاستعداد بالعفو
والصفح ثم الدعوة لتجديد الضمير والتعهُّد بحياة بدون معصية بالعماد بالماء.

وهذا
المنهج كرَّره ق. بطرس الرسول لمَّا بدأ يعظ الشعب ويعرِّفهم بخطاياهم وتهديد
الهلاك المحيط بهم، فلمَّا بكوا وطلبوا التجديد قال لهم ما يجب أن يفعلوه:
» فلمَّا
سمعوا نُخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة.
فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا
فتقبلوا عطية الروح القدس … وبأقوالٍ أخر كثيرة كان يشهد لهم ويعظهم قائلاً:
اخلصوا من هذا الجيل الملتوي. فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا …
«(أع 2: 3740). فهذه العظة وتأثيرها هي طبق
الأصل من وظيفة المعمدان وعمله يكررها ق. بطرس والتلاميذ بعد أن تدخَّل الروح
القدس بصورة شديدة وأيقظ القلوب. وسوف نعبر على كل خدمة المعمدان عندما نصل إلى
الآيات التي تشرح ذلك.

78:1 «بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ
إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ».

«بأحشاء رحمة إلهنا»: di¦
spl£gcna ™lšouj

كلمة
أحشاء
spl£gcna يعرفها الأطباء وهي تُسمَّى viscera
وتشمل القلب والرئتين والكبد والكليتين، وقد تعني عند المرأة الرحم، وهي الأعضاء
التي تُفرز من الذبيحة قبل أن يأكلها مقدِّمها. لذلك فهي تعني معنى “الذبائحية”.
لذلك جاء منها فعل الإحساس بالرحمة
splagcn…zomai = تحنن
(لو 13:7 و33:10 و20:15)، وتعني الإحساس بالرحمة (الذبائحية) بمعنى البذل،
وتدخل دائماً في التطلُّعات نحو رحمة الله
» يفتقدنا
بأحشاء رحمته
« وبالعبرية أحشاء
رحمة
rahemîm إلهنا تفيد عهد الأمانة الذي
أقامه الله مع الآباء وهو قائم من جيل إلى جيل:
» ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه « بمعنى أن عهد رحمة الله للآباء قائم على مدى جميع الأجيال للذين
يتقون الله كما كان آباؤهم، لأن محبة الله ورحمته لا يمكن أن تنقطع إذا ابتدأت
إلاَّ إذا انقطع الإنسان عن صلته بالله.

وهنا
في هذه الآية فأحشاء رحمة الله بدأت تُستعلن بافتقاد الشعب بمجيء المعمدان ليفتتح
عصر النعمة
، بمعنى أن
خدمة المعمدان وقوة الله التي وهبها له بالنبوَّة ليخدم معرفة الخلاص بمغفرة
الخطايا هي نفسها امتداد لعمل رحمة الله الباذلة، التي عامل بها آباءنا ووعدهم
بتكميلها لنسلهم عند اكتمال الزمان. فها هو قد اكتمل الزمان وجاء موعد تنفيذ
الوعد، والآن قد أشرق الله من العلاء وافتقد الشعب نسل الآباء المحبوبين، وجاء
بنفسه ليكمِّل الوعد بأحشاء رحمته. أمَّا المعمدان فهو النذير البشير باكتمال
الزمان:

+
» وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية
قائلاً: تُوبوا، لأنه قد اقترب ملكوت السموات.

«(مت 1:3)

+
» وكان يكرز قائلاً: يأتي بعدي مَنْ هو أقوى مني، الذي لست
أهلاً أن أنحني وأحلَّ سيور حذائه. أنَّا عمَّدتكم بالماء، وأمَّا هو فسيعمِّدكم
بالروح القدس.
«(مر
1: 7و8)

«التي بها افتقدنا»: ™piskšyetai

وهنا
يتكرَّر مفهوم “الافتقاد” الذي سبق أن شرحناه في الآية 68.

«المشرق من العلاء»: ¢natol¾ ™x Ûyouj

كلمة
“أناتولي” أصلاً هي كلمة “بزوغ” وقد حُجِزَت في اللغة لبزوغ الشمس، ولكن إذا أتت
بمفردها فهي تعني ظهوراً مشرقاً، وتُستخدم فقط بهذا المعنى للمسيح لأنه هو نور
العالم. لذلك جاءت كلمة
» من العلاء «لتحدِّد شخصية المسيَّا. وقد استخدمها بلعام النبي المُبارِك لإسرائيل رغماً
عنه

بقوله:
» يبرز كوكب من يعقوب ¢natele‹
¥stron
«(عد 17:24) تعبيراً عن ظهور المسيح في إسرائيل.

79:1 «لِيُضِيءَ عَلَى
الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا
فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ».

«ليضيء»: ™pif©nai

وهي
لا تعني أصلاً يُضيء، ولكنها تعني بالأكثر يظهر للآخرين (مثلاً في تي 11:2:
» لأنه قد
ظهرت
™pef£nh نعمة الله «، ولكنها هنا لاتصالها الشديد بكلمة » المشرق «بالنور
أصبحت تفيد “الإضاءة على” بالتبعية، لأن المُشرق من العلاء بالنور حتماً يضيء، وهو
أيضاً وبالتالي يضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت.

وهنا
لا يفوتنا التقليد الشرحي في الإنجيل لنفس المعنى وفي نفس الموضع كما جاء في
إشعياء:

+
» وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأُمم لتفتح عيون العمي لتُخرج
من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.
«(إش 42: 6و7)

+
» الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في أرض
ظلال الموت أشرق عليهم نور.
«(إش
2:9)

«لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام»:

النتيجة
الحتمية لإشراق النور من العلاء بنوع من الافتقاد للسائرين في الظلمة والجالسين في
ظلال الموت أن النور يهدي مسيرة المتعثرين في الظلام. ولكنه ليس نوراً من الأرض
ليضيء الأرض، ولكنه نور من العلاء يضيء القلب والداخل. فهو قبل أن يضيء الطريق
يفتح عيون العمي عن طريق الحق ليروا الحق. لذلك يقول زكريا هنا
» طريق السلام « فهو حياة في الداخل وليس مسيرة في الخارج. وقيادة النور هي وحدها
التي تعطي السلام، والسلام هو وظيفة النور الحقيقي بالدرجة الأُولى. فإشعياء دعا
المسيح
» رئيس السلام « أمَّا أول عمل له الذي أعلنته الملائكة من السماء بهتاف وتهليل
فهو
» على الأرض السلام «كرد فعل رسمي لظهور
المجد في السماء وبالنهاية للناس المسرة. وهذا الذي قيل عن المسيح قبل مجيئه يقوله
المسيح بعد مجيئه:
» أنا قد جئت نوراً إلى العالم
فسيروا (في النور) ما دام لكم النور لئلاَّ يدرككم الظلام. والذي يسير في الظلام
لا يعلم إلى أين يذهب. ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور

«(يو 12: 46و35و36). علماً بأن الظلمة وظلال الموت تعبير عن
الموت، والنور تعبير عن الحياة، وذلك في الأسلوب الروحي.

80:1
«أَمَّا
الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي
إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ».

وقبل
أن يختم القديس لوقا قصة ميلاد المعمدان، أراد أن يضع مقدِّمة لظهور المعمدان
لإسرائيل محاولة منه لملء الفراغ الكبير الذي تُرك عن غير قصد بين قصة ميلاده وبدء
ظهوره. وإذا كان من الواضح أن بدء حياة المعمدان كانت بإعلان ملائكة، فلا مانع أن
تتتبَّع الملائكة نموه وحياة نسكه وتقشّفه والتجاءه إلى البراري لمراجعة مهمته على
الأنباء والإعلانات التي سمعها من أبيه وأمه. هكذا كانت حياته مختفية في البراري
كما كانت حياة إيليا مستورة إلى حد كبير، الذي كان ظهوره كنبي فجأة
(1مل 1:17) ليربط السماء حتى لا تمطر ويعطيها الأمر أن تأتي بمطرها مما زلزل
إسرائيل، ولكن لا الملك تاب ولا إيزابل الخائنة تابت
وما أصعب
الحديث عن حياة الأنبياء فكلها صفحات تظهر فيها ومضات تدبيرات الله ثم تخبو:

+
» كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره
ساعة.
«(يو
35:5)

+
» من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقرَّ أني لست أنا المسيح!! «(يو 19:1و20)



([1])
A. Feuillet, “Témoins occulaires et serviteurs de la Parole”, Novum
Testamentum
15, 1973, pp. 241-259, cited by I. H. Marshall, The Gospel
of Luke,
p. 42.

([2]) مأخوذة عن يوسيفوس المؤرِّخ.

([3])
J. Jeremias,
Jerusalem in the Time of Jesus, London, 1969, pp. 198-207.

([4])
J. Jeremias, op. cit., pp. 213-221.

([5])
TDNT, II, 928-941 (TDNT = Kittel, Theological Dictionary of the New
Testament
).

([6])
I. Howard Marshall, The Gospel of Luke, p. 54.

([7])
Josephus, Ant., xiii, 10,3.

([8])
H. A. W. Meyer, op. cit., p. 235.

([9])
Tamid 6.3,
cited by I. H. Marshall, The
Gospel of Luke,
p. 55.

([10])
J. Jeremias, TDNT, VI, 536-546.

([11]) المُسكر هو الخمر غير المصنوع من
العنب، ولكن كان يُصنع من الفواكه الأخرى مثل البلح والشعير والكريز …

إلخ.

([12]) أخطأ جميع العلماء اليهود وجاراهم الآخرون في القول بأن الله منح اليهود
الأرض من النهر إلى النهر، حيث النهر الأول ظنوا أنه نهر النيل. ولكن يوجد ناحية
العريش في جميع الخُرط القديمة نهر معروف اسمه أنه نهر مصر. من هنا جاء الالتباس،
لذلك وجب التنبيه. وسمِّي “نهر مصر” لأنه كان هو حدودها.

([13]) تحدَّد عددهم بسبعة في سفر طوبيا: «أنا روفائيل واحد من السبعة الملائكة
القديسين الذين يرفعون صلوات القديسين ويدخلون (بها) أمام مجد القدوس.» (طوبيا
15:12)

([14]) وهو شجر الشوح أو الشربين Fir ويؤخذ منه خشب الموسكي وشكله مخروطي كالصنوبر.

([15]) “الشاروبيم يسجدون لك والسيرافيم يسبِّحونك صارخين
قائلين: قدوس قدوس قدوس” (مرد الشعب في القداس الباسيلي).

([16]) J. Gresham
Machen, “The Virgin Birth of Christ”
London, 1932².

([17]) I. H. Marshall, The Gospel of Luke, p.
88.

([18]) يُقال
في أوشية المرضى: “يا مُدبِّر (إبيسكوبوس) كل جسدٍ تعهَّدنا بخلاصك”!

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد قديم سفر المزامير 44

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي