الإصحَاحُ الْحَادِي عَشَرَ

 

3
الصلاة الربانية

(1:114) (مت 9:613)

Oratio Dominica: Pater Noster The Lord’s Prayer: Our
Father

قدَّمها المسيح
لتلاميذه لمَّا سألوه أن يعلِّمهم كيف يُصَلُّون. وفي ظاهرها واضح أنها تحدِّد
علاقة الإنسان بالله في الصلاة، وقد جعلها المسيح أساساً في التعليم والفرصة
الكبيرة المتكرِّرة للحديث مع الآب. وبعدها يذكر ق. لوقا في قصة صديق نصف الليل
استعداد الله لسماع الصلاة، وأن اللجاجة في
الصلاة مطلوبة حيث يُظهر الإنسان بها أنه جاد في صلاته وطلبته:
» مَنْ يطلب يجد «(لو 10:11). والمسيح يكشف
لنا استعداد الله الآب للإجابة أكثر من استعداد الأب البشري:
» فإن كنتم
وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء.
«(لو 13:11)

و» أبانا الذي «في إنجيل ق.
لوقا واضح فيها أنها مأخوذة من أصل أرامي تمَّت ترجمته إلى اليونانية، والبرهان
واضح لأن في كتابة
» أبانا الذي «باليونانية
يظهر أنها على أصل كان شعرياً في الوزن، لأن المسيح نفسه نطقها بالروح([1]) على
أصول وزن الشعر الأرامي المسلَّم في التقليد. وكل الأبحاث قرَّرت أن الصلاة
مسلَّمة من فم المسيح بالفعل. وهي قائمة بالفعل على أصول تعاليم المسيح. والنطق
المحوري في
» أبانا الذي «هو » ليأتِ
ملكوتك
«وهو يعبِّر عن التعطُّش الشديد الذي أحسَّ به التلاميذ من
نحو ملكوت الله والحاجة إلى طعامه اليومي والاستسلام لمشيئة الله التي تدبِّرنا
على الأرض كما يدبر ملائكته في السماء، وطلب المصالحة الدائمة مع مشيئة الله
بمغفرة الخطايا على أساس من العلاقة التي تربطنا بإخوتنا على الأساس نفسه، أي
بمغفرة ذنوبنا بعضنا لبعض، وطلب الحماية من الله إزاء عدونا بالنجاة الدائمة من كل
حيل الشرير. وتنتهي الصلاة بحسب الكنيسة الأُولى بتمجيد الله. وقد وُجدت
كما نقولها الآن في الديداخي (2:8)، كما وُجدت بصورتها المطوَّلة
الأُولى في قداسات الكنيسة الأُولى.

وكما هو واضح من الصلاة
أنها تبدأ بمقدِّمة وبعدها سبع طلبات، الثلاث الأُولى للسؤال من أجل تمجيد الله
والأربع الأخرى توسُّل من أجل احتياجاتنا.

ومن فجر المسيحية من
العصور الأُولى وهي تُعلَّم تلقيناً لكل من يدخل للعماد، فهي أول تعليم يتلقاه
المعمَّد، على أنها موجودة في صلب الليتورجية وهي مذكورة كثيراً في الإفخارستيا.
ويشهد بذلك القديس كيرلس الأُورشليمي (350م). وبحسب ق. أغسطينوس وق. أمبروسيوس
تُقال في ليتورجيتهم بعد القسمة (كسر الخبز)، وقبل إعطاء القبلة مباشرة، ويأتي
بعدها التناول أي الشركة. ولكن ق. غريغوريوس الكبير (604م) الذي كان يتبع الطقس
الروماني وضعها قبل القسمة وكان من صميم اعتقاده أن الرسل استخدموا صلاة
» أبانا الذي «كإفخارستيا
بحد ذاتها أي لتقديس الإفخارستيا. وفي الكنيسة الكاثوليكية بدأ وضعها أيضاً بعد
التناول سنة 1552م. وبعد ذلك دخلت في كل ساعة من الصلوات وبداية ونهاية للصلوات
العامة واجتماعات الكنيسة. وكان يدعوها القديس أغسطينوس منبع كل صلاة.

أمَّا في الإنجيل:

فتبدأ صلاة “أبانا الذي
في السموات”، قبل أن تبدأ بطلب التلاميذ، حسب إنجيل ق. لوقا.

1:11 «وَإِذْ كَانَ
يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ:
يَارَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضاً
تَلاَمِيذَهُ».

إذن، فالصلاة الربانية
ليست نموذجاً للصلاة القويمة وحسب؛ بل هي بالأكثر صلاة امتياز تعرِّف بمَنْ
يُصلِّيها إنه من خاصة المسيح! هكذا استلمتها الكنيسة منذ البدء كمنحة من المسيح
تَسْتَعلن بها شخصيتها ووجودها في العالم، باعتبار أنها للرب هي، وللرب تحيا
وتعيش، في شركة مع المسيح، محدَّدة الهويَّة كجماعة ورثت الخلاص.

2:11 «فَقَالَ
لَهُمْ: مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ،
لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي
السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ».

«“أبانا” = (يا أبَّا)
الذي في السموات»:

من مطلع الصلاة، تنكشف
العلاقة الحميمة والخاصة جداً التي تربط الإنسان المسيحي بالله، فنداء “أبَّا” هو
بالأرامية، وهي لغة المسيح، وتنحصر هنا في نداء الطفل أول ما يتعلَّم
الكلام مُنادياً أباه([2]) “يا أبَّا”. ولكن في لغة المسيح نجد
أن مناداة الله الشخصية جداً تأتي بنفس هذا النداء “أبَّا”!! وبنفس هذا المعنى،
تأتي أيضاً مُعبِّرة عن عمق ثقة المسيح في الله ومدى سلطانه. فبهذا النداء عينه
نُنادي نحن الله الآب: كـ
» أحد الصغار المؤمنين «(مر 42:9)، أو بالحري كأحد أفراد بيت الله وإخوة المسيح، نشاركه في
ثقته بالله أبيه وأبينا، وفي سلطان بنوَّته أيضاً! هذا المعنى عينه التقطه بولس
الرسول الموهوب وعبَّر عنه هكذا:
» إذ لم تأخذوا روح
العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم “روح التبنِّي” الذي به نصرخ يا أبَّا الآب. الروح
نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله…
«(رو 15:8و16)، وبولس الرسول يقصد تماماً أنه إن استطعنا أن ننادي
الله يا “أبَّا”، فهذا معناه أننا نلنا روح التبنِّي، وبالتالي صار الله
أباً لنا، وصرنا نحن مع المسيح ورثته:
» ثُمَّ بما أنكم أبناءٌ
أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أَبَا الآب!
«(غل 6:4)

لهذا، وبسبب بقية مضمون
الدالة التي تملأ الصلاة الربانية كلها، انتبه كل الآباء القدامى ليضعوا في
مقدِّمة هذه الصلاة بنوع من الاعتذار هذا القول: “امنحنا أن نجترئ أيها الآب أن
ندعوك:
» أبانا الذي… «([3]).

وفي القداس الروماني
تبدأ الصلاة الربانية: “نحن نجترئ ونقول:
» يا أبانا
الذي…
«، أما في الطقس
القبطي الأرثوذكسي الحالي فنقول: “اجعلنا مستحقين أن نقول…”، غير أن الاستحقاق
هنا ربما لا يسنده إلاَّ كوننا أطفال الله([4]) .

«ليتقدَّس
اسمك»:

أول تقديس لاسم الله
سمعه الإنسان، كان ما سمعه إشعياء النبي حينما استُعلن له الله في هيكله!! (إش
1:64)، وهكذا كل استعلان لله يُرافقه تقديس اسم الله حتماً، ولأن
إشعياء رأى رؤيا العين الله جالساً في هيكله، سمع في الحال هتاف السيرافيم،
هذا ينادي ذاك لتدوِّي السماء كلها والأرض:
» قدوس قدوس
قدوس رب الجنود مجده ملءُ كل الأرض، فاهتزَّت أساسات العَتَب من صوت الصارخ، وامتلأ
البيت دخاناً
«

ونداء صلاة “أبانا
الذي”، بتقديس اسم الله كأول طلب في هذه الصلاة، هو بمثابة استدعاء سرِّي
لاستعلان مجد الله!
هو هتاف قلبي اسخاتولوجي لطلب مجيء الرب بإلحاح لتحقيق
صراخ السيرافيم في رؤية إشعياء لكي يصير «مجده (مجد الرب) ملءُ كل الأرض!!» (إش
3:6)، «فيُعلَن مجد الربِّ ويراه كل بشر!!» (إش 5:40)

إن تقديس اسم الله في
“أبانا الذي” هكذا كل يوم وكل ساعة وبلا ملل، هو محاولة عنيفة من جهتنا أن نغطِّي
وجه زمان غربتنا، وشقاء وتعب يومنا وعمرنا، برؤية إيمانية حارة متلهِّفة لاستعلان
مجيء المسيح في ملء مجده ليتحقَّق
» مجد الرب ملء كل الأرض « لقد أخذنا في ندائنا بتقديس اسم الله هكذا متواتراً عمل
السيرافيم، ولن نكف حتى نرى ما رأوا!

«ليأتِ
ملكوتك»:

هكذا
يتحقَّق للقارئ مدى صدق معنى
» ليتقدَّس اسمك « كما أسلفنا. فالتقديس المتواتر لاسم الله هو
دفعٌ سرِّيٌّ متعمِّق ومُلتهب لاستعلان الله على الأرض، الذي هو بعينه “ليأتِ
ملكوتك”!! ليُستعلن الله ملكاً على مَنْ مَلَكَ الله قلوبهم!

ولكن أعجب ما في أمر
طلبنا لتقديس اسم الله وطلبنا ليأتي ملكوته، أن المسيح نفسه هو الذي يحثُّنا على
طلب هذا وطلب ذاك!! إن المعنى المستتر خطير للغاية بالنسبة لدورنا الرئيسي في عمل
الله على الأرض!!

لأنه إن قال إنه سيأتي
في ملكوته، فملكوته آتٍ آتٍ حتماً، ولكن أن يحثَّنا نحن أن نطلب مجيئه فهذا ضرورة
مطلقة، لأنه لِمَنْ يأتي وعلى مَنْ يملك؟ لهذا فنداؤنا لله لمجيء ملكوته هو عن قصد
متعمَّد من الله والمسيح، أن نكون شركاء في مجيئه هذا وشركاء في ملكوته أيضاً حين
يأتي، نكون كعاملين منظورين لعمل غير منظور، كنقط فعَّالة ومُضيئة على الأرض
تُعدُّ موضع ارتكاز لقدميه عندما يحطُّ على أرض شقائنا، هذا لو صحَّ المعنى!! وهذا
مرادف لقوله:
» ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعلَّه يجد الإيمان على الأرض. «(لو 8:18)

ثم لو تحققنا أن “مجيء
الملكوت” رهن بعمل الروح القدس حينما يبلغ ذروته في العمل والشهادة وتكميل البشارة
بالإنجيل، كوعد الله، حينما تبلغ البشارة إلى كل الأمم ووفاقاً لما أعلنه الرب
سرًّا لذوي القلوب الواعية حينما قال:
» ولكن إن كنت أنا بروح
الله
أُخرِج الشياطين، فقد أَقْبَلَ عليكم ملكوت الل
ه «(مت 28:12)؛ إذن، فالروح القدس يكون فينا عاملاً لإقباله علينا،
والمسيح استودعنا الروح القدس، والله أيضاً على استعداد دائماً لإعطائه:
» فكم بالحري
الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه
«(لو 13:11). إذن، ونحن الآن حاصلون على الروح القدس، والآب عند
وعده أنه باستعداد لإعطاء المزيد لِمَنْ يسأل، فقد أصبح إقبال الملكوت علينا تحصيل
حـاصل، نطلبه لا لكي يأتي مـن خارج، بل نطلبه لكي يُستعلن فينا وبنا. فنحن
مسئولون – بسبب عطية الروح القدس فينا عن مجيء ملكوت
الله واستعلانه! فإن كنَّا نطلب مجيئه، فلا نحن غرباء عن مجيئه ولا هو غريب عن
صميم كياننا.

ولكن
ليس عن كمال استعداد حاصل فينا الآن نطلب إتيان ملكوته؛ بل نحن نستحثُّه لسرعة
المجيء بسبب ثقل الواقع الزمني وعمق طغيان الشر المحيط، إنها محاولة مستميتة من
جهتنا لاختزال الزمن وتقصير الأيام:
» ولو لم يُقصِّر الرب تلك الأيام، لم يَخلُصْ جسدٌ «(مر 20:13). لذلك فشدَّة التوسُّل
ليأتي ملكوته، يدخل مباشرة في معنى طلب الرحمة والعون في حينه، وِفَاقاً لما يطلبه
الله نفسه وينويه من نحونا. وكأنَّ الله سلَّمنا نسخة من مشورته فيما هو مزمع أن
يعمله، وأوحى إلينا أن نذكِّره بها كل يوم بنداً بنداً، لا لكي يتذكَّرها، بل لكي
يَذْكُرَنا في عمق ضيقنا ويوفِّي ما وعد!! ولكي ونحن محاطون هكذا بضيق الأيام
وظلمة هذا الزمان، نذكر أن ملكوته آتٍ ونوره حتماً سيشملنا! ونحن معه على ميعاد!

«لتكن
مشيئتُك كما في السماء كذلك على الأرض»:

إنه أمر مُلفت للنظر
جداً أن يلقِّنا المسيح هذه الطلبة بالذات، التي أصبحت تمثِّل أخطر نقطة حرجة في
حياة المسيح وفي علاقة الابن بالآب. فهي خلاصة مأساة جثسيماني التي بلغت ذروة
التوتُّر لتنتهي براحة وسلام وطمأنينة تفوق الوصف، عندما نطقها المسيح وانتهى من
حياته ليشرب كأس مرارة خطايا الإنسان حتى الموت:
» وابتدأ يحزن
ويكتئب. فقال لهم: نفسي حزينة جداً حتى الموت… وكان يُصلِّي قائلاً: يا أبتاه،
إن أمكن فلتَعْبُرْ عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أُريد أنا بل كما تريد أنت… يا
أبتاه، إن لم يمكن أن تعبُر عني هذه الكأس إلاَّ أن أشربها، فلتكن مشيئتُك!
«(مت 37:2642) = » وضع عليه
إثم جميعنا.
«(إش 6:53)

هذا هو نموذج المشيئة
العُظمى لله التي تمت على الأرض فكانت كما هي في السماء: أن يموت الابن ويخلُص
العالم! وأن تكون مشيئة الله هي: أن يتألم الابن بكل آلام وتعذيب الصليب حتى
الموت، وبالتالي يصبح علينا أن نستيقظ من نوم غفلتنا فلا نظن ولا نطلب مشيئة الله
على غير هذا الأساس. فهذه هي مشيئة الله في السماء التي صارت كذلك على الأرض،
فأنشأت الخلاص والغفران والمصالحة والحياة والمسرَّة وكل صلاح وفرح الروح، وسعادة
وسلاماً وكل ما هو مُسِرٌّ وصالح وفاضل. ولكن لا ننسى أن ذلك كله صار من خلال آلام
وعذاب المسيح وموت الصليب. بمعنى أن ضريبة كل خير وصلاح ونجاح ومسرَّة تقابلنا في
الحياة بتدخُّل مشيئة الله والاتكال عليها ومناداتها، قد دفعها المسيح من دمه
ورصيد آلامه وعذابه على الصليب!

لذلك يتوجَّب علينا بكل
واجب أن نكون على وعي، إن نحن طلبنا تدخُّل مشيئة الله والإلحاح في عملها، بأن
نستمد هذه المشيئة من مشيئة تسليم المسيح لحياته على الصليب وشُرْبه كأس مرارة
الخطية حتى الموت.

إذن، فأصبح من حقنا كل
الحق أن نطلب مشيئة الله السماوية الكاملة والمرضية من نحونا كل لحظة وفي كل عمل
وكل فكر، ولكن ليس خُلْواً من صورة الصليب على خلفية من الدم، فكل مشيئة صالحة
للرب عليها ختم “مدفوع الضريبة”.

أما
كل ضيقة وكل ألم وكل مرض نعانيه في هذا الزمن وهذا الجسد، فلا يمكن من جهتنا
نحن الذين فُزْنا بالخلاص الأبدي وميراث الحياة أن يخرج عن مشيئة
الله عينها
» الصالحة
المرضية الكاملة
«(رو 2:12)، إذ تُحسب لنا بشيء من الامتياز أنها شركة
في ضريبة الصليب وآلام المسيح. لأنه، وبالنهاية،
» إن تألمنا معه فسوف نتمجَّد معه «(رو 17:8)، كشركاء في مشيئته: » فلْتكُن مشيئتك «

هكذا عاشت الكنيسة بهذه
الروح:
» فإذاً، الذين يتألَّمون بحسب مشيئة الله،
فليستودعوا أنفسهم كما لخالقٍ آمين، في عمل الخير.
«(1بط 19:4)

3:11 «خُبْزَنَا
الذي للغد أَعْطِنَا اليَوْم».

هذا
الخبز هو الذي يرى الله أنه يقيم الحياة، وليس كما نراه نحن، لأن الحياة عند الله
أعظم مما نراه

ونحسُّه ونعيشه. لذلك أراد المسيح أن يشير
إليه خفياً لذوي القلوب التي تحس وتُدرك معنى الحياة،
فوصفه بأنه “خبز الغد”!!
tÕn ™pioÚsion.
وهي تأتي باليونانية لتفيد لا “الغد” حسب الظاهر؛ بل لتفيد
ما هو
ضروري جداً للحياة أو الوجود =
(what is necessary for
existence)
= essential، ولكن هذا الوجود أو هذه الحياة في هذه الكلمة لا تفيد أنها
الحياة أو الوجود الحاضر الزمني!! بل ينصبُّ
المعنى المسيحي في هذا الموضع بالذات على أنه “الوجود الآتي”([5])
أو “الثاني” أو “الغد”!!

هذا الشرح المأخوذ به
الآن لُغوياً ومعنوياً، قدَّمه العالِم يواقيم إرميا([6])،
عن بحث مستفيض رجع فيه إلى مخطوطة بردية ضاعت ولم يبقَ منها إلاَّ شذرات، وفيها
وجد أن “الإبيؤوسيون” هي الكلمة اليونانية المترجمة عن الكلمة الأرامية
ma har وتعني بالتحديد “الغد”!! هذا يؤكِّده القديس جيروم ويعلِّق عليه([7]) . وكلمة “الغد”، تأتي هنا
بالترجيح المنطقي حينما تقول الآية:
» أعطنا “اليوم” « فـ  “الغد” “لليوم” شديد الترجيح!! “اليوم” هنا هو التعبير عن الحاضر الزمني، و “الغد” هو
ما بعد الحاضر الزمني، حيث خبز الغد يكون هو خبز الخلاص للحياة الأبدية!

إذن، فالجوهري،
والأساسي، والهام، بالنسبة للخبز، ثم “الغد” الذي هو “غد” الله الآتي يشير
بإشارة المسيح الخفية إلى “خبز الله”، “خبز الحياة” الأبدية، خبز الحق:
» أنا هو خبز
الحياة…
هذا
هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت
«! » أنا هو الخبز الحي الذي نزل من
السماء،
إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا
أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم.
«(يو 48:651)

إذن، فقد وضح المعنى
أشد وضوح، فحاجتنا “اليوم” وكل يوم ليست إلى خبز حنطة يُخبز في التنور
نأكله ونموت، ولكن الحاجة يا إخوة أشد الحاجة في شقاء يومنا وموتنا الذي نموته كل
يوم هي إلى خبز حي نأكله ولا نموت!! نأكله في شقائنا هذا لنحيا حياة لا يقربها
شقاء ولا موت!! خبزاً نأكله فتنفتح أعيننا على الحياة وتلتهب قلوبنا فينا بحضرة
المسيح ونقوم نبشِّر بالقيامة والخلاص:
» فلما اتكأ
معهما (تلميذي عمواس) أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم
اختفى… فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم… وهم يقولون إن الرب قام
بالحقيقة…
«(لو 30:2434)

ولكن أليس هذا عجباً
أنه حتى خبز الحياة الأبدية، يعطينا المسيح الحق أن نطلبه ليقتحم يومنا
وموتنا، ليحوِّل يومنا الزمني إلى يوم من أيام ابن الإنسان كيوم عمواس!! ما هذا؟
إن صلاة
» أبانا الذي في السموات «قد سلَّمنا
إياها المسيح كمفتاح سرِّي: نغيِّر بها واقعنا كله! حتى
» خبز اليوم « إذ نأكله بحضرة المسيح نعيِّد للقيامة ونحيا الخلاص والملكوت!!
وهكذا فوصية
» خبز الغد « تعود بدورها وتصير هي هي » ليأتِ
ملكوتك
« بل وتعييداً
مستمراً لمجيئه!! وهكذا كلُّ مَنْ يصلِّي
» أبانا
الذي…
«ويدخل بروحه وقلبه وفكره إلى » خبز الغد « عليه أن يُحلِّق ويطير بالروح ويعبر يومه وزمانه ليحطَّ على الخلود،
ليذوق طعام الحق وترياق عدم الموت، ويعود ليبشِّر بالحياة وبسرِّ الخبز النازل من
السماء!

4:11 «وَاغْفِرْ
لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ
إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ».

«واغفر لنا
خطايانا لأننا نحن أيضاً نغفر لكل مَنْ يُذنب إلينا»:

هنا الجرأة على مخاطبة
الله بخطاب يُصاغ فيه الفعل على مستوى الأمر، هذا أمرٌ جللٌ! لم يُسمع به
من قبل، لأنه فعل أمر ليس حتى على المستوى التوسُّلي، بل بلغ فيه الاجتراء أن يكون
الأمر على مستوى الحق والاستحقاق!!! فمَنْ يصدِّق ومَنْ يحتمل أن يسمع؟

فالمسيح
هنا أعطانا حقاً واستحقاقاً مُذهلاً أن نقتحم مجال غفران الله، لنطلب منه الغفران
بمقتضى تقديم وثيقة الاستحقاق!! بمعنى: “لأننا نغفر، فاغفر”!! لأننا نحن نغفر
للمذنبين إلينا، فاغفر لنا ذنوبنا!!!

هنا نرى أن الوضع انقلب
بالنسبة لطلب: «خبز الغد» ليأتي «اليوم»، حيث الخلود يقتحم الزمن،
أما هنا فالزمن هو الذي يقتحم الخلود!! مَنْ يصدِّق؟؟ فالفعل الذي نأتيه زمنياً
بأن نكون قد غفرنا للمذنبين إلينا على واقع الساعة واليوم، نأخذها وثيقة موثَّقة
ونطير بها بجُرأة كمَنْ عمل عملاً سماوياً، نخترق به حاجز الخلود لنتراءى أمام
الله ونطلب بالمقابل فعلاً أبدياً، إذ نطلب غفران خطايانا من لَدُنْ الله!! الذي
في معناه هو هو قوام الحياة الأبدية! فما هذا الأمر؟ أنشتري بالفعل الزمني فعلاً
خالداً أبدياً؟ نعم. ثم ما سرُّ هذه المقايضة العجيبة البديعة المُغرية جداً؟

اسمع يا صديقي وَعِ!
فالذي استطاع أن يغفر الخطايا كل الخطايا للآخرين كل
الآخرين، الخطايا التي تخص ذاته وكرامته واسمه وشهرته ووظيفته وحَسَبه ونَسَبه
وماله وعياله وممتلكاته وحياته، هو في حقيقته إنسان تحدَّى العالم وصُلب له! هو
حقاً وبالحقيقة إنسان
» ليس من هذا العالم « فإن كان قد صار ليس من هذا العالم، فقد بلغ قامة الصليب والمصلوب:
» (هؤلاء) ليسوا من
العالم، كما أني أنا لست من العالم
«(يو 14:17). إذن، فكيف يحسب الله عليه خطية؟

واضح أن مَنْ استطاع أن
يغفر للناس، كل الناس، خطاياهم من نحوه، فقد تعانق فعلاً مع صليب الموت والمصلوب
الميت!!
» ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم، قدِّسهم في
حقِّك
«(يو 16:17و17)، لقد
تعانق مع المصلوب وصار شريكاً له في قوله:
» يا أبتاه
اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون
«(لو 34:23)، فكيف تُحسب عليه خطية؟

فانظر يا صديقي وانتبه،
إن هذه الطلبة أو هذا الفعل العجيب، أي طلب مغفرة خطاياك، هو العمل الوحيد الذي
يأتيه الإنسان من ذاته وينال به شركة سهلة في استحقاقات المصلوب، دون أي جهد أو
اجتهاد، دون أن يعتمد على علو علم أو عمق معرفة، أو صوم أو صلاة، أو سهر أو
مشقَّة، ولا يستغرق أزمنة ولا أياماً، كما لا يحتاج إلى معلِّم أو مرشد أو حكيم.
هو عمل تأتيه في لحظة من لحظات يقظة النفس، وأنت رافع رأسك وقلبك وروحك ويديك نحو
السماء، مُمسكاً بالإنجيل وقابضاً بالروح على زمام الروح، وهاتفاً باسم الله الحي
أن تغفر كل الخطايا لكل الناس!

«ولا
تُدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير»:

بعد أن لقَّن المسيح
أولاده كيف يطيرون ويحلِّقون في الأعالي، يقدِّسون الاسم مع السيرافيم، ويطلبون
ملكوت الله آتياً عَبْر قلوبهم وأرواحهم، ويرفعون قدر المشيئة الإلهية لتبقى
دائماً على مستوى السماء، لها السيادة حتى تبقى الأرض على مستوى السماء بقدر ما
يشاء الله، ثم لقَّنهم كيف يطلبون خبز الخلود ليقتحم عالمنا ويومنا، ويعطينا مذاقة
الحياة الأبدية، فنتغيَّر كل يوم من الموت إلى الحياة!! ثم وبعد أن سلَّمهم أيضاً
وثيقة يطالبون بها غفران خطاياهم عن استحقاق وجدارة! فإذا به يصدمهم صدمة توقظهم
من مستوى الرؤى ومطالب الخلود، لتحدرهم مرة واحدة إلى واقعهم الخطر ليدركوا أنهم
غرباء في أرض الأعداء، والشر محيط بهم يهددهم ويتحدَّاهم! فالمشتكي يجول يلتمس
فيهم مدخلاً ومأكلاً، يطالب بحقه فيهم ليُغربلهم كالحنطة ليُسقِط الضعيف والمتواني
منهم، وهم كأطفال لا حَوْلَ لهم أمام مجرِّب خطر متمرِّس في صناعة الغش والغدر
والخداع. وهكذا بدأ المسيح يلقِّنهم هنا “صرخة الاستغاثة”، يفزعون بها إلى
الله لحظة الخطر عند مجيء ساعة التجربة العتيدة أن تأتي على العالم لتبتلي كل ذي
جسد. وهذه الصرخة تحمل سر النجاة، إن أحسن الإنسان لحظة نُطْقها، فهي صرخة فعَّالة
قبل أن تقع التجربة!!

» لا
تُدْخِلنا
« فنحن ندرأ التجربة
بصراخنا للقادر أن ينجِّي. ولكن إن توانينا، باغتنا العدو وأصاب منَّا مقتلاً:
» فاخضعوا
لله، قاوموا إبليس فيهرب منكم، اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم
«(يع 7:4و8). فنحن نقترب إلى الله حقاً وفعلاً بصراخنا إليه
أمام التجربة، فإن اقتربنا إلى الله بصراخنا، ابتعد العدو مدحوراً وولَّى هارباً،
هذه الكلمات صادقة ومملوءة حقاً!!!

والتجربة حتماً آتية
على العالم لا محالة، سواء في صورتها المتجزئة التي تصدمنا كل يوم في كل ما يخصنا،
أو في صورتها الخطرة التي تهدف إلى انتزاع الإيمان من قلوبنا بضربتها المفاجئة
المرعبة، فنبيع المسيح في لحظة!! وهذه هي عينها نوع التجربة التي يشير
إليها المسيح. من أجل هذا وَضَعَ المسيح مُسبقاً في أفواهنا نداء الاستغاثة عن
حكمة.

ولكي يتيقَّن القارئ من
دقة المعنى الذي سُقناه إليه في هذه الآية ليزداد تأكيداً، نقدِّم إليه قول المسيح
في هذا الأمر عينه:
» (هؤلاء)
ليسوا من العالم، كما أني أنا (أيضاً) لستُ من العالم. لستُ أسأل أن تأخذهم من
العالم بل أن تحفظهم من الشرير
«(يو 14:17و15). هذا همُّ المسيح الأول من جهة “أولاده الصغار”
الذين تركهم في العالم يجاهدون من أجل حفظ الوديعة، وهو عالم أنهم في مواجهة
مستمرة مع عدوٍّ متمرِّس. لذلك لم يتركنا بدون كلمة سرٍّ نقولها فننجو. فطوبى
لِمَنْ تعلَّم أن لا يكفَّ عن طلب النجاة!!
» الذي
نجَّانا من موت مثل هذا وهو ينجِّي، الذي لنا رجاء فيه أنه سينجِّي أيضاً فيما
بعد.
«(2كو 10:1)

 

4 الصلاة
بلجاجة

قصة صديق نصف الليل

(5:118)

يلزمنا جداً أن ننتبه
لترتيب الحوادث والكلام وكيف تتركب معاً لتظهر قوة الغاية التي يجري وراءها ق.
لوقا. فمن بعد أن أعلن الله لبطرس أن يسوع هو مسيَّا بدأ العد التنازلي يجري نحو
الصليب. ولكن يسير مع اتجاه الصليب وموازياً له بدقة استعلان ملكوت الله الذي بدأه
ق. لوقا بالتجلِّي ثم بإرسالية التلاميذ، وفي طيَّاتها عليهم أن يخبروا أن ملكوت
السموات قد اقترب، ثم سؤال الناموسي لميراث الحياة الأبدية، ثم الصلاة الربانية
التي تدور حول
» ليأتِ ملكوتك « ثم الصلاة بلجاجة التي تنتهي بأن الله يعطي مَنْ يسأل الروح
القدس، وهو بحد ذاته عطية الملكوت. وبعده تصريح المسيح أني
» إن كنت
أُخرج الشياطين بإصبع الله فقد أقبل عليكم ملكوت الله
«

يعطي المسيح هنا قصة
إنسان تحت الحاجة وشدة العوز التجأ إلى صديق في وقت غير مقبول في نصف الليل،
الميعاد الحرج لمجيء العريس والناس نيام، وقرع بابه خَجِلاً وَجِلاً، وكانت الحاجة
والعوز شديدين. وظلَّ يقرع ولكن الصديق المتأذِّي من هذا القرع والنداء استيقظ
ليسمع من جاره أنه محتاج إلى ثلاثة أرغفة عيش. فبمنتهى الضيق اعتذر لأن استيقاظ
أسرة بصغارها وأطفالها في نصف الليل شيء مزعج، فاعتذر أن يلبِّي طلب الصديق
الملحاح، ولكن الصديق لم ينثنِ فالحاجة ملحَّة، وكرَّر السؤال يسنده العذر
والرجاء. وأخيراً استجاب صاحب الدار وقام وأعطاه ما يريد. صورة جميلة للعوز الذي
يسنده الرجاء، هذا هو الذي نخرج به من هذه القصة، كيف استطاع المحتاج أن يفوز
بحاجته رغم صعوبة الطلب. هذا الوجه من الاستجابة تحت الإلحاح، والإلحاح الذي تحت
شعور شديد بالعوز يفوز أخيراً. والرب أراد بهذه القصة المُرتَجَلَة أن يصوِّر نفسه
أو يصوِّر الله بصاحب الخبز والصديق الملحاح بالإنسان الذي استخدم هذا السلاح وهو
اللجاجة. وطلب المسيح أن نأخذ منه هذا التصوير على أساس أنه تعهُّدٌ من قِبَلهِ
لاحترام لجاجة الإنسان في الصلاة، إنما إن كانت حقـًّا قائمة على عوز شديد. والقصة
بجملتها تقف على أساس أن تكون اللجاجة في صلاتنا عن حاجة صادقة وعوز في القلب
شديد.

5:11 «ثُمَّ قَالَ
لَهُمْ: مَنْ مِنْكُمْ لَهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ اللَّيْلِ
وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاَثَةَ أَرْغِفَةٍ».

الصيغة اليونانية هنا
تجيء بمعنى: “هل يمكن أن نتصوَّر هذا”، باعتبار أن الإلحاح لابد مستجاب، حيث
يصوَّر الصديق أنه الله والمحتاج أنت، والطلب ثلاثة أرغفة. أمر شديد العلاقة
بالحياة، فلا غنى عن الخبز للجائع. هكذا أراد المسيح أن يصوِّر لنا على أي مستوى
تكون الصلاة التي نقدِّمها لله. وبأي إحساس نتقدَّم بها بإلحاح، فالقصة تعطي
إحساساً أن المحتاج أرغمته الحاجة أن يخرج ويلتجيء إلى صديقه في وقت حرج وغير
مناسب، ثم الإلحاح بعد الرفض. أرجو من القارئ العزيز أن يرفع إحساسه ليتوافق مع
القصة. فالمطلوب أن تكون الصلاة على مستوى صادق من الإحساس بالعوز الشديد،
لأن من هذا المستوى تدخل الصلاة إلى قلب الله. حتى ولو كانت صلاة شكر أو تسبيح
يلزم أن تكون بإحساس مَنْ يتوسَّل ليُقبَل شكره أو يُقبَل تسبيحه. فالله في ذاته
غير محتاج لا لشكر ولا لتسبيح، ولكن أنت المحتاج أن يدخل شكرك إلى قلب الله وأن
يصغى إلى تسبيحك ويرضى به.

وعلى القارئ أن يلاحظ
أن الصفة التي أعطاها المسيح لله ولنفسه هي “صديق”، بمعنى أن صلاتك التي
تقدِّمها له شعوراً منك بالعوز يتحتَّم أن تكون على أساس أنك تطلب مصلِّياً إلى
صديق،
بمعنى أن يكون لك دالة حقيقية معه. وهكذا أعطى المسيح شكلاً للصلاة
المقدَّمة إلى الله وإليه بأن تكون بإحساس الحاجة والعوز وبدالة مع الله والمسيح
كصديق حقيقي وبلجاجة لا تفتر.

6:11 «لأَنَّ
صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ».

يصوِّر المسيح هنا
الحرج الشديد الذي يقع فيه الإنسان ويحاول إدخال الإحساس به إلى قلوبنا، حيث من
هنا تبدأ الصلاة. وهذا الحرج هو: كيف يتقدَّم الإنسان إلى الله وهو تحت الشعور
الشديد بالحاجة إلى ما يصلِّي لأجله، حتى ولو كان لراحة الآخرين؟
ويضع المسيح
هنا هذا الميعاد المتأخِّر من الليل ليزيد الحرج إلى أشد مستوى لتخرج الصلاة من
قلب منفعل بالحاجة والحرج معاً؛ بل والعدم، إذ ليس له ما يقدِّمه. كل ذلك ليكسر
حالة الجمود والبرودة وعدم المبالاة في الصلاة والروتين الذي ينهي على الروح
الجديَّة في الصلاة. المسيح هنا يحاول إيقاظ الإنسان المتكاسل في الصلاة والمتواني
وغير المكترث ليضعه في حالة الصلاة التي يطلبها الله.

7:11 «فَيُجِيبَ ذلِكَ
مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لاَ تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ الآنَ، وَأَوْلاَدِي
مَعِي فِي الْفِرَاشِ. لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ».

يحاول المسيح أن يصعِّب
الاستجابة ويجعلها قرب المستحيل، ليرفع من لجاجة المصلِّي ويزيد من التوسُّل، لأن
الصعوبات التي وضعها هنا المسيح لا تنطبق على الله والمسيح، ولكن أراد المسيح أن
يصوِّر صعوبة استجابة الصلاة من أول مرَّة عند الله. فهو يهملها ويهملها مرَّات
ومرَّات حتى ترتفع حرارة اللجاجة والرجاء إلى المستوى الذي يساوي استجابة الصلاة.

ليس هذا قسوة من الله ولا هو يرجع إلى عدم استحقاق المصلِّي للاستجابة، ولكن لكي
يدخل الإنسان عملياً في سر استجابة الصلاة ويتدرَّب على معرفة كيف يسمع الله
الصلاة وكيف يستجيب. وهذا بحد ذاته أعظم أسرار العلاقة التي تربطنا بالله عبر
المسيح. فكل درجة نرتفع إليها في اللجاجة يقابلها درجة في الصعود على سُلَّم السر
الإلهي في الصلاة. وحينما تسمع بأن هناك رجال صلاة مرموقين ولهم قوة ودالة فاعلم
أن هؤلاء تدرَّجوا طويلاً على سر سلم الصلاة: رفض ولجاجة ولجاجة ورفض إلى أن ينفتح
الباب. لأن الباب مغلق حقـًّا ولا ينفتح إلاَّ بعلامة السر. وعلامة السر هي اللجاجة
بلا حدود إلى أن تبلغ حدودها وحينئذ يكون سر الصلاة قد صار مِلْكَ قلبك:
» يا سامع
الصلاة إليك يأتي كل بشر.
«(مز 2:65)

8:11 «أَقُولُ
لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ
مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ».

هنا يكشف المسيح عن سر
خاص يقوله ببساطة، ولكنه من أعجب أسرار الله والمسيح، وهو أن الله له حدود في
معاملاته مع أحبائه وأصدقائه بالروح، ولكن أُعطي للإنسان، والإنسان فقط دون كافة
الخلائق العليا، أن يجعل الله يتخطَّى حدود “الصداقة” عندما تنفتح أحشاؤه بالحنان
والرحمة ويعطي للإنسان ما هو ليس من حقه. وكان أكثر الأنبياء استغلالاً لمحبة الله
وصداقته هو “موسى”، وقد استخدم موسى اللجاجة مع الله وربح في كل مواقعها،
الذي بسبب لجاجته تراجع الله عدّة مرَّات عن أن يفني الشعب الغليظ الرقبة في
البرية:

+ » فالآن
اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم، فأُصَيِّرك شعباً عظيماً. فتضرَّع موسى أمام
الرب … فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه.
«(خر 32: 1014)

 

5 ثلاث
طاقات في السماء مفتوحة

(9:1113) (مت 7: 711)

9:11و10 «وَأَنَا
أَقُولُ لَكُمْ: اسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ
لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ
يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ».

عاد الرب هنا ليعطي
صورة حقيقية عن موقفه حيال المصلِّي ليزيد الإنسان ثقة بالله سامع الصلاة. ولكن
الأمر متعلِّق بالإنسان، فهو الذي يحدِّد الاستجابة بنوع الصلاة التي يصلِّيها،
فكلُّ درجة حرارة في الصلاة لها ردّها عند الله.

وعلى من يتقدَّم إلى
الله بالصلاة بإحدى هذه الدرجات الثلاث: السؤال، والطلبة، وقرع الباب، إن كان يريد
حقـًّا أن يفوز بالاستجابة، أن يثق في إيجابية الله ووعوده ثقة كاملة. ولكي يصل
إلى هذه الثقة الكاملة عليه أن يثبت ذلك بأن يتصوَّر نفسه وقد نال ما يريده
ويرسِّخ هذا التصوُّر لعدة أيام وهو يسأل ويطلب ويقرع الباب. أي يعيش حالة استجابة
لصلاته بالفعل شاكراً مهلِّلاً معترفاً بفضل الله عليه. بهذا الوضع يكون الإنسان
قد بلغ مستوى عطية الله بالفعل فيأخذها، لأنه يكون في نظر الله قد استحقها بلجاجته
الواقعية والعملية على أساس إيمانه الواثق بصدق وعود الله. فالإنسان لا يتوهَّم
أنه أخذ سؤاله بل هو تحقيق على مستوى الإيمان!! وهذا استناداً على وعد المسيح
لقائد المائة:
» ثم قال يسوع لقائد المائة اذهب وكما آمنت ليكن لك «(مت 13:8). إنه قانون الاستجابة عند المسيح: «اذهب وكما آمنت
ليكن لك».
قليل جداً مَنْ انتبه إلى هذا القانون، فقائد المائة آمن في قلبه
فعلاً أن المسيح سيشفي أو قد شفى ابنه ثقة منه بالمسيح، فكان إيمانه
فعلاً فعَّالاً تقدَّم به إلى المسيح فقُبِلَ في الحال. إذن، مرَّة
أخرى: علينا أن نؤمن أننا أخذنا قبل أن نأخذ وبهذا نأخذ، أي أن مستوى
إيماننا باستجابة الصلاة هو الذي يتحكَّم في الاستجابة
لأن هذا معناه أننا
نوقِّع صدق الله على إيماننا فيفوز الإيمان في الحال لأنه مدعَّم بصدق الله. وهذا
الوضع يُحسب اختراق مجال الله بالإيمان والصلاة لنوال سؤالنا وطلبتنا، وكلمة السر
هي تصديق وعود الله!! «كما آمنت ليكن لك»، حيث يكون أول مهنِّئ للإنسان
بنوال طلبته قبل أن يأخذها هو الروح القدس، إذ يُسِرُّ إلى القلب “هنيئاً قد
أخذت”! ومنها يبدأ الإنسان فرحه وتهليله وتمجيد الله، كل ذلك قبل أن يأخذ!! وهذا
حق وجيد أن تكون ثقتنا في الله أكبر من الطلب الذي نطلبه.

ثم الآية الأكثر
وضوحاً:
» لذلك أقول لكم كل ما تطلبونه حينما تصلُّون فآمنوا أن
تنالوه
([8])
فيكون لكم
«(مر
24:11). وهنا وضع الاستجابة في أمر المستحيل ليوضِّح معنى قوة الإيمان
السابق على العمل:
» لأني الحق أقول لكم إن مَنْ قال لهذا الجبل
انتقل وانطرح في البحر ولا يشك في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون فمهما قال يكون
له.
«(مر 23:11)

أ
«اسألوا تُعْطَوْا»:
asking = a„te‹te, ka… doq»setai Øm‹n

الفعل “تُعْطَوْا” مبني
للمجهول، والفاعل واضح أنه هو الله الذي يعطي:
» الحق الحق
أقول لكم: إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم. إلى الآن لم تطلبوا شيئاً
باسمي. اطلبوا تأخذوا، ليكون فرحكم كاملاً
«(يو 16: 23و24). وهي قد تأتي بمعنى أنه يجب أن تسألوا حتى تأخذوا،
وعكسها صحيح أنه إن لم تصلوا فلن تأخذوا شيئاً، أو لن تأخذوا شيئاً حتى تُصَلُّوا
من أجله. ومعنى الكلام هنا أن الله بواسطة تدخُّل ذبيحة ابنه مستعد للرد على كل
سؤال “باسم المسيح”. فالمسيح يضع هنا نفسه ودمه ضامناً لاستجابة صلواتنا
عند الآب أبيه. لذلك يكون المعنى: إذا صلَّيتم فينبغي أن تتأكَّدوا أنكم ستأخذون
ما تطلبون.

ب –
«اُطلبوا تجدوا»:
seeking =
zhte‹te

فعل “اطلبوا” هنا يأتي
دائماً في طلب وجه الله‎:
» قلت اطلبوا وجهي، وجهك
يا رب أطلب
«(مز 8:27). وطلب
وجه الله يعني الصلاة مباشرة، لأن طلب وجه الله يعني حضرته أو حضوره:
» وكان جوع في
أيام داود ثلاث سنين سنة بعد سنة فطلب داود وجه الرب فقال الرب: هو لأجل شاول …
«(2صم 1:21). ولكن في العهد الجديد تعني طلب الله مباشرة: » لكي يطلبوا
الله لعلَّهم يتلمسونه (يلمسونه عن قرب) فيجدوه مع أنه
عن كل واحد منا ليس بعيداً
 «(أع 27:17). » اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق. فإني أقول لكم: إن كثيرين
سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون.
«(لو 24:13)

والمعنى ينحصر في
الحركة، يطلبون وجه الرب أو يطلبون وجهه ومن يطلبه حتماً يجده. فهنا
يُعْتَبر هذا المقطع من الآية
» اطلبوا تجدوا «لا يعني الصلاة
من أجل شيء أو طلب شيء ولكن طلب الله ووجه الله كحالة صلاة قائمة بذاتها:
» اطلبوا الرب
ما دام يوجد ادعوه وهو قريب
«(إش 6:55)، » وُجِدتُ من الذين لم
يطلبوني وصرت ظاهراً للذين لم يسألوا عني
«(رو 20:10)، ويقصد هنا الأُمم الذين لم يطلبوه ولكنه وُجد لهم.
فهنا الصلاة هي دعاء لوجود الله أو الوجود في حضرته. وآخر الآية توضِّح أن الله
يُظهر نفسه ويوجد للأُمم. والمعنى هنا أن الله منتظر مَنْ يطلبه حتى يوجد له:
» إن طلبتموه
يوجد لكم وإن تركتموه يترككم
«(2أي 2:15). وهنا وعد عظيم ليس هيِّناً أبداً، أن الله واقف منتظر
مَنْ يطلبه ومَنْ يسعى إليه إمَّا بالمخافة أو التوبة أو مجرَّد الرجاء: «ثم إن
طلبت من هناك الرب إلهك تجده إذا التمسته بكل قلبك وبكل نفسك»
(تث 29:4)،
» وتطلبونني فتجدونني
إذ تطلبونني بكل قلبكم.
«(إر 13:29)

ج
«اقرعوا يُفتح لكم»:
knock = kroÚete

القرع هنا كناية عن
الصراخ. هنا الصلاة دخلت في مرحلتها الأخيرة والعالية حيث يقف الإنسان على باب
الله
» أنا هو الباب «(يو 9:10)، وكأن بصلاته يقرع الباب (بمعنى يرفع صوته) ويقرع باب
تحنُّنات الله ومراحمه، وهي تعطي صورة شحاذ يشحذ وقف على الباب وظل يقرع وهو يطلب
شيئاً ويجتهد في طلبه، ويتوسَّل معتمداً على مراحم الله التي لا تحد. وقول الرب:
» اقرعوا
يُفتح لكم
«تكشف أن الله داخل الباب منتظر مَنْ يقرع أو هو على استعداد
أن يفتح إن كنَّا نقرع بلجاجة:
» ومَنْ يُقبل إليَّ لا
أُخرجه خارجاً
«(يو 37:6). وحتى لا
يشعر الإنسان بصغر النفس حينما يقول المسيح إن مَنْ يقرع يُفتح له، قال بالمقابل:
» ها أنذا
واقف على الباب وأقرع (هنا كلمة “أقرع” تأتي بمعنى أُثابر) إن سمع أحد صوتي وفتح
الباب أدخل …
«(رؤ 20:3). فالقرع
على الباب يصف أشد حالات السؤال بمثابرة وعناد. فإن كان المسيح يقرع بابنا ويطلبنا
أفكثير علينا أن نقرع نحن بابه ونطلب وجهه؟

11:11و12 «فَمَنْ
مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ
سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ
بَيْضَةً أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟»

والمعنى أنه إذا كان
الأب الجسدي يستطيع أن يميِّز العطية لتكون من صنف السؤال، والمعروف أنه من
الاستحالة أن يكون اختيار الأب لعطية يكون فيها ضررٌ لابنه كحيَّة أو عقرب، بل
يختار الأب ما يناسب طلب ابنه واحتياجه …

13:11 «فَإِنْ
كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا
جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ
الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ».

وظاهر
هنا الآن أن عطايا الأب الجسداني زائلة وربما معثرة، فهي في جوهرها لا تخرج عن
عطايا

آيلة للموت والفساد. ومع ذلك فالأب الجسدي مهما كان شريراً فهو لا يعطي الموت
لأولاده؛ بل يشتهي أن يعطيهم الحياة. فكم بالحري الآب السماوي كلِّي الصلاح يعطي
الحياة الأبدية بالروح القدس.

 

(
ج ) جدال مع الفرِّيسيِّين

(14:1154)

 

1 القوي
والأقوى

تعريف بمستوى قوة
الشيطان بالنسبة للمسيح

(14:1126) (مت 22:1230،
4345)
(مـر 3: 22 30)

الذي
استدعى الحديث عن الأرواح الشريرة والشيطان هو آخر ما سبق في الآية السالفة وهو
عطية الروح القدس من الآب للذين يطلبونه، ذلك في مقابل
الروح الشرير وهي الأرواح التي يقودها
الشيطان لمعاكسة الإنسان. والروح هنا سُمِّي بالأخرس والأصم، فلمَّا أخرجه المسيح
علَّل بعض اليهود أن
إخراجه كان بواسطة
الشيطان نفسه (بعلزبول)، وآخرون طلبوا أن يروا معجزة من السماء. فجاء رد المسيح

على عدة أقوال: فالأول كان رداً على القائلين
إنه ببعلزبول يُخرج الشياطين وكان الرد قائماً على أن
الشيطان لا يعمل ضد نفسه وإلاَّ تَخْرُب مملكته. والرد
الثاني كان على الذين يطلبون آية من السماء للتدليل
على أن ملكوت الله قد
افتُتح، ولهؤلاء كان الرد أن المسيح إنما يخرج الشياطين بروح الله، وهذا تدليل على
أن ملكوت الله قد أقبل عليهم. والقول الثالث كان مقارنة بين قوة المسيح وقوة
الشيطان، إذ سمَّى الشيطان بالقوي، ودعا المسيح نفسه الأقوى. ثمَّ عقَّب على الذين
يدَّعون تبعيتهم للمسيح وهم أعداء:
» مَنْ ليس معي فهو عليَّ
ومَنْ لا يجمع معي فهو يفرِّق
«(23)، وأخيراً حذَّر من الشيطان لأنه قد يعود إلى ذات الشخص الذي
خرج منه ومعه آخرون أشر منه إذا عاد الإنسان إلى خطاياه.

14:11 «وَكَانَ
يُخْرِجُ شَيْطَاناً، وَكَانَ ذلِكَ أَخْرَسَ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ
تَكَلَّمَ الأَخْرَسُ، فَتَعَجَّبَ الْجُمُوعُ».

القصة موجودة في إنجيل
ق. متى (32:934). الشيطان الأخرس صفة مكتسبة وليست صفة الشيطان أبداً.
ولكن المعروف أن الروح الشرير لمَّا يسكن إنساناً ويتملَّك عليه ويقتله يأخذ صفاته
ويأخذ اسمه، فإذا دخل إنساناً آخر يصيبه بنفس المرض الذي كان في الشخص الأول الذي
قتله. لذلك لمَّا يخرج الشيطان يعود الإنسان إلى حالته الطبيعية وفعلاً تصبح
معجزة.

15:11 «وَأَمَّا
قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ
الشَّيَاطِينَ».

في إنجيل ق. متى جاء أن
الفرِّيسيين هم الذين قالوا ذلك، وفي إنجيل ق. مرقس جاء أنهم كانوا كتبة من
أُورشليم. وفي الحقيقة إن الذين أخرجوا هذا الاسم على المسيح وقعوا في الخطية
المميتة أي التي ليس لها غفران، لأن المسيح بالروح القدس الذي فيه أخرج الشيطان،
فهنا صفة بعلزبول أي رئيس الشياطين قيلت على الروح القدس مباشرة.

16:11 «وَآخَرُونَ
طَلَبُوا مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ يُجَرِّبُونَهُ».

كون هذا الطلب يأتي
مباشرة بعد معجزة إخراج الروح الشرير إنما يعطي دليلاً أنهم لم يستكفوا بإخراج
الشياطين كآية تثبت أنه “مسيَّا”، لذلك طلبوا منه آية من السماء، وهي في الواقع
كانت موجودة في التقليد أن مسيَّا حينما يأتي يُنزل المن من السماء.

17:11 «فَعَلِمَ
أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا
تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ».

يعطينا المسيح هنا فكرة
عن جماعة الشياطين أنها تشكِّل مملكة وكل مجموعة منها تعتبر كبيت. ولا يسمح
الشيطان الرئيس لشيطان آخر أن يُخرج روحاً شريراً وإلاَّ تضعف مملكته. ويبدو هنا
أن هذه المملكة الشيطانية ذات نظام وتدبير يتعلَّق بتحرُّكات أفرادها. وحتى ولو أن
إنساناً مُتآخٍ مع روح شرير أخرج شيطاناً، فذلك يكون حيلة لتضليل الناس أن هذا
الإنسان قديس وهو يعمل بواسطة الروح الشرير. وهذه الصناعة رائجة جداً بين الناس في
كل مكان. ومثل هذا الشيطان الذي خرج يعود مرَّة أخرى إلى بيته حسب قول الرب.

18:11 «فَإِنْ كَانَ
الشَّيْطَانُ أَيْضاً يَنْقَسِمُ عَلَى ذَاتِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟
لأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ».

لا يزال المسيح يؤكِّد
أن شيطاناً لا يخرج شيطاناً، فمن اعتراف الشيطان نفسه نفهم أن المسيح يستخدم
سلطاناً عظيماً ضدَّه:
» ما لي ولك يا يسوع ابن
الله العلي. أطلب منك أن لا تعذبني
«(لو 28:8). إذن هنا مملكة الشيطان واقعة تحت سلطان المسيح
الذي يستطيع أن يعذِّبهم، فهنا بالحق مملكة المسيح ضد مملكة الشيطان وبقوته
وسلطانه يخرج المسيحُ الشيطان من خليقته.

19:11 «فَإِنْ
كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ
يُخْرِجُونَ؟ لِذَلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ».

واضح هنا أن المسيح
أوقعهم في تناقض لأنه يوجد يهود قد آمنوا بالمسيح وبدأوا يخرجون الشيطان “بالاسم”
(لو 17:10)، هؤلاء شهود أمام الله ضدَّهم. وسواء المسيح أو تلاميذه أو حتى مَنْ
يستخدم مجرَّد اسم المسيح من اليهود يمكن أن يخرج الشيطان، كل هذا معاً يوضِّح أن
ملكوت الله قد بدأ يعمل. لذلك فأولادهم الذين بالروح يخرجون الشيطان سيكونون
قضاتهم يوم الدينونة.

20:11 «وَلكِنْ إِنْ
كُنْتُ بِإِصْبِعِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ
مَلَكُوتُ اللهِ».

والآن أصبح واضحاً أن
المسيح يخرج الشياطين بقوة الله التي عبَّر عنها بإصبع الله، وبالتالي أنه قد أقبل
عليهم ملكوت الله. والقديس متى يضعها “بروح الله” بدلاً من إصبع الله. وقد ورد هذا
التعبير في العهد القديم:
» ثم أعطى (الرب) موسى
عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة لوحي حجر مكتوبين بإصبع
الله
«(خر 18:31). ونحن
نلتقط هنا اعتراف المسيح ضمناً بأن لوحي الشهادة كُتبا بإصبع الله أو بروح الله.
وهنا من المواضع النادرة التي يظهر فيها الأخرويات
بكلمة:
» قد
أقبل عليكم
«[9]) ويعتبرها العالِم كلارك([10])
أنها تُعبِّر عن تحقيق
الأخرويات، وهو يشرح معنى » قد أقبل
عليكم
«على أنه يعني الوصول إلى نقطة التماس بين العالم الحاضر
والمستقبل. وقوة المعنى هنا في
» قد أقبل عليكم «هي كلمة “عليكم”.
فهنا حَدَثَ تواصل؛ بمعنى أن الجالس يسمع هذا الكلام يُحسُّ بالملكوت، هذا
الإحساس هو الذي ينطبق على كلمة “عليكم”، وحينئذ يصير المعنى أن ملكوت الله
صار من القرب حتى يمكن التأكُّد منه أو الإمساك به (روحياً) أو الاستماع إليه والتأثُّر به، وبالأكثر أن به بدأت
الحياة الجديدة في الإنسان، ويوجد مَنْ يشهد
بذلك.

21:11 «حِينَمَا
يَحْفَظُ الْقَوِيُّ دَارَهُ مُتَسَلِّحاً، تَكُونُ أَمْوَالُهُ فِي أَمَانٍ».

وأيضاً إنجيل ق. متى
يشترك في هذا التصوُّر (مت 43:12-45). والمسيح يشرح هذه القضية باعتبارها قصة أو
مثلاً، فيه يصف الشيطان بأنه “القوي” ولكنه قوة سلبية مدمِّرة مميتة وله سلطان على
الجسد ليصنع فيه ما يريد من ضربه في الداخل أو الخارج، وهو يُحسن الضربة حتى لا
يكون في الشكل لها شفاء. وهكذا يستولي على أسراه
ويُحكِمُ أَسْرَهم وكأنه لا خلاص.

22:11 «وَلكِنْ
مَتَى جَاءَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَغْلِبُهُ وَيَنْزعُ سِلاَحَهُ
الْكَامِلَ الَّذِي اتَّكَلَ عَلَيْهِ وَيُوَزِّعُ غَنَائِمَهُ».

هنا يشير المسيح إلى
نفسه، ولكن كلمة “الأقوى” لا تفيد زيادة في نفس القوة، ولكن نوعية القوة هي التي أقوى، بمعنى هنا قوة المسيح إيجابية
وأيضاً فعلها أشد من فعل قوة الشيطان السلبية. لذلك بمجرَّد ظهور المسيح كان
الشيطان يصرخ، لأن أي تماس معه سوف يُحرِقُه إن أخذنا بالمعنى الكهربائي. الشيطان
يبلبل النفس ويزعجها، فإذا اقترب المسيح تزول وتنسحق آثاره السلبية من النفس:
» تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي
الأحمال وأنا أريحكم
«(مت 28:11). هنا واضح جداً القوة السالبة المبلبلة
والمزعجة، فإذا اقترب الإنسان من المسيح زالت كل الهموم والأتعاب وحلَّ محلها
السرور والفرح. استطاع الشيطان أن يحني ظهر المرأة التي دخلت المجمع والمسيح جالس،
وكشف
المسيح مؤامرة الشيطان ضد هذه النفس التعيسة الحزينة ثماني عشرة سنة:
» وإذا امرأة
كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة. فلمَّا
رآها يسوع دعاها وقال لها يا امرأة إنك محلولة من ضعفكِ … وهذه وهي ابنة إبراهيم
قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة أما كان ينبغي أن تُحل من هذا الرباط في يوم
السبت
«(لو 13: 1116).
لاحِظ هنا أيها القارئ العزيز قول المسيح عن نوع الرباط:
» ولم تقدر أن
تنتصب البتة
« هذا هو الخداع
الأعظم، إذ يظهر الرباط أو المرض أنه مستحيل الشفاء، فإذا تدخَّل الرب يتم الشفاء
في الحال. واضح هنا القوة السالبة الشريرة
وأنها قوية، ولكن واضح أيضاً القوة الإيجابية التي فكَّت الرباط وأزالته من
الوجود، إنها
الأقوى.

ونحن نسمع ونرى المئات
من أمثال هذا التواجه بين عمل المسيح وعمل الشيطان ولكنها ليست قاعدة، فبولس
الرسول لطمه الشيطان ولكن رفض المسيح أن يرفع الشوكة:
» ولئلاَّ
أرتفع بفرط الإعلانات أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلاَّ أرتفع. من
جهة هذا تضرَّعت إلى الرب ثلاث مرَّات أن
يفارقني فقال لي: تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل
«(2كو 12: 79). يُلاحِظ
القارئ اعتراف ق. بولس:
» لئلاَّ أرتفع « يعني هنا يوجد سبب لكي يسمح الله للشيطان أن يضرب ق. بولس. بمعنى
أن هناك تدبيراً أعلى للمسيح متى يعمل ومتى يتأنَّى!! فلو كان للشيطان سلطانٌ
مطلقٌ علينا لفنينا، ولكن كل ضرباته محسوبة عند المسيح حساباً دقيقاً في معادلة مع
خلاصنا وسعادتنا هناك. فالشيطان مضبوط الحركة.

23:11 «مَنْ
لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ
».

هنا كشف فاضح للذين
يلعبون على الصفين. فالمسيح يبدو هنا مخاطباً اليهود الذين يمالئون المسيح ثم
يظهرون وسط صفوف الغيورين والمتعصبين، ولكن بالأكثر الذين يعملون أعمالاً موافقة
للشيطان ثم يأتون ويندسُّون وسط أتباع المسيح. كما وأن الذي ينقد المسيح فهو
يفرِّق. فبين المسيح والشيطان ليس حلٌّ وسط وليس تعادلٌ بين هنا وهناك، لذلك جاءت
الوصية الأُولى قاطعة مانعة:
» تحب الرب إلهك من كل
قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، ثم الثانية مثلها تحب قريبك كنفسك
« هنا ضمن الله كل كيان الإنسان محفوظاً في محبته، لأن محبة الله
لها عائد فوري ومماثل،
» بالكيل الذي تكيلون به
يُكال لكم، كيلاً ملبَّداً ومهزوزاً وفائضاً في أحضانكم
« والمسيحي مطلوب منه أن يدعو إلى المسيح بالقدوة والكلمة والمحبة،
والذي لا يجمع له الخراف يُحسب أنه يفرِّقها ويُبدِّدها. ويلاحظ القارئ في هذه
الآية الفرق الهائل بين سلبيات الشيطان وإيجابيات المسيح في كل شيء، كذلك يلاحظ أنه
لا توقُّف في الطريق، فإذا لم نكن سائرين مع المسيح إلى الأمام فحتماً سنرجع إلى
خلف. فالحياة المسيحية حياة نمو وتقدُّم وامتداد وحرارة قائدة لقلب الإنسان، وغيرة
صالحة على النفوس الجائعة والتائهة.

24:11 «مَتَى خَرَجَ
الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا
مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً، وَإِذْ لاَ يَجِدُ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي
الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ».

الحديث هنا في الأساس
على الإنسان الذي كان به روح نجس وأُخرج منه بالقوة، فإذا عاد الإنسان إلى أعمال
الخطية مرَّة أخرى يأتي إليه الشيطان ويجذب معه آخرين. إذن، إخراج الشياطين ليس
مهمة صغيرة بل هو عمل جهادي إذ يلزم متابعة مَنْ خرج منه الشيطان بالتقوية الروحية
والتمسُّك بالإنجيل والصلاة والصوم:
» مَنْ التصق بالرب فهو
روح واحد
«(1كو 17:6). هذا هو
الدفاع والوقاية بالنسبة للإنسان الذي خرج منه الشيطان: أن يلتصق بالرب يسوع فيصبح
في مكان أبدي؛ بمعنى أن الاشتغال بإخراج الأرواح النجسة يلزم حتماً أن يرافقه خدمة
روحية على مستوى دائم وعميق وتحذير من عودة الشيطان مرَّة أخرى. أمَّا هَرَبُ
الشيطان من الأمكنة التي فيها ماء فذلك لأن طبيعة الشيطان سلبية ضد الحياة بكل
صورها، والماء أصل كل حيّ (2بط 5:3).

25:11و26 «فَيَأْتِي
وَيَجِدُهُ مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ
أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ
الإِنْسَانِ أَشَرَّ مَنْ أَوَائِلِهِ!»

“مكنوساً” ليس فيه أثر
من كلام المسيح ولا أي وعظ أو تعليم من أي نوع. مزيَّناً فيه صور الخلاعة في القلب
وعلى الحوائط ومناظر شهوانية مغرية مثبَّتة بطريق فنِّي. فحينما يراها الشيطان
يرتاح فيه ويمدحه أنه مضياف ممتاز، ويأتي بسبعة ألعن منه ويسكنون في أركان هذا
البيت كأصحاب ملك. وهكذا يبدو الإنسان وقد صار قلعة منيعة للعدو لا يستطيع أحد أن
يوصِّل له كلمة الحياة إذ يرفضها تماماً. فإذا عبر عليه الصديق القديم أو الكاهن
الذي كان قد أخرج الشيطان الأول، يتعجَّب من عجرفة الإنسان وامتناعه من سماع كلمة
الإنجيل، ناهيك عن الشتيمة والإهانة. وهنا نذكِّر بمريم المجدلية التي أخرج منها
المسيح سبعة شياطين، وكيف صارت من القديسات.

 

2 تطويب
العذراء القديسة من على بُعد

طوبى للبطن الذي حملك

(27:11و28) القديس لوقا
وحده

 

27:11 «وَفِيمَا
هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهذَا رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَتْ
لَهُ: طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ
رَضِعْتَهُمَا».

من أندر المواقف
الجميلة التي نستنشق منها عبير العذراء القديسة من على بعد. امرأة دخلت في حالة
انتباه روحي وبوحي سمائي هتفت للعذراء كأم ولدت، ولدت نبيًّا وأرضعت إلهاً.
فهيَّجت هذه المرأة مشاعرنا ورفعت أحاسيسنا حتى إلى المذود والنجم والرعاة والملوك
الثلاثة، وخوارس ملائكة قديسين يسبِّحون من السماء بلغة البشر إذ أن ملكهم قد صار
واحداً منَّا فلماذا لا يتكلَّمون بكلامنا. وهكذا دخلت السماء بربها وجنودها في
حوزة البشر. هتاف هذه المرأة في وسط الجمع يُعاتب الذين يسألونه مَنْ أنت؟ ولماذا
أنت؟ لترفع عقولهم لحظة إلى سمو موطنه وعلو قداسته. أمَّا كيف فلتت هذه الرائية من
حراسة الملائكة المشدَّدة حتى لا ينكشف السر من حول ملك الملوك ورب الأرباب، فغالباً
التقطت من لمسة لمستها كنازفة الدم فصرخت مثل توما وعاشت لحظة من لحظات المسيَّا
من وراء الضباب. نطالب الآن الناقدين والناقمين على لاهوت المولود الإلهي، كيف عرفت هذه المرأة أن البطن التي ولدته بطن تطوَّب من
بين ملايين البطون الأخرى؟ ما الذي أنطقها
وما الذي جعلها ترى الأمومة هنا
فوق كل أمومة؟ ولماذا الثديان هنا هما بدرجة سماوية مهيبة جعلتها ترى فيها الطوبى،
كل الطوبى؟ أليس نحن هنا أمام أليصابات الجديدة لمَّا رأته تحرَّك الجنين في بطنها
فانفتح فمها لتعطي واجبات التسبيح للتي هي صاحبته بالضرورة؟ ما أعجبك يا لوقا،
كيف تضع هذه التسبحة السماوية بين الكلمات، وهي بالحق تتوسَّط أصحاحاً فريداً
مزيَّناً. أمَّا للذين يحطون من قيمة هذه الشهادة فنقول: وهل قلَّت هذه الشهادة عن
التي للمعمدان أو زكريا أو أليصابات؟ وبأي معنى طوَّبت هذه المطوَّبة بطن أُمه
التي حملته إلاَّ لأنه بطن بتولي ليس كبطون الأمهات؟ وكيف وبأي سلطان ولسان جاءت
هذه التطويبة لامرأة من بين النساء إلاَّ أنه رجع صوت سماوي التقطته أذنها ذات
السمع المفتوح؟ ثم لماذا البطن والثديان معاً إلاَّ أن وراءهُما سراً، فروح البتول
ينطق من هذه التسبحة نطقاً!!

ولكن وبأكثر تحليل
وتدقيق لماذا الاعتراف العالي هنا بسمو مَنْ حملته وأرضعته بعد افتئات القوم الذين
نسبوا إليه أنه ببعلزبول يُخرج الشياطين؟ فكان رد هذه المرأة عليهم كمَنْ يضع
الجوهرة في غلافها، وكان رد المسيح عليها ردًّا محاولاً عدم إلغاء قولها ولكن
بالأكثر كشف مضمونه، فالبطن حَمَلت بكلمة الله والثديان حفظتا الوديعة.

28:11 «أَمَّا هُوَ
فَقَالَ: بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ».

لم يصنع المسيح العكس
كالعادة ولم يستصغر ما قالته المرأة، بل أكمل الطوبى بطوبى لمَنْ يسمع كلام المسيح
الذي خرج من بطنها ويحفظ أقواله كمَنْ يرضع من ثدي السماء. فالمسيح لم يشأ أن
يقلِّل من كلام المرأة بل كشف عن جوهره. بمعنى أن البطن حملت كلمة الله، فإن كانت
الطوبى للبطن فالطوبى بالأَولى للذي آمن بمَنْ حملت وأرضعت ولمَنْ يُدرك هذا
ويحفظه. وعلى كل حال فإنه يليق بهاتين الآيتين أن يرصَّع بهما إنجيل الميلاد.

 

3 آية
يونان النبي

(29:1132) (مت
38:1242)
(مر 12:8)

كانت الجموع الطامحة في
استعلان أكثر لشخص المسيح يلحُّون دائماً بطلب آية من السماء، وسبق أن عرفنا أنهم يركزون على نزول المن وهي في
التقليد العلامة السماوية التي تحدث بمجيء المسيَّا. والمسيح هنا يقول: إن الآية
الوحيدة هي آية يونان النبي، حيث دخل يونان الموت في بطن الحوت وخرج منه سالماً
بعد ثلاثة أيام، وكرز لمدينة شريرة فاجرة فتابت. بمعنى أن الأمر لا يختص

بالمسيح ولكن بتوبة إسرائيل وإلاَّ يتم فيها الانقلاب كمصير نينوى إذا لم تكن قد
تابت. على أن أصعب جزء في تجربة يونان والمحسوب أنه معجزة حقـًّا هو خروجه سالماً
من بطن “الموت” بعد ثلاثة أيام، وهي آية القيامة عند المسيح. وهذه القصة شرحها ق.
متى من جهة عدد الأيام والليالي، أمَّا القديس لوقا فقد ذكر الآية بمجرَّد اسمها
فقط دون شرح، وفي الحقيقة ما عمله ق. لوقا أعطى أهمية كبيرة جداً لهذه الآية لأن
فيها يشرح المسيح كيفية قيامته بالجسد وهذا تحقيق إلهي للقيامة([11]).

29:11 «وَفِيمَا
كَانَ الْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ابْتَدَأَ يَقُولُ: هذَا الْجِيلُ شِرِّيرٌ.
يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ النَّبِيِّ».

يلاحَظ هنا أن ق. لوقا
لم يسجِّل سؤال الجموع مطالبين بآية لأنه سبق وألمح إليه في (16:11). أمَّا لماذا
حكم المسيح على هذا الجيل أنه شرير فذلك بسبب طلبه آية، لأن هذا معناه أنه يرفض
كلام المسيح وتعليمه ووضوح شخصيته كاستعلان لمجيئه من الآب. كذلك اعتبارهم قوته في
إخراج الشياطين هي ببعلزبول وبهذا أهانوا روح الله مباشرة فخطيتهم باقية ولن
تُغفر. لذلك كشف عن محاكمتهم يوم الدين أنهم سيكونون في العقاب أكثر، وسيكون أهل
نينوى الذين تابوا بمناداة يونان هم قضاتهم. وفي إنجيل ق. مرقس يشدِّد المسيح على
هذا القرار بقوله بصيغة الآمين أو بالحق الذي يُعتبر بمثابة قَسَم.

30:11 «لأَنَّهُ
كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كذلِكَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ
أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ».

هنا يوضِّح ق. لوقا
الكلام دون أن يفسِّره أو يشرحه، كما فعل ق. متى. إلاَّ أنه واضح جداً أن ق. لوقا
يقصر الآية على كونها آية لأهل نينوى من جهة المناداة بالتوبة وقبولها. فهنا
التطبيق واضح وبديع بالنسبة للمسيح، فالمسيح آية هذا الجيل بحد ذاته كمُنادٍ
بالتوبة مثل يونان لأهل نينوى ولكن لم يقبلوه ورفضوه.
لذلك فكل الإنذارات التي حملها يونان لأهل نينوى ولم تحل بهم لأنهم تابوا، ستصير
لإسرائيل لأنهم لم يتوبوا. وهذا اتضح صِدْقُه في الحرب السبعينية التي قلبت
أُورشليم وأحرقت الهيكل وقتلوا الألوف وأُفِرْغَتْ أُورشليم من اليهود تماماً
كعقاب حلَّ عليهم إزاء رفضهم مناداة المسيح.

ولكن، انتبه ق. متى
لآية يونان بالنسبة للحوت وشَرَحَهَا، أمَّا القديس لوقا فقد أوضح أن الآية هي
أيضاً مع أهل نينوى، والآية هي المناداة بالتوبة مع الإنذار فنجوا بالطاعة، فكان
لهم آية خلاص لأنهم أطاعوا يونان. أمَّا إسرائيل فلم تسمع ولم تُطع لمناداة المسيح
فتم عليها غضب الله ثمناً للعصيان العنيد الذي أبدوه لمناداة وإنذارات المسيح لهم.
فكان المسيح آية دينونة لهم.

31:11 «مَلِكَةُ
التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ رِجَالِ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ،
لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ،
وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا».

«تيمن»: nÒtoj

كلمة “تيمن” تعني
الجنوب، وملكة التيمن هي ملكة سبا، ربما في اليمن.

هنا
يتجه المسيح في إنجيل ق. لوقا إلى الناحية الإيجابية في السماع له عن اشتياق، بعد
الناحية السلبية في السماع له عن اضطرار كأهل نينوى. فهنا ملكة التيمن التي سمعت
فأطاعت صوت سليمان وحكمته عن بُعد فاستجابت وجاءت تراه وتسمعه عن قرب. أمَّا
إسرائيل فرفضت السماع كلِّيةً، مع أن المسيح أتى بحكمة وبمعجزات هامة أكثر وأهم
وأعظم مما قاله سليمان، ولكنهم رفضوه ولم يسمعوا ولم يطيعوا وقتلوه. ومعنى أنها
ستدين هذا الجيل” هو أنها
ستقف شاهدة ضده.

32:11 «رِجَالُ
نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ،
لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ
ههُنَا!»

هنا أراد القديس لوقا
أن يرفع التوبة التي تابها أهل نينوى فوق مجرَّد سماع حكمة سليمان. وقد استرعت
انتباه المسيح كيف أن شعباً أممياً يدخله نبي لا يعرفونه فيسمعون له ويطيعون بتوبة
صادقة بالجلوس في التراب والرماد حتى إلى مستوى الملك نفسه، وهكذا تُعتق من الخراب
الآتي عليها لأنهم سمعوا مناداة يونان وهو غريب عنهم. وإسرائيل ترفض مَنْ جاءها
بمقتضى مئات النبوَّات على مدى التاريخ كله من نسل إبراهيم أبيهم، وهكذا يرفضون
فتخرب البلاد برمتها:
» هوذا بيتكم يُترك لكم
خراباً
«(لو 25:13). ويرد
التاريخ ويقول: آمين حقـًّا كَمُل! وحقًّا قال فيهم موسى معبودهم بعد الله:
» إنهم أُمة
عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم. لو عقلوا لفطنوا بهذه وتأمَّلوا آخرتهم … إن صخرهم
باعهم والرب سلَّمهم!!
«(تث 32: 2830)

 

4 النـــور
والظــلام

(33:11-36) (مت
15:5، 22:6و23)

(مـر
21:4)

هذا المثل يعطيه المسيح
ليصلح لكل مناسبة، وقد سبق أن قاله في (16:8)، ولكن يقوله هنا بالنسبة لتعليمه
الذي قاله في كل مكان جهاراً، وفي الهيكل كان يعلِّمهم بكل صراحة ووضوح. إذن
فالجهالة بالنور لا تعود على المصباح بل على العين العمياء التي أمامها نور وترى
فيه ظلاماً. أمر قاسٍ جداً على قلب المسيح أن يقول أن ملكة التيمن جاءت من أقصى
الأرض لتسمع سليمان وحكمته البشرية، دون أن يدعوها أحد إلاَّ شوقها أن تسمع الحكمة
من أربابها، والمسيح وهو النور الحقيقي يتجاهلون تعليمه ويصادرونه في كل ما هو حق
ونور وحياة. ولكن لا يتكلَّم المسيح عن النور المرئي بل النور الحقيقي الذي يضيء
القلب. والعين التي لا ترى النور الخارجي يهون أمرها، ولكن العين الشريرة لا تواجه
النور الحقيقي وتحجز عن القلب الحق والحياة. فالذي يرفض كلام المسيح يرفضه عن
علَّة وشرّ في عينه الروحية. وحينما يقول عن النور أنه يوضع على منارة يقصد بها
المكان العالي الذي يراه كل أحد. والمسيح في الحقيقة نور ومنارة، لأن النور الذي
يلقيه المسيح يستمده من كيانه الإلهي العالي فوق أعلى السموات، وإن كان النور
العادي حينما يُرفع على منارة يراه الناس من بُعد، فنور المسيح يخترق الحواجز
ويضيء الأعماق ويكشف خبايا القلوب والأفهام. إذن فهل من عذر؟ ولكن الذي لا يرى نور
المسيح يصبح حتماً ظلاماً. والمسيح هنا يتكلَّم أيضاً عن تلاميذه كيف سيكونون نوراً للعالم حاملين شعلة المسيح بالروح
القدس، وكيف ينيرون القلوب ويعلنون الحق والحياة.

أمَّا
النور في مفهوم المسيح فهو نور الله، ونور الله في ذاته هو المعرفة الكلية أو
المطلقة، وهي التي في جوهرها الحق الكامل أو المطلق. ومعرفة الله وحق الله هي
بكاملها في المسيح يسوع. فالمسيح هو النور وهو الحق، ولمَّا أرسله الله متجسِّداً
أرسله ليوصل معرفة الله وحق الله لإنارة الإنسان. لذلك أصبح أن يعرف الإنسان
المسيح يعرف الله، والذي يقبل الحق في المسيح يقبل الحق في الله:
» لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً «(يو
7:14)،
» ومن
يقبلني يقبل الذي أرسلني
 «(مت 40:10). » تعرفون الحق والحق يحرِّركم «(يو 32:8)؛ حيث معرفة الحق هي معرفة
الله وهي تُحرِّر الإنسان من كل ما هو ليس حقـًّا، وأخطره الجهل بالله وهو العمى
الذي يؤدِّي إلى كل المعاصي والخطايا. ويعود المسيح ويقول:
» فإن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً (مستنيرين) «(يو
36:8)، لأن الابن كلي المعرفة وكلي الحق. فهو كلِّي النور، فإذا أردنا أن ننزل
بهذه المطلقات إلى الواقع الإنساني نجد “الحق” هو الصدق وهو الحب وهو الإيمان أي
المعرفة بالله. لذلك يميِّز الله الإنسان بالعقل العارف المستنير القادر أن يميِّز
الحق، لأن الإنسان أصلاً مخلوق على صورة الله ومطلوب منه بعد السقوط أن يعود مرَّة
أخرى إلى صورة الله. والعقل الواعي بالحق هو في الإنسان الطاقة النيِّرة المفتوحة
على الله. لذلك لمَّا جاء المسيح كان همُّه الأعظم أن يوصِّل الإنسان إلى معرفة
الله ليعود إلى صورته الأُولى بمعرفة الحق عن طريق نور المعرفة المتحرِّرة من كل
ما هو ليس حقـًّا وما هو ليس من النور.

فإن كان الله هو النور
وهو الحق، والمسيح أيضاً كذلك، كان الذي هو ليس نوراً وبالتالي ليس حقـًّا، بمعنى
غياب الله والمسيح كلية، يكون هو الضد لله والمسيح، والضد لمعرفة الله والمسيح،
والضد للحق في الله والمسيح. وهذا الضد هو الشيطان القوة العقلية المظلمة السالبة
المقاومة والمعاكسة لله والمسيح، وهو بالتالي الخالي كليةً من نور الله والمسيح
ومن حق الله والمسيح. لذلك نُعت الشيطان بسلطان الظلمة (لو 53:22 وكو 13:1)،
» كذاب وأبو
الكذَّاب
«(يو 44:8). وهكذا
فالظلمة تعني غياب الله من نور وحق. والشيطان لأنه قوة عقلية (سالبة) فطريقه
الوحيد للدخول إلى الإنسان ليوحي إليه بكل ما هو ليس نوراً أو حقـًّا هو عقل
الإنسان، ولكن أُعطي الإنسان قوة التمييز بين المعرفة الحقيقة والمعرفة الكاذبة،
والحق والكذب.

بهذه المقدِّمة يكون من
السهل معرفة الآيات القادمة.

33:11و34 «لَيْسَ
أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خِفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ،
بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ. سِرَاجُ
الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ
يَكُونُ نَيِّراً، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِماً».

هنا عين
الإنسان الظاهرة تقابلها عين الإنسان الجوانية، وهي الوعي أو العقل الرائي
أو الناظر. فمعنى العين البسيطة في الظاهر أن تكون على مستوى “الولد” الذي قال عنه
المسيح:
» إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات «(مت 3:18). وهنا “البسيطة” هي في الحقيقة الإيجابية التي تصدِّق
الحق. أمَّا معنى العين بالمعنى الداخلي فهي قوة العقل الواعي التي يرى بها
الحقيقة ويصدِّقها. مثل هذا الإنسان الذي له العين البسيطة جسده كله يكون نيِّراً،
أي مفتوحاً على الحق يستمد منه كل وجوده وعمله ومشيئته: فرح، حب، سلام، ثقة، أمل،
رجاء، بذل، خدمة، احتمال، صبر. أمَّا إذا كانت العين شريرة فهنا تتضح القوة
السالبة، يعني القوة المضادة للمعرفة الصادقة والحق. وبالتالي يكون الجسد مساقاً
في الاتجاه السلبي تحكمه النزعات الشريرة: البغضة والعداوة والنقمة والحزن واليأس
والشك والخوف والرعبة وعدم الاحتمال.

وهنا يجدر بنا عزيزي
القارئ أن نبني قوة العقل والتمييز عندنا بالقراءة في الإنجيل بمداومة، وطلب معونة
النعمة لتكشف لنا الحق في الإنجيل، فهو الموصِّل لله والمسيح، والذي يبني فينا قوة
التمييز بين الحق والباطل وبين أقوال وأعمال النور وأقوال وأعمال الظلمة. فنضمن أن
الجسد بكل أعضائه يخضع لمشيئة النور والحق ولا تخرج أعضاؤنا عن حدود نعمة الله
الحارسة.

35:11 «اُنْظُرْ
إِذاً لِئَلاَّ يَكُونَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً».

إن مصدر النور في
الإنسان هو الله والمسيح عن طريق العقل الواعي الذي استنار فيه التمييز بين الحق
والباطل والنور والظلمة بواسطة الإنجيل. فإذا فقد عقل الإنسان الواعي اتصاله بمصدر
النور والحق يظلم ولا محالة ويكون كأنك حكمت على نفسك بالحياة في
ظلمة هذا الدهر. لذلك، فإن أعظم مصيبة يُبتلَى بها الإنسان أن يكون مصدر الفكر
والتمييز فيه لا علاقة له بالنور والحق في مصدرهما السمائي: الله والمسيح
والإنجيل. هكذا يصبح عندك النور ظلاماً.

36:11 «فَإِنْ كَانَ
جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّراً
كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ السِّرَاجُ بِلَمَعَانِهِ».

هنا
استطاع العالِم مانسون([12])
بمساعدة الترجمة الأرامية الاجتهادية لهذه الآية للعالِم
C.C. Torrey إدراك العلَّة في وضع هذه الآية غير المفهوم. إذ رأى أن الجزء
الثاني من الآية: «يكون نيِّراً كلّه» فيه كلمة “كلّه” لا تعود على الجسد بل على الحياة والعالم من حوله كله. فتكون
الترجمة الصحيحة
للآية هكذا:
» فإن كان جسدك كلّه
نيِّراً وليس فيه جزء مظلم يكون الكلُّ (العالم كله) نيِّراً (حولك) كما حينما
يضيء لك السراج بلمعانه
« وهذا أمر صادق وحقيقي للغاية، فحينما يكون المصدر الذي يغذِّي
الجسد بالمعرفة والمشيئة نيِّراً يصبح الجسد كله أي أعضاء الجسد
خارجه وداخله منطبعة بطابع النور بالمعرفة والحق والقداسة. وهنا
استطاع المسيح أن يخرج النور الذي التقطه الإنسان من كلمة الحياة في الإنجيل من
الداخل إلى الخارج. فاستنارة الإنسان الداخلية بنور الكلمة تشع من خارجه وتملأ
الحياة حوله بالنور، فيرى كل شيء حسناً وجميلاً ولا يعثر ولا يتأذَّى بشيء.

وهذا الشرح جيد جداً
للإنسان الذي يعيش في أوساط صعبة وتقابله عثرات ومقاومات، إذا رجع للإنجيل دائماً
وانفتح قلبه لكلمات الحياة وأنارت نفسه من الداخل، فإنه يرى كل العقبات قد زالت وكل
المقاومات هانت، والأعداء انفتح وعيه عليهم ليقبلهم كأصدقاء فتختفي العداوة ويعود
الإنسان سعيداً بنفسه، سعيداً بحياته، سعيداً بإلهه!!

ولكن إذا أخذنا الآية
بوضعها الحالي دون تغيير يمكن شرحها بأنه إذا كان العقل الواعي للإنسان مستنيراً
بنور المسيح فإنه يجعل الجسد كله نيِّراً:
» قومي
استنيري لأنه قد جاء نوركِ ومجد الرب أشرق عليكِ. لأنه ها هي الظلمة تغطِّي الأرض
والظلام الدامس الأُمم. أمَّا عليكِ فيشرق الرب ومجده عليكِ يُرى.
«(إش 60: 1و2)

 

5 مواجهة
رياء الكتبة والفرِّيسيين

(37:1154) (مت
23: 236)
(مـر 38:1240) (لو 20: 4547)

 

يبدأ هنا الفرِّيسيون
انتقاد المسيح لكونه لا يخضع لعاداتهم في التطهيرات بالغسيل لكل شيء. والأمر وإن
بدا بسيطاً وفردياً ولكن خطورة العادات التي جعلوها قوانين بدأت تثقِّل على الشعب
حتى لم يعد يحتملها، وكأنه قد أصبح للفرِّيسيين دينٌ آخر غير اليهودية والناموس،
لدرجة الابتعاد عن الله، ثم نصَّبوا أنفسهم حُرَّاساً لمبادئ وفتاوٍ فرضوها على
الناس. وهنا ابتدأ المسيح يهاجمهم، فأعطى الويل لست حالات: الويل لثلاث حالات
أصحابها فرِّيسيون وثلاث لكتبة على وجه الخصوص. ولقد رثى المسيح الفرِّيسيين الذين
وضعوا أنفسهم بأنفسهم تحت الدينونة، إذ وضعوا ناموساً لهم يتعلَّق بالأمور
والأشياء الظاهرة من جهة الطهارة، وتهاونوا وتجاهلوا الطمع والشح في داخلهم
ويعوِّضونه بالصدقة الظاهرة، واهتمامهم الشديد بتوافه الأمور والأشياء مع تجاهل
الحق والعدل والرحمة والمحبة التي كان ينبغي أن تتصدَّر اهتمامهم. وامتلأوا
كبرياءً وجعلوا أنفسهم شيئاً عظيماً كمعلِّمين ذوي اختصاص. هذه كلها حسبها لهم
المسيح كخطايا سيحاسبون عليها. وبهذا أضلُّوا الشعب الذي اعتقد فيهم الكمال وهم
غير أكْفَاءٍ في كل ما لهم.

والكتبة ولو أنَّهم لا
يصابون من هذا كثيراً، إلاَّ أنه كانت لهم نقائصهم. فشرحهم للناموس واستخراج
الفتاوي جعلت الناموس غير قابل للاستيعاب والتنفيذ، وظلُّوا مثل آبائهم الذين
قاوموا الأنبياء ولم يُقبلوا على تعاليمهم وقتلوهم، وجاء هذا الجيل ليدفع ثمن
إجرام آبائهم. ادَّعوا أن مفتاح تعاليم معرفة الله الحقة في أيديهم ولكنهم لا
دخلوا هم ولا جعلوا الداخلين يدخلون. وطبعاً بعد هذا التحليل الخلقي وإظهار عيوبهم
وعوار تديّنهم لن يكون لهم سلام عند المسيح. هذا هو القسم الذي اجتهد ق. لوقا
وجمعه لهم خصيصاً، ولكن يصعب جداً معرفة المصادر التي رجع إليها ق. لوقا في هذه الأوصاف
والأعمال. أمَّا إنجيل ق. مرقس فاكتفى بما جاء في (مر 12: 3840) الذي
ذُكِرَ فيه شيئاً مما جاء في إنجيل ق. لوقا.
والقديس لوقا أخذ من إنجيل ق. مرقس ما جاء عنده في (لو
46:20). كذلك يوجد
عند ق. لوقا ما جاء في إنجيل ق. مرقس (1:79)، القسم الذي خصَّصه ق. مرقس
عن التطهيرات.

37:11 «وَفِيمَا
هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَذَّى عِنْدَهُ. فَدَخَلَ
وَاتَّكَأَ».

الترجمة الصحيحة:
“وعندما انتهى من الكلام”([13]).

والأكلات الرئيسية عند
اليهود في أيام المسيح هي: الأكلة الأُولى في أيام الأسابيع العادية
في الصباح وتُدعى باليونانية: “أريستون
¥riston” أي: “الإفطار”، وأكلة رئيسية في المساء (العشاء) de‹pnon. في حين أن الرومان
كان عندهم بخلاف الإفطار أكلتان رئيسيتان وهما: الغذاء
prandium
والعشاء
cena. أمَّا في يوم السبت فالأكلة الرئيسية عند اليهود بعد الخروج من
المجمع في حوالي نصف النهار، مثل الأقباط تماماً يوم الأحد بعد الخروج من الكنيسة.

38:11 «وَأَمَّا
الْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً
قَبْلَ الْغَدَاءِ».

(لا بمفهوم النظافة بل
بمفهوم التطهير).

طبعاً اندهاش الفرِّيسي
يرجع لأن الأمر عنده يتعلَّق كله بالناموس، مع أنها من ترتيبهم. ولا يوجد في
الناموس إلاَّ الاغتسال إن كان شيء من السوق. ولكن كان يسوع وتلاميذه لا يراعون
هذه الترتيبات الفرِّيسيَّة حتى ولو دخلوا بيت فرِّيسي بنوع من إظهار عدم التبعية
للأوضاع التي اخترعوها لأنفسهم. ولكن نحن نفهم أن الاغتسال قبل الأكل ضرورة من أجل
النظافة فقط.

39:11 «فَقَالَ لَهُ
الرَّبُّ: أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ
الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافاً
وَخُبْثاً».

الملاحَظ
هنا أن غسيل القصعة أي الصحن وغسيل الكأس لشرب الماء حسب التدبير الفرِّيسي
يكون من
الخارج، بمعنى التطهير للشيء وليس بمعنى غسله، وهم لا يهتمون بما في داخله. وهذا
الفكر يستوجب حتى على الإنسان نفسه فيغسل ما هو ظاهر كتطهير وليس كغسيل. حتى أن
القصعة تصير طاهرة إذا غُسلت من الخارج وما بداخلها غير نظيف، كأن يكون مسروقاً أو
مغتصباً، وبالتالي الإنسان، طالما هو متطهِّر من الخارج يكون طاهراً حتى ولو كان
خبيثاً وشريراً. وهذا هو حال الفرِّيسي تماماً: مغتسَل ومطهَّر خارجياً وملابسه
مطهَّرة تماماً، أمَّا قلبه فمملوء خبثاً وشراً.

40:11 «يَا
أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ الَّذِي صَنَعَ الْخَارِجَ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضاً؟»

حينما يقول المسيح لهم:
“يا أغبياء” فهو يقصد القصور عن فهم ما لله الذي هو اختصاص المسيح. فالمسيح هنا لا
يقولها على مستوى الشتيمة؛ وإنما يكشف ما هو حقيقي. والقصد أن يراجع الفرِّيسيين
فيما لم يفهموه عن غاية التطهير في الناموس وهو أن يجعل الإنسان لائقاً بعبادة
الله، فليس الخارج هو الذي يظهر لله بل الداخل للعارف بخفايا القلوب والضمائر.
فالفخاري سوَّى القصعة من الداخل والخارج، كذلك الخالق صنع داخل الإنسان وخارجه.
فالمطلوب أولاً الداخل الذي لا يراه إلاَّ الله وحده. إذن أنتم تريدون أن تَظْهروا
للناس في مستوى التقوى وقلوبكم ليست مع الله. أليس هذا هو الرياء إزاء الله؟

41:11 «بَلْ
أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيًّا
لَكُمْ».

القصد بعيد المنال
نوعاً ما. فالمسيح يعلِّق على آية التوبيخ بإعطاء أمر يستطيع أن يجعلهم أنقياء
أمام الله؛ وهو أن يعطوا صدقة من أموالهم وحينئذ تصبح قلوبهم نقية من الجشع والطمع
وحب الظهور. هذا هو الذي يجعلكم أنقياء في عين الناس والله ولا يعود غسيلكم
وتطهيركم من الخارج بذات قيمة. ولو شرحناها على مستوى القصعة والكأس نقول: لو
أردتم أن تطهِّروا القصعة حقيقة والكأس أيضاً أعطوا ما فيها للفقير والمحتاج صدقة
وهي تصير نقية في عين الله. وجمال القول الذي قاله المسيح يظهر جداً للقارئ إذا
علم هذين الفعلين بالأرامي: يغسل ويتصدَّق: يغسل
dakki
ويُعطي صدقة
zakki. فلهذا جاءت في الترجمة
غير مفهومة لأن هذا هنا لعب بالألفاظ لتصير مثلاً وقاعدة: بدل أن تغسل زكِّي، من
الزكاة.

42:11 «وَلكِنْ
وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ
وَالسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَقِّ وَمَحَبَّةِ اللهِ.
كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ!».

جمع المسيح هنا التوافه
التي شغل الفرِّيسيون بها أنفسهم يتلهُّون بها لكي لا تستيقظ ضمائرهم عن كبائر
الخطايا ضد الناموس. فالمسيح هنا انتقل (في إنجيل ق. لوقا) من غسيل الأواني من
الخارج إلى التدقيق في إعطاء العشور بالنسبة لتوافه المِلْكيات، وأمامها أهملوا
أعظم الوصايا.

هنا ذكر المسيح ثلاثة
أعشاب تنمو في الحقل وربما حديقة الدار: النعنع
Mentha piperata والسذاب Ruta
graveolens
وكل بقلٍ ذكرها
بالاسم في اليونانية:
l£canon
وهو عشب وليس بقلاً. وإنجيل ق. متى ذكر أسماء أخرى مثل الشِّبِث والكمون. والقصد
هو توبيخهم على الاهتمام الشديد بالوصايا التي ليس فيها صعوبة ولا قيمة مادية
تُذكر أمام وصايا عظمى، إهمالها يؤدِّي إلى جهنم. علماً بأن تعشير هذه الأعشاب هو
في الناموس الشفاهي، في حين أن الوصايا العظمى هي روح الديانة كلها. ولكنه يضيف:
» كان ينبغي
أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك
« لكي لا يكون الإنسان مُحالاًّ أن يترك الوصايا الصغرى التي وضعها
الله بعد الكبرى.

43:11 «وَيْلٌ
لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْمَجْلِسَ الأَوَّلَ
فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ».

المجلس الأول في
المجامع
prwtokaqedr…an للأسف
ورثتها الكنيسة وجعلتها رسمياً بالدرجة لذوي النفوذ في الكنيسة والأغنياء وأصحاب
السلطة، وكأن الكنيسة مؤسَّسة سياسية ولا خشية من الله والإنجيل. والمسيح يندِّد
بهذه الأخطاء الخارجة عن معنى العبادة والتديُّن والانتساب للمسيح بالنسبة
لتلاميذه أيضاً:
» الأصغر فيكم جميعاً هو يكون عظيماً «(لو 48:9)، » ومَنْ أراد أن يكون
فيكم أولاً فليكن لكم عبداً
«(مت 27:20). لا غصباً ولا تعنيفاً، ولكن أصحاب الإيمان المسيحي
يتسابقون على الأصغر والأقل ويتهرَّبون من الأعظم والأول والأمجد. ولكن هل يوجد
إيمان على الأرض؟ وبماذا يعرفون الإنسان المسيحي إلاَّ بإنكار الذات واختيار
النصيب الأصغر والأقل، والاعتذار عن التظاهر والأماكن الأُولى والعالية. كان فرعون
في زمانه يدعونه صاحب الباب العالي وهي الترجمة الحرفية لكلمة فارعون فهي أصلاً: “فا”
يعني صاحب “را” يعني باب “أو” يعني: “عالٍ”. فاختزلوها الآن وصارت
صاحب المعالي، واختزلوها جداً إلى كلمة السيد دون أن يدروا أن سيد يعني “رب”.
وسيظل داء التعالي لاصقاً بالإنسان منذ أن تعالى على وصية الله. ولكن المسيحي الحق
هو مَنْ تشبَّه بسيده وأخلى ذاته من كل ما يميِّز الإنسان، لأن هذا هو سر الخلاص
الذي أكمله المسيح بأن أخلى ذاته من كل ما يميِّزه كإله وكإنسان إذ أخذ شكل العبد.
فإن إخلاء الذات مما يكرِّمها ويعظِّمها لهو أصعب عمل يمكن الإنسان أن يتقنه،
علماً بأن كل محاولة لإعلاء الذات هي من صفات الملاك الساقط:
» كيفَ سقطتِ
مِنَ السماء يا زُهَرَة بنت الصبح. كيف قُطِعْتَ إلى الأرض يا قاهِرَ الأُمم.
وأنتَ قُلتَ في قلبكَ أصعَدُ إلى السموات أرفع كُرسِيِّ فوق كواكب الله … أصعَدُ
فوق مرتفعات السحاب، أصيرُ مثل العليِّ، لكنكَ انحدرتَ إلى الهاويةِ إلى أسافل
الجُبِّ … كجثَّةٍ مدوسةٍ
«(إش 14: 1215و19). ويُلاحِظ القارئ أن
الشيطان في محاورته مع الإنسان يسلِّمه صفاته:
» تكون كالله. «(تك 5:3)

44:11 «وَيْلٌ
لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ
مِثْلُ الْقُبُورِ الْمُخْتَفِيَةِ، وَالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ
يَعْلَمُونَ!»

الكتبة هم بمثابة
دكاترة القانون، والفرِّيسيون بمثابة المحامين والقضاة. الأولون يشتغلون بالناموس
شرحاً وتعليماً، والآخرون يدافعون عن الأصول الناموسية ويقضون على المخالف. هنا
يشبِّههم المسيح بالقبور المختفية، مما يفيد في مفهوم الناموس مخازن نجاسة مخفية
عن أعين الناس. والقديس متى يضيف أنهم يشبهون القبور المبيَّضة، تظهر جميلة من
الخارج وهي من الداخل مملوءة كل نجاسة وعظام أموات. بمعنى أن أخلاقهم وأعمالهم من
الداخل فاسدة فساد الموت. والقديس لوقا حينما قال: “مختفية” يقصد دواخل القلب
والنفس. من الخارج جيد ومن الداخل رديء. فهم يخفون طباعهم التي لا تخفَى عن
المسيح، فأعطاهم الويل كديَّان العدل الذي يكشف أستار القلوب.

45:11 «فَأَجَابَ
وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِيِّينَ وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هذَا
تَشْتُمُنَا نَحْنُ أَيْضاً».

النَّاموسيون هم الكتبة
المشتغلون بالناموس
nomiko…
= lawyers
؛ ولكنهم يعتبرون أيضاً من الفرِّيسيين. الواقع أن اعتراض هذا
الناموسي نوع من المداعبة. لأن الكلام واضح أنه يقصد به كل طبقة المشتغلين
بالناموس. وكأنه يريد أن يقول: وما هو نصيبنا نحن من الويلات عندك. لأنه من الواضح
أن المسيح كان يهاجم ولكن بلطف شديد ورقة وفي حدود الآداب العامة في التخاطب،
ولكنهم انتهوا بالاتحاد في إظهار رفضهم وثورتهم عليه.

46:11 «فَقَالَ
وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ
النَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ
بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ».

تصوير قدير من المسيح
على اجتهاد الناموسيين في تقنين وشرح تفرعاته التي تزيد من ثقل الواجب المفروض على
الإنسان حتى يُظهر عدم القدرة على تنفيذه، وفي نفس الوقت لا يُبْدون أي معونة
لمساعدة الناس على حفظه وتتميمه. وهذا هو الذي صرخ منه ق. بطرس أمام المجمع:
» فالآن لماذا
تجرِّبون الله بوضع نير (الناموس) على عنق التلاميذ لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن
نحمله
«(أع 10:15).
وهذا الاتهام ينطبق أيضاً على الفرِّيسيين الذين يعظون بضرورة وأهمية الناموس
وتأديته بدقة وهم لا يعملون به.

أمَّا بالنسبة للتعليم
المسيحي بمبادئ ووصايا وتعاليم الرب، فالكنيسة جعلت القدوة والتسليم العملي
بالخدمة هي الأساس الأول بالنسبة لتعليم الإنجيل، معتمدة اعتماداً كبيراً على
أعمال الآباء وسيرتهم العملية أكثر من التعليم الشفاهي. وبذلك حُفظ تقليد الكنيسة
عبر الأجيال.

47:11و48 «وَيْلٌ
لَكُمْ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ.
إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ
قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ».

الكلام
هنا موجَّه لكل السامعين من الجمع، لأن الذين يبنون قبور الأنبياء الذين قتلهم
آباؤهم

يُقرُّون عملياً أنهم أبناء قتلة الأنبياء. هنا يمر المسيح مروراً سريعاً على عادة
بناء القبور وتزيينها أنها عمل يتنافى مع القاعدة:
» دع الموتى
يدفنون موتاهم وأمَّا أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله.
«(لو 60:9)

49:11 «لِذلِكَ
أَيْضاً قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ
وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ».

بمعنى أن الله أرسل لهم
الأنبياء والرسل، فعوض أن يسمعوا كلمة الله التي جاءوا بها وينتفعوا، قاموا عليهم
وعذَّبوهم وقتلوهم (إشعياء النبي نشروه بمنشار خشب)، وجاء هذا الجيل ليكرِّم
قبورهم وأجسادهم، ولكن أيضاً شاركوا آباءهم في عدم العمل بوصاياهم أو احترام كلامهم.
وكأنما هم يكمِّلون العمل الذي عمله آباؤهم
الذين لم يسمعوا لهم وقتلوهم، وها هم لا يسمعون كلام المسيح
الذي سبق وتنبأ
به جميع الأنبياء الذين قتلوهم. فهم ليسوا أفضل من آبائهم القتلة. وقال هذا الكلام
نحميا النبي:
» وعصوا وتمرَّدوا عليك وطرحوا شريعتك وراء ظهورهم وقتلوا
أنبياءك الذين أشهدوا عليهم ليردوهم إليك وعملوا إهانة عظيمة
«(نح 26:9). وهذا الكلام عينه ينطبق على جيل المسيح الذي أهان ليس الأنبياء وحسب؛ بل أهانوا العلي بفعلهم
الذي فعلوه في ابنه الذي أرسله إليهم ليخلِّصهم.

أمَّا قوله قالت حكمة
الله فجاء في إنجيل ق. متى من فم المسيح مباشرة:
» لذلك ها أنا
أرسل إليكم أنبياء …
«(مت 34:23)، فهنا الحكمة هي المسيح بتعبير مستتر.

50:11 «لِكَيْ
يُطْلَبَ مِنْ هذَا الْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُهْرَقُ مُنْذُ
إِنْشَاءِ الْعَالَمِ».

هذا الأمر مرعب للغاية،
والآن فقط ننتبه إلى عظم الشر الذي اقترفه هذا الجيل من إسرائيل المعاصر للمسيح.
فمن هذه الآية يتضح لنا أن دم المسيح الذي سفكوه سيُطلب ليس وحده بل مع دم جميع
الأنبياء الذين قتلوهم منذ إنشاء العالم. وهنا نفهم أن دم النبي الذي تنبأ عن مجيء
المسيح، أيّ نبي في القديم، يُحسب مضافاً على دم المسيح، لأنهم قتلوهم بسبب تنبؤهم
عن المسيح. وهذا يعني أن المسيح يتحمَّل مسئولية سفك دمائهم. من أجل ذلك انضم إلى
جريمة قتل المسيح جرائم جميع الذين قُتلوا من أجل المسيح ليُسأل عنها جيل حنَّان
وقيافا. لذلك لا نندهش كيف لا يزال اليهود يتألَّمون في العالم بلا مُعزٍّ. إنه
أمر خطير للغاية.

51:11 «مِنْ دَمِ
هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا الَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ الْمَذْبَحِ وَالْبَيْتِ.
نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هذَا الْجِيلِ!»

زكريا
المذكور
هنا كان رئيس كهنة وكان
نبيًّا أيضاً يعظ عن البر، وقد أمر الملك برجمه بالحجارة في
داخل بيت الرب، وهذا يمكن الرجوع إليه في (2أي 24: 2022). وهذه
الجريمة يذكرها المسيح هنا لشدَّة بشاعتها بواسطة آبائهم، وذُكرت في التلمود
يحوطها الحزن والفزع. فدم الشهداء لا يجف في نظر الله ويظل يشتكي (رؤ 10:6). وهذه
الجريمة تسبَّبت بعد ذلك في السبي الذي قام به نبوخذناصر والكلدانيون، إذ أخذوا
الهيكل ولم تُقدَّم الذبيحة بعد ذلك إلى أن توقَّف غضب الله. وقد دفنوا زكريا هذا
في قبر ضمن أربعة قبور كبيرة على جبل الزيتون. ومعروف أن دم هابيل ذهب يشتكي أمام
الله (تك 1:4). والمعروف أيضاً أنه لا يزال يتكلَّم (عب 2:11). ويبدو أن المظلومين
والذين عانوا ضيقاً عظيماً مع الشهداء لهم مكانة كبرى لدى الله في السماء، إذ
كأنما اسم الله والمسيح الذي شهدوا له وماتوا بسببه يتولَّى التعويض لهم بأفخر ما
في السماء وعند الله والمسيح. ولسان حال المظلوم دائماً:
» حقِّي عند
الرب
«(إش 4:49)!! وأنين
المظلومين يُسمع في السماء.

52:11 «وَيْلٌ
لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ، لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ
الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ».

كان جيل المسيح جيلاً
قلقاً أحس معظم الأتقياء فيه بلهفة نحو تحقيق وعود الله. ويظهر أن كثيرين اتجهوا
إلى الفرِّيسيين والناموسيين دكاترة الناموس يستفسرون ويسألون، متلهِّفين على
معرفة ما يدور حولهم وعن رسالة يسوع الناصري التي طالما سمعوها. وأرادوا معرفة
اليقين من أهل اليقين فأضلُّوهم ومنعوهم من اتباعه أو السماع لأقواله. ومن قصص
التلمود الشيء الكثير الذي يشهد على هذا القلق في تلك الأيام، وتسرَّبت لنا في
تحقيقات ق. لوقا عيِّنات صادقة تشهد على هذه اللهفة نحو معرفة الجاري أيام المسيح
من الذين استطاعوا أن يستلهموا بروحهم مجيء المسيَّا كحنة النبية وسمعان الشيخ.
ونعرف أن حنة ظلَّت 84 سنة مداومة في الهيكل بالصوم والصلاة. فلمَّا دخلوا بيسوع
الطفل إلى الهيكل عرفوه ومجَّدوا الله إذ رأوا الخلاص الذي عاشوا يتمنُّونه
ويترجُّونه فوجدوه بل لمسوه، وانطلقوا إلى الملكوت الذي حلموا به كل هذه السنين!!

المسيح هنا يكشف هذه
المأساة الكبرى أن الشعب أحسَّ وطالب بالمعرفة فمنعوها عنه. كان أفراد الشعب
يتحقَّقون من كلام المسيح الحق، وإذ بالفرِّيسيين يزيِّفونه ويمنعونهم بالسلطان
الذي لهم. ومفتاح المعرفة هنا هو سر ملكوت الله القائم في جميع الأنبياء وبالأخص
في أيام المسيح. وفي إنجيل ق. متى جعلها:
» تغلقون
ملكوت السموات قدَّام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون
«(مت 13:23). وغالباً المفتاح والغلق والفتح هو يختص بما ورثوه
وتعلَّموه وانتهوا إليه من حقائق المسيَّا، فلمَّا جاء أخفوا هذه الحقائق عن الناس
فلا دخلوا ولا جعلوا الناس يدخلون. وهذا يكشف عن نوع من الاستبداد مريع، فالشعب
تعرَّف على المسيح فعلاً ولكن هؤلاء الثلاثة: الكتبة والناموسيون والفرِّيسيون
تضافروا معاً ليمنعوا الشعب من الإيمان به باستخدام سلطان الحرم والقطع. فالمفتاح
الذي عندهم واضح الآن أنه معرفة الزمان والمكان، وقياساً على النبوات يتضح الميعاد
ويتضح الملكوت؛ ولكنهم أغلقوه. فإذا أراد القارئ برهان هذا الكلام فليقرأ قصة
المولود أعمى وكيف راوغوا وافتروا على الحق لكي لا يؤمنوا ولا يؤمن الرجل الأعمى
الذي فتح المسيح عينيه. إنها مأساة الإنسان، بل مأساة التاريخ كله!!

53:11
«وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهذَا ابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ
وَالْفَرِّيسِيُّونَ يَحْنَقُونَ جِدًّا، وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ
كَثِيرَةٍ».

«يحنقون
جداً»:
deinîj ™nšcein

العبارة اليونانية تعطي
مفهوم الحقد المرعب
fearfully بعداوة شديدة. وكلمة يصادرونه أيضاً تعني محاولة اصطياده من قول
يقوله ولكن بخبث في أمور لم يذكرها ق. لوقا.

54:11 «وَهُمْ
يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئاً مِنْ فَمِهِ لِكَيْ
يَشْتَكُوا عَلَيْهِ».

يبدو أن المسيح غادرهم
وظلوا هم يتربَّصون به ويراجعون كل ما يقوله لعلَّهم يجدون مأخذاً ليشتكوا عليه.
يا ويل الإنسان إذا خاصم ربَّه، تَنْعَمي بصيرته ويبحث عن خطأ لله يمسكه عليه!!



([1]) K.G. Kuhn & Wrege, cited by Marshall,
455.

([2]) جاء في التلمود أنه حينما يُفطم الطفل من رضاعة اللبن
ويناولونه خبز القمح، يعلِّمونه كيف ينادي أباه: “يا أبَّا”
Abbä
وأُمه: “يا أمَّا”
Immä. وهنا نلتقط نحن المعنى البديع، أن الإنسان البالغ الذي مارس أكل
خبز الشقاء والخطية، حينما يتوب ويعتمد يولَد طفلاً جديداً لله في المعمودية،
فيبتدئون يُرضعونه اللبن العقلي عديم الغش، ويبدأ في ممارسة دالة الطفولة مع الله
ليناديه: “يا أبَّا”!

 ([3])ذهبي الفم
في إفخارستيته.

([4]) وفي القداس القبطي يقول الكاهن في صلاة القسمة: “لكي بقلب
طاهر… نجرأ بدالة بغير خوف أن نقول…”.

([5]) هكذا جاءت في الترجمة القبطية الصعيدية: “خبزنا الآتي”، وأمَّا في
القبطية البحيرية فقد جاءت: “خبزنا الذي للغد”.

([6]) Joach.
Jerem., The Prayers of Jesus, p. 199 f.

([7]) Jerome,
Comm. on Matth.
6:11.

([8]) وقد جاءت في أقدم المخطوطات: «آمنوا أنكم قد نلتموه فيكون
لكم».

([9]) Dodd, cited by Marshall, op. cit.,
p. 476.

([10]) K.W.
Clark, Realised Eschatology, Journal of Biblical Literature (JBL) 59,
1940, 367-383.

([11])
Marshall, op. cit., p. 483.

([12]) T.W. Manson, The Sayings of
Jesus,
London, 1949, p. 94.

([13]) I.H. Marshall, op. cit.,
p. 493.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي