الإصحَاحُ الْعِشْرُونَ

 

(د) تعاليم المسيح في الهيكل

 (1:204:21)

هذا
القسم يرجع إلى الآية الأخيرة من الأصحاح السالف (47:19و48) التي تُعتبر مدخلاً
لهذا الجزء الذي خصَّصه ق. لوقا للمسيح والهيكل: وهو يُعتبر من الأهمية بمكان حيث
يُعتبر
المرحلة الوسيطة بين العبادة القديمة بعيوبها وبين العبادة
الجديدة القائمة على أُسس مُستمدَّة من
القديم.

يفتتح
هذا القسم برفض المسيح من الرئاسات الهيكلية (47:19
19:20) الذي انتهى بنبوَّة المسيح عن خراب الهيكل (5:2138). والقسم الباقي يشتمل على أربع روايات، ثَلاثٌ منها عبارة عن محاورات
داخل الهيكل وواحدة تحمل قضاء المسيح على المرائين من رجال الدين
(45:204:21). أمَّا المحاورات داخل الهيكل فهي كما جاءت أيضاً
في إنجيل ق. مرقس
تحوي:

1 سؤالاً
قانونياً: (20:2026) هل يجوز أن تُعطى الجزية لقيصر؟

2 سؤال
استهزاء: (27:2040) الصدوقيين وامرأة الرجل الميت.

3 مشكلة
تحتاج إلى شرح: (41:2044) عن ابن داود ورب داود.

ويمدنا العالِم ت. و.
مانسون([1])
بأن ق. مرقس جمع كل حوادث الأيام الأخيرة في أُورشليم في فترة وجيزة، في حين أنها
قد حدثت بالفعل في فترة أطول بحوالي ستة شهور بدأها بتطهير الهيكل في عيد المظال.
ولكن إذا عدنا إلى ما قدَّمه ق. لوقا عن هذه الفترة نجدها تحتاج إلى مدَّة أكبر في
خدمة المسيح بأورشليم. وقد أمدَّنا ق. لوقا بروايات لها طابعها الأُورشليمي تؤكِّد
أن هذه الفترة كانت أطول. وقد قدَّم ق. لوقا بعض هذه الروايات التي قالها في
أُورشليم في عرض كلامه في الأصحاحات السابقة مثل: (1:139) عن
الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءَهم بذبائحهم والذين سقط عليهم برج سلوام، فهذه
الحوادث حدثت في أُورشليم. كذلك (43:13) التي نعى فيها أُورشليم التي قتلت
الأنبياء والمُرسلين، هذا حديث قيل في أُورشليم ولكنه دخل نسيج الإنجيل في غير
موضعه التاريخي. كذلك (1:1424) قصة في بيت رئيس الفرِّيسيين وواضح
أنها في أُورشليم، أو (9:1814) عن الفرِّيسي والعشَّار اللذين وقفا
يُصلِّيان في الهيكل، فهذا سرد أورشليمي. كل هذا يعطينا صورة عن فكر ق. لوقا في
جعل التقليد الأُورشليمي بارزاً للغاية في كل إنجيله.

كذلك نشعر من روايات ق.
لوقا أن مبدأ رفض المسيح يحتل مكانة كبيرة في اعتقاده من واقع إنجيله، وهو ذو نبرة
عالية تمتد على مدى الإنجيل. لذلك نشعر أن الرب في ذهابه إلى الهيكل ليطهِّره كان
يمتلك عليه فكر تجديده، ولكن للحال واجه عاصفة من المقاومة بدلاً من أن يشعروا
بأنها حركة مسيَّانية بالدرجة الأُولى. فالمسيح في كل حياته على الأرض لم يعمل
عملاً يكشف أنه مسيَّا مسيح الله بالحق أكثر من دخوله الهيكل وتطهيره والإعلان أن
» بيت أبي «بيتي بيت
الصلاة يُدعى!! ولكنه قَبِلَ المقاومة والرفض كجزء هام في رسالته الفدائية، وصبَّ
دينونة الله على العبادة اليهودية المزيَّفة وهيكلها.

الأيام
الأخيرة في الهيكل عند ق. لوقا:

الذي ينبغي أن نضعه في
اهتمامنا أن ق. لوقا انفرد باتجاه خاص في تكريم الهيكل وركَّز على التعليم فيه
بصورة شديدة، وعندما تكلَّم عن تطهيره كان يقصد ما سيسلِّمه الهيكل من العبادة
الصادقة للكنيسة. وأوضح ق. لوقا بصورة بارعة أهمية الهيكل في العبادة والمستوى
الذي يجب أن تكون عليه هذه العبادة والتعليم الذي سترثه الكنيسة من بعده، حتى أنه
لمَّا نادى بخرابه كان الأساس الذي بنى عليه هذا الشعور المعادي واليائس من الهيكل
أنه بخرابه تقوم العبادة الحقَّة في الكنيسة التي ترثه، ولمَّا بكى المسيح عليه لم
يبكِ بكاء اليائس بل بكاء مَنْ أراد أن يسلِّم المذّخرات الإلهية ذات التاريخ
الحافل بأعمال الله ومحبته وبركاته، يسلِّمها للكنيسة في أوج بهائها وجمالها وليس
بعد خراب ودمار، لذلك بكى على عمل يديه. ولكن الذي وقف في الوسط ومنع هذا التسليم
والتسلُّم هم طبقة المعلِّمين والكهنة والمرائين من الشعب.

ونذكِّر القارئ بالصور
الجميلة التي تبرز هذا الهدف البديع، إذ أن الهيكل احتفى بأول ملاك يبشِّر
بالمعمدان وبالتالي بالعهد الجديد للكاهن زكريا أثناء رفع البخور. بهذه اللمحة
الإلهية يرتفع الهيكل والكاهن والبخور إلى داخل العهد الجديد. وأول نبوَّة عن
المسيح المخلِّص نطقها سمعان الشيخ وهو واقف داخل الهيكل، وحنّة النبيَّة تنبَّأت
برؤيا تحقَّقت بمجيء الملكوت الذي صلَّت وصامت من أجله 84 سنة داخل الهيكل لم
تفارقه، والمسيح تحاجج وهو صبي ابن اثنتي عشرة سنة مع الشيوخ داخل الهيكل ودعاه:
» ما لأبيه « بل وإرسالية المسيح برمَّتها كانت متعلِّقة بالهيكل. لذلك أثناء
تطهيره له كان يعمل ويطرد ويهدِّد كمن يعمل لبيته، ولم يجحد في الهيكل إلاَّ
رؤساءه.

والقديس لوقا لم يقبل
التهمة التي لصقت بالمسيح بأنه يهدمه، فلم يذكرها في إنجيله حتى ذكرها في سفر
الأعمال على لسان ق. استفانوس في دفاعه عن صحة معناها النبوي. لذلك يرى ق. لوقا أن
تطهير الهيكل كان عملاً مسيَّانياً للإعداد للهيكل الجديد حسب النبوَّة التي ذكرت
ذلك كعلامة ملازمة لأيام المسيَّا (زك 21:14)؛ حيث أُورشليم كلها تكون قدساً للرب:
» وكل قِدْرٍ في أُورشليم وفي يهوذا تكون قدساً لرب الجنود « فوجود المسيح في الهيكل وهو يطهِّره كان عملاً أُخروياً بالدرجة
الأُولى، فالقديم يزول ويأتي الجديد القائم على أساس شخصه هو، فهو يتكلَّم
باعتباره أنه هو
» الهيكل الجديد « والمسيح باعتباره المرفوض من الهيكل كان هو حجر الزاوية الذي رفضه
البناؤون ليكون هو أساس الكنيسة الهيكل الجديد بلا حجر أو أعمدة؛ وقد ذكرها ق.
لوقا في (17:20).

فمجمل أعماله في الهيكل
وما تمَّ فيه وما تمَّ له بحسب ق. لوقا هو أول تخطيط لتاريخ الفداء، حيث الساعات
الأخيرة تمثِّل زوال حقبة زمنية كبرى ليحل محلها عصر المسيَّا للعهد الجديد. وعلى
القارئ أن يكون شديد الحساسية وهو يقرأ ويسمع جميع الفصول، فهي كلها تتحرَّك ناحية
النهاية لتظهر من أعماقها البداية الجديدة، حيث الجديدة تتعالى على الزمن، وكأن
القراءات الأخيرة هي بعينها كل النبوَّات متركِّزة لتشير إلى المسيَّا المكتوب عنه
في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. هذه الحركة السرِّية من تحت القراءات يحسّها
الإنسان الواعي.

لقد
التصق المسيح بالهيكل في الأيام الأخيرة بصورة محسوسة:
» وكان يعلِّم كل يوم في الهيكل «(47:19)، » وكان كل الشعب يبكِّرون
إليه في الهيكل ليسمعوه
«(38:21). حيث أخذ المسيح الصورة المحبَّبة إليه: “المعلِّم”، فلم
يعمل آيات أو أشفية بل كان يعلِّم، بمعنى أنه يضع أساس العهد الجديد. وإن كان ق.
لوقا لم يفصح هنا عن هذا الانسلاخ السرِّي غير المنظور من الهيكل إلى الكنيسة فقد
أفرد له سفراً بأكمله وهو “سفر أعمال الرُّسل”، وإن كان قد نسبوه “للرُّسل” ولكنه
هو أصلاً أعمال المسيح بروحه القدوس في الشعب الجديد. على أن كل مقاومة وكل معارضة
وكل رفض للمسيح كان بمثابة تأكيد دائم لحتمية زوال العنصر الفاسد في العبادة لحساب
الجديد الذي سيخرج من كيانه بسفك دمه، لذلك تقبَّل المسيح الرفض كضرورة يُوجِبها
هذا الانتقال الهائل من القديم للجديد.

 

1
اصطدام المسيح مع رؤساء الهيكل

(1:208) (مت
23:2127)
(مـر 27:1133)

 

من أبرز الاتجاهات
التعليمية التي انفرد بها ق. لوقا في إنجيله في هذا الأصحاح بالذات هو ازدياد
التركيز على التصادم القائم بين الرؤساء والمسيح بحضور الشعب ليسمع ويرى ويحكم.
وغالباً ما انحاز إلى المسيح علانية، الأمر الذي جعل الرؤساء والحُكَّام يخافون من
الاقتراب من المسيح. وظهر هذا التصادم خاصة في ثلاثة مواضع (1:208و1926و2740).
أمَّا في باقي الأصحاح فيتَّجه بالتعليم النبوي الذي يفضح رياء المقاومين له
ويحقِّر من سلطانهم وخاصة في المواضع (9:2018و4144)،
(45:2047)، (1:214)؛ وبعد ذلك فإن دخوله الهيكل رفع من
حدَّة المواجهة حتى جعلها مأساة شعب يُعارك إلهه!! وهذه أدركتها الكنيسة الأُولى
كنوع من الانتصار المسيَّاني ضد رؤساء الهيكل.

1:20و2 «وَفِي
أَحَدِ تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ
وَيُبَشِّرُ، وَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ الشُّيُوخِ،
وَكَلَّمُوهُ قَائِلِينَ: قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا! أَوْ مَنْ
هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟»

يُلاحِظ القارئ هنا أن
مراجعة رؤساء الكهنة للمسيح ليست بخصوص تطهير الهيكل هنا، بل بخصوص تعليمه الرسمي
داخل الهيكل دون أن يكون رابِّيًّا رسمياً، ولكن كان هذا الهجوم يحمل الإحساس
بالمهانة في تطهيره للهيكل. وهنا يذكر ق. لوقا الثلاث هيئات التي يتكوَّن منها
السنهدرين، حيث الشيوخ هم الحكَّام رؤساء الشعب. علماً بأن ق. لوقا وحده هو الذي
يذكر أن التصادم كان بخصوص التعليم داخل الهيكل رغماً عنهم لأن الشعب كان
متعلِّقاً به (47:19). ويُلاحَظ أن ق. لوقا كان يهتم جداً باتجاه الشعب المناصر
للمسيح، فنجد أنه يذكر كلمة الشعب أكثر من ثمانين مرَّة في إنجيله وسفر الأعمال.

3:20و4 «فَأَجَابَ
وَقَالَ لَهُمْ: وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَقُولُوا لِي:
مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا، مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟»

يُلاحَظ أن المسيح يسأل
المسئولين عن تعليم الشعب مما يفضح قصورهم القاتل بالنسبة للشعب، إذ لم يكشفوا
للشعب أهمية يوحنا المعمدان ولا قدَّموه كنبي ولا قبلوا رسالته، وهذا هو الذي جعل
الشعب لا يأتي للمسيح يطلب الإيمان بعد تكميل التوبة. فالخطية هنا على رؤوس
المعلِّمين الذين جحدوا المعمدان وهو نبي عند كل الشعب، مما يثبت أن الشعب كان
عنده استنارة أكثر من الرؤساء والمعلِّمين، أمَّا الرؤساء والمعلِّمين فقد وقفوا
عثرة في طريق الشعب، بالنسبة للمسيح وقبول رسالته كمسيَّا. ولكن بالرغم من هذا
الكشف المخجل لهم بسؤالهم عن معمودية يوحنا لم يقووا على إعلان ما عملوه وأضمروه
أنهم لا يؤمنون بمعمودية يوحنا فهم معلِّمون لصوص بل
قالوا لا نعلم كأطفال سنة أُولى. من هذا تربَّى في نفوسهم الخوف من الشعب، لأن
الشعب اعتمد واستنار وتاب وهم رفضوا مشورة الله. لذلك نحسب أنهم برفضهم المعمدان
والمعمودية فقد فقدوا رسالتهم رسمياً أمام الله.

هنا يتكلَّم المسيح عن
كل رسالة المعمدان، ومعروف أن المسيح تقبَّل المعمودية منه وصرَّح المعمدان بأن
المسيح كان  قَبْلَهُ، وأنه بشَّر بالملكوت قبله. والآن المسيح يسألهم بلسان
المعمدان أن يُخبروا هل معموديته كانت من السماء أم من الناس. والإجابة على هذا
السؤال شرط أساسي ومنطقي أيضاً ليقول لهم بأي سلطان يفعل هذا. والمسيح أوقعهم في
هذا المأزق لأنهم رفضوا المعمدان ورفضوا أن يعتمدوا منه. علماً بأن الذي يوافق على
أن المعمدان من السماء يوافق حتماً على المسيح أنه المسيَّا، لأن المعمدان جاء
قبله ليشهد له حسب المكتوب. واضح هنا أن المسيح قد صاغ سؤاله حسب تدبير الله نفسه
في إرساله المعمدان قبله ليُعدَّ له القلوب.

5:208 «فَتَآمَرُوا
فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا
لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ، فَجَمِيعُ الشَّعْبِ
يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بَأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ. فَأَجَابُوا
أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا
أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا».

سؤال المسيح ليس فيه أي
مكر أو خديعة، ولا هو اجتهاد منه أو مجرَّد منطق يوقعهم في الارتباك. ولكن المسيح
يسأل بسلطان الله، لأن الذي آمن واعتمد حتماً يقبل المسيح ويعلم أن سلطانه من
السماء، من حيث جاء. وكما يقول ق. يوحنا إن مَنْ لا يؤمن به يمكث عليه غضب الله،
ليس افتراءً  أو اعتباطاً ولكن على أساس أن البشرية جمعاء صارت تحت اللعنة وغضب
الله. فالذي يؤمن بالفادي والمخلِّص يخرج حتماً من تحت الدينونة والغضب الإلهي،
ومَنْ لم يقبل الفادي والمخلِّص يمكث عليه تلقائياً غضب الله. فالآن واضح أن هؤلاء
الحكَّام والرؤساء رفضوا جميعاً معمودية يوحنا، فبالتالي شاءوا أو أبوا، هم رافضون
للمسيح والله، إذ تلزم التوبة قبل الإيمان بالمسيح، إمَّا على يدي المعمدان أو على
يدي المسيح نفسه. فبقول هؤلاء (المرفوضين) أنهم لا يعلمون يكونون قد حكموا على
أنفسهم برفض الله لهم. لذلك قالوا إنهم لا يعلمون حقـًّا. ولذلك أصبح للمسيح الحق
أن لا يفتح لهم بابه أو يتكلَّم عن سلطانه.

 

2
مَثَل الكرَّامين الأردياء

(9:2019) (مت
33:2146)
(مـر 12: 1
12
)

 

9:2012 «وَابْتَدَأَ
يَقُولُ لِلشَّعْبِ هذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى
كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً. وَفِي الْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى
الْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ، فَجَلَدَهُ
الْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ.
فَجَلَدُوا ذلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ثُمَّ عَادَ
فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ».

ألقى المسيح هذا
المَثَل هنا على الجمع الواقف، وفي إنجيل ق. مرقس ألقاه على أعضاء السنهدرين. ولكن
كان الشعب أيضاً سامعاً. وأول ما نُلاحِظ في هذا المَثَل أن المسيح أعطى لرؤساء
السنهدرين والشعب وظيفة الأجير الذي عليه أن يقدِّم المحصول في أوانه. وفي هذا
مجابهة شديدة لأعضاء السنهدرين والشعب لأنهم اعتبروا أنفسهم أصحاب الهيكل والديانة
وليس من فوقهم أحد. وهنا يضعهم المسيح موضع الأجير العامل بالأجر الذي يقدّم نتيجة
العمل لصاحب العمل. هذا أول التحدِّي والكشف عن موقف السنهدرين من الله.

وقوله إنه سافر زماناً
طويلاً لا ينطبق على الزمان الذي قبل ظهوره الثاني، بل يعني احتمال الله طويلاً
واختبار هذا الشعب من على بُعد. وبعد هذا الاحتمال والزمان الطويل أرسل ابنه
» لمَّا كمل
الزمان
«بحسب نداء المسيح (مر 15:1). وقد عبَّر عنها هنا في الآية
(10) بعبارة: «وفي الوقت».

ثم ثاني مأخذ على
أُولئك الكرَّامين أنهم أرسلوا العبد فارغاً بعد أن جلدوه، فهنا الجلد هو بمثابة
رسالة مفتوحة لصاحب العمل الله أن هؤلاء الكرَّامين على
نيَّة مبيَّتة للاستيلاء على الكرم وعدم إرسال ثماره، ومعناه فك العقد وإعلان
العصيان.

ثم إذ عاملوا العبد
الثاني بنفس المعاملة يكون ذلك إنذاراً أخيراً ليفهمه صاحب الكرم أنهم ليسوا
أُجراء بعد ولكن لهم ادِّعاء بالملكية. والثالث الذي أرسله قتلوه تأكيداً للعصيان
الرسمي. فالمُلاحَظ أن كل إرسالية يرسلها صاحب الكرم تلقى تحرّشاً وقسوة أكثر من
التي قبلها، لأن رؤساء اليهود فعلاً ازدادوا بمرور الأيام بُعداً عن عهد الله
وجحوداً لوصايا الله ومصالح الشعب الروحية. وصِدْق الله في إرساليته لابنه واضح
جداً وصِدْق الابن في رسالته أشد وضوحاً. ولا ننسى أن بكاءه على أُورشليم يكشف مدى
جدية البعثة السلامية التي جاء ليكمِّلها، وتكراره كم مرَّة أردت أن أجمع بنيك فيك
تشهد على إرادة الآب والابن لتجديد إسرائيل ومحاولة السمو بها إلى مستوى الخلاص.
ولكن قسوتهم وحمقهم هو الذي حوَّل المعلِّم إلى ذبيحة!! والآب قَبِلَ التحدِّي
وفرَّط في الابن، والابن قَبِلَ القتل ولكن على أساس الإنهاء على هذا الشعب
برؤسائه.

13:2015 «فَقَالَ
صَاحِبُ الْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ابْنِي الْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا
رَأَوْهُ يَهَابُونَ! فَلَمَّا رَآهُ الْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ
قَائِلِينَ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا
الْمِيرَاثُ. فَأَخْرَجُوهُ خارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ
بِهِمْ صَاحِبُ اَلْكَرْمِ؟»

واضح بحسب الفكر
اليهودي أن رائحة المسيَّا هنا تعطِّر الجو كله: ابني الحبيب أي الوحيد أُرسله،
وكل ما كان ينتظره صاحب الكرم أن يعمل مصالحة ويعيد الكرَّامين إلى صوابهم،
ويؤسِّس الابن علاقة أكثر أمانة ويطالب بحق المالك فيما له. ولكن يبدو أن طول
مدَّة غياب صاحب الكرم أثار فيهم روح الطمع والتوحُّش. “فتآمروا” وهي الكلمة
الكثيرة الاستخدام في حياة الأشرار، تآمروا وتآمُرهم هذه المرَّة جاء ضد الله
وأخذوا ابنه وحيده وقتلوه خارج أُورشليم.

16:20 «يَأْتِي
وَيُهْلِكُ هؤُلاَءِ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ لآِخَرِينَ. فَلَمَّا
سَمِعُوا قَالُوا: حَاشَا!»

ولكن في الحقيقة ليس
حاشا، بل قد أرسل الآب ابنه الوحيد الحبيب هذا لينهي الوعد الأول ويقطع العهد الذي
تعهَّد به لإسرائيل:
» هكذا قال الرب: أين كتاب طلاق أُمكم التي
طلَّقتها … هوذا من أجل آثامكم قد بُعتم ومن أجل ذنوبكم طُلِّقَت أُمكم
«(إش 1:50). وبالدم الذي سفكوه يكتب بأصبعه وثيقة العهد الجديد،
ويسلِّم الكرم ليس لأجراء بعد بل لرعية القديسين وأهل بيت الله، الذين فداهم الابن
بالدم المسفوك خارج باب أُورشليم وصالحهم مع الآب وأعطاهم حق بنوَّته للآب، ووهبهم
روحه القدوس الذي قدَّسهم للآب أبناءً جدداً بشبه الابن وبروحه، والكرم الجديد
جسده أُورشليم الجديدة موطنها عنده.

17:20و18
«فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: إِذاً مَا هُوَ هذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ
الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ
رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى
ذلِكَ الْحَجَرِ
يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟»

+ » الحجر الذي
رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية.
«(مز 22:118)

+ » الذي إذ
تأتون إليه حجراً حيًّا مرفوضاً من الناس ولكن مختار من الله كريم.
«(1بط 4:2)

+ » هذا هو
الحجر الذي احتقرتموه أيها البنَّاؤون الذي صار رأس الزاوية.
«(أع 11:4)

الوضع هنا متماسك، فحجر
الزاوية هو الذي يمسك البناء كله، فإن رُفض بمعنى أُسقط من رأس الزاوية فسيسقط على
البنائين الذين رفضوه ويسحقهم. ويحكي دانيال عن هذا المنظر ويقول:

+ » كنتَ تنظر
إلى أن قُطع حجرٌ بغير يدين فضَرَبَ التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزفٍ
فسحقهما. فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً وصارت كعصافةِ
البيدر (الجرن) في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكانٌ. أمَّا الحجر الذي
ضَرَبَ التمثال فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كُلَّها.
«(دا 2: 34و35)

والمعنى واضح وهو على
الدينونة الرهيبة للذين يقاومون المسيح والحق، فالذين يعثرون في المسيح هؤلاء هم
الذين يسقطون عليه فنصيبهم أن يترضَّضوا أي يُصابوا بكسور، أمَّا الذين يحاربون
المسيح يقع عليهم فيكون نصيبهم السحق! ولا يُلام الحجر! فقساوة قلوبهم حوَّلت صخرة
البنيان إلى صخرة سحق وهدم ودينونة.

ولكن لماذا نسمع عن
الرب يسوع هذه القسوة التي هي ليست من طبيعته؟ هو بطبيعته مخلِّص، ولكن الذي يرفض
الخلاص يدخل الدينونة. لابد أن الذي يلقى مثل هذا المصير من المسيح سواء كان
الترضُّض أو السحق يكون قد استنفد كل وداعة المسيح وحلمه وكثرة لطفه وشدَّة
إحسانه:
» مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي. «(عب 31:10)

19:20 «فَطَلَبَ
رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ أنْ يُلْقُوا الأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي
تِلْكَ السَّاعةِ، وَلكِنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ
قَالَ هذا الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ».

توقف الرؤساء عن
الإمساك بالمسيح خوفاً من الشعب، هنا شهادة حزينة جداً ضد أُولئك الرؤساء الذين
بلغت روحانيتهم جميعاً درجة منحطَّة دون مستوى الشعب. كيف بعد ذلك يكون هؤلاء
مسئولين عن تعليم الشعب وتقريبهم من الله والحق، وهم من دونهم في كل ما لله.
لهؤلاء أنذر المسيح أن الحجر وشيك أن يقع عليهم ويسحقهم، لأن الشعب يمثِّل هيكل
الله اللحمي أو القلبي بحبِّه وبساطته، وهؤلاء الرؤساء هم الأعمدة، فكما يقول
المزمور:
» إذا انقلبت الأعمدة فالصدِّيق ماذا يفعل «(مز 3:11)، والذي يخاف الشعب لا يخاف الله.

 

3
الجزية لقيصر

(20:2026) (مت
15:2222)
(مـر 13:1217)

 

لجأ الرؤساء إلى الحيلة
والخديعة وتآمروا على المسيح أن يصطادوه بكلمة، فرتَّبوا أن يعرضوا عليه السؤال:
هل يحل أن تُعطى الجزية لقيصر أم لا. أمَّا الذي تبرَّع أن يقوم بهذه المكيدة فهم
جماعة ادّعوا الطيبة والمودَّة من نحوه لكي يأخذ الأمان تجاههم ويتكلَّم بحرية،
وبدأوا الحديث معه بشيء من الإطراء الكاذب حتى يكتسبوا ودَّه، وقدَّموا الفخ
مُحكماً، ولكن المسيح خيَّب آمالهم لأن الذي يحب الحق لا يحكم بالباطل، والعادل لا
يغشّه رجل جبان، وذو العينين المفتوحتين يقرأ ما في القلوب ولا ينطلي عليه الكلام
المغشوش. كم مرَّة عثروا في المسيح وكانت عثرتهم لهلاكهم لأنهم ظنُّوا أنهم قادرون
أن يخرجوه عن صلابة الحق أو يلزموه بإعطاء حكم يخرج عن الصواب.

20:2022
«فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ
لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ
إِلَى
حُكْمِ الْوَالِي وَسُلْطَانِهِ. فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ
أَنَّكَ بِالاِسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ،
وَلاَ
تَقْبَلُ الْوُجُوهَ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ.
أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟»

هنا
اختفى مدبِّرو المكيدة رؤساء الكهنة والكتبة وأرسلوا جماعة من الفرِّيسيين
والهيرودسيين،

وفي رواية ق. مرقس كشف لهم أنه يعرفهم ويعرف
رياءهم، ولكن ق. لوقا اختصرها هنا. وواضح أن
تلفيق هذه المشكلة القضائية
محكم، وقد أخذت منهم وقتاً كثيراً ليقدِّموها بهذه الصورة المدهونة بالعسل.

23:2025 «فَشَعَرَ
بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ أَرُونِي دِينَاراً.
لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ فَأَجَابُوا وَقَالُوا: لِقَيْصَرَ. فَقَالَ
لَهُمْ: أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ».

ولثاني مرَّة يعثرون في
المسيح:
» لماذا تُجرِّبونني؟ «فإن كانوا
قد أرادوا أن يوقعوا المسيح في قيصر فالمسيح أحكم منهم وأحكم من قيصر، ولكن بالكيل
الذي كانوا به يكيلون يُكال لهم ويزداد، إذ وقعوا هم في قيصر وكانت الواقعة
الفاصلة لهم ولهيكلهم ومدينتهم وأُمَّتهم، قَتَلهم وخرَّب مدينتهم وأحرق هيكلهم
وسلب مقدَّساتهم وأفرغ أُورشليم من جنسهم وشتَّتهم في البلاد.

لمَّا قدَّموا العملة
أراهم صورة قيصر الذي غزاهم واستعبدهم فعيَّرهم بانهزامهم لهذا القيصر إذ يتعاملون
بعملته صاغرين، فالدينار الذي في أيديهم مصكوك في روما وهو في يدهم مقابل خيراتهم
التي يسلبها ومقابل إقامة الجنود في أراضيهم. فهم يعيشون في بلادهم على حسابهم
ويأكلون خيراتهم ويُرسلونها إلى روما. فهل يمكن أو هل من المعقول أن لا يُعطوا
الجزية لأُمَّة أقوى منهم استعبدتهم وأذلَّتهم؟ إن أفكارهم لا تزيد عن كونها أوهام
وهي التي أوقعتهم في يد قيصر والرومان فأذاقوهم المر والهوان. فليس المسيح هو الذي
وقع في يد قيصر بل بلادهم برمّتها! ولم تنجُ. وهنا العجيب أن المسيح لم يُجِبْ على
سؤالهم!!

وصار قول المسيح المثل
الذي يُقال في الدنيا كلها أن لقيصر حقوقاً تُعطى له ولله حقوقاً تُعطى له ولا
يجوز الخلط بين ما لقيصر وما لله.

ويقول ق. متى في إنجيله
في هذا الموضع أن العملة كانت بتدبير الله هي نفس العملة التي تُدفع بها الضريبة،
وهي عملة فضية “الدينار
dhn£rion”. على وجه منها صورة لقيصر لابساً حُلة الحرب والكتابة تتحدَّى
شعب إسرائيل وإلههم، فقيصر على مستوى الإله “طيباريوس قيصر بن أُغسطس الإلهي
أغسطس
Ti. Caesar Divi Aug. F.
Augustus
”. وعلى الوجه الآخر صورة
أُم الإمبراطور ليفيا
Livia باعتبارها تجسيداً للإلهة Pax أي السلام، والكتابة Pontifex Maximus (الكاهن الأعظم). والدينار بما عليه وبقيمته يرمز لقوة الإمبراطور
بادعاء الألوهية، الأمر الذي يعتبرونه تجديفاً. ولكن هي عملة الجزية الرسمية عليها
الصورة
e„kèn
وعليها
الكتابة باسمه
™pigraf» فالمال لصاحب المال.
وهكذا أحرج المسيح هذه البعثة غير السلامية التي وقعت في فخها التي نصبته له
ظلماً.

ويعتقد
اللاهوتيون أن قول المسيح يعني أعطوا المال لقيصر وأعطوا الله أنفسكم، لأن الإنسان
هو

على صورة الله، وهو يعبده أو هو عبده فهو بجملته جزية الله. ولكن الأكثر صحة هو أن
المال الذي صكَّه قيصر لحسابه يذهب لحسابه، ووصايا الله التي في عرف اليهود قد
كتبها الله بأصبعه تُطاع كعملة واجبة الدفع.
ولكن لأن المسيح نفسه هو الذي قال هذا فهو قول الله الذي يعني باختصار
وإنما بتأكيد قوي، الأمر بطاعة الوالي في كل ما
يطلبه ويحكم به إلاَّ الأمر فيما يخص العبادة فهي لله
وحده.

26:20 «فَلَمْ
يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ الشَّعْبِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ
جَوَابِهِ وَسَكَتُوا».

وهكذا أسكت المسيح
معانديه الذين أرادوا أن يأخذوا منه مأخذاً، وارتدُّوا خاسرين، وفرح الشعب
بمعلِّمه إذ كان كل شيء قدَّامهم، وأصبح الشعب حَكَماً على رؤسائه وقادته
واستهانوا بتعليمهم، وهذه تُحسب أكبر خسارة أن يفقد الشعب ثقته في رؤسائه الدينيين
ويكتشفوا خبثهم وخسَّتهم وضعفهم، ولكن كان لابد من ذلك لأن المعرفة والعلم إن لم
تسندها التقوى ويؤازرها الصدق والاستقامة تصبح جهالة وليس علماً، ويصبح المعلِّمون
مرتزقة وليسوا خُدَّاماً لله.

 

4
القيامة وهيبتها

(27:2040) (مت 23:2233) (مر 12: 1827)

 

كان السؤال السالف فيه
خدعة لاصطياد خطأ، أمَّا هنا فالسؤال يحمل سخرية، إذ يظهر الصدُّوقيون لأول مرَّة
وفي فمهم سؤال سخيف إذ أنهم لا يؤمنون بالقيامة. فهداهم عقلهم المقفول لقضية
اخترعوها عن زواج امرأة لأخ مات فتزوَّجها إخوته، فلمن منهم تكون زوجة في القيامة.
فأعطى المسيح الجواب في صبر وأكَّد قيامة الأموات وأنهم في السماء يكونون كملائكة
الله لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، إذ القيامة حالة أرقى من الحالة التي يعيش فيها
الإنسان هنا مئات المرَّات.

وليُلاحِظ القارئ أننا
على أبواب القيامة فقد حلَّ زمانها …

27:2036 «وَحَضَرَ
قَوْمٌ مِنَ الصَّدُّوقِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ أَمْرَ الْقِيَامَةِ،
وَسَأَلُوهُ، قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ
أَخٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ، وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، يَأْخُذُ أَخُوهُ الْمَرْأَةَ
وَيُقِيمُ نَسْلاً لأَخِيهِ. فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. وَأَخَذَ الأَوَّلُ
امْرَأَةً وَمَاتَ بِغَيْرِ وَلَدٍ، فَأَخَذَ الثَّانِي الْمَرْأَةَ وَمَاتَ
بِغَيْرِ وَلَدٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا الثَّالِثُ، وَهكَذَا السَّبْعَةُ. وَلَمْ
يَتْرُكُوا وَلَداً وَمَاتُوا. وَآخِرَ الْكُلِّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً.
فَفِي الْقِيَامَةِ، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ
زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ! فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَبْنَاءُ هذَا
الدَّهْرِ يُزَوِّجُونَ وَيُزَوَّجُونَ، وَلكِنَّ الَّذِينَ حُسِبُوا أَهْلاً
لِلْحُصُولِ عَلَى ذلِكَ الدَّهْرِ وَالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ
يُزَوِّجُونَ وَلاَ يُزَوَّجُونَ، إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمُوتُوا
أَيْضاً، لأَنَّهُمْ مِثْلُ الْمَلاَئِكَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ، إِذْ هُمْ
أَبْنَاءُ الْقِيَامَةِ».

لم يتركنا الله بلا
تعليم واضح في موضوع القيامة وكيف تكون، إذ قدَّمه القديس بولس، فهو يبتدئ هكذا:

+ » يقول قائل:
كيف يُقام الأموات، وبأي جسم يأتون؟

يا غبي الذي تزرعه لا
يحيا إن لم يمت.

والذي تزرعه، لستَ
تَزرعُ الجسم الذي سوف يصيرُ، بل حبَّة مجرَّدة ربما من حِنطَةٍ أو أحد البواقي،
ولكن الله يُعطيها جسماً كما أراد. ولكل واحدٍ من البزور جسمهُ …

وأجسامٌ سماويةٌ، وأجسامٌ
أرضيةٌ. لكن مجد السماويات شيءٌ، ومجد الأرضيات آخرُ …

هكذا أيضاً قيامة
الأموات: يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد، يُزرع في هوان ويُقام في مجد. يُزرع
في ضعف ويُقام في قوة، يُزرع جسماً حيوانيًّا ويُقام جسماً روحانيًّا.

يوجد جسمٌ حيوانيٌّ ويوجد
جسمٌ روحانيٌّ …

وكما لبسنا صورة
الترابي (آدم) سنلبَسُ أيضاً صورة السماوي (المسيح) …

فإنه سيبوَّق فيُقام
الأموات عديمي فساد،
ونحن (الباقين أحياءً) نتغيَّر (إلى السماوي)

لأن
هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت.
«(1كو
35:1553)

بهذا
المسلسل شرح ق. بولس كيف تكون قيامة الأجساد، ليست بأجساد أرضية بل بأجساد
سماوية بشبه السماوي، أي جسد المسيح المُقام في المجد، حيث يلبس الإنسان جسماً
روحانياً
وهي أجساد
عدم فساد
وعدم موت، لها شكل الأجساد الأُولى ولكن ليست لحماً ولا دماً بل أجساداً روحانية.
وكما
يقول المسيح:
» لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً « لأنهم أبناء القيامة، أبناء الله. فكما
قام المسيح
بجسد روحاني ممجَّد هكذا سنُقام في جسد روحاني ممجَّد بشبه
جسد المسيح السماوي. وكلمة المسيح التي قالها إنهم لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً
يشرح بها لماذا نتزوَّج على الأرض، لأننا نتزوج لكي نُقاوم فعل الموت للفناء، لأنه
إن لم نتزوَّج يفنى العالم. إذن نحن نتزوَّج لأننا سنموت حتماً. فإذا رُفع الموت
أصبح لا لزوم للزواج. فإذا امتنع الزواج في القيامة امتنع معه الشهوة وكل مواصفات
الإنسان الطبيعي، لأنه يصبح إنساناً سماوياً ويتغيَّر فيه كل شيء له علاقة بالأرض
والمكان والزمان. وبالتالي إن كانت قيامة أبرار ففيها يمتنع الحزن والكآبة والتنهد
ليعيش الإنسان كقديس في نور القديسين.

والإنسان في القيامة لا
يفقد شكله ولكن يأخذ فيه شكل المسيح، لأن قيامة المسيح بجسده الروحاني هي نموذج
قيامتنا: يستطيع أن يجعل نفسه منظوراً كما كان، ويستطيع أن يجعل نفسه غير منظور
بالمرَّة كما ظهر لتلميذي عمواس وكما اختفى عنهم. والقديسة العذراء مريم أمكنها أن
تظهر بجسدها الروحاني الممجَّد والمضيء على كنيسة الزيتون وأمكنها أن تختفي.

37:2040 «وَأَمَّا
أَنَّ الْمَوْتَى يَقُومُونَ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضاً فِي أَمْرِ
الْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحقَ
وَإِلهُ يَعْقُوبَ. وَلَيْسَ هُوَ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ، لأَنَّ
الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ. فَأَجَابَ قُوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَقَالُوا: يَا
مُعَلِّمُ حَسَناً قُلْتَ! وَلَمْ يَتَجَاسَرُوا أَيْضاً أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ».

ينفرد القديس لوقا هنا
بمعلومة جديدة عن المسيح، إذ يقول إن «الجميع عنده أحياء». فالجميع هنا هم
جميع أبناء القيامة المعتبرين أنهم أبناء الله، مع المختارين في العهد القديم على
مستوى إبراهيم وإسحق ويعقوب. وهكذا تصبح الكنيسة القبطية كنيسة ملهمة ومستنيرة
بالروح إذ تعتبر المؤمنين فيها قديسين لا يجوز فيهم الموت: “ليس موت لعبيدك بل هو
انتقال”([2])،
أي ينتقل المؤمن الذي وُلِدَ جديداً وأخذ الروح القدس وصار ابناً للقيامة وبالتالي
ابناً لله، ينتقل بالموت إلى فوق “في نور قديسيك في الموضع الذي هرب منه الحزن
والكآبة والتنهُّد”([3])
بانتظار القيامة العامة.

واستحسان الكتبة لقول
المسيح يُعتبر بلوغاً منهم إلى فكر الرب، ولكن على المستوى التعليمي وحسب. وهكذا
أفحم الرب معارضيه، ولكن للأسف كان اقتناعاً غير مؤازَر من جهتهم بالإيمان بل
بالفكر وحسب.

 

5
مَنْ هو المسيح؟

(41:2044) (مت 41:2246) (مر 12: 3537)

هنا
يبتدر المسيح القوم بسؤال هو من صميم اللاهوت، والمسيح يسألهم على مستوى
اختباراتهم

له، فهو يختبرهم. وهو مقول موجود في إنجيل ق.
مرقس، أمَّا في إنجيل ق. متى فأتى على شكل محاورة
مع الفرِّيسيين. والسؤال يقول: كيف أن المسيح يمكن أن
يُقال عنه إنه ابن داود مع أن داود نفسه يتكلَّم
عن المسيَّا كربِّه في
مزمور (1:109)؛ حيث إن وضع المسيَّا ليكون ابناً لداود يتحتَّم أن يكون من نسله الجسدي. ثم مَنْ يكون رب داود هذا؟ هل هي قامة ابن
الله أو ابن إنسان؟ على أنه يلزم أن نعرف
أن داود قالها وليست عنده فكرة عن “المسيح”، إذ قالها بالروح ليصف المسيَّا
بالنسبة له هو، علماً بأن
اليهود يعلمون أن المسيَّا سيأتي ابناً لداود،
علماً أيضاً بأن الكنيسة الأُولى دافعت بشدَّة عن كونه ابن داود من جهة التسلسل
النسلي. وهنا انقسم العلماء  شِيَعاً تحبِّذ أفكاراً متضاربة بين التثبيت أنه ابن
داود والنفي أيضاً. ولكن الوضع الذي وضع فيه المسيح السامع يجعله يحتِّم عليه
حلاًّ واحداً وهو أن المسيح هو ابن داود من جهة النسل ورب داود من جهة لاهوته ولا
فكاك. وهو نفس الوضع الذي يجعلونه في فم العذراء وهي تبكي على المسيح وهو معلَّق
على عود الصليب بمخاطبته “يا ابني وإلهي”([4]).
وهذا السؤال يكشف لنا عن محاولة المسيح الجادة جداً أن يوجِّه فكر من كلَّمهم آنئذ

وفكرنا نحن الآن لسر التجسُّد، الذي إذا
فهمناه جيداً لن يُخفى علينا أي عمل مما عمل المسيح وخاصة الفداء، ونفهم لماذا
صُلب؟ ولماذا مات؟ وكيف قام؟ ففي هذا السؤال والجواب الصحيح سر اللاهوت كله.

41:2044 «وَقَالَ
لَهُمْ: كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ دَاوُدَ، وَدَاوُدُ نَفْسُهُ
يَقُولُ فِي كِتَابِ الْمَزَامِيرِ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ
يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَإِذاً دَاوُدُ
يَدْعُوهُ رَبًّا. فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟»

المعضلة في أن يكون
المسيَّا ابن داود ويكون هو ربه هي أن الابن هو الأصغر، فداود أكبر من المسيَّا
بحكم أن الأب أكبر من الابن. هذا المأزق الذي وضعهم فيه المسيح يضطرّهم أن يروا
الابن أعلى كرامة من داود. ويُلاحَظ أن المسيح حسب إنجيل ق. لوقا
اختار هذا السؤال بعد أن تعرَّض لمشكلة القيامة. وهنا يأتي الحل: أن ابن داود
بالقيامة من الأموات استُعلن أنه ابن الله، أي رب، وليس أنه أخذ رتبة أعلى بل
استعاد المجد والسلطان الذي له قبل أن يتجسَّد. لذلك هنا أيضاً يظهر بالضرورة
موضوع التجسُّد ثم موضوع القيامة لكي تكمل النبوَّة عن ابن داود ورب داود، أي ابن
داود بسلسال التجسُّد ورب داود باستعلان القيامة ولاهوت المسيح.

لذلك
نشعر من هذين السؤالين أن المسيح (في إنجيل ق. لوقا) بدأ يُعلن عن شخصه المسيَّاني
بتأكيد.

ويُلاحِظ القارئ
العلاقة بين سؤال المسيح هذا والهتاف الذي دخل به أُورشليم عن مملكة داود وابن
داود!!

والمهم أن المسيح نفسه
هو الذي ابتدر بالسؤال ليلفت الأنظار والعقول إلى ما حاول الكتبة والفرِّيسيون أن
يطمسوه في تعاليم المسيح الكثيرة. وكون ق. لوقا يضع السؤال بدون إجابة، واضح جداً
أن الإجابة ليست من زمن السؤال، فالإجابة في القيامة من الأموات التي لم تتم بعد،
والتي حقَّقت ربوبية المسيح بأثر رجعي حتى داود وقبل إنشاء العالم. وهو من الأسئلة
النادرة التي اختارها المسيح ليعلن فيها عن شخصه، وكأنها مُرسلة لنا نحن بني
القيامة كهدية!!

 

6
احذروا من الكتبة

(45:2047) (مت
5:237و14)
(مـر 12: 38
40)

 

مع أن المسيح قام
بعملية نقد شديدة للكتبة في (37:1154)، ولكنه عاد يكرِّر هنا الوضع
بتركيز على سلوكهم وأنواع التعالي الذي يمارسونه بين الناس، وفي الولائم الرسمية
وغير الرسمية، وكيف يبتزُّون الأموال ويستغلون الأرامل ويزيِّفون الصلاة. ويعطيهم
المسيح الدينونة الأعظم!! ولكن مجيء هذا النقد الشديد هنا بعد محاولة المسيح للكشف
عن شخصيته المسيَّانية فيه مهاجمة لتعاليمهم التي طمست معالم شخصية المسيح. لذلك
يعطيهم الويل من هذا الاتجاه الذي أساءوا به إلى الشعب بتعاليمهم المضلَّة.

45:2047 «وَفِيمَا
كَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَسْمَعُونَ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: احْذَرُوا مِنَ
الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ
التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ،
وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ
الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ
دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!»

من
مفاخر التعليم المسيحي أنه يستقي وصاياه وسلوكه ومبادئه من معلِّم هو الرب، يعرف
تماماً

ما يقول، ومارس بالفعل هذه الفضائل، وكان قدوة حقيقية للكنيسة. ثم كشف بعين إلهية
عن مواضع الغش والتزييف في العبادة والتديُّن الكاذب في الصلاة. كم هو ثمين جداً
في أعيننا وفي حياتنا أن نتبع الرب كقائد حياتنا ومسيرتنا بما كان عليه من صفات،
ثم نستوعب في أرواحنا وضمائرنا توعيات المسيح، حتى لا يطغى على العبادة المسيحية
ما طغى على اليهودية على أيدي الكتبة والفرِّيسيين.

لذلك يتحتَّم علينا أن
نقدِّس الكلمة التي قالها هنا بخصوص الكتبة
» احذروا»، حتى لا
تتسرَّب إلى الكنيسة هذه الروح الريائية المستَغلِّة الكاذبة لإتلاف الدين والشعب.

فالمسيح
بهذه النصيحة يضع ما ينبغي أن يكون عليه السلوك، وما ينبغي أن تكون عليه العبادة
والصلاة.



([1]) T. W. Manson, BJRL (Bulletin
of the John Rylands Library),
33, 1950-1, 271-282.

([2]) الخولاجي المقدَّس: أُوشية الراقدين.

([3]) شرحه.

([4]) الأجبية: القطعة السادسة من صلاة الساعة التاسعة.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي