الإصحَاحُ
الثَّانِي عَشَرَ

 

"نهايَةُ
البِدايَة"

(يُوحَنَّا
12: 1- 23)

 يبدَأُ
الإصحاحُ الثَّاني عشر من إنجيلِ يُوحَنَّا كالتَّالِي: "ثُمَّ قَبلَ الفِصحِ
بِسِتَّةِ أيَّامٍ أتَى يسُوعُ إلى بَيتِ عَنيا، حيثُ كانَ لِعازَرُ المَيتُ الذي
أقامَهُ منَ الأموَات. فَصَنَعُوا لهُ هُناكَ عشاءً. وكانت مرثا تخدِمُ وأمَّا
لِعازارُ فكانَ أحد المُتَّكِئِينَ معَهُ. فأَخَذَت مريَمُ منَّاً من طِيبِ
نارِدينٍ خالِصٍ كَثيرِ الثَّمَن ودَهَنَت قَدَمَي يسُوع ومَسحَت قَدَمَيهِ
بِشَعرِها. فامتَلأَ البَيتُ من رائِحَةِ الطِّيب.

 

"فقالَ
واحِدٌ من تلاميذِهِ وهُوَ يَهُوَّذا سِمعان الإسخَريُوطِيُّ المُزمِعُ أن
يُسَلِّمَهُ. لماذا لم يُبَعْ هذا الطِّيبُ بِثلاثمئة دينار ويُعطَ للفُقَرَاء.
قالَ هذا ليسَ لأنَّهُ كانَ يُبالِي بالفُقراء بل لأنَّهُ كانَ سارِقاً وكانَ
الصُّندُوقُ عندَهُ وكانَ يحمِلُ ما يُلقَى فيهِ. فقالَ يسُوعُ أترُكُوها. إنَّها
لِيَومِ تَكفيني قد حَفِظَتْهُ. لأنَّ الفُقَراءَ معَكُم في كُلِّ حِينٍ. وأمَّا
أنا فلَستُ معَكُم في كُلِّ حِينٍ.

 

"فعَلِمَ
جمعٌ كَثيرٌ منَ اليَهُودِ أنَّهُ هُناكَ، فجاؤُوا ليسَ لأجلِ يسُوعَ فقَط بل
لِيَنظُرُوا أيضاً لِعازار الذي أقامَهُ منَ الأموات. فتَشاورَ رُؤَساءُ
الكَهَنَةِ ليَقتُلُوا لِعازارَ أيضاً. فإنَّ كَثيرينَ منَ اليَهُودِ كانُوا
بِسَبَبِهِ يذَهبُونَ ويُؤمِنُونَ بيسُوع." (يُوحَنَّا 12: 1- 11)

 

يبدَأُ
هذا الإصحاحُ بمَشهدِ غَداءٍ آخر يتضمَّنُ مَريَم ومَرثا. وكما نتوقَّعُ، نقرأُ
هذهِ الكَلِمَات التي تَصِفُ دَورَ مرثا: "وكانت مرثا تخدِمُ." كانَ هذا
نَمُوذَجُ مَوهِبَتِها ودَعوَتِها. نجدُ أيضاً مريم تُظهِرُ دعوَتَها، نَوعَ
مَوهِبَتِها، وأولويَّاتِها – أي عندَ قَدَمَي يسُوع، مُقدِّمَةً لهُ تضحِيَةَ
عِبادَةٍ غالِيَة جدَّاً.

 

في
تلكَ الحَضَارَة، إعتادَ النَّاسُ أن يستَلقُوا على وَسائِدَ بينما كَانُوا
يتناوَلُونَ الطَّعام. وكانت العادَةُ أيضاً أن يغسِلُوا أرجُلَ ضُيُوفِ
الوَليمَةِ حالَ وُصُولِهم. في هذا الإطارِ الحضارِيّ قدَّمت مريَمُ هديَّتَها
الجميلة في تضحِيَةِ العبادَة. فلقد سَكَبَت طيبَ ناردينٍ زَكِيّ على قَدَمَي
يسُوع، كانت تُساوِي قيمَتُهُ أجرَ عامٍ كامِل. فعبقَ المنزِلُ برائِحَةِ
الطَِّيب.

 

ولقد
سبقَ وذَكَرَنا أنَّهُ في نهايَةِ الإصحاحِ العاشِر من إنجيلِ لُوقا، عندما
إتَّهَمت مرثا يسُوع بعدَمِ إكتِراثِهِ لكونِ مريم لم تَكُن تُساعِدُها في
خدمَتِهِ، أنَّ يسُوعَ دافَعَ عن مريَم. هُنا أيضاً نَجدُهُ يُدافِعُ عن مريم،
وهُوَ يَقُولُ ما فحواهُ، "هذا ذَبيحَةُ عبادَة. فَلَقَد حَفِظَتْ هذا
الطِّيب لهذه المُناسَبَة، لكي تتنبَّأَ بشكلٍ رَمزِيٍّ بيَومِ تكفيني." (عدد
7)

 

إبتداءً
من هذا الإصحاح، سوفَ يُسَجِّلُ النِّصفُ الثَّانِي من هذا الإنجيل أحداثِ أهمِّ
أُسبُوعٍ من أهمِّ حياةٍ سبقَ وعاشَها أحدٌ على وجهِ هذه الأرض.

 

في
تِلكَ الأيَّام، وكما رأَينا في حالَةِ لِعازار، كانُوا يُقَمِّطُونَ المَيتَ
بالأكفان، كالمُومياء القديمة. وكانُوا يضعُونَ أيضاً أطياباً غالِيَةَ الثَّمَن
في الأكفان، لكَي تطغَى على رائِحَةِ المَوتِ الكريهة التي كانت تنبَعِثُ عادَةً
منَ الجُثَث.

 

بينما
كانَ يسُوعُ يُدافِعُ عن مريَم، قدَّمَ التَّعليقَ التَّالِي عن نفسِهِ:
"لأنَّ الفُقَراءَ معَكُم في كُلِّ حِينٍ، وأمَّا أنا فَلَستُ معَكُم في
كُلِّ حِين." (عدد 8) هذه واحِدَةٌ من عِدَّةِ طُرُقٍ سَريعَةٍ يُقدِّمُها
يُوحَنَّا في هذا الإنجيل، ليُؤَكِّدَ أنَّ يسُوعَ هُوَ الله. لقد عبَدَت مريَمُ
يسُوعَ، وقَبِلَ يسُوعُ عبادَتَها لهُ. ولقد دافَعَ بالحقيقَةِ عن عبادَتِها له.
ولكنَّنا نَجِدُ أنَّ الرِّسُولَين بُولُس وبُطرُس لم يقبَلا أن يسجُدَ لهُما أحدٌ
ولا أن يعبُدَهُما (أعمال 10: 25 و26، 14: 11- 18). ولكنَّ يسُوعَ كانَ أكثَرَ من
مُجَرَّدِ إنسانٍ، وكونَهُ الله في صُورَةِ إنسان، قَبِلَ منَ النَّاسِ سُجُودَهُم
وعبادَتَهُم لهُ.

 

إنَّ
كاتِبَ هذا الإنجيل يُدخِلُ تعليقَهُ بأنَّهُ ليسَ لأنَّ يَهُوَّذا كانَ يهتَمُّ
بالفُقراء قالَ ما قالَهُ حِيَالَ ثَمَنِ هذا الطِّيب الذي سكبَتْهُ مريَمُ على
قَدَمَي يسُوع، وأنَّهُ كانَ ينبَغي أن يُعطَى لِلفُقَراء. فيُوحَنَّا قالَ بدُونِ
تحَفُّظٍ أنَّ يَهُوَّذا قالَ هذا لأنَّهُ كانَ لِصَّاً.

 

تُعجِبُني
الطَّريقة التي يكتِبُ بها يُوحَنَّا. في رسالتِهِ الصَّغيرة، في نهايَةِ العهدِ
الجديد، والتي تُسَمَّى بِرسالَة يُوحَنَّا الأُولى، نَجِدُهُ بَسيطاً ومُباشَراً
عندما يُخبِرُنا كيفَ يُمكِنُنا أن نعرِفَ إنْ كُنَّا مُؤمنينَ حقيقيِّين. يكتُبُ
قائِلاً أنَّنا إن قُلنا أنَّ لنا شَرِكَةٌ معَ المسيح ولكنَّنا إستَمَرَّينا
بالسُّلُوكِ بالظُّلمَة، نكُونُ كاذِبين! (1يُوحَنَّا 1: 6؛ 4: 20، 21). فعندما
أضافَ يُوحَنَّا تعليقَهُ حولَ يهُوَّذا، كتبَ يقُولُ بِبَساطَة، "قالَ هذا
لأنَّهُ كانَ سارِقاً ولِصَّاً." ثُمَّ يُخبِرُنا يُوحَنَّا بأنَّ يَهُوَّذا
الإسخريُوطِي كانَ أمِينَ الصُّندوق، وكانَ يسرِقُ منهُ دائماً.

 

يَظُنُّ
البَعضُ أنَّهُ بما أنَّ يسُوعَ قالَ، "الفُقراء معَكُم في كُلِّ حِين، علينا
أن لا نهتَمَّ كَثيراً بمُساعَدَةِ الفُقراء. ولكن ليسَ هذا ما قصدَهُ يسُوع. بل
كانَ يُشيرُ إلى أنَّهُ سوفَ تكُونُ الفُرصَةُ سانِحَةً دائماً لنا لنُساعِدَ
الفُقراء، ولكن لن تَكُونَ الفُرصَةُ سانِحَةً دائماً ليَكُونَ يسُوعُ معنا في
الجسد. لهذا كانَ منَ المُناسِبِ جداً لمريم أن تُقدِّمَ هذه العبادَة الجميلة
والمُكلِفَة، والتي إعتَبَرَها يسُوعُ تُشيرُ رمزِيَّاً إلى مَوتِهِ ودفنِهِ.

 

نقرَأُ
أنَّ جُمُوعاً كثيرَةً تجمهَرَت حولَ هذا المنزِل، ليسَ فقط ليَرَوا يسُوع، بل
أيضاً ليَرَوا لِعازارُ الذي سبقَ وأقامَهُ يسُوعُ منَ الموت. لهذا، قامَ رُؤساءُ
الكَهَنة، الذي كانُوا أصلاً يُعِدُّونَ خُطَّةً لِيقتُلُوا يسُوع، قامُوا
بالتَّخطيطِ لقتلِ لعازار أيضاً، لأنَّ مُعجِزَةً إقامَتِهِ منَ الموت جعَلَت
الكثيرِينَ منَ اليَهُود يُؤمِنُونَ بيسُوع.

 

وكما
سبقَ ورأينا في الإصحاحِ الحادِي عَشَر من هذا الإصحاح، عندما نُؤمِنُ بالمسيح
ونحيا فيهِ، لن نَمُوتَ إلى الأبد. وبينما نُتابِعُ عَيشَ حياتِنا في المسيح في
هذا العالم، بمعنى ما سنختَبِرُ قيامَةً شَخصِيَّةً. وصفَ بُولُس هذه القيامة
كالتَّالِي: "إن كانَ أحدٌ في المسيح فهُوَ خليقَةٌ جديدة. الأشياء العَتيقة
قد مَضَت. هُوَّذا الكُلُّ قد صارَ جديداً. (2كُورنثُوس 5: 17، 18).

 

بمعنىً
ما، هذا تَحَوُّلٌ أو إختِبارٌ للإنتِصارِ على المَوت. فإذا كُنتَ قدِ إختَبَرتَ
الوِلادَةَ الجديدة، إحدَى الطُّرُق التي يُمجِّدُ بها إختِبارُكَ اللهَ ويُعظِّمُ
يسُوعَ المسيح، هي عندما يأتي أشخاصٌ للإيمانِ بالمسيح عندما يرَونَ أيَّ نَوعٍ
منَ الخليقَةَ الجديدَةً قد أصبَحتَ. ومثل لعازار، سوفَ يُجذَبُونَ إلى يسُوع
عندَما سيَرَونَ المُعجِزَة التي عَمِلَت في حياتِكَ.

 

سيَكُونُ
أيضاً أُولئكَ الذين يكرَهُونَ المسيح الذي يسكُنُ فيكَ، ولذلكَ سيَكرَهُوَنَكَ
أنتَ أيضاً. وقد يُحاوِلُونَ أن يتآمَرُوا ليقتُلُوكَ كما أرادُوا قتلَ لِعازار.

 

أحدُ
الشَّعانِين الأوَّل

وإذ
ننتَقِلُ إلى الإصحاحِ الثَّانِي عَشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا، نَصِلُ إلى مرحَلَةٍ
إنتِقالِيَّةٍ في هذه الإصحاحاتِ الأحد والعشرين من هذا الإنجيل، حيثُ تنقِسُم هذه
الإصحاحاتُ تقريباً إلى نِصفَين. تقريباً نِصفُ إصحاحات هذا الإنجيل تُغَطَِّي
السَّنواتِ الثَّلاث والثَّلاثِين من أهَمِّ حياةٍ عاشَها إنسانٌ على الأرض. ولكن
عندَما نقرَأُ هذا الإصحاح، نكتَشِفُ أنَّ النِّصفَ الثَّانِي من هذا الإنجيل
سيُشَدِّدُ بشكلٍ أساسِيٍّ على أُسبُوعٍ واحِدٍ فقط – ألا وهُوَ الأُسبُوعُ
الأخيرُ من حياةِ يسُوع المسيح.

 

وكما
أشَرتُ مراراً في تعليمي للأناجيلِ الأربَعة، هذا الأُسبُوع من حياةِ المسيح تمَّ
التَّشديدُ عليهِ لأنَّهُ فيهِ ماتَ يسُوع على الصَّليبِ وقامَ منَ المَوت لأجلِ
خلاصِ العالم. والأحداثُ التي سيَصِفُها يُوحنَّا منَ الآن فصاعِداً، تبدَأُ هذا
الأُسبُوع البالِغ الأهمِّيَّة في حياةِ وخدمَةِ يسُوع المسيح. نُسمِّي هذا
الأُسبُوع "الأُسبُوعَ المُقدَّس" أو الأُسبُوع الذي يبدَأُ بأحدِ
الشَّعانِين وينتَهي بما يُسمِّيهِ الملايين بأحدِ الفِصح، أو "أحد
القِيامَة."

 

نِهايَةُ
البِدايَة

هُنا
قَرُبَت نهايَةُ السَّنواتِ الثَّلاث التي قضاها يسُوعُ في الوعظِ والتَّعليمِ
والشِّفاءِ وتدريبِ الرُّسُل، وهُنا أيضاً أوشَكَ عمَلُهُ الأكثَرُ أهمِّيَّةً على
البِدايَة. لا تُشَكِّلُ هذه بِدايَةُ نهايَةِ خدمَتِهِ. بمعنى ما تَصِفُ أحداثُ
هذا الإصحاح نهايَةَ بِدايَةِ خدمةِ يسُوع. فها هُو الآن يدخُلُ إلى عملِهِ الأكثر
أهمِّيَّةً، ألا وهُوَ مَوتُهُ وقيامَتُهُ، والذي سيُتبَعُ بِصُعُودِهِ، بيومِ
الخَمسين، بولادَةِ الكنيسة، وبِعَمَلِ المسيحِ العجائِبِيّ الذي إنطَلَقَ منذُ
ذلكَ الحِين ولا يزالُ مُستَمِرَّاً حتَّى يومِنا هذا. يُقدِّمُ لنا إنجيلُ
يُوحَنَّا نهايَةَ بِدَايَةِ حياةِ وخِدمَةِ يسُوع المسيح، عندَما نقرَأُ:
"وفي الغَدِ سَمِعَ الجمعُ الكَثيرُ الذي جاءَ إلى العِيد أنَّ يسُوعَ آتٍ
إلى أُورشَليم. فأخَذُوا سُعُوفَ النَّخلِ وخَرَجُوا لِلِقائِهِ وكانُوا يصرُخُونَ
أُوصَنَّا مُبَارَكٌ الآتي بإسمِ الرَّبّ مَلِكُ إسرائيل."

 

"ووَجَدَ
يسُوعُ جحشاً فجَلَسَ عليهِ كما هُوَ مَكتُوبٌ. لا تَخَافِي يا إبنَةَ صِهيَون.
هُوَّذا مَلِكُكِ يَأتِي جالِساً على جَحشِ أتان. وهذه الأُمُور لم يفهَمْها
تلامِيذُهُ أوَّلاً. ولكن لمَّا تمجَّدَ يسُوعُ حينئذٍ تذَكَّرُوا أنَّ هذه كانت
مكتُوبَةً عنهُ وأنَّهُم صَنَعُوا هذه لهُ.

 

"وكانَ
الجَمعُ الذي معَهُ يَشهَدُ أنَّهُ دَعَا لِعازار منَ القَبرِ وأقامَهُ منَ
الأموات. لِهذا أيضاً لاقاهُ الجَمعُ لأنَّهُم سَمِعُوا أنَّهُ كانَ قد صَنَعَ هذه
الآيَة. فقالَ الفَرِّيسيُّونَ بَعضُهُم لِبَعضٍ أنظُرُوا. إنَّكُم لا تَنفَعُونَ
شَيئاً. هُوَّذا العالَمُ قد ذهبَ وراءَهُ." (يُوحَنَّا 12: 12- 19).

 

وكما
يُشيرُ لنا يُوحَنَّا هُنا، معنَى هذا الحدَث يُظهِرُهُ لنا أحدُ الأنبِياء
(زَكَرِيَّا 9: 9). نَبِيٌّ آخَر كتبَ قائِلاً أنَّ المٍسيحَ سيأتي
"فجأَةً". (ملاخِي 3: 1). ينبَغي أن تُتَرجَمَ كلمة "فجأَةً":
"بِشكلٍ غَيرِ مُتَوقَّع،" أي أنَّهُ لن يأتِيَ بالطريقَةِ التي
نتوقُّعُ مجيءَ المسيَّا بها.

 

القادَةُ
الرُّوحِيُّونَ للشَّعبِ اليَهُودِيّ كانَت لَدَيهِم أفكارُهُم عنِ كيفيَّةِ مجيءِ
المسيَّا إلى هذا العالم. أفكارُهُم كانَت مبنِيَّةً على الأسفارِ الإلهيَّة
المُقدَّسة، التي كانت تُمِّمَت عندما جاءَ يسُوع، ولكنَّها ستَكتَمِلُ فقط عندَ
مجيءِ المسيح ثانِيَةً (إشعياء 61: 1 و2). حتَّى الرُّسُل آمنُوا أنَّ المَسِيَّا
سيُطيحُ بالأمبراطُوريَّةِ الرُّومانِيَّة وسيُنقِذُ إسرائيل بالمعنى الحرفِي
والسِّياسِيّ (أعمال 1: 6). إن كانَ أُولئكَ الذي إعتَرَفُوا بأنَّهُم شَعبُ الله،
إن كانُوا قد فَهِمُوا الأنبياء، لكَانُوا قدِ إندَهَشُوا عندما دخلَ يسُوعُ
راكِباً على الجحشِ إلى أُورشَليم.

 

إذ
نُحاوِلُ أن نفهَمَ معنَى أحدَ الشَّعانِين الأوَّل، علينا أن نُفَكِّرَ بِسَفِيرٍ
يُقدِّمُ أوراقَ إعتِمادِهِ في مملكَةٍ أجنَبِيَّة. عندما يذهَبُ سَفيرٌ ما إلى
بَلدٍ أجنَبِيٍّ ليُمَثِّلَ ملِكَهُ، أو رَئيسَ دولَتِهِ، قد يقضِي في تلكَ
البِلاد الأجنَبِيَّةِ وقتاً مُعَيَّناً قبلَ أن يذهَبَ إلى القَصرِ الملكي أو
الجُمهُوريّ لهذا البَلَد الأجنَبِي ويُقدِّمَ نفسَهُ وأوراقَ إعتِمادِهِ كسَفِير.

 

يسُوعُ
هُوَ سَفيرٌ منَ السَّماءِ، يُمَثِّلُ أباهُ السَّماوي في بِلادٍ أجنَبيَّة. فلقد
تركَ يسُوعُ السَّماءَ ليأتِيَ إلى هذا العالم. ولقد قضى فترَةً زَمَنِيَّةً في
هذا العالم وأنجزَ أعمالاً رائِعَة. وها هُوَ الآن يُقَدِّمُ نفسَهُ لهذا العالَم
كَسَفِيرٍ منَ السَّماء.

هل تبحث عن  كتب أبوكريفا عهد قديم سفر ياشر 45

 

ولكنَّهُ
لم يَذهَبْ إلى العاصِمَة السِّياسِيَّة للعالَم ويُقدِّمْ نفسَهُ لِرُوما. ولم
يذهَبْ إلى إحدَى عواصِمِ الخَطيَّة، كَكُورنثُوس أو أفسُس مثلاً. بَل ذهَبَ إلى
العاصِمَة الرُّوحِيَّة للعالَم، وخاطَبَ شَعبَ اللهِ وقادَةَ شَعبِ الله. أنا
مُتَيَقِّنٌ أنَّهُ فعلَ هذا لأنَّهُ أدرَكَ أنَّ خُطَّةَ اللهِ هي أن يستخدِمَ
شعبَهُ لإتمامِ مقاصِدِهِ. وهُوَ يعلَمُ أنَّ شعبَ اللهِ "عملاقٌ
نائِمٌ" ولقد أرادَ إيقاظَهُ.

 

في
الإصحاحِ الحادِي والعِشرين من إنجيلِ متَّى – وهُوَ واحِدٌ من أكثَرِ الإصحاحاتِ
دينامِيكيَّةً في الأناجيل – يأخُذُ يسُوعُ المَلَكُوتَ رَسمِيَّاً منَ اليهُود
ويُعلِنُ أنَّهُ سيُعطِي هذا المَلَكُوت للأُمَم (أي لِغَيرِ اليَهُود) الذين
سيأتُونَ بِثمارِ هذا الملكوت.

 

يُسَجِّلُ
سِفرُ الأعمالِ مُعجِزَةَ كَونِ كنيسةِ المسيح التي بناها ولا يزالُ يبنِيها الآن،
هي حَيثُ نجدُ شَعبَ اللهِ الذي أعطاهُ المسيحُ الحَيُّ المُقامُ ذلكَ المَلَكُوت
الذي أخَذَهُ منَ اليهُود. هذا لا يعني أنَّ الكنيسة كانت فكرَةً أو مشرُوعاً
مُلحَقاً مُفاجِئاً للمسيح. فيسُوعُ أعلنَ بِوُضُوحٍٍ في إنجيلِ متَّى، قبلَ أن
يأخُذَ الملكوت منَ اليَهُود، أنَّ كُلَّ قُوَّاتِ الجحيم لم تقدِر أن تمنَعَهُ من
بُنيانِ كَنيستِهِ (متَّى 16: 18).

 

بطَريقَةٍ
أو بأُخرِى، تُعتَبَرُ الكنيسَةُ نائِمَةً اليَوم. ولكنَّ الكَنيسَةَ هي عِملاقٌ
نائِم. لو تمكَّنَ إيقاظُ شعبِ اللهِ في الكنيسة، وتوعِيَتُهم عمَّن هُم، ولماذا
خلَّصَهُم يسُوعُ ووضَعَهُم ستراتيجيَّاً في هذا العالم، لأصبَحَت كنيسةُ المسيحِ
عملاقاً جَبَّاراً بالفِعل.

 

منَ
السَّهلِ أن نفقُدَ صَبرَنا معَ شَعبِ الله، وأن نتجاهَلَهُم ونَظُنَّ أنَّ اللهَ
لن يعمَلَ شَيئاً من خلالِهم. ولكن، لاحِظُوا أنَّهُ عَبرَ تاريخِ الكَنيسة، عمَلُ
اللهِ كانَ ولا يزالُ يتحقَّقُ في هذا العالم من خلالِ شَعبِ الله. إنَّ كَلِمَة
"كنيسة" تعني حَرفِيَّاً، "شَعبٌ مَدعُوٌّ إلى خارِج،" أي
مَدعُوُّونَ للخُرُوجِ من هذا العالم ليَتبَعُوا ويُطِيعُوا المسيحَ الحَيَّ
المُقام. وبعدَ ذلكَ يُعادُ إرسالُهُم إلى هذا العالم ليَكُونُوا أدواتٍ
يستَخدِمُها الرَّبُّ لخلاصِ العالم (يُوحَنَّا 17: 18؛ 20: 21)

 

بما
أنَّ هذا هُوَ أحدُ المبادِئ الرُّوحيَّة المُطلَقَة، وواحِداً من خدماتِ يسُوع
الستراتيجيَّة المُمَيَّزَة، لاحِظُوا كَم منَ الوقتِ قَضَى يسُوعُ محاوِلاً أن
يُوقِظَ "العملاق النَّائِم" – أي شعب الله. أنظُرُوا كيفَ يَدعُوا شعبَ
اللهِ بطريقَةٍ عَلَنِيَّة. تأمَّلُوا بالوقتِ وبالطَّاقَةِ التي وظَّفَها يسُوعُ
في تلكَ المراحِلِ منَ الحوارِ العَدائِي معَ قادَةِ الشَّعبِ اليَهُودِيّ.

 

لاحِظُوا
أنَّهُ وصلَ إلى العديدِ من هؤُلاء القادَة عندما أنهَى عِظَتَهُ الرَّائِعة في
نهايَةِ الإصحاحِ الثَّامِن من هذا الإنجيل. ولقد وصلَ أيضاً إلى نيقُودِيمُوس،
مُعلِّم النَّامُوس المُمَيَّز. فهل يا تُرى كانَ شاوُل الطَّرسُوسِيُّ حاضِرَاً
في إحدىً جلساتِ الحوارِ العدائِي هذه التي جَرَت بينَ يسُوع وبينَ القادَة
الدِّينيِّين؟ وفي جسدِهِ المُقام، رَجَعَ المسيحُ ليتكلَّمَ معَ ذلكَ الفَرِّيسيّ
الأصيل على طريقِ دِمشق. فأصبَحَ شاوُل الطَّرسُوسِيّ الرَّسُول بُولُس العَظيم.

 

"جاءَتِ
السَّاعَة"

(يُوحَنَّا
12: 20- 50)

 يتبَعُ
أحداثُ أحدِ الشَّعانِين الأوَّل تعليقٌ عنِ الأشخاص الذينَ تأثَّرُوا بِقِيامَةِ
لِعازار. لقد تابَعُوا نشرَ الكلمة. ولقد رَأَينا أنَّهُ بما أنَّ جَمعاً كبيراً
راحَ يتجمهَرُ حَولَ يسُوع في كُلِّ مرَّةٍ كانَ يظهَرُ فيها، قالَ
الفَرِّيسيُّونَ: "هُوَّذا العالَمُ قد ذَهَبَ وراءَهُ." (يُوحَنَّا 12:
19).

 

هَؤُلاء
القادة الدِّينيُّون كانُوا بالحقيقَةِ ينطِقُونَ بنُبُوَّةٍ عندما قدَّمُوا هذه
المُلاحَظة. فلقد كانت دائماً خُطَّةُ اللهِ أن تكُونَ خِدمَةُ يسُوع مُوجَّهَةً
للعالَمِ أجمَع (تكوين 12: 3؛ لُوقا 2: 10). لأنَّهُ هكذا أحَبَّ اللهُ العالَمَ،
وليسَ فقط شعب إسرائيل المُختار، قبلَ أن يختارُوا هُم بأنفُسِهِم أن لا يَكُونُوا
مُختارِينَ. في هذه المرحلة من إنجيلِ يُوحَنَّا، يُخبِرُنا الرَّسُولُ المَحبُوب
أنَّ مُهِمَّةَ يسُوع المسيح كانَت مُوجَّهَةً بِوُضُوحٍ إلى العالَمِ أجمَع.

 

في
قِمَّةِ هذهِ الشَّعبِيَّة، جاءَ يُونانِيُّونَ إلى فِيلبُّس قائِلينَ: "يا
سَيِّد، نُريدُ أن نرى يسُوع." فِيلبُّس أخبَرَ أندراوُس عن طَلَبِ هؤُلاء
اليُونانِيِّين؛ وأندراوُس وفيلبُّس قالا بِدَورِهِما ليسُوع. بِمعنىً ما،
يُمَثِّلُ طَلبُ هؤُلاء اليُونانِيِّين ما ينبَغي أن يَكُونَ مَوقِفُنا عليهِ
خلالَ قِراءَتِنا لهذا الإنجيل. إذ علينا أن نقرَأَ الإنجيل باحِثِينَ عن يسُوع.

 

قامَ
شُيُوخُ أوَّلِ كنيسَةٍ رَعيتُها بإلصاقِ قَولٍ منحُوتٍ إلى داخِلِ المنبَر الذي
يعظُ منهُ راعي الكنيسة. وفي كُلِّ مرَّةٍ كُنتُ أعِظُ، كُنتُ أنظُرُ إلى هذه
الكَلِمات: "يا سَيِّد، نُريدُ أن نرى يسُوع." ما كانَ يُشَدِّدُ عليهِ
شُيُوخُ الكَنيسة كانَ: نُريدُ أن نرى يسُوعَ عندما تتكلَّمُ أنتَ أو أيُّ واعظٍ
آخر من هذا المَنبَر.

 

سُرعانَ
ما سَمِعَ يسُوعُ أنَّ هؤُلاء اليُونانِيِّينَ يطلُبُونَ رُؤيَتَهُ، حتَّى
أجابَهُم، "جاءَتِ السَّاعَةُ ليَتَمجَّدَ إبنُ الإنسان." (12: 23)

 

خلالَ
قراءَتِنا عبرَ هذه الإصحاحاتِ الإثنَي عشَر، رأينا أنَّ يسُوعَ كانَت لديهِ
أولويَّاتُهُ الخاصَّة من ناحِيَةِ وقتِهِ. فلقد قالَ لأُمِّهِ قبلَ أن يُحَوِّلَ
الماءَ خمراً، "لم تأتِ ساعَتي بَعد." (يُوحَنَّا 2: 4) وعندما إقتَرَحَ
إخوَتُهُ عليهِ ما ينبَغي أن يَكُونَ برنامَجُ عملِهِ، أوضَحَ لهُم أنَّ لدَيهِ
برنامج عمل وكُلُّ بَندٍ على هذا البرنامجِ كانَ ينبَغي أن يَكُونَ بِمَشيئَةِ
الآب. نقرَأُ أنَّ يسُوعَ قالَ: "لم تأتِ ساعَتي بَعد." (يُوحَنَّا 7:
6) ولقد كرَّرَ هذا التَّصريح بِقولِهِ، "وقتي لم يُكمَلْ بعد." (يُوحَنَّا
7: 8). في الإصحاحِ التَّالِي، نقرَأُ أنَّهُ "لم يُمسِكْهُ أحدٌ لأنَّ
ساعَتَهُ لم تَكُنْ قد جاءَت بَعدُ." (يُوحَنَّا 8: 20)

 

هذا
يُحَضِّرُنا لنُقدِّرَ مدى خُطُورَة ما قصدَهُ يسُوعُ عندما قالَ، "لم تأتِ
السَّاعَةُ بعد." (يُوحَنَّا 12: 23). هذه الكَلمات تَعني أنَّهُ كانَ على
وشكِ البَدءِ بعملِهِ البالِغ الأهمِّيَّة – كانَ يدخُلُ إلى عمَلِ الصَّليب،
المَوت، القِيامَة، وبدايَة العمل الذي سيستَمِرُّ إلى مجيئِهِ الثَّانِي
وسيتخطَّاهُ وُصُولاً إلى مُلكِهِ الأبديّ الذي لن ينتَهِي. نحنُ الآن
مُهَيَّأُونَ لإكتِشافِ واحِدٍ من أكثر المقاطِع أهمِّيَّةً في الإنجيل: "قد
أتَتِ السَّاعَةُ ليَتَمَجَّدَ إبنُ الإنسان. الحقَّ الحَقَّ أقُولُ لكُم إن لَمْ
تَقَعْ حَبَّةُ الحِنطَةِ في الأرضِ وتَمُتْ فَهِيَ تَبقَى وحدَها. ولكن إن ماتَت
تأتِي بِثَمَرٍ كَثِير. من يُحِبُّ نفسَهُ يُهلِكُها، ومن يُبغِض نفسَهُ في هذا
العالم يحفَظها إلى حياةٍ أبديَّة. إن كانَ أحَدٌ يخدِمُني فليَتبَعني. وحَيثُ
أكُونُ أنا هُناكَ أيضاً يَكُونُ خادِمِي. وإن كانَ أحدٌ يخدِمُني يُكرِمُهُ
الآبُ."

 

"الآن
نفسِي قدِ إضطَّرَبَت. وماذا أقُولُ. أيُّها الآبُ نَجِّنِي من هذه السَّاعَة.
ولكن لأجلِ هذا أتَيتُ إلى هذه السَّاعَة. أيُّها الآبُ مَجِّدِ إسمَكَ. فجاءَ
صَوتٌ منَ السَّماءِ مَجَّدتُ وأُمَجِّدُ أيضاً. فالجمعُ الذي كانَ واقِفاً
وسَمِعَ، قالَ قد حَدَثَ رَعدٌ. وآخرُونَ قالُوا قد كَلَّمَهُ ملاكٌ. أجابَ يسُوعُ
وقالَ ليسَ من أجلِي صارَ هذا الصَّوتُ بَل من أجلِكُم. الآنَ دَينُونَةُ هذا
العالم. الآنَ يُطرَحُ رَئيسُ هذا العالم خارِجاً. وأنا إنِ إرتَفَعتُ عنِ الأرض،
أجذِبُ إليَّ الجَميع."

 

"قالَ
هذا مُشيراً إلى أيَّةِ مِيتَةٍ كانَ مُزمِعاً أن يَمُوتَ. فأجابَهُ الجَمعُ نحنُ
سَمِعنا منَ النَّامُوسِ أنَّ المسيحَ يبقَى إلى الأبد. فكَيفَ تَقُولُ أنتَ
إنَّهُ ينبَغي أن يرتَفِعَ إبنُ الإنسان. من هُوَ هذا إبنُ الإنسان."
(يُوحَنَّا 12: 23- 34)

 

في
إجابَتِهِ على عَدَمِ إيمانِهِم الواضِح، إقتَبَسَ مقطَعَين من إشَعيَاء، حيثُ
يُطرَحُ السُّؤالُ لماذا يُؤمِنُ البَعضُ ولا يُؤمِنُ البَعضُ الآخر. بدَأَ
إشَعيَاءُ إحدَى أهمّ عظاتِهِ (أو إصحاحاتِهِ) بالسُّؤال: "من صَدَّقَ
خَبَرَنا، ولِمَنِ إستُعلِنَت ذِراعُ الرَّبّ؟" وفي مكانٍ آخر، يُعَلِّمُ
إشَعياءُ أنَّنا عندَما نرى التَّجاوُبَ بِعَدَمِ الإيمان، أحياناً يَكُونُ
السَّبَبُ أنَّ اللهَ أعمَى عيُونَ أُولئِكَ الذينَ لا يُؤمِنُون (إشَعياء 53: 1؛
8: 10).

 

"فقالَ
لهُم يسُوعُ النُّورُ معَكُم زَماناً قَليلاً بعد. فَسِيرُوا ما دامَ لكُمُ
النُّورُ لِئلا يُدرِكَكُم الظَّلامُ. والذي يَسِيرُ في الظَّلامِ لا يَعلِمُ إلى
أينَ يذهَبُ. ما دامَ لكُمُ النُّورُ، آمِنُوا بالنُّور لِتَصِيرُوا أبناءَ
النُّور. تكلَّمَ يسُوعُ بِهذا ثُمَّ مَضَى وإختَفَى عنهُم."

 

في
هذا المَقطَع، يقتَبِسُ يُوحَنَّا قَولَ يسُوع أنَّ الصَّليبَ كانَ الغايَةَ
الأساسِيَّةَ لمجيئِهِ إلى هذا العالم. في حوارِهِ معَ مُعَلِّمِ النَّامُوس
نيقُوديمُوس، قدَّمَ يسُوعُ تصريحاً واضِحاً ومُوجَزاً عن مُهِمَّتِهِ
الإرساليَّة، عندما قالَ لمُعلِّمِ النَّامُوسِ هذا ما معناهُ: "ينبَغي أن
أُرفَعَ (أي أن أُصلَبَ)، لأنِّي أنا إبنُ اللهِ الوحيد، وأنا حَلُّ اللهِ الوحيد،
وأنا المُخلِّصُ الوحيدُ المُرسَلُ منَ الله." (يُوحَنَّا 3: 14- 21). في هذا
المقطَع هُنا في الإصحاحِ الثَّانِي عَشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا، نجدُ التَّصريحَ
الإرسالِيَّ الواضِحَ والمُختَصَر ذاتَهُ.

 

وعندما
وصلَ إلى ساعَتِهِ، وكانَ يُواجِهُ الصَّليب، إستَخدَمَ صُورَةً مجازِيَّةً
جميلَةً عندَما قالَ، "حبَّةُ الحِنطَةِ إن لم تقَعْ في الأرضِ وتَمُتْ فهِيَ
تبقَى وحدَها. ولكن إن ماتَت، تأتي بِثَمَرٍ كَثير." (24) لقدِ إستَخدَمَ
نامُوساً طبيعيَّاً ليُعلِّمَ نامُوساً رُوحِيَّاً. وكونهُ المُعلِّم الأعظَم،
إنطَلَقَ منَ المَعلُومِ إلى المَجهُول، لكَي نتمكَّنَ من فهمِ حقيقَةٍ رُوحيَّة.
وبما أنَّنا مُعتادِينَ على أن نُلاحِظَ دَوريَّاً النَّوامِيس الطَّبيعيَّة،
غالِباً ما يستَخدِمُ يسُوعُ إيضاحاتٍ منَ الطَّبيعة. مثلاً، "تأمَّلُوا
زنابِقَ الحقلِ كيفَ تنمُو،" – ثُمَّ تأمَّلُوا كيفَ تنمُونَ أنتُم
رُوحِيَّاً. (متَّى 6: 28).

 

وهذا
ما يَفعَلُهُ هُنا. فإن لم تُدفَن حبَّةُ الحِنطَةِ أو إن لم تُزرَعْ في
التُّرابِ، فهِيَ تبقَى مُجَرَّدَ حبَّةِ قَمح، وستبقَى هكذا مدَى العُمر. ولكن
عندمَا تُدفَنُ في التُّراب، تُنتِجُ عدَّةَ بُذُورٍ مثلَها. يُطَبِّقُ يسُوعُ هذا
المبدَأُ أوَّلاً على نفسِهِ، فيما يتعلَّقُ بموتِهِ على الصَّليب. فهُوَ يَقُولُ
أنَّهُ هُوَ حَبَّةُ الحِنطَة، وينبَغي أن يُصلَبَ، وأن يُدفَنَ ويَقُومَ منَ
المَوت، لأن هذه هي الطريقة التي سيجعَلُهُ اللهُ بها مُثمِراً.

 

ثُمَّ
يُطَبِّقُ المبدَأَ على أيٍّ شَخصٍ يدعُوهُ رَبَّاً ويُسمِّي نفسَهُ تلميذاً
يتبَعُ يسُوع. ويختُمُ يسُوعُ هذا التَّعليمِ العَميق بتصريحٍ عَلَنِيٍّ أنَّنا
إذا دَعَونا أنفُسَنا تلاميذَهُ، فسوفَ نتبَعُهُ ونخدُمُهُ بتطبيقِ هذا المبدَأ
على حَياتِنا.

 

بهذه
الطريقة يُوضِحُ لاحِقاً جَوهَرَ هذا المبدَأ الذي علَّمَهُ: "من يُحِبُّ
نفسَهُ يُهلِكُها. ومن يُبغِضُ نفسَهُ في هذا العالم يحفَظُها إلى حياةٍ
أبديَّة." نجدُ هذا التَّطبيقِ التَّوضِيحي مُسَجَّلاً أيضاً في الأناجيلِ
الأُخرى. (لُوقا 9: 23- 25؛ متَّى 10: 39؛ مرقُس 8: 35).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ش شجرة الزيتون ن

 

يُعَلِّمُ
يَسُوعُ هُنا بعضَ الحقائِقِ الرُّوحِيَّةِ عنِ الحياة. ولكي نفهَمَ إيضاحَهُ هذا
بِشَكلٍ أفضَل، دَعُونا نتخيَّلُ ساعَةً رَملِيَّة. ولنَدَعِ الزُّجاجَ يُمَثِّلُ
جسدَنا، والرَّملَ يُمَثِّلُ حياتَنا في هذا الجسد. لن يكُونَ بإمكانِنا أن نُوقِفَ
الوقتَ عنِ الضَّياع تماماً كما لا يُمكِنُنا أن نُوقِفَ الرَّملَ عنِ الإنسيابِ
عبرَ هذه السَّاعَةِ الرَّملِيَّة. يُعَلِّمُنا يسُوعُ هُنا أنَّهُ لن يَكُونَ
بإمكانِنا أن نُخَلِّصَ أو أن نحفَظَ حياتَنا. وهذا ما قصدَهُ المُرَنِّمُ عندما
قالَ في المَزمُور 22: 29 ما معناهُ، "لا أحدَ يستَطيعُ أن يُحِييَ
نفسَهُ."

 

فنحنُ
لا نَستَطيعُ أن نُخَلِّصَ حياتَنا، ولا أن نُحافِظَ عليها. بالحقيقة، الكائِنُ
البَشَريُّ الذي يُحاوِلُ أن يَحفَظَ حياتَهُ، سَيَكُونُ أكبَرَ خاسِرٍ لحَياتِهِ،
بِحَسَبِ يسُوع. فهَل تستطيعُ أن تتصوَّرَ نفسَكَ تقُولُ، "سوفَ أحبِسُ نفسِي
وأجلِسُ لأُحافِظَ على حياتِي؟"

 

ذاتَ
يَومٍ كُنتُ أركُضُ في الهواءِ الطَّلقِ في حضارَةٍ بِدائِيَّة. فخرجَ النَّاسُ من
بينِ الأدغالِ ليتفرَّجُوا مُندَهِشينَ، لأنَّهُم كانُوا يعتَقِدُونَ أنَّ أفضَلَ
طريقَةٍ للحفاظِ على حياتِهم هي بالخُلُودِ للرَّاحَةِ أطوَلَ وقتٍ مُمكِن. كانَ
تفكيرُهُم يَقُولُ أنَّهُم كُلَّما عَمِلُوا بِجُهدٍ أكبَر وأحرَقُوا طاقَةً
أكثَر، كُلَّما تسارَعَ مَوتُهُم، لأنَّهُم يُنفِقُونَ حياتَهُم بإحراقِهم
الطَّاقَة." بالطَّبعِ نحنُ نعرِفُ أنَّ العكسَ هُوَ الصَّحيح. فإذا جَلَسنا
بِكَسَلٍ وإستسلَمنا للرَّاحَةِ طوالَ الوقت، فسَوفَ نُقَصِّرُ حياتَنا بِشَكلٍ
مأساوِيّ. رُغمَ أنَّ يسُوعَ كانَ يُطَبِّقُ تعليمَهُ على مُستَوىً أعمَق، ولكنَّ
تعليمَهُ يَصُحُّ على المُستَوى الجَسَديّ أيضاً. فعَلَينا أن نستَهلِكَ حياتَنا حرفِيَّاً
بالتَّمارِين الرِّياضِيَّة، وإلا لخَسِرنا حياتَنا.

 

لا
يُمكِنُنا أن نُخَلِّصَ حياتَنا، ولكنَّ يسُوعَ يُعَلِّمُ أنَّهُ تُوجَدُ أُمُورٌ
مُعَيَّنَة يُمكِنُنا أن نعمَلَها بِحياتِنا. إذ لَدَينا سَيطَرَة محدُودَة على
كَيفِيَّةِ خُرُوجِ الرَّملِ منَ زُجاجِ السَّاعَة، أو على كيفيَّةِ قضاءِ أيَّامِ
حياتِنا. مثلاً، بإمكانِنا أن نجعَلَ الرَّملَ يستَمِرُّ بالإنسيابِ حتَّى لا تبقى
ولا حبَّة رمل واحِدَة في السَّاعَةِ الزُّجاجِيَّة. وبإمكانِنا أن نحيا سَبعِينَ
سنَةً وأن لا نُفَكِّرَ بتاتاً بالقَصدِ الذي نعيشُ حياتَنا من أجلِهِ.

 

نقرَأُ
في العَهدِ القَديم: "لأنَّهُ لا بُدَّ أن نَمُوتَ ونَكُونَ كالماءِ
المُهراقِ على الأرض الذي لا يُجمَعُ أيضاً." (2صَمُوئيل 14: 14). إن كُنَّا
لا نُفَكِّرُ بالقَصدِ من حياتِنا إلى أن نُصبِحَ في الخامِسَةِ والثَّمانِين منَ
العُمر، نَكُونُ قد أَضَعنا حياتَنا سُدَىً. نحنُ مخلوقاتٌ ذات خيار، وهذا خيارٌ
بإمكانِنا أن نتَّخِذَهُ. فبإمكانِنا أن نُبَدِّدَ حياتَنا كالماءِ المُهراقِ على
الأرض الذي لا يُمكِنُ جَمعُهُ أيضاً.

 

وبإمكانِنا
أيضاً أن نقتَرِفَ خَطِيَّةَ عِيسُو، وأن نبيعَ بُكُورِيَّتَنا بأكلَةٍ منَ
العَدَس (تكوين 25: 29- 34). أشخاصٌ كَثيرُونَ يُراهِنُونَ على حياتِنا. بإمكانِنا
أن نَبيعَ حياتَنا للذي يدفَعُ الثَّمَنَ الأغلى في المزادِ العَلَنِيّ، أو لأيِّ
شَخصٍ يدفَعُ أُجرَتَنا. يَسُوعُ يُحَذِّرُنا بأن لا نبيعَ بُكُوريَّتَنا:
"لأنَّهُ ماذا ينتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نفسَهُ؟
أو ماذا يُعطِي الإنسانُ فِداءً عن نفسِهِ؟" تستخدِمُ بعضُ التَّرجمات كلمة
"ذات" بدَل "نفس." وهكذا تُصبحُ التَّرجمَةُ، "لأنَّهُ
ماذا ينتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ ذاتَهُ أو هُوِيَّتَهُ
الحقيقيَّة؟ وماذا يُمكِنُهُ أن يُعطِيَ مُقابِلَ إستردادِ ذاتِهِ التي
خَسِرَها؟" (مرقُس 8: 35- 37) نَجِدُ سُؤالَين هُنا: "ماذا ينتَفِعُ
الإنسانُ لو أعطاهُ أحدٌ ما صُكُوكَ مُلكيَّةِ كُلِّ عقاراتِ الأرض، وكُلّ مال
العالم، إن كانَ بِبَساطَةٍ سيخسَرُ نفسَهُ؟" و، "بماذا يُمكِنُ أن
يُبادِلَ الإنسانُ نفسَهُ؟" هذان السُّؤالانِ هُما في غايَةِ الأهمِّيَّة.

 

يُعَرِّفُ
القامُوسُ "نفس" كالتَّالِي: "الشَّخصِيَّة الفَردِيَّة، أي فرادَة
أي شَخص التي تجعَلُ منهُ مُمَيَّزاً عن كُلِّ كائِنٍ بَشَرِيٍّ آخَر."
بِكَلِماتٍ أُخرى، اللهُ يُريدُكَ أن تَكُونَ شَخصِيَّةً فَريدَةً فَذَّة،
ويُعَلِّمُ يسُوعُ أنَّكَ ستَكُونُ غَبِيَّاً لو ضَحَّيتَ بهذه الهُوِيَّة
الشَّخصِيَّة الفَريدة وبعتَ نفسَكَ لتربحَ العالََمَ بأسرِهِ.

 

السُّؤالُ
الثَّانِي هُو أكثَرُ فحصاً منَ الأوَّل. "أو ماذا يُعطي الإنسانُ فداءً عن
نفسِهِ؟" بكلماتٍ أُخرى، مُقابِلَ ماذا يُمكِنُ أن يَبيعَ الإنسانُ نفسَهُ؟
الجوابُ الكتابِيُّ كانَ فيما يتعلَّقُ بِعِيسُو: من أجلِ أكلَةِ عَدَس." لم
يَعرِفْ عِيسُو قيمَةَ نفسِهِ، فباعَها رَخيصَةً جداً.

 

لقد
قدَّمَ لنا يسُوعُ نَمُوذجاً عندما مضَى إلى الصَّليب. فهُوَ لم يُقدِّمْ نفسَهُ
فقط ذَبيحَةً تستطيعُ أن تُحقِّقَ الخلاص لكَ ولي. فهذا هُوَ قَلبُ إنجيل يسُوع
المسيح، ورِسالَةُ العهدِ الجديد ولاهُوتُهُ. ولكن بالإضافَةِ إلى الخلاص
المُؤَسَّس على صَليب المسيح، هُناكَ فَلسَفَةُ حياةٍ تمَّ تعليمُها وتمثِيلُها في
مُواجَهَةِ يسُوع للصَّليب. فلقد أظهَرَ لنا كيفَ نتَّخِذُ الخَياراتِ الصَّحيحة
عن كيفَ "ينبَغي أن يخرُجَ الرَّملُ من الساعَةِ الزُّجاجِيَّة" التي هي
حياتُنا. لقد كانَ يسُوعُ يُعَلِّمُنا أن نُضَحِّيَ بحياتِنا، عندما قالَ لنا
أنَّنا لن نتمكَّنَ من أن نَكُونَ مُثمِرينَ إن لم نُزرَعْ في التُّراب.

 

خُلاصَة

تعليمُ
يسُوع الواضِح هو أنَّكَ لا تقدِرُ أن تُخَلِّصَ نفسَكَ. بإمكانِكَ أن تُتلِفَها،
أو أن تبيعَها، أو أن تُضَحِّيَ بها من أجلِ أهدافٍ مغلُوطة، وبإمكانِكَ أيضاً أن
تُضَحِّيَ بها لأجلِ أهدافٍ صحيحة – أي لأجلِ اللهِ ولأجلِ الهدَف الذي يُريدُكَ
اللهُ أن تحيا حياتَكَ لأجلِه. هذا هُوَ المثالُ الذي قدَّمَهُ يسُوعُ عندما
واجَهَ الصَّليبَ الذي جاءَ لأجلِهِ إلى العالم.

 

نقرَأُ
أنَّهُ عندما أتَتْ ساعَتُهُ البالِغة الأهمِّيَّة، إضطَرَبَ جدَّاً. هذه الكلمة
"إضطَّرَبَ" مُثِيرَةٌ للإهتِمام. لقدِ إستُخدِمَتْ في الإصحاحِ الحادِي
عَشَر عندَ قَبرِ لِعازار. فعندما رأى يسُوعُ مريمَ واليَهُودَ يبكُون، نقرأُ
أنَّهُ، "إنزَعَجَ بالرُّوحِ وإضطَّرَب." يُشِيرُ هذا بالحقيقَةِ إلى
"الغَضَب البارّ أو الغَضَب المُقدَّس." فأمامَ قبرِ لِعازار وقفَ
يسُوعُ وجهاً لِوَجهٍ معَ أسوأِ عاقِبَتَين للخَطيَّة – المَرَض والمَوت. لقد كانَ
غاضِباً بِسَبَبِ سُلطانِ الخَطيَّةِ وإبليس، الذي كانَ يُحَدِّقُ بهِ بِوقاحَةٍ
أمامَ قَبرِ لِعازار. وهكذا كانَ يسُوعُ عندَها غاضِباً من كُلِّ سُلطاتِ الجحيم
التي كانت تُحارِبُهُ وتُحاوِلُ أن تعيقَهُ عنِ الذَّهابِ إلى الصَّليب.

 

تُخبِرُنا
تَجرِبَةُ يسُوع كما جاءَت مُدَوَّنَةً في بِدايَاتِ إنجيل متَّى، مرقُس ولُوقا،
أنَّ إبليس تَرَكَهُ إلى حِينٍ في نهايَةِ التَّجرِبَة. (متَّى 4، مرقُس 1، لُوقا
4). فلقد تابَعَ إبليسُ بتجرِبَتِهِ وبِمُقاوَمَتِهِ، وُصُولاً إلى الصَّليب. لقد
كانَ يقِفُ وجهاً لِوَجهٍ معَ كُلِّ قُوَّاتِ الجحيم عندما إتَّخَذَ القَرار بأن
يدعَ حياتَهُ تسقُطُ إلى الأرضِ كحبَّةِ حِنطَةٍ لتَمُوت، لكي تأتِيَ بِثَمرٍ
كثيرٍ. يُعتَبَرُ هذا أكثَرَ وصفٍ دراماتِيكيّ في أناجيلِ رَبِّنا يسُوع المسيح،
وهُوَ يتَّخِذُ خيارَ التَّضحِيَةِ بِنَفسِهِ لأجلِ مشيئَةِ الآب، التي هي خلاص
العالم.

 

نقرأُ
أنَّ نفسَهُ إضطَّرَبَت جدَّاً، وخلالَ الصَّلاة سألَ قائِلاً، "ماذا أقُول؟
أيُّها الآب، نَجِّني من هذه السَّاعَة؟ ولكنِّي من أجلِ هذا أتَيتُ إلى هذا
العالم. أيُّها الآب، مَجِّدِ إسمَكَ." (يُوحَنَّا 12: 27، 28).

 

عندما
كانَ يَسُوعُ مُعَلَّقَاً على الصَّليب، سَخِرَ منهُ أعداؤُهُ قائِلين،
"خَلَّصَ آخرين، أمَّا نفسُهُ فما يستَطيعُ أن يُخَلِّصَها." (متَّى 27:
42). ولقد كانَ هذا القَولُ صَحيحاً، لأنَّهُ ليسَ بالإمكانِ أن تُخَلِّصَ الآخرين
وأن تُخَلِّصَ نفسَكَ في الوقتِ ذاتِه. عليكَ أن تختارَ واحِداً منَ الخَيارَين.
فإمَّا أن تختارَ أن تُخَلِّصَ الآخرين، وإمَّا أن تختارَ أن تُخَلِّصَ نفسَكَ.
عندما إتَّخَذَ يسُوعُ خيارَ تخليصِ الآخرين، قامَ بهذا الخَيار بطريقَةٍ جميلة.
نقرَأُ أنَّهُ صَلَّى هذه الصلاة العظيمة: "أيُّها الآبُ، مَجِّد
إسمَكَ!" فجاءَ هذا الجوابُ الرَّائِع منَ السَّماء: "مَجَّدتُ
وأُمَجِّدُ أيضاً." (يُو 12: 28) يا لِهذه اللَّحظة الرَّائِعة من حياة يسُوع
المسيح.

 

ما
هُوَ القَصدُ منَ الحياة؟ القَصدُ منَ الحَياةِ هُوَ تمجيدُ الله. ولكن كيفَ
نُمَجِّدُ الله؟ عندَما قَضَى يسُوعُ ساعاتِهِ الأخيرة معَ الرُّسُل، وكانَ على
وَشَكِ أن يتِمَّ إلقاءُ القَبضِ عليهِ وأخذِهِ للصَّلب، صلَّى صلاةً رائِعة
(يُوحَنَّا 17). ولقد لَخَّصَ حياتَهُ التي إمتَدَّتْ عبرَ ثلاثٍ وثلاثِينَ سنَةً
بِهذه الكلماتِ الجميلة، "أيُّها الآبُ، أنا مجَّدتُكَ على الأرض. العَملُ
الذي أعطَيتَني لأعمَلَ قد أكمَلتُهُ." (يُوحَنَّا 17: 4) عندما صَلَّى
يسُوعُ هذه الصَّلاة، أظهَرَ لنا كيفَ نُمَجِّدُ الله.

 

قالَ
الكاتِبُ والرَّاعي الأميركيّ التَّقِيّ،
A. W. Tozer، قالَ أنَّنا ينبَغي أن نُصَلِّيَ هذه الصَّلاة: "أيُّها
الآبُ، مَجِّدْ نفسَكَ وأرسِلْ لي الفاتُورة – فأنا مُستَعِدٌّ لِدَفعِ أيِّ ثَمَن
– ولكن فقط مَجِّدْ نفسَكَ!" هذا هُوَ قَلبُ ورُوحُ الصَّلاة التي صَلاها
يسُوع هُنا، عندما قَبِلَ من اللهِ الآبِ مُهِمَّةَ المَوتِ على الصَّليب.
التَّجاوُبُ معَ هذه الصَّلاة من أبيهِ السَّماوِيّ كان: "لقد سبقَ وتمجَّدتُ
من خلالِ حياتِكَ على الأرض، وسوفَ أتمجَّدُ أيضاً!"

 

تأمَّلُوا
كيفَ تمجَّدَ الآبُ تِباعاً من خلالِ حياة يسُوع الكامِلة. وبينما كانَ يُواجِهُ
الصَّليب، عندما صَلَّى، "أيُّها الآبُ، مَجِّد إسمَكَ،" وأخذَ ذلكَ
الجوابَ الرَّائِع منَ السماء، أظهَرَ لنا كيفَ ينبَغي أن نُواجِهَ الأزماتِ
الرَّهيبَة التي تعتَرِضُ سَبيلَنا في حَياتِنا.

 

أتساءَلُ
ما إذا كانَ بإمكانِكَ أن تُصَلِّيَ بِصدقٍ هذه الصلاة. فنحنُ جميعاً نهتَمُّ قبلَ
كُلِّ شَيءٍ بأنفُسِنا. الأنانِيَّةُ هي تعريفُ وجَوهَرُ ما يُسمِّيهِ الكتابُ
المُقدَّسُ بالخَطيَّة. والكِتابُ المُقدَّس يُعَلِّمُنا أنَّنا لم نُخلَقْ
لنَكُونَ أَنَانِيِّين ولا لِتَتمحوَرَ حياتُنا حولَ ذواتِنا، بل خلقنا اللهُ
ليَكُونَ هُوَ مَركَزَ حياتِنا. ولم يخلُقْنا اللهُ لنعمَلَ مَشيئَتنا. لقد
خَلَقَنا مُؤَهَّلِينَ أن نختارَ ما بَينَ مَشيئَتِنا أو مَشيئَة الله. وعلى
مِثالِ يسُوع، خُلِقنا لنختارَ أن نعمَلَ مَشيئَةَ الآب. فنحنُ لم نُخلَقْ
لِنُمَجِّدَ أَنفُسَنا، ولا لِنَعمَلَ مشيئَتَنا، بل لِنُمَجِّدَ الآبَ بعملِ
مشيئَتِهِ.

 

لقد
عاشَ يسُوعُ كُلَّ ما علَّمَنا إيَّاهُ في هذا المقطع. فهُوَ يَقُولُ لنا:
"سوفَ أدَعُ حَياتي تقَعُ في الأرضِ وتَمُوت مثلَ بِذارِ الزَّرع، لكَي
تأتِيَ بِثَمَر." بعدَ أن صَرَحَ بهذا بِنَفسِهِ، لاحِظُوا أنَّهُ يَربِطُ
مبدَأَ المَوتِ والقِيامَةِ الشَّخصِيَّين بي وبِكَ عندما يَقُولُ: "إن كانَ
أحدٌ يَخدِمُني فليَتبَعنِي." (يُوحَنَّا 12: 26)

 

إنَّ
ما يَقصُدُهُ بِوُضُوحٍ هُوَ القَول، "إنَّ تلاميذِي الحَقيقيِّين سيَعيشُونَ
برُوحِ ما أَعمَلُهُ وأُعلِّمُهُ هُنا، إن كانُوا يتبَعُونَني بِحَقّ."
جَوهَرُ الوعد الذي قطعَهُ لأُولئكَ الذين فَهِمُوا وطبَّقُوا تعليمَهُ هذا، كانَ:
"إن فَهِمتُم حقيقَةَ إضاعَةَ حياتِكُم لتَجِدُوها، يُكرِمْكُمُ الآبُ."

هل تبحث عن  بدع وهرطقات بدع حديثة المسيحية الصهيونية ة

 

عندما
كُنتُ ولداً صَغيراً، أتَذَكَّرُ أنَّني سألتُ والِدَتي التَّقِيَّة، والتي
أنجَبَت أحدَ عشرَ ولداً، سألتُها قائِلاً، "لو تَسَنَّى لكِ أن تُعيدِي
الكَرَّةَ، هل كُنتِ ستُنجِبِينَ هذا العدد الكبير منَ الأطفال؟" أَذكُرُ
أنَّها أجابَت بالقَول: "نعم، كُنتُ سأُنجِبُ هذا العدد الكَبير منَ الأولاد.
ولكن قبلَ إتِّخاذِ هذا الإلتِزام كُنتُ سأُقرِّرُ أيضاً أن أتخلَّى عن حياتِي
الشَّخصِيَّة."

 

هُناكَ
الملايينُ منَ النَّاس في الحَضَارَةِ الأميركيَّة اليوم، الذين ستَكُونُ رَدَّةُ
فعلِهِم على إلتزامِ والِدَتي هذا، بالقَول: "إنسِ هذه الفِكرة. فَلَدَيكِ
حَقٌّ لتَعيشِي حياتَكِ." هُناكَ تعبيرٌ شَعبِيٌّ شائِعٌ جدَّاً في أميركا
اليوم، ألا وهُوَ، "عِشْ حياتَكَ!" تقولُ الفَلسَفَةُ الإنسانِيُّةُ
العِلمانِيَّة، "أنتَ هُوَ مركَزُ كَونِكَ الشَّخصِيّ المُطلَق. والأمرُ
المُطلَق الوحيد في حياتِكَ، هُوَ ما تُريدُهُ أنتَ، وما يتوجَّبُ عليكَ أن
تعمَلَهُ لتحصَلَ على ما تُريدُ." هذا هُوَ نَقيضُ ما علَّمَهُ يسُوعُ
بواسِطَةِ الكلامِ والعَمل. فلقد علَّمَ يسُوعُ قائِلاً: "ليسَ لأحَدٍ حُبٌّ
أعظَمُ من هذا، أن يضَعَ الإنسانُ نفسَهُ من أجلِ أحِبَّائِهِ." (يُوحَنَّا
15: 13).

 

 في
الإصحاحِ الحادِي عَشَر، بعدَ أن صَلَّى قَبلَ إقامَةِ لِعازار منَ المَوت، أشارَ
يسُوعُ إلى أنَّ صَلاتَهُ لم تَكُنْ بِسَبَبِ كَونِ الآب إحتاجَ أن يسمَعَها، بل
كانت لِمَنفَعَةِ أُولئِكَ البَشَر الذين سَمِعُوها. ولقد علَّقَ يسُوعُ على
الصَّوتِ الذي ظَنَّهُ النَّاسُ أنَّهُ رَعدٌ منَ السَّماءِ، أو ملاكٌ
يُكَلِّمُهُ، علَّقَ يسُوعُ قائِلاً: "لَيسَ من أجلِي صارَ هذا الصَّوتُ بَل
من أجلِكُم." أي أنَّ الآبَ تكلَّمَ بهذه الكلمات ليسَ لأجلِي أنا، بل
لأجلِكُم أنتُم. (يُوحَنَّا 12: 30) في هاتَينِ المُناسَبَتَين، يُخبِرُنا يسُوعُ
أنَّهُ هُوَ والآب كانا في شَرِكَةٍ كامِلَة. ولأنَّهُ كانَ في إتِّحادٍ معَ الآبِ
طوالَ الوقت، عرفَ أفكارَ الآبِ وعرفَ الآبُ أفكارَهُ.

 

بَعدَ
إعلانِهِ أنَّ الصَّوتَ لم يَكُنْ لمَنفَعَتِهِ هُوَ، أعطى يسُوعُ تعليماً عظيماً
عنِ الدَّينُونَة: "الآنَ دَينُونَةُ هذا العالم. الآنَ يُطرَحُ رَئيسُ هذا
العالم خارِجاً." ها هُو َالآن يدخُلُ في إصطدامٍ وجهاً لِوجهٍ معَ كُلِّ
قُوَّاتِ الجحيم، ومعَ إبليس بالتَّحديد. (يُوحَنَّا 12: 31).

 

وكما
أشَرتُ سابِقاً، بدَأَتْ تجرِبَةُ يسُوع عندَ بِدايَةِ خدمَةِ يسُوع المسيح،
وإستَمَرَّتْ عبرَ سنواتِ خدمَتِهِ الثَّلاث العَلنيَّة. وهكذا كانَ الإنتِصارُ
النِّهائِيُّ على إبليس يأخُذُ مجراهُ عندما كانَ يسُوعُ يتواجَهُ معَ الصَّليب.
فقدَّمَ هذا التَّصريح في العددين 32 و33 من يُوحَنَّا 12: "وأنا إنِ
إرتَفَعتُ عنِ الأرض، أجذِبُ إلَيَّ الجَميع. قالَ هذا مُشيراً إلى أيَّةِ ميتَةٍ
كانَ مُزمِعاً أن يَمُوت."

 

في
الإصحاحِ الثَّالِث من هذا الإنجيل، يُخبِرُنا يُوحَنَّا كيفَ ذَكَّرَ يسُوعُ
نيقُوديمُوس بمُوسى الذي أُمِرَ بأن يرفَعَ الحَيَّةَ النُحَاسِيَّةَ على سارِيَةٍ
في وسطِ محلَّةِ بني إسرائيل. وعندما كانَتِ الحيَّاتُ تلدَغُ أفرادَ الشَّعب،
كانُوا ينظُرُونَ إلى الحيَّةِ النُّحاسِيَّةِ فيبرَأُونَ من لَسعِ الحيَّاتِ.
ولقد ربَطَ يسُوعُ بينَ هذه المُعجِزَة وبينَ مَوتِهِ على الصَّليب، وأشارَ إلى
هاتَينِ المُعجِزَتَين بالتَّعبِير، "إرتَفعتُ عنِ الأرض." ولكن هُنا،
يُضيفُ يسُوعُ وعداً جَميلاً: "وأنا إنِ إرتَفَعتُ عنِ الأرض، أجذِبُ إليَّ
الجَميع." فلقد إرتفعَ عنِ الأرضِ وعُلِّقَ على الصَّليب منذُ ألفَي سنة،
وملايينُ النَّاسِ نظرُوا إليهِ ونالُوا الخلاص.

 

أجابَهُ
رِجالُ الدِّين: "نحنُ سَمِعنا منَ النَّامُوس أنَّ المسيحَ يبقَى إلى الأبد.
فكَيفَ تَقُولُ أنتَ إنَّهُ ينبَغي أن يرتَفِعَ إبنُ الإنسان. من هوَ هذا إبنُ
الإنسان؟" (يُوحَنَّا 12: 34).

 

"إبنُ
الإنسان" هي عبارَةٌ في الكتابِ المُقدَّس، قد تعنِي أحياناً بِبَساطة
"إنسان." ولكن عندما يُشيرُ يسُوعُ إلى نفسِهِ بإبنِ الإنسان، فإنَّ هذه
العِبارَة تعني أكثَرَ من ذلكَ. فبِما أنَّنا نحنُ أبناء الله، وهُوَ إبنُ اللهِ
الوحيد المَولُود، فإنَّهُ يُعلِنُ نفسَهُ أنَّهُ هُو إبنُ الإنسان.

 

لَم
يَكُنِ اليَهُودُ يُؤمِنُونَ بأنَّ المَسيَّا سيَمُوت. بل توقَّعُوا أن ينتَصِرَ
المَسِيَّا ويملِكَ إلى الأبد. إن كانُوا قد عرَفُوا ما تَقُولُهُ أسفارُ العهدِ
القَديم بِشَكلٍ أفضَل، لآمنُوا وتوقَّعُوا بأن يرَوا المسيَّا كحمَلِ اللهِ،
وكإتمامٍ للذَّبائِح الحَيوانِيَّة التي قُدَّمَت في خيمَةِ الإجتِماعِ في
البَرِّيَّة وفي هيكَلِ سُليمان. (خُرُوج 12: 3؛ إشعياء 53: 7؛ يُوحَنَّا 1: 29).

 

وفي
النِّهايَة، أجابَ يسُوعُ على سُؤالِهم بالقَول، "النُّورُ معَكُم زماناً
قَليلاً بعد. فَسِيرُوا ما دامَ لكُمُ النُّورُ لِئلا يُدرِكَكُم الظَّلام."
(يُوحَنَّا 12: 35) نَجِدُ هُنا تعريفاً رائعاً للإيمان. فالذي نعمَلُهُ حيالَ ما
نعلَمُهُ، هُوَ دائماً الطَّريقَةُ الكتابِيَّةُ الأساسيَّةُ للتَّركِيزِ على
إيمانِنا. علَّمَ يسُوعُ ما معناهُ: "بدُون نُور، لا خَطيَّة."
(يُوحَنَّا 9: 41؛ 15: 22). فالتَّعريفُ الأساسيُّ لِلخَطيَّة هُوَ رَفضُ النُّور.
يُعَلِّمُ بُولُس أنَّنا إذا عِشنا على أساسِ النُّورِ الذي لدَينا، فاللهُ
سيُعطينا المَزيدَ منَ النُّور (فيلبِّي 3: 16). جوابٌ أساسيٌّ آخر على سُؤالِنا
عمَّا هُوَ الإيمانُ، هُوَ أنَّ الإيمانَ يسِيرُ دائماً على ضَوءِ ما يُعلِنُهُ
اللهُ.

 

خَوفُ
الإنسان وخَوفُ الله

هُناكَ
تجاوُبٌ آخَر معَ يسُوع، نراهُ مُسَجَّلاً هُنا ويُرينا ما ليسَ هُوَ الإيمانُ.
نقرأُ أنَّ الكثير منَ النَّاسِ آمنُوا، ولكنَّهُم إهتَمُّوا بإرضاءِ
الفَرِّيسيِّين أكثَر من إرضاءِ الله. لقد أعطُوا قيمَةً أكبَر لرِضى النَاس ممَّا
أعطُوا لِرِضى الله (يُوحَنَّا 12: 42 و43؛ 5: 44).

 

ثُمَّ
نقرَأُ التَّالِي: "فنادَى يسُوعُ وقالَ: الذي يُؤمِنُ بي ليسَ يُؤمِنُ بي بل
بالَّذي أرسَلَني. والذي يراني يرى الذي أرسَلَني. أنا قد جِئتُ نُوراً إلى العالم
حتَّى كُلُّ من يُؤمِنُ بي لا يمكُثُ في الظُّلمة." (يُوحَنَّا 12: 44- 46)

 

ولقد
سبقَ وأخبَرَنا الرَّسُولُ يُوحَنَّا أنَّ يسُوعَ كانَ يَهتِفُ عالِياً في
وَعظِهِ. في الإصحاحِ السَّابِع، نقرَأُ أنَّهُ عندما دَعا العطشانِينَ ليُقبِلُوا
إليهِ ويشرَبُوا، نادَى يسُوعُ واعِظاً بِصَوتٍ ديناميكيٍّ، حتَّى أنَّ جُندَ
الهَيكل الذين أُرسِلُوا لإلقاءِ القَبضِ عليهِ، لم يَضَعُوا عليهِ يَداً. بل
رَجَعُوا قائِلينَ، "لم يتكلَّمْ إنسانٌ قَطّ مثل هذا الإنسان!"
(يُوحَنَّا 12: 46)

 

لا
بُدَّ أنَّ يسُوعَ كانَ مُحاوِراً بارِعاً. لقد كانَ رَجُلَ الحِوار معَ رُسُلِهِ،
في أُطُرٍ تُشبِهُ الإطارَ الذي فيهِ ألقَى يسُوعُ المَوعِظَةَ على الجَبَل،
وموعظَةَ جبل الزَّيتُون، وعظتَهُ في العُلِّيَّة. ولقد كانَ يسُوعُ أيضاً بارِعاً
في الحوارِ العَدائِيّ. ولكنَّ يسُوع كانَ أيضاً واعظاً مُقتَدِراً! لهذا يَقُولُ
يُوحَنَّا أنَّ يسُوعَ كانَ "يُنادِي" عندما كانَ يعِظ – ليسَ فقط
أنَّهُ كانَ يتكلَّمُ ليسمَعَهُ الجَميع، بل لأنَّهُ كانَ يرفَعُ صَوتَهُ
ليتكلَّمَ بِسُلطان.

 

وكما
أخبَرَنا يسُوعُ في الإصحاحِ العاشِر، كانَ هُوَ والآب واحِد بشكلٍ مُطلَق
(يُوحَنَّا 10: 30). في عِظَةِ العُلِّيَّة، والتي سنلتَفِتُ إليها عمَّا قَريب،
سوفَ يَقُولُ يسُوعُ في الحوارِ الذي أجراهُ معَ الرُّسُل في ذلكَ الجَوِّ
الحَميم: "الذي رآني فقد رأى الآب." (يُوحَنَّا 14: 9) يا لِهذهِ
الكَلِماتِ الرَّائِعة! وهُوَ يَقُولُ الكلماتِ ذاتِها تقريباً في هذا المقطع:
"الذي يُؤمِنُ بي،… عندَما ينظُرُ إليَّ، يرى الذي أرسَلَني."

 

ثُمَّ
يُضيفُ هذه الكلمات: "أنا جِئتُ نُوراً إلى العالَم، حتَّى كُلُّ من يُؤمِنُ
بي لا يمكُثُ في الظُّلمة." (يُوحَنَّا 12: 46) ثُمَّ يُخبِرُنا عن مجالِ
الدَّينُونَة التي قليلاً ما نُفَكِّرُ بها: "وإن سَمِعَ أحدٌ كلامي ولم
يُؤمِنْ فأنا لا أَدينُهُ. لأنِّي لم آتِ لأدِينَ العالم بَل لأُخلِّصَ العالَم."
هل تَذكُرُونَ هذه الحقيقة عندما تمَّ تعليمُها في الإصحاحِ الثَّالِث؟ فهُوَ لم
يُرسَلْ إلى العالم ليَدِينَ العالم، بل ليُخَلِّصَ العالم. (يُوحَنَّا 3: 17)

 

وهُو
يَقُولُ لنا هُنا: "من رَذَلَني ولم يقبَلْ كلامي فلَهُ من يَدينُهُ.
الكَلامُ الذي تكَلَّمتُ بهِ هُوَ يَدينُهُ في اليومِ الأخير. لأنِّي لم
أتَكَلَّمْ من نَفسِي لأنَّ الآبَ الذي أرسَلَني هُوَ أعطاني وَصِيَّةً ماذا
أقُولُ أو بماذا أتكلَّمُ. وأنا أَعلَمُ أنَّ وَصِيَّتَهُ هي حياةٌ
أبديَّةٌ." (يُوحَنَّا 12: 48- 50)

 

بِحَسَبِ
الإصحاحِ السَّابِع، قدَّمَ يسُوعُ التَّصريحَ العظيم أنَّ تعليمَهُ كانَ تعليمَ
الله. في هذا المقطَع، يُطَبِّقُ هذا التَّصريح العقائِدِيّ عندما يُعلِنُ أنَّهُ
بما أنَّ تعليمَهُ ووعظَهُ هُوَ كلمةُ الله، فإنَّ هذه الكلمة ستدينُنا أنا وأنتَ
لأنَّها كَلِمَةُ الله. تطبيقيَّاً، جَوهَرُ ما يَقُولُهُ يسُوعُ هُوَ: "إذا
رَفَضتم أو فَشِلتُم في تطبيقِ كلمَةِ اللهِ الآب، ففي الدَّينُونة لن نحتاجَ أنا
والله الآب أن ندينَكُم. الكَلِمَةُ التي سمِعتُمُوها هي ستَدينُكُم."

 

وكما
أَشَرتُ سابِقاً، نجدُ هذا المَوضُوع يتكرَّرُ في تعليمِ يسُوع: ماذا نعمَلُ
حِيالَ ما نعلَمُ. وكما قالَ في الإصحاحِ التَّاسِع، وكما سيَقُولُ في الإصحاحِ
الخامِس عشَر: "بِدُونِ نُور، لا خَطِيَّة." (يُوحَنَّا 9: 41؛ 15: 22)
ولكنَّ النُّورَ الذي رفضناهُ أو تجاهَلنَاهُ سوفَ يَدينُنا. "أنا لم آتِ
لأدينَكُم، ولكن لا تُوجَدُ طريقَةٌ أستَطيعُ من خلالِها المجيءَ والتَّكلُّمَ
بكلمةِ اللهِ، بدُونِ أن تَدينُوا أنفُسَكُم عندما ترفُضُونَ أو تتجاهَلُونَ كلامَ
اللهِ الآب." بالفِعل، هذا هُوَ رُوحُ ما عَلَّمَهُ يسُوعُ حَولَ الطريقة
التي نعرِفُ أنَّنا سنُدانُ بها.

 

حسناً،
من هُوَ يسُوعُ في هذا الإصحاحِ الثَّانِي عَشَرَ من إنجيلِ يُوحَنَّا؟ إنَّهُ
ذلكَ الشَّخصُ الذي يُضَحِّي بِنَفسِهِ مُصَلِّياً بما مُؤدَّاهُ، "مَجِّدْ
نفسَكَ، أيُّها الآبُ، وأرسِلْ لي الفاتُورَة." وعندما قالَ ذلكَ، أجابَهُ
الآبُ: "لقد فعلتُ هذا سابِقاً، وسوفَ أفعَلُهُ مُجَدَّداً." يسُوعُ
هُوَ ذلكَ الشَّخصُ الذي يتكلَّمُ بكلمةِ اللهِ الآب بالطريقَةِ التي يُريدُه
اللهُ أن يَقُولَها.

 

وما
هُوَ الإيمانُ؟ الإيمانُ هُوَ إدراكُ كَونِكَ تُؤمِنُ لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ قد
أعطاكَ عينَين تريان، وأُذُنينِ تَسمَعان، وقلباً يفهَم. الإيمانُ يُعطي قيمَةً
لِرِضَى الله أكثَر ممَّا يُعطِي لِرضى الناس. الإيمانُ هُوَ العَيشُ والسُّلوكُ
على مُستَوى النُّور الذي قَبِلناهُ منَ الله.

 

وما
هِيَ الحياة؟ الحَياةُ هي ما ينتُجُ عندما تُصبِحُ حياتُكَ مثلَ بِذرَةٍ تسقُطُ في
الأرضِ وتَمُوت لكَي تأتِيَ بِثَمَر. الحَياةُ هِيَ الإثمار. الحياةُ هي بِذارُ
حياتِكَ التي تأتي بِبُذُورٍ كثيرة. الحياةُ هي الطريقة التي طبَّقَ بها بُولُس
الرِّسُول هذا التَّعليم. في رسالَةِ بُولُس إلى الغلاطِيِّين، أخبَرَهُم ثلاثَ
مرَّاتٍ أنَّهُ يحيا لأنَّهُ صُلِبَ معَ المسيح (غلاطية 2: 20).

 

هذا من
هُوَ يسُوع، وما هُوَ الإيمانُ، وما هِيَ الحياة، بِحَسَبِ الإصحاحِ الثَّانِي
عَشَر من إنجيلِ يُوحَنَّا.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي