الإصحَاحُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ

 

6 – المسيح
أمام بيلاطس

(1:23-5) (مت
1:27-2و11-14)

(مـر
1:15-5)

(يو
28:18-38)

 

كان
المسيح متعاطفاً مع بيلاطس فهو رمز الأُمم الذين جاء هو ليسفك دمه من أجلهم.
أحبَّه بيلاطس وشهد لبرِّه ونطق ببراءته.

بطرس
أنكر ثلاثاً وبيلاطس برَّأَه ثلاثاً.

بيلاطس
طلب منه أن يعرف ما هو الحق، وكان طلبه هو غاية مجيئه وموته على يديه لتقبله كل
الأُمم.

 

كان اليهود قد فقدوا
منذ مدَّة طويلة سلطة الحكم على إنسان بالقتل، فلم يكن لهم وسيلة إلاَّ الاحتكام
لبيلاطس، فبكل سرعة انتقل السنهدرين بكل هيئته ومعهم المسيح ليمثُلوا أمام بيلاطس.
ويبدأ اليوم في الحكومة الرومانية مبكِّراً جداً، وكان بيلاطس وقتئذ متواجداً في
أُورشليم بسبب العيد، ولكن مقر الحكومة الرومانية كان في قيصرية، علماً بأن بيلاطس
كان يكره اليهود واليهود يكرهونه، وقد اصطدم باليهودية والسامرة. وعقلية اليهود لا
تستطيع أن تتمشَّى مع عقلية قائد قاضٍ روماني ليس له أي صلة بإله اليهود أو آمالهم
في مسيَّا. فماذا يصنع بيسوع الذي قدَّموه إليه ليصلبه وهو ليس قاتلاً وليس له
سوابق تحقيق أو اتهام يدخل تحت سلطانه للحكم بالقتل؟ هذا أدهش بيلاطس منذ بدء
القضية وكان تقريره تهكُّماً:
» قد قدَّمتم إليَّ هذا
الإنسان كمَنْ يُفسد الشعب. وها أنا قد فحصتُ قدَّامكم ولم أجد في هذا الإنسان
علَّةً مما تشتكون به عليه.
«(لو 14:23)

وفي إنجيل ق. يوحنا
يظهر بوضوح مدى جهالة اليهود في تقديم المسيح لبيلاطس إذ أول ما سألهم:
» أية شكاية
تُقدِّمون على هذا الإنسان؟ أجابوا وقالوا له: لو لم يكن فاعل شرٍّ لما كنَّا قد سلَّمناه إليك. فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم واحكموا
عليه حسب ناموسكم!
«(يو 18: 2931). وواضح هنا
أن بيلاطس كان رافضاً هذه القضية من البدء لأنها لا تخصُّه. لذلك وجد بيلاطس أنه
من المستحيل استخدام القانون الروماني على أي مستوى، مما جعله وبحسب القانون
الروماني أن ينطق ببراءته ثلاث مرَّات (يو 38:18، 4:19و6)!!

تقدَّم المرافقون ومعهم
عريضة الدعوى فيها كل الاتهامات بحسب القديس لوقا والتي
تهييء لبيلاطس الأسئلة بخصوص المسيح. ونقط الخطورة في الادعاء زادوها تضخيماً: إن
هذا وُجد يُفسد الأُمة ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر مدَّعياً أنه المسيح الملك.
فابتدأ بيلاطس بمقتضى هذا الادعاء يسأل المسيح: أنت ملك اليهود؟ فأجابهُ: أنت
تقول. فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة بعد الفحص: إني لا أجد علَّة في هذا الإنسان، هذا
أثار القائمين بالاتهام وأخذوا يشدِّدون على ما قالوه إنه يهيِّج الشعب وهو يعلِّم
كل اليهود مبتدئاً من الجليل إلى أُورشليم. فلمَّا سمع بيلاطس أن المسيح جليلي،
أرسله إلى هيرودس أنتيباس الذي كان بدوره في أُورشليم من أجل العيد أيضاً حتى
يسهِّل على بيلاطس الحكم في أمره بتقديم رأيه فيه. وكانت فرصة لهيرودس أن يرى
المسيح إذ كان قد طلب ذلك من قبل (9:9)، ولكن لأن المسيح يعلم أنه يريد أن يرى
آيات، لم يجبه بشيء، ولم يجد هيرودس ما يقوله ضدَّه مما أضعف اتهام اليهود. لذلك
وقفوا يشتكون بشدَّة ضدَّه. فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأوا به وألبسه لباساً
لامعاً إمعاناً في احتقار ملوكيته وردَّه إلى بيلاطس. ومن ذلك الحين صار هيرودس
وبيلاطس صديقين بعد ما كانا في عداوة. وهكذا تمَّت نبوَّة داود النبي في المزمور
الثاني:
» قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين:
لنقطع قيودهما (الرب ومسيحه) ولنطرح عنَّا رُبطهما.
«(مز 2: 2و3)

ملاحظة
هامة:

إذا أراد القارئ أن
يأخذ معرفة دقيقة بمحاكمة المسيح وصلبه عليه أن يعود إلى شرح إنجيل ق. يوحنا
وقراءة نفس المواضع.

1:23و2 «فَقَامَ
كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ
عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ
أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ».

لقد بدأ الاتهام بأصعب
التهم جميعاً من حيث تحريك غضب بيلاطس، ولو أنها فشلت كمحاولة لإثارة بيلاطس في
البداية ولكنها نجحت في النهاية، وكانت نقطة تحوُّل في القضية ضد المسيح بحسب
إجراءات المحكمة عند ق. يوحنا، لأنه عندما كان مزمعاً فعلاً أن يبرِّئهُ صرخوا في
وجهه: إن أطلقت هذا تكون غير محب لقيصر، على أساس أنه يمنع الجزية، مما جعله يعمل
حساب دسائسهم وسلَّمهم المسيح في النهاية ليقتلوه هم.

فقدرة اليهود على معرفة
نقط الضعف في سياسة الحاكم يستخدمونها دائماً لصفِّهم مع التلويح بالتشهير
بالحاكم، وهو نفس الأسلوب الذي يستخدمونه الآن بإحكام في إسقاط رؤساء أمريكا، أو
حتى قتله، كما فعلوا بالرئيس كنيدي ثم قاموا بقتل الذي قتله لكي تضيع القضية.
فسياستهم حتى اليوم كيديَّة مرعبة. وهكذا عرفوا أن يستقطبوه في النهاية لصفِّهم.
ولكن يا لحزنهم فقد كان صلب المسيح نهاية عزِّهِم وسلطانهم وصولجانهم على الأرض.

3:23 «فَسَأَلَهُ
بِيلاَطُسُ قَائِلاً: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَهُ وَقَالَ: أَنْتَ
تَقُولُ».

لقد استطاع اليهود أن
يحوِّلوا تهمة المسيَّا التي لم يفهمها بيلاطس إلى صفة أخرى مستقاة من صفة
المسيَّا وهي أنه ملك. لأن كل المعروف من النبوَّات أن مسيَّا سيكون ملكاً
وكاهناً، وعلى هذا المقدَّر صارت الكنيسة وشعب المسيح ملوكاً وكهنة لله العلي، أي
مسيحيين! هكذا اهتمَّ أعضاء السنهدرين أن يقدِّموا المسيح “كملك”:
» إنه هو مسيح
ملك.
«(2:23)

يُلاحَظ أن بيلاطس هنا
أسقط التهمة الأُولى والثانية وأخذ بالأخيرة لأنها تغطِّي مطالب التحقيق في
التهمتين الأُولى والثانية. وهي أيضاً مشوِّقة للحاكم أن يفحص هذا الملك الواقف
أمامه لأن منظر المسيح لم يكن أبداً يوحي بذلك: الذي أخذ شكل العبد وقد امتلأ وجهه
جروحاً ودماءً من الجروح النازفة من جراء أعمال الاغتيال التي اغتاله بها رجال
حنَّان أولاً ثم رؤساء الكهنة وجُند هيرودس. فاستهوته هذه التهمة ليسأل المسيح:
» أنت ملك
اليهود؟
«هنا في تحقيق إنجيل ق. يوحنا يردّ عليه المسيح: » أمِنْ ذاتك
تقول هذا أم آخرون قالوا لك عنِّي؟
«ثم أجاب المسيح: » مملكتي ليست
من هذا العالم
« فقال له بيلاطس: » أفأنت إذن
ملك؟
« قال: » من أجل هذا
وُلِدتُ!
«الأمر الذي جعل بيلاطس يتراجع ويشهد أنه ليس فيه علَّة!

وفي إنجيل ق. لوقا كان
المسيح يجيبه بنفس طريقته في الإجابة عندما يكون السؤال يحمل حقيقة:
» فأجابه
وقال: أنت تقول
«وبهذه الإجابة يتطابق قول المسيح في إنجيل ق. لوقا مع ما
قاله في إنجيل ق. يوحنا:
» لهذا قد وُلدِتُ أنا ولهذا
قد أتيت إلى العالم …
«(يو 37:18). وردُّ المسيح في إنجيل ق. لوقا يؤكِّد أنه ملكٌ!! وهذا
يضيف إليه صفة الملوكية التي خرجنا بها من هذا التحقيق، مع إعلانه أنه المسيَّا،
وابن الإنسان، وابن الله!!!!

ولكن
ق. لوقا اختصر التحقيق بشدَّة لأن بيلاطس بحسب إنجيل ق. يوحنا دخل أولاً في دار
الولاية وتخاطب مع المسيح وأدرك صدقه ونُطق الحق في فمه، فخرج وقال حُكمه علناً:
» أنا لست أجد فيه علَّة واحدة «(يو
38:18). ويلزم لنا وللتاريخ أن يسجِّل هذا الحكم الذي يُلغي كل ما عداه، خاصة وأنه
كرَّره ثلاث مرَّات!! ويقول العالِم مورجان في شرحه لإنجيل ق. لوقا: إن النطق
المماثل في القضاء الإنجليزي هو “
Not guilty” بمعنى: “براءة”! وبسبب وصول بيلاطس لهذا القرار قطع سير
المحكمة وأوقف الأسئلة
وخرج يدلي بقراره الأخير:
» لا أجد علَّة في هذا الإنسان «

ولكن الذي شلَّ يد
بيلاطس في فك قيود المسيح والإعلان النهائي بالبراءة أنه انتقل من العدالة إلى
السياسة، إذ رأى أن رؤساء الكهنة يثيرون مظاهرة مفتعلة أمام عينيه ويهدِّدونه
بقيصر. وهكذا اتضح الخطر أمامه. فمن أجل سلامة نفسه وعدم تحمُّل مسئولية هياج شعب،
سلَّم لهم المسيح. أمَّا هم فلأجل أن يتخلَّصوا من “مَلِكهم” خانوا أُمَّتهم
وفضَّلوا أن يكونوا أتباعاً لقيصر.

4:23 «فَقَالَ
بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْجُمُوعِ: إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي
هذَا الإِنْسَانِ».

هنا يتقابل تحقيق ق.
لوقا مع تحقيق ق. يوحنا، إذ بعد أن قال له إني لهذا وُلِدتُ أنا ولهذا أتيت إلى
العالم لأشهد للحق، دَخَلَتْ بيلاطس أحاسيس الصدق في قول المسيح فارتعب، وأعلن
براءته للمرَّة الأُولى عن تعاطف شديد وقناعة، مما أخرج رؤساء الكهنة عن وعيهم
وبدأوا يصرخون ويشدِّدون ويهدِّدون بمظاهرة كمظاهرة الرعاع. والمسيح واقف يتعجَّب:
الأُممي انفتح وعيه على الحق وإسرائيل انعمت. بيلاطس يتوافق مع قول المسيح إنه ملك
وإسرائيل تقول لا بل يُفسد الأُمة! بيلاطس يحكم للحق واليهود يشهدون بالزور.
بيلاطس لم يجد في المسيح علَّة واحدة واليهود نسبوا إليه كل العلل:
» إنهم أُمَّة
عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم.
«موسى (تث 28:32)

5:23
«فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ
يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا».

حينما
يطمس الشيطان وعي الإنسان يجعله ينحاز للخطأ بعناد ويرفع يده من الحق ليضعها في
الباطل بحماس، وليس فئة واحدة في إسرائيل بل الجميع بصوت واحد وضدَّ مخلِّصهم وإلى
الموت! وبنظرة شاملة ومن واقع اليهود الآن نرى كيف دفعت إسرائيل على مدى ألفي سنة
حتى الآن ثمن عنادها في الكذب والباطل، لأن المسيح لا يمكن أن يغرِّمها هذه
الغرامة الفادحة إلاَّ إذا كان قد تحقَّق أنها كانت تحس أنه هو المسيح ووقفت ضد
إحساسها خوفاً على موضعها السياسي وإحساساً منها بنجاسة أعمالها. لم تكن إسرائيل
صادقة مع نفسها وأحس المسيح بذلك لأنه لا يَخْفَى عليه ما كانت تعيشه من الداخل
وما تظهر به من الخارج، وكثير من الفرِّيسيين آمنوا به وتردَّدوا خوفاً من بطش
الرئاسة الدينية. وقد فزعت إسرائيل لمَّا وجدت أن الشعب التفَّ حوله وخاصة الحجاج
الذين أتوا من الشتات:

+
» فجمع رؤساء الكهنة
والفرِّيسيون مجمعاً وقالوا: ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن
تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأُمَّتنا.
«(يو 11: 47و48)

+ » خيرٌ أن
يموت إنسانٌ واحدٌ عن الشعب.
«(يو
14:18)

+ » إنه خير لنا
أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأُمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان
رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبَّأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأُمَّة وليس عن
الأُمَّة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد، فمن ذلك اليوم تشاوروا
ليقتلوه!!
«(يو 50:1153)

وفي الحقيقة إن المسيح
طمَّعهم في نفسه بسبب تواضعه الشديد ووداعته التي غلبت عليه وجعلته مأكلاً سهلاً،
بالإضافة إلى الهدف الذي جاء من أجله وأعلنه عدَّة مرَّات أن ابن الإنسان سيُصلب
ويموت. فهو الذي فتح لهم بابه السرِّي، فعميت أبصارهم وظنُّوه فعلاً قابلاً للموت
فقدَّموه للموت للتخلُّص منه وليس ليخلصوا بموته، فأوقعهم في عماهم ونفَّذَ الفداء
بعمل حماقتهم. ولولا أن المسيح عالِمٌ أنه سيقوم من بعد الموت ما سلَّم نفسه
لأيديهم الشريرة، وما وقف هكذا صامتاً أمام بيلاطس!!

 

7
المسيح أمام هيرودس

(6:2312) القديس
لوقا وحده

 

وأخيراً وقف
المسيح أمام الثعلب.

طلب منه آية
ولم يبق له آية إلاَّ آية الصليب!!

 

لمَّا علم بيلاطس أن
المسيح من الجليل أرسله إلى هيرودس أنتيباس لأنه هو والي الجليل لعلَّه يجد مخرجاً
للقضية. فلمَّا رآه هيرودس فرح به لأنه كان يودّ أن يرى منه آية، ولكن إذ علم
المسيح ذلك لم يشأ أن يردَّ عليه بشيء. وهيرودس هو الذي في السابق كان بحسب رواية
الفرِّيسيين يُريد أن يقتل المسيح (لو 31:13). لذلك لم يجد هيرودس في الرجل ما
يقوله، فلمَّا لم يردّ عليه استهزأ به وسلَّمه للعسكر ليهزأوا به وألبسه ثوباً
لامعاً وأعاده إلى بيلاطس. وهكذا صارا صديقين بعد عداوة.

6:2312 «فَلَمَّا
سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ الْجَلِيلِ، سَأَلَ: هَلِ الرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟ وَحِينَ
عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ
كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ الأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَأَمَّا هِيرُودُسُ
فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدًّا، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ
طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ
يَرَى آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ
بِشَيْءٍ. وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ
بِاشْتِدَادٍ، فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ،
وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. فَصَارَ بِيلاَطُسُ
وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا
كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا».

«أرسله»: sent up = ¢nšpemyen

هذه كلمة محاكم وتفيد تحويل
القضية

إلى الجهة المختصة، كما أنها تفيد
رفع القضية إلى محكمة أعلى. لأن
قصد بيلاطس الأساسي هو التخلُّص من هذه القضية بأي شكل، لذلك قَبِلَ هذا الوضع
الأضعف أن يرفع هذه القضية إلى جهة أعلى وهي ليست أعلى إلاَّ بالنسبة إلى المأزق
الذي شعر به بيلاطس. وواضح جداً هذا المأزق لأنه حكم بالبراءة فعلاً فكيف يعود إلى
القضية مرَّة أخرى ويحكم بما يراه اليهود وهو القتل!! وهذه الحركة تمثِّل قمة
المأساة اليهودية.

ونحن نعرف مَنْ هو
هيرودس، فهو الذي كان مشتاقاً جداً أن يسمع المعمدان بسرور (مر 20:6)، وهو
الذي أمر بقطع رأسه ليُرضي امرأة زانية وابنتها بعد رقصة الموت!! هو هيرودس الذي
أرسل يقول:
» هيرودس يريد أن يقتلك « فأرسل المسيح ردّ الرسالة: » قولوا لهذا
الثعلب: ها أنا أُخرج شياطين، وأَشفي اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث أُكَمَّلُ
«(لو 13: 31و32).  والآن تواجه هيرودس مع المسيح وجهاً لوجه. وكان
كل رجاء اليهود ورؤساء الكهنة أن يعمل شيئاً ليحرِّك القضية، فبعد أن سأله كثيراً
والمسيح ينظر إليه صامتاً(!!)، لم يستطع أن يكتب كلمة واحدة عن اتهامه وأرسله إلى
بيلاطس بعد أن أرضى اليهود بإيذائه! والمسيح أيضاً صامت. وكان خوف اليهود شديداً من
هيرودس لئلاَّ يحتفظ بالمسيح ولا يُسلِّمه مرَّة أخرى لبيلاطس ويأمر بإطلاقه.

 

8 – صدور
حُكم الموت

(13:23-25) (مت
15:27-26)

(مـر
6:15-15)

(يـو
39:18-16:19)

 

حكموا على المسيح بالموت،

مع أنه جاء ليرفع عن العالم حُكم الموت.

 

13:2316 «فَدَعَا
بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ، وَقَالَ لَهُمْ:
قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا
أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً
مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً، لأَنِّي
أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ.
فَأَنَا أُؤَدِّبـُهُ وَأُطْلِقُهُ».

هنا
أسقط ق. لوقا كيف أن رؤساء الكهنة وعظماء الشعب رفضوا أن يدخلوا دار الولاية لأن
اليوم كان 14 نيسان، وهو الذي يُذبح فيه الفصح ويُؤكل عشية
15 نيسان، فاضطر بيلاطس أن يخرج
إليهم:
» وكان صبح. ولم يدخلوا هُم إلى دار الولاية لكي لا يتنجَّسوا، فيأكلون الفصح «(يو 28:18).
هنا

بيلاطس مرَّة أخرى في قمة الورطة، فقد رجع
إليه المتهم دون كلمة اتهام واحدة! وها هو قد أنهى
التحقيق معه بإعلان أن
» هذا الإنسان لم أجد فيه علَّة «فماذا هو صانع؟ لقد قرأ عليهم ما سجَّله في قضية المسيح أنهم قدَّموا المسيح كمن يُفسد الشعب، فلا
بيلاطس ولا هيرودس أيَّدا ادِّعاءهم (رؤساء الكهنة) بكلمة. طبعاً هنا
صوت الضمير وصراخ الحق، لأنه قد ظهر تلفيقهم وكذبهم
وشهادات الزور. والصوت المرتفع كان
لإسكات
الشكاية من الداخل: شعب متمرِّس في قتل الأنبياء والمُرْسَلين كما قالها استفانوس
في
وجههم:
» أيُّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم، وقد قتلوا
الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار
«(أع 52:7). لذلك لم يكن بكاء المسيح على أُورشليم من فراغ،
فهوذا اليوم يتحقَّق: لماذا بكى عليها؟ لأنها
أكملت مكيال فجورها؛ إذ وبراءة المسيح قد أُعلنت من فوق منصَّة قضاء الرومان
الذين
ليس من بعدهم ولا من قبلهم مَنْ أضبط القانون، والعالم لا يزال يدرس ويُدرِّس
القانون الروماني، ولكنهم صرخوا في وجه القاضي وهو يؤكِّد براءته من جميع التهم
التي نسبوها إليه. واتهامهم للمسيح بهذه الصورة وتقديم طلبهم أن يُصلب يكشف كيف
قتلوا بقية الأنبياء! لقد بكى المسيح على مَنْ لم يبكوا عليهم.

وقد ظلم بيلاطس نفسه
حينما قال لهم مسترضياً غضبهم بعد أن نطق ثانية:
» لم أجد في
هذا الإنسان علَّة مما تشتكون به عليه
« » فأنا
أُؤدِّبه وأُطلقه
«
أي أدب هذا يا بيلاطس وأنت تشهد كقاضٍ أن المتهم بريء من جميع التهم التي نسبوها
إليه؟ لقد فتح لهم بيلاطس الباب ليضغطوا عليه لمَّا رأوه يتقهقر أمامهم، وأي نسبة
هذه بين أن يؤدِّبه وبين أن يصلبه!

اشهدي يا سماء على ظلم
الإنسان، ليس على الإنسان، بل على المسيح!! فهو تسجَّل على إسرائيل إلى الأبد!
القاضِي على استحياء منهم يطلب السماح بتأديبه، فطالبوه  آمرين بصلبه. وهكذا
برخاوة القاضي ضاع حق المتهم! وويل للقاضي الذي ينثني بالعدالة تحت ضغط التهديد.
فقضية المسيح عبرة لكل قضاة العالم في كل زمان ومكان، كيف ضاع حق ابن الله بسبب
ميوعة القاضي إزاء شراسة المدَّعي، وانتقل الحكم من تأديب بالعصي إلى صلب بعد جلد.

لقد قدَّم بيلاطس هذه
الفكرة الوسط كحل أن يؤدِّبه ويطلقه، فكانت هذه هي الكمَّاشة التي استخرجوا بها من
فمه النطق بالصلب. يقول الإنجليز مقولة مشهورة لأحد قادتهم: [تحت ظروف خاصة يكون “الحل
الوسط”
وضعاً لا أخلاقياً، وتكون كلمة: “حل وسط
compromise” أكثر كلمة لا أخلاقية في اللغة الإنجليزية]([1]).
وواضح هنا صدق هذه المقولة في محاكمة بيلاطس للمسيح! فالحل الوسط يا بيلاطس يكون
صحيحاً إذا لم يكن هناك مبدأ أخلاقي يُهدم أمامك، وروح ربما تُزهق من التأديب الذي
شَبِعَتْ منه طول المساء وفي الصباح وعند هيرودس في الظهر! بل وكل مَنْ يسعى في حل
وسط يُضار فيه مظلوم أو مُضطَّهد يُعتبر فعله بحد ذاته جريمة. نعم كم من مساجين
أبرياء استُعيض لهم عن السجن بالتأديب، فأُزهقت أرواحهم. وهكذا دخل التأديب في بند
القتل!!

17:2319 «وَكَانَ مُضْطَرًّا أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً، فَصَرَخُوا
بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: خُذْ هذَا
وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!
وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي
الْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ».

يا ليتهم ما كانوا قد
طلبوا هذا الطلب الذي تسجَّل عليهم إلى الأبد، إذ اختاروا تبرئة قاتل وقتل بريء،
وهكذا أفسدوا القضاء وقلبوا الحق زوراً والزور حقًّا، وقد أمسكها عليهم ق. بطرس:
» يسوع، الذي
أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس، وهو حاكم بإطلاقه. ولكن أنتم أنكرتم
القدوس، البار وطلبتم أن يُوهَب لكم رجلٌ قاتل. ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه
الله من الأموات.
«(أع 3: 1315)

 

موضوع
باراباس:
Bar Abbas

أولاً
باراباس ليس اسماً بل هو لقب ومعناه ابن الأب، بتحقيق العلاَّمة مورجان، وهو لم
يكن

قاتلاً بل كان مسئولاً عن فتنة حصل فيها قتل،
وكانت الفتنة في أُورشليم، أي أنه كان قائداً سياسياً أحدث
فتنة. أمَّا من
جهة اسمه فيقول العلاَّمة أوريجانوس إنه حصل على مخطوطتين بحثهما وتحقَّق من
صحتهما، وفي المخطوطتين أُعطي اسمه بوضوح أنه
كان يُدعى: “يسوع باراباس”، وهو نفس اسم ولقب يسوع.
المسيح. ويقول العالِم
مورجان إنه كان مسيحاً كاذباً (كمسحاء كذبة كثيرين ظهروا في الأجيال الأخيرة قبل
المسيح). فهذا لمَّا قام بادِّعاء أنه المسيَّا لُقِّب “بارأبّاس”، علماً بأن هذا
اللقب الذي اشتهر به وسُجن به وذُكر اسمه أمامنا، يفيد ادعاءً مسيَّانياً بوضوح.
وهكذا تتضح لنا الفتنة، وهي الادعاء بطرح نير
الرومان، وادعاؤه أن يقود الأُمة للخلاص. ثم نستشف من قول بيلاطس في إنجيل ق. متى:
» وكان
لهم حينئذ أسير مشهور يُسمَّى باراباس
«(مت 16:27)، أن القول بأنه «كان لهم
أسير»،
يعني أن باراباس كان يتبع السنهدرين، ولكن إذ قُبض عليه ووُضِعَ في
السجن كان سعيهم حثيثاً لإخراجه، لأنهم في ما يبدو أنهم كانوا متواطئين معه! ثم
أضاف بيلاطس:
» مَنْ
تريدون أن أُطلق لكم. باراباس أم يسوع الذي يُدعى المسيح؟
«(مت
17:27). إذن، بيلاطس كان يعلم أن هناك “يسوع يُدعى بارأبّاس” و“يسوع يُدعى
المسيح”. وهذا هو مفتاح قضية باراباس، وتورُّط اليهود معه، ورغبتهم بإلحاح
لإخراجه، وتوسُّلهم السابق لبيلاطس من أجل الإفراج عنه. ولأن بيلاطس يعلم أهمية
الإفراج عنه بالنسبة لهم، أراد أن يشتري بصفقة إخراج باراباس لهم إعطاء يسوع
المسيح حكم البراءة. ولكن لم يدرِ بيلاطس أنه يتفاوض مع يهود! الذين أجبروه على
إخراج يسوع باراباس، وصلب يسوع المسيح.

ولكن نستشف بالأكثر من
علاقة السنهدرين بباراباس أنهم كانوا موافقين، ولا يزالون، على إقامة حكم مسيَّاني
بالقوة وعلى مستوى سياسي حربي لرفع شأن الأُمة والانتقام من أعدائها. ومن تمرُّسهم
في تحقيقات الحكومة الرومانية مع باراباس وكيف قبضت عليه السلطة الرومانية، أرادوا
أن يطبِّقوا خبرتهم السابقة مع باراباس في شخص يسوع المسيح، وبنفس التهم!!

وأخيراً
فازوا بأسيرهم المحبوب وقتلوا المسيح! لقد سلَّمهم بيلاطس المسيح ليذبحوه بعد أن
ذَبَحَ هو ضميره.

20:2322 «فَنَادَاهُمْ
أيْضاً بِيلاَطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ، فَصَرَخُوا قَائِلِينَ:
اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ! فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هذَا؟
إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ».

لا
يزال القاضي واثقاً من براءة المتهم أمامه، ولكن خوفه الظاهر من هذا الشعب جعله
يستجدي منهم الحكم بالبراءة مما جعلهم كالنمور أمامه، وبصراخهم الشرس شوَّشوا على
النطق

بالحق، حتى عاد وكرَّرها ثالث مرَّة ليسجِّلها عليهم:
» إني لم أجد
فيه علَّة للموت
« والإنسان يُدهَش،
فلماذا تحكم بالقتل؟ والقديس لوقا هنا أسقط التهديد الذي ابتزُّوا به حكم الإعدام
إذ قالوا له:
» إن أطلقت هذا فلست محبًّا لقيصر. كل مَنْ يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر «(يو 12:19)، » فلمَّا سمع بيلاطس هذا
القول أخرج يسوع، وجلس على كرسي الولاية في موضع يُقال له البلاط وبالعبرانية
جبَّاثا … فحينئذ أسلمه إليهم ليُصلب
«(يو 19: 13و16). وهكذا يمكن أن يُقال إن اليهود حكموا على
المسيح بالصلب بلسان بيلاطس! أمَّا بيلاطس فقد حكم بالبراءة ثلاث مرَّات (لو 23: 4و14و22).

23:2325 «فَكَانُوا
يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ
أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ
تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ
فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، الَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ».

إنه عسير علينا أن نقول
إن بيلاطس
([2]) كان غير
عادل، ولكن من الأصعب جداً أن نقول إنه كان عادلاً فقد حكم بالبراءة وحكم بالقتل
بآن واحد!! حكم بالبراءة لحساب ضميره، وحكم بالقتل لحساب شعب بلا ضمير! فنحن في
حيرة من أجل هذا القاضي المتخاذل، ولكن حيرتنا أعظم من أجل هذا الشعب المرائي.
إنها قضية التاريخ التي سجَّل فيها الإنسان على نفسه أبشع الصفات، والتي سجَّل
فيها الله لحساب الإنسان أروع الاحتمال والبذل والفداء والمحبة.

 

( ج ) صلب يسوع

(26:23-49)

 

صلبوا المسيح وما دروا
أنهم قد صلبوا البشرية كلها فيه.

وما أرادوه له ذُلاًّ
ومرارة أراده هو لهم خلاصاً.

وسلَّمهم بيلاطس
المسيحَ ليذبحوه بعد أن ذبح هو ضميره.

 

إن رواية ق. لوقا عن
صلب المسيح تتميَّز عن باقي الأناجيل ببعض المفردات، فيسجِّل للمسيح أثناء مسيرة
الصليب في موضوع بكاء النسوة بنات أُورشليم، ما أعطاه من نبوَّة على أُورشليم
ونسائها. ويركِّز أيضاً على اللصَّين اللذين صُلبا مع المسيح فيسجِّل لهما حديثاً
ودُعَاءً جميلاً. وفي رواية ق. لوقا لا نجد حملات الاستهزاء به وهو مصلوب،
ويتأخَّر قليلاً في ذكر العنوان الذي كُتب على الصليب فوق رأس المسيح. ثم يسجِّل
حديثاً دار بين المسيح واللصَّين، حيث يَعِدْ أحدهما بأن يكون معه اليوم في
الفردوس. ثم في النهاية مخاطبة المسيح للآب بعبوره الواثق من الحياة. ويشهد قائد
المئة أخيراً على براءة المسيح وبرِّه، ويبدو أن هذا تسرَّب إليه من ضبَّاط
المحكمة.

 

1 – الطريق
إلى الجلجثة

(26:2331) (مت
32:27)

(مـر
21:15)

(يـو
16:19و17)

 

ساقوه إلى
هناك بخطىً وئيدة حيث مصيره،

ومصيره هو
كان مصير العالم كلَّه!!

وما كان له
طريق الموت، صار لنا طريق الحياة.

 

26:23 «وَلَمَّا
مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِياً مِنَ
الْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ».

ينقل هذا الخبر ق. لوقا
عن ق. مرقس، وهو الوحيد الذي ذكر اسم ابنَي الرجل الذي حمل الصليب عن المسيح. وقد
اكتشف العلماء أن ق. مرقس اهتم بذِكْر اسم الرجل مع اسم ابنيه ليوجِّه نظر القارئ
إلى القرابة التي بين سمعان هذا وق. مرقس، لأنهما من بلد واحد وهي كيريني أو
سيريني أو القيروان أو كيرينؤس بليبيا،
ويمت إلى ق. مرقس بقرابة، لذلك يؤكِّد ق. مرقس في إنجيله أن سمعان هذا هو أبو
ألكسندر وروفس وهما زميلا ق. مرقس ربما في المدرسة. ويُعتقد أن سمعان وأولاده
كانوا ساكنين نفس بيت ق. مرقس، ويُعتقد أن سمعان هذا هو الذي تقدَّم من نفسه وحمل
الصليب دون أن يسخِّره أحد، لأنه كان يوم الفصح، ومن غير المعقول أن يكون سمعان
هذا قد ذهب إلى حقله خارج المدينة.

والمعروف أن المسيح حمل
خشبة الصليب من دار الولاية حتى باب أُورشليم، ولكنه لم يستطع المشي بها إذ وقع
تحت الصليب أكثر من مرَّة، مما لفت أنظار الجندي المرافق فاستغاث بسمعان. والكنيسة الكاثوليكية تُحيي ذكرى درب الصليب كل سنة
وتقيم ذكرى كل مرة سقط فيها تحت
الصليب.

ليس مَنْ يُدرك معنى
الصليب إلاَّ مَنْ جاز آلاماً عنيفة مظلوماً ورَضِيَ بها. فمضمون الصليب آلام!
ولكن آلام المسيح اختارها لمَّا اختارها له أعداؤه. وُضِعت عليه فوضعها على نفسه،
ولمَّا عيَّروه على الصليب رحَّب بالمعيرة، ولمَّا شعر بدنو الموت سلَّم روحه في
يد الآب حتى لا تُنزع منه دون إرادته. حدَّد أيام موته قبل أن يموت لتكون قيامته
بإرادته. وهكذا بإرادته مات، وبإرادته قام بعد أن أكمل بالموت رسالته وحقَّق قولاً
قاله:
» لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً «(يو 18:10). وصية أخذها من الآب ونفَّذها، ولمَّا نفَّذها عاد
إلى الآب قائلاً:
» العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته! «(يو 4:17)

27:2329 «وَتَبِعَهُ
جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ
أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: يَا
بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ
وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا:
طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ
تُرْضِعْ».

كان
الجمهور الذي يتبع المسيح، وهو حامل الصليب، في حالة ذهول، لأنه كان لتوِّه يسمع
المسيح في
الهيكل كل يوم معلِّماً؛ لذلك لم يكن أحد يستهزئ، وهذا واضح من بكاء النسوة. وهنا
يكمِّل المسيح نبوَّته عن أُورشليم وما ستعانيه من جوع وحرمان وضيق عظيم حتى أن
الحوامل سيُنكَّل بهن وأولادهن يُقتلون. والقديس لوقا هو الوحيد الذي أورد هذا
التقليد. كانت النسوة اللاتي يتبعن المسيح من أُورشليم وليس الجليل، وتلميح المسيح
بقوله أن يَنُحْنَ على أولادهن، يفيد أن أولادهن سيكونون طعمة لنيران حرب قادمة،
وهذا يفيد أن المحنة المُشار إليها ستأخذ مقدار جيل حتى يحين أمرها. أمَّا القول
الذي سيُقال في هذه الأيام التي ستأتي أن طوبى للعواقر، فمعناه أن الأولاد الصغار
سيموتون جوعاً، وأمَّا الويل للأثداء التي تُرضع، فمعناه أنه سيكون الجوع شديداً
حتى لا يوجد في الثدي ما يُرضع. وقد تمَّ هذا كله وبكل حروفه.

30:23و31 «حِينَئِذٍ
يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا، وَلِلآكَامِ:
غَطِّينَا. لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بَالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا،
فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟»

يبدو لنا أن هذه الآية
مأخوذة من نبوَّات آخر الزمان التي ستكون فيها الطبيعة ثائرة، والناس من الخوف
والرعبة يتمنُّون أن يموتوا جملة من هول هذه الأيام. لأن الذي حدث في أُورشليم كان
مجرَّد حرب والفزع فيها من الجوع والموت. أمَّا قول الرب بالعود الرطب فيقصد به
الخشب الأخضر الذي لا تأكله النار، فإذا أكلت النار العود الأخضر، فماذا يُصنع بالعود
الجاف؟ طبعاً هذا تعبير عن الشدَّة القادمة، وبالأكثر إن كانوا قد عملوا هكذا
بالمسيح، فماذا يصنعون بالناس الضعفاء؟

 

2 – الصــلب

(32:23-38) (مت
33:27-37)

(مـر
22:15-32)

(يـو
18:19-24)

 

لولا الصليب
ما عرفنا أننا خطاة،

وما قدَّمنا
توبة أو جزنا غفراناً،

بالصليب
انكشف لنا سر محبة الآب،

وسر طاعة
الابن، والموت من أجل الخطاة!!

 

رواية موت المسيح تسير
على نسق واحد من أولها إلى آخرها، يصعب تقسيمها، ولكن هنا يصف ق. لوقا كيف تمَّ
صلب المسيح مع لصين. وما يندهش له كل إنسان أن المسيح على الصليب غفر لصالبيه ما
يعملون بينما الجنود مشغولين بتقسيم تركة ملابسه. وكل شيء يسير حزيناً إلاَّ مجيء
رؤساء الكهنة الذين جاءوا ليطمئنوا على موته، وبدأوا يعيِّرونه بقدر ما سمحت به
أخلاقهم. ولمَّا رأوا الكتابة فوق رأسه: “ملك اليهود”، جُنَّ جنونهم وذهبوا
يحتجُّون لبيلاطس، وبيلاطس في هدوء العجرفة الرومانية ردَّ عليهم:
» ما كُتب قد
كُتب
«

32:23و33 « وَجَاءُوا
أَيْضاً بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. وَلَمَّا مَضَوْا
بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى جُمْجُمَةَ صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ
الْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ».

من أكثر المواقف مدعاة
للتأمُّل الحزين العميق أن يؤتَى بلصَّين ليُصلبا معه، فهما بالأصح يُعتبران عنوان
المسيح الحقيقي:
» وأُحصي مع أثمة «كما قالها
بنفسه (لو 37:22)، لأنه جاء ومات وارتفع من أجل الخطاة. فوظيفة المسيح العملية يعبِّر
عنها هذان اللصان بكل معنى، ويزيد الموقف جلاءً بأن يأخذ واحد منهما غفراناً
كاملاً ووعداً إلهياً بأن يذهب إلى الفردوس برفقة المسيح!! فالعنوان يُقرأ هكذا:
أن حُسب المسيح مع الخطاة في حياته كلها وفي مماته أيضاً، من أجلهم جاء ومن أجلهم
مات ومن أجلهم ارتفع!! حسبها أعداؤه له عاراً، وحسبها المسيح لنفسه انتصاراً.

34:2338 «فَقَالَ
يَسُوعُ: يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا
يَفْعَلُونَ. وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا
عَلَيْهَا. وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً
مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ
قَائِلِينَ: خَلَّصَ
آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ.
وَالْجُنْدُ أَيْضاً
اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ
لَهُ خَلاًّ، قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ
نَفْسَكَ. وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ
وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: هذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ».

هكذا باشر المسيح
رسالته من فوق الصليب غفراناً لصالبيه وغفراناً للصِّ اليمين؛

معلناً بذلك أن الصليب
جزء حيّ من رسالته لا يوقفه عن العمل بل يزكِّي ما يعمله.

فعلى خشبة الصليب وعلى
جسده المقدَّس المبارك حمل خطايا البشرية وعارها ولعنتها:
» الذي حمل هو
نفسه خطايانا في جسده على الخشبة
لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر. الذي
بجلدته شُفيتم.
«(1بط 24:2)

» والرب وضع
عليه إثم جميعنا.
«(إش
6:53)

عيَّروه بأن قالوا له:
إن كنت أنت المسيح ابن الله فانزل عن الخشبة،

ولكنه بقي على الخشبة
لأنه هو المسيح ابن الله.

“خلَّص آخرين فليُخلِّص
نفسه”، وهو الذي صلب نفسه لكي يخلِّص آخرين!

وهكذا كانوا في معايرته
له:
» أُمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم. «(“موسى” تث 28:32)

عيَّره الجند قائلين:
“إن كنت أنت ملك اليهود فخلِّص نفسك”، وهو سلَّم نفسه للموت لكي يكون ملك الملوك
ورب الأرباب!

أمَّا الكتابة أعلى
الصليب باليونانية واللاتينية والعبرية فلأنهم بصلبه ملَّكوه على كل العالم.

 

3 – اللصَّـان

(39:23-43) القديس
لوقا وحده

 

أحبَّ
الخطاة حتى دبَّر لكي يُصلب في وسطهم.

 

هذه الرواية هي للقديس
لوقا فقط، حسبها العلماء أنها قلب قصة الصلبوت في رواية ق. لوقا. إذ بينما في
إنجيل ق. مرقس نسمع عن معايرة اللصين للمسيح فقط، نجد في رواية ق. لوقا أن واحداً
منهما انحاز لرؤساء الكهنة فشاركهم التعيير، أمَّا الآخر فانفتحت بصيرته وانتهر
اللص الآخر كمَنْ لا يخاف الله “لأننا نحن نستحق ما نحن فيه، وأمَّا هذا
أي المسيح فلم يعمل
شيئاً ليس في محلِّه”. ثم قال للمسيح قولته المشهورة التي لفَّت الدنيا بأسرها
وصارت أنشودة الكنيسة المفضَّلة يوم طقوس الجمعة الحزينة في كل سنة:
“اذكرني يا
رب متى جئتَ في ملكوتك”.

39:2343 «وَكَانَ
وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنْ
كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا! فَأَجَابَ الآخَرُ
وَانْتَهَرَهُ قَائِلاً: أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا
الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ
مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.
ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ.
فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي
فِي الْفِرْدَوْسِ».

لمَّا سَمِعَ اللص
الأول رؤساء الكهنة والجند، قال للمسيح ما قالوا وهو لا يدري ما يقول. أمَّا اللص
الطوباوي وهو يمثِّل النصف الذي آمن بالمسيح، فاعتبر الصلب بالنسبة له استحقاقاً،
ونظر إلى المسيح وأحسَّ بروحه أنه لم يعمل شيئاً يستحق هذا التعذيب. فلمَّا ابتدأ
يُدافع عن المسيح حُسب من خاصته وانفتحت عيناه ورآه ربًّا وصاحب مُلك، فتوسَّل أن
يذكره مجرَّد ذكرى في ملكه العتيد. فما كان من المسيح إلاَّ أنه دعاه في الرحلة
الملكية التي سيقوم بها اليوم إلى الفردوس. ويأتي كلام هذا اللص كبشرى سعيدة لفتح باب الخلاص والملكوت معاً، ويكون اللص أول مَنْ
سيُنعَم عليه
بهذا الإنعام؛ وكانت
نفسها هي أيضاً تعبيراً عن مستوى الإيمان بالصليب في من يرفض وفي من يحمله
ويتبع!!

وهكذا افتتح اللص
اليمين درب الصليب الذي سارت فيه أجيال وأجيال.

ما أعجبك أيها اللص
الذي جعلت لنا من الصليب نشيداً.

وبجرأة
إيمان شهدتَ للمسيح في أضعف حالاته، في الوقت الذي جدَّف فيه رئيس الكهنة وشعب
بأكمله.

 

4 – موت
المسيح على الصليب

(44:23-49) (مت 45:27-56) (مـر
33:15-41)

(يـو
28:19-30)

 

+ «ولكن
الله بيَّن محبَّته لنا، لأننا ونحن بعد خطاةٌ مات المسيح لأجلنا.»
(رو 8:5)

 

وأثناء ما كان المسيح
على الصليب معلَّقاً حدث حادثان ذوو مغزى لاهوتي كبير: الأول وقوع ظلمة على الأرض،
والثاني انشقاق حجاب الهيكل. الأول كان اشتراكاً من السماء في انطفاء النور
الحقيقي على الأرض. وفي إنجيل ق. مرقس جاءت الظلمة معبِّرة عن اختفاء وجه الله عن
المسيح:
» لماذا تركتني « وهذا غير موجود في إنجيل ق. لوقا. أمَّا الحدث الثاني فهو تعبير
لاهوتي عن أن بموت المسيح انتهى عصر إسرائيل الذي كان فيه الحجاب (جسد الخطية)
يحجز الإنسان عن الله؛ أمَّا بعد موت المسيح
ودفع ثمن الخطية فقد انفتح للإنسان، كل مَنْ آمن، وصار بيت الله يسع الأُمم

مع إسرائيل بالمصالحة التي أكملها المسيح بموته عن خطايا العالم بكل أُممه، فانفتح
طريق الأُمم إلى الله.

وبعد حادثي الظلمة
وانشقاق الحجاب، صرخ المسيح بصوت عظيم
» قد أُكْمِل « وقدَّم لأبيه
صلاة الثقة باستيداع روحه عنده، ولكن في إنجيل ق. مرقس يكتفي بالقول إنه:
» أسلم الروح «فقط، ولم
يأتِ بكلمة
» يا أبتاه في يديك « وهذا يكشف أسبقية ق. مرقس في المفهوم الروحي أن المسيح أسلم روحه
أو نفخها بمعنى أصح، ليوضِّح أنه بإرادته مات:
» لي سلطان أن
أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً
«(يو 18:10). وهذا أيضاً ينفي أن يكون للذي له سلطان الموت أي
لإبليس (عب 14:2) أيُّ دخلٍ مطلقاً في موت المسيح. كذلك احتفاظ المسيح بروحه في
سلطانه جعل الجسد في القبرملفوفاً بالحياة يحمل روح القيامة: الجسد مات، ولكنه
مهيَّأ للقيامة بسلطانه. لذلك قيل إن الموت لم يَسُدْ على المسيح، بل هو الذي ساد
عليه، بل داسه، بل ألغى قوته. وبقي الجسد بعيداً عن الفساد إلى أن أكمل المسيح
ثلاثة أيام تقريباً، لنفْيِ أي فكر عن كونه لم يمت. ولمَّا أسلم المسيح روحه بهذا
الجلال شهد قائد المائة أنه بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً. الذي يقابله في إنجيل
ق. مرقس:
» أنه ابن الله «

وكان
جمع من الجليل رجال ونساء جاءوا وشاهدوا موت المسيح، وذهبوا حزانى يدقُّون الصدور.
وكان من الواقفين نسوة كثيرات سيكون لهن دور في القيامة.

44:2346 «وَكَانَ
نَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ، فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا
إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. وَأَظْلَمَتِ الشَّمْسُ، وَانْشَقَّ حِجَابُ
الْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ. وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: يَا
أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ
الرُّوحَ».

واضح أمامنا أن هناك
عاملين كانا وراء هذه الظلمة: اشتراك السماء في التعبير عن اختفاء وجه الآب عن
المسيح:
» إلهي إلهي لماذا تركتني؟ «حتى تكمل
مواصفات اللعنة التي قَبِلَها الجسد (أي البشرية الممثَّلة فيه)، كعقوبة وقعت على
آدم ونسله باختفاء وجه الآب، وبذلك يكون المسيح والبشرية فيه قد حمل اللعنة من أجل
الإنسان والغضب الذي وقع على البشرية فيه. والعامل الثاني تعبيراً عن اختفاء النور
الحقيقي عن عالم الجحود.

أمَّا انشقاق حجاب
الهيكل فتفسيره لاهوتي، إذ رُفع الحاجز المتوسِّط
الخطية بين
الإنسان والله، وصار الدخول بجراءة إلى الآب بواسطة المسيح.

وهنا في إنجيل ق. لوقا
ينبغي أن نوضِّح أن الزيادة التي أتى بها ق. لوقا وهي:
» يا أبتاه في
يديك أستودع روحي
«أقل توضيحاً للمضمون اللاهوتي من العبارة
الأصلية التي نقلها من إنجيل ق. مرقس وهي:
» وأسلم الروح « فالمسيح بحسب اليونانية تنفَّس روحه خارجاً ™xšpneusen
(مر 37:15، لو 46:23)، والتي نقولها بالإنجليزية
expire
أي أخرج نَفَسَه الأخير، أي لم تُنزع منه روحه ولم ينتظر حتى يستولي عليها
الشيطان، بل روحه ملكه. علماً بأن المسيح بصفته الابن حامل الحياة الأبدية أو هو
الحياة الأبدية التي كانت مخفية عند الآب وأُظهرت لنا كما يقول ق. يوحنا في مطلع
رسالته الأُولى، فإن كان المسيح هو “الحياة” يتحتَّم أن يكون الموت إرادياً وليس مفروضاً
عليه. فالجسد الميت في القبر ظلَّ حاملاً الحياة الأبدية التي بها قام الجسد، ونحن
فيه.

47:2349 «فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ مَا كَانَ، مَجَّدَ
اللهَ قَائِلاً: بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هذَا الإِنْسَانُ بَارًّا! وَكُلُّ
الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهذَا الْمَنْظَرِ، لَمَّا
أَبْصَرُوا مَا كَانَ، رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ. وَكَانَ جَمِيعُ
مَعَارِفِهِ، وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَاقِفِينَ مِنْ
بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذلِكَ».

كان قائد المئة واقفاً
يراقب المكان ولكن كانت عيناه على المسيح المصلوب وكيف تصرَّف في آلامه وفي موته،
فرآه ليس إنساناً عادياً وفرضت عليه رزانة المسيح أن يشهد لبرِّه. وأصل هذه
الشهادة في إنجيل ق. مرقس هي أنه ابن الله. مما يوضِّح أن موت المسيح كان مضبوطاً
بالروح التي فيه، فلم يخرج عن رزانته في أشد أنواع الآلام.

أمَّا الرجال والنساء
الذين كانوا قد تبعوه من الجليل وبقوا في أُورشليم لحضور العيد فالتفُّوا حول
الصليب من بعيد ينظرون ما حدث، ومن هؤلاء مَنْ أعطى شهادة رؤيته التي تسجَّلت
كتقليد استلمته الكنيسة. وبعد أن أسلم المسيحُ الروحَ ذهبوا حزانى يدقُّون الصدور
من شدَّة هول ما رأوا، لأنه كان بعضهم غير مستعد أن يَعلْم أن المسيح سيموت،
فمعظمهم كانوا يترقَّبون استعلان ملكوت الله واستعلان المسيَّا. ولكن جاء موت
المسيح مخيِّباً لفكرهم المحدود، كاشفاً أن بموته انفتح باب الحياة الأبدية.

 

( د ) قيامة المسيح

(50:23-53:24)

 

1 – دفن
المسيح

(50:23-56) (مت
57:27-61)

(مـر
42:15-47)

(يـو
38:19-42)

 

كان الرقاد
الأخير على التراب نهاية لإنسان الخطية والموت.

وكان للمسيح
بداية لإنسان الحياة الأبدية.

 

رواية الدفن في إنجيل
ق. لوقا ولو أن معظمها مأخوذ من إنجيل ق. مرقس، ولكن لها طابعها الخاص وميلها إلى
تقليد إنجيل ق. يوحنا. وقد أوجزها في سطور قليلة. وفي رواية الدفن عامة تبرز شخصية
محترمة
» يوسف الرامي «ويبدو أنه كان من رؤساء
الشعب من مدينة الرامة، وكان باراً ينتظر ملكوت الله. هذا تجاسر وذهب لبيلاطس وطلب
جسد المسيح ليدفنه. وفي إنجيل ق. مرقس نسمع أن بيلاطس اندهش لموت المسيح سريعاً
وبحث الأمر مع قائد المئة وصرَّح ليوسف بالدفن. وأجرى يوسف الدفن على عجل لأن
السبت كان قد ابتدأ يلوح، بمعنى غروب الشمس. وكانت النسوة اللاتي من الجليل واقفات
ينظرن، واتفقن أن يشترين حنوطاً ويأتين فجر الأحد لتحنيط الجسد. وهكذا ذهبن وأحضرن
الحنوط والأطياب واسترحن السبت.

50:2353 «وَإِذَا
رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارًّا. هذَا لَمْ
يَكُنْ مُوَافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ
لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللهِ. هذَا تَقَدَّمَ
إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ، وَأَنْزَلَهُ، وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ،
وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ».

يوسف الرامي كان مشيراً
بمعنى كان عضواً في مجلس السنهدرين. وهذا يجعل عمله هذا فيه مجازفة كبيرة لأن
الاعتناء بجسد يسوع يعني انحيازاً له، ثم قول ق. لوقا إنه كان غير موافق لرأيهم،
أي رأي السنهدرين، بقتل يسوع يجعل خدمته للجسد أكثر خطورة، وذهابه لبيلاطس أمر
يثير الريبة لأنه ليس من عائلة المسيح. وفي إنجيل ق. مرقس يندهش بيلاطس أن المسيح
هكذا قد مات سريعاً. وبعد أن استفسر من قائد المائة أعطاه الإذن بالدفن. وإنزال
الجسد من فوق الصليب ليس هيِّناً، ففي إنجيل ق. يوحنا تواجُد نيقوديموس معه
وهو مثل
يوسف عضو في السنهدرين
أعطى فرصة أسهل لإنزال
الجسد، ونيقوديموس هو الذي أسرع واشترى ما يلزم. وقاما بلف الجسد وإيداعه المغارة
المنحوتة التي لم يُدفن فيها أحد قط. وجاءت النسوة بعد ذلك في فجر الأحد بقصد
تكميل تحنيط الجسد، ولكن سبقهم المسيح في القيامة.

قصة، وكأننا نتكلَّم عن
إنسان عاديٍّ مات ودُفن، هكذا جعل الله هذه المشاركة مع البشرية المتعبة الحزينة
مشاركة فعلية، وكأنه أرسل ابنه ليحضر موت وجنازة كل إنسان والدفن أيضاً. ولكن كونه
يُعمل فيه هو هكذا مشاركة منه لنا فهذا أمر خارق للعقل، فلو كان قد أرسل ابنه
لمجاملة البشرية في موتها وأحزانها لكان عملاً عجيباً ومذهلاً. ولكن أن يتألَّم
هكذا ابن الله ويُصلب ويموت ويُدفن هو نفسه، ثم يحمل خطايانا في جسده ليُعتبر أمام
أبيه خاطئاً من أجل كل خاطئ ليطلب له البراءة، ويموت من أجل كل إنسان لكي لا يموت
كل إنسان، كل مَنْ آمن به واتحد! فهذا اليوم الحزين الذي صُلب فيه المسيح ومات
ودُفن، هو ليس يوم ابن الله بل يوم الإنسان، يوم البشرية كلها التي يلزم أن تدرك
عمق ما صنع الله الآب في ابنه من أجل كل واحد، كل مَنْ يؤمن.

عوض أن يُحاكَم كل
إنسان حوكم هو، وعوض أن يُجلد ويُهان كل إنسان من أجل ما اقترف من الذنوب والخطايا
جُلد هو بأعنف ما تكون القسوة مع كراهية شديدة جعلت الآلام مضافاً إليها تشفِّي
الحاقدين، فصارت الآلام مُرَّة على النفس الوديعة التي قدَّمت نفسها فدية عن
الخطاة جميعاً. فلو كانوا قد حكموا عليه بالموت فقط لكان هذا فيه كل الكفاية
لمشاعرنا، ولكن أن يُضرب على الظهر بالسياط وعلى رأسه بالعصا ويُتفل في وجهه
ويُصفع بالقلم وأخيراً يُساق حاملاً صليبه، وتُدق في جسده المسامير وينزف حتى
الموت
هذا يثير
فينا حزناً مريراً. ولكن بعد كل هذا نعرف أكيداً أنه احتمل هذا كله من أجلك ومن
أجلي، فهذا لا يمكن أن نحتمله ولا نقبله ولا تكون لنا راحة ضمير حتى نعترف
بخطايانا له التي سبَّبت كل هذه المحنة العظمى. وبهذا فقط نكون قد فهمنا آلامه
وموته ليرتاح قلبه من جهتنا، حتى لا تكون آلامه وموته وكأنها قد أكلها الزمن وفقدت
قوتها ومعناها.

المسيح لا يزال يُلحّ
علينا باسم آلامه وصليبه وموته، وهذه أفعال دائمة وأبدية، أن نقبل تكفيره الذي
أكمله من أجلنا وإلاَّ فإنه يشعر بخسارة أتعابه وآلامه وكأنها لم تأتِ بمفعولها
وهدفها. ومن السهل أن ندرك كونه إلهاً أن موته بفعل شمولي ودائم يستحيل أن يستنفده
أي عدد من البشرية، فموته كفعل دائم وشامل يعمل في الفرد كما يعمل في كل البشرية،
ولهذا إذا وُجد فرد واحد يرفض آلامه وصليبه يجرح مشاعره، ولا نقول عن أي فرد ولكن
الفرد الذي يكون قد اكتشف صدق المسيح وحقيقة أعماله ومرارة آلامه وموته! ولسان حال
المسيح وكأنه يتوسَّل: اقبلوا آلامي، اقبلوا صليبي، اقبلوا موتي، صدِّقوني هذا كله
من أجلكم!!

54:2356 «وَكَانَ
يَوْمُ الاِسْتِعْدَادِ وَالسَّبْتُ يَلُوحُ. وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ
أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ.
فَرَجِعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي السَّبْتِ اسْتَرَحْنَ
حَسَبَ الْوَصِيَّةِ».

يوم الاستعداد هو يوم
الجمعة، وقد سُمي كذلك لكي يستعد الإنسان اليهودي ليوم السبت، فيعمل كل أعمال
السبت يوم الجمعة حتى لا يأتي أي عمل يوم السبت. وطبعاً كان ذلك ليتفرَّغ الإنسان
للصلاة والقراءة في التوراة. وهذا يعتبر استعداداً للفصح. أمَّا النساء اللاتي
تبعنه من الجليل فيذكرهن ق. مرقس بالاسم واحدة فواحدة، ولكن ق. لوقا لا يهتم
بالأسماء لأنه كان يكتب لرجل أُممي أو للأُمم الذين يجهلون أسماء اليهود.

أمَّا العمل الذي قام
به يوسف الرامي، ونيقوديموس أيضاً بحسب إنجيل ق. يوحنا، وهاته النسوة في حضور
الدفن والعناية به وتكميل واجباته ومجيئهن في فجر الأحد، يُحسب هذا نيابة عن
البشرية كلها. وخاصة النسوة اللاتي سافرن مشياً على الأقدام من الجليل إلى
أُورشليم 70 ميلاً وحضرن الصلب واشتركن في الدفن وجئن فجر الأحد. هذه الأعمال
التقوية ارتدَّت على نساء العهد الجديد قوة وهمَّة وعناية وبذلاً من أجل فقراء
الشعب حبًّا في الملك العظيم!! وفي الحقيقة كما نرى وكما نسمع أن نساء الكنيسة
يقمن بأعمال جريئة بشجاعة تخجل الرجال، وأعجب ما فيهن أن أعمالهن الصامتة التي لا
يسمع بها أحد تفوق قامة المتخصِّصين. ونحن إذ نَرَى هذه الأعمال نشعر لماذا
أحبَّهن المسيح وقربهن إليه وكان يتقبَّل خدماتهن بسرور. فَهُنَّ رُسل الخفاء
وتلاميذه غير المنظورين.



([1]) John Morley, cited by G. Campbell
Morgan, The Gospel According to Luke, p. 263.

([2]) بيلاطس: تقول مصادر قبطية تقليدية موروثة مدوَّنة في المخطوطات: إن بيلاطس
بتأثير امرأته التي أوصته رفقاً
بالمسيح إذ رأت المسيح في حُلم يدعوها
(مت
19:27)، قد
تنصَّر هو وامرأته وهي المدعوة في الكنيسة باسم القديسة كلوديا بروكيولا
Claudia Procula.
وتُعيِّد لها الكنيسة في 27 أكتوبر من كل سنة.
G. Campbell
Morgan, op. cit., p. 266

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ع عَربة ة

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي