الإصحَاحُ الثَّامِنُ عَشَرَ

 

4
قاضي الظلم

(1:188) القديس
لوقا وحده

 

قصة ذات توجيه قوي تحث
الإنسان على اللجاجة في الصلاة، وموضعها هنا في غاية المناسبة، لأن الحديث عن مجيء
ابن الإنسان وصعوبة تلك الأيام، ومباغتة الله للبشرية وهي لاهية عن خلاصها
أمر مرعب. ولا توجد أية وصية من المسيح يعطيها لتلاميذه ومحبِّيه قبل أن يغادرهم
لغيبة طويلة جداً مثل وصية اللجاجة في الصلاة. وهنا يوجِّه المسيح بشدَّة إلى
المداومة والإصرار وعدم الملل من الصلاة، بالإضافة إلى الرجاء الذي يؤازر الإنسان
في حياته إلى أن يجيء.

والقضية يقدِّمها
المسيح في شكلها الرسمي: قاضٍ ظالم، والمعنى هنا مرتشٍ، وامرأة أرملة فقيرة لها
مال عند جارها الغني الذي يعرف كيف يغيِّر الذمم، وهي تريد مالها وهو لا يريد
إعطاءها مالها. ذهبت تشتكي لدى القاضي فقفل لها الأُذن اليمنى ثم اليسرى، ولكنها
كانت لحوحة، والمرأة اللحوحة لا يغلبها غالب، فاستمرت تشتكي واستمر القاضي يؤجِّل
القضية. وفي النهاية ضرب بالرشوة عرض الحائط وأنصفها من خصمها. والرب لا يشير في
هذه القصة إلاَّ إلى لجاجة المرأة كيف غلبت خصمها وقاضي الظلم معاً. ثم يضع
المقارنة البديعة بين قاضي الظلم وقاضي العدل. فإن
نجحت اللجاجة لدى قاضي الظلم فكم تعمل مع قاضي العدل بل الرحمة بل الحب والحنان

والرأفة؟

ولكن هذا المثل أيضاً
يضرب إلى بعيد، فكأنه بعد الأمور المزعجة التي سمعناها عن مجيء ابن الإنسان وما
سيصاحبه من مآسٍ لدى الذين لم يستعدوا لهذا اليوم، يكون بالتالي للذين أمضوا
أيامهم ولياليهم في الصلاة وأحسنوا صنعة اللجاجة، أن صلواتهم تُجمع عنده وتُسمع في
ذلك اليوم، وكأنها تزكية سماوية تجيزهم أهوال تلك الأيام ليعبروا إلى ما أُعدَّ
لهم من نصيب صالح. ولكن التحذير واضح أن قاضي العدل أيضاً باله طويل وأيامه سنين.
والمشكلة ليست في نظرنا مشكلة طول وقت بل نوع حياة.

وفي هذه القصة أيضاً
تجد لمحة عابرة عن إمكانية مجيئه سريعاً أو ذهابنا إليه أيضاً، إذ تتضمن القصة أنه
بالرغم من أن الله يتمهَّل على مختاريه إلاَّ أنه يستجيب “سريعاً”. فسريعاً هنا
تعني فجأة، لتقابل مفاجأة يوم ابن الإنسان.

وكم كانت هذه الكلمة
أملاً ورجاءً للكنيسة الأُولى التي كانت تعاني الاضطهاد المريع والتعذيب والمطاردة
والحريق والتمزيق بين أسنان الأسود، ولكن أخيراً عدلت عن انتظار سرعة مجيء الرب
التي كانت تُصلِّي بها بكل لجاجة في كل قدَّاس
عندما ينتهي، إذ يقول الشعب بالهتاف:
» ماران آثا «أي: » تعال أيها
الرب يسوع
«ولينقضي العالم. ولكنها عَلِمَتْ يقيناً أن عريسها ستقبله
السماء طويلاً طويلاً، وعليها أن تعيش يومها
ليومها ولا تنظر إلى قدَّام. والتعويض ليس هنا بل في الراحة

العليا
([1]).

وهذه القصة قريبة الشبه
من صديق نصف الليل (11: 58).

1:18 «وَقَالَ
لَهُمْ أَيْضاً مَثَلاً فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ
يُمَلَّ».

هنا المسيح يقصد أن
نستمر في الصلاة، بمعنى أن لا نبطل الصلاة من حياتنا، لأن
» كل حين «لا تعطي
معنى الصلاة المحدَّدة في زمن معيَّن بل في كل أزمنة حياتنا، لا كصلاة طويلة
واحدة، بل صلوات تملأ كل الأوقات. فتصير الآية: ينبغي أن يُصلَّى كل حين وليس كل
اليوم. فالصلاة تملأ حيِّزها كل يوم دون أن يمل الإنسان ويقطع الصلاة.

ولقد أخذها آباؤنا
بمعنى الصلاة الدائمة فأتقنوها فعلاً وصاروا جبابرة الصلاة. ولكن هنا يلزم التخصُّص
أي أن يتفرَّغ الإنسان للصلاة. وفعلاً تفرَّغوا للصلاة وامتلأت حياتهم بالله
وعاشوا وكأنهم في السماء وليس على الأرض، واختبروا اختبارات روحية عالية. ولكن هذا
النوع من الصلاة ليس على مستوى الجميع بل للذين قد أُعطي لهم. والقصد الأساسي من
هذه الوصية أن لا يشعر الإنسان بغياب المسيح ولا أن يقلق ويشتهي أن يراه آتياً على
السحاب، لأن الصلاة الدائمة تجعل الإنسان يحيا حياة العشرة مع الرب ولا يشعر
إطلاقاً بالحاجة إلى رؤية المسيح قادماً، بل يكتفي بالإحساس بوجوده الدائم معه.

وهكذا يبتدئ الإنسان أن
يراجع نفسه في إلحاحه باستعجال مجيء المسيح، بأن يشعر أنه ليس محروماً منه بل
يتمتع بوجوده على الدوام. لذلك القول بأن المسيح قد تأخَّر عن مجيئه كثيراً هو
إحساس ناتج من ضعف الصلاة وعدم الاستمتاع به في حياتنا بالالتصاق القلبي به، أو
لهفة لرؤياه!!

لذلك فإنه بأمرين نملأ
الوقت الذي يفصلنا الآن عن يوم مجيء المسيح: الرجاء الذي لا ينقطع على أساس صدق
المسيح أنه آتٍ آتٍ، والصلاة للاتصال بالمسيح نفسه.

2:18 «قَائِلاً:
كَانَ فِي مَدِينَةٍ قَاضٍ لاَ يَخَافُ اللهَ وَلاَ يَهَابُ إِنْسَاناً»
.

واضح أن هذا القاضي غير
قضاة الفرِّيسيين، فهو قاضٍ مدني له صلاحيات استخدام القوة، ويمتاز بميزتين سيئتين
للغاية: لا يخاف الله بمعنى أنه يمكن أن يَظْلِم ويُلفِّق ولا يقول أو يحكم بالحق،
ولا يهاب إنساناً بمعنى أنه “واصل”، أي له حيثية عند رجال الدين وعند رجال
الحكومة. وهكذا لا يخاف من أن يراجع عليه أحد أحكامه. ولكن لابد إزاء هذا كله أنه
قادر جداً على استخلاص الحقوق للناس إنما يبدو أنه مرتشٍ، يحب الرشوة. وهكذا رتَّب
المسيح هذه الكفاءة النادرة لهذا القاضي ليستخدمها المسيح لحسابه.

3:18 «وَكَانَ فِي
تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَرْمَلَةٌ. وَكَانَتْ تَأْتِي إِلَيْهِ قَائِلَةً: أَنْصِفْنِي
مِنْ خَصْمِي».

والشخصية الأخرى
الأساسية في القصة هي امرأة أرملة
c»ra رمز العوز والضعف، وليس لها أحد يقف بجوارها. ويبدو أن
إنساناً جباناً استضعفها ونهب مالها فكانت تذهب للقاضي كل يوم تقدِّم شكواها لكي
ينصفها من خصمها المفتري.

4:18و5 «وَكَانَ لاَ
يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ. وَلكِنْ بَعْدَ ذلِكَ قَالَ فِي نَفْسِهِ: وَإِنْ كُنْتُ
لاَ أَخَافُ اللهَ وَلاَ أَهَابُ إِنْسَاناً، فَإِنِّي لاَجْلِ أَنَّ هذِهِ
الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي، أُنْصِفُهَا، لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِماً
فَتَقْمَعَنِي».

ومع أن قضية هذه المرأة
لا تحتاج إلى شرح، فهي أرملة ضعيفة ولها حق ضائع، ولكن داء القضاء التأجيل، وهنا نبدأ نشك: ولماذا التأجيل والقضية
جاهزة للحكم؟ طبعاً الرشوة لازمة في هذا الزمن
الرذيل، ولكن لم يظهر منه
هذا الاتجاه غير أنه كان يضمره. ولما دأبت على الذهاب كل يوم تطالب بحقها الضائع
سببت له انزعاجاً
kÒpon، فقال أنصفها لئلاَّ تأتي وتقمعني (ترهقني Øpwpi£zV)، فلا من أجل الله ولا من أجل ظلمها وحقها ولكن لئلاَّ ترهقني.
فأَنْصَفَها ثمناً لراحة باله.

6:188 «وَقَالَ
الرَّبُّ: اسْمَعُوا مَا يَقُولُ قَاضِي الظُّلْمِ. أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ،
الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ 
أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً! وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ
الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيْمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟»

وهكذا بعد أن زيَّن
المسيح قاضي الظلم بالظلم وعدم المبالاة والمماطلة في الحكم وعدم مخافة الله؛ بل
وعدم هيبة إنسان كل هذا وقد حكم بالحق للأرملة المظلومة، عاد يضعه في
الموازنة مع الله ومع مختاريه الصارخين إليه بالصلاة والدموع، نهاراً وليلاً،
طالبين الروح القدس أو إخراجهم من دائرة العدو الذي يلطم فيهم يميناً ويساراً. هل
ينصفهم؟ نعم ينصفهم سريعاً!!

وهنا يزكِّي المسيح
صراخ الصلاة نهاراً وليلاً، وهو يطلبها طلباً وهو عالم تكلفتها ولكن عالم أيضاً
بمفعولها في السماء. والمسيح يضعها معادلة: الصراخ طويلاً إزاء السماع سريعاً.

اسمعوا قصة دانيال
وصلاته التي بلغت السماء وحرَّكت الملائكة:

+ » يا دانيال
أيها الرجل المحبوب افهم الكلام الذي أُكلِّمك به، وقم على مقامك لأني الآن أُرسلت
إليك. ولمَّا تكلَّم معي بهذا الكلام قمت مرتعداً، فقال لي لا تخف يا دانيال لأنه
من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدَّام إلهك سُمع كلامك
وأنا أتيت لأجل كلامك.
«(دا 10: 11و12)

ولكن لئلاَّ نفقد سياق
الكلام، فالمسيح أعطى هذه القصة وعلَّق هو عليها أنه سامع الصلاة، ذلك في مضمون
غيابه بعد الانطلاق إلى فوق وطول السنين التي سيتأنَّي علينا ببقائه فوق حتى
نحوِّل ضيقنا في العالم إلى صلاة، ونعزِّي أنفسنا عن غيابه بجعل الصلاة ليل نهار،
بمعنى أن نملأ سنين غيابه صلاة لأنها هي التي تجعلنا مستعدين لقدومه.

كذلك يدخل مفهوم
الإنصاف السريع في موقف الاضطهاد والتعذيب الذي يجوزه المؤمنون، لأن المسيح عالم
أنه بذهابه ستقف الكنيسة مواقف الشهادة ويكون نصيبها الاضطهاد والتعذيب. لذلك سبق
فأعطى التعليمات والوصايا أن تكون الصلاة هي آلة الدفاع، والتي سيكون صداها
مسموعاً ومستجاباً في السماء.

وأخيراً يسأل المسيح
باسمه كابن الإنسان هل حينما يأتي يجد الإيمان على الأرض؟ جملة حزينة تحمل اعتقاد
الرب أنه سيكون ارتداد حسب المظنون:
» لأنه لا يأتي إن لم
يأتِ الارتداد أولاً
«(2تس
3:2). لذلك جعل وسيلة الصمود الوحيدة هي الصلاة كل حين، أعطاها كقارب النجاة في
طوفان الارتداد.

 

) مجال الخلاص

(9:1810:19)

 

1 –
الفرِّيسي والعشَّار

(9:18-14) القديس
لوقا وحده

 

وصف صادق للفرِّيسية
على مستوى إحساسها بذاتها وبرِّها الشخصي. فالفرِّيسي وقف يصلِّي، يقابله عشَّار
منسكب لا يستطيع أن يرفع وجهه بسبب إحساسه بخطاياه، يطلب الرحمة. وحينئذ يصدر
المسيح حكمه أن الأخير نزل إلى بيته مبرَّراً دون الأول. والقصد من هذه القصة
القصيرة أن العشَّارين والخطاة مقبولون أمام الله إن تقدَّموا من مستوى إحساسهم
الحقيقي بالخطية وعدم الاستحقاق. أمَّا الفرِّيسية فهي مرفوضة بسبب استعلائها وعدم
إحساسها بالخطية. وهي صورة مقدَّمة للكنيسة لتستمد منها الأساس في كيفية القيام
بالصلاة أمام الله من واقع التواضع، وقد سبق وقال: إن الكبرياء رجس عند
الله (15:16). وقد تغلغل هذا المثل في تقليد الكنيسة وحياة الآباء الأُول وصاغوا
عليه الصلوات لتعليم المبتدئين كيف يقيموا الصلاة الدائمة بنفس صلاة العشَّار، في
حين أن هذه الصلاة خاصة بالوضع اليهودي الذي كان يرزح تحت نير الناموس وبالتالي
ثقل الخطية. أمَّا في الوضع المسيحي فالأمر يختلف تماماً، لأن المسيح رفع الخطية
من فوق ظهورنا بموته فقول
» أنا الخاطئ «فيها تعدَّى
على الصليب وإنكار لموت المسيح من أجل خطايانا وإغفال صارخ لحياة القيامة الجديدة
التي نلناها بقيامة المسيح بجسدنا من بين الأموات.

فقانون الصلاة في
المسيحية يبدأ بـ“أبانا الذي”، و“نشكر صانع الخيرات”. التي هي امتداد لـ“أبانا
الذي” ثم تقديم التسبيح لله الذي يدور حول الخلاص الذي تمَّ بروح الفرح والسرور
والابتهاج وطلب دوام النعمة وانتظار مجيء الرب.

9:18-12 «وَقَالَ
لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ
الآخَرِينَ هذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا،
وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَالآخَرُ عَشَّارٌ. أّمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي
فِي نَفْسِهِ هكَذَا: اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي
النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ.
أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ»
.

واضح أن الرب كان يخاطب
فريسيين، ورسم صورة الفرِّيسي وهو يصلِّي على أساس أن الفرِّيسيين طبقة ميَّزت
نفسها عن الشعب([2])
على أصول عبادة كانوا قد وضعوها على أنفسهم من حيث حفظ التراث والتوراة والأقوال
والتعاليم التي للربيين الكبار. وكانوا يدقِّقون في تنفيذ وصايا الناموس والوصايا
التي وضعوها لأنفسهم. لذلك اعتبروا أنفسهم أنهم طبقة مميَّزة عن الشعب، وازداد هذا
الإحساس عندهم حتى ظنوا أنهم كذلك عند الله.

وابتدأ المسيح يصف
واحداً منهم وقف يصلِّي مقابل عشَّار. ووضح من صلاة الفرِّيسي تعاليه عن كل طبقات
الناس، واعتبر صومه مرَّتين في الأسبوع عبادة مزادة تكريماً لله. فكان في الحقيقة
مثلاً لمَنْ يزكِّي نفسه أمام الله، وكمَنْ يفرض برَّه على الله لكي يختم له عليه
كشهادة تفوُّقٍ عليا.

13:18و14 «وَأَمَّا
الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ
السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا
الْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ
ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ
يَرْتَفِعُ».

هنا ظهر الفارق شديداً
بين إنسان يرى نفسه باراً وإنسان يرى نفسه خاطئاً، وبين إنسان يتعالى بما عمله من
وصايا وتدقيق في الناموس والسلوك، وإنسان اعتبر نفسه غير مستحق أن يقف أمام الله
أو يرفع عينيه إلى السماء وربما ولا يديه أيضاً؛ بل أخذ يقرع صدره في حزن وندم
عمَّا فرط منه. فكلما تذكَّر خطيته زاد حزناً وزاد تذلُّلاً ولم يبق له إلاَّ
قوله:
» اللهم ارحمني أنا الخاطئ « ويعلِّق المسيح على ذلك وهو الذي قَبِلَ صلاة ذاك
إنه نزل إلى بيته مغفور الخطايا، مبرَّراً من فم الله. أمَّا الفرِّيسي فنزل
كما طلع بل وحمَّل نفسه حمل خطاياه فلم يتزحزح من على ظهره، بمعنى أنه لم تُغفر
خطيته أو تُسمع صلاته. ثم وضع المسيح قانون التزكية عند الله أنَّ مَنْ رفع نفسه
يتضع ومَنْ وضع نفسه يرتفع. أمَّا لماذا مَنْ وضع نفسه يرتفع؟ فإنه على شريطة أن
يكون هذا بإحساس الصدق والإيمان بذلك، فلأن
الذي يتضع يتضع بسبب الأعمال الوضيعة التي صدرت منه قولاً وعملاً
وسلوكاً، فهو اعتراف دائم صامت. ومَنْ يضع نفسه هكذا
بحق يكون كمن اعترف بكل خطاياه
التي
أنزلته إلى الحضيض. وهنا يتقبَّل من الله العفو ويجد عنده الرضى فيرفعه الله بيده
ليجعله أهلاً أن
يقف أمامه.

أمَّا الذي يرفع نفسه
فهو يفتري على حقيقته ويكذب على الله الذي يعرف مقدار وضاعته، لذلك يخذله الله.
أمَّا قرع الصدر فهو إحساس قلبي، لأن في الصدر يقع القلب وإحساس الضمير و“الأنا”،
وقرع الصدر هو كمَنْ يُشير إلى نفسه أمام الله ويقول أنا أنا هو الخاطئ.

هنا في الوضع اليهودي
في العهد القديم أما في المسيح فالإنسان مهما كان خاطئاً واعترف بخطاياه بنية عدم
العودة إليها، فإنه يلزم أن يقف شاكراً فرحاً لأن الرب رفع خطايانا على الصليب
وبررنا أمام الله أبيه ووهبنا البنوَّة لله في بنوَّته الفائقة فحقَّ علينا تقديم
الشكر بفرح:
» افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا. «(في 4:4)

 

2 – دَعُوا
الأولاد يأتون إليَّ

(15:1817) (مت
13:19-15)

(مر
10: 13-16)

 

يُلاحَظ
أن آخر ما أخذه القديس لوقا من إنجيل القديس مرقس كان عند الآية (لو 50:9) التي
يناظرها
الآية (مر 40:9)، ولكن يعود هنا مرة أخرى ويأخذ ما جاء في إنجيل ق. مرقس (مر10: 1316).

وواضح طبعاً أن تداعي
الفكر ينقل بسهولة من التواضع في قصة العشَّار إلى الطفولة في دعوة الأولاد
للإقبال إليه. والقصة هنا صغيرة وبسيطة. فالتلاميذ منعوا الأولاد الذين أقبلوا مع
أهاليهم من بعيد ليقدِّموهم للمسيح للسلام والبركة، وهذه من عادة الكبار في منع
الصغار من التدخل في أمور الكبار، غير عارفين أن المسيح هنا يمجِّد التواضع والروح
الطفولية الوديعة. فردَّ المسيح على التلاميذ ليكشف لهم حقيقة إلهية أن ملكوت الله
هو للأطفال ومن كان على مستواهم. ولكن ق. لوقا رفع عن هذه القصة ملابساتها
الحبيَّة اللطيفة من جهة المسيح إذ احتضنهم وباركهم. وذلك لكي يأخذ من القصة وضعها
التواضعي فقط.

15:18و16 «فَقَدَّمُوا
إِلَيْهِ الأَطْفَالَ أَيْضاً لِيَلْمِسَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمُ التَّلاَمِيذُ
انْتَهَرُوهُمْ. أَمَّا يَسُوعُ فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ
اللهِ».

كانت العادة ولا تزال
هي تقديم الأولاد لرجال الدين لكي يباركوهم، خاصة أن هذا الأمر كان قد دخل رسمياً
في طقس صلاة يوم الكفَّارة([3])،
وذلك عن يواقيم إرميا العالِم اليهودي المتنصِّر. والمسيح يُظهر بهذا اهتمامه
الخاص بالأولاد، وواضح أن الكلام كان عن الاتضاع وكيف أن المتضع يرتفع. فانتهزها
ق. لوقا ليقدِّم هذا المثل كنموذج للكبار. وقد صارت آية المسيح هنا منهجاً كنسياً،
فأصبح للصغار اهتمام كنسي بالغ القيمة من جهة تعليمهم والاعتناء بتربيتهم
والاشتغال بما يفيدهم اجتماعياً وروحياً وربما صحياً أيضاً.

والمسيح أيضاً اعتبر
وجود الأطفال أمامه فرصة ليعلن أن قامة الطفولة مقبولة لدى الله، وأن الأطفال في
بساطتهم ووداعتهم وبراءتهم أهلٌ لدخول ملكوت الله. كذلك أعطى للكبار هنا درساً لكي
يقبلوا هذه القامة الطفولية، لتكون مثلاً لأخلاقهم وسلوكهم وبالأكثر استعدادهم
للسمع والطاعة والتعليم.

كما أن الكنيسة اعتبرت
تصريح المسيح هنا بمثابة وثيقة سماوية للقيام بتعميد الأطفال كطقس في غاية
الأهمية، لأنها حسبت أن أي تعويق في عماد الأطفال هو إهمال في أحقيتهم لدخول
الملكوت، فصار العماد بذلك هو الطقس المقابل للختان عند اليهود. فالطفل الآن
يُعمَّد من سن ثمانية أيام فما أكبر، بل واعتبرت الكنيسة أن تعميده هو بمثابة
ولادته جديداً للسماء، فبدأت تعطي اسماً جديداً للمعمَّدين باعتبار ولادتهم
الثانية هذه من الماء والروح، وصار الطفل يُدهن بالميرون المقدَّس إمعاناً في ختمه
بخاتم الروح القدس. وكأنه استلم الكهنوت والملوكية معاً:

+ » وأمَّا أنتم
فجنسٌ مختارٌ، وكهنوتٌ ملوكيٌّ، أُمَّةٌ مقدَّسةٌ، شعبُ اقتناءٍ، لكي
تُخبِروا بفضائل الذي دعاكم مِنَ الظلمةِ إلى نورهِ العجيب.
«(1بط 9:2)

والكنيسة
في ردِّها على المعارضين للتعميد في الصغر أوضحت أن الأولاد ليس أمامهم فرصة
ليقدِّموا إيماناً وأعمالاً وحياة تؤهِّلهم لقبول الروح القدس، لذلك أصبح تعميدهم
تخليص ذمة، وبعد ذلك يكون الوالدان هما المسئولان عن تعليم الطفل الإيمان وتهذيبه
التهذيب المسيحي الذي يؤهِّله للملكوت.

17:18 «الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ
يَدْخُلَهُ».

هذا في الحقيقة يُعتبر
أمراً رسمياً صدر من المسيح بوضع جديد للبشرية بالنسبة للدخول إلى ملكوت الله.
ولقد انقسم العلماء، فبعضهم يجنِّد المعنى القائل بأن الدخول هو مستقبلاً عند
اكتمال الأيام وإعلان النهاية، والبعض الآخر يحسبه في الحاضر الزمني كدخول يتم
الآن في نصيب الملكوت. وقد تزعَّم الفكر الأول العالِمان كوميل
Kümmel وبرسي Percy. أمَّا القول بالحاضر الزمني فتزعَّمه تايلور V. Taylor([4]). أمَّا في
رأينا فاستحالة أن يكون الدخول الآن، ولكن الإنسان يُعطَى الآن سبق تذوُّق وسبق
معرفة، أمَّا الدخول فيكون بعد انتهاء الدينونة العامة.

أمَّا قبول الملكوت مثل
ولد فيحقِّقه لنا المسيح بكل تأكيد حينما يُتمِّم لنا مغفرة خطايانا ويمنحنا برَّه
الشخصي بالشركة معه في قيامته. بمعنى أننا نصير خليقة جديدة مقدَّسة في المسيح
التي هي الميلاد الثاني مضافاً إليه شركة حيَّة مباركة مع الآب والمسيح، حيث نكون
كأطفال مولودين جدد للمسيح والله راضعين اللبن العقلي عديم الغش (1بط 2:2)، بمعنى
أن نكون قد صرنا عقلياً قادرين أن نستوعب كل أسرار الملكوت ومزاياه. وهكذا تصبح
هذه الآية من أهم مكونات الإيمان المسيحي القادرة
أن تفتح أمامنا آفاقاً جديدة بالنسبة للملكوت ومخصَّصاته، حتى يصح أن يكون
عنوانها: “ما
هية القامة البشرية المهيأة للملكوت”.

 

3 – الرئيس
الغنيّ

(18:18-27) (مت
16:19-26)

(مر
10: 17-27)

 

أصبح الآن عندنا مجموعة
تعاليم للمسيح عن المال والغِنَى سنجمعها معاً مع هذه القصة أيضاً، حتى لا نخرج
بفكر منفرد يغلق الاتساع أمامنا للتعليم عن المال. في هذه القصة يرفض المسيح كلمة
تكريم أراد بها هذا الإنسان الغنيّ أن يجذب المسيح إليه حينما دعاه بالصالح،
فوجَّهه المسيح ليعلم أنه ليس صالح إلاَّ الله (لا نفياً للصلاح عن نفسه ولكن
لتعليم الرجل متى وأين يُذكر الصلاح). ثم ردًّا على السؤال كيف يرث الحياة الأبدية
وطبعاً سمع عنها من كلام المسيح وجَّه المسيح نظره
للناموس والوصايا. فلمَّا ادّعى أنه يحفظ الناموس من صغره، ارتفع به إلى درجة
اللياقة للملكوت الذي يشتهيه بأن يبيع ما له ويعطي للفقراء ثم يتبع المسيح. ولكن
الرجل الغنيّ ذهب حزيناً لأن له أموالاً كثيرة، فكان حديث المسيح مع تلاميذه كيف
أن الأموال عائق كبير للدخول إلى ملكوت الله. ولكن المسيح تحفَّظ على هذه النتيجة
لمَّا أعلن التلاميذ يأسهم إن كان هكذا من الصعوبة بل من المستحيل دخول الأغنياء
ملكوت الله، ذلك بأن قال لهم:
» غير المستطاع عند الناس
مستطاع عند الله
« بمعنى أنه إذا
استحال على غنيّ دخول ملكوت الله فالله لا يستحيل عليه شيء، إذ يمكن أن يُخلِّص
الغنيّ بنعمته الخاصة.

18:18و19 «وَسَأَلَهُ
رَئِيسٌ قَائِلاً: أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ
الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟
لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ».

الـ» رئيس ¥rcwn «يعني: أحد قادة السنهدرين، والرجل هنا يسلك بمقتضى
الذوق والإتيكيت، فهو يدعو المسيح معلِّماً، وفي إنجيل ق. مرقس يسجد أمامه. وفي
الحقيقة كلمة “الصالح
¢gaqš” لا تُقال للربّي مهما كان، فهي هنا امتياز فوق كلمة معلِّم.
والمعروف لدى اليهود جميعاً أن كلمة صالح في المنادى:
¢gaqš
لا يُخاطب بها إلاَّ الله، وهذا هو السر في مراجعة المسيح له، مع أنه ليس غريباً
أن يُنعت إنسانٌ بهذه الصفة بوجه خاص. لذلك نجد المسيح يسأله: لماذا يدعوه
“أغاثون” ولا يُدعى بهذا إلاَّ الله؟ وبقول المسيح هذا ينفي عن نفسه الإطراء
الرخيص، ولكن يردُّه لكي يَستَخْدِم هذا اللقب في موضعه الصحيح، بمعنى أنه يمكن أن
يقبله المسيح منه بسرور لو كان يؤمن حقـًّا بما يقول!

» ماذا أعمل
لأرث الحياة الأبدية
«

مثل هذا السؤال وجدناه
سابقاً في قصة الناموسي (25:10).

20:1822 «أَنْتَ
تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ.
أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ. فَقَالَ: هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ
حَدَاثَتِي. فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذلِكَ قَالَ لَهُ: يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى
الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ
اتْبَعْنِي».

قول الرب: » أنت تعرف
الوصايا
«لم يقصد به مجرَّد المعرفة بل طاعتها، وهي ضمن اللوح الثاني
للوصايا العشر، والمسيح تحاشى الجزء الأول من الوصايا العشر لأنه أراد أن يبلغ
بالسائل إلى تكميل ما يخص القريب والآخر. فهو لم يُثِرْ محبة الله لأنها فوق مستوى
الإجابة عنها، ولكن عين المسيح من السلوك الذي يمكن على قياسه إدراك قامة الرجل،
وهذه الوصايا يعتني بها المجمع ويدرِّسها. وإذ ادَّعى الرجل أن هذه كلها حفظها منذ
حداثته فقفل على نفسه الباب، أعطى للمسيح أن ينتقل به النقلة العظمى من الناموس
إلى العهد الجديد. ولو أن ق. مرقس اعتنى بأن يصف مشاعر المسيح نحوه، ولكن ق. لوقا
تحفَّظ لأن الموضوع أصبح عاماً. والمسيح لم يمتدحه على حفظه للوصايا ولا راجعه
عليها ولكن طلب منه العمل. فالحاجة الآن بالنسبة له أن تتبرهن كل محفوظاته، فبادره
المسيح أنه بقي عليه أن يبيع كل ما له
ويأتي ليتبع المسيح! أو بصريح العبارة يصير تلميذاً لعهد جديد.

23:18 «فَلَمَّا
سَمِعَ ذلِكَ حَزِنَ، لأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا جِدًّا».

واضح أن هذا الرئيس
الغنيّ كان متحصِّناً في أمواله ومواريثه وأعماله ضد الغرض الذي جاء من أجله إلى
المسيح. لذلك كشفه المسيح وقال له أن يخرج خارج حصنه المنيع هذا، ويأتي إليه
ويتبعه في درب الصليب. وطبعاً وبلا شك يحزن على هذه الدعوة التي يستحيل عليه أن
يؤدِّيها كرامة للملكوت الذي يطلبه. وهنا ينبري المسيح ويكشف ظروف هذه المأساة
علناً وبوضوح: أن التحصُّن في المال والقنية يجعل النفس ليست ملك الإرادة، إذ تكون
قد بنت لنفسها ملكوتاً كاذباً داخل مدخراتها الفاخرة والعديدة. فمن ذا يستطيع أن
يُخرجها من ملكوتها الخاص الذي هو عندها أثمن من الحياة؟!

فالذي يقتني المال
الكثير والقنية وخاصة بكثرة، على مستوى القيِّم والنادر منها، تصبح حياته رهن
حفظها والاطمئنان عليها، ويكون من المستحيل أن يستغني عنها لأنها أصبحت حياته!! بل
أمانه الوحيد. فما قيمة أي أمان آخر؟ علماً بأن المسيح واتِّباعه يُفقد الإنسان كل
أمانه الزمني ويعرِّضه في الحال إلى الضيق والاضطهاد والموت. فالمال وسيلة أمن
والمسيح وسيلة موت. فمن ذا الذي يترك الأمن ويتبع الموت؟

24:18 «فَلَمَّا
رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ، قَالَ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى
مَلَكُوتِ اللهِ!»

المسيح هنا ليس مغالياً
بل يقول الصدق والحق كما يراه بلا تحيُّز. لقد قلنا إن مَنْ يكنز المال يكنزه عن
سيكولوجية ثابتة وقوية وهي تأمين نفسه ضد الأيام والعوز، بالإضافة إلى التمتع
بالدنيا والكرامة. والملكوت في صورته العارية من الرياء والتزويق هو “موت”
“لحياة”، إن متنا مع المسيح حاملين صليبه نقوم معه حاملين مجده والملكوت! والموت
ليس موت الجسد ولو أنه وارد؛ بل الموت عن العالم ومشتهياته وتأميناته الكاذبة،
وبالصريح الموت عن المدّخرات التي تؤمِّن للإنسان حياته عوض إيمانه.

ولكن
هذا لا يمنع إنساناً من أن يحتفظ بمدّخرات أو مال ليصرف منه على نفسه وأولاده، هذا
شيء، وشيء آخر أن يبدأ يكنز لنفسه الكثير الزائد عن
حاجة نفسه وأولاده بصفة تأمين العمر ليتكل عليه.

25:18 «لأَنَّ
دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى
مَلَكُوتِ اللهِ!»

المسيح يضع هنا
“المستحيل” أمام الغِنَى والملكوت معاً. بمعنى أن الملكوت يشترط الموت عن العالم
صدقاً وعملاً وضميرياً:
» (هؤلاء) ليسوا من العالم «(يو 14:17)، والغِنَى بحد ذاته يمثِّل العالم، لأنه بدون العالم لا
قيمة له، فهو مكنوز لحساب طلبات العالم. والإنسان ليس مجبراً أن يبيع كل أمواله
إلاَّ إذا أراد حقـًّا أن يكسب الملكوت، فليس العيب عيب الملكوت. والموضوع منطقي
للمقارنة، فالملكوت يمثِّل غِنَى الله والروح ويستحيل أن يذوق إنسان غِنَى الله
وهو غنيّ بالعالم، لأن مسرَّة هذا غير مسرَّة ذلك نهائياً. لدرجة أنه حينما يبيع
الإنسان بالفعل كل أمواله يحس مباشرة بغِنَى الله ويدخله فرح الملكوت. فهو غِنىً
أمام غِنىً وعليك أن تختار، فإذا اخترت غِنَى الله فأنت لم تعد معدماً أبداً، فمال
العالم كله يكون تحت يديك لو احتجته لحساب الملكوت. وليس مَنْ باع كل ما له من أجل
الملكوت جاع أو تعرَّى، وحتى ولو جاع أو تعرَّى فهو يُحسب أغنى من أغنى إنسان في
العالم! فالمسيح لم يحكم بالفقر بل حكم لحساب غِنىً يبقى ويدوم.

26:18و27 «فَقَالَ
الَّذِينَ سَمِعُوا: فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟ فَقَالَ: غَيْرُ
الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ».

المسيح هنا يتدخَّل
بنفسه ليؤمِّن العمومية التي قال بها أنه ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت
الله. إذ عاد أمام السؤال:
» مَنْ يستطيع أن يخلص؟ « وأوضح أن هذا السؤال خارج عن الموضوع الأول، فالخلاص بالله وحده
للفقير كالغنيّ، كل مَنْ آمن بالمسيح من كل قلبه وأحبَّه خلص. فهنا أدخل المسيح
عنصر الخلاص فوق عنصر الغِنَى ليلغيه. أي أن المشكلة الآن واضحة إذ يلزم أن نفرِّق
بين غنيّ يطلب أن يدخل ملكوت الله وبين غنيّ يطلب الخلاص. فالخلاص لا يشترط أن
يبيع الإنسان كل أمواله لكي يخلص، لأن شروط الخلاص روحية خالصة وتعتمد على الإيمان
الصادق بقدرة الله ومحبة المسيح. وقد يوجد غنيّ له محبة المسيح والإيمان به
وانفتاح الروح والقلب للإنجيل أكثر من إنسان متديِّن يأكل كفافه. ولكن حينما ندخل
في موضوع ملكوت الله فالغنيّ الذي شعر بقيمة الخلاص ونعمة المسيح سيوقف كل ما له
وكل جهاده من أجل الكنيسة وأعوازها الروحية والفقراء والمساكين. ويوجد أغنياء لهم
قلوب مفتوحة على النعمة، لهم أعمال جليلة تشهد لهم أمام رب الملكوت.

فالملكوت مستحيل على
الأغنياء الذين لم يعرفوا المسيح ولم يحبُّوه ويؤمنوا به ويخدموه ويبذلوا من مالهم
ووقتهم وراحتهم من أجل مشاكل الفقراء والشعب الذي ليس له مَنْ يسأل عن مساكينه.

 

4 – مجازاة
الرسل

(28:1830) (مت
27:1930)
(مـر 10: 2831)

 

28:1830 «فَقَالَ
بُطْرُسُ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَقَالَ لَهُمُ:
الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ
أَوْ إِخْوَةً أَوْ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجلِ مَلَكُوتِ اللهِ، إِلاَّ
وَيَأْخُذُ فِي هذَا الزَّمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي
الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ».

يأخذ القديس بطرس هنا
المبادرة ويسأله بدوره سؤالاً أضمره في قلبه، وهو: ماذا بالنسبة لنا في أمر دخول
الملكوت؟ ولكن اكتفى بالسبب: “فنحن قد تركنا كل شيء وتبعناك”!

هنا يرد المسيح على
بطرس والسامعين أيضاً، إذ علم ما بصدورهم فجعلها كعهد وختمها بآمين: أن كل مَنْ
يترك بيتاً وهنا يقصد الأهل وليس الحجارة أو والدين أو
إخوة أو امرأة هنا إمَّا نذر البتولية أو باتفاق الرجل مع امرأته على
الحياة من أجل الملكوت أو أولاداً من أجل الملكوت، وفي إنجيل ق. مرقس
جاءت:
» من أجلي ومن أجل الإنجيل « أي حبًّا في المسيح أو لخدمة الكرازة أو العبادة، فإنه » يأخذ في هذا
الزمان أضعافاً كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية
«

ومن أجل هذه الآية
المباركة الكريمة خرجت جيوش المبشِّرين من أُوروبا وأمريكا، ليجوبوا العالم كله،
ولم يتركوا قارة أو إقليماً أو مدينة حتى مجاهل أواسط إفريقيا الذين كانوا يأكلون
لحوم البشر. وكم من المبشِّرين الأُول شووهم بالنار وأكلوا لحومهم، وكان هذا
رخيصاً عندهم من أجل محبتهم في الملك المسيح! أو الآباء الذين خرجوا على وجوههم
هائمين في الصحاري والبراري يعيشون في المغاير وشقوق الأرض يعبدون الاسم القدوس
ليل نهار.

نعم يا قارئي العزيز،
هذه الآية كانت ذخيرة وقوة دافعة لم تتوقف قط حتى اليوم لتُخرج أجيالاً من
الكارزين والمبشرين والعابدين يملأون الأرض. وكان زادهم الوحيد حب المسيح.

والمقطع الأول من الآية
(30)
Öj oÙcˆ m¾ ¢pol£bV “إلاَّ ويأخذ” جاء بشبه
قَسَم مشدَّد كوعد الله الذي لا يخيِّب رجاء أحد، وقد أخذ بالفعل كل مَنْ خرج على
اسمه أضعافاً مضاعفة من حب الناس أكثر من حب الأهل، وكان له في الدنيا آلاف
وملايين الأولاد عوض بنين الجسد، وظلَّت سيرتهم وكلامهم المُقال أو المكتوب نوراً
كشعلة تضيء من يد ليد حتى تلقَّفها جيلنا السعيد وجمعنا منه الكثير وشرحنا منه
الكثير ليكون غِنَى للكبير والصغير، حتى تعمل فيهم الكلمة التي عملت فينا، ويصيروا
كما كان آباؤهم قديسين وقديسات.

«وفي الدهر
الآتي الحياة الأبدية»:

نعم صيادو السمك
الجليليون البسطاء صاروا الاثني عشر سبطاً سماوياً ولهم كراسي يجلسون ويدينون. وقد
تسجَّلت لهم في الأناجيل السعادة هنا باحتضان المسيح في كل خطوة وكل مقولة، والروح
القدس يتكلَّم فيهم كما يريدون. لقد أذهلوا السنهدرين بعلمهم وروحهم أُولئك
الجليليون الأميُّون، وذهبوا ليجدوا هناك المجد المذّخر لهم. وعوض الآلام والدموع
وذبح السيف، أكاليل من نور وقلائد جدارة واستحقاق، ويحيون مع المسيح حياة بلا
نهاية في سعادة أبدية.

 

5
الآلام في الأفق

(31:18-34) (مت
17:20-19)

(مـر
32:10-34)

يذكر المسيح هنا آلامه
للمرَّة الثالثة والأخيرة وقد أخذها ق. لوقا من إنجيل ق. مرقس. فإذا وازنَّا بين
ما جاء هنا عن ق. لوقا وما سجَّله كل من ق. مرقس وق. متى، نجد أن ق. لوقا اختزل
الكثير من ملابسات الإعلان عن الآلام القادمة، ولكن سنكتفي دائماً بما يقوله ق.
لوقا ونترك الزيادات الأخرى في الأناجيل الأخرى لشرحها في أوانها. ويمكن الرجوع
إلى شرح إنجيل ق. مرقس لنجد المزيد من حديث
المسيح هنا. أمَّا
الشهادتان الأخريان عن آلامه (22:9؛ 43:945)
فتفصلهما مسافة طويلة عن هذه المرَّة الثالثة لأنه أدخل بينهما الحديث المطوَّل في
الجزء الأوسط من الإنجيل. وقد عبَّر عن الآلام مرَّة رابعة قصيرة في (25:17). ولكن
لا يمكن أن نغفل الإشارات عن الموت بصورة غير مباشرة في (35:5):
» ولكن ستأتي
أيام حين يُرفع العريس عنهم …
« وأخرى: » ولي صبغة أصطبغها وكيف
أنحصر حتى تُكمَلَ
«(50:12)،
وأخرى:
» قولوا لهذا الثعلب ها أنا أُخرج شياطين وأشفي اليوم وغداً
وفي اليوم الثالث أُكمَّلُ
«(32:13)، ويذكر هنا إخفاق التلاميذ في فهم كلام المسيح (34:18) وقد
سبق أيضاً وأظهروا عدم فهمهم (45:9).

وطبعاً تتابع الفكر في
الكلام مستمر لو دقَّقنا فيه، إذ كان يتكلَّم عن ملكوت الله وشروطه، وها هو هنا
يتكلَّم عن آلامه التي ستفتح الطريق إلى الدخول.

31:18 «وَأَخَذَ
الاِثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ،
وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنَ ابْنِ الإِنْسَانِ».

في القسم المقابل لذكر
الآلام هنا نجد في إنجيل ق. مرقس مقدِّمة واعية وكلاماً هاماً جداً ينبغي أن
نراجعه:

+ » وكانوا في
الطريق صاعدين إلى أُورشليم ويتقدَّمهم يسوع. وكانوا يتحيَّرون وفيما هم يتبعون
كانوا يخافون.
«(مر 32:10)

كان هناك إحساس غامر
بشيء ما سيحدث، خاصة بسبب ما لاحظوه عن وضع المسيح، إذ شاهدوه يسير في المقدِّمة
يلفّه الصمت في تأملاته العالية وتفكيره الذي استغرق فيه. لهذا داهمهم جميعاً
الخوف حينما تابعوا صمت المعلِّم بإحساس أن ظلال الصليب قد ألقت بظلها الكثيف على
الوضع كله، وقد علا وجوههم جميعاً الوجوم، مع إحساس بالكراهية التي يبديها كل
الرؤساء، والنيَّة التي بيَّتوها على صلب المعلِّم، وهو يتقدَّم ليواجه أعداءه
وجهاً لوجه في العيد، وهو سائر يفكِّر في صمت. ما الخبر، وما هو مدبَّر، وما الذي
سيكون؟ فلمَّا أحس المسيح بأنهم مضطربون التفت إليهم وابتدأ يحكي لهم ما سيكون:
» ها نحن
صاعدون إلى أُورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان
«

32:18و33 «لأَنَّهُ
يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ،
وَيَجْلِدُونَهُ، وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ».

كان المسيح قد سبق وتكلَّم
عن آلامه وموته ولكن ليس بهذا الوضوح لأنه وصف دقائق النهاية. وبالطبع هذا يعني
تسليم المسيح لأيدي الرومان وما يتلوه من فظاعة المعاملة والقتل. ولكن وفوق هذه
النغمة الحزينة للغاية فجأة يرتفع صوته بشيء من النصرة:
» وفي اليوم
الثالث يقوم
«

لقد أنهى المسيح من
فكره كل ما عمل وما سيُعمل، وأراد أن يكشف للتلاميذ عن صورة واقعية من بُعد لما
سيتم في أُورشليم الصاعدين إليها. فالعمل الذي يتكلَّم عنه المسيح شيء فوق تصوُّر
أي إنسان مهما كان. فماذا يقولون؟ العملية التي يتكلَّم عنها المعلِّم شيء بعيد
جداً عن تصوُّرهم. يُصلب، يموت؟ وما هذه القيامة؟ وما قيمتها بعد ذلك الموت
والعار؟ هل يُنقذ؟ ومن ذا الذي سينقذه؟ كل هذا في معلِّم قديس طاهر وحلو محبوب!
ألم يُقِمْ لعازر من الموت؟ نعم، فكيف يموت هو؟ أي عقل يحتمل؟ أي منطق يتكلَّم أو
حتى يتصوَّر؟ ثم الذي قال لنا: إننا بإيماننا ننقل الجبل، كيف يقف ساكتاً أمام
مَنْ يُريد أن يصلبه؟ وإن كان المسيَّا الذي سيخلِّص إسرائيل، كيف سيخلِّص إسرائيل
بعد أن يقتلوه؟ وبجوار شدَّة صعوبة التفكير أو التفسير، وجدوا عقولهم عاصية لا
تريد حتى أن تفكِّر، فاكتفوا بالمسير وراءه.

نحن عرفنا ما في
الأنبياء ولكن لم نعرف ماذا يقصدون؟ وهوذا هو يتكلَّم عن إهانات وضرب حتى الجلد،
فلماذا؟ المعلِّم لم يعمل شيئاً يستحق عليه الجلد. ما هذا البصاق في الوجه؟ أي
إنسان يجرؤ على ذلك. ولكن لماذا؟ لقد توقَّف ذهنهم عن التفسير وحتى عن التفكير
ويكفي أن يسيروا ونسير معهم وسنرى.

34:18 «وَأَمَّا
هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئاً، وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفَىً
عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ».

إن التلاميذ لم يفهموا
شيئاً ولكن لم يكن خطأهم، فالأمر كان مُخفى عنهم ولم يعلموا ما قيل، هذا قصده
المسيح لسلامة أنفسهم حتى لا يرتاعوا الآن، وظلَّت هذه الحالة اللاإرادية سائدة
على ذهنهم حتى الصلب والموت، ولمَّا قام المسيح تذكَّروا أنه قال لهم عن كل هذه
الأمور، وحينئذ أدركوا صدق ما حدث أمامهم أنه بإرادته ومعرفته ورضاه السابق قَبِلَ
الآلام كلها وقَبِلَ الصلب والموت كما سبق وأخبر عنه. وبهذا أدركوا تماماً معنى
الفداء الذي تمَّ بمشيئة الآب ورضى الابن، وهذا بدوره انطبع علينا نحن. فها هو
أمامنا طِبق الأصل صورة لما حدث يوم الجمعة، وفجر الأحد بالقيامة. إذن، فنحن أيضاً
نُدرك الآن أنه بتدبير إلهي تمَّ كل شيء لتكميل الفداء والخلاص، وأن الصليب والموت
لم يأتِ عفواً ولا كأنه عن ضعف بل عن علم سابق وتدبير ما قبل الدهور:

+ » بل بدم كريم
كما من حملٍ بلا عيب ولا دنس دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم
ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم.
«(1بط 1: 19و20)

فلينتبه القارئ لأن
الكلام واضح جداً ومؤثِّر للغاية، فكونهم لم يفهموا شيئاً فهذا راجع إلى رغبة
المسيح، إذ قفل عنهم قدرة استيعاب ما سيحدث وأهواله لئلاَّ يفزعوا ويخوروا. إذن،
فلماذا قال؟! قال حتى بعد ما يتم كل شيء يتذكَّروا كل ما قال ويتحقَّقوا أنه كان
يعرف كل شيء فيؤمنوا به ونحن أيضاً. أمَّا لنا أيها الأحباء فهذا درس من الدروس
الهامة جداً بالنسبة لحياتنا ومعاملاتنا مع المسيح والإنجيل: سنقرأ أشياءً ونسمع
أشياءً ونرى أشياءً ولا نفهمها أو لا نفهم مقاصدها الحقيقية، حسن، علينا أن
نقبلها، وعلينا أن ننفعل بها وننعطف نحوها بسرور ونستقبلها استقبالاً حسناً كريماً.
وهي بعد ذلك وفي جو الإيمان والتصديق والمحبة تكشف ذاتها أو يكشفها لنا الله
عمداً. هذا درس من الدروس الهامة جداً في حياة الإنسان طالب المعرفة والكمال
المسيحي. انظر إلى هذا الدرس: يحكي المسيح بنفسه لهم كل ما يختص بآلامه وموته
وقيامته وفي نفس الوقت يسحب من عقولهم الفهم حتى يجوزوا الأحداث دون اضطراب، وبعد
ذلك لمَّا تذكَّروا أصبحوا يكرزون بكل دقائقها.

واعلم صديقي أن كل ما
ستجوزه من مآسٍ واضطهاد وضغط وتحدٍّ هو لمنفعتك: اصمت واسكت ولا تتكلَّم ولا
تشتكِ، لا تدافع ولا تحكِ، وانظر بهدوء وبصبر دون قلق، ينكشف لك في النهاية القصد
البديع من ألم التجربة وشدّتها وعمل الرب في حياتك. وقد تعلَّمتُ في حياتي أن
تعليم وتهذيب الروح القدس يحتاج إلى صمت وعين مفتوحة، لأن كل حركة غير عادية في
حياتك لها وجود في خطة الله التي رسمها لك. وكل أعمال الله تظهر في النهاية.

 

6 – شفاء الأعمى

(35:1843) (مت
29:2034)
(مر 10: 4652)

 

جاءت هذه القصة
بدقائقها في إنجيل ق. مرقس (46:1052). ولكن الذي تركه من إنجيل ق.
مرقس في (35:1045) به تعليق هام للمسيح:
» لأن ابن
الإنسان أيضاً لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين
« وقد عاد ق. لوقا واسترجعها في سفر الأعمال (28:20): » لترعوا
كنيسة الله التي اقتناها بدمه
«

وفي هذه القصة يُظهر ق.
لوقا أنه بلجاجة الأعمى وصراخه استجاب المسيح، وأنه بإيمانه هو نال الخلاص
بكلمة، وانتهى بتمجيد الله من الأعمى والحاضرين.

ويلي هذه القصة في
ترتيب ق. لوقا ذكر قبول زكا رئيس العشَّارين حتى يقدِّم من القضيتين كيف يبلغ
المسيح إلى قمَّة خدمته مع الفقراء والمنبوذين. وفي قصة الأعمى نسمع الصراخ باسم:
» يا ابن داود « فكانت لفتة من ق. لوقا لكي يقدِّم لقب الملك الداخل إلى مدينته
أُورشليم. والقصة تكشف عن مشاعر الرحمة الفيَّاضة في المسيح والعطف الشديد على
المسكين الفاقد النظر، وكمعجزة تعتمد على إيمان المريض بصورة قوية، فإيمانه هو
شفاه بكلمة من المسيح. والأعمى ولو أنه هنا غير معروف بالاسم إلاَّ أننا تعرَّفنا
عليه سابقاً فهو الأعمى بن طيما الذي يلذ للكنيسة أن ترتِّل له وهو أعمى أريحا
المشهور. والقصة تعطي تلميحاً إلى التعبير المسيَّاني وهي مناسبة للدخول إلى
أورشليم.

35:1838 «وَلَمَّا
اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي.
فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازاً سَأَلَ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟
فَأَخْبَرُوهُ
أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. فَصَرَخَ قَائِلاً: يَا يَسُوعُ ابْنَ
دَاوُدَ ارْحَمْنِي!
»

نحن هنا خارج أريحا
وداخلون على المدينة، وطبعاً كان مكان الأعمى المختار هو على باب المدينة. ويلاحظ
أن ق. مرقس لمَّا قدَّم القصة قدَّمها على أساس أن المسيح كان خارجاً من أريحا،
أمَّا ق. لوقا فاضطر إلى هذا الوضع البسيط لكي يستطيع بعد ذلك أن يحكي قصة
زكَّاؤوس؛ وهذا كان داخل المدينة!! وهي القصة التي ختم بها ق. لوقا سرد القصص
جميعاً.

ويسرنا هنا أن نسجِّل
لهذا الأعمى حساسية مشاعره، فهو يبدو أنه أحسَّ بروحه أن إنساناً عظيماً قادمٌ وأن
في يده معجزة شفائه. لذلك كان صراخه لا يُطاق كمَنْ يستغيث بالمسيح من جحود البشر.
ويبدو أنه أحس بالروح أن اللجاجة هي سلاحه الوحيد ليصل صوته إلى أُذن الله؛ فكان!!
والذي ينتبه إلى الحوار الذي دار بين الأعمى والسائرين بجواره يشعر في الحال أنه
إنسان مغلق العين، نعم، ولكن مفتوح القلب، لأن الذي حسبه وجده، فهو سأل لا لمجرَّد
قراءة أخبار بل سؤالاً للحياة فكان!!

ولو أنصف القارئ في
تقدير هذا الأعمى لأدرك فيه البشرية الذليلة المطروحة على باب المدينة اللاهية أو
مدينة الملاهي تستعطي الفائض من الموائد، وهم الذين أشار إليهم السيد بسكّان خارج
السياجات. فنحن نعيش بحسب المدنيَّة الصاخبة ذات الأبراج العالية المحاطة بسكان
العشوائيات غير المُعترف بهم. فالأعمى يمثِّل قطاع الشعب المحروم من النور.

39:18 «فَانْتَهَرَهُ
الْمُتَقَدِّمُونَ لِيَسْكُتَ، أَمَّا هُوَ فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: يَا ابْنَ
دَاوُدَ ارْحَمْنِي!»

هي لحظة تأخير واحدة
وكانت فرصة النور والحياة تكون قد ضاعت منه، كان يحسّ ذلك. لذلك مهما تكاثر صوت
الرفض والتعويق لم يستطع أن يغلب الصراخ المرتفع ليصل من فوق رؤوسهم أو قلوبهم
لصاحب القلب الذي أحسَّ به هو والأُذن التي تسمع ما قبل الصراخ. لم يدرِ هؤلاء
القوم أن المسيح ضبط اللحظة ضبطاً ليكون هنا بجوار الأعمى قبل أن يبدأ الرحلة، لأن
الرب على ميعاد مع الصارخين. كل هذا لنستطيع نحن الآن وعلى بعد من مكانه في أعلى
السموات أن نُدرك أنه سامع الصراخ؛ بل همس الروح وتنهُّد القلب، ويرى الدموع وهي
لا تزال تملأ العين قبل أن تسقط! فالذي قدَّم حياته ودمه فدية للخاطئ يعرف كيف
يحتضن الحزين والمتألِّم، حتى ولو أدَّى الأمر أن يخلق له عينين عوض التي سلبتها
منه الطبيعة. فالمسيح لا يريده أن ينظر بل يريده ألاَّ يشعر بالألم والحرمان. فكم
من عيون رأته ومجدته لأنه
» في كل ضيقهم تضايق. «(إش 9:63)

لمَّا سمع المسيح كلمة:
» يا ابن داود «أدرك أن هذا ليس أعمى
بل إنسان يرى ما لا يراه البصير، فهو يكلِّم المسيح بكلمة السر التي طالما أخفاها
عن تلاميذه. ولكي يتأكَّد القارئ أني أقول الصدق اسمع ما قاله المسيح عن إيمان هذا
الأعمى الذي فاق كل إيمان، لقد آمن به أنه مسيَّا وصرخ له باعتباره أنه جاء وأتى
إليه خصيصاً فهو عمله. أي أن تفتيح عينيه هو أول عمل من أعماله كابن داود مسيَّا
الآتي. فالكلمة استوقفته في الحال ولم يستطع أن يتجاوزه خطوة.

40:1842 «فَوَقَفَ
يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَدَّمَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا اقْتَرَبَ سَأَلَهُ قَائِلاً:
مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدُ، أَنْ أُبْصِرَ. فَقَالَ
لَهُ يَسُوعُ: أَبْصِرْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ».

ليلتفت القارئ إلى ما
عمل المسيح:
» فوقف «في الحال لأنه أمر
استدعاء تلقَّاه المسيح من خليقة أخطأت الطبيعة في توريثها الصحة والنظر، والأمر
يتعلَّق بخالقها فهو وحده الذي يصحِّح ما أساء به الزمن. ولكن لولا إيمان الرجل ما
وقف المسيح هذه الوقفة، فإيمان الرجل الذي ينطق به صراخه جدير بأن يُسمع إليه.
وابتدره المسيح: بـ
» ماذا تريد أن أفعل بك «حتى يحس
الأعمى أن إرادته حَمَلها فوق إيمانه فكانت هي مفتاح الاستجابة: “إيمان وإرادة”.
إلى هنا تكون المعادلة الإيمانية قد تعانقت مع المعجزة ليكون ما يريد وكان. لقد
أبصر الأعمى بعد سنين هذا عددها وربما كان مولوداً كذلك، لا فرق!! وبقول المسيح:
» إيمانك قد
شفاك
« يكون قد أعطانا
منهج المعجزة وأوضح لنا أن بداخلنا قوة قادرة بالإيمان أن تعمل المعجزات:

+ » القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً
مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا.
«(أف 20:3)

43:18 «وَفِي الْحَالِ
أَبْصَرَ، وَتَبِعَهُ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ رَأَوْا
سَبَّحُوا اللهَ».

أكثر ما يسترعي
اهتمامنا هنا أن الشفاء تمَّ في الحال! فالإرادتان اتحدتا، إرادة الآخذ وإرادة
المعطي. لهذا كان العمل يستوجب تمجيد الله وتسبيحه فعلاً، لأن هذه المعجزة أظهرت
المسيح بصورة الخالق المقتدر الحنَّان. أمَّا الأعمى فهو أعظم مَنْ يمثِّل
الإنسانية الموجوعة.



([1]) ما أحلى ساعة بها

أخلو
مـــع الحبيب

 

فحبـــــــه
يجعلـني

أحتقـــر
الدنيـــــا

يجـري حديثي معه

ســـــرًّا
ولا رقيب

 

مفضِّــلاً
أن أرتقي

للراحــــة
العليــــا

 

([2]) كلمة “فريسي” بالعبرية تعني الذي فرز نفسه.

([3]) Soph. 18.5, J. Jeremias, Infant
Baptism in the First Four Centuries,
p. 49.

([4]) Cited by Marshall, op. cit.,
p. 683.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس س سبئة ة

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي