الإصحَاحُ
الأَوَّلُ

 

الفصل
الأول

"الابن
الوحيد أزلي وقبل كل الدهور"

          ماذا
يقولون عن "في البدء كان الكلمة"؟ هل هذا يعني ان الابن ليس الله؟ لأن
الأسفار الالهية تقول : "لا يكن لك آلهة جديدة في وسطك" (مزمور 81 : 9).
فكيف لا يكون الابن الهاً جديد إذا كان قد ظهر فقط في الزمان؟ وكيف لا يكون كاذباً
وهو يقول لليهود : "الحق أقول لكم قبل ان يكون ابراهيم أنا كائن" (يوحنا
8 : 58). أليس من الواضح بل ما يعترف به الكل ان المسيح ولد من العذراء القديسة
بعد ابراهيم بعصور كثيرة!؟ وكيف يمكن ان يصبح للكلمات "في البدء كان
الكلمة" أي معنى إذا كان الابن الوحيد جاء الى الوجود في الزمان؟ أنظروا –
أرجوكم – من الأدلة التالية كيف تصبح غباوة ظاهرة ان يقضي على الميلاد الأزلي
للابن اذا سمح الذهن بأن يتصور انه جاء الى الوجود في الأزمنة الأخيرة. ان نفس
كلمة "البدء" سوف تقودنا الى معان أعمق.

"في
البدء كان الكلمة"

          لا
يوجد ما سبق البدء. إذا ظل البدء بالحق بدأً، لأن بدء البدء مستحيل، واذا تصورنا
ان شيئاً ما سبق البدء تغير البدء ولم يعد بدءاً بالمرة. وإذا تصورنا ان شيئاً
يمكن ان يسبق البدء، فإن اللغة الإنسانية سوف لا تمكننا من الكلام لأن ما سبق البدء
هو البدء المطلق والحقيقي ويصبح ما بعد ذلك ليس بدءاً بالمرة.

          اذا
لا بدء للبدء حسب دقة المنطق، وتظل حقيقة البدء غير مدركة، لأن ادراكها يجعل البدء
يفقد كونه انه البدء. وحيث اننا مهما عدنا الى الوراء فإننا نعجز عن الوصول الى
البدء مهما حاولنا، فإن هذا يعني ان الابن لم يخلق بالمرة، بل هو كائن مع الآب
لأنه "كان في البدء". واذا كان في البدء فأين هو العقل الذي يستطيع ان
يتخطى كلمة "كان" ويتصور ان الابن جاء الى الوجود في الزمان. ان كلمة
"كان" سوف تظل كما هي. "كان" تتحدى وتسبق كل البراهين، بل
تجوز أمام كل الأفكار التي تحاول عبثاً ان تدركها.

          لقد
أصابت الدهشة النبي اشعياء عندما قال "وميلاده من يخبر به؟ لأن حياته رفعت من
الأرض" (اش 53 : 8). وحقاً لقد رفع من الأرض تماماً كل آثار الميلاد الأزلي
لأنه يفوق الإدراك. واذا كان فوق الإدراك فكيف يمكن ان نقول انه مخلوق، لأننا نقدر
ان نحدد بوضوح زمن بداية المخلوقات وكيفية وجودها، أما البدء فنحن نعجز عن ان نحدد
زمن بدايته.

نظرة
أخرى مختلفة الى عبارة "في البدء كان الكلمة"

          ليس
من الممكن ان نعتبر "البدء" خاصاً بزمان مهما كان، لأن الابن الوحيد هو
قبل كل الدهور، والطبيعة الالهية تغلق حدود الزمن، فهي كما هي لا تتغير حسبما قيل
في المزمور عن الله : "أنت هو وسنوك لن تفنى" (مزمور 102 : 27) فالبدء
الذي يمكن قياسه بالزمان او المسافات سوف يتعداه الابن، فهو لا يبدأ في زمان او
مكان بل هو بلا حدود فهو بالطبيعة الله ويصرخ انا هو الحياة (يوحنا 14 : 6)، ومع
ان كل بداية لا يمكن ان تكون بلا نهاية لأن البداية تسمى بداءة من زاوية خاصة وهي
وجود نهاية لها، وكذلك النهاية تسمى نهاية بسبب وجود بداية لها، هذه البداية خاصة
بالزمان والمسافة، ففي الزمان والمسافة، البداءة تعني نهاية والعكس. أما بالنسبة
للابن فالبدء ليس بدءاً زمنياً ولا جغرافياً، فهو أزلي وأقدم من كل الدهور، ولم
يولد من الآب في الزمان لأنه "كان" مع الآب، مثل الماء في الينبوع، أو
كما قال هو "خرجت من عند الآب وقد أتيت الى العالم" (يوحنا 16 : 28).
فاذا اعتبرنا الآب المصدر او الينبوع، فان الكلمة كان فيه لأنه حكمته وقوته وصورة
جوهره وشعاع مجده. وإذا لم يكن وقت كان الآب فيه بلا حكمة وكلمة وصورة وشعاع، فإنه
من الواضح ان الابن الذي هو حكمة وكلمة وصورة الآب وشعاع مجده أمر لا يحتاج الى
إقرار منا، فهو أزلي مثل الآب الأزلي، وإلا كيف يوصف بأنه صورته الكاملة ومثاله
التام، إلا إذا كان له بوضوح ذات الجمال الذي هو على صورته.

          هل
من اعتراض على ان الابن في الآب مثل الماء في الينبوع، او ان الآب هو الينبوع؟ ان
كلمة ينبوع تعني هذا المعية، لأن الابن في الآب وهو من الآب، ليس كمن يأتي من
الخارج في الزمان، بل هو من ذات جوهر الآب، يشع مثل الشعاع من الشمس او صدور
الحرارة من النار. هذه الأمثلة تعني ان نرى كيف يولد او صدور الحرارة من النار.
هذه الأمثلة تعني ان نرى كيف يولد او يصدر شيء من شيء، وفي نفس الوقت لا يصدر
متأخراً او بعد زمن، او ان تكون له طبيعة مختلفة بل يصدر الشيء من الشيء ويظل
كائناً معه لا ينفصل عنه، بل لا يمكن لأي منهما ان يوجد بدون الآخر، فلا شمس بلا
شعاع ولا شعاع بدون شمس تشعه من داخلها. ولا نار بلا حرارة ولا حرارة إلا من نار.
فالانفصال يعني ان يفقد الشيئان معاً الطبيعة التي تميزهما. فكيف تصبح الشمس شمساً
بلا أشعة، وكيف تصبح النار ناراً بلا حرارة.

          وكما
ان هذه الاشياء التي تصدر بعضها عن البعض تجعل وجودها معاً أمراً ضرورياً لا
انفصال فيه بل تظل دائماً بمصدرها وتحتفظ بطبيعة المصدر، هكذا الأمر مع الآب
والابن، لأننا نعتقد ونقول انه في الآب ومن الآب. وهذا يعني انه ليس كائناً غريباً
او جاء في الترتيب بعد الآب، بل هو فيه ومعه دائماً، ويشرق منه دائماً حسب الميلاد
الالهي الأزلي غير المدرك.

          ولذلك
وصف القديسون الله الآب بأنه هو "بدء" الابن، وكانوا يقصدون من ذلك انه
مع الآب لأن المزمور بالروح القدس يقول عن الظهور الثاني بالجسد لمخلصنا يقول عنه
كابن "معك البدء في يوم قوتك في بهاء قديسيك" (مز 110 : 3س) ([i]) ويقول
قوة الابن هو اليوم الذي سوف يدين فيه العالم
ويعطي كل واحد حسب أعماله. وحقاً
سوف يأتي مع الآب لأنه في الآب، وهو البدء غير المبتدئ للطبيعة الالهية، وهي التي
تجعل الآب البدء بالنسبة للابن من ناحية المعية لأن الابن من الآب.

"في
البدء كان الكلمة" :

          سوف
يقودنا هذا الشرح الى أفكار كثيرة متعددة وجوانب مختلفة لمعنى "البدء"
وسوف نتتبع كل هذه الأفكار في غيرة شديدة مثل كلب الصيد الذي يطارد الفريسة ولا
يتوقف حتى يقتنصها، وهكذا سوف نقتفي آثار التعاليم الإلهية ودقة الأسرار. لقد قال
المخلص "فتشوا الكتب لأنكم تظنون ان لكم فيها حياة وهي تشهد لي" (يوحنا
5 : 39).

          والانجيلي
المبارك – على ما يبدو لي – يسمى الآب "البدء
Archi" اي القوة والسيادة التي على الكل اي الطبيعة الالهية التي
فوق الكل والتي تحت أقدامها تستقر الطبائع المخلوقة التي هي كائنة ومدعوة للوجود
بسبب ارادة اللاهوت.

          في
هذا "البدء
Archi"
الذي هو فوق الكل وعلى الكل "كان الكلمة"، ليس من الطبائع المخلوقة التي
تحت قدمي البدء وانما عالياً عنها جميعاً لأنه "في البدء" اي من ذات
الطبيعة والكائن دائماً مع الآب، وله طبيعة الذي ولده كمكان أزلي قبل الكل. لذلك
هو مولود حر من الآب الحر، ومنه ومعه له السيادة ([ii])
Archi على الكل. وما هو
المقصود من هذه النقطة بالذات؟

          لقد
ادعى البعض – كما اشرنا – ان الكلمة دعي الى الوجود أولاً عندما أخذ هيكله من
العذراء مريم وصار انساناً لأجلنا. وما نتيجة هذا الإدعاء؟ وماذا يحدث لو كان
الابن حقاً كما يدعون مخلوقاً مثل كل المخلوقات، وجاء الى الوجود من العدم وله اسم
وحقيقة العبودية وصفات الطبيعة المخلوقة. ومن من الطبائع المخلوقة يمكنه بحق ان
يهرب من الخضوع لسلطة الله الرب الذي هو على الكل؟ ومن من الكائنات يتوقف عن
الخضوع للسيادة والقوة والربوبية التي على الكل؟ والتي يشير اليها سليمان والقوة
والربوبية التي على الكل؟ والتي يشير اليها سليمان حينما يقول "عرش المملكة
يثبت بالبر" (أمثال 16 : 12). وما هو العرش الذي له السيادة على الكل؟ يقول
الله بواسطة أحد القديسين "السماء هي عرشي" (اشعياء 66 : 1). ولذلك
فالسماء مستعدة للبر، وهذا يعني ان الكل خاضع لعرش الله في السماء اي كل الأرواح
المقدسة المستعدة لخدمته.

          لهذا
السبب بعينه يهجم الانجيلي المبارك بقوة على الذين يعلمون بأن الابن يحسب في عداد
المخلوقات الخاضعة لسلطة عرش الله وانه تحت السيادة
Archi، ويصرخ الانجيلي ضد هؤلاء جميعاً معلناً ان الابن ليس من
المخلوقات بالمرة بل هو حر تماماً من العبودية، لأنه من ذات جوهر الآب وله ذات
السيادة ويعلن عن طبيعته بقوله "في البدء كان الكلمة".

          ولكي
يقضي تماماً على هذا الرأي يضيف الى كلمة "البدء" فعل "كان"
لكي ندرك ان الكلمة ليس حديثاً "بل أزلياً" وقبل كل الدهور. والفعل
"كان" وضع هنا لكي يحمل كل مفكر الى أعماق سحيقة وهي الميلاد الأزلي غير
المدرك الذي هو فوق الزمان. وفعل "كان" هو فعل مطلق لا يمكن ان يتوقف لا
سيما إذا اقترن "بالبدء". و"كان" تعلو على الزمان ولا يمكن
قياسها. فهي دائماً تسبق الفكر، ومهما حاول العقل ان يتصور انه وقف عند
"كان" يجد بعد ذلك ان النقطة التي توقف عندها هي أقل بكثير من فعل
"كان".

          اذن
"فالكلمة كان في البدء"، اي كان في السيادة على الكل، وله صفات الربوبية
لأنه من الله وما دام هذا هو الصحيح فكيف يمكن ان يقال انه خلق!؟ وكيف ينطبق هذا
الإدعاء على معنى فعل "كان"؟ وكيف يمكن مصالحة الذي "لم يكن"
مع الذي "كان"؟ واي مكان هناك بالمرة لعبارة "لم يكن" فيما
يخص الابن؟

 

الفصل
الثاني

الابن
واحد مع الآب في الجوهر ولذلك هو اله في اقنومه مثلما هو الآب ايضاً اله في اقنومه

"والكلمة
كان عند الله" :

          بعد
ان عرى الرسول الذين يدعون ان الابن الكلمة مخلوق، وهؤلاء الذين عفى عليهم الزمان
لأنهم بلا ادراك، فالعبارة "في البدء كان الكلمة" تقفل باب الإدعاء بأن
الابن يحسب في عداد الكائنات المخلوقة، وبعد ان جردهم من كل الأفكار الغبية بهذه
العبارة "في البدء كان الكلمة" يتقدم لمحاربة هرطقة فاسدة أخرى. مثل
فارس عظيم ثابت له صبر لا ينتهي بل يفرح بالاتعاب والجهاد ويشد حقويه ويرتدي عدة
القتال او مثل فلاح ينزع من حقله كل الأشواك وينزعها واحدة واحدة، ويدور حول الحقل
عدة مرات لكي يجمع كل شوكة على حدة ويضعها كلها واحدة واحدة ويبحث عن جذور
الأشواك، هكذا صار الرسول يوحنا الذي عرف ان كلمة الله "حية وفعالة وأمضى من
كل سيف ذي حدين" (عبرانيين 4 : 12)، وعندما أدرك خطورة هؤلاء نازلهم بقوة لكي
ينزع الجذور بالمرة الشريرة للمقاومين للحق، وبقوة وثبات ينزعهم من كل ناحية ويقدم
لمن يقرأ انجيله خدمة الدفاع عن الايمان الصحيح.

          لندرك
حذر هذا الذي حمل الروح في داخله، لقد كتب ان الكلمة كان "في البدء
Archi" اي "في الله الآب".
ولكن لأن عين ذهنه قد استنارت، لم يجهل ان البعض سوف يقومون بجهل شديد ليدعوا ان
الآب والابن واحد وأنهما غير متمايزين الا في الاسماء فقط، وانه وليس في الثالوث
أقانيم. وتمايز الأقانيم يعني ان الآب هو فعلاً آب وليس ابناً وكذلك الابن هو ابن
وليس آباً، حسب كلمة الحق.. (
*)
وضد هذه الهرطقة يسلح نفسه لكي يقضي عليها ويهاجم من جانب بقوله "في البدء
كان الكلمة" ثم يهاجم من جانب آخر بقوله "والكلمة كان عند الله"
وفي كلتا العبارتين استخدم فعل "كان" لضرورة تأكيد ان ميلاده كان
أزلياً. وبقوله "والكلمة كان عند الله" أكد انه متمايز وأقنوم آخر غير
أقنوم الآب الذي معه الكلمة.

          والذين
ينكرون الأقانيم لا يدركون ان الواحد الذي بلا اقانيم لا يمكن ان نقول انه
"معه" او كان "معه"، فهو وحده بذاته. هذا الأمر يستدعي مناقشة
الهرطوقي لكي يدرك ان ادعاءه لا يتفق مع المعرفة الصحيحة وسوف نعلم في المقاطع
التالية من خلال أسئلة واضحة ومحددة خطأ الهراطقة.

          "براهين
مأخوذة من شهادات الأسفار تبرهن ان الآب أقنوم والابن أقنوم آخر وان الروح القدس
يحسب معها الأقنوم الثالث رغم أننا لا نخصص كلاماً عن الوهية أقنوم الروح
القدس".

          الابن
هو من الجوهر نفسه مع الآب، والآب هو من الجوهر نفسه مع الابن، وكلاهما مساوي ومثل
الآخر تماماً بلا تغيير حتى أننا نرى الآب في الابن والابن في الآب، وكلاهما يشرق
من خلال الآخر مثلما قال المخلص نفسه "الذي رآني فقد رأى الآب" وأنا في
الآب والآب فيَّ" (يو 14 : 9، 10)، ومع ان الابن في الآب والآب في الابن وهو
مثل الآب الذي ولده تماماً في كل شيء. ويعلن الآب في ذاته بلا نقص، إلا ان هذا لا
يعني ان الابن فقد اقنومه المتميز، ولا ان الآب فقد أقنومه الخاص به، فالتماثل
التام بين الأقانيم لا يعني اختلاط الأقانيم حتى ان الآب الذي منه يولد الابن يصبح
بعد ذلك ابناً، ولكن الطبيعة الالهية الواحدة نفسها هي للأقنومين مع تمايز كل
منهما حتى أن الآب هو الآب والابن هو الابن وأيضاً الروح القدس يحسب معهما الهاً
مثل الآب والابن. وهذا هو كمال الثالوث المعبود.

أولاً
:

          لو
كان الابن أباً أيضاً فما هو معنى تمايز الاسماء؟ لو كان الآب لم يلد أحداً من
ذاته فلماذا يدعى الآب؟ ولماذا يدعى بهذا الاسم لو كان غير مولود من الآب؟ ان
تمايز الاسماء يعني تمايز الأقانيم وحيث ان الأسفار المقدسة تعلن ان الابن مولود
من الآب – وهذا هو الحق – فإننا ندرك ان له أقنوم متميز كما ان الآب له أقنوم
متميز مثل تمايز الوالد عن المولود.

ثانياً
:

          يكتب
الطوباوي بولس في رسالته الى الفيلبيين عن الابن "الذي إذ كان في صورة الله
لم يحسب مساواته لله اختلاساً" (2 : 6). فمن هو الذي لا يحسب مساواته لله
اختلاساً؟ فالتمايز هنا ظاهر لأن الذي هو صورة الله متمايز عن الأصل. وهذا هو الحق
الذي يؤمن به الكل. فالآب والابن ليسا واحداً في الأقنوم بل كل منهما أقنوم يمكن
رؤيته في الآخر بسبب وحدة الجوهر، لأنهما اله من اله، الابن من الآب.

ثالثاً
:

          "أنا
والآب واحد" (يوحنا 10 : 30) هكذا قال المخلص مؤكداً ان له كيان خاص متمايز
عن كيان الآب. واذا لم يكن هذا هو الحق الواضح فلماذا قال "أنا والآب"
كان عليه الاكتفاء بكلمة "واحد". ولكن حيث انه أعلن ماذا يقصد بالكلام
عن اثنين فقد قضى تماماً على ادعاء المخالفين لأن "أنا والآب" لا يمكن
ان تعني انهما أقنوم واحد بل واحد في الجوهر.

رابعاً
:

          عن
خلق الانسان نسمع صوت الله يقول "نخلق الانسان على صورتنا كشبهنا"
(تكوين 1 : 16). فلو كان الله اقنوماً واحداً بلا تعدد وليس ثلاثة أقانيم فمن الذي
كان يتكلم مع من؟ ويقول له "نخلق الانسان على صورتنا" ولو كان الله
أقنوماً واحداً لقال "اخلق الانسان على صورتي" لكن الكتاب لم يذكر ذلك،
ولكن حيث ان صيغة الجمع استخدمت "صورتنا" فانها تعلن بصوت قوي ان أقانيم
الثالوث هي. هي أكثر من واحد.

خامساً
:

          لو
كان الابن هو اشعاع (بهاء) الآب، كنور من نور (عبرانيين 1 : 3) فكيف لا يكون
متمايزاً عنه وله أقنومه الخاص لأن البهاء غير البهي – (الاشعاع غير المشع).

سادساً
:

          يعلن
الابن انه من جوهر الآب بقوله "خرجت من عند الآب وأتيت الى العالم… وايضاً
"أمضي الىالآب" (يوحنا 16 : 28) فكيف لا يكون آخراً ومتمايزاً عن الآب
في الاقنوم؟ الا تؤكد كل الأدلة لنا ان الذي يخرج من آخر يعني انه متمايز عن الآخر
والعكس طبعاً غير صحيح.

سابعاً
:

          بالايمان
بالله الآب وابنه يسوع المسيح وبالروح القدس نحن نتبرر، ولذلك يأمر المخلص نفسه
تلاميذه قائلاً "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح
القدس" (متى 28 : 29). فإذا كان اختلاف الاسماء لا يعطينا الاعتقاد بأن الأقانيم
ثلاثة فما الفائدة من استخدام الاسماء الثلاثة؟ اذا كان من يتكلم عن الآب يعني
الابن او من يتكلم عن الابن يعني الآب فما الداعي الى الوصية بأن يعتمد المؤمنون
باسم الثالوث وليس باسم واحد؟ ولكن لأن الطبيعة الالهية هي الثالوث فمن الواضح ان
كل أقنوم له كيانه الخاص به، ولما كان لا يوجد اختلاف بينهم في الطبيعة الالهية
فإن اللاهوت واحد وكل أقنوم يعبد مع الاقنومين الآخرين.

ثامناً
:

          تقول
الأسفار الإلهية بأن مدن السادوميين قد أحرقها غضب الله وتصف هذا الخراب بالقول
"وأمطر الرب على سادوم ناراً.. من عند الرب" (تكوين 19 : 24)، وهذا هو
نصيب وكأس (مز 11 : 6) الذين يرتكبون مثل هذه الخطايا. ولكن من هو الرب الذي أمطر
ناراً وكبريتاً من عند الرب وأحرق مدن السادوميين؟ من الواضح انه الآب الذي يعمل
كل شيء بالابن، لأنه هو ذراعه القوي وقوته، فهو الذي جعله يمطر ناراً على
السادوميين ولذلك قيل "أمطر الرب من عند الرب". فكيف لا يعلن هذا ان
الآب هو آخر غير الابن وان له أقنومه المميز وكذلك الابن غير الآب وله أقنومه
المميز لأن الواحد هنا يظهر انه من الآخر.

تاسعاً
:

          عندما
تحرك المرنم بروح النبوة وعلم ما سيأتي قال في المزامير وهو يعلم ان الجنس البشري
لا يمكن ان يخلص الا بظهور ابن الله الذي يحول كل شيء حسب ارادته، لذلك تنبأ عن
مجيء الابن الينا لكي ينقذ الذين هم تحت الفساد والموت وسلطان الشيطان فقال لله
الآب "ارسل نورك وحقك" (مزمور 43 : 3). فما هو النور؟ وما هو الحق؟
لنسمع الابن نفسه يقول "أنا النور" وأيضاً "أنا الحق" (يوحنا
8 : 12، 14 : 6) فاذا كان نور الآب وحقه هو الابن الذي سيأتي الينا، فكيف لا يكون
الابن اقنوماً متميزاً عن اقنوم الآب رغم انه واحد معه في الجوهر ومماثل له
تماماً؟ وإذا تخيل أحد ان هذا ليس كذلك وان الابن والآب هما اقنوم واحد، فلماذا لا
يصرخ المرنم الذي سكن فيه الروح القدس فصاغ صلاته قائلاً "تعال ايها النور
والحق"؟ ولكن حيث يقول "ارسل" فهو يعرف جيداً ان الواحد متميز عن
الآخر فالواحد اي الآب يرسل والابن هو الذي يرسل والارسال نفسه يؤكد لنا تمايز
الأقانيم.

عاشراً
:

          تقول
الأسفار الالهية انه "بالابن خلقت كل الاشياء سواء ما في السماء او على الأرض
ما يرى وما لا يرى" (كولوسي 1 : 16)، هكذا نؤمن ونعبد حسب الحق ونصعد في
طريقنا الى الحق والايمان السليم حسب العقيدة الصحيحة. فما هو المعنى الدقيق
"بالابن"؟ ومن الواضح ان هذا يعني ان الذي يصنع هو غير الذي يتم بواسطته
العمل لأن الآب اذا كان يعمل كل شيء "بالابن" فمن الواضح ان له اقنوماً
متميزاً ويصبح تعبير "بالابن" "قادراً" على التعبير عن
اقنومين. وعلى المخالفين ان يقولوا لنا كيف يفهمون تعبير "بالابن"؟ وكيف
يعمل الابن اذا كان هو اقنوماً واحداً مع الآب. ولكني أظن أنهم سيصابون هنا
بالارتباك. ولكن حيث ان الاسفار المقدسة تعلن ان الآب عمل كل الاشياء بالابن، ونحن
نؤمن بهذا وكذلك أظن أنهم ايضاً يؤمنون به : فكيف لا يكون ضرورياً ان نفهم ان الآب
يوجد متميزاً بنفسه وهكذا الابن ايضاً متميز بنفسه، وهذا لا ينفي بالمرة ان
الثالوث القدوس يكون له الجوهر الواحد نفسه.

 

الفصل
الثالث

"الابن
هو بالطبيعة اله وليس أقل من الآب"

"وكان
الكلمة الله" :

          ذلك
الذي حمل الروح في داخله لم يجهل انه سوف يقوم البعض في الأيام الأخيرة يقاومون
جوهر الابن الوحيد وينكرون الرب الذي اشتراهم (2 بطرس 2 : 1) بالافتراض ان الكلمة
الذي ظهر من الله الآب ليس بالطبيعة الله، وهؤلاء يجعلونه على هذا النحو اله مزيف
نال اسم الألوهة دون استحقاق واسم البنوة وهو ليس كذلك. هؤلاء يأخذون كفر اليهود
الذي استعان به أريوس وتسكن فيهم كلمة الموت والكفر ويصبح "لسانهم سهم قتال
يتكلم بالخداع" (ارميا 9 : 8).

          ولأن
بعض هؤلاء يقاومون كلمات الحق وكأنهم يقولون للانجيلي القديس : "الكلمة عند
الله" نحن نوافق على هذا وبكل ارتياح نوافق على ما كتبت ولكن الآب كائن وحده
منفصل عن الابن وكذلك الابن كائن وحده منفصل عن الآب. فما هي طبيعة الابن؟ ان
وجوده عند الله الآب لا يعلن شيئاً عن جوهره ولكن حيث ان الاسفار الالهية تعلن
الهاً جديداً فإننا مستعدون للاعتراف بالآب فقط الذي كان الكلمة عنده. فماذا يجيب
بشير الحق : ليس فقط بأن "الكلمة عند الله" بل "وكان الكلمة
الله" لكي تعلن وجوده مع الله وتمايزه عن الآب وانه اقنوم آخر غير أقنوم
الآب، ولكن في نفس الوقت الله، ومن الجوهر نفسه الذي للآب، وهو منه بالطبيعة لأنه
اله من اله. لأنه من غير المعقول ان يكون اللاهوت واحداً ولا يكون هناك تماثل تام
في الصفات الالهية بين الأقانيم او ان لا تكون الأقانيم متساوية، لذلك يقول عن
الابن انه "كان الله" ولم يصبح كذلك في وقت معين، بل كان دائماً وأزلياً
الله، لأن ما يحدث في الزمان أو ما لا وجود أزلي له، ثم يوجد بعد ذلك، لا يكون
الهاً بالطبيعة.

          فاذا
كان الكلمة موجوداً منذ الأزل (بكلمة كان) ومساو للآب في الجوهر لأنه الله، فمن ذا
الذي يشك في الوهيته ولا يحل به العقاب. أو من يظن أنه أقل من الآب او مختلف عن
الآب الذي ولده منه، فمن لا يرتعد من هذا الانحدار في الكفر ويتجاسر وينطق بهذه
الأمور للآخرين وهم "لا يفهمون ما يقولون – ولا ما يقررونه" (1تيموثاوس
1 : 7).

          أما
حقيقة الابن الذي هو حق من الآب وليس أقل من الآب فهذا ما سوف تؤكده الحقائق
التالية :

أولاً
:

          تدعو
الأسفار الالهية الابن بأسماء كثيرة ومختلفة : فهو يسمى احياناً "حكمة وقوة
الآب" مثلما قال بولس "المسيح قوة الله وحكمة الله" (1كورنثوس 1 :
24)، ودعي أيضاً "النور والحق" مثلما رتل أحد القديسين في المزامير
"أرسل لي نورك وحقك" (مزمور 30 : 3)، ويدعى ايضاً "البر"
"احيني في برك" (مزمور 119 : 40). لأن الآب يحيي في المسيح كل الذين
يؤمنون به، ويدعى ايضاً "مشورة الآب"، كما قيل "أنت سوف تقودني
بمشورتك" وايضاً "مشورة الرب فتثبت الى الأبد" (مزمور 73 : 24 –
مزمور 33 : 11). فاذا كان الابن هو كل هذا بالنسبة لله الآب فكيف يمكن قبول انحراف
اريوس وهو غباوة الانسان الكاملة؟ ومن يمكنه بعد ان يسمع كل هذه الاشياء ان يقول
ان الابن اقل من الآب لأنهم لو كانوا على صواب فاننا سوف نصل الى هذه النتيجة وهي
ان الآب ليس حكيماً كلية، وليس قوياً كلية، ولا هو نور كلية، ولا هو حق كلية، ولا
هو بار كلية، ولا هو كامل في مشورته اذا كان الابن الذي هو كل هذا بالنسبة للآب،
وبسبب كونه أقل من الآب، يصبح الآب نفسه غير كامل. أليس هذا كفر. فالآب كامل لأن
فيه الصفات كاملة في ذاته. والابن ايضاً كامل لأنه "الحكمة"
و"القوة" و"النور" و"البر" و"مشورة
الآب"، والذي تبرهن أنه هو كل ذلك كيف يمكن ان نعتقد انه أقل من الآب؟

ثانياً
:

          لو
كان الابن أقل من الآب وهو يعبد منا ومن الملائكة القديسين، فإن هذا يعتبر عبادة
الهين، لأن الذي ينقصه الكمال سيظل دائماً غير قادر على ان يصل الى المساواة في
الجوهر مع الكامل. وما أعظم الفرق بين ان يكون الابن من جوهر الآب وان يكون اضافة
غريبة الى اللاهوت. والايمان ليس هو ايمان بعدة آلهة بل باله واحد هو الله الآب مع
الابن والروح القدس المتحدين معه. اذن الاتهام الموجه للابن بأنه أقل من الآب هو
لا شيء بالمرة ولا يعتد به، لأنه كيف يمكن ان يكون من هو أقل كمالاً في وحدة مع
الآب الكامل؟ بل كيف يكون متحداً بالطبيعة في وحدة الجوهر مع الآب؟

ثالثاً
:

          إذا
كان الابن هو الملء "لأن من ملئه نحن جميعاً أخذنا" (يوحنا 1 : 16) فما
هو مكانه الحقيقي وهو أقل من الآب كما يدعون؟ لأن الاشياء المختلفة تماماً لا يمكن
مصالحتها ووضعها في وحدة. فكيف يكون الابن الملء وفي نفس الوقت أقل من الآب.

رابعاً
:

          إذا
كان الابن أقل من الآب وفي نفس الوقت هو الملء ويملأ كل الاشياء، فأين مكان الآب
العظيم في كل شيء اذن؟ لأنه حتى في الأمور المجسمة الذي يملأ الكل لا يترك مكاناً
لغيره بل يصبح هو الأعظم، فكيف في الأمور غير المنظورة؟ فإنهم يدعون ان الأقل
(الابن) يملأ كل الاشياء. فماذا ترك للأعظم (الآب)؟

خامساً
:

          اذا
كان الله هو فوق كل اسم، والابن الوارث له قد نال الاسم الذي هو فوق كل اسم. فكيف
يوصف بأنه أقل من الآب وفي نفس الوقت له الاسم الذي فوق كل اسم، من الغباوة ان
نفكر او نقول هذا. فالابن كامل لأنه فوق كل اسم، وهو الله.

سادساً
:

          إذا
كانت الطبيعة الالهية بلا كم
Quantity فكيف
يكون الأقل أقلاً دون ان يكون أقل من غيره. فكيف نصف الابن الذي هو بالطبيعة الله
كأقل من الآب؟ فما هي هذه الدرجة من القلة؟ أليس هذا ادعاءً بأن الكم صار كمقياس
يقاس به اللاهوت.

سابعاً
:

          يقول
يوحنا الانجيلي عن الابن "انه لا يعطي الله الروح بكيل" (يوحنا 3 : 34)
للذين يستحقون، فاذن لا يوجد مكيال لدى الابن، فهو لا يمكن قياسه بل يفوق كل
المقاييس لأنه الله. فكيف يقاس الذي لا يقاس ويوصف بأنه أقل؟

ثامناً
:

          إذا
كان الابن أقل والآب أعظم، فكل منهما بشكل مختلف يمنح لنا التقديس، يمنحه الابن
بشكل أقل والآب بشكل اعظم. فماذا عن الروح القدس؟ هل سيعمل عملاً مزدوجاً : أقل من
الابن، وأعظم مع الآب؟ والذين سوف يقدسون بالاب سوف يقدسون بشكل كامل، أما الذين
سيقدسون بالابن سوف يقدسون بشكل أقل. هذه غباوة عظيمة، فالروح القدس واحد في كماله
وفي تقديسه وهو يعطى مجاناً من الآب بواسطة الابن طبيعياً. فليس الابن أقل من الآب
الكامل، بل هو يعمل كل شيء مع الآب، وله الروح القدس روح الآب الذي ولده. وهو صالح
وكامل وحي وله كيانه الخاص به مثل الآب تماماً.

تاسعاً
:

          اذا
كان الابن في صورة ومساواة الآب كما يقول بولس (فيلبي 2 : 6) فكيف يكون أقل منه؟
لقد كان تدبير الجسد والخضوع الذي يذكره الرسول هنا هو الذي اقتضى ان يؤكد ان
الابن في صورة الآب ومساواة له. فماذا نقول عن الظهور الثاني عندما يأتي من السماء
في الوقت المعين ولن يأت في شكل الاتضاع بل في الكرامة الطبيعية الخاصة به كابن
حسب قوله "في مجد ابيه" (مرقس 8 : 38). فكيف يكون في مجد الآب الكامل،
وهو أقل منه؟

عاشراً
:

          يقول
الله الآب على لسان أحد الانبياء "ومجدي لا أعطيه لآخر" (اشعياء
48 : 11)، ونسأل الذين يكفرون ويحتقرون الابن بل فيه ايضاً يحتقرون الآب (لأن الذي
لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي ارسله يوحنا 5 : 23)، هل الابن، لكونه كما
يفترضون، أقل من الآب، هو من الجوهر نفسه الذي للآب أم لا؟ فاذا قالوا انه من جوهر
الآب نفسه فلماذا يجعلونه أقل من الآب؟ لأن الاشياء التي لها ذات الجوهر ولها نفس
الطبيعة لا يمكن ان يكون فيها من هو أعظم في كيانه من الآخر لأن هذا ضد الاعتقاد
بوحدة الجوهر. أما إذا رفضوا قبول حقيقة ان الابن هو من نفس جوهر الآب وتمسكوا
بأنه منه، فهذا يعني انه غريب عن الآب. فكيف يكون له مجد الآب ذاته؟ وكيف يقول
دانيال "وأعطى له سلطاناً ومجداً "وملكوتاً" لتتعبد له كل
الشعوب" (دانيال 7 : 14). وأما ان الله الآب يكذب عندما يقول "مجدي لا
أعطيه لآخر" (اشعياء 48 : 11). أما اذا كان صادقاً، وقد أعطى مجده للابن،
فحينئذ لا يكون الابن غريباً عن الآب، بل هو ثمرة جوهره ومولوده الحقيقي. والذي
يكون له هذا الوضع بالنسبة الى الآب فيما يخص الجوهر، لا يكون أقل من الآب.

براهين
أخرى متنوعة :

          إذا
كان الآب ضابط الكل. والابن ضابط الكل، فكيف يكون أقل منه؟ لأن المنطق يحتم علينا
ان غير الكامل هو الذي يرتفع الى الكامل. واذا كان الآب هو الرب والابن هو الرب،
فكيف يكون الابن أقل منه؟ كيف يكون الابن حراً اذا كان أقل من الآب في الربوبية
وليس له الكرامة الالهية في ذاته؟ وإذا كان الآب هو النور والابن هو النور، فكيف
يكون الابن أقل منه؟ فالابن لا يكون النور الكامل إذا كان أقل من الآب، بل ستدركه
الظلمة ويصبح الانجيلي كاذباً كقوله "والظلمة لم تدركه" (يوحنا 1 : 5).
وإذا كان الآب هو الحياة والابن هو الحياة؟ فكيف يكون الابن أقل منه؟ ان كان الابن
أقل حياة من الآب ستكون الحياة التي فينا ناقصة وحتى ان كان المسيح حالاً في
الانسان الداخلي بالايمان (أفسس 3 : 16-17). بل ويكون الذين يؤمنون الى حد ما موتي
طالما ان حياة الابن أقل كمالاً في الآب. ولكن علينا التخلص من هذه الحماقة، وان نعترف
ان الابن كامل وهو مساو للآب الكامل بسبب مماثلته له في الجوهر بكل دقة.

حادي
عشر :

          لو
كان الابن أقل من الآب وليس من الجوهر ذاته فهو من طبيعة أخرى غريبة وليس ابناً
ولا الهاً بالمرة. فكيف يدعى الهاً وهو ليس من الله بالطبيعة ولكن حيث ان ايماننا
هو بالابن فقط، فنحن – كما يبدو – لا زلنا في الظلمة ولم نعرف الاله الحقيقي. وهذا
طبعاً غير صحيح. نحن نؤمن بالابن وهذا يعني اننا نؤمن ايضاً بالآب وبالروح القدس.
لذلك فالابن ليس غريباً عن الله الآب كأقل منه، بل له وحدة معه لأنه منه بالطبيعة،
ولذلك فهو كامل ومساو له.

ثاني
عشر :

          إذا
كان الله الكلمة الذي أشرق من الله الآب هو بالحقيقة ابن، فهذا يستدعي بالضرورة ان
يعترف المقاومون انه من جوهر الآب، لأن هذا هو المعنى الصحيح للبنوة. فكيف يكون
الابن أقل من الآب وهو ثمرة جوهره؟. لأن الجوهر الواحد لا يسمح ان يكون فيه أقل
وأعظم، فكل شيء في جوهر الله كامل. أما اذا لم يكن من جوهر الآب فلا يكون هو ابناً
حقيقياً بل شيئاً مزيفاً وابناً مزوراً. لأنه اذا لم يكن هناك ابن بالطبيعة للآب،
الذي بسببه يدعى الآب أباً فكيف يعرف انه آب. وهذا افتراض غير صحيح، لأن الله هو
كل حق الآب، كما تصيح بذلك كل الأسفار المقدسة علانية. ولذلك فالذي يولد منه
بالطبيعة هو الابن حقاً، وهو ليس أقل منه، لأنه واحد معه في الجوهر كابن.

ثالث
عشر :

          ان
اسم العشيرة او الأبوة لم يأخذه الله منا نحن، بل نحن الذين أخذناه من الله.
والكلمة الصادقة هي كلمة الرسول بولس التي تصرخ : "الذي منه تسمى كل عشيرة في
السماء وعلى الأرض" (أفسس 3 : 15). ولكن الله هو منذ الأزل، ونحن نتمثل به
لأنه هو المثال ونحن خلقنا على صورته. فكيف نكون نحن على صورته ومثاله اي آباء
ولنا أبناء بالطبيعة، وليس في الأرض أبوة
Archetype خلقنا نحن على مثالها؟ فكيف ننال نحن الأبوة من الله دون ان يكون
الله بالحق أباً؟ ألا يكون هذا ضد طبيعة الأمور ان نكون نحن آباء ويأخذ الله
الأبوة منا ويقلدنا نحن، وليس نحن الذين نتمثل به! ان هذه النقطة بالذات سوف ترغب
الهرطوقي على الاعتراف بأبوة الله رغماً عنه. ان شهادة الحق هي ان كل عشيرة في
السماء وعلى الأرض تأخذ الأبوة من الله وعكس ذلك خطأ واضح. لأن الذي أخبرنا ان كل
أبوة تؤخذ من الله هو الذي قال ان "المسيح يتكلم فيه" (2كورنثوس 13 :
3). لأنه من الله تنسكب الى أسفل كل أبوة. فالله هو الآب وهو بالطبيعة أب للكلمة
الذي ولده، والذي هو مثله. لأننا نحن صورته عندما نلد أبناء لنا لا يصبحون أقل منا
بل مساويين لنا في كل شيء من جهة الطبيعة.

رابع
عشر :

          على
الهرطوقي ان لا يخدعنا بما يقدمه لنا قائلاً : أنه يكرم الابن دون الاعتراف بأنه
من جوهر الآب. كيف يكون ابناً بالمرة دون ان يكون ابناً بالطبيعة؟ وعلى الذين
يترددون في الاعتراف بذلك ان يخلعوا قناع النفاق ويجدفون علانية قائلين انه ليس
الابن ولا الاله. وإذا وبختهم وحكمت عليهم الأسفار الالهية وجرحتهم كلمات القديسين
كما لو كانت حجارة مقلاع، لعلهم يخجلون من الحق، ويقولون انه الابن والاله ويقلعون
عن التفكير في انه أقل من الذي ولده. كيف يكون الكلمة الله وهو أقل من الآب؟ لأنه
كيف يكون ذلك والانسان نفسه الذي يولد من انسان آخر ويدعى ابن انسان ولا يكون أقل
من ابيه في انتسابه للانسانية، ولا ملاك أعظم من ملاك فيما يخص كونه ملاكاً، فكيف
يكون في جوهر اللاهوت وله في نفسه كل خصائص أبيه بالطبيعة. وإذا كان الاب هو الله
بالطبيعة كذلك الابن الكلمة هو الله بالطبيعة لأنه مولود من تلك الطبيعة فكيف يكون
الله اذن أقل من الله من جهة كونه الله؟

خامس
عشر :

          لأنكم
تجاسرتم ايها السادة على ان تقولوا ان الابن أقل في بعض الأمور من الآب فما هي هذه
الأمور؟ هل الأزلية أحد هذه الأمور؟ فلست أظن ان أحداً يصل به الغباء الى القول
بأن الابن أقل أزلية من الآب، فالابن قبل كل الدهور وهو خالق كل الدهور. فالذي صنع
الأزمنة لا ينطبق عليه مقياس الزمان، ولا يمكن ان نحدد زمان ولادته من الآب. وليس
الابن أقل من الآب حجماً لأن الطبيعة الالهية تعلو على مقاييس الأحجام والأجسام.
فكيف هو أقل؟ أفي المجد كما يظن البعض؟ أم في القوة؟ ام في الحكمة؟ عليهم ان
يقولوا لنا بدقة كيف ان الآب أعظم؟ أفي المجد والقوة والحكمة؟ إذا كان الآب يفوق
كل المقاييس المقبولة لدى العقل، فمن أين جاءت الجسارة للاريوسيين على مقارنة الآب
بالابن والادعاء بأن الابن أقل، من الآب وانكار كرامته الالهية التي له بالطبيعة؟
لأن المقارنة بين عظيم وأقل منه في العظمة يمكن برهنتها واثباتها اذا وضعناهما
معاً ولكن حيث ان كرامة ومجد الآب تفوق الإدراك، فبأي مقاييس يمكن اتمام المقارنة؟
في هذه الحالة بالذات يسقط الإدعاء بأن الابن أقل من الآب.

سادس
عشر :

          ويمكن
الرد على نجاسة الهراطقة الذين قيل عنهم "أعدائنا بلا فهم" (تثنية 32 :
31س)، وكيف لا يكونون مملؤين من الجهل "لا يفهمون ما يقولون ولا ما
يقرونه" (1تيموثاوس 1 : 7)، وسبب ادانتنا لهم هو انهم اذا كانوا يؤمنون بأن
الابن بالحق هو اله مولود من الله الآب، فكيف يكون أقل من الآب؟ هذا التناقض الذي
يدل على جهل مطبق سوف يقود الى عدة أفكار متناقضة كلها تجاديف لا يجب ان نسمعها.
لو كان الابن هو الله بالطبيعة فكيف تقبل طبيعته الالهية ان يكون فيها أقل، ويحتاج
الأمر ان يكون فيها أقل، ويحتاج الأمر ان يكون ما هو أعظم من الله. ولو كان
مولوداً من جوهر الآب فكيف يكون أقل من الآب وهو من جوهر الكامل في كل شيء؟ وكيف
يسمح الآب بأن يكون في جوهره ما هو أقل كمالاً منه وهو في نفس الوقت صورته؟ وهذا
بدوره يعني ان جوهر الآب ليس كاملاً في كل شيء رغم انه بالطبيعة اله، بل الآب نفسه
سوف يتقدم من عدم الكمال الى الكمال وكذلك الابن ايضاً حيث انه صورة جوهره سوف
ينطبق عليه ما ينطبق على الآب وهذا ما سيحدث في الله من تغيير لأن الطبيعة التي
تقبل في داخلها عظيم وقليل هي طبيعة قابلة للتغيير.

          هذا
التجديف الرهيب ظاهر بكل وضوح. لأن الآب لن يتقدم في شيء نحو الكمال ولا يقبل ما
هو أقل منه لأنه بالطبيعة الله الكامل، وكذلك لن يقبل الابن في ذاته وضع الأقل فهو
ايضاً الله بالطبيعة. وليس صحيحاً ما يدعيه الهراطقة من ان الآب والابن مجرد
كلمتين فقط، فالجوهر الذي فوق الكل ليس فيه قليل وعظيم بل اقانيم متمايزة.

سابع
عشر :

          اذا
كان كلمة الله الآب وهو بالطبيعة الابن هو أقل من الآب، سواء في الصفات والكرامة
الالهية او في عدم التغيير او في اي شيء آخر يمكن ان يوصف بأنه أقل، فأن المشكلة
ليست في الابن نفسه بل في الجوهر الذي يولد منه الابن لأن هذا الجوهر نفسه هو الذي
يحتوي على القليل والعظيم مع أن غباوة هذه الفكرة ظاهرة بكل وضوح لأن الأشياء
المخلوقة لا تحتوي على عظيم وحقير في جوهرها، فكل ما يثمر انما يعطي ثمراً لا
يختلف جوهره عن الجوهر الذي أفرزه.

          وإذا
قالوا ان الطبيعة الالهية للآب هي فوق الشهوة، فمن الواضح ان الكلام عن العظمة
والحقارة في الطبيعة الالهية لا ينطبق على الآب طالما انه فوق الشهوة. وبذلك يصبح
الله هو النموذج الكامل لكل شيء صالح فينا، وهو ما لا يسمح بأن يلد ابناً أقل منه
بل مساوياً له في الجوهر ومن نفس جوهره لئلا يصبح الله الذي هو فوق الكل بما لا
يقاس أقل منا.

ثامن
عشر :

          "برهان
منطقي يعتمد على استحالة النتيجة التي تصل اليها المناقشة".

          يقول
المسيح لتلاميذه موضحاً انه مساو للآب "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا
14 : 9) فكيف يعلن الذي هو بطبيعته كائن بذاته، ذلك، وهو أقل من الآب؟ فإذا كان
أقل من الآب وهو يعلن الآب بدون وساطة او تغيير فانه اذا استمر في اعلان الآب سوف
يصبح مثل الآب، لأن الابن صورة الآب. ولكن هذا مستحيل. فالأقل لا يمكن ان يعلن
الأعظم منه، اذن الذي فيه الآب والذي يعلن الآب لابد وان يكون كاملاً لأنه صورة
الكامل اي الآب.

تاسع
عشر :

          كيف
يقبل الابن ان يكون أقل وهو فيه الآب الذي يقول عنه "كل ما هو للآب فهو
لي" (يوحنا 16 : 15)، وأيضاً يقول للآب "كل ما هو لي فهو لك، وكل ما هو
لك فهو لي" (يوحنا 17 : 10). ولو صح كلام المقاومين بأن الابن أقل وهو يقول
للآب "كل ما هو لي فهو لك وكل ما هو لك فهو لي" فإن الوضاعة نفسها سوف
تجد طريقها للآب أيضاً، والعظمة سوف تجد طريقها للابن لأن كل ما هو للآب هو للابن
وكل ما هو للابن هو للآب، ومنطقياً سوف تظهر العظمة والوضاعة في الاثنين، وسوف نرى
ما في الابن في الآب وما في الآب في الابن لأن الصفات واحدة. وبالتالي لن يوجد ما
يمنعنا من ان نقول ان الآب أقل من الابن وان الابن أعظم من الآب. وهذا هو أكثر
الأفكار استحالة. لذلك فالابن مساو للآب وليس أقل منه لأن له جوهر الآب نفسه
مشتركاً به مع الآب.

عشرون
(برهان ثان مثله) :

          إذا
كان كل ما للآب هو للابن، والآب له الكمال، فان الابن يكون كاملاً هو ايضاً لأن له
كل خصائص وأمجاد الآب. لذلك فهو ليس أقل من الآب حسب كفر الهراطقة.

واحد
وعشرون :

          "مثل
البرهان السابق الذي يعتمد على استحالة النتيجة وهو خلاصة البراهين السابقة"

          على
الذين يسكبون هذه النار المشتعلة على رؤوسهم اي الذين يرفضون التعليم السليم،
للعقائد الالهية، ويخترعون حيل ذات ألوان مختلفة للخداع وللقضاء على البسطاء ان
يقولوا لنا :

          هل
الآب اسمى من الابن وأعظم منه بمقارنة الابن مع الآب؟ وهل الابن لذلك أقل من الآب
بالمقارنة مع الآب؟ انني افترض انهم سيقولون انه اسمى من الابن، وعليهم في هذه
الحالة ان يقولوا لنا ما هي اسباب عظمة الآب؟ اذا لم يقدموا اسباباً، فان كلامهم
ضد الابن يسقط. أما إذا كان هناك اختلافاً كبيراً فإن الآب اسمى لأن عنده بعض
الميزات التي لا يملكها الابن، وعليهم في هذه الحالة ان يقولوا لنا : عندما ولد
الآب الابن، لماذا ولده أقل منه وليس مساوياً له؟ فلو كان من الأفضل للآب ان يلد
الابن مساوياً له فمن الذي منعه من ذلك؟ ولو قالوا ان هناك من منع الآب او ان
الضرورة هي التي حتمت ذلك فانهم بذلك يعترفون رغماً عنهم ان هناك من هو أعظم من
الآب. وهذا ضد برهانهم كله. واذا لم يكن شيء على الإطلاق يمنع الآب لأن له القوة
والمعرفة التي تجعله يلد الابن مساوياً له، الا انه مع ذلك جعله أقل منه، وهذا حسد
واضح من جانب الآب بل عين شريرة، لأن الآب اختار ان لا يعطي المساواة للابن.
والنتيجة اذن، إما ان الآب عقيم، إذ عجز عن العطاء، او أنه صاحب عين شريرة. وهذه
هي النتيجة الحتمية للإدعاء بأن الابن أقل من الآب. وهذا كله مستحيل. لأن الطبيعة
الالهية الواحدة هي فوق الشهوة والحسد. لذلك فالابن ليس أقل من الآب، ولم يفقد
المساواة مع الآب، ولم يكن الآب بلا قوة لكي يلد الابن أقل منه، بل ولده مساوياً
له، ولم تمنعه عين شريرة من اختيار الأفضل.

ثان
وعشرون :

          لقد
قال المخلص انه في الآب، والآب فيه. وواضح لكل واحد، ان هذا لا يعني وجود جسد في
جسد آخر، او وعاء في وعاء، وانما الصواب ان الواحد يعلن الآخر. لأن كل منهما في
الآخر في الجوهر نفسه غير المتغير وله ذات الطبيعة الالهية الواحدة غير المتغيرة،
ولعل أقرب تشبيه هو ان يشاهد انسان وجهه في مرآة ويندهش من التطابق التام لدرجة
انه يقول. "أنا في هذه الصورة وهذه الصورة في" أو مثلما تقول حلاوة
العسل حينما توضع على اللسان "الحلاوة في العسل والعسل في" او مثل
الحرارة الصادرة من النار كما لو كانت تقول "أنا في نار والنار في". وكل
هذه الأمثلة توضح لنا التمايز العقلي بين اثنين، ولكن هذه الأمثلة توضح وحدة
الطبيعة، حتى ان في الأمثلة التي ذكرناها كل في الآخر دون انقطاع، ودون انفصال.
ولكن قيمة هذه الأمثلة هي كيف ان الواحد يعلن الآخر، وكيف ان الجوهر واحد
"الانسان والصورة، الحلاوة والعسل، الحرارة والنار" وعلى نفس القياس
فبسبب عدم تغيير الجوهر، والدقة في تعبير الصورة عن الأصل فإننا نفهم ان الآب في
الابن. فكيف يمكن والحالة هذه ان يقال ان الآب أعظم او ان الابن أقل. فإذا كان
الآب في الابن والابن في الآب. فهذا يعني ان الكامل في الكامل اي في الابن، الذي
يستطيع ان يحتوي الكامل، وهو الصورة المعبرة للآب ضابط الكل.

 

الفصل
الرابع

ضد
الأنوميين الذين يقولون ان الكلمة الطبيعي في الله الآب هو غير الذي يدعى الابن في
الأسفار المقدسة (تعليم أصحاب بدعة أونوميوس).

2-
"هذا كان في البدء عند الله" :

          هنا
لخص الانجيلي كل ما قاله سابقاً، ولكن عندما أضاف لفظة "هذا" فقد كان
يصرخ عالياً، الذي كان في البدء الكلمة مع الآب، الإله من الإله، هو وليس آخر،
والذي عنه نكتب هذا الكتاب. ولم يكن بلا معنى ان يضيف : "هذا كان في البدء
عند الله". فهو الذي استنار بالروح الإلهي وعرف ما سيحدث في المستقبل. ولم
يكن الانجيلي يجهل، ان بعض الهالكين سوف يقعون في فخاخ الشيطان "وينحدرون الى
أعماق الهاوية". (أمثال 7 : 27) وسوف يقتنصون غير العارفين الذين سوف يصغون
الى ما يخرج من قلبهم الشرير. هؤلاء سوف يقومون ويعصون رأسهم المسيح، قائلين ان
الكلمة الذي في الله الآب هو واحد، وان هناك آخر مثل الكلمة الذي في الآب، هذا هو
الابن والكلمة الذي بواسطته يعمل الآب كل الاشياء، لكي يعرف انه كلمة الكلمة،
وصورة الصورة واشعاع الاشعاع.

          وكأن
الانجيلي المبارك قد سمع تجاديف هؤلاء، فتحرك لكي يمحو غباوتهم وكتاباتهم، فحدد
أكثر من مرة ان الكلمة واحد، هو وحده من الله الآب، وفي الله ومع الله، ولذلك لخص
كل ما قاله في هذا الصدد بجملة خاطفة سريعة مثل غمضة العين.

          "هذا
كان في البدء عند الله"، اي الابن، الذي هو، مع الآب، والمولود من جوهره،
فالابن الوحيد هو الذي يشار اليه بكلمة "هذا".

          وانني
اعتقد انه يلزم لنا ان نفضح كفر وتجاديف هؤلاء، من أجل أقصى سلامة ممكنة للبسطاء،
(لكي يبتعد من يعلم ضلال هذه الهرطقة كما يبتعد الانسان عن حية في طريقه). ولذلك
سوف أناقش هرطقتهم بطريقة خاصة. فسوف نرد على ضلالهم بشكل منظم، حسب الحكمة التي
يعطينا الله اياها من فوق.

رأي
أنوميوس في ابن الله :

          يقول
عن الابن الوحيد، انه ليس "الكلمة" بل هو كلمة من الله الاب يخدمه وهو
معه. أما الابن الذي يقال انه مولود من الآب فهو الذي يقبل هذه الكلمة. والابن
المولود هذا يعرف كل الاشياء من تعلمه اياها. وبسبب مشابهته للكلمة يدعى
"كلمة".

          ولكي
يؤيد تجديفه، ينسج بعض أفكاره المتناقضة لكي يتم فيه القول عن الشرير انه يعلق
بحبل خطاياه (أم 5 : 22)، فيقول انه "لو كان الابن نفسه هو الكلمة من الله
الآب الذي هو واحد في الجوهر مع الذي ولده، فلماذا لا يدعى الآب ايضاً
"كلمة" طالما انه واحد مع الكلمة في الجوهر". وايضاً "لو
فاليهود لم يسمعوا كلمته بل كلمة الله الآب، فكيف لا يكون كلمة قال الآب له
"أنت ابني انا اليوم ولدتك" (مز 2 : 7)؟ فمن الواضح ان الآب لا يستطيع
ان يتكلم معه بدون كلمة، لأن كل ما يقال انما يقال بكلمة وليس بطريق آخر. والمخلص
نفسه يؤكد ذلك بقوله "أنا اعرف الآب وأحفظ قوله (كلمته) (يو 8 : 55). وايضاً
"الكلمة التي تسمعونها ليست لي بل للآب الذي أرسلني (يو 14 : 24). كل هذا
يؤكد ان الآب عندما يتكلم معه فهو يتكلم معه بكلمة. وها هو نفسه يعترف بذلك. فواحد
يحفظ كلمة الله والآخر هو كلمة الله الذي يتكلم به الآب. فاليهود لم يسمعوا كلمته
بل كلمة الله الآب، فكيف لا يكون لدينا يقين بأن الابن ليس هو الكلمة التي تولد في
العقل، ومن كل هذا يظهر لنا ان الادعاء بأن الابن هو الكلمة هو أمر مضاد للعقل،
لأن الكلمة انما تعبر عن جوهر الآب، بينما الابن ليس كذلك".

          هذا
هو المرض الخطير الذي أصاب هذا الانسان الاحمق "انوميوس" ورغم وضوح
الأسفار الالهية، الا ان هذا الوضوح لا يجعله يخجل من نفسه، لأن الانسان الشرير
عندما يصل الى أعماق الشر يصاب بخيبة أمل ويحتقر نفسه (أم 18 : 3). وحقاً فإن هذا
الانسان المقاوم لله قد أصاب نفسه اصابة بالغة، فقد وصل الى العدم الذي حفر له
حفرة غباوة عميقة وسقط فيها لأنه رفض الطريق المستقيم اي طريق الحق والتفت حوله
جذور براهينه ومنعته من التوبة.

          ومن
ناحيتنا سوف نثبت ان ابن الله الوحيد، وابن الآب، هو كلمته.

          الرد
على أنوميوس :
الهرطوقي بطيء في التعلم لأن "الحكمة لا تدخل النفس
الشريرة" (حكمة 1 : 4). وهل يمكن ان يكون ما هو أكثر فساداً من هؤلاء الناس
الذين يسدون آذانهم عن سماع كلمة الدينونة في الأسفار المقدسة "ويل للذين
يتنبأون من قلوبهم وليس من فم الرب" (ارميا 23 : 16). ومن يتكلم بكلمة الرب
الصادرة من فمه لا يقول يسوع ملعون (أناثيما) (1كو 12 : 3). هذا ما يفعله غير
المدربين في حمو غضبهم ضد التعليم الصحيح المؤدي للحياة، وكما قال أحد الانبياء
"يعوجون كل مستقيم" (ميخا 3 : 9). يقولون أن كلمة الله الطبيعي والكائن
في الآب هو آخر غير الذي يعرف باسم الابن، ويؤكدون كفرهم بكلام ربنا يسوع المسيح
مع اليهود لا سيما قوله "أنا أعرف الآب وأحفظ كلمته" (يو 8 : 55). أو ما
قيل بواسطة الآب للابن "من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك" (مز 110 : 3س).
وهكذا يصبون سم أبيهم الشيطان لأنهم يعتقدون ان المتكلم غير الذي يتكلم معه، وان
الآب يتكلم مع الابن بواسطة كلمته الذاتي، وهذا يعني ان الكلمة الذاتي غير الابن.
وايضاً يقول "طالما ان الابن نفسه يعلن انه حفظ كلمة الآب، فمن يحفظ غير الذي
حفظ. هذه النقطة بالذات ليست صعبة لأنه مكتوب "الرب يعطي قوة للمبشرين
بالكلمة" (مز 68 : 11 سبعينية). وهؤلاء المرضى بالجهل عليهم ان يتذكروا الذي
قال "ويل للذين يتركون الطريق المستقيم طريق البر ويسيرون في طرق
الظلمة" (امثال 2 : 13). أما بالنسبة لنا فعلينا ان نصرخ لمن في السماء ونقول
له "حول عيني عن النظر الى الأباطيل" (مز 119 : 37). هذا الباطل والوسخ
والذي بلا شيء، هو الذي ينطقون به عن جهل. فهم لم يكتفوا بما يقولون بأن للآب كلمة
غير الابن الكلمة، بل يدعون بأن الابن حفظ الكلمة من الآب، وايضاً بأنه عندما جاء
في الجسد، أحضر معه الكلمة كمربي، وهذا كله يعني في النهاية ان الابن ليس هو وحده
الذي في الآب، والآب فيه، لكن الذي قال "أنا في الآب والآب في" (يو 14 :
11)، لا يمكن ان يكون آخر غير الكلمة الذاتي، فهو وحده الذي في الآب، وليس كلمة
آخر. "الآب في" وليس "الكلمة في". لكن ما معنى الكلام الذي
قاله لليهود. يقول الحق الذي يشرق على عقولنا ان المخلص كان يعلم اليهود ويجذبهم
اليه شيئاً فشيئاً لأنهم شعب غليظ الرقبة وأراد ان يبعدهم عن العبادة حسب الناموس
بقوله "أنا الحق" (يو 14 : 26). وكان بذلك يدعوهم الى ان يخلعوا نير
الناموس وان يقبلوا العبادة حسب الروح، لأن الظل يجب ان يبتعد والرمز يذوي، والحق
يشرق، ولكن بالنسبة لكثيرين لم يبدو لأي منهم انه يعمل الحق، بل أنه يهدم وصايا
موسى، بل لقد ظنوا فيه ما هو أسوأ من هذا حتى ان بعضهم صرخ قائلاً لو كان هذا
الانسان من الله، ما كان قد كسر السبت، وكان هذا اتهام بخطيئة لم يرتكبها.

          كان
اذا يرد على غباوة اليهود، ولذلك تحدث معهم بطريقة خاصة، استخدم فيها اسلوباً
يعتمد على البطء في الإعلان، وتقديم القليل، حتى ان الابن الذي لا يعرف خطية، لا
يعمل شيئاً سوى ما هو صالح أمام الله الآب فقط، ودون ان يقول بكل صراحة اني لم
أعرف الخطية، لأن هذا معناه ان يجموه على الفور. لأنهم كانوا يفورون بالغضب،
وكانوا سيهجمون عليه فوراً قائلين ان عدم الخطية خاص بالله وحده. وكانوا سوف
يتهمونه ويقولون له فأنك وانت انسان تنطق بما يخص الله وحده. وهذا ما حدث في مناسبة
أرادوا ان يرجموه فيها بسبب واضح عندهم لأنه وهو انسان يجعل نفسه الهاً (يو 10 :
33) وبشكل غير مباشر فان المخلص، كانسان، وتحت الناموس، مع الذين هم تحت الناموس
يقول انه يحفظ كلمة الآب، دون ان يعني بذلك انه هو غير كلمة الآب، بل يعني انه لن
يتعدى ارادة الآب. لأن تعدي الناموس الالهي خطية واضحة. ولكنني لا أعرف خطية،
لأنني الله بالطبيعة، ومع ذلك سوف لا أتعدى الآب في تعليمي ولن أتعدى ما قاله
الآب. ولا يعترض أحد على ذلك الذي هو بالطبيعة معطي الناموس. ولكنه بسبب مشابهته
لنا هو حافظ للناموس ولكنه يقول انه يعرف الآب ليس كما نعرفه نحن، وانما لأنه هو
الله، يعرف الآب، بسبب وحدة الطبيعة الالهية. وانما لأنه يعرف ان الآب بلا تغيير،
بل لا تقبل طبيعته اي تغيير، يقول لنا انه يعرف ذلك، لكي نعرف نحن انه هو ايضاً
بلا تغيير، وهو غير المتغير من الآب غير المتغير. ولذلك الذي لا يعرف اي تغيير.
كيف يمكن ان يخطئ؟ ألا يظل بلا خطية لأن كل صفاته الهية لا تقبل النقص والنمو!!
باطل اذن تصور اليهود بأن الابن هو خارج مشورة الله الآب، وانما هو يحفظ كلمة
الآب، لأن طبيعته لا تعرف الخطية، ولأنه يعرف ان الآب لا يحتمل ان يخطئ وهو واحد
معه في الجوهر، لأنه ابنه الوحيد. لكن هذا لا يكفي للرد، وانما حيث انهم يضيفون
الى شرحهم النص المعروف "من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك" علينا ان نشرح
كلمة التقوى في هذا الموضوع.

          ليس
لأن الآب قال هذا للابن فيصبح في الآب كلمة ذاتي، غير الابن. بل علينا أولاً وقبل
كل شيء ان ندرك ان النبي نطق بهذه الكلمات السرية بالروح، لكي يرشدنا الى أقنوم
الابن، ويدخلنا اليه وهو يسمع الآب قائلاً له : "أنت ابني" وما يتبع
ذلك. ومن الحديث نفسه ندرك ان صياغته تتفق مع الصياغة البشرية لأي حديث. لكن حتى
هذه الصياغة لا تلزمنا بأن نعتقد بوجود كلمتين، بل يستخدم الحديث طريقتنا نحن
البشر في التعبير وهو ما لا يمكن تجاوزه، وان شئنا ان نلوم أحداً عليه فليس أمامنا
سوى ضعف الطبيعة البشرية التي ليس لديها كلمات ولا أفكار ولا مصطلحات تخدم بشكل
دقيق بلا اخطاء عن الأمور الالهية، هذا يجعلنا ندرك ان الطبيعة الالهية اسمى من كل
ادراك العقل بل تعلو عليه ولا يمكن التعبير عنها كما هي، بل يمكن الكلام عنها في
اطار الادراك البشري.

          واذا
لم يفهم الهراطقة غير المقدسين هذا، وحاولوا اساءة استخدام هذه الكلمات او ما
يشبهها، فلابد لهم ان يفهموا ان الحديث مقصود منه ان نرك حقائق عالية، ولو حاولوا
الادعاء بأن مثل هذه الكلمات يجب ان تؤخذ كما هي حرفياً، فانه لن يوجد ما يمنعهم
من تصور ان الآب يلد مثلما نلد نحن، ولن يوجد ما يمنعهم من انكار وجود بطن للآب
وآلام الولادة، طالما انه يقول للابن "من البطن ولدتك" ولكن اذا قالوا
انه بسبب الشبه بيننا وبين الله، نستخدم الكلمات عن ولادة الابن، وانها في اطار
التقوى يجب ان تفهم. فان هذا يحل المشكلة. لأن التشبيهات يجب ان تؤخذ بشكل غير
حرفي مما يقضي على تعليمهم الفاسد والمر.

          ان
ما ذكرته هنا يكفي، ولكن حيث اننا قررنا ان نقضي تماماً على البراهين الغبية التي
يستخدمونها، وان نبني التعاليم المستقيمة، علينا ان نهاجم كل فكرة بلك غيرة وقوة
وأن نتسلح بالحق المنتصر دائماً. سوف نسجل اعتراضاتهم أولاً وبترتيب، تم الرد، لكي
يكون الرد دقيقاً واجابة على كل فكرة مثل ذلك يجعل استعداد القارئين للتعليم،
أكثر.

اعتراضات
الهراطقة :

          "أذا
لم يكن لدى الآب كلمة من جوهره غير الابن الوحيد الذي لا ننكر انه من الآب، والذي
يدعى كلمة لأنه يتشبه بالكلمة الذي من الآب، فان قبول النتيجة مستحيل، ونحن الذين
نفكر بشكل صائب، نجد انفسنا مضطرين للاعتراف بأن الآب نفسه كلمة، طالما انه واحد
في الجوهر مع الكلمة، والكلمة واحد في الجوهر معه.

الرد
:

          لا
يوجد دليل ايها الذكي يلزمنا بأن نؤمن بأن الآب نفسه يجب ان يسمى كلمة لأنه واحد
مع الكلمة في الجوهر. لأنه ليس صحيحاً ان الاشياء التي لها نفس الجوهر والتي لها
نفس الطبيعة يمكن ان يتحول كل منها الى الآخر او ان تتبادل ما بينها الى حد ان
تصبح خليطاً، حتى انها يمكن ان تصبح كلها واحدة متعادلة بلا تمايز، او تصبح الكثرة
فيها واحداً وتذوب كل مظاهر التمايز. والدليل على ذلك الطبيعة الانسانية نفسها
الواحدة التي رأسها آدم أبينا جميعاً وهو واحد في الجوهر مع ابنه المولود منه،
ولكن هذه الوحدة في الجوهر مع ابنه المولود منه، ولكن هذه الوحدة في الجوهر، لا
تجعل آدم ابناً كما لا تجعل ابن آدم أباً لآدم، بل كل فرد في الطبيعة الانسانية
يحتفظ بما له من صفات وقدرات، حتى ان الآب يظل آباً والابن يظل ابناً.

          أما
اذا كنتم تظنون انكم تهيئون برهاناً ذكياً، وتحاولون ان تفرضوا على وحدة الجوهر
الاختلاط، وانعدام التمايز، حتى لا يبقى كل أقنوم كل هو، بل يذوب ويختفي في الآخر،
فما الذي سوف يمنع ديان الكل من ان يعاقب الابن على ذنب ابيه. او الآب على ذنب
ابنه، مع ان النبي يقول "النفس التي تخطئ تموت" الابن لا يحمل ذنب الآب
والا الآب ذنب الابن" (حزقيال 18 : 20). ولكن الذي يفضي بالعدل لا يعاقب الآب
على ذنوب ابنه رغم ان الآب والابن من جوهر واحد، لان الآب ليس ابناً، والابن كذلك
ليس أباً، وكل منهما له مسئولية خاصة به في الابوة والبنوة، والله يعرف كل منا كفرد
في ذاته، فلا يتحول احد الى الآخر ويرتفع الى ذات مكانة الآخر، كما انه لا ينحدر
ايضاً الى مكانة الآخر.

          من
هذا يصبح واضحاً انه لا يمكن مطلقاً البرهنة على ان الله الآب بسبب وحدة الجوهر،
سوف يتحول الى الكلمة، فالآب له أقنومه الخاص به الذي لا يمكن ان ينتقل الى آخر،
ورغم انه يلد الابن الكلمة، الا انه يظل كما هو في ذاته، اي الآب، وذلك لكي لا
تظهر الأمور الالهية انها أقل من المستوى الخاص بنا نحن البشر.

          برهان
آخر يشبه الأول، ويعتمد على استحالة النتيجة التي يصل اليها الخصم :

          لا
اختلاف بين الابن والآب، لأن الابن هو صورة جوهره ورسم أقنومه (عب 1 : 23). والابن
يقول لتلاميذه "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14 : 9). فاذا قال الابن
ذلك وكانت وحدة الجوهر حسب ادعاء الخصم تعني التحول والاختلاط في الأقانيم، فليس
ما يمنع الابن – حسب ادعاء الخصم – من ان يصبح الآب، فليس ما يمنع الابن – حسب
ادعاء الخصم – من ان يصبح الآب، طالما ان وحدة الجوهر تعني التغيير والانتقال.
وإذا افترضنا ان الابن صار الآب فانه يقول للآب الحقيقي "من البطن قبل كوكب
الصبح ولدتك" (مز 110 : 3س)، ويمكنه ايضاً ان يستخدم لنفسه كل كلمة قالها
الآب وخاصة بالآب. وإذا تم ذلك فقط وصل كل شيء الى أقصى حالات الفوضى، ويتقلص
الثالوث الكائن منذ الأزل، الى وحدانية فقط، طالما ان كل ما يميز كل أقنوم قد تبدد
وذاب، بسبب وحدة الجوهر (كما يفهمها الخصم)، وبذلك فان تماثل الطبيعة يلغي تمايز
الاشخاص (الأقانيم). هذا طبعاً مستحيل. إذا لا يمكن ان يصبح الآب هو الكلمة، بسبب
وحدة الجوهر مع الكلمة، بل يظل كما هو متمايزاً كأقنوم رغم شركته في الجوهر مع
الكلمة. وبذلك يظهر ان اعتراضهم على التعليم السليم هو لا شيء.

          برهان
آخر :
اذا كانت كل كلمة تصدر من انسان، هي نابعة من قلبه وتظهر على لسانه تصبح
هي الشخص نفسه، وبسبب وحدة الجوهر يمكن ان يتحول الشخص الى كلمة، والكلمة الى شخص،
حسب تفكير الخصم، فكذلك يصبح الآب كلمة، لأنه واحد في الجوهر مع الكلمة، ويصبح
الآب هو كلمته، اي يفقد وجوده تماماً، عندما يصبح كلمة. وهنا يحدث المستحيل، فقد
صار الآب كلمة ففقد وجوده كآب، ولم يعد هناك كلمة ايضاً، لأن الكلمة تنسب الى شخص
وهذا الشخص اختفى او تبدد.

          لكن
الطبيعة الالهية لا يمكن ان يتحول اقنوم فيها الى عدم الوجود، او الى أقنوم آخر.
ولذلك لا يمكن ان يتحول الآب الى الكلمة رغم انه واحد في الجوهر مع الكلمة، بل يظل
الآب كما هو آب، كما يظل الابن الوحيد هو الكلمة.

          برهان
آخر :
اذا كنا نؤمن ان الجوهر الالهي لا يقبل التغير او التحول، فكيف يمكن
لأقنوم الآب ان يتحول عن وضعه كأب. ويصبح الكلمة؟ هذا يعني تغير ويعني ان الآب
يتحول عندما يتكلم مع الابن، وبذلك لا يصبح كما كان عليه في البدء. ولكن هذا
مستحيل، لأن التغير غريب على الطبيعة الالهية، فالآب يظل كما هو بدون ان يتحول الى
الكلمة، بل يظل الى الأبد الآب، بدون تغير او تحول كاله.

          برهان
آخر مثله :
يعلن الكلمة الابن الوحيد انه الاله الحق من الاله الحق اي الآب،
ويقول "كل ما للآب فهو لي" (يو 16 : 15). ومع ان الابن هو وارث لكل
الخصائص في طبيعة الآب لأنه مولود منه بالطبيعة الالهية، الا انه لم يأخذ الابوة،
فالابوة خاصة بالآب وحده. وبذلك لا ينقص الابن شيئاً مما للآب، مع انه ليس الآب،
وانما يأخذ في ذاته كل خصائص جوهر الآب، واذا اعتبرنا ان نفس المبدأ ينطبق على
الآب، فهو له كل خصائص الابن ما عدا البنوة، او ان يصبح الكلمة، ولكن لأنه عديم
التغير يظل كما هو مثل الكلمة العديم التغير والذي ظهر منه، اي الابن.

          برهان
آخر : وجد الله واضع الناموس ان بعض الناس أخطأ فقال عنهم بلسان النبي القديس
"لم يميزوا بين الطاهر والنجس" (خر 22 : 26). والذين يميزون يدركون
الفروق الاساسية بين الطاهر والنجس. ولكن اذا كانت وحدة الجوهر كما يدعى الخصم
يمكن ان تختلط، رغم وجود أفراد، ويصبح في قدرة كل فرد ان يأخذ الطبيعة التي يشاء،
فمن الذي يمكنه ان يفصل بين الطاهر والنجس، طالما انه لا يمكن التمييز بين الافراد
الذين يشتركون في طبيعة واحدة، وهذا يعني ان يهوذا الخائن يمكن ان يصبح بطرس او
بولس، طالما انه واحد معهم في الجوهر الانساني، او ان يتحول بطرس الى بولس. هذا
مستحيل اذن وحدة الجوهر، لا تلغي الفروق والتمايز بين الأفراد الذين ينتمون الى
طبيعة واحدة فاذا كان هذا ينطبق على الطبيعة الانسانية الضعيفة، فكم يكون بالنسبة
للجوهر الالهي الفائق، وكم يكون خطأ ان نتصور ان الله الآب يصبح الكلمة بسبب وحدة
الجوهر. فهو أقنوم الآب منذ الأزل. وهذا ليس اعتداء على كرامة الابن، بل تأكيد على
تمايز الابن ايضاً، واعتراف بأن الآب والابن لهما ذات الطبيعة الالهية الواحدة غير
المتغيرة، ولكل منهما صفته الاقنومية الخاصة به التي لا تسمح للابن ان يكون الآب
او الآب ان يكون الابن، بل يظل كل منهما أقنوماً متميزاً في وحدة الجوهر.

اعتراض
للهراطقة :

          يقولون
: "انتم لا تفكرون بشكل صائب، لأنه من الصواب ان نعتقد ان الكلمة الذاتي في
الله الآب ليس هو الابن ومع اننا نسمعه يقول "أنا اعرفه وأحفظ كلمته"
(يو 8 : 55)، فاذا كان كما أكد هو، يحفظ كلمة الآب، فانه من الواضح انه غير الآب،
ويجب بالضرورة ان نقول انه يوجد ما يميز الذي يحفظ الكلمة، عن الكلمة التي
تحفظ".

ردود
متعددة توضح بشكل قاطع ان الابن هو كلمة الله الآب :

          لو
كان الابن الوحيد الذي من الآب هو آخر غير الكلمة "الذي يصفونه بأنه الكلمة
الذاتي الكائن في الله، فعلى هؤلاء الذين يقولون هذا الرأي المضاد ان يخبروننا، هل
هذا الكلمة الذاتي اقنوم ام لا. فاذا قالوا انه كائن بذاته، وله كيان متميز، فان
هذا يعني الاعتراف بوجود ابنين، واذا قالوا انه بلا كيان متميز، اذا لا يوجد وسيط
او طرف ثالث بين الآب والابن.

          برهان
آخر في نفس الاتجاه :
حدد المعارضون للايمان وجود كلمة في الله الآب، وحسب
خيالهم المريض فان هذا الكلمة الذاتي هو الذي يشير على الابن ويعلمه وصايا الآب
ومشوراته. وسوف نرى غباوة عقيدتهم.

          بادئ
ذي بدء يبدو حسب رأيهم ان اسم الآب لا علاقة له بالمرة بالابن، والا ما معنى الآب
بالنسبة للابن، او الابن بالنسبة للآب، طالما ان هناك طرف ثالث بينهما يفصل الابن
عن الآب. اذن فليس الآب أباً، ولا الابن ابناً، اذا اعتقدنا بأن ارادة الله الآب
في كلمة ذاتي غير الابن، وهذا الكلمة الذاتي يتوسط بين الآب والابن. والنتيجة
النهائية هي ان ارادة الآب ليست في اقنومه، ولا ارادة الابن في اقنومه، بل في
الطرف الثالث الذي اخترعوه.

          لكن
اذا افترضنا ان الطرف الثالث الذي اخترعوه ليس له اقنوم فان الابن يصبح في الآب
دون وسيط، فاين يبقى مكان الكلمة الذاتي الذي اخترعوه.

برهان
آخر يؤكد استحالة الافتراض الذي اخترعه الهراطقة :

          نحن
نؤمن بأن الثالوث القدوس المسجود له له جوهر واحد، رغم جنون الهراطقة الذي يمنعهم
من الايمان. ووحدة الجوهر تفترض وجود مساواة في الخصائص الطبيعية بين الأقانيم،
فاذا عدنا الى افتراض الهراطقة الذي يتوهم وجود كلمة في الآب غير الابن الكلمة،
فان المساواة تفترض ايضاً وجود كلمة ذاتي في الابن، طالما ان الابن مثل الآب في كل
شيء وهو صورة جوهره ورسم اقنومه (عب 1 : 3)، وايضاً الروح القدس هو ايضاً طالما
انه مساوي للآب والابن فيه كلمة ذاتي. وهذا يعني ان الثالوث صار سداسياً، واصبحت
الطبيعة الالهية مركبة. وهذا مستحيل، فالجوهر بسيط غير مركب، لا يوجد فيه الا
ثلاثة أقانيم، ولا يوجد وسيط بين كل أقنوم وآخر، بل هو جوهر واحد للثالوث القدوس
لا اختلاط فيه بين الأقانيم.

          برهان
آخر :
عندما تستعمل الاسفار المقدسة اسماء وتضيف اليها أداة التعريف
"ال" فهي تقصد ان تتحدث عن كائن معين وليس آخر. وعندما لا توجد أداة
تعريف "ال" فان الاسم يصبح عاماً يمكن ان يشترك فيه أكثر من واحد. ومثال
على ذلك، يوجد كثيرين دعوا آلهة. ولكن عندما يكون المقصود هو الله فان أداة
التعريف تستخدم للدلالة عليه هو بذاته وليس آخر، فان عدم استخدام أداة التعريف
"ال" معناه واحد من هؤلاء الذين بالنعمة دعوا آلهة. وعلى نفس القياس،
يوجد بشر كثيرين، ولكن عندما يستخدم المخلص أداة التعريف "ال" ويتحدث عن
ابن الانسان، فهو يقصد الكلام عن نفسه، كواحد مخصص ضمن آلاف فاذا كانت الاسماء
تعامل هكذا في الاسفار المقدسة، فكيف تفهم هذه العبارة، "في البدء كان
الكلمة". اذا كان المقصود من هذا كل كلمة من كلمات الله، فدع الخصوم يعرفوننا
ذلك. لكن اذا كان الانجيلي يستخدم أداة التعريف "ال"، ويخصص الكلام عن
واحد معين، هو المقصود به "الكلمة" فان هجومهم قد أصاب لا شيء، بل بدلاً
من الايمان بالكلمة، اخترعوا بديلاً له في الآب لكي يفصلوا الابن عن جوهر الآب.
أما وقد ظهر ان هذا مستحيل، فاننا لا نملك الا ان نرفض مشورة الهراطقة.

برهان
آخر يوضح ان الكلمة هو الابن نفسه المساوي للآب وانه ليس كلمة ذاتي غيره :

          لو
كان الابن الوحيد، ابن الله دعي – حسب زعم الهراطقة – كلمة لأنه يأخذ المشورة من
كلمة ذاتي في الآب، فلماذا لم يقل المخلص للتلاميذ "أنا وكلمة الآب
واحد" "والذي رآني فقد رأى كلمة الآب" ولكن حيث انه لا يوجد كلمة
آخر غيره، بل هو وحده الابن الوحيد، فالابن ينسب نفسه للآب فقط، دون وسيط بل للآب
الذي ولده من جوهره.

اعتراض
من الخصوم :

          يقولون
"لقد وجدنا ان الابن غير الكلمة الذاتي وهذا ليس اختراع وأوهام عقولنا بل ما
تؤكده الأسفار المقدسة. ماذا نقول عندما نسمع الابن يقول للآب "مجد
ابنك" (يو 12 : 28).

          والآب
يجيبه "مجدت وسوف أمجد ايضاً"؟ ألا يستدعي هذا الافتراض بأن الآب يجيب
على الابن بكلمة؟ أليس الكلمة الذاتي هو المقصود والذي به يجيب الآب على
الابن".

ردود
مختلفة مرتبة على هذا الاعتراض :

          ان
الهراطقة غير المقدسين يستحقون النوح والدموع، بل وايضاً العجب، بل علينا ان نقول
ما قاله النبي "لا تبك على الموتى ولا تندبهم، بل ابك بحرقة على كل من"
يفكر ويتفوه بهذه الكلمات على الابن الوحيد (أرميا 22 : 10) فهل يوجد من هو أكثر
شقاوة من هؤلاء، لأنهم لو تصوروا ان هذا فعلاً صوت الآب نفسه الذي لم يسمعه فقط
المخلص، بل والجموع الواقفة من اليهود، بل جماعة التلاميذ انفسهم؟ لقد كان بالأحرى
ان يتصوروا الأمور التي تليق بالله وبكرامته وليس اخضاع هذه الأمور العالية الى
القوانين الخاصة بالحياة الانسانية.

          ان
السماع بالاذن يتطلب صوتاً يخرج من الفم الى الهواء او الذي لم يسمعه فقط المخلص،
بل والجموع الواقفة من اليهود، كما لو كان مثل حركة العقل، والابن وحده يعرفها
الذي هو في الآب بالطبيعة وهو حكمة الآب.

          أما
الافتراض بأن الله يستخدم صوتاً مكوناً من مقاطع، فهذا ما لا يقبله العقل، طالما
اننا نحفظ للطبيعة الالهية كل ما يخصها ويجعلها تتفوق وتعلو على الخليقة. كما ان
ربنا يسوع المسيح نفسه لم يقل ان هذا صوت الآب، وقيل ان هذا الصوت لم يحدث لأجله
هو، بل انه لا يحتاج لآخر لكي يعلمه ارادة الآب ولذلك قال "أن هذا الصوت لم
يصر لأجلي، بل لأجلكم" (يوحنا 12 : 30) وكان الأجدر به ان يقول يا أصدقائي
الأعزاء – لو كان رأيكم على صواب "لقد سمعتم معي صوت الآب" ولكنه قال
العكس، وأعلن انه لا يحتاج الى هذا الصوت، وانما جاء الصوت لأجل الواقفين.

          وهذا
يعني ان الآب لم يتكلم، كما يتكلم البشر، وانما اعطى هذا الصوت لأجل الجموع. واذا
كان الآب يعمل كل شيء به اي بالابن، فقد تم هذا بالابن ايضاً، اي كان هو الصوت
والاعلان وليس المحتاج الى المشورة والى ان يتعلم ارادة الآب، التي يعرفها كابن،
وانما جاء الصوت لكي يسمع الواقفون ويؤمنوا به.

          برهان
آخر :
لو صح كلامهم بان الابن يحتاج الى كلمة ذاتي غيره في الآب لكي يعلم
مشيئة الآب ومشورته فكيف نفهم قول بولس "المسيح قوة الله وحكمة الله"؟
(1كورنثوس 1 : 24). كيف يكون الابن هو كلمة الله، وهو ناقص الحكمة ومحتاج ان يتعلم
مشورة الله وان ينمو الى الكمال الذي يحصل عليه من آخر ولو صح كلام الهراطقة لوجب
علينا ان نقول ان عبارة بولس السابقة تعني ان حكمة الآب ناقصة، واذا كان الابن هو
حكمة الآب، فكيف تكون ارادة الآب معروفة لآخر غير الابن. لأن هذا يعني ان ارادة
الله الآب ليست كاملة بالحكمة، اي الابن. ما أعظم هذا التجديف، وما أشد هذا الكفر.
فليس هو الابن الذي يقبل ارشاداً من آخر لكي يعلم ارادة الآب، بل هو حكمة ومشورة
وارادة الله الآب، لأنه يفحص كل شيء حتى أعماق الله، كما هو مكتوب عن الروح القدس
ايضاً (1كو 2 : 10).

          برهان
آخر :
تقدم لنا الأسفار المقدسة الابن على انه صورة ورسم جوهر الآب، والمخلص
نفسه يقول "الذي رآني فقد رأى الآب" ولكن اذا كان الابن مثل الآب
ومساوياً له. ولا يعرف ذاته ولا من هو، فعليه ان لا يتكلم ويعلن الآخر، بل عليه ان
ينتظر حتى يتعلم من الآب. بل ان هذا يقودنا الى ان نقول نفس الشيء عن الآب، طالما
انه مساوي للابن.. وهذا مستحيل.. لأنه ادعاء بأن الجهل من صفات الطبيعة الالهية،
ولما كان من الكفر ان نفكر بهذا الشكل فعلينا ان نقبل التعليم الصحيح فهو نافع
ومعين لنا.

          برهان
آخر :
يقول بولس عن الروح القدس "انه يفحص كل شيء، حتى أعماق الله"
ويضيف "لا يعرف الانسان الا روح الانسان الذي فيه، كذلك أمور الله لا يعرفها
أحد الا روح الله" (1كورنثوس 2 : 10-11) فاذا كان الروح القدس يميز بدقة
ويفحص كل شيء، والروح ليس روح الآب فقط، بل هو روح الابن ايضاً، فكيف يكون فيه
الروح بسبب وحدة الجوهر، ويظل لا يعرف كل شيء، بل لا يعرف ارادة الآب؟ هراء هذا
الادعاء الباطل ضد الحق، لأنه واضح لكي من يريد ان يعرف، ان الابن لا يتعلم ارادة
الآب. وبذلك يهلك تماماً الادعاء بأن الابن يحتاج لكلمة ذاتي لكي يتوسط بينه وبين
الآب ويعلمه الحكمة. وهذا يجعل مشورتهم الباطلة المؤسسة على عدم ادراكهم تتبدد
تماماً، لأن الابن يعلم كل شيء من ذاته.

برهان
مبني على استحالة رأي الخصم :

          الذين
يتهجمون على أقنوم الابن الوحيد وجوهره قائلين انه لا يعرف ارادة الآب، وبالتالي
احتاج لأن يتعلم من معلم آخر وهو الكلمة الذاتي الذي اخترعوه، فان عليهم ان يقولوا
لنا، هل سيظل رأيهم قادراً على الثبات، خصوصاً اذا سألناهم، هل الكلمة الذاتي الذي
اخترعوه، مساو للابن، وعلينا ان نعترف معهم انه له أقنوم وكيان خاص به، وان كانوا
هم لم يحددوا سواء أكان الكلمة الذاتي أقل او أسمى من الابن. اذا قالوا انه أعظم وأسمى
من الابن، فان هذا اتهام ذو حدين موجه للابن والآب
معاً، أولاً اتهام وكفر
بالآب لأنه ولد من هو أقل منه، بينما سمح بوجود كلمة ذاتي أعظم واسمى. أما ما هو
أعظم استحالة، هو انهم يدعون ان الآب أقل من الكلمة الذي اخترعوه، لأن الآب مساو
للابن، والكلمة الذاتي أعظم من الابن، وبالتالي اعظم من الآب.

          ولكن
أغلب الظن انه سوف يتراجع الهراطقة عن هذا التجديف ويقولوا لا ان الكلمة الذاتي،
مساو للابن في الجوهر، وهنا تصل الى النقطة الأخيرة في الموضوع كله.

          كيف
يعلم الكلمة الذاتي الابن وهو مثله ومساو له؟ وكيف مع المساواة في الجوهر يصبح
واحد يعلم والآخر لا يعلم بل ويحتاج الى تعليم؟

          ان
تعليم هؤلاء الناس ضعيف جداً في كل الجوانب حيثما هاجمته ولقد ثبت الآن ان الابن
هو في الله الآب، والابن هو الله الكلمة "الذي كان في البدء".

          برهان
آخر :
يقول المبارك بولس الرسول عن الابن "مذخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم"
(كولوسي 2 : 3). فاذا صح هذا القول فكيف يمكن الافتراض بأن هناك آخر يعلم الابن.
ومن هو الآخر الذي سوف نطلبه لكي نتعلم منه المعرفة الكاملة؟ وكيف يمكن ان يوصف
الابن بأن فيه كل كنوز الحكمة، وهو لا زال محتاجاً لآخر يعلمه؟ كيف صار الحكمة
حكيماً بواسطة آخر؟

          كل
هذه أسئلة يستحيل الاجابة عليها، وعلينا نحن ان نصغي الى قول الروح القدس، وليس
الى أقوال الهراطقة، لأن الروح يقول على لسان بولس ان "فيه كل كنوز الحكمة
والعلم" ولأنه في الآب فهو يعرف كل شيء. لأنه حكمة الآب الذي لا يحتاج لأحد
آخر لكي يعلمه.

 

الفصل
الخامس

"الابن
بالطبيعة خالق مع الآب، وهو من جوهر الآب،

ولا
يعمل مع الآب مثل خادم"

3-
كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان :

          بعد
ان قضى الانجيلي المبارك تماماً على كل تراكيب الاعتراضات التي قدمها الهراطقة غير
المقدسين، وبعد ان أكمل كلامه الدقيق عن الابن الوحيد يصل الآن الى أحد فخاخ
الشيطان القديمة الخادعة، شوكة تعدد الآلهة، الخطأ الجسيم الذي جرح كثيرين وألقاهم
صرعى في طريق الدينونة وفتح باب الموت الرهيب على مصراعيه، وجمع في داخله كثرة لا
تحصى من نفوس البشر في جماعات وقطعان في الهاوية، فصار كل هؤلاء طعاماً دسماً
للشيطان "ولحماً مختاراً" قدم اليه (حبقوق 1 : 16س).

          ان
ابناء اليونانيين الذين اشتغلوا بحكمة العالم، والذين سكنهم روح رئيس هذا العالم،
وحملهم الى خطأ تعدد الآلهة، مما أفسد جمال الحق، فصاروا مثل الذين يسيرون في
الضباب تحيط بهم الظلمة، فسقطوا في حفرة الجهل، وعبدوا الآلهة التي بلا حياة،
"وقالوا للخشب أنت أبي، وللحجر انت الذي ولدتني" (ارميا 2 : 27) أما
غيرهم فقد سقطوا مثلهم، بعد ان اخترعوا خطأ آخر صقلوه صقلاً ممتازاً، "فعبدوا
المخلوق دون الخالق" (رومية 1 : 25). وقدموا المجد اللائق بالخالق وحده الى
العناصر المخلوقة، لأجل كل هذا يقدم لنا الانجيلي الابن الوحيد كخالق وصانع :
"كل شيء به كان" وايضاً "وبغيره لم يخلق شيء" وبذلك أغلق الى
الابد المدخل الى خداع تعدد الآلهة، ويعلن الابن الوحيد، للذين لم يعرفوه كخالق
الكل. وبهذه الكلمات يقول ان الخليقة قد خلقها الابن الوحيد، لكي يظهر انه لم يأت
أحد الى الوجود الا بقوة الابن الوحيد، لكي يظهر انه لم يأت احد الى الوجود الا
بقوة الابن الوحيد، فهو القوة التي أتت بكل الكائنات من العدم الى الوجود. لأنه من
الممكن "عن طريق جمال الخليقة ان ننظر الخالق" (حكمة 13 : 5)، وان نعرفه
الذي هو الاله الحق الذي به خلقت كل الاشياء، بل به تستمر في البقاء.

          صاغ
الانجيلي هذه الكلمات في افتتاحية الانجيل ضد العبادة المزيفة التي اخترعها
اليونانيون، ولذلك عينه نحن نؤمن ان الابن الوحيد قد قدمه لنا الانجيلي صانعاً
وخالقاً.

          من
اللائق لكي نواجه اختراعات الهراطقة وخيالاتهم المنحرفة ان نقول أكثر مما قلناه.

"كل
شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" :

          يضع
الانجيلي الكرامة الالهية الخاصة بالابن لكن يوضح بشكل واضح انه واحد في الجوهر مع
الله الذي ولده، وان كل ما يخص الآب يخص الابن ايضاً، ولذلك يجب ان نعتقد انه الاله
الحق، وليس كمن نال لقب الالوهية التي تعطى لنا (
*) بالنعمة وحدها، حسب الكلمات
"أنا قلت أنكم آلهة، وبني العلي كلكم" (مزمور 82 : 6)، أما هو فغير ذلك
تماماً، "لأن كل شيء به كان" وعندما يقول الانجيلي "كل شيء به
كان" فهو لا يعطي اي استثناء لأي من الكائنات مهما كان. وليس المبارك قد فهم
معنى كلمة "كل شيء"، لأنه عندما كان يتكلم عن المخلص قال ان "كل
شيء قد أخضع تحت قدميه" (عبرانيين 2 : 8)، وبيقين فائق يؤكد "وعندما
يقول الكل، فهو لم يترك شيئاً غير خاضع له" (عبرانيين 2 : 8). ولأننا نؤمن ان
كل شيء قد خلق بواسطة الابن، فلا نستطيع ان نحسبه كواحد من الكل (المخلوقات)، بل
هو غيرها تماماً، لأنه ليس ضمن الطبائع المخلوقة، بل نعترف انه وحده بالطبيعة
الاله الحق.

          ومن
الذي يمكن ان يتوسط بين الله والمخلوق؟ أنا لا أعني الجوهر، فما أكثر الفروق،
وانما أعني المكانة، ولذلك ما هي مكانة الابن وهو الذي يفوق كل المخلوقات، بل هو
الخالق الذي لا يمكن مقارنته بها. "كل شيء به كان" لأنه القوة، وحكمة
الله الآب، وليس مثل كلمة الانسان وقوته الكامنة والمختفية، والتي تعتبر احدى صفات
الانسان، وانما هو متميز بذاته، ولكنه مولود من الآب، بشكل فائق، حتى ان حكمة الآب
وقوته تدرك انها هي حقاً الابن.

          ومع
ان الانجيلي المبارك قال "كل شيء به كان"، فان هذه العبارة لا تعني
بالمرة ان الابن أقل من الآب. فهي لا تعني ان الابن خدم أو يعمل من أجل آخر.
منفذاً ارادته، وهو ما يتنافى مع الاعتقاد بأنه خالق، فهو لم ينل قوة من آخر لكي
يخلق، وانما هو قوة الله الآب، الابن الوحيد، الذي يعمل كل شيء مع الآب والروح
القدس، لأن كل شيء من الآب بالابن في الروح القدس.

          ونحن
نؤمن بأن الآب هو مع الابن، وليس كمن بلا قوة تقدر على ان تخلق من العدم، وانما هو
فيه تماماً، بسبب عدم تغير الجوهر، وبدون ان يكون بينه وبين الآب اي وسيط في
ولادته الطبيعية من الآب. بل كمن يقول ان رائحة الزهرة هي مع الزهرة والزهرة
دائماً مع الرائحة، لا سيما عندما تنتشر الرائحة، ولكن الرائحة من الزهرة طبيعياً.
وقوة هذا التشبيه بسيطة بالمقارنة بالكلام عن الطبيعة الفائقة التي تفوق الإدراك.

          لذلك
كيف نفهم "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يوحنا 5 : 17)؟ ليس لأن الابن
منفصل عن الآب قال "أبي يعمل وأنا أعمل"، او كأن الابن يعمل والآب
يستريح، لأن الخالق في هذه الحالة لن يكون واحداً، بل اثنين، اذاً كان كل أقنوم
يخلق منفصلاً عن الآخر. وبالاضافة الى ذلك يصبح الآب محتاجاً الى قوةلأن الابن
منفصل عنه، وليس حاضراً فيه دائماً، كذلك الابن يصبح محتاجاً الى قوة، لأن الآب
ليس حاضراً فيه دائماً، كذلك الابن يصبح محتاجاً الى قوة، لأن الآب ليس حاضراً فيه
دائماً. ولو كان ممكناً ان يخلق الآب منفصلاً عن الابن، وان يخلق الابن منفصلاً عن
الآب، لما استطاع الابن ان يقول "أنا في الآب والآب في" (يوحنا 14 :
10).

          وما
قلناه لا يعني فقط ان الجوهر واحد، بل لا يسمح بالمرة لأن يكون الابن شبه الآب، او
اننا نرى الابن في الآب كما نرى الصورة والأصل، بل اننا نرى الابن مولوداً دائماً
مشرقاً من جوهر الآب، وهو فيه، وبه، متميزاً عن الآب لأنه الله الكلمة وايضاً نرى
الآب في الابن، كما هو مولود من الجوهر نفسه، مثله في الطبيعة الالهية، متميزاً
عنه كأقنوم، لأن الآب يظل الآب، رغم انه مثل الابن في الطبيعة، ويشترك معه في ذات
الجوهر، وهو في الابن مثل الشمس والشعاع. والابن ايضاً يظل هو الابن، رغم انه مثل
الآب في الطبيعة ويشترك معه في ذات الجوهر، وهو في الآب مثل الشعاع في الشمس.
وباعتقادنا بأن الآب هو الآب بالحق، والابن هو الابن، والروح القدس الذي له مكانه
الخاص به معهما كأقنوم يصل الثالوث القدوس الى اللاهوت الواحد نفسه.

          وكيف
يكون الله واحداً، لو انفصل كل أقنوم وانفرد تماماً عن الاقنومين الآخرين، او كيف
يمكن ان يقال لكل أقنوم، الله، اذا انفصل تماماً عن مماثلة الطبيعة والمشاركة
الجوهرية، مع الآخر؟ لذلك يجب علينا ان نؤمن بالآب والابن والروح القدس، كل اقنوم
متميز، دون ان نخلط الأقانيم او الاسماء، بل يظل كل اقنوم كما هو، وفي نفس الوقت
الذي تتميز فيه الأقانيم، تظل الطبيعة الالهية الواحدة، بدون انفصال، لأن الابن
دعي الكلمة والحكمة والبهاء، ورسم صورة الآب وقوته، فلا يعني هذا، ان الابن منفصل.

          الابن
هو الكلمة والحكمة، لأنه هو كذلك بدون وسيط بينه وبين الآب، فهو من العقل وفي
العقل، وبسبب قبول كل أقنوم للآخر وحضوره في الآخر، وبسبب وحدة الجوهر، يمكن ان
نرى العقل في الكلمة والحكمة، وكذلك الكلمة في العقل، دون ان توجد قوة متوسطة
قادرة على ان تفصل بين الاثنين.

          ويدعى
الابن قوة الآب، لأنه القوة الكائنة في الآب، بدون انفصال او وساطة، حتى اننا لا
نستطيع ان نفصل بين القوة والآب مثلما لا نستطيع ان نفصل بين الانسان وقوته الا
اذا دمرنا احدهما.

          ورسم
الجوهر (الأقنوم) ايضاً خاص بالابن، لأنه مثل الآب تماماً، لا يمكن ان ينفصل عن
الجوهر الذي يعلنه أي الذي صار رسمه.

          كان
هذا يقودنا الى الإيمان بأن كل أقنوم في الآخر بشكل طبيعي، يعتمد على وحدة الجوهر،
فعندما يعمل الآب، يعمل الابن، لأن الابن هو قوة أقنوم الآب، الخاصة به وبجوهره،
وايضاً عندما يعمل الابن، يعمل الآب ايضاً، فالآب أصل الكلمة الخالق، وطبيعياً هو
كائن في الابن مثل النار في الحرارة الصادرة منها.

          من
الواضح ان كل الآراء التي قالها الخصوم عن الابن الوحيد هي باطلة لا سيما أولئك
الذين يقدمونه للآخرين كمخلوق، تعلم الحكمة او كخادم، كل هذه الآراء الباطلة قد
حكم عليها الانجيلي المبارك بقوله "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما
كان".

          انني
مندهش من الهراطقة غير المقدسين، فكل ما يبدو لهم انه ضد الوهية الابن الوحيد، وما
يجعله اقل من الآب، أو الثاني بعد الآب، يجمعونه بكل غيرة ومن كل جهة يحشدون
سمومهم القتالة، اما ما هو حقيقي ومفيد ونافع مما يؤكد ان الابن شريك لمجد الآب،
يدفنونه في صمت تام. فليس لدى هؤلاء سوى هدف واحد، وهو ان ينالوا من مجده ولكن
هيهات، فكل الخليقة تمجده.

          وعندما
يسمع الهراطقة ان "كل شيء به كان" تأخذهم الحمى فيسرعون ويطلقون عليه
اسم الخادم، ويحلمون بأن الابن، عبد، وليس حر، وعابد وليس الرب. ولكن عندما يسمعون
"وبغيره لم يكن شيء مما كان" لا يفكرون فيما يليق بعظمة وكرامة الابن.
ولكن اذا كان الآب لا يخلق الا بالابن أي بحكمته، وقوته، والانجيلي يقول لا شيء
مما كان قد خلق بدون الابن، فان النتيجة النهائية ان الابن الوحيد هو مجد الله
الآب، (لأنه يمجد كخالق بالابن)، لأن الابن يعمل كل شيء ويحضر من العدم الى الوجود
كل الكائنات.

          وحسناً
يفعل كل من يدرك عمق هذه الكلمات "بغيره لم يكن شيء مما كان" إذا تأمل
جيداً ما قيل عن خلق الإنسان. لقد كتب "نخلق الانسان على صورتنا
وكشبهنا" (تكوين 1 : 26)، لأن هذه الكلمات بالذات لا تعبر عن الابن كأقل او
كخادم حسب تعبير الهراطقة. لأنه واضح ان الله الآب لا يأمر الابن الكلمة
"اخلق الانسان" بل كواحد معه بالطبيعة وغير منفصل عنه لأن له ذاتالطبيعة
الالهية وشريك له في العمل، وشريك له في المشورة الخاصة بالخلق، دون ان يعني هذا
ان الآب كان يتوقع ان ينال معرفة من الابن، وانما بسبب وحدة الجوهر، الابن يعمل مع
الآب، مثل العقل غير المنفصل، والذي لا يخضع لفترات زمنية تفصل بين فكرة وأخرى، بل
كما تقوم الكلمة في العقل دون انفصال عنه كذلك الابن الكلمة الكائن في الآب دائماً،
والذي يعمل معه في الخلق.

          ولا
يليق بنا ان نقدم تشبيهاً عن هذا الأمر، فما يليق بالله لا يمكن تصويره. وانما
عندما نقول انه يعمل مع الابن، فنحن لا نعتقد باثنين منفصلين، لأن هذا يؤدي الى
الايمان بالهين، اجتمعا معاً وصارا واحداً، بل مثل اجتماع النور والاشعاع في وحدة
طبيعية، لأن مثال النور والاشعاع يؤكد التمايز، لأن الاشعاع الذي يشرق ويحمل جمال
النور، ليس هو النور، ولكن الطبيعة واحدة، والتمايز بين النور والاشعاع الذي يشرق
لا يسمح بانفصال واحد عن الآخر.

          ومع
ذلك فالله فوق كل هذه التشبيهات وأعظم منها، ولا يوجد في المخلوقات من هو مثله،
كما لا يوجد في الطبائع المخلوقة من يمكن ان نأخذه مثالاً للثالوث بدون ان نقع في
أخطاء في العقيدة، لأن أي تشبيه لا ينطبق تماماً على الحق.

          واذا
ظن الهراطقة ان "كل شيء به" تحدد استعمال "به" بأن الابن اقل
من الاب في الجوهر، وانه ليس رسم جوهره، بل هو خادم وليس خالقاً، أصبح من الحتمي
على هؤلاء المجانين ان يقدموا اجابة على سؤالنا هذا : ماذا يجب علينا ان نعتقد في
الآب نفسه؟ وماذا يكون الآب الذي تنسب اليه ايضاً "به" لأن كلمات
الاسفار الالهية واضحة، "أمين هو الله الذي به دعيتم الى شركة ابنه"
(1كورنثوس 1 : 9) وايضاً "بولس رسول يسوع المسيح بارادة الله" (2كورنثوس
1 : 1) – (أفسس 1 : 1) وايضاً "اذاً لست عبداً، بل ابناً، وان كنت ابناً
فوارث بالله" ([iii])
(غلاطية 4 : 7). فكل هذه النصوص خاصة بأقنوم الله الآب، ولست أظن ان أحداً سوف
يسرع بجنون شديد ليقول ان الآب صار خادماً هو ايضاً لأن هناك أمور تتم
"به". فالأسفار الالهية لا تهتم بالكلمات ولا تعامل الموضوعات الا بشكل
يعتمد على المعنى العام أكثر من الاعتماد على استخدام خاص بالكلمات لا سيما حروف
الجر، خصوصاً اذا كان الكلام عن الله ظاهر معناه. ولكن من المناسب ان نضيف هنا ان
"مجد الرب تحجبه الكلمات" (أمثال 25 : 2 سبعينية) فالكلمات مهما كانت
قوية، هي قليلة جداً، خصوصاً اذا كانت تشرح مجد الله الفائق. علينا ان لا نتضايق
لندرة ما كتب، بل ان نعتبر مجد هذه الأمور التي تفوق التعبير، وشهوة كل عقل
واشتياقه للطبيعة الالهية الفائقة هي التي تجعلنا اتقياء بدرجة ليست قليلة.

 

الفصل
السادس

"الابن
هو بالطبيعة الحياة، ولذلك هوغير مخلوق، بل من جوهر الآب"

4-
"مما كان، فيه كانت الحياة" :

          يقدم
لنا الانجيلي المبارك تعليمه عن الله الكلمة، فيشرح لأجل منفعتنا كل ما يخصه
بالطبيعة كإله، لكي يسقط هجوم الهراطقة، ويعضد الذين يرغبون في النمو في الايمان
الصحيح، ويعطي كل هذا ليس بكلمات وبراهين مأخوذة من الحكمة العالمية المنتفخة، بل
"ببرهان الروح" يقدم جمال الحق (1كورنثوس 2 : 4).

          وما
يريد ان يعلمنا اياه بهذه الكلمات هو : لقد أرانا الآن ان الابن بالطبيعة هو
الخالق والصانع "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء"، فليس من الكائنات
جميعاً كائن واحد دعي للوجود من العدم بدون الكلمة. وحيث انه يمنح الخليقة نعمة
الوجود، يعطي ايضاً نعمة البقاء، ويمنح من عنده الابدية، لكل الكائنات التي
بطبيعتها ليست أبدية، فيصبح بذلك هو الحياة لكل من جاء الى الوجود لكي يبقى في
الحياة حسب حدود طبيعته. لذلك كان من الضروري ان يقول : "ما خلق فيه كانت
الحياة" ولم يكتف بالقول "كل شيء به كان" وانما أضاف "كل شيء
به كان فيه الحياة"، أي ان الابن الوحيد الله الكلمة، بدء وأصل ([iv]) كل
الكائنات المنظورة، السمائية والأرضية وما دون ذلك. فهو نفسه بالطبيعة الحياة،
ويهب لكل الكائنات الكثير : الوجود والحياة والحركة، دون ان يعني هذا انه يقتطع من
ذاته ويعطي، او انه هو نفسه يصير هذه الكائنات ويتحول من كائن الى آخر. وانما كل
كائن على حدة يصوره الكلمة بقوته وحكمته كخالق. وبينما واحد فقط هو الحياة، وهو
الذي يقدم الحياة للكل بالشكل الذي يتناسب مع طبيعة كل كائن وبالشكل الذي يليق به
للاشتراك في حياة الكلمة. وحيث ان كل ما دعي من العدم الى الوجود بالضرورة يتداعى
وينحل، وكل ما له بداية، يسرع نحو النهاية، ما عدا الواحد وحده أي الطبيعة الفائقة
التي لم تسبقها بداية، وهي حرة تماماً من النهاية، وبحكمة الخالق الذي يعلم ضعف
المخلوقات يصنع لهم ابدية، لقد شاء ان يجعل كل جنس يظل حياً يتعاقب افراده
بالتناسل وبالنمو، مما جعل الخليقة ظاهرة وباقية تحت سلطان الله خالقها. وحكمة الخالق
: ان كل كائن يحتوي على بذار تزرع. فتثمر مثل جنسها وشبهها، حسب القرار الالهي غير
المسموع. هذا معنى "فيه كانت الحياة" وهذا هو موضوعنا.

          لكن
يا سادتي الأعزاء، يمكن ان يحذر أي منا الهرطوقي ويقول له : والآن ماذا عندك ضد
هذا القول، ها أنت تسمع الانجيلي يخبرنا بالحق وشهادة الروح الذي فيه يقول
"فيه" نالت كل الكائنات التي خلقت "الحياة"، أي من الكلمة
الذي كان في البدء‍‍‍‍‍‍‍! هل يتجاسر احد ويقول ان الابن ليس من جوهر الآب، بل انه
يحسب مخلوقاً من المخلوقات؟ فكيف لا نصرخ بالحق محتجبين على هذا القول؟ لأنه لو
كان الكلمة موجوداً في الاشياء المخلوقة "كحياة" بالطبيعة، والمخلوقات
تشترك فيه، فهو اذن آخر غير تلك المخلوقات التي يوجد فيها. ولكنه اذا كان بالطبيعة
غير الكائنات المخلوقة فكيف لا يكون هو الله الكائن على الكل؟

          أما
اذا لم يخجل الهراطقة، ولم يكفوا عن تخيل الابن مخلوقاً، وهو مانح الحياة في
المخلوقات، فبذلك اولاً يعتبر الابن شيئاً كائناً في نفسه، وثانياً فانه يكون
مشتركاً في نفسه، والتناقض هنا : انهم يكادون ان يدعوا بأن الابن وهو الحياة الذي
اعطى الحياة، يصبح هو نفسه بعد ذلك كمخلوق محتاجاً الى الاشتراك في حياته هو، وهل
يوجد أغرب من الادعاء بأن "الحياة" توهب للكائنات، ثم نعود ونحسب
"الحياة" انها من ضمن هذه الكائنات التي تنال "الحياة". يا
ليت الذين يقاومون الله يرون الاستحالة التامة لما وصلوا اليه. فلا يمكن ان
يكونالكلمة الذي يحيي الكل ويهب المخلوقات الحياة هو من ضمن المخلوقات. وهكذا، فهو
ليس مخلوقاً، بل هو بالطبيعة حياة كل المخلوقات.

          وسوف
نرى من البراهين التالية صحة هذا :

 

البراهين

أولاً
:

          لو
كان الابن ليس من جوهر الآب بل هو من خارجه لصار خاضعاً للآب كالمخلوقات. فكيف اذن
يحيي كل الاشياء، وهو من بين الاشياء المخلوقة؟ او نفس السؤال بشكل آخر : ما هو
الفرق بين الخالق والمخلوق؟ وكيف نفهم كلمات الرسول بولس الخاصة بطبيعة الله
"الذي يحيي الكل؟" (1 تيموثاوس 6 : 13) لو كان الابن مخلوقاً، وهو قادر
على ان يحيي الكل، لاصبحت الخليقة قادرة على ان تحيي نفسها، وليست محتاجة بالمرة
الى الله. ولم يعد في الطبيعة الالهية ما يميزها عن المخلوقات، ولاصبحت المخلوقات
مثل الله قادرة على ان تفعل ما يفعله الله. وهذا مستحيل. اذن الابن ليس مخلوقاً،
بل هو الله ولذلك فهو بالطبيعة الحياة ايضاً.

ثانياً
:

          يتعجب
المرنم في المزامير من الطبيعة الالهية، وينسب اليها الكرامة الفائقة بقوله :
"عندك ينبوع الحياة" (مزمور 36 : 9). وحسب ادعاء الهراطقة جعل الآب
الابن أقل منه، وليس من طبيعته ومع كل هذا يظل الابن يحيي الكائنات، وبالطبيعة
الحياة الذي يحيي لماذا يتعب المرنم وهو يعلن ان ينبوع الحياة هو عند الله وحده؟
وطالما ان الابن مخلوق وأقل من الآب ومحيي، تصبح كل الخليقة قادرة ان تمنح الحياة
حسب المشورة الرديئة للهراطقة. ولكن هذا مستحيل. اذن الابن هو بالطبيعة
"الحياة"، اله من اله، حياة من حياة.

ثالثاً
:

          لو
كان الابن بالطبيعة "الحياة"، وفي نفس الوقت مخلوقاً وليس من جوهر الآب،
حسب تصور الهراطقة، فان طبيعة المخلوقات تصبح مثل الابن وتدعى هي ايضاً الحياة،
وبذلك تصبح كل المخلوقات محييه، حتى وان لم تمارس توزيع الحياة، بل تصبح ايضاً
واجبة الوجود. فإذا صارت الخليقة كذلك، فماذا يبقى من الصفات التي تميز الله،
ولماذا يشير الابن باطلاً الى نفسه "أنا هو الحياة" (يوحنا 14 : 6)؟ كان
ألاجدر به ان يقول "أنا معكم الحياة"، وهذا يكون صحيحاً لو كان المخلوق
هو الحياة.

          ولكن
حيث انه هو وحده الحياة، وهذا هو صلاحه الخاص به، فمن الواضح انه لا يحسب نفسه مع
المخلوقات، وانما مع جوهر الآب، الذي له هو ايضاً الحياة.

رابعاً
:

          الذي
يشترك في الحياة، ينالها، ولا تصبح الحياة حقه الطبيعي، بل تأتيه من مصدر آخر،
فاذا كانت كل المخلوقات تشترك في حياة الابن، فالحياة تأتيها من الابن، وبذلك يصبح
هو غير المخلوقات التي تشترك في حياته. اذن فهو ليس مخلوقاً، بل الله المحيي الذي
نعترف بأنه من جوهر الآب وبذلك نعبد الهاً واحداً، ولا نسجد الا له وحده.

خامساً
:

          اذا
كنا نميز الأمور جيداً، فليس لدينا سوى الله والخليقة فقط وهذا يعني ان كل ما هو
ليس الله بالطبيعة فهو بكل يقين مخلوق، وكل ما هو خارج أطار المخلوقات، يكون بكل
يقين من دائرة الالوهية. فاذا تيقناً من هذا، فعلى الهراطقة ان يقولوا لنا، اذا
فصلنا الابن عن جوهر الله الآب، فكيف يهب الحياة؟، لأننا على يقين من ان الطبيعة
الالهية لها الحياة كخاصية لها وهي لا تعطيها لغيرها. ولكن ان كان الابن مخلوقاً،
وهو الحياة ايضاً، صارت نعمة وهبة الحياة خاصة بكل المخلوقات، وتصبح كل المخلوقات
بالطبيعة، "الحياة". فأي حاجة تدعو للاشتراك في الابن؟ وماذا يكسب
الهراطقة من ذلك؟ ان ادعاءهم قادهم الى ان يكونوا هم ايضاً "الحياة".
وهذا مستحيل، لأنهم بالضرورة يحتاجون الى الحياة بالاشتراك في الابن. اذن الابن
الوحيد وحده هو بالطبيعة الحياة، ولذلك لا يحسب مع الخليقة، بل مع ذاك الذي ولده
الذي هو بالطبيعة الحياة أي الآب.

سادساً
:

          اذا
كان الابن هو بالطبيعة الحياة، فهو : أما غير الخليقة او مثل الخليقة. فإذا كانت
له طبيعة مساوية لطبيعة الخليقة، فكيف لا يكون كاذباً عندما يقول : "أنا هو
خبز الحياة، الذي نزل من السماء، والواهب الحياة للعالم" (يوحنا 6 : 33، 35)،
وحسب ادعاء الهراطقة تصبح الخليقة حية بذاتها. ولكن ان كان الابن غير مساو لطبيعة
الخليقة، فانه يكون غير مخلوق، محتفظاً بصلاحه الخاص به. لأن الخليقة ليست هي بالطبيعة،
الحياة بل بالحري تحتاج للحياة وتشترك في الحياة.

سابعاً
:

          لو
كان الابن هو بالطبيعة الحياة، ومساو للمخلوقات، بسبب عدم كونه من جوهر الله الآب،
حسب ادعاء الهراطقة، فلماذا يقول المرنم في المزمور ان "السماء تبلى وتعتق
مثل الثوب" (مزمور 102 : 26) أما للابن فهو ينسب الصفات الالهية ويصرخ بصوت
عال "أنت أنت وسنوك لن تفنى" (مزمور 102 : 27)، واما ان يفنى الابن
ويشيخ معنا كمساوي لنا في الطبيعة، فهذا يعني انه ليس الحياة، او انه الحياة التي
لا تفنى ولا تشيخ. لذلك فالابن ليس مخلوقاً مثلنا، وحيث انه الحياة بالطبيعة، فهو
سيهب الحياة ايضاً لكل الاشياء التي يريد ان يهبها الحياة.

ثامناً
:

          اذا
كنت الاشياء لا تستيطع ان تشترك في حياتها لتأخذ حياة من حياتها، بل الخليقة تشترك
في الابن لأنه الحياة، اذن الابن ليس مخلوقاً، ولا الخليقة حياة، بل الابن وحده هو
الحياة.

تاسعاً
:

          ان
تهب الحياة مختلف تماماً عن ان تحصل على الحياة، فالأول عطاء والثاني أخذ. والابن
يهب، فهو معطي، والخليقة تأخذ فهي تصير حية، لذلك فالابن ليس مثل الخليقة، لأن
المحيي لا يكون مثل من ينال الحياة.

 

الفصل
السابع

"الابن
بالطبيعة هو النور، لذلك هو ليس مخلوقاً، بل من جوهر الله الآب، نور من نور".


"والحياة كانت نور الناس" :

          بهذه
الكلمات ايضاً، يرينا الانجيلي ان الابن هو بالطبيعة الله، ومن جوهر الآب ووارث
لكل ما للآب الذي ولده من صلاح ذلك الآب. وبعد ان علم الانجيلي ان الابن بالطبيعة
هو الحياة، وانه في كل الاشياء التي خلقها، ويحفظها، ويعطيها الحياة بقوته الفائقة
فلا تنحل الى العدم. فيتقدم الانجيلي ومن كل اتجاه يقودنا نحو الحق. فالكلمة في
المخلوقات كحياة، ولكن حيث ان المخلوقات العاقلة على الأرض قد نالت العقل
والمعرفة، ونالت الحكمة من الله، احتاج لابس الروح – يوحنا – ان يعلن للانسان، ان
الكلمة هو مانح الحكمة التي في الانسان بل لكي نؤمن ايضاً، ان الله الآب هو ايضاً
في كل شيء بالابن، فهو حياة لمن يحتاج الى حياة، نور وحياة ايضاً لمن يحتاج الى
الحياة والنور، لذلك يقول الانجيلي : "والحياة كانت نور الناس" أي ان الله
الكلمة الذي يحيي الكل، وهو الحياة التي في الكل، ينير الكائنات العاقلة، ويهب
الفهم للذين نالوا عطية الفهم، لكي يظلوا في البقاء، حسب قوة الكلمات "واي
شيء لك لم تأخذه" (1كورنثوس 4 : 7). فليس هناك غنى خاص بالطبيعة المخلوقة، بل
كل ما نراه فيها وكل ما يخصها، هو بكل يقين من الله، الذي يعطي الوجود ويحدد غاية
الحياة.

          وحسناً
أضاف الانجيلي "كانت" الى "الحياة" لكي يظهر بوضوح ان الكلمة
أزلي، ولكي يقطع الطريق على كل التصورات الفاشلة التي تصدر عن عدم فهم، والتي
تحاول ان تجعل الابن من ضمن المخلوقات، وهو ما يتعارض بوضوح مع الأسفار الالهية
كلها.

          أما
عن أزلية الكلمة مع الآب، فقد ذكرت ما فيه الكفاية في هذا الكتاب، وفي الكتاب
المعروف باسم "الكنز"، ولذلك اكتفى بما ذكرت، ولكن الكلمات التي نحن
بصددها (يوحنا 1 : 4) تقدم لنا فرصة أعظم، لكي نفحص على قدر قوتنا معانيها، لكي
نستفيد نحن ويستفيد من يقرأونها فيما بعد، والله هو الذي يفتح الأبواب والفم
لكلماتنا.

          ماذا
سيقول المقاوم للمسيح، عندما يعلم ان "الحياة" الأزلية، أي الله الحي
الأبدي الكلمة، هو نور الناس؟ ما هي الحجج التي سوف يرمينا بها، اذ تقدمنا وقلنا :
اذا لم يكن الابن بالطبيعة الله، وهو من جوهر الآب الذي ولده، واذا لم يكن قد اشرق
علينا نوراً حقيقياً من نور حقيقي، بل انه مخلوق وخاضع حسب جهلكم، فانه يكون
مساوياً في الطبيعة للمخلوقات ويكون بالضرورة مخلوقاً. فكيف اذن يا من امتلأتم من
كل الغباء يكون منيراً وكيف ينالون استنارة منه؟ أفليس الذي ينير غير الذي
يستنير؟، هذا واضح وجلي لكل واحد. ولو قلنا ان الذي ينير والذي يستنير هما من
الجوهر ذاته، فما هو الفرق بين الذي يملك قوة للانارة، والذي يحتاج للنور؟ فالأول
يملك ان ينير، والثاني لأنه بلا استنارة يحتاج الى ان يأخذ، اما اذا انعدم الفرق
حسب تصور الهراطقة، واصبح الكل واحداً، فما سيأتي من نور، سوف يأتي لكليهما ويوزع
عليهما معاً، والمحتاج الى النور سيكون نوراً، ولن يختلف النور عن الذي يستنير.
عظيمة جداً هذه الفوضى وهذا الإضطراب في الأفكار. ان الحاجة الى الفهم تحتم علينا
ان نميز بين الطبائع. وان نضع كل شيء في مكانه ونعطي لكل اسمه الخاص به، فيصبح
المانح غير الآخذ. هذا التمييز يجعلنا ندرك ان الابن ليس مساوياً في الطبيعة
للاشياء المخلوقة، بل هو كائن في جوهر الآب، وهو نور حقيقي، من نور حقيقي.

          وليس
من الصعب علينا، ان نقدم نفس الأدلة التي قدمناها في الفصول السابقة، عندما كنا
نشرح ان الابن هو الحياة، وانه ليس في عداد المخلوقات، ان نقدم أدلة مشابهة في هذا
الفصل بالذات، لكي نؤكد انه النور، ولكن لكي لا نجعل مشقة العمل تقع على الآخرين،
ولكي لا يظهر اننا خاضعون للكسل، سوف انقل نفس البراهين لكل ابرهن كما انه هو الحياة،
هو ايضاً نور كل انسان، وهذا يعني انه غير الذين يستنيرون به.

"براهين
على ان الابن الذي ينير، هو غير الخليقة التي تستنير".

أولاً
:

          اذا
كان الابن بالطبيعة هو النور. الذي يختلط بنا عندما يمنح الاشتراك للكائنات في
النور، فهو غير الكائنات تماماً. واختلافه عن الكائنات يعني امكانية اشتراك
الكائنات المخلوقة فيه لكي تستنير به. فكيف لا يكون في هذه الحالة هو الله الكائن
على الكل" (رومية 9 : 18).

ثانياً
:

          لو
قال مقاوم الله ان الابن الذي هو بالطبيعة النور، موجود في المخلوقات كمخلوق، وانه
ينير الذين يحتاجون الى استنارة، فأول كل شيء سيعتبر الابن موجوداً في نفسه، ثم
الى جانب ذلك سيكون مشتركاً في نفسه وهو نور، وان كان موجوداً في الاشياء المخلوقة
فانه سيعتبر هو هو نفسه واحداً منها :

          أما
الذي يفتح قلبه للحكمة (مزمور 90 : 12) سوف يرى كم هو غير معقول ان يفكر انسان على
هذا النحو. لذلك ان كان الكلمة الذي ينير موجوداً في المخلوقات التي تشترك فيه،
فلا يكون هو نفسه من بين المشتركين فيه والمستنيرين به ولذلك فهو آخر غيرهم. وان
كان كذلك، فهو اذن ليس مخلوقاً، بل هو نور بالطبيعة وهو الله في الاشياء التي
ينقصها النور.

ثالثاً
:

          اذا
لم يكن الابن من جوهر الله الآب، بل مخلوقاً خاضعاً حسب رأيهم، فهو يكون اذن
مبتدئاً ومخلوقاً، فكيف يكون اذن موجوداً في المخلوقات وينيرها؟ وماذا سنجده
مميزاً الجوهر الالهي بعد ذلك؟ وكيف يقول المرنم وهو يرى ان هذا شيء عجيب يستحق
الإعجاب في ذلك الذي هو بالطبيعة الله "بنور نعاين النور" (مزمور 36 :
9)، واذا كان الابن كمخلوق ينير كل الاشياء المخلوقة، اذن الخليقة تنير نفسها، ولا
تحتاج لنور الله خالقها. بل لا يوجد اذن في الله شيء يزيد على ما في الخليقة، بل
ان عمل الخليقة ليس أقل من الله. وهذا غير معقول. اذن الابن غير مخلوق، بل بالحري
الله، ولذلك فهو بالطبيعة النور مثله مثل الآب تماماً.

رابعاً
:

          اذا
كان الابن هو نور الله الآب كما هو مكتوب : "بنورك نعاين النور" وايضاً
"ارسل نورك وحقك" (مزمور 43 : 3)، ومع ذلك يقال عنه انه مخلوق وجاء من
العدم الى الوجود، فعلى هذا القياس لا يوجد ما يمنع أي مخلوق جاء من العدم، ان
يدعى نور الله الآب، واذا كانت طبيعة المخلوقات تسمح بذلك، فان هذه الامكانيات
ستصبح متاحة لكل المخلوقات، ولا يصبح النور هو خاصية الابن وحده، وهذا غير معقول.
لأن الابن وحده هو الذي يليق به ان يدعى وان يكون نور الله الآب، اذن فهو ليس
مخلوقاً، وانما هو النور، اله من اله، وهو الذي ينير كل الاشياء التي تحتاج الى
النور.

خامساً
:

          اذا
كان الابن الذي هو بالطبيعة النور، ليس من جوهر الآب، بل هو من خارجه وخاضع له حسب
الرأي الفاسد لمحاربي الله، فالنتيجة الحتمية هي ان يكون مساوياً للطبائع المخلوقة
ويسقط من الجوهر الالهي. فكيف يدعى النور ويكون هو النور؟ بينما قيل عن يوحنا
المعمدان "لم يكن هو النور" (يوحنا 1 : 8)، رغم ان يوحنا لديه امكانية
ان يكون نوراً، وليس هو وحده بل كل المخلوقات اذا قبلنا رأي الهراطقة بأن الابن
وهو مخلوق يمكن ان يكون بالطبيعة النور؟ لأن ما يعطي لطبيعة من الطبائع يصبح عاماً
وملكاً لكل من يشترك في هذه الطبيعة حسب قانون الطبيعة. ولكن يوحنا لم يكن هو
النور، بل الابن هو النور. اذن الابن بالطبيعة مختلف عن المخلوقات وليس مساوياً
لها في الطبيعة.

سادساً
:

          اذا
كان الابن الذي هو بالطبيعة النور، هو مبتدئ ومخلوق وليس له كيان جوهر الله الآب،
كما يدعي البعض، فان الطبائع المخلوقة يمكن ان تكون وان نسميها نوراً، وتصبح كلها
نوراً حسب القانون الخاص بالامكانيات. لأن كل من يملك في طبيعته ان يكون شيئاً ما،
فاني افترض بالتأكيد ان يصير هكذا ولو فيما بعد. وحيث ان امكانية النور تصبح عامة
لطبيعة كل الاشياء المخلوقة، وليس خاصة بأحد المخلوقات، فلماذا يتعب الابن نفسه
ويصرح قائلاً "أنا هو النور"؟ لأنه كان من الأجدر به في هذه الحالة ان
يقول "أنا معكم ومثلكم نور". ولكن حيث انه هو وحده الذي ينفرد بذلك، ولا
يوجد من يشاركه في هذا الصلاح الخاص به، فهو لا يضع ذاته مع المخلوقات، بل مع جوهر
الله الآب، الذي يختص به وحده بالطبيعة فيكون هو بالحقيقة النور.

سابعاً
:

          الذي
يشترك في النور، ليس في ذاته نوراً، لأنه من الواضح وجود اختلاف بين المصدر
والآخذ. فاذا كان الابن هو المصدر الذي تشترك فيه الخليقة لتنال النور، فهو مختلف
عن الآخرين الذين يأخذون منه النور وهم محتاجون للنور. لذلك فهو ليس مخلوقاً، ولا
يحتاج للاستنارة مثل باقي المخلوقات بل هو الله الذي له قدرة الانارة، ولذلك علينا
ان نعتقد انه نابع من جوهر الله الآب، لأننا نعبد الهاً واحداً ولا نخدم غير الاله
الحقيقي.

ثامناً
:

          نحن
نميز بكل دقة بين طبائع الاشياء، وليس لدينا سوى الله والخليقة. فكل ما لا يمكن ان
يكون الله، هو بتمامه مخلوق، وكل ما لا ينطبق عليه خصائص المخلوقات، هو بكل تأكيد
داخل دائرة الالوهية. فاذا اتفقنا على ذلك، فعليهم ان يقولوا لنا من الذي يمكنه ان
يفصل الابن عن جوهر الله الآب، وكيف ينير الابن كنور، والنور خاص بالطبيعة الالهية
وحدها ولا تشترك فيه الكائنات الأخرى.

          واذا
كان الابن مخلوقاً حسب ادعائهم، وهو النور، فان هذه النعمة الفائقة سوف تغمر كل
المخلوقات، وتصبح كل المخلوقات بالطبيعة هي النور، فلماذا يحتاجون بعد ذلك الى
الاشتراك في الابن؟ او ماذا سيكسبون من هذا الاشتراك، بعد ان اصبحوا هم بالطبيعة
نوراً، مثل الابن؟ ولكن الخليقة تحتاج الى الذي ينيرها، اذ ليس لها نور من ذاتها.
اذن فان الابن هو بالطبيعة الله، ولذلك فهو النور الذي يستطيع ان ينير الاشياء
التي تحتاج للنور.

تاسعاً
:

          اذا
كان الابن بالطبيعة "النور" فهو : اما مختلف تماماً عن المخلوقات في
الطبيعة، او مساو لها. فاذا كان مثلنا وله ذات الطبيعة المخلوقة، فباطل اذن قوله
لنا "جئت نوراً للعالم" (يوحنا 12 : 4)، لأن الخليقة لها نورها الذاتي :
ولكن النور لا يشترك في النور، وذلك لكي يفهم انه نور في ذاته.

          أما
اذا كان الابن مختلفاً عنا في الجوهر، والطبيعة تحتاج الى النور الذي فيه
"فأي شيء لك لم تأخذه؟" (1كورنثوس 4 : 7)، فالابن بعيد عن ان يكون
مخلوقاً، وبالتالي عدم الايمان به الهاً سوف يحرم الطبيعة من صلاحه، اذا الخليقة
ليست نوراً في ذاتها بل هي تحتاج الى نور الابن وتشترك فيه.

عاشراً
:

          اذا
كانت الاشياء لا تستطيع ان تشترك في نورها الذاتي (بفرض ان لها نورها الخاص)،
والابن هو النور الذي تشترك فيه الخليقة. اذن الابن ليس مخلوقاً، ولا الخليقة هي
نور، بل الابن فقط هو النور.

حادي
عشر :

          ان
تستنير شيء وأن تنير شيء آخر، فهو عطاء وأخذ، الابن ينير، والخليقة تستنير، اذن
فالابن والخليقة ليسا واحداً، فالواحد يعطي والآخر يأخذ.

يوحنا
1 : 5 – والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه (تعرفه) :

          يشرح
لنا الإنجيلي بالتفصيل ما سبق وأعلنه. فهو لم يكتف بما قال، حتى لا يخطئ السامعون
في معرفة الله الكلمة كنور حقيقي "ينير كل انسان" اذا توقف عند
"والحياة كانت نور الناس" حتى لا يفترض احد، ويقف معلناً ان الكلمة نور
فقط، ولا يعطي نوره لأحد، بل الحق انه يعطي نور الإدراك لكل من يريد، بعد ان يمتحن
استحقاقه لعطية الاستنارة الباهرة.

          لقد
افترض الهراطقة ان الخليقة العاقلة، اما انها تأخذ القدرة على الفهم من كيانها
الذي تحمله البذرة الطبيعية، او ان يزرع الله الآب عقلاً وادراكاً فيها، كما لو كان
الابن غير قادر على ان يفعل ذلك. ولكن لكي يظهر بجلاء ان الله الكلمة الذي في الله
الآب هو حياة ونور ليس للبعض فقط دون غيرهم، بل بطريقة مشاركة تفوق الوصف، كحكمة
وفهم (وهو ما يسمى نوراً في المخلوقات العاقلة)، عاقلة، والكائنات التي تقبل
الحواس، يصير لها حس، وهو ما لم تكن تستطيع ان تحصل عليه بأية طريقة أخرى. ولهذا
يقول الرسول "والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه".

          وكأن
الرسول يصرخ بصوت عال محذراً سامعيه، ويقول يا سادة لقد علمتكم الحق بكل قوة وهو
"الحياة كانت نور الناس" حتى لا يفترض الذين يظنون انفسهم صالحين انهم
اخذوا حياة واستنارة من آخر، او نالوا ذلك كمكافأة على الحياة التي عاشوها، وانما
لأن الكلمة هو الحياة، وكل الكائنات أخذت الحياة منه، فهو كذلك النور، وهو يعطي
الذين ينالون الادراك، والذين ينالون الحس، كل منهم ما هو خاص به. لأن الله الآب
بالابن في الروح القدس هو كل شيء لكل أحد.

          "الظلمة"
هي الطبيعة التي تحتاج الى استنارة، اي الطبيعة المخلوقة، ولأنه سمى الكلمة النور،
فقد أوضح ان الخليقة العاقلة التي تحتاج الى الاستنارة. هي مختلفة تماماً عن
الكلمة. وهنا يستعمل الاسم الثاني للطبيعة العاقلة المخلوقة اي الظلمة لكي يوضح
الحقيقة الاساسية وهي ان يعلن ان الخليقة العاقلة بدون الطبيعة الالهية هي ظلمة،
فهي عاجزة عن ان تلد شيئاً من نفسها وبقدراتها. وهي تدعى ظلمة لأنها مختلفة عن
النور. وطبقاً لما قيل "أي شيء لك لم تأخذه" (1كورنثوس 4 : 7) هذه
الطبيعة تنال من الله الاستنارة، دون ان يكون النور خاص بها من ذاتها وكل ما ليس
من ذاته نوراً، كيف لا يكون العكس، او كيف لا يدعى "ظلمة"؟

          "والنور
يضيء في الظلمة" هو وصف معقول وضروري يوضح لنا الفرق بين الكلمة والخليقة
العاقلة، فالكلمة وحده هو النور والخليقة هي ظلمة وعندما تقبل الطبيعة المخلوقة
كلمة الله وتشترك فيه كنور، فانها ترى نفسها ظلمة، فالابن يشرق فيها اي يشرق مثل
النور في الظلمة، ومع ذلك تظل الظلمة عاجزة عن ادراك النور، وهذا هو معنى الكلمات
"والظلمة لم تدركه (تفهمه)". فالكلمة يشرق على كل الاشياء القادرة على
ان تستقبل اشعاعه وانارته، وينير – بدون استثناء – الاشياء التي لها طبيعة مستقبلة
لانارته. ولكن الابن الكلمة غير معروف عند الظلمة، لأن المخلوق العاقل على الأرض –
اي الانسان – "عبد المخلوق دون الخالق" (رومية 1 : 25)، انه لم يدرك
النور، لأنه لم يعرف الخالق، ينبوع الحكمة، بدء الفهم، واصل كل حس. ومع ذلك، فإن
الاشياء المخلوقة تنال النور، من محبته للبشر، وتزود بالقدرة على الإحساس التي
تزرع فيها منذ خلقتها.

          وهنا
ندرك انه لا يوجد مجال بالمرة لأي فكرة من اي نوع او اي تصور بأن الابن مبتدئ او
مخلوق، بل في كل شيء هو يفوق مقايسنا، ويعلو على طبيعة الخليقة وهو آخر تماماً غير
المخلوقات وبعيد عنها كلية من نايحة نوع جوهره، مثل ارتفاع النور وسموه على
الظلمة، وبما لا يسمح بالمقارنة، وبعد ان شرحنا وقدمنا البراهين الكافية الخاصة
بهذا الجزء، علينا ان ننتقل الى ما يليه :

يوحنا
1 : 6-7 "كان انسان مرسل من الله اسمه يوحنا. هذا الانسان جاء للشهادة لكي
يشهد للنور".

          بعد
ان قدم الانجيلي المبارك ما يكفي لإظهار ان كلمة الله هو بالطبيعة ابن الله الآب،
يدعم ايمان السامعين بهذه الكلمات، وحسبما قال الله لموسى "على فم شاهدين او
ثلاثة تقوم كل كلمة، (تثنية 19 : 15)، يضم الانجيلي بحكمة شاهداً آخر اليه وهو
يوحنا المعمدان، ويقدمه لنا شاهداً ثانياً معه، وشهادته مستحقة القبول، ولم يفترض
الانجيلي ان عليه ان يقدم شهادته وحده، عن المخلص، رغم ان شهادة حقة، حتى لا يتعدى
الناموس، وحتى لا يؤمن الناس بشهادته وحده فقط، خصوصاً وهو يعلن اموراً عاليه على
الادراك، بل يضم معه يوحنا المعمدان.

          ولذلك
يشهد الانجيلي المبارك ان "في البدء كان الكلمة. والكلمة كان عند الله. وكان
الله الكلمة. كان هذا في البدء عند الله". وان "كل شيء به كان وبغيره لم
يكن شيء مما كان" وانه هو "الحياة" بالنسبة لكل المخلوقات وان هذه
"الحياة هي نور الناس" كل هذا لكي يعلن ان الابن بالطبيعة هو الله. ويضم
الآن يوحنا المعمدان الى شهادته صارخاً "أعدوا طريق الرب، اجعلوا الطرق التي
تؤدي الى الله مستقيمة" (اشعياء 40 : 3). وبكل سهولة يمكننا ان نرى انه الاله
الحق، الذي فيه كل سمو الربوبية وهو ما لا يمكن ان ينكره احد لأن "لنا اله
واحد الآب، ورب واحد يسوع المسيح" حسب شهادة بولس (1 كورنثوس 8 : 6) ومع انه
يوجد من يدعون "آلهة" بالنعمة، "وأرباب" في السموات وعلى
الأرض، الا ان الابن الوحيد وحده مع الآب هو الاله الحق.

          وما
أجدر ان نسمع لهذين الشاهدين، ونعطيهما الثقة الكاملة في كل ما قالاه، فكلاهما نال
ملء شهادة الناموس، ومشهور لهما بالنبل شخصياً. فالانجيلي لم يتكلم عن نفسه، ولا
مدح ذاته، والا كان قد سمع "انت تشهد لذاتك، وشهادتك ليست حقاً" (يوحنا
8 : 3). ولذلك يترك الحكم على ما قاله لمن يعرفونه، ولكنه يذهب لمن يحمل ذات
الاسم، ليقول انه يؤكد كلامه، والذي يقول عنه انه "مرسل من الله". ويليق
بالانجيلي ان يخبرنا انه ليس من ذاته وبدافع من غيرته الذاتية يشهد يوحنا المعمدان
عن المخلص، بل بطاعة الوصية التي من فوق، وخدمة لإرادة الآب الالهية، وهذا معنى كلامه
"كان انسان مرسل من الله اسمه يوحنا".

          لكن
علينا ان نقرأ بدون سرعة، ونلاحظ دقة التعبيرات التي استخدمها الانجيلي في الكلام
عن اختلاف الطبائع عند الكلام عن الله الكلمة. "كان" هو أفضل تعبير
يناسب الكلام عن أزليته. وكيف هو قبل كل الكائنات، وبذلك قضى تماماً على كل رائحة
الله الكلمة. "كان" هو أفضل تعبير يناسب الكلام عن ازليته، للكلام عن
خلق الكلمة، لأن ما هو كائن دائماً، لا يمكن ان يكون مخلوقاً. اما عند الكلام عن
المعمدان، رغم انه استخدم "كان"، الا انه ربطها بكل دقة بما جاء بعدها
"انسان مرسل من الله"، اي له طبيعة مخلوقة، وهكذا يبدو لي ان الانجيلي
لم يستخدم "كان" بنفس الشكل الذي استخدمها للكلام عن الكلمة، بل وضع
معها "انسان" لكي يقضي تماماً على خرافات وادعاءات البعض.

          فقد
شاع كلام مستتر عند البعض بأن يوحنا المعمدان لم يكن حقيقة "انسان" بل
واحد من الملائكة القديسين في السماء، استخدم جسداً وأرسله الله لكي يعظ الناس.
وهذه الخرافة تعتمد على عدم ادراك لما قاله الله "ها أنا أرسل أمام وجهك
ملاكي الذي يهيء الطريق امامك" (متى 11 : 10 – ملاخي 3 : 1). وخطأ هؤلاء
الذين ابتعدوا عن الحق هو عدم فهمهم لمعنى كلمة "ملاك" فهو يعني خادم او
رسول، دون تحديد لحقيقة جوهر هذا الخادم، ونرى ذلك في تاريخ أيوب المبارك عندما
وصله عدة "رسل" ([v])
واحد بعد الآخر، لكي يبلغه خبر آلامه ومصائبه، وفي هذا الإطار نفسه يشرح بولس
الحكيم حقيقة الملائكة "أليس جميعهم أرواح خادمة مرسلة لخدمة العتيدين ان
يرثوا الخلاص" (عبرانيين 1 : 14).

          واذا
دعي يوحنا المعمدان بفم الرب "ملاكاً"، فهذا لا يعني تغيير في طبيعته،
بل كخادم ورسول ارسله الله لكي يصرخ عالياً "أعدوا طريق الرب"، واذا كان
الرب قد وصف يوحنا المعمدان بأنه ملاك، فهذا لائق جداً، لأنه أراد ان يعلن لنا ان
شهادته صادقة جداً، لأن الذي أرسله الله لكي يبشر، لن ينطق بأي شيء يختلف مع ارادة
الذي أرسله، لأنه خاضع له، وصادقة هذه الشهادة لأن الله هو الذي علمها. وفي نفس
الإطار يقول بولس الحكيم ان الذي ارسله هو يسوع المسيح (غلاطية 1 : 1) مؤكداً انه
لم يتعلم قوة السر من أحد بل "باعلان" (غلاطية 1 : 12) من الذي أرسله،
وبذلك حدد نوع الإعلان ومعناه بكلمات قليلة جداً اي ان يسوع المسيح هو الذي ارسله.
وكل الذين يرسلون من الله هم الذين يتعلمون منه، هؤلاء احرار من الكذب، لأنهم لا
يعرفون هدفاً سوى ان يكونوا خداماً للحق بلا شك.

          يقول
الانجيلي ان اسم الانسان "يوحنا"، لكي يعرف الناس الاسم وهذا يعطي ثقة
في الشهادة. ولذلك عندما جاء من يبشر زكريا اخبره باسمه جبرائيل الواقف في حضرة
الله (لوقا 1 : 19)، وهو ما جعل للبشارة المفرحة التي أخذها زكريا اي ميلاد يوحنا
من اليصابات وقعاً خاصاً. فهنا يؤكد الانجيلي اسم يوحنا المعمدان ليس كشاهد فقط،
بل كمن اخذ اسمه من الملاك حسب قصد الله فوق كل مديح؟ لذلك السبب كان من الضروري
ان يضع اسم يوحنا المعمدان. ولأن الانجيلي قال ان المعمدان قد ارسله الله لكي
"يشهد للكل" لكي يؤمن الكل بشهادته، فإننا سوف نواجه السؤال الذي يضعه
المقاومون بغباء "لماذا لم يؤمن الكل بمن ارسله الله؟ كيف يمكن ان ينال انسان
هذه المسئولية بارادة الله ويصبح عاجزاً عن ان يقنع احد؟ من الصواب يا سادة ان لا
نلوم يوحنا، على عجز، او نقص في غيرته، بل علينا ان نسأل عن عناد الذين لا يؤمنون.
لأنه من الواضح ان المبشر، ورسالته كانا من فوق، وان الكل سمعه، وكان يجب ان لا
يبقى احد في عدم ايمان، ولكن لأن كل انسان له سلطان على ارادته الحرة فالبعض رفض
الايمان ولم ينتفع. وعلينا ان نقول لهؤلاء ما قاله النبي "من يسمع فليسمع،
ومن يحتمل فليحتمل" (حزقيال 3 : 27).

هذا
الانسان جاء للشهادة، لكي يشهد للنور :

          كلمة
"هذا" مملوءة باعلان الفضيلة وكفاءة الانسان. لأن الذي ارسل من الله،
والذي ضرب كل اورشليم واليهودية بالخوف، وبحياته القاسية، وممارسته للفضيلة، وهو
ايضاً الذي سبق فأخبر عنه صوت النبي اشعياء "صوت صارخ في البرية" (اشعياء
30 : 4)، وفي داود يقول "هيأت سراجاً لمسيحي" (مزمور 132 : 17 س).
"هذا الانسان جاء للشهادة لكي يشهد للنور"، وهو هنا يدعو الله الكلمة،
النور، ويبين انه هو وحده النور الحقيقي بذاته والذي ليس هناك أحد آخر معه
بالطبيعة له خاصية لادارة، وانه ليس محتاجاً للنور. فالكلمة ليس مخلوقاً، بل غريب
تماماً عن طبيعة المخلوقات، فهو وحده النور الحقيقي، الذي تشترك فيه كل المخلوقات.
وبذلك التعبير "هذا" يميز الانجيلي بين النور ومن يشهد للنور، فالنور لا
يمكن ان يحسب في عداد المخلوقات، بل هو في دائرة اللاهوت ومملوء بالطبيعة الصالحة
لذاك الذي ولده.

يوحنا
1 : 8 لم يكن هو النور، بل ارسل لكي يشهد للنور :

          فضل
المعمدان ان يعيش في الصحراء بعيداً عن ترف المدن، وأعلن عن عزم ثابت في ممارسة
الفضيلة، وارتقى الى قمة البر الذي يمكن ان يصل اليه انسان، مما جعل البعض يندهش
من اسلوب حياته بل ان البعض تخيلوا انه هو المسيح؟ وحقاً ارسل اليه رؤساء اليهود
بعدما اندهشوا من تقدمه في الفضيلة، ليسألوه ان كان هو المسيح، ولم يجهل الانجيلي
كل هذه الأمور، وبسبب هذا وضع عبارته "لم يكن هو النور" لكي يقتلع
الخطأ، وفي نفس الوقت يعطي فرصة للثقة في ذاك الذي "ارسل من الله لكي
يشهد". ولأن يوحنا المعمدان سامي المقام، وعظيم المكانة، ومستحق للمديح، ذاك
الذي لبس الفضيلة، وفاق كثيرين في البر، وتشبه بالمسيح وجمال تقواه المتميز، حتى
تخيل البعض انه النور نفسه. ولذلك يقول الانجيلي "لم يكن هو النور" بل
"ليشهد للنور". وعندما قال "النور" وأضاف أداة التعريف ال فقط
اعلن انه النور الواحد، وهو كذلك بكل حق. ومع ان المعمدان وباقي القديسين يمكن ان
يقال انهم نور، وهذا لا ننكره، لأن المخلص نفسه قال عنهم "أنتم نور
العالم" (متى 5 : 14) وايضاً قيل عن يوحنا المعمدان لقد "اقمته سراجاً
لمسيحي" (يوحنا 5 : 35). ومع ان القديسين يقال عنهم انهم نور، ويوحنا سراج،
فإننا لا نجهل النعمة التي نالوها من "النور". لأن النور في السراج ليس
من السراج، ولا نور القديسين هو من القديسين، بل باستنارة الحق، صاروا
"أنواراً في العالم متمسكين بكلمة الحياة" (فيلبي 2 : 15-16). وما هي
الحياة التي يتمسكون بكلمتها والتي جعلتهم يوصفون بالنور؟ أليست بالحق هي الابن
الوحيد الذي قال "أنا الحياة". وحقاً واحد هو النور الحقيقي، الذي ينير،
ولا يستنير، والذي كل من يشترك فيه ويتشبه به يمكن ان يدعى نوراً.

 

الفصل
الثامن

"ابن
الله وحده هو النور والخلائق ليست هي النوربالمرة بل تشترك في النور
كمخلوقة".

يوحنا
1 : 9 كان النور الحقيقي :

          يجمع
الانجيلي الالهي كل ما قاله سابقاً، ويحدد بشكل آخر الحق الخاص بالنور، اي الابن
الوحيد، ويفصل بينه وبين الخليقة، على نحو بارز، اي ما هو بالطبيعة – اي الحق – وما
هو بالنعمة، بين المصدر الذي يشترك فيه الكل، والمشتركين فيه. بين الواهب والذي
يعطي من عنده، والذين يأخذون من الغنى الوافر. كل هذا في عبارة واحدة، "كان
النور الحقيقي". واذا كان الابن هو النور الحقيقي، فليس آخر غيره هو النور
حقاً، فلا يوجد من يملك امكانية ان يصبح النور، ولا تملك الكائنات ان تعطي من
طبيعتها النور، لأنها خلقت من العدم، ولا تستطيع ان تجود بما لا تملك، ولا ان
تتطور وتصبح النور. فمن كان أصله العدم، لا يملك ان يجود، وانما ينالون اشعة النور
الحقيقي، الذي يشع فيهم عندما يشتركون في الطبيعة الالهية (2 بطرس 1 : 4)، وعندما
يتشبهون بالطبيعة الالهية يدعون نوراً ويصيرون نوراً.

          فكلمة
الله هو جوهرياً "النور"، وهو ليس كذلك من قبل النعمة بالمشاركة، ولا
نال هذه المكانة عرضياً، ولا وهبت له كنعمة، وانما النور هو الصلاح غير المتغير
للطبيعة غير المخلوقة، وهو ينطلق من الآب الى وارث جوهره.

          والمخلوق
لا يستطيع ان يحتمل ان يصبح النور، وانما يقبل النور مثلما تقبل الظلمة الاشعة، او
كما توهب النعمة، وهذه هي المكانة التي اعطاها الابن بسبب محتبه للانسان. واذن فهو
وحده النور الحقيقي، والباقين ليسوا كذلك. ولأن الفرق بين الابن والمخلوقات عظيم
جداً، أصبح تمييز ابن الله عن الخليقة، عظيماً هو ايضاً، لأن الطبائع مختلفة. فكيف
لا يتراجع الاغبياء، او بالحري الذين وضعوا انفسهم خارج دائرة الادراك السليم،
اولئك الذين قالوا انه مخلوق، وجعلوا خالق الكل مثل المخلوقات، دون ان يدركوا
الكفر العظيم الذي وقعوا فيه ولا الخطر الرهيب المحدق بهم، لأنهم "لا يفهمون
ما يقولون، ولا ما يقررونه" (1 تيموثاوس 1 : 7).

          والذين
تدربوا على اختبار دقة الكلمات والحق الذي فيها، يعلمون ان الابن الوحيد لا يمكن
ان يكون مخلوقاً، لأنه "النور الحقيقي"، وهذا لا يجعله مساوياً في
طبيعته لأي مخلوق. واذا تطلعنا الى هذه الحقيقة من كل الزوايا المحيطة بها، يمكننا
ان نرى الأفكار الخفية التي تدور حول أفكار هذه الحقيقة وهذا ما يجب ان نعرضه
الآن.

          مبادئ
تعلمنا ان الابن وحده هو النور الحقيقي، ولا يمكن لأي مخلوق ان يكون النور
الحقيقي، ولذلك فطبيعة الابن ليست مثل طبيعة المخلوقات :

أولاً
:

          اذا
كان الابن هو بهاء (اشعاع) مجد الله الآب، ولذلك هو النور الحقيقي، فهو ليس من
طبيعة مثل طبيعة المخلوقات، لئلا يصبح المخلوق هو ايضاً بهاء (اشعاع) مجد الله
الآب، او لئلا يظن احد ان المخلوق يمكن ان ينال هذه الامكانية مستقبلاً اذا كانت
له طبيعة مماثلة لطبيعة الابن.

ثانياً
:

          لو
كانت الخليقة كلها تملك القدرة على ان تكون النور الحقيقي، فلماذا يعطى هذا اللقب
للابن وحده؟ لأنه يجب بسبب المساواة بين الخلائق ان ينال الكل لقب النور الحقيقي.
ولكن لا يوجد بين الكائنات من هو مؤهل لذلك، والوحيد الذي يمكن ان ينسب اليه هذا
هو جوهر الابن الوحيد، وبالحقيقة اذن ومن الصواب ان ينسب اليه وحده وليس للمخلوقات
على الإطلاق. فكيف يقال انه مثل الخليقة في الطبيعة وليس بالحري ينتمي الى ما هو
فوق الخليقة، لكونه فوقها مع الآب.

ثالثاً
:

          اذا
كانت المخلوقات التي جاء من العدم ليست هي النور، فان العكس ينطبق على النور
الحقيقي غير المخلوق. والمناداة بأيهما يقود الى نتائج مختلفة. فالابن هو النور
الحقيقي، وهذا هو الحق، والمخلوقات ليست هي النور الحقيقي، لأن الاختلاف هو اختلاف
الطبائع، وهذا يعني عدم وجود مماثلة.

رابعاً
:

          لو
كان الابن الوحيد ليس وحده النور الحقيقي، بل تشاركه المخلوقات في هذا، فكيف
"ينير لكل انسان"؟ فلو كانت المخلوقات تمتلك هذا، لما احتاجت الى ان
تستنير بالابن. وحقاً هو النور الذي يشترك فيه الكل، وهذا يعني ان جوهر الابن غير
جوهر المخلوقات، لأن الذي يشترك ليس مثل الذي يشترك فيه.

خامساً
:

          اذا
لم يكن الابن وحده هو النور الحقيقي بالطبيعة، بل كانت المخلوقات ايضاً لها هذا،
الا يعد قولاً بلا لزوم ما جاء في المزمور "انظروا اليه واستنيروا"
(مزمور 34 : 5). فمن هو النور كلية بالحق، لا يمكن ان يصير نوراً بالمشاركة في
آخر، ولا يمكن ان يستنير بانارة آخر، بل هو يتمتع بنقاوة كاملة من طبيعته الخاصة.
ولكننا نرى ان الانسان يحتاج الى النور، لأنه مخلوق، وحقاً صرخ المرنم في المزامير
بصوت عال الى الله الكلمة "لأنك أنت تضيء سراجي، الرب الهي ينير ظلمتي"
(مز 18 : 28). اذن نحن لسنا النور الحقيقي، وانما نحن بالحري مشتركون في الكلمة
الذي ينير، وطبيعتنا غريبة عن النور الحقيقي، الذي هو الابن.

سادساً
(مثله) :

          اذا
كان عقل الانسان يدعى سراجاً، وهو ما يشير اليه المزمور "انت تضيء
سراجي" فكيف يقال عنا اننا نحن النور الحقيقي؟. لأن السراج يحصل على نوره من
مصدر آخر. أما اذا كان الابن الوحيد وحده هو الذي ينير الظلمة التي فينا، فهو
النور الحقيقي، اما نحن فلسنا بالمرة النور الحقيقي. واذا كان الأمر غير ذلك فكيف
تكون طبيعة الابن مثل المخلوقات، وهو الذي يفوقها بغير قياس؟!

سابعاً
:

          اذا
كانت الخليقة تملك ان تكون النور الحقيقي مثل الابن، فالانسان يصبح النور الحقيقي
اذ هو جزء منها. فالى من يوجه الله الآب كلامه وهو يعد الانبياء القديسين قائلاً :
"ولكم ايها المتقون اسمي تشرق شمس البر" (ملاخي 4 : 2)؟ فلماذا يحتاجون
الى نور الابن لو كان البشر هم حقاً النور بذواتهم. لكن الله الآب وعد ان يعطينا
هذا النور، نحن المحتاجين لهذا، ونحن قد قبلناه واستنارت عقولنا، فالابن ليس مثلنا
ومثل الخليقة له طبيعة مخلوقة، بل هو في جوهره الابن الوحيد، اذ هو النور الحقيقي
الذي ينير كل من يحتاج للنور.

ثامناً
:

          لو
لم يكن الابن وحده هو النور الحقيقي، وكانت الخلائق تشترك معه في هذه الصفة ايضاً،
فان هذا ينطبق علينا نحن ايضاً، فلماذا صرخ القديسون بصوت عال طالبين من الله
"ارسل نورك وحقك" (مزمور 43 : 3). ولماذا فكروا ان يطلبوا هذه المعونة
لنا بهذه الكلمات؟ لأنهم ان كانوا قد عرفوا ان الانسان يحتاج الى النور، وان عليه
ان يطلبه من آخر، فأي واحد يستطيع ان يقول انه هو ايضاً النور الحقيقي؟ ولكن ان
كان الانسان غير محتاج الى الكلمة الذي ينير، فلأي غرض يطلب منه القديسون ان
ينيرهم ان كان لا يستطيع ان يساعدهم؟

          ولا
يستطيع احد ان يقول ان عقل القديسين لم يعرف الحق او ان الله الآب ارسل ابنه النور
الحقيقي لمن لا يحتاجون الى النور.

          اذن
الابن الوحيد مختلف بالطبيعة عن المخلوقات، اذ هو النور الذي يضيء الذين بلا نور.

تاسعاً
:

          اذا
قلنا ان المخلوقات ينقصها النور، وان الابن الوحيد هو الذي ينيرها. فالمخلوقات لا
تجد النور في ذاتها، اذن هي ليست النور الحقيقي مثل الابن.

عاشراً
:

          اذا
كان من هو بالطبيعة وبالحقيقة النور، وليس فيه ظلمة البتة، والابن الوحيد هو النور
الحقيقي، وبالمثل كانت المخلوقات هي النور الحقيقي فلماذا يقول الكتاب عن الابن
"والظلمة لم تدركه" بينما يقول بولس عن البشر "الذين فيهم اله هذا
العالم قد أعمى اذهان غير المؤمنين" (2كورنثوس 4 : 4) والمخلص نفسه يقول
"سيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام" (يوحنا 12 : 35).
فواضح اذن للكل انه ما دام البعض يمكن ان تدركه الظلمة ما كان المخلص قد أشار الى
ذلك. فكيف يكون الابن الوحيد والمخلوقات، اذن، من ذات الطبيعة؟ وكيف يكون غير
المتغير مع المتغير، والذي لا يقبل اي تبديل مع الذين يمكن ان تدركهم الظلمة
ويحتاجون لنوال النور الذي ينالونه كعطية وليس نابعاً من طبيعتهم.

حادي
عشر :

          اذا
لم يكن الابن الوحيد هو وحده النور الحقيقي بل المخلوقات ايضاً، كمساوية له في
الطبيعة، فكيف نصرخ نحن لله الآب قائلين "بنورك يارب نعاين النور" فلو
كنا نحن النور الحقيقي، فكيف نستنير من آخر؟ ولكن ان كنا نحتاج الى النور من آخر،
فنحن بكل وضوح لسنا النور الحقيقي. لذلك ليس لنا طبيعة مثل طبيعة الكلمة لأنه
بالطبيعة هو يفوقنا بغير قياس.

ثاني
عشر :

          يقول
ربنا يسوع المسيح في الانجيل "وهذه هي الدينونة، ان النور جاء الى العالم،
وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن اعمالهم كانت شريرة، لأن كل من يفعل الشر
يبغض النور، ولا يأتي الى النور" (يوحنا 3 : 19-20) ولكن اذا كان الابن
الوحيد هو النور الحقيقي، والمخلوقات قادرة بالمثل على ان تكون النور الحقيقي،
فكيف جاء هو لكي ينيرها، وقد أحبت الظلمة؟ فكيف تأتي الخليقة الى النور ان كانت هي
النور الحقيقي. لأن كل ما هو من الطبيعة ونابع منها هو ملك لها، اما الاشياء التي
تختارها الارادة فهي ليست اصلاً ملكاً لها، وكمثال على ذلك ليس بالارادة الذاتية
يستطيع الانسان ان يصبح انساناً عاقلاً، لأنه يكون له ذلك بالطبيعة، ولكن من يكون
انساناً يمكنه بارادته الخاصة ان يكون صالحاً او شريراً، فالارادة قادرة على ان
تجعل الانسان يحب الصلاح او العكس. فاذا كانت المخلوقات هي النور بطبيعتها، لأن
هذا هو معنى "الحقيقي"، فكيف لا تأتي الى النور؟ وكيف تحب الظلمة؟ فواضح
انها بطبيعتها ليست النور الحقيقي، بل تصير نوراً باختيارها ان كانت تميل الى
النور او العكس برفضها للنور.

          فعلى
المقاومين لنا ان يختاروا بين قولين! أما ان الخصائص التي تفوق الخلائق ليست كائنة
طبيعياً في الابن، وهذا تجديف علني، يقول عنه الكتاب "الرب يستأصل الشفاة
الكاذبة واللسان الناطق بالعظائم" (مزمور 12 : 3) او ان اعترفوا يقيناً بأن
خصائص الصلاح التي في الابن هي نابعة من جوهره، فعليهم ان لا يجعلوه واحداً مع
الخليقة او مثل الخليقة في الطبيعة، كما شرحنا.

ثالث
عشر :

          لو
كان كلمة الله ليس وحده النور الحقيقي، بل تملك الخليقة ايضاً ان تكون النور
الحقيقي مثله، فلماذا يقول هو "أنا هو نور العالم؟" (يوحنا 8 : 12) او
كيف نحتمل ان يسلب احد منا اسمى امتيازات طبيعتنا، ان كان ممكناً – بأية طريقة –
ان نكون نحن ايضاً "النور الحقيقي"، اذ تملك الطبيعة المخلوقة هذا
ايضاً؟ ولكن ان قال الابن الوحيد حقاً "أنا هو نور العالم"، يكون واضحاً
انه بواسطة الاشتراك فيه تكون الخليقة نوراً – وليس غير ذلك. واذا صح ذلك،
فالخليقة ليست من ذات طبيعته.

رابع
عشر :

          اذا
لم يكن الابن وحده بالحق هو النور، بل هذا يخص الاشياء المخلوقة ايضاً، فماذا نقول
عما كتب عنا "ولكنكم انتم جنس مختار، كهنوت ملوكي. أمة مقدسة، شعب مختار، لكي
تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة الى نوره العجيب" (1 بطرس 2 : 9). فما هي
الظلمة التي فينا، أو ما هي الظلمة التي كنا فيها، ان كنا نحن بالحقيقة النور؟
وكيف دعينا الى النور ونحن لم نكن في الظلمة؟ ولكن المبشر بالحق لم يكن يخبرنا
بالكذب لأنه كان صريحاً في قوله "هل انتم تطلبون برهان المسيح المتكلم
في" (2 كورنثوس 13 : 3). فنحن قد دعينا من الظلمة الى نوره العجيب. واذا كان
هذا حقاً، فالمخلوق ليس حقاً هو النور، بل الابن وحده بالحقيقة وبالضبط هو النور،
اما المخلوقات فهي تصير نوراً باشتراكها فيه، ولذلك فهي ليست من ذات طبيعته.

"مختارات
من الأسفار المقدسة، تجمع القراء ببساطتها الى الاعتراف بأن ابن الله وحده هو
النور الحقيقي، وان الطبائع المخلوقة تستنير بواسطته، دون ان تكون هي النور
جوهرياً مثل الابن".

اولاً
:

          يقول
المرنم "قد أضاء علينا نور وجهك يارب" (مزمور 4 : 6س)، فما هو نور وجه
الآب الذي اضاء علينا اليس هو بكل يقين الابن الوحيد، ابن الله، رسم جوهر الآب
ولذلك هو يقول "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14 : 9)؟ وقد أضاء
علينا، لأنه جعلنا مثله، فقد حفر انارته التي هي بواسطة روحه الخاص كصورة الهية
على الذين يؤمنون به، لكي يدعوا الآن مثله آلهة وابناء الله. لكن لو كانت
المخلوقات هي النور الحقيقي، فكيف اضاء النور علينا؟ لأن "النور يضيء في
الظلمة" (يو 1 : 5) حسب صوت لابس الروح الذي لا يكذب. اذ كيف يظهر النور في
وسط النور؟

ثانياً
:

          يقول
المرنم "نور اشرق للصديقين" (مزمور 97 : 11) فاذا كان الصديقون في
ذواتهم نوراً ولا ينقصهم النور فهو قول زائد بلا لزوم. ولكن اذا كان النور يشرق
على من ليس فيه نور، فالابن الوحيد وحده هو النور، والمخلوق يشترك فيه، ولذلك
فالمخلوق غريب عنه بالطبيعة.

ثالثاً
:

          يقول
المرنم "لأنهم اخذوا ارضاً لم تكن ملكاً لهم ولم يأخذوها بالسيف، ولم تخلصهم
ذراعهم، وانما يدك اليمنى وذراعك ونور وجهك". فنور وجه الآب هنا هو اعلانه عن
ذاته بالابن في الروح القدس، وتدبيره الذي حققه عندما خلص اسرائيل وحررهم من
عبودية المصريين. فاذا لم يكن الابن الوحيد وحده هو النور الحقيقي بل يشاركه اي
مخلوق في هذا، فلماذا لم يخلص اولئك بالنور الذي فيهم بل احتاجوا الى النور الذي
يأتيهم من مصدر آخر؟ ولكن من الواضح ان الابن الوحيد اشرق بنوره على كل المخلوقات
التي تحتاج الى النور، فهو وحده النور الحقيقي الذي تأخذ منه كل المخلوقات كنعمة
منه، فاذا صح ذلك فكيف تكون المخلوقات مساوية للابن في الطبيعة.

رابعاً
:

          يقول
المرنم "طوبى للشعب العارفين هتاف الفرح، بنور وجهك يسلكون يارب" (مز 89
: 15). فلماذا لا يسير هؤلاء بنورهم؟ لماذا يطلبون النور من آخر؟ وكيف لا يخلصون
الا بنور من آخر هو نور وجه الله الآب اي الابن؟ وهذا واضح جداً ان الكلمة هو الذي
يعطي الاستنارة لكل المخلوقات لأن الكل يحتاج الى الاستنارة، وكل المخلوقات تخلص
بنوال ما ليس لها. فكيف يمكن اعتبار الابن الوحيد والاشياء المخلوقة بواسطته
جميعاً من نفس الجوهر؟

خامساً
:

          يقول
المرنم "نور اشرق في الظلمة للأبرار" (مز 112 : 4). فكيف يقول ان
الابرار في الظلمة اذ هو النور الحقيقي ان كانت طبيعة المخلوقات تملك نفس النور
مثل الابن الوحيد؟ ولكن اذا كان النور قد اشرق للأبرار لأنهم يحتاجون اليه فلسنا
نحتاج الى كلمات كثيرة. لأن طبيعة الاشياء المخلوقة ذاتها تصرخ عالياً معلنة انها
ليس لها ذات الجوهر الكامل الذي له، وان المعطي بسخاء ليس من نفس جوهر الاشياء
المحتاجة للعطاء.

سادساً
:

          "قومي
قومي يا اورشليم لأن نورك قد جاء ومجد الرب قد أشرق عليك" (اش 60 : 1) اذا
كانت طبيعة الاشياء المخلوقة لها النور من ذاتها وهو ما يخص الابن الوحيد كنور
حقيقي فلماذا احتاجت اورشليم الى النور؟ ولكن حيث انها اخذت الاستنارة كنعمة،
فالابن الوحيد الذي يشرق عليها ويعطيها ما ليس فيها هو وحده النور الحقيقي. فهو
ليس من ذات الطبيعة لأن الذي يمنح اورشليم لا يمكن ان يكون كأورشليم.

سابعاً
:

          "ها
أنا اجعلك عهداً مع الشعب، ونوراً للأمم" (اش 42 : 6). فكيف يحتاج المخلوق
العاقل على الأرض الى نور لو كان النور الحقيقي من كيانه الطبيعي؟ لأن الله الآب
يعطي ابنه كالنور الحقيقي للمخلوقات. لأن هذا النور ليس من طبيعة المخلوقات التي
اذ تناله تعلن بذلك عن فقر طبيعتها وعن غنى كرامة ذاك الذي ينيرها.

ثامناً
:

          "يا
بيت يعقوب، تعال لنسير في نور الرب" (اش 2 : 5)، فلماذا يسير هؤلاء في نور
الرب وليس في نورهم، ولكن أليس الابن الوحيد هو الذي يشرق عليهم ويزرع فيهم صلاح
جوهره؟ لأنهم لا يملكون شيئاً.

تاسعاً
:

          يقول
المخلص "أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور
الحياة" (يو 8 : 12). فمن المخلوقات يمكنه ان ينطق بمثل هذا دليلاً على انه
ولا واحد منهم هو النور الحقيقي وعلينا الاعتراف بأن الابن هو النور الحقيقي.

عاشراً
:

          يقول
الرب : "ما دام لكم النور آمنوا بالنور لكي تصيروا ابناء النور" (يو 12
: 36). ألا يفقد هؤلاء النور اذا لم يؤمنوا بالنور، ان كان ممكناً – بأية طريقة –
للجوهر المخلوق ان يكون النور الحقيقي؟ وكيف يكون النور من طبيعة المخلوقات؟ ولكن
حيث انهم ينالونه من آخر، فمن الممكن ان يفقدوه بالتكاسل. وطالما ان الارادة هي
التي تعمل لكي تناله، فانه يمكن ان يستنير المخلوق ويمكن ان يفقد النور دون ان
يتلاشى. مثلما يحدث في حالة انسان عاقل يعمل في بناء السفن، اتقن هذه الصناعة
بارادته، اذا اصيب بعارض في جسده فهو لا يفقد طبيعته العاقلة ولكن قد يفقد قدرته
على بناء السفن، ولكن اذا استطاع ان يحصل على علاج وان يدفع عنه هذا العارض بواسطة
الادوية امكنه ان يعود مرة ثانية لبناء السفن. وهذا يعني ان الاشياء التي هي من
جوهره تظل فيه على الدوام، أما ما يتعلمه المخلوق فيمكن لاسباب كثيرة ان يفقده.
وقياساً على ذلك لو كان النور من وبيعة المخلوقات وجوهرها، فكيف يفقد الذين لا
يؤمنون النور، او كيف يصبح الذين يؤمنون ابناء النور؟ لو كانوا بالطبيعة، النور،
لصاروا ابناء لذواتهم اي النور الذي فيهم. وماذا تكون مكافأة الذين يؤمنون لأن
الذين لا يؤمنون يظلون ايضاً ابناء لذواتهم. من هذا الاعتبار يمكننا ان ندرك الحق
ونقول ان الابن الوحيد وحده هو النور الحقيقي والمخلوقات تحتاج الى النور لأنها من
طبيعة مختلفة عنه.

حادي
عشر :

          قال
يسوع : "النور معكم زماناً قليلاً فسيروا في النور ما دام لكم النور لئلا
يدرككم الظلام" (يو 12 : 35). وهذا القول بالذات يمكننا ان نصيغه بنفس صياغة
البرهان السابق، لأن الذي هو النور بطبيعته لا يمكن ان تدركه الظلمة.

ثاني
عشر :

          يقول
يوحنا "الذي يقول انه في النور وهو يبغض اخاه فهو في الظلمة" (1يو 2 :
9). اذن النور فينا بارادتنا الحرة. فهو بالارادة وليس بالجوهر حاضر في الاشياء المخلوقة.
ولذلك كل من يكره اخاه هو في الظلمة. فالابن الوحيد هو بالطبيعة النور، وليس النور
فيه بارادته وكثمرة لحرية الاختيار. لذلك هو ليس من ذات الطبيعة المخلوقة بل هو
فوق الكل بغير قياس.

ثالث
عشر :

          قيل
"من يحب أخاه يثبت في النور" (1يو 2 : 10) اذن المحبة تعطي المخلوقات ما
ليس فيها اي النور، اما الابن الوحيد فهو النور لذلك فهو ليس مثل الآخرين الذين هو
فيهم بالمحبة.

 

الفصل
التاسع

ان
نفس الانسان لا وجود لها قبل وجود الجسد. وليس وجود النفس في الجسد – كما يقول
البعض – هو بسبب خطايا سابقة.

          بكل
يقين يضع الانجيل الالهي، الاعلان عن الابن الوحيد بشكل متسع لكي يؤكد انه النور
الحقيقي، ويضيف بكل دقة الى ما قاله سابقاً ويصرخ عالياً : "كان النور
الحقيقي الذي ينير كل انسان، آتياً الى العالم".

          وحيث
ان البعض من الذين يفشلون في فهم التعاليم الالهية ولا يبحثون جيداً يدعون ان الملائكة
ينيرون عقل البشر ويقولون : اخبرنا، اليس كرنيليوس قد قبل تعليماً من الملاك عن
ضرورة خلاصه بالمعمودية؟ وماذا عن منوح والد شمشون، ألم يتعلم بصوت الملاك عن
الاشياء المستقبلة؟ (قض 13 : 2). وايضاً زكريا النبي ألم يعلن بوضوح ويخبرنا :
"والملاك الذي تكلم معي قال لي تعال لكي اريك ماذا يكون" (زك 1 : 9).

          واذا
درست هذه الكلمات ألا نجد ان الملاك يعلن المعرفة الخفية الخاصة بالمستقبل من خلال
عقله. لأنه يقول : "واذا الملاك الذي يتكلم معي ذهب وجاء ملاك آخر لمقابلته،
وقال له اسرع واخبر هذا الرجل قائلاً سيسكن اورشليم كثرة من الناس حتى تكون مدينة
بلا أسوار بسبب كثرة الناس والبهائم" (زكريا 2 : 3-4). وماذ عن النبي دانيال؟
ألم يستغرق في رؤياه العجيبة. عندما اعلنت الملائكة له الرؤيا التي رآها؟ وها هو
يقول : "وحدث انني انا دانيال رأيت الرؤيا وطلبت المعنى واذا بشبه انسان واقف
قبالتي وسمعت صوت انسان بين أولاي. فنادى وقال يا جبرائيل اجعل هذا الانسان يفهم
الرؤيا" (دا 8 : 15-16). كل هذا يؤكد ان قوة الاستنارة هي في الملائكة. بل
حتى الانسان يمكنه ان يستعين بانسان آخر لكي ينيره. وحقاً كان الخصي مشتاقاً لأن
يعلم من هو الشخص محور النبوات التي كان يقرأها مع انها كانت عن المخلص، وقال
لفيلبس "اطلب اليك، عن من يقول النبي هذا عن نفسه ام عن واحد آخر؟" (أع
8 : 34). بل ان الذين يستعينون بالمعلمين في هذا الدهر ليس لديهم أي غرض آخر سوى
ان يستنيروا ولماذا نتعب والبرهان جاهز في ايدينا وهو ما قاله المخلص لرسله
القديسين "أنتم نور العالم" (مت 5 : 14).

          مثل
هذه الأفكار تصدر عن الذين يتحيرون. ولنا اجابة على هذا. انتم ترون يا أصدقائي ان
المخلوق هو كائن مركب وليس بسيطاً بل لا يوجد فيه شيء بسيط. ولذلك فالذي يعطي حكمة
لآخرين وهو مخلوق ليس هو الحكمة بل خادم للحكمة التي لأنه بالحكمة يصبح الانسان
حكيماً. وكذلك من يعلم الفطنة او التدبير ليس هوالفطنة او التدبير بل هو خادم
الفطنة او التدبير. وبالفطنة والتدبير يصبح الانسان فطيناً او مدبراً. وايضاً كل
من هو قادر على ان يعلم آخرين وينيرهم ليس هو النور وانما يقدم النور الذي فيه
للآخرين بالتعليم ويشركهم في الخير الذي أخذه. وهذا هو السبب الذي بشأنه قيل
"مجاناً اخذتم مجاناً اعطوا" (يو 10 : 8). لأنه مهما كانت الخيرات التي
فيهم، فهي بكل يقين من الله، لكي لا تفتخر الطبيعة الانسانية بما لديها من خيرات،
ولا حتى الملائكة القديسين.. لأننا بعد ان دعينا الى الوجود فان كل الموجودات تنال
كيانها الخاص من الله. ونحن نؤكد هنا وعلى أساس ثابت ان أي صلاح او خير في
الموجودات ليس فيها من جوهرها، بل ليس الا نعمة مجانية من الخالق والكل مبني على
نعمة الصانع.

          وحيث
ان المخلوقات هي من طبيعة مركبة فليس فيها مطلقاً نور بسيط ولا نور مركب بل النور
وكل شيء آخر ينالونه هو بالاشتراك في الله. لكن النور الحقيقي هو الذي ينير وليس
الذي يستنير من آخر. وهكذا الابن الوحيد كائن بسيط غير مركب لأن اللاهوت ليس فيه
ثنائية.

          هذه
الأمور يجب ان تؤخذ هكذا. أما المعارضون فسيقولون لنا. لو كان القديسون ليسوا
بالطبيعة، النور، فلماذا لا يدعوهم المخلص شركاء النور بدلاً من النور؟ وكيف يصبح
المخلوق مختلفاً عن ابن الله، ما دام التلاميذ قد سمعوا "انتم نور
العالم" (مت 5 : 14).

          اجابتنا
على هذا يا سادتي الاعزاء هي : نحن ابناء الله بل دعينا آلهة في الاسفار الالهية
حسب المكتوب "ألم أقل انكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مز 82 : 6). هل يعني
هذا ان نتخلى عن كياننا ونرتفع الى جو اللاهوت غير المنطوق به وان خلع الابن
الكلمة من بنوته ونجلس نحن في مكانه مع الآب ونجعل محبة الذي اكرمنا عذراً للكفر؟
حاشا لله. فالابن هو كائن غير متغير. أما نحن فبالتبني صرنا أبناء وآلهة بالنعمة،
غير جاهلين من نحن، وعلى نفس القياس لا نؤمن ان القديسين هم النور اما عن النور
الحقيقي فعلينا ان نرى الأمر على هذا النحو : أن الكائنات العاقلة في الخليقة بعد
ان تستنير تنير غيرها بالشركة في الأفكار التي تنسكب من العقل في أذهان الآخرين.
وهذه الاستنارة بالصواب توصف بأنها تعليم وليست اعلاناً. أما الكلمة الذي من الله
الآب فهو ينير كل انسان آت الى العالم، ليس بالتعليم مثلماً يفعل الملائكة او
البشر، وانما كاله خالق يضع في كل المدعوين الى الوجود بذرة الحكمة او بذرة
المعرفة الالهية. ويزرع جذر الفهم مما يجعل الكائن حياً عاقلاً معلناً بذلك
اشتراكه في طبيعته ومرسلاً الى العقل اشعة نور من بهائه غير المدرك بشكل يعرفه هو
وحده، ولا يجوز لأي انسان ان يضيف شيئاً اكثر من ذلك في هذه الموضوعات وحتى ابونا
الأول آدم نال الحكمة فوراً وبدون ان يتعلم في مرحلة من الزمان مثلنا، بل منذ
بداية وجوده كانت له معرفة كاملة واحتفظ لنفسه بالنور الذي اعطاه الله دون انزعاج
وبنقاوة طالما احتفظ بكرامة طبيعته غير مدنسة وغير مختلطة.

          اذن
فالابن ينير الخليقة كخالق لأنه النور الحقيقي، وعندما تشترك الخليقة في نور الابن
تشرق بنوره وتصبح في هذه الحالة نوراً، لأنها بتعطف الابن ترتفع الى فوق، لأنه مجد
الخليقة وكللها بأكاليل متنوعة من الكرامة، لكي يأتي اليه كل من نال كرامة ويرفع
صلوات الشكر بصوت عال : "باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر
جميع ذنوبك ويشفي كل أمراضك ويفتدي من الهلاك حياتك ويكللك بالمحبة المترفقة
والرحمة الحانية ويملأ فمك بالخيرات" (مز 103 : 2-5). وحقاً يرحم اله المراحم
اولئك الصغار والذين لا قوة لهم ولا سلطان في طبيعتهم، ويمنحهم مراحم عظيمة وكثيرة
بصلاحه ويعطيهم مما لديه، لأنه كاله يعطي بسخاء من خيراته حتى انهم يدعون آلهة
ونور. وهل يوجد خير آخر او اسم آخر افضل لم يعطنا ايه؟

          ماذا
يخبرنا الانجيلي بعد ذلك؟ "كان في العالم". وأضاف الانجيلي ذلك لفائدتنا
لكي يعطينا فكرة نحتاج اليها. لأنه عندما قال "كان هو النور الحقيقي الذي
ينير كل انسان، آتياً الى العالم"، ولم يكن هذا واضحاً للسامعين هل هذا النور
هو الذي ينير كل انسان آت الى العالم أم أنه النور الحقيقي ينتقل من مكان الى مكان
لكي ينير كل الناس. ولذلك فإن اللابس الروح يعلن الحق ويشرح قوة الكلمات التي
نطقها ويقول على الفور "النور كان في العالم" لكي نفهم ان عبارة
"آت الى العالم" تعني عالم الانسان لكي ينير الطبيعة المخلوقة العاقلة
التي تدعى من العدم الى الوجود. فالطبيعة المخلوقة ليست مثل مكان نتخيله في الفكر
بل هي تأتي من العدم الى الوجود وتأخذ حيزاً في الواقع. ولذلك عند الكلام عن
الانسان علينا ان نعتقد بثقة ان طبيعة الانسان المخلوقة نالت الاستنارة بمجرد
خلقها وانها نالت النور من النور الذي في العالم. أي الابن الوحيد الذي يملأ كل
الاشياء بنور اللاهوت غير المدرك : وهو حاضر في الملائكة الذين في السماء ومع
الذين على الأرض دون ان يفقد الوهيته بل في كل مكان هو حاضر في الكل ولا يترك
احداً. وهذا ما يجعل المرنم يتعجب قائلاً : "الى اين اذهب من روحك او الى اين
اختبئ من وجهك؟ اذا صعدت الى السموات انت هناك واذا اخذت فراشي الى الجحيم فانت
هناك، اذا اخذت اجنحة الصباح لا طير الى اقاصي البحار فهناك تقودني وتمسك في يدك
اليمنى" (مز 139 : 7-10). لأن يد الله تمسك بكل شيء. بجميع المخلوقات في
الخليقة كلها، وتعطي حياة لمن يحتاج الى الحياة، وتزرع النور الروحي في الكائنات
القادرة على ان تتقبل الفهم. وهو ليس محصوراً في مكان ولا يتحرك من مكان الى آخر،
لأن الحركة من صفات الاجساد وانما هو يملأ كل الاشياء.

          وربما
سيقول البعض فماذا تقول يا سيدي الصالح عن اعتراض البعض على كلمات المسيح
"جئت نوراً الى العالم" (يو 12 : 46). وايضاً ماذا عن كلمات المرنم :
"ارسل نورك وحقك؟" (مز 43 : 3) فهذا يعني انه يقول عن نفسه انه سيأتي
الى العالم، أي انه لم يكن في العالم والمرنم مجيء من هو ليس حاضراً، فهذا هو معنى
الكلمات.

          والرد
على ذلك هو ان الانجيلي الالهي يصف الابن الوحيد بكل الصفات الخاصة بالله لا سيما
انه حاضر بدون انقطاع في العالم لأنه بالطبيعة الحياة وهو نور بجوهره ويملأ
الخليقة كاله غير محصور في مكان، ولا يقاس بمقاييس ولا يدرك بالكم ولا يحيط به
شيء. ولا يتحرك من مكان الى آخر، ولكنه يمكن في الكل ولا يفارق احداً، ومع كل هذا
يقال انه أتى الى العالم رغم حضوره الدائم فيه. وهذا المجيء الى العالم هو التجسد
لأنه أعلن نفسه للذين على الأرض وتحدث مع البشر (باروخ 3 : 37) عندما تجسد، وجعل
حضوره في العالم ظاهراً للكل. والذي كان في الماضي معروفاً لفكر الانسان صار
مرئياً بعيون الجسد ايضاً لا سيما عندما صار ظاهراً بالعجائب والقوات ويترجى
المرنم مجيء النور والحق لكي ينير الكلمة العالم عندما يأتي متجسداً، فهذا هو معنى
الكلمات. ولكني اعتقد ان الباحث الذكي عليه ان يفكر في هذا السؤال من هذه الزاوية
الخاصة، لأن المدقق يعلو فكرة عن الكلام، والادراك عنده اسرع من اللسان ولذلك فان
العقل المدقق يدرك خبايا الجمال الالهي ويعرف ان الكلام عنه لابد ان يصدر بشكل
يتلاءم مع الادراك الانساني لا سيما القدرة على التعبير، مع الاعتراف بأن اللسان
مهما وسعه النطق لا يقدر ان يعبر عن أبعاد الحق. ولهذا فإن بولس نفسه خادم اسرار
المخلص اعتاد ان يسأل الله ان "يعطه كلاماً عند افتتاح فمه (أنظر اف 6 : 19).
وفقر اللغة لا يمكنه ان يؤذي سمو الطبيعة الالهية للابن الوحيد بل ان يتكلم على
قدر استطاعته بشرط ان نفهم هذا الكلام الانساني بما يتفق مع الطبيعة الالهية.
فهكذا فعل المخلص والقديسون الذين استخدموا الكلام الانساني بسبب ضرورة الكلام عن
الله.

          وهنا
يبدو لي اننا لم نفقد العلاقة بما قيل سابقاً، وبما شرحناه من كلمات، ولكن القلم
الذي يكتب عن التعاليم الالهية عليه ان لا يتكاسل. فاذا عدنا الى نفس النص لكي
نفحص معنى "آتياً الى العالم" وجدنا انه خاص بالانسان دون غيره، لقد كان
النور في العالم كما شهد الانجيلي نفسه، وقد أكدنا ان النور نفسه لم يأت الى
العالم بل الانسان هو الذي دعي للاستنارة.

التعليم
بوجود النفس قبل خلق الجسد :

          اما
البعض الذين يتفوهون بما في قلوبهم وليس بما يأتي من فم الرب (انظر ارميا 23 :
16)، يدعون ان النفوس البشرية لها وجود سابق على خلق اجسادها، وانها كانت في
السماء حيث عاشت حياة الغبطة لفترة طويلة في حالة غير متجسدة، وهناك كانت تتمتع
بالخيرات لأنها كانت نقية. ولكن عندما شبعوا من الخيرات التي زادت عن احتياجهم
انحدروا الى الأردأ واغرقوا في افكار غريبة وشهوات لا تمت لهم بصلة فالخلق – بكل
عدل – لم يرض عنهم فأرسلهم الى العالم وسجنهم في اجساد ترابية، ووضع عليهم هذا
الثقل وحبسهم كما في كهف مملوء باللذات الغريبة، مقرراً بذلك ان يعلمهم من المحنة
نفسها مرارة الانحطاط الى الادنى دون اعتبار للبقاء في الصلاح.

          وكبرهان
على هذه الخرافة الغبية التي اخترعوها يخطفون الكلمات التي أمامنا الآن "كان
النور الذي ينير كل انسان، آتياً الى العالم" مع نصوص أخرى من الأسفار
الالهية مثل "قبل ان اتواضع انا زللت" (مز 119 : 67). وبدون ان يخجلوا
من هذه الفكرة الغبية يقولون : ها هي النفس تقول انها قبل تواضعها أي تجسدها قد
زلت، ولذلك عوقبت بعدل ووصلت الى عبودية الموت والفساد الذي يشير اليه بولس وينسبه
الى الجسد بقوله : "ويحي انا الانسان الشقي من ينقذني من جسد هذا
الموت؟" (رو 7 : 24). ولكن اذا كانت النفس التي يقولون عنها انها قد سقطت قبل
ان تذل، تأتي الى العالم، أي لأن لها وجود سابق (لأنها كيف تخطئ بالمرة وهي بلا
وجود) حسب قول الانجيلي "كل انسان آتياً الى العالم" أي حضورها من مكان
معين الى هذه الدنيا. هذه هي الخرافات التي بتدعونها ضد تعاليم الكنيسة ويجمعون
زبالة شرحهم للأسفار لكي تسد أذان المؤمنين عن سماع الحق. ولكن هؤلاء يجب ان
يسمعوا : "ويل للأنبياء الحمقى الذين يتبعون روحهم ولم يروا شيئاً" (حز
12 : 3). لأن رؤياهم هي خيالات الكبرياء ونبواتهم من شهوات قلوبهم، وهذا كله
يجعلونه ضد الكلمات التي تكلم بها الروح دون ان يروا الى أي حد من السخافة يقودهم
خيالهم وهو الحد الذي عبر عنه المرنم بقوله الى الله "أنت أنت مخيف وكيف أقف
أمام عينيك عندما تغضب" (مز 76 : 7).

          ولكنني
افترض انه من الحماقة الادعاء بأن النفوس وجدت قبل ان توجد في الجسد، وانها بسبب
ذنوب قديمة ارسلت لكي تحبس في اجساد ترابية. وسوف ابرهن على قدر استطاعتي بعدة
براهين من الاسفار الالهية، لأنني اعرف ما هو مكتوب : "اعط تعليماً للرجل
الحكيم فيزداد حكمة، وعلم الرجل البار فيزداد في المعرفة" (أم 9 : 9).

براهين
مرتبة وواضحة تدل على التعليم الصحيح :

          1-
لو كانت نفس الانسان موجودة قبل ان توجد في الجسد وانها مالت الى الشر حسب تعليم
البعض وعوقبت على عصيانها بالنزول الى الجسد، خبروني كيف يقول الانجيلي انها
استنارت عند مجيئها الى العالم؟ لأن الاستنارة هي كرامة واضافة عطية. والانسان لا
يعاقب بالكرامة ولا بأن ينال الصلاح الالهي بل بنوال العقاب الذي يستحقه وغضب
الديان. ولكن حيث ان الانسان الذي يأتي الى العالم، ليس موضع غضب بل بالعكس يستنير
فمن الواضح انه كرم بالجسد ولم يأخذ الجسد كعقاب.

          2-
برهان آخر : لو كانت قبل وجودها في الجسد، هي عقل نقي يعيش في سعادة وعندما
ابتعد عن الله سقط ولذلك حبس في الجسد، فكيف يستنير عند دخوله العالم؟ لأن من
الواجب علينا ان نقول ان العقل كان معدماً من النور قبل مجيئه الى الجسد، واذا صح
هذا، فكيف أمكن انارته وهو ساقط ومحبوس في الجسد. أما كان بالأولى انارته قبل ان
يحبس في الجسد.

          3-
برهان آخر : لو كانت نفس الانسان موجودة قبل ان توجد في الجسد، وان العقل كان
نقياً في هذه الحالة، وملتصقاً بشكل طبيعي بالصلاح، وعندما سقط هبط الى ما هو أسوأ
ونزل الى الجسد الترابي، وانه حينما وجد العقل في الجسد فانه لم يعد يرفض ارادة
التعدي، فكيف لا يكون العقل مظلوماً في هذه الحالة؟ وهو حينئذ لم يكن – بشكل خاص –
قد استؤمن على رفض التعدي. وذلك حينما كان له ميل أعظم للفضيلة، ولم يكن قد صار
أسيراً بعد للشرور التي تنبع من الجسد، لكنه حينما جاء الى مياه الخطية العكرة
فانه اضطر ان يفعل هذا في وقت غير مناسب. لكن الله لا يفوته ان يختار الوقت
المناسب، وهو لا يؤذي اذ ليس في طبيعته اذى. لذلك فاننا نرفض الخطية في الجسد وهذا
صواب ويحدث في الوقت المناسب. وهذا الوقت المناسب هو لنا وقت الوجود، الذي فيه
"نأتي" بأجسادنا الى العالم، تاركين حالة عدم الوجود السابقة – كأنها
مكاناً معيناً – ونعبر منها الى بداية الوجود.

          4-
ما هو السبب في ان النفس التي أخطأت قبل ان توجد في الجسد، أرسلت الى الجسد. هل
أرسلت اليه لكي تتعلم وتختبر شناعة خطاياهم؟ أنهم لا يخجلون من ان يقولوا ذلك،
ولكن من الواضح انه كان جديراً ان تحجب النفس عن شهوات الجسد لا ان تلقى في الجسد
وفي أعماق اللذات الوضيعة، لأن الدواء للشفاء ليس الجسد بل البقاء بعيداً عن
الجسد. ولكن مجيئها كان في الواقع اضافة أمراض جديدة نابعة من الجسد ولذاته، وهو
ما لا يدعو للاعجاب بالطبيب الذي يصيب المريض بأمراض كثيرة بما قرره له كدواء.
واذا كان حبس النفس في الجسد معناه ان النفس سوف تكف عن شهواتها فكيف يكون ذلك
ممكناً بعد ان نزلت الى اعماق الشهوة فكيف تعود الى ما كانت عليه من البدء وهي
الآن قد انحدرت الى عمق الخطية.

          5-
لو كانت النفس قد أخطأت قبل ان توجد في الجسد ولذلك حبست في جسد من لحم ودم كعقاب
لها. فكيف لا يكون الواجب الأول للذين آمنوا بالمسيح ونالوا غفران الخطية ان
يخلعوا الجسد ويدركوه لأنه عقاب لهم؟ خبروني كيف تنال النفس غفراناً كاملاً وهي
تظل حاملة أداة عقابها؟ ولكن ما نراه هو ان الذين يؤمنون هم أبعد ما يكون عن
الرغبة في التحرر من الجسد. بل انهم بواسطة اعترافهم بالمسيح يعلنون عن قيامة
الجسد، هذا يسقط صفة أداة العقاب عن الجسد. لأنه يكرم بالاعتراف بالايمان. ويشهد الجسد
– بعودته للحياة – لقوة المخلص الالهية لأنه قادر على ان يفعل كل شيء بسهولة.

          6-
لو كانت النفس في وجودها السابق على الجسد قد اخطأت ولذلك حبست في الجسد، فلماذا
يأمر الناموس بمعاقبة الخطايا ولذلك حبست في الجسد، فلماذا يأمر الناموس بمعاقبة
الخطايا الثقيلة بالموت، هل هذا اكرام؟ ولماذا يسمح لمن لا يخطئ بالحياة؟ انني
افترض انه كان من الصواب ان الذين اخطأوا بالخطايا الثقيلة ان يعيشوا طويلاً ليكون
عقابهم اكبر. أما الذين لم يرتكبوا اية جريمة فكان ينبغي ان يحرروا من الجسد. ولكن
العكس هو الذي يحدث : فالقاتل يعاقب بالموت اما البار فلا يعاني شيئاً في جسده.
لذلك فان حالة الوجود في الجسد ليست عقاباً.

          7-
لو كانت النفوس قد تجسدت بسبب خطايا سابقة، واخترع الجسد بطبيعة تؤهله ليكون
عقاباً للذين اخطأوا. فكيف أفادنا المخلص بابطال الموت؟ الا تكون هذه رحمة فاشلة،
لأنه سحق ما كان عقوبة ووضع نهاية للغضب الذي كان ضدنا؟ ولذلك يمكن ان نقول انه
كان من اللائق ان نقدم الشكر للفساد وليس لمن اقامنا من الموت وبذلك جعل العذاب
بلا نهاية بالقيامة من الموت. ولكن مع هذا نحن نقدم الشكر لمن اطلق سراحنا من
الموت والفساد في المسيح اذن فالوجود في الجسد ليس عقاباً لنفس الانسان.

          8-
برهان آخر يعتمد على نفس الفكرة : لو كانت نفوس البشر حبست في أجساد ارضية
لكي تفي أجر خطايا قديمة، فما هو الشكر الذي نقدمه لله الذي وعدنا بالقيامة؟ لأن
القيامة تصبح تجديداً للعقوبة وبناء لما يضرنا، لأن العقوبة الدائمة هي مرارة لكل
نفس. هذا يجعل من المستحيل ان تقام الاجساد لكي تؤدي وظيفة عقوبة للنفس البائسة.

          ولكن
الاجساد تأخذ طبيعة القيامة من المسيح كعطية للتجديد والفرح بالقيامة. فالوجود في
الجسد اذن ليس عقوبة.

          9-
الكلمة النبوية تبدو كما لو كانت تبشرنا بعيد عظيم طال انتظاره وهي تقول "ان
الأموات سيقومون والذين في القبور سيحيون" (اش 26 : 9 سبعينية)، ولكن لو كان
الوجود في الجسد هو عقاب لنفوس البشر البائسة التي أخطأت، فكيف لا يحزن النبي وهو
يبشر بهذه الأمور من الله؟ كيف تكون هذه البشارة مفرحة وهي تخبرنا بأن الحمل
الثقيل الذي نروم ان نتخلص منه سيطول زمنه؟ كان من الأجدر بالنبي ان يقول لمن
اخذوا الجسد كعقوبة، ان الموتى لن يقوموا وان طبيعة الجسد سوف تزول. ولكن بالعكس
فهو يفرحهم ويخبرهم انه ستكون قيامة للأجساد بارادة الله. فكيف يكون الجسد الذي
نفرح بقيامته، والذي يسر الله به، عقوبة؟

          10-
عندما بارك الله ابراهيم المبارك، وعدة بأن يكون نسله لا يحصى من الكثرة مثل
النجوم، فلو كان صحيحاً ان النفوس اخطأت قبل ان توجد في الجسد ولذلك هبطت الى
الأرض وحبست في الجسد لكي تعاقب، فان الله في هذه الحالة يكون قد وعد ابراهيم
بكثرة من المعاقبين سقطوا من الصلاح وليس بنسل يشترك في البركة، ولكن الله وعد
ابراهيم بكثرة النسل وكانت هذه بركة. اذن بداية الاجساد هي حرة من كل اتهام.

          11-
لقد انتشر الاسرائيليون وتكاثروا وصار عددهم لا يحصى وحقاً يتعجب موسى رئيس
الانبياء وهو يلاحظ كثرتهم ويصلي ويقول لهم : "ها انتم اليوم مثل نجوم السماء
في الكثرة. والرب اله آبائكم، سوف يزيد عليكم مثلكم الف مرة" (تث 1 : 10-11).
ولكن لو كانت عقوبة لنفوس البشر ان توجد في العالم في اجساد. وهم يحتاجون الى
الجسد طالما انهم في العالم ولا يمكنهم ان يعيشوا بدون اجساد، فان صلاة موسى ستصبح
في هذه الحالة حقاً لعنة وليست بركة. وهذا طبعاً لم يحدث، لأنها فعلاً كانت بركة،
اذن الوجود في الجسد ليس من طبيعة العقاب للنفس.

          12-
ان الذين يسألون الشر من الله لا يستجيب الله لهم. والشاهد على صحة ما نقول هو
تلميذ المخلص الذي يقول "تطلبون ولستم تأخذون لأنكم تطلبون ردياً" (يع 4
: 3). فلو كان الوجود في الجسد عقاب فكيف لا يقول أي انسان ان حنة زوجة القانا
طلبت ردياً وما لا يليق، وهي التي كانت تسكب صلاتها لله وتطلب منه ولداً (1صم 1 :
11)، ألم تكن تطلب سقوط نفس لكي تحبس في جسد، وكيف استجاب الله لطلب شرير مثل هذا
واعطاها صموئيل ابناً لها، طالما انه كان من اللازم ان تخطئ نفس لكي تحبس في جسد
ويولد صموئيل، وهذا يعني استجابة صلوات حنة. ولكن الله اعطى، وهو بطبيعته لا يعطي
الا ما هو صالح. واستجابة صلاة حنة تؤكد ان الجسد ليس عقاباً، لأن الله لا يعطي
الا ما هو صالح. لذلك فالوجود في الجسد ليس نتيجة خطية ولا بطبيعة عقاب كما يقول
البعض.

          13-
لو كان الجسد قد اعطي عقاباً للنفس البشرية، فما الذي دفع الملك حزقيا، ملك
اورشليم وهو رجل صالح وحكيم لأن ينوح بدموع مرة على موت جسده، ولماذا يتردد في
التخلص من أداة العقاب، لا بل يتوسل بأن يكرمه الله بزيادة عمره، مع انه كان يجب
عليه ان لا يكره الموت ما دام رجلاً صالحاً، لأنه كان سوف يتخفف من حمل الجسد
الثقيل. وكان بالحري سيفرح بموته. ولكن بماذا وعده الله كهبة خاصة به : "ها
انا اضيف الى ايامك خمس عشرة سنة" (اش 38 : 5). فهل كان ذلك الوعد عقوبة
اضافية ام نوعاً من الرأفة ولكن الوعد من فوق كان عطية واضافة العمر كان رأفة. ولد
فالوجود في الجسد ليس عقوبة للنفس.

          14-
لو كان الجسد قد اعطى لنفس الانسان كعقوبة، فما هو المعروف الذي صنعه الله مع
الخصي الذي انقذ ارميا من الجب. لأنه قال، سوف افتدي حياتك واخلصك من يد الكلدانيين
(أر 39 : 17-18). وكان الأولى به ان يقول له سوف اتركك تموت، وهذا كرم من الله
لأنه سوف يخلصه من السجن والعقوبة وماذا اعطى الله للفتية الثلاثة من بني اسرائيل
عندما خلصهم من النار ومن قساوة البابليين؟ ولماذا انقذ دانيال من جب الأسود؟ ألا
يفعل الله كل هذا برأفة لكي يتمجد اسمه بين البشر.

          ولذلك
فإن سكنى الجسد ليس نوعاً من العقاب. لئلا يكون لا فرق بين الكرامة والعقاب عند
الله.

          15-
يخبرنا بولس بأنه سيكون يوم للفحص أمام كرسي الدينونة الالهي لحياة كل انسان
"لأنه لابد اننا جميعاً سوف نظهر أمام كرسي لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب
ما صنع خيراً كان أم شراً" (2كو 5 : 10). ولكن ان كان فقط لأجل الاشياء التي
صنعت بالجسد ينال الانسان أما عقاباً على يد الديان او يحسب أهلاً لمكافأة مناسبة،
فانه لا توجد اشارة الى خطايا سابقة قبل الوجود في الجسد، ولا سؤال عما حدث قبل مولده.
فكيف يكون للنفس وجود سابق على وجودها في الجسد؟ وكيف اذلت بسبب الخطية كما يقول
البعض. لأن الدينونة تكون على ما فعله الانسان في حياته على الأرض.

          16-
لو كانت النفوس قد لبست اجساداً بسبب خطايا سابقة، فكيف يكتب بولس قائلاً لنا :
قدموا اجسادكم ذبيحة حية مقدسة، مقبولة عند الله" (رو 12 : 1). وكيف يكون هذا
مقبولاً عند الله وهو أداة العقاب؟ وكيف يكون من الممكن ان يقتني انسان فضيلة وهو
مقيم في أداة العقاب واصل الخطية؟

          17-
يقول بولس موضحاً ان الفساد قد انتشر وامتد الى كل جنس آدم بسبب عصيان آدم
"وملك الموت من آدم الى موسى، حتى على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي
آدم" (رو 5 : 14). فكيف يقول ان الموت ملك حتى على الذين لم يخطئوا اذا كان
الجسد الميت قد اعطى لنا بسبب خطايا سابقة؟ واين هؤلاء الذين لم يخطئوا ان كان
الوجود في الجسد هو عقاب على خطايا سابقة وكأن وجودنا في الجسد في هذه الحياة هو
اتهام مسبق قائم ضدنا؟ ان قول المخالفين ينم على عدم دراية بالاسفار المقدسة.

          18-
سأل التلاميذ مرة المخلص عن المولود أعمى وقالوا "يا معلم من أخطأ هذا أم
أبواه حتى ولد أعمى؟" (يو 9 : 2)، لأنه مكتوب في الأسفار النبوية ان الله
يفتقد ذنوب الآباء في الابناء (خر 20 : 5). وهو ما دعا التلاميذ الى ان يتصوروا ان
هذا الكلام ينطبق على المولود أعمى. فماذا كانت اجابة المسيح؟ "لا هذا أخطأ
ولا أبواه، بل لكي تظهر اعمال الله فيه" (يو 9 : 3). فكيف أعفى المولود أعمى
وأبواه من الخطية، وهم في الواقع لا يمكن اعفاؤهم من اللوم الذي ينسب لكل حياة
بشرية، لأنهم كبشر كانت لهم اخطاؤهم. ولكن من الواضح والظاهر ان كلمات المخلص تعني
الفترة التي قبل الميلاد، أي انه لم يكن موجوداً ولذلك لم يخطئ، وهذا وحده ما يجعل
المسيح على حق.

          19-
يشرح اشعياء المبارك سبب خلق الأرض ويقول "لم يخلقها باطلاً. للسكن
صورها" (اش 45 : 18). ولما كان من الصالح ان تكون الأرض للسكن ودون ان تمتلئ
بأرواح بلا اجساد وانما بنفوس لها اجساد. فهل كانت المشورة الالهية ان تخطئ النفوس
لكي تخلق الاجساد اللحمية التي لا تصلح الا للأرض؟ الا يؤدي كلام المخالفين الىانها
خلقت عبثاً كسجن للنفوس؟ ولكن هذا غير معقول.. والفكرة الصائبة هي التعليم الصحيح.

          20-
الحكمة صانع كل الاشياء يقول عن نفسه في سفر الامثال "كنت انه فرحة"، أي
خالق كل الاشياء، "وكل يوم كنت افرح أمامه عندما فرح بكمال خلقة العالم ووجد
لذته في بني البشر" (أم 8 : 30-21 سبعينية) وحينما يفرح الله بانتهاء خلقة
العالم ويفرح بشكل خاص بخلق الانسان؟ فكيف لا يكون بلا أي ادراك من يحاول ان يخضع
النفوس لخطايا سابقة جعلتها تسجن في الجسد؟ ألا يكون خالقاً لجسن وليس للعالم؟ ألا
يكون سرور مضاد للعقل في انه يفرح بمجيء الذين أخطأوا لكي يعذبوا في الجسد؟ وكيف
يكون صالحاً في هذه الحالة. ولكن بكل يقين هو صالح وخالق الصالحات، ولذلك فإن
الوجود في الجسد ليس بطبيعته عقاب.

          21-
لو كانت نفس الانسان قد ربطت بالجسد لكي تدفع ثمن خطاياها السابقة على ميلادها في
العالم، والجسد هو بمثابة عقاب، فلماذا جاء الطوفان على عالم الفجار (2بط 2 : 5).
ونوح البار هو الذي خلص ونار مكافأته على ايمانه بالله؟ ألم يكن الأفضل ان الذين
في الشر يبقون في الأرض ليعيشوا فترة أطول في الجسد لكي يعاقبوا أكثر وبشدة، اما
الاتقياء الصالحون، فيحلون من رباطات الجسد مكافأة لهم على مخافتهم لله؟ ولكن خالق
الكل، هو بار ويعطي كل واحد حسب عمله. ولأنه بار يعاقب الخطاة بموت الجسد، ويفرح
قلوب الصديقين بالحياة في الجسد. لذلك فالاجساد ليست عقوبة لنفوس البشر، لئلا يصبح
الله غير عادل، عندما يعاقب غير الصالحين بما هو خير ويكرم الأبرار بما هو عقاب.

          22-
اذا كانت النفس قد نزلت الى الجسد عقاباً لها على خطايا سابقة اقترفتها، فكيف احب
المخلص لعازر (يو 11 : 36) واقامه من الموت وبذلك أرغمه على العودة الى العقاب
الذي تحرر منه بالموت؟ ولكن المسيح أقامه لكي يساعده كصديق، وأكرمه بأن اقامه ورده
الى الحياة. هكذا لا يوجد هدف صالح في تعليم المخالفين.

          23-
اذا كان – بحسب غباء اولئك – ان الجسد للنفس كعقاب، وبسبب خطايا سابقة لخلق الجسد،
فتكون الخطية هي التي اعطت طبيعة الاجساد. ولكن من الواضح ان الموت دخل بواسطة
الخطية (رو 5 : 12). وهذا يجعل الخطية تتسلح ضد نفسها وتحارب نفسها لأنها تهدم ما
جاءت به في البدء أي الجسد بما جاءت به بعد ذلك أي الموت. وبهذا يصبح الشيطان
منقسماً على نفسه "فكيف تدوم مملكته" (لو 11 : 18). كما قال المخلص.
وبكل يقين ان هذا الفكر ساذج وغير معقول. والتعليم الصحيح هو الحق.

          24-
لقد خلق الله كل شيء في عدم فساد وهو لم يخلق الموت بل "دخل الموت بجسد
ابليس" (حكمة 1 : 13، 2 : 24). ولو صح ان الجسد اعطي لكي يكون عقاباً للنفس
فلماذا، خبروني يا سادتي، نتهم الشيطان بالحسد، لأنه حسب تعليم المخالفين يكون
الشيطان خير عون لأنه ينهي شقاوة وعذاب الجسد بالموت؟ ولماذا اذن نقدم الشكر
للمخلص لأنه بالقيامة ربطنا بالجسد؟ لأن حسد الشيطان هو الذين تسبب في فساد
اجسادنا. اذن لم يكن عقاباً بالمرة ان يكون لنا جسد، كما انه ليس اجرة خطايا
سابقة.

يو
1 : 10 "وكون العالم به" :

          لا
تحتاج الى ان نقول ان الانجيلي قد أعلن بهذه الكلمات ان العالم خلق بواسطة النور
الحقيقي أي الابن الوحيد. ومع انه دعاه بكل وضوح الكلمة في البدء وأكد ان كل شيء
به كان وانه بغيره لم يكن شيء مما كان وشرح كيف انه هو الخالق والصانع الا انه وجد
ان من الضروري بشكل خاص ان يعود الى نفس النقطة من جديد لكي لا يبقي مجال للخطأ او
الانحراف للذين يريدون افساد العقائد الالهية النقية. وعندما قال الانجيلي عن
النور انه كان في العالم فهو بهذا لا يعطي فرصة لمن يريد محاربة الحق باعتقادات لا
معنى لها مدعياً بأن النور له طبيعة مثل طبيعة المخلوقات (أي الشمس والقمر
والكواكب وهي اجزاء من جسم الكون)، لذلك فان الانجيلي يؤكد الاعتقاد السليم بأن
الابن الوحيد هو خالق وصانع العالم كله لكي يثبتنا ويقودنا الى ادراك الحق ادراكاً
صحيحاً بدون أي خطأ. ومن هو الغبي او من هو الذي سكنت الحماقة في فكره فلا يعتقد
بان الابن هو غير العالم المخلوق والمرئي، او يضع المخلوق مكان الخالق. فالاشياء
المخلوقة يجب ان تكون مختلفة تماماً عن الخالق. فالصانع والمصنوع ليسا واحداً.

          واذا
اعتقدت انهما واحد ولا يوجد اختلاف في الكيان فإن المخلوق سوف يرتفع الى طبيعة
الخالق، والصانع سوف ينزل الى مستوى المخلوقات ولا يبقى لدينا القوة الواحدة التي
أتت بالكل من العدم الى الوجود بل سوف تصبح هذه القوة الخالقة كامنة كامكانية في
المخلوقات اذا لم يكن بين المخلوقات والخالق فواصل، او بالادعاء بأن جوهر
المخلوقات هو جوهر الخالق ذاته كل هذا يؤدي بنا في النهاية الى اعتبار ان المخلوق
هو خالق ذاته، وبذلك يمنح الانجيلي الابن الوحيد لقباً شرفياً بقوله "كان في
العالم وكون العالم به" (يوحنا 1 : 10). ولكنه يعرف ان خالق كل الاشياء هو
واحد بطبيعته. وان المصنوع ليس مثل الصانع لأن الله والخليقة عند أصحاب الاعتقاد
الصحيح مختلفان تماماً، فالخليقة خاضعة مثل خضوع العبد عارفة بحدود طبيعتها، اما
الابن فهو يسود عليها وهو وحده مع الآب له القدرة على ان "يدعو الاشياء غير
الموجودة كأنها موجودة" (رو 4 : 17). وايضاً بقوته غير المدركة يستطيع ان
يعطي الوجود من العدم لما هو غير موجود.

          ولقد
كتبنا الكثير عن ان الابن بالطبيعة هو الله وانه مختلف عن الخليقة عندما شرحنا
الثالوث القدوس ولذلك لن نزيد هنا ويكفي من اجل الفائدة ان نضيف ان قول الانجيلي
"وكون به العالم" يقودنا الى التفكير في الآن لأن عبارة "به"
تقود ايضاً الى "منه". لأن كل الاشياء هي من الآب بالابن في الروح
القدس.

"والعالم
لم يعرفه" :

          يراقب
الانجيلي سفسطات البعض ولأنه لبس الروح فطريقة تقديمه للحق عجيبة. لقد دعا الابن
"النور الحقيقي" وأكد انه "ينير كل انسان آت الى العالم"
وأضاف "كان في العالم وكون العالم به" وبذلك فلم يترك مجالاً لأي خطأ.

          ولكن
واحداً من المقاومين ربما يقول "يا سادة لو كان الكلمة هو النور الحقيقي الذي
يضيء قلب كل انسان بالمعرفة الالهية وبالمعرفة النافعة للانسان ايضاً وكان هذا
النور دائماً في العالم وكان هو نفسه صانعه. فكيف صار غير معروف على مدى اجيال
طويلة؟ اذن فهو لم يكن ينير ولا كان هو النور بالمرة".

          واللاهوتي
يوحنا يقابل هذه الفكرة بالذات بما يصححها بقوله "والعالم لم يعرفه" ليس
لأنه غير معروف وانما لأن العالم ضعيف. فالابن ينير والخليقة تبعثر النعمة. لقد
اعطى الكلمة للخليقة النظر لكي تدركه كاله بالطبيعة ولكن الخليقة بددت العطية
وجعلت الكائنات حاجز يمنعها عن تأمر الله ولم تتأمل الا ذاتها، ودفنت عطية
الاستنارة تحت الاهمال، "فأهملت الموهبة" التي حذر بولس تلميذه من ان
يهملها بل ان يكون صاحياً" (1 تيموثاوس 4 : 14، 2 تيموثاوس 4 : 5). فليس
النور هو المسئول عن مرض غير المستنيرين لأنه كما يشرق نور الشمس على الكل ولا
يستفيد منه الأعمى دون ان نلوم الشمس وانما نلوم المرض الذي أصاب العينين هكذا
أنار الكلمة ولكن الخليقة المريضة لم تتقبل النور. هكذا النور الحقيقي الابن
الوحيد الذي ينير الكل. لكن "اله هذا الدهر" كما يقول بولس "اعمى
اذهان غير المؤمنين لئلا يضيء لهم نور معرفة الله ويشرق عليهم" (2كورنثوس 4 :
4). وعندما نقول ان الانسان اصيب بالعمى الا انه لم يصل الى العمى الكامل او
الحرمان الكامل من النور (لأن الفهم الذي وهبه الله للانسان لم يطفئ من طبيعته)
ولكن الانسان يطفئ النور وبالحياة الفاسدة التي عاشها وذلك عندما تحول الى الجانب
المضاد لله فأضاع النعمة وفقدها. ولذلك عندما يقدم لنا المرنم الحكيم مثال الذين
فقدوا النعمة فانه يترجى الاستنارة من الله "افتح عيني لكي ارى عجائب من
شريعتك" (مزمور 119 : 18). لأنه اعطاهم الناموس معيناً (أنظر اشعياء 8 : 20
السبعينية) وهذا اشعل النور الالهي فينا من جديد، ونظف عيني القلب من الظلمة التي
جاءت من الجهل القديم الذي ولد بسبب الابتعاد عن الله.

          العالم
في الحقيقة محكوم عليه بتهمة عدم الشكر وعدم ادراك خالقه، وايضاً لأنه لا يقدم
الثمار الصالحة النابعة من الاستنارة وهذه الحقيقة يعبر عنها النبي عندما رتل هذه
الفقرة عن بني اسرائيل : "ونظرت لكي يثمر عنباً ولكنه اثمر عنباً ردياً
وشوكاً" (اشعياء 5 : 4 السبعينية). وثمار الاستنارة هي بكل حق الايمان الصحيح
بالابن الوحيد. وهو يشبه عنقود العنب في الكرمة اي فهم الانسان. وليس العكس اي رفض
الايمان بالابن الوحيد. أما قبول المشورة الفاسدة للهراطقة التي تؤدي الى كفر تعدد
الآلهة فهو يصبح مثل الاشواك الحادة تنمو في داخلنا وتجرح عقولنا حتى الموت بخداع
تعدد الآلهة.

يو
1 : 11 – "جاء الى خاصته وخاصته لم تقبله" :

          يتابع
الانجيلي كلامه مؤكداً رجاء كرازته بأن العالم لم يعرف الذي ينيره اي الابن الوحيد
وان أسوأ الخطايا كانت خطية بني اسرائيل ولكن الانجيلي يسرع لتأكيد جهل الأمم
ايضاً وهو المرض الذي أدى الى عدم الايمان والذي انتشر في العالم كله ولكنه في
الاتجاه الآخر يسرع للكلام عن التجسد، ومن الكلام عن اللاهوت الخالص ينزل تدريجياً
لشرح التدبير الخاص بالتجسد والذي اتمه الابن لأجلنا.

          لم
يكن غريباً ان العالم لم يعرف الابن الوحيد لأنه ترك المعرفة الانسانية وصار
جاهلاً بحقيقة خلقه حتى انه اكرم "الحيوانات التي تفنى كآلهة" كما يقول
المرنم (49 : 20)، وحتى الذين ينتمون اليه اي شعب العهد القديم رفضوه عندما رأوه
في الجسد، ولم يقبلوه عندما جاء لخلاص الكل واعطى الملكوت مكافأة للايمان. ولكن
علينا ان نلاحظ دقة الانجيلي في التعبير عن هذه الحقائق، فهو يتهم العالم بأنه لم
يعرف مطلقاً الذي ينيره وفي نفس الوقت يقدم المغفرة عن هذا الخطأ بالذات ويمهد
للأسباب التي تؤدي الى النعمة التي ستعطي. أما عن بني اسرائيل الذين كانت لهم
علاقة خاصة به (الابن) فهو يقول بشكل قاطع "لم يقبلوه" وحقاً لا يكون
هذا الكلام صحيحاً اذا لم يكن الناموس القديم قد كرز به والانبياء الذين جاءوا بعد
الناموس قادهم لادراك الحق ولذلك فقرار القطع (رومية 11 : 22)، اي القطع من
الزيتونة كان قراراً عادلاً مثل القرار الخاص بالخيرات التي اعطيت للأمم لأن عالم
الأمم فقد مكانه في بيت الله لسقوطهم في شرور الوثنية مما جعلهم يفقدون معرفتهم
بالذي ينيرهم اما الذين كانت لهم معرفة غنية به بسبب الناموس ودعاهم الناموس الى
حياة ترضي الله لكي يكونوا في بيته بكل حرية سقطوا ولم يقبلوا الكلمة الذي كان
معروفاً لهم والذي جاء اليهم كخاصته. ان العالم كله خاص بالله لأنه خليقة الله
ولأن الله جاء به من العدم الى الوجود بواسطة الكلمة، الا ان اسرائيل دعي بشكل خاص
خاصته فلهم المجد بسبب اختيار الآباء القديسين بل دعي منذ البدء "بكر"
ابناء الله. فالله يقول لموسى : اسرائيل ابني البكر (خروج 4 : 22) الذي خصصه
واختاره لنفسه واعلنه كشعبه قائلاً لفرعون ملك مصر اترك شعبي ليخرج (خروج 8 : 1).
وبراهين كثيرة من اسفار موسى، تؤكد ان اسرائيل خاص بالله، لا سيما ما هو مكتوب
"عندما قسم العلي الأمم، وافرز ابناء آدم، جعل الشعوب تحت قيادة ملائكة الله،
اما يعقوب شعبه، فصار نصيب الرب، اسرائيل ميراثه" (تثنية 32 : 8-9س).

          ولذلك
سار الرب في وسطهم كمن يسير في ميراثه قائلاً "انني لم ارسل الا لخراف بيت
اسرائيل الضالة" (متى 15 : 24).

          وعندما
لم يقبلوه، نقل النعمة للأمم، والعالم الذي لم يعرفه منذ البدء عندما أناره، يقدم
له الاستنارة من جديد بالتوبة والايمان، اما اسرائيل فيعود الى الظلام الذي تركه
عندما قبل المعرفة من الناموس. لذلك يقول المخلص "لدينونة أتيت الى هذا
العالم، لكي يبصر الذين لا يبصرون ويعمي الذين يبصرون" (يو 9 : 39).

يو
1 : 12 – "أما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطاناً ان يصيروا اولاد الله، اي
المؤمنون باسمه" :

          هذه
هي دينونة الله العادلة، اسرائيل البكر، طرح خارجاً، لأنه لم يمكث في بيت الله، الى
خاصته، ولم يقبل الابن الذي جاء وسط خاصته بل رفض مانح الكرامة، وواهب النعمة. أما
الامم فقد قبوله بالايمان.

          ولذلك
سوف يأخذ اسرائيل أجرة غباوته، وسينوح على فقدان الخيرات الالهية، ويتذوق مرارة
المشورة الفاسدة، والحرمان من البنوة. أما الأمم فسيفرحون بالخيرات الالهية، التي
جاءت من اليهم بالايمان، وسيجدون المكافأة العظيمة لطاعة الايمان، ولسوف يطعمون في
الزيتونة الجيدة بدلاً من اسرائيل (رومية 11 : 24). لأنهم كما يقول الرسول
"سوف يقطعون من الزيتونة البرية حسب الطبيعة، ويطعمون بخلاف الطبيعة في
زيتونة جيدة، (رو 11 : 24)، وسوف يسمعون هذا الحكم من اشعياء "ويل للأمة
الخاطئة، الشعب المثقل بالاثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين تركوا الرب، أغاظوا
قدوس اسرائيل" (اش 1 : 4). ولكن واحداً من تلاميذ المسيح يقول عن الأمم
"أما انتم فجنس مختار، كهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا
بفضائل الذي دعاكم من الظلمة الى نوره العجيب" (1 بطرس 2 : 9). اذ حيث انهم
قبلوا الابن نالوا السلطان ان يعدوا من اولاد الله. فالابن وحده هو الذي يعطي ما
يخص طبيعته، ليكون في سلطانهم جاعلاً ما يخصه مشتركاً وعاماً بينهم، ليكون هذا
صورة طبيعة محبته للانسان، وللعالم. وليس هناك وسيلة اخرى غير هذه تجعلنا نحن
الذين لبسنا "صورة الترابي" نهرب من الفساد، الا اذا ختمنا بجمال صورة
السمائي" (1 كورنثوس 15 : 49) بدعوتنا الى البنوة. لأننا عندما نشترك فيه
بالروح القدس، تختم لنكون مثله ونصعد الى الصورة الأولى التي اخبرتنا الكتب
المقدسة بأننا خلقنا عليها. (تكوين 1 : 27). وبذلك نكون قد استعدنا جمال طبيعتنا
الأولى وخلقنا من جديد لنكون على مثال الطبيعة الالهية، ونصير مرتفعين فوق الأمراض
التي اصابتنا بسبب السقوط. اذن نحن نرتفع الى كرامة اسمى من طبيعتنا بسبب المسيح
لأننا سنكون ايضاً "ابناء الله" ليس مثله تماماً، بل بالنعمة وبالتشبه
به. فهو الابن الحقيقي، الكائن مع الآب منذ الأزل، اما نحن فبالتبني بسبب تعطفه،
ومن خلال النعمة التي اخذناها "أنا قلت انكم الهة، وكلكم ابناء العلي"
(مز 82 : 6) فالطبيعة المخلوقة الخاضعة للخالق، دعيت الى ما هو فوق الطبيعة بارادة
الآب فقط، اما الابن، والابه والرب، فهو ليس الابن والاله بارادة الآب واختياره،
وانما بالولادة من جوهر الآب ذاته يصبح بالطبيعة له كل صفات الله وصلاحه. وايضاً
يمكننا ان نرى بكل وضوح انه الابن الحقيقي بالمقارنة مع انفسنا فهو بالطبيعة له
كيان خاص، غير كياننا الذي بالتبني وبالتشبه. اذن هو الابن بالحق وبالطبيعة، ونحن
صرنا به ابناء ايضاً، وننال الخيرات بالنعمة دون ان تكون هذه الخيرات هي من
طبيعتنا.

يو
1 : 13 – "الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من
الله" :

          يقول
الانجيلي ان الذين دعوا للايمان بالمسيح للتبني، يخلعون صغر طبيعهم، واذ يتزنون
بنعمة ذاك الذي اكرمهم بلباس فائق فانهم يرتفعون الى كرامة تفوق الطبيعة، فهم لم
يعودوا بعد ابناء اللحم، بل بالحري اولاد الله بالتبني.

          لكن
علينا ان نلاحظ كيف يستعمل الانجيلي احتراساً كبيراً في كلماته، وكيف يعبر عن الحق
بدقة، لأنه أراد ان يقول ان الذين يؤمنون قد ولدوا من الله، حتى لا يظن احد انهم
بالحق ولدوا من جوهر الله الآب، ويصبحون مثل الابن الوحيد تماماً او يصيرون مثل من
قيل عنه حسب ضعف اللغة البشرية. "من البطن ولدتك" (مزمور 110 : 3
سبعينية)، وبذلك ينزل الابن الى مستوى طبيعة المخلوقات رغم انه قيل انه مولود من
الله، وبسبب كل هذا اضاف الانجيلي هذه الكلمات. لقد قال انهم اخذوا السلطان من
الابن لكي يكونوا "اولاد الله" فنالوا ما لم يكن لهم من قبل، بواسطة
نعمة التبني، وبدون أي خوف يضيف "ولدوا من الله"، لكي يوضح عظم النعمة
التي اعطيت لهم والتي جمعت كما لو كان في طبيعة متجانسة ذلك الذي كان غريباً عن
الله الآب وترفع العبد الى كرامة سيده بواسطة محبة السيد للعبد.

          وماذا
أكثر من ذلك؟ ما الذي ناله الذين يؤمنون بالمسيح أكثر مما ناله اسرائيل الذي دعي
ايضاً "ابناً لله" كما في اشعياء "ولدت بنيناً ورفعتهم، أما هم
فرفضوني" (اش 1 : 2 السبعينية) اول ما يجب ان نقوله، انهم اخذوا الناموس،
ولكن "الناموس له ظل الخيرات العتيدة"، "لا نفس صورة الاشياء"
(عب 10 : 1) ولذلك لم ينالوا البنة بالحق، بل أخذوها بشكل رمزي، الى ان جاء
"وقت الاصلاح" (عبرانيين 9 : 10) الذي فيه يظهر اولئك الذين يدعون الله
حقاً أباً، لأن روح الابن الوحيد يسكن فيهم. وهؤلاء في العهد القديم نالوا
"روح العبودية للخوف" أما نحن فنلنا "روح التبني" للحرية
"الذي به نصرخ ابا ايها الآب" (رومية 8 : 15) ولذلك فالشعب الذي دعي
للتبني، بالايمان بالمسيح، قد سبق فصار اسرائيل رمزاً له في ظلال الناموس، تماماً
مثلما نعتقد ان الختان بالروح، سبق ورمز له ختانهم في القديم في اللحم، وباختصار
كل ما هو لنا كان عندهم بشكل رمزي. بالاضافة الى ما ذكرناه يمكن ان نقول ان اسرائيل
دعي الى التبني رمزياً بواسطة وساطة موسى، لأنهم اعتمدوا له في السحابة وفي
البحر" (1كورنثوس 10 : 2) لأنهم بواسطة موسى اعيد توجيههم من الوثنية الى
ناموس العبويدة، لأن الوصايا التي اعتمدت على الحرف، اعطيت بواسطة ملائكة (غلا 3 :
29) اما الذين بالايمان بالمسيح يصلون الى البنوة التي من الله، فانهم يعتمدون ليس
لما هو مخلوق، وانما يعتمدون للثالوث القدوس نفسه، وبواسطة الكلمة كوسيط، الذي
اتحد بما هو انساني أي بالجسد، وفي نفس الوقت هو متحد مع الآب، لأنه اله، وهذا
يجعلنا نرتفع من رتبة العبودية الى البنوة، وبالاشتراك الحقيقي في الابن، دعينا
الى ان نرتفع الى كرامة الابن. لذلك فنحن الذين اخذنا الولادة الجديدة بالروح
القدس بالايمان قد دعينا بل ولدنا من الله.

          لكن
حيث ان البعض لهم جسارة كاذبة، ويتهورون بالكلام ضد الابن وضد الروح القدس ايضاً،
مدعين انه مخلوق، وانه ليس من جوهر الله الآب ذاته. دعونا نحشد كلمة الحق ضد ما
يصدر من السنتهم الهوجاء، وتصبح هذه مناسبة هامة لفائدتنا نحن والقارئين ايضاً.

          لأنه
ان كان روحه الخاص ليس بالطبيعة هو الله، وليس من الله، وبذلك يكون غير موجود فيه
جوهرياً، بل هو مختلف عنه، وهو غير بعيد عن مشاركة المخلوقات في الطبيعة، فكيف
يقال عنا نحن الذين نولد بواسطته، اننا مولودون من الله.

          واما
ان يكون الانجيلي كاذباً (وهو ليس كذلك)، واما ان يكون صادقاً وبذلك يصبح الروح
القدس هو الله، ومن الله بالطبيعة ونصبح نحن مستحقين بالايمان بالمسيح للاشتراك في
الطبيعة الالهية (2 بطرس 1 : 4) ومولودين من الله، ومدعوين آلهة، وليس بالنعمة
وحدها نطير الى المجد الذي فوق طبيعتنا. بل الآن لنا سكنى الله واقامته فينا،
حسبما قيل بالنبي : "سأسكن فيهم واسير معهم" (لاويين 26 : 12 – 2كورنثوس
6 : 16) وعلى المقاومين لنا الذين امتلأوا من عدم المعرفة ان يخبرونا كيف يسكن
الروح القدس فينا وهو ما جعل الرسول بولس يدعونا هيكل الله ان لم يكن هو الله
بالطبيعة. واذا كان الروح القدس مخلوقاً، فكيف قيل ان الله يهلك من ينجس هيكل الله
(1كورنثوس 3 : 17)، أي عندما يتدنس الجسد الذي يسكن فيه الروح القدس، والذي بسبب
سكناه ننال كل ما يخص الله الآب بالطبيعة وما يخص بالمثل ابنه الوحيد.

          وكيف
يصبح المخلص صادقاً في قوله "ان احبني أحد، يحفظ كلامي وابي يحبه واليه نأتي
وعنده نصنع منزلاً" (يو 14 : 23) ونستريح فيه. أليس الروح القدس هو الذي يسكن
فينا. ونحن نؤمن انه به يكون لنا الآب والابن، كما قال يوحنا ايضاً في رسائله.
بذلك نعرف اننا نسكن فيه وهو فينا، لأنه اعطانا من روحه (1يوحنا 4 : 13). وكيف
يدعى الروح القدس روح الله، اذا لم يكن منه وفيه بالطبيعة؟ ولذلك فهو الله. ولو
كان كما يدعون مخلوقاً وهو روح الله، ليس ما يمنع الخلائق الأخرىمن ان تدعى ارواح
الله، فهذا يصبح ممكناً بالنسبة لهم نظراً للمساواة التي بينهم وبين الروح القدس.

          وكان
يجب ان نناقش هذه النقاط بالذات بشكل مسهب لكي نوضح كيف تنقلب براهين الهراطقة
ضدهم. لكن لأنني عالجت كل ما يخص الروح القدس في كتاب "الثالوث" فقد اكتفيت
هنا بما ذكرت.

يو
1 : 14 – "والكلمة صار جسداً" :

          الآن
يعلن الانجيلي التجسد بشكل علني، فهو يؤكد ان الابن الوحيد جاء، ودعي ابن الانسان.
ولهذا السبب بالذات وليس لأجل أي شيء أخبر يقول "الكلمة صار انساناً"
وتعبير الانجيلي "صار جسداً" ليس غريباً ولا بعيداً عن استعمال الاسفار
الالهية، لأنها غالباً ما تسمى الانسان كله "جسد" كما جاء في النبي
يوئيل "سأسكب من روحي على كل جسد" (يوئيل 2 : 28) ونحن لا نعترض ان
النبي يعني ان الروح القدس قد اعطى للجسد دون النفس، او للجسد وحده، فهذا غير
معقول بالمرة. ولكن لأننا ندرك الكل عن طريق الجزء يسمى الانسان جسداً، وهذا صحيح.
ولا يوجد ما يدعو الى افتراض ان تسميه الانسان جسد تعني عدم وجود النفس لكن لماذا
يسمى الانسان جسداً، هذا ما نحتاج شرحه.

          الانسان
مخلوق عاقل، ومركب، من النفس، ومن جسد ترابي قابل للفناء. وعندما خلق الله الانسان،
أتى به من العدم الى الوجود، دون ان يكون في طبيعة الانسان عدم فساد او عدم فناء
(لأن هاتين الصفتين من صفات الله وحده). ولكن الانسان ختم بروح الحياة، أي
الاشتراك في اللاهوت فنال الانسان بذلك الصلاح الذي يفوق الطبيعة الانسانية، ولذلك
قيل ان الله نفخ في انفه نسمة حياة، فصار الانسان نفساً حية (تكوين 2 : 7). وعندما
عوقب الانسان على معصيته قيل له بالحق "تراب انت والى التراب تعو"
(تكوين 3 : 19). فتعرى من النعمة أي نسمة الحياة أي روح ذاك الذي يقول "أنا
هو الحياة" ففارق الروح القدس الجسد الترابي وسقط الانسان فريسة للموت، أي
موت الجسد وحده. أما النفس فلم تفقد عدم الموت. لأنه عند وحده قيل "تراب انت
والى التراب تعود". ولذلك كانت الحاجة ماسة الى ان الذي فينا والذي صار في
خطر دائم وتحول الى الانحلال، ان يتجدد بقوة، وان يتم نسجه من جديد بنسيج الحياة
القادرة بطبيعتها على عدم الموت. وكانت الحاجة الى رفع عقوبة "تراب انت والى
التراب تعود" ان يتحد الجسد بشكل فائق بالكلمة الذي يحي الكل. وعندما يصبح
الجسد، جسد الكلمة، فانه يشترك في عدم الموت الخاص بالكلمة. ولأنه من غير المعقول
بالمرة، ان النار التي لها قدرة وحرارة ذاتية على ان تحول الخشب الى نار، تقف
قدرتها ولا يمتد تأثيرها الى الخشب، وهذا يعني اننا نتمسك بأن الكلمة الذي هو فوق
الكل قد أعطى الجسد من صلاحه أي الحياة، فلم يكتف بتجديد النفس فقط.

          لذلك
السبب بالذات اعتقد ان الانجيلي القديس، كان يقصد الجانب الذي تأثر اكثر من غيره
في الانسان، عندما قال "الكلمة صار جسداً، لكي نرى في وقت واحد، الجرح
والدواء، المريض والطبيب، ذاك الذي سقط تحت قبضة الموت والذي يقيمه للحياة، ذاك
الذي ساد عليه الفساد والذي طرد الفساد، ذاك الذي امسك به الموت والذي هو اسمى من
الموت، ذاك الذي له عدم الحياة وذاك الذي هو واهب الحياة.

          ولم
يقل الانجيلي ان الكلمة جاء الى الجسد مثلما فعل في القديم عندما جاء الى الانبياء
والقديسين، واشتركوا فيه وانما ما يعنيه الانجيلي، انه صار جسداً، أي صار انساناً
ولكنه هو الله بالطبيعة وهو في الجسد، وجعله جسده دون ان يفقد لاهوته. فهذا هو
اعتقادنا لأننا نعبده وهو في الجسد حسب ما هو مكتوب في اشعياء "الرجال ذوو
القامة سوف يأتون اليك ولك يكونون، سوف يأتون مقيدين بسلاسل وسوف يخرون أمامك
ويتوسلون اليك، لأن الله فيك، ولا اله آخر سواك" (اشعياء 45 : 14 السبعينية)
وها هو يقول ان الله فيه، لأنه لا يفصل الكلمة عن الجسد، وايضاً أنه لا يوجد اله
آخر سواه. أي الذي اتحد بالجسد، هيكله الذي اخذه من العذراء لأنه مسيح واحد من
الاثنين.

"وسكن
فينا؟" :

          يكرر
الانجيلي ما سبق وقاله، ويجعل الاعتقاد واضحاً جداً فبعد ان قال ان كلمة الله
تجسد، وحتى لا يتصور احد بجهل انه تخلى عن طبيعته، وتحول الى جسد، وتألم، وبذلك
صار قابلاً للتغير (مع ان اللاهوت بعيد تماماً عن التغيير والتبديل)، اضاف
الانجيلي الالهي على الفور "وسكن فينا"، لكي ندرك انه يتكلم عن شيئين
اولاً الساكن، ثم المسكن، لكي لا يفترض احد بعد ذلك انه تحول الى جسد، وانما سكن
في الجسد، واستخدم جسده، الهيكل الذي اخذه من العذراء القديسة، او كما يقول بولس
"لأن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً" (كولوسي 2 : 9).

          ومن
أجل منفعتنا يقول ان الكلمة سكن فينا، لكي يرفع الحجاب عن السر العميق، لأننا نحن
جميعاً في المسيح، والجماعة المشتركة في الطبيعة الانسانية ارتفعت الى شخصه، وهو
ما جعله يدعى "آدم الثاني" (كورنثوس 15 : 45) واهباً بغنى للطبيعة
الانسانية المشتركة، كل ما يخص الفرح والمجد. كما اعطى آدم الأول كل ما يخص الفساد
والغم. اذن الكلمة سكن فينا أي في الكل، أي بالواحد الذي "أعلن ابن الله
بالقوة حسب روح القداسة" (رومية 1 : 4) لكي ينال الكل هذه الكرامة، ويصبح هذا
ميراث الطبيعة الانسانية، وبسبب واحد منا يتم القول :

          "أنا
قلت انكم آلهة وبني العلي كلكم" (مزمور 82).

          وحقاً
في المسيح صار العبد حراً، وارتفع الى الاتحاد السري بذاك الذي أخذ "صورة
العبد" (فيلبي 2 : 7)، وصار فينا حسب شبه الواحد (المسيح) بسبب قرابته لنا
بالجسد.

          ولماذا
يقول الرسول "لم يأخذ طبيعة الملائكة، بل طبيعة نسل ابراهيم، من ثم كان ينبغي
ان يشبه اخوته في كل شيء" (عب 2 : 16، 17)، وبالحق صار انساناً؟ أليس واضحاً
للجميع انه نزل الى مستوى العبودية، دون ان يفقد ما يخصه كاله. بل مانحاً ذاته لنا
لكي بفقره نصير اغنياء (2 كورنثوس 8 : 9) ونرتفع الى فوق الى شبهه، أي شبه صلاحه،
ونصير آلهة، وابناء الله بالايمان؟ وتم ذلك لأن الذي هو بالطبيعة الابن وهو الله
سكن فينا، ولذلك نصرخ بروحه "أبا أيها الآب" (رو 8 : 15). وسكن الكلمة
في هيكل واحد أخذه منا ولأجلنا، وصار مثل الكل، لأنه عندما احتوى الكل فيه، استطاع
ان "يصالح الكل في جسد واحد" مع الآب، كما يقول بولس (أفسس 2 : 16-18).

"ورأينا
مجده، مجد الابن الوحيد للآب، مملوءً نعمة وحقاً" :

          بعد
ان قال ان الكلمة صار جسداً، أي صار انساناً، وبعد ان جعله معنا في الأخوة الخاصة
مع الخلائق والعبيد، يعود ويؤكد كرامته الالهية التي لم تتغير، ويعلنه لنا الهاً
كاملاً، له كل صفات وطبيعة الآب. فالطبيعة الالهية لها ثباتها الخاص بها، ولا تقبل
التغير الى ما ليس منها، بل تظل بلا تبديل محتفظة بما لها من صفات. ولأجل ذلك بعد
ان قال الانجيلي "الكلمة صار جسداً" عاد وأكد انه لم يخضع لضعفات الجسد،
ولم يفقد قوته ومجده الالهي، عندما لبس جسد الضعف الذي بلا مجد. فقال "ورأينا
مجده"، الذي يفوق كل مجد، والذي يجعل كل من يراه يعترف انه مجد الابن الوحيد،
ابن الله الآب، المملوء نعمة وحقاً. واذا نظر انسان الى جماعات القديسين وقاس
الاعاجيب التي فعلها كل واحد منهم، تملكه العجب والمسرة بما حققه كل واحد منهم،
حتى اننا نقول، انهم فعلاً امتلئوا بالمجد من الله. لكن الانجيلي الالهي والشاهد
يقول اننا رأينا المجد ونعمة الابن الوحيد، التي لا تقاس بما لدى الآخرين، بل بما
لا يقاس من مجد ورفعة، لأن النعمة التي فيه لا يمكن قياسها فهي لم تؤخذ من آخر بل
هي كاملة وحقيقية لأنها في الكامل والحق، فالمجد والنعمة لم تعط ولم توهب من خارجه
كاضافة، بل هي خاصة به كصفات خاصة بالذي هو من جوهر الآب وبمن هو في الآب.

          واذا
حسن في عيني احد ان يختبر ما هو اعمق مما ذكرناه، فعليه ان يتأمل ويعتبر الأعمال
الباهرة والمعجزات التي عملها كل قديس وبين تلك التي عملها مخلصنا المسيح، وسوف
يكتشف ان الفرق بينهم جميعاً وبين المسيح عظيم جداً. وما هو أهم من كل هذا، هو
انهم خدام في بيته، اما هو فهو "الابن في بيته" (عبرانيين 3 : 6 – او
كما ذكرت الاسفار المقدسة عن الابن الوحيد "مبارك الآتي باسم الرب"
(مزمور 118 : 26)، اما عن القديسين، يقول الله الاب "أرسلت اليكم كل عبيدي
الانبياء" (ارميا 7 : 25). وليس هذا فقط، بل اولئك نالوا النعمة من فوق، اما
الابن فهو رب الجنود الذي يقول "ان كنت لست اعمل اعمال ابي، فلا تؤمنوا بي
ولكن ان كنت اعمل فان لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال" (يوحنا 10 : 37-38).
فاذا كنا بالأعمال نرى الابن الوحيد كاله عظيم له عظمة الآب ذاتها، فإننا نقدم له
نفس الكرامة التي نقدمها للآب. لأنه يعمل ذات الأعمال، وبكل يقين سوف يتفوق – حتى
وهو في الجسد – على القديسين جميعاً الذين دعوا الى الأخوة، وهو كاله بالطبيعة
فانه يتعدى الحدود الانسانية، والذي هو الابن الحقيقي يفوق الذين هم ابناء
بالتبني، ولكن حيث انه مكتوب في انجيل المبارك لوقا "وكان يسوع يتقدم في
الحكمة والنعمة" (لو 2 : 52)، فعلينا ان نلاحظ هنا ان لابس الروح يقول عن
الابن ان "مجده مملوء من النعمة" فالذي هو مملوء الى اين يتقدم؟ او أي
اضافة يمكن ان تزاد عليه وهو المملوء تماماً؟ ولذلك يظهر للذين يرونه، مملوءاً من
اكثر من النعمة، ويتعجبون منه جداً بسبب اعماله، لأن الذين كانوا يرونه وهو يتقدم
وينمو في النعمة كانوا يتعجبون من نموه اذ كان هو نفسه الكامل كاله. وقد قيلت هذه
الأمور هكذا لمنفعة الذين يريدون ان يعرفوه الهاً متجسداً.

يو
1 : 15 – "يوحنا شهد وصرخ قائلاً" :

          يتابع
الانجيلي الحكيم ما قدمه من أفكار ويربط بين المقدمات والنتائج. لأنه عندما قال عن
ابن الله "ورأينا مجده، مجد الابن الوحيد" لم يكن يعني شهادته وحده،
(لأن "رأينا" تعني شهادة جماعية)، ولذلك يضم سميه يوحنا المعمدان كشاهد
آخر له نفس حياة التقوى. وبذلك يصبحان شاهدين لابسين للروح وأخوين في الحق، لا
يعرفان كيف يكذبان.

          ولاحظ
كيف يسجل قوة شهادة يوحنا المعمدان فهو لا يقول فقط يوحنا شهد، بل يضيف اليها
"وصرخ"، وأخذ برهانه من الكلمات "صوته صارخ في البرية"
(اشعياء 40 : 3). ويجوز لأي من المعاندين ان يسأل، متى شهد يوحنا المعمدان للابن
الوحيد؟ ولمن اعطى شهادته عنه؟ يقول الانجيلي "صرخ" ليس في زاوية ولا
بصوت منخفض ولا سراً "شهد"، بل "صرخ" عالياً بصوت اعلى من
البوق، ونشر شهادته في كل حديث له مع الناس. ويا له من مبشر مجيد، وصوت نافذ،
وسابق عظيم معروف.

"هذا
هو الذي قلت عنه ان الذي يأتي بعدي صار قدامي، لأنه كان قبلي" :

          بعد
ان اعلن اسم الشاهد، الذي له نفس الايمان ونفس الاسم، وبعد ان سجل ان صوته عظيم في
الكرازة، يسجل شهادته نفسها، والشهادة نفسها هي أهم ما يمكن تسجيله.

          وبماذا
صرخ يوحنا المعمدان العظيم وماذا قال عن الابن الوحيد. "الذي يأتي بعدي، كان
قبلي". وهذه الكلمات عميقة وتحتاج الى فحص عميق.

          المعنى
الواضح والظاهر هو : بخصوص زمن الولادة حسب الجسد. سبق المعمدان المخلص، وبعده جاء
عمانوئيل بستة أشهر حسبما سجل لوقا المبارك. ولذلك افترض البعض ان هذا هو معنى
شهادة يوحنا المعمدان كما سجلها يوحنا الانجيلي، أي ان الذي جاء بعدي بستة شهور
كان قبلي ولكن الذي يثبت عينه الفاحصة على الافكار الالهية، يمكنه ان يرى ان مثل
هذا التفسير السطحي لا يعطينا شيئاً، بل يبعدنا تماماً عن الموضوع العام الذي
يسجله الانجيل. فيوحنا المعمدان يقدم لنا كشاهد، ليس لكي يؤكد ان المسيح جاء بعده
أي حسب ميلاده الجسدي بل كشاهد على مجده "مجد الابن الوحيد للآب، مملوء نعمة
وحقاً".

          وما
هو معنى شهادة المعمدان. لو انحصر الكلام عن الفارق الزمني بين المعمدان والمخلص؟
فكيف يكون قبله لو كانت الشهادة كلها عن الفارق الزمني "الذي يأتي بعدي كان
قبلي" وانما في اطار ما قلناه، وعلى القياس الظاهري في بداية الانجيل ان
الكلام عن ازلية الكلمة وهذا ما رآه ظاهراً لكل واحد، لأن ما يأتي بعد، لا يمكن ان
يكون قبل طالما ان الكلام انحصر في الجانب الزمني. ولذلك علينا ان نطرح تماماً كل
كلام عن الفارق الزمني وعن الميلاد حسب الجسد. وانما ما يريد ان يسجله المعمدان هو
ان يستعمل طريقة التعبير البشرية البسيطة والضعيفة لكي يضع فيها أفكار عميقة.

          لقد
أراد ان يقول ان الذي يسبق ويقود له مجد اعظم من الذي يتبع. مثلما يحدث في عالم
الانسان، عندما يسبق احد من الناس غيره في صناعة النحاس او الخشب او النسيج، ويصبح
له الفخر والمجد على الذين يأتون ويقلدون العمل الذي سبق غيره فيه، بل يصبح له
معرفة أكمل وأسمى. أما اذا سبق واحد معلمه في الصناعة وتركه خلفه واتقن شيئاً اعظم
فإن المتخلف لا يمكنه ان يقول عن تلميذه الذي سبقه "الذي يأتي بعدي، كان
قبلي".

          واذا
نقلنا هذه الفكرة الى ما قيل عن المخلص المسيح ويوحنا المعمدان القديس يمكننا ان
نفهم معنى ما قيل. كان يوحنا المعمدان قد كون حوله تلاميذاً كثيرين من الجموع
الكثيرة التي جاءت تطلب المعمودية والتفت حوله اما المسيح وهو الأعظم، لم يكن
معروفاً بالمرة، ولم يعرف الناس انه الاله ولأنه لم يكن معروفاً، بينما المعمدان
موضع اعجاب الكل، فقد كان المسيح في هذا الوضع اقل من يوحنا في الشهرة وبذلك صار
المسيح بعد يوحنا رغم انه اعظم بكثير في الكرامة والمجد. ولكن "الذي جاء بعدي
كان قبلي" أي سوف يظهر كأعظم بكثير من يوحنا، لأن أعمال المسيح العجيبة اعلنت
انه الاله، بينما يظل الآخر في اطار وحدود الطبيعة الانسانية كمن هو
"بعد".

          ومن
ذلك ندرك الشكل الغير واضح لما قاله يوحنا المعمدان "الذي يأتي بعدي صار
قدامي" فهو يعني : الذي كان خلفي في الشهرة، هو في الحقيقة أعظم، بل يتفوق
على في كل ما نلته من شرف وكرامة. واذا فهمنا هذه الكلمات على هذا النحو وجدنا
المعمدان شاهداً على مجد الابن الوحيد، وليس كشاهد على شيء بلا قيمة. وشهادة يوحنا
تعني ايضاً ان المسيح اعظم منه بكثير، (يوحنا) أي الذي له هذه الشهرة في القداسة،
أليست هذه شهادة عن مجد المسيح الخاص.

"لأنه
كان قبلي" :

          بعد
ان قال يوحنا "صار قدامي" أضاف "لأنه كان قبلي" فنسب له بذلك
المجد الأزلي وانه سبق كل الاشياء، لأنه هو البدء كاله بالطبيعة. وبقوله "كان
قبلي" فقد كان يعني "دائماً وفي كل مكان وزمان هو اسمى وامجد. وبمقارنة
الكلمة بأحد المخلوقات أي يوحنا المعمدان، تصبح شهادته ضد الذين ينكرون أزلية
الكلمة بمثابة حكم بالدينونة بالنيابة عن الذي هو فوق الجميع". ونحن لا نتأمل
كرامة ومجد الابن الوحيد باعتباره اقدم من يوحنا واعظم منه في المجد. بل لأنه يفوق
المخلوقات جميعاً.

16
– "ومن ملئه نحن، جميعاً أخذنا" :

          هنا
يصادق الانجيلي على شهادة المعمدان الصادقة ويضم صوته الى صوت المعمدان بأن المخلص
اعظم واسمى من كل المخلوقات في المجد الذي يتكلم عنه، والخيرات الأخرى التي تأتي
منه.

          لأننا
نحن جميعاً الذين كتبت اسمائنا في عداد القديسين، نحن نأخذ من ملئه والطبيعة
الانسانية التي وجدت انها تحتاج الى كل شيء، تأخذ من ملئه، من ملء الابن كما من
الينبوع الأصلي، وعطية النعم الالهية، تتدفق على كل نفس تستحق ان تأخذ. واذا كان
الابن يعطي من ملء طبيعته، فالخليقة هي التي تأخذ، فكيف يمكن ان يعتقد احد ان
الخليقة لها ذات المجد الذي للابن. فهو يعلو الجميع بحسب طبيعته الخاصة ويفوق الكل
بكرامة كيان ابيه. واعتقد ان بولس الحكيم، عندما كان يحدد ما يخص طبيعة المخلوقات
ويتحرك نحو الافكار الحقيقة قال وهو يوجه كلامه للمخلوقات "واي شيء لك لم
تأخذه" (1كورنثوس 7). وهكذا تعطي نعم الله للمخلوقات التي ليس لها أي شيء من
ذاتها ولكنها تغتني من سخاء الذي يعطي.

          ولكن
علينا ايضاً ان نلاحظ انه يقول عن الابن انه "مملوء" أي كامل في كل شيء،
وبالتالي لا يحتاج لشيء بالمرة، ولذلك يستطيع ان يعطي الكل، دون ان يصيبه النقص،
ويحتفظ بعظم ومجد كرامته ويظل كما هو دائماً.

17
– "ونعمة فوق نعمة، لأن الناموس أُعطِى بموسى، أما النعمة والحق بيسوع المسيح
صارا" :

          بعد
ان قال الانجيلي ان مجد الابن الوحيد صار لامعاً اكثر من شهرة أي انسان بين بني
البشر، يقدم لنا القداسة الفائقة التي لا يمكن مقارنتها بأي من القديسين ويقدم
دراسته الخاصة بهذه النقطة بالذات بمقارنة المسيح بمن عرفوا بالفضائل. لقد قال
المخلص عن يوحنا المعمدان. الحق أقول لكم، لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من
يوحنا المعمدان (متى 11 : 11). ولكن هذا الرجل العظيم، يشهد الآن "الذي جاء
بعدي، كان قبلي". وحيث ان مجد يوحنا اقل، فانه اعطى المجال لمجد الابن
الوحيد، فكيف لا نفترض ان كل القديسين قد افسحوا المجال للابن فليس واحد منهم له
ذات مجد المسيح المخلص الذي يظهر في اعمالهم. ولما كان القديسون الذين عاينوا
الظهور الالهي في الجسد، اقل بكثير ولا يمكن مقارنتهم بالابن، ولا حتى يوحنا
المعمدان الذي نال اعظم شهرة، لا يتجاسر على مقارنة ذاته بالابن الوحيد بل ختم
شهادته الحقة معلناً انه "اقل في كل شيء". وحيث انه من الضروري ان يظهر
عمانوئيل اعظم واقوى وافضل من كل القديسين، احتاج الانجيلي ان يقدم رئيس الانبياء
موسى الذي جاء الله اليه وظهر له اولاً والذي قيل عنه "أنا اعرفك اكثر من
الباقين، لأنك وجدت نعمة في عيني" (خروج 33 : 12). فالله عرفه قبل الباقين،
كما يظهر من قول الله نفسه "ان كان منكم نبي للرب سوف اظهر له في رؤيا واتكلم
معه في حلم. أما عبدي موسى فليس كذلك لأنه أمين على كل بيتي ومعه اتكلم فماً لفم
وعياناً لا بالالغاز" (عدد 12 : 6-8) ولما كان لموسى هذا المجد العظيم الذي
فاق كل مجد القديسين حتى الذين سبقوه يقدمه الانجيلي الينا انه متقدم في كل شيء
(كولوسي 1 : 8) ولذلك يسجل الانجيلي "ونعمة فوق نعمة، لأن الناموس اعطي
بموسى، اما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا". واظن ان ما يريد الانجيلي ان
يعلنه هو ان المعمدان شهد واعترف بأن الابن الوحيد اعظم منه "الذي يأتي بعدي،
مفضل عني، لأنه كان قبلي" وحتى لا يفترض احد ان الابن الوحيد فاق يوحنا
المعمدان وباقي القديسين الذين عاينوا ظهوره في الجسد دون ان يفوق القديسين
الآخرين في العهد القديم، قدم موسى النبي، وقال انه يفوق موسى ايضاً، الذي فاق كل
الانبياء في القداسة، والذي شهد عنه واضع الناموس أي الله وقال انه عرفه قبل الكل.
وما دام يوحنا يجيء بعد المسيح بما لا يقاس حسب شهادة يوحنا نفسه، كذلك رئيس
الانبياء موسى يقل عن الرب في المجد. وعلى كل من يريد ان يتعلم ان يدرس النعمة
الانجيلية التي وهبت لنا بواسطة المخلص ويقارنها بنعمة الناموس التي اعطيت بواسطة
موسى، فسوف يرى ان الابن اسمى بكثير، لأنه هو واضع الناموس الأعظم الذي يهب الخيرات
افضل من الناموس الموسوي. ولذلك يقول الانجيلي "الناموس اعطي بموسى اما
النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" وما هو الفرق بين الناموس والنعمة التي
صارت بواسطة المخلص؟.. على المحبين للمعرفة والبحث الشاق ان يدرسوا هذا الموضوع
لأننا سوف نقول القليل ونترك الكثير، مؤمنين بأن المقارنة عظيمة والأفكار تفوق
الحصر.

          لقد
أدان الناموس الخليقة، لأنه بالناموس أغلق الله على الكل تحت الخطية (غلاطية 3 :
22) واظهر اننا تحت العقاب اما المخلص فقد اعطى الحرية للانسان "لأنه لم يأت
ليدين العالم بل ليخلص العالم". ومع ان الناموس اعطى نعمة معرفة الله للانسان
وجذبه من عبادة الاصنام التي اضلت الانسان، وبالاضافة الى ذلك اشار الى الشر وعلم
الخير، بدون كمال، كمعلم نافع، اما النعمة والحق فبالابن الوحيد، الذي لم يقدم لنا
الخيرات في رموز، ولا اعطى الصلاح في ظلال، بل بوصايا مجيدة ونقية، يقودنا بيده،
لكي ننال معرفة كاملة بالايمان.

          كان
الناموس يعطي "روح العبودية للخوف" أما المسيح فقد اعطى "روح
التبني" للحرية (رومية 8 : 15)، كان الناموس يختن اللحم وهو لا شيء "لأن
ختان اللحم ليس شيئاً" كما يقول بولس (1كورنثوس 7 : 19)، اما ربنا يسوع
المسيح فهو مانح "ختان القلب بالروح" (رومية 2 : 29)، الناموس يغسل الذي
تدنس بمياه، اما المخلص فهو يعمد بالروح القدس ونار (متى 3 : 11) الناموس يأتي
بمسكن كرمز للاشياء الحقيقية، اما المخلص فينقلنا الى السماء نفسها ويقدمنا الى
المسكن الحقيقي الذي نصبه الرب لا انسان (عبرانيين 9 : 24 – 8 : 2). وليس صعباً ان
نضع فروقاً اخرى اكثر مما ذكرناه، ولكن علينا ان نقبل الحدود التي نتحرك فيها.

          ولكننا
نقول هذا للمنفعة واللزوم، لأن بولس المبارك بكلمات قليلة حل السؤال، وقال عن
الناموس ونعمة المخلص ما يلي : اذا كانت خدمة الدينونة مجداً فبالأولى كثيراً تزيد
خدمة البر في المجد (2 كورنثوس 3 : 9).

          وبذلك
قال ان وصايا موسى هي خدمة الدينونة، اما النعمة بالمخلص فهو يدعوها "خدمة
البر" التي فاقت في مجد. وهكذا لخص بولس اللابس الروح طبيعة الفرق الدقيق بين
الناموس والنعمة لأن الناموس الذي يدين اعطي بموسى، اما النعمة التي تبرر فقد صارت
بواسطة الابن الوحيد. فكيف لا يكون المسيح فائق المجد وبما لا يمكن مقارنته؟ أليست
الأشياء الأفضل قد صارت لنا به؟ وهكذا صرخ المرنم اللابس الروح وقال بصوت عال وهو
يعلن كيف يفوق ربنا يسوع المسيح كل القديسين الأفاضل والمشهورين "من في السحاب
يشبه الرب، ومن يشبه الرب بين ابناء الله" (مزمور 89 : 6س) والسحابة الروحية
هي الانبياء القديسين الذين يتركون موضعهم للمسيح، والذين لا يظنون ان لهم مجداً
مساوياً له لأن موسى الذي عرفه الله فوق الجميع، ينال المرتبة الثانية، والذين
دعوا ابناء الله، عند ظهوره في الجسد لم يشبهوا من هو ابن الله بالطبيعة بل سوف
يعترفون بحدودهم، طالما ان يوحنا المعمدان نفسه يقول انه خلفه بمراحل، خلف ذاك
الذي يعرف القلوب والذي قال عنه المخلص "لم يقم من بين المولدين من النساء من
هو أعظم من يوحنا المعمدان" (متى 11 : 11). وحقاً يقول الانجيلي المبارك انه
"رأى مجده، مجد الابن الوحيد للآب" أي ما يخص ابن الله الوحيد ابن الآب،
والذي لا يشاركه فيه أحد من هؤلاء الذين صاروا اخوة له، والذي صار هو البكر بينهم.

 

الفصل
العاشر

الابن
الوحيد هو وحده بالطبيعة الابن من الآب

لكونه
من الآب وفي الآب

يو
1 : 18 "الله لم يره أحد قط، الاله الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي
أعلنه".

          هنا
ايضاً يمكننا ان نرى دقة لابس الروح فلم يكن يجهل ان البعض سوف يبحث عن الأمور
التي قيلت عن الابن الوحيد وانهم سوف يقولون بمرارة : لقد قلت يا سيدي العزيز انك
رأيت مجده مجد الابن الوحيد وكان يجب وأنت تشرح الأمور الخاصة بالله ان تبين علاقة
الابن بالآب وليس المقارنة بتفوق الابن على موسى وعلى قداسة وتقوى يوحنا كما لو
كان من المستحيل ان نرى مجداً يفوق مجد الابن مع ان اشعياء يقول : "رأيت
السيد جالساً على عرش مرتفع وذيله يملأ الهيكل وقد وقف السارافيم كل واحد منهم له
ستة أجنحة وواحد نادى الآخر وقال قدوس قدوس رب الجنود السماء والأرض مملؤتان من
مجدك" (اشعياء 6 : 1-3) وصرخ حزقيال عندما رأى الكاروبيم والرب جالس على
العرش (حزقيال 1 : 25-28). فاذا كان هؤلاء قد رأوا مجد الله فلا يجب على الانجيلي
المبارك ان يقطع ويقول : الله لم يره أحد في أي زمان وانما الابن الوحيد الذي في
حضن الآب هو الذي أعلنه أنا. هذه الحقيقة مؤكدة لأن الله قال لرئيس الانبياء لا
يرى أحد من الناس وجهي ويعيش (خروج 33 : 20) بل قال مرة لتلاميذه ليس أحد رأى الآب
الا الذي من الله هذا رأى الآب (يوحنا 6 : 46) فالآب وحده منظور للابن وحده لأن
الابن وحده من ذات طبيعة الآب وفي هذا الإطار فقط يمكننا ان نقول ان الطبيعة
الالهية ترى ذاتها الهياً ونرى من ذاتها الهياً فقط. وليس لأحد آخر. لكن كلام
الانبياء القديسين ليس كذباً. فعندما يصرخ احدهم انه رأى رب الجنود (اشعياء 6 : 1)
منهم لا يؤكدون انهم رأوا الله كما هو في جوهره وانما الكل يصرخ ويقول هذا هو
"ظهور شبه مجد الرب" حزقيال 1 : 28 ومعنى هذا ان الاعلان عن الله صار
بشكل منظور لهم، والمجد الالهي يتكون في رؤيا تتفق مع قدرتنا على الادراك ولذلك ما
رآه ليس سوى صور واعلانات تعطي معرفة باللاهوت ولكن حقيقة اللاهوت الفائقة تظل فوق
العقل والنطق. وبكل يقين قال الانجيلي "ورأينا مجده مجد الابن الوحيد مملوءاً
نعمة وحقاً" (يو 1 : 14) فقطع بذلك كل سبل المقارنة بين مجد الابن وكل
المخلوقات، وجمال الخالق وقدرته يمكن ادراكها من جمال المخلوقات (حكمة 13 : 5) لأن
السماء دون ان يكون لها صوت مسموع "تعلن مجد الله والفلك يخبر بعمل
يديه" (مزمور 19 : 1).

          وهكذا
ايضاً يظهر ان الابن الوحيد اسمى في المجد وارفع في القدرة، وفوق الادراك، ولا
يمكن ان تراه العين، لأنه الله. وحيث انه يفوق الخليقة كلها ومستحق للمجد، فهو فوق
الكل، وهذا هو معنى الكلمات التي نحن بصددها. لأننا يجب ان نلاحظ انه يدعو الابن
"الاله الابن الوحيد" ويقول انه "ف يحضن الآب" لكي ندرك انه
لا يمكن ان يحسب مثل المخلوقات او ان له طبيعة مخلوقة بل له اقنومه المتميز عن الآب
والذي في الآب فاذا كان حقاً هو "الاله الابن الوحيد" فكيف لا يكون
مختلفاً في الطبيعة عن الذين هم بالتبني آلهة وأبناء؟ لأننا نعتقد ان الابن الوحيد
ليس واحداً ضمن اخوة وانما هو الواحد وحده من الآب ولكن حيث انه كما يقول بولس :
"كثيرون يدعون آلهة في السماء وعلى الأرض" الا ان الابن هو الاله الابن
الوحيد الذي لا يمكن ان يحسب ضمن هؤلاء الآلهة الذين دعوا آلهة بالنعمة ولكنه
الاله الحقيقي مع الآب. وهكذا يعلن بولس وحدة الابن مع الآب قائلاً لنا "ولكن
لنا اله واحد الآب الذي منه كل الاشياء ورب واحد يسوع المسيح الذي به كل
الاشياء" (1كورنثوس 8 : 6) فالآب اذ هو اله واحد بالطبيعة والكلمة الذي منه
وفيه لا يمكن ان يكون غريباً عن الآب وانما واحد معه في كل الصفات وله نفس الكرامة
لأنه بالطبيعة اله لذلك يقول الانجيلي انه "في حضن الآب"، لكي نفهم
ايضاً انه كائن في الآب وهو من الآب، كما قيل في المزامير "من البطن قبل كوكب
الصبح ولدتك" (مز 110 : 3س) وهذا يضع عبارة "من البطن" لأنه من
الآب بكل يقين (مثلما يستدعى التشبيه الخاص بنا نحن البشر عندما يولد انسان من
البطن ويخرج وله نفس الطبيعة الانسانية) وكما قيل "في حضن الآب" كما لو
كان مثل اشراق البهاء الالهي غير المدرك لاقنوم الابن من الآب. ولكن الابن يملك
طبيعة الآب الالهية ذاتها، وكلمة حضن لا تستدعي الانفصال او الافتراق فهذا خاص
بالجسد وليس باللاهوت. وولادة الابن من الآب لا تعني ذلك وحقاً قال الابن انه في
الآب وايضاً الآب فيه. (يوحنا 14 : 10). وكل ما يخص جوهر الآب هو بالضرورة يخص
جوهر الابن فبهذا وحده يمكن ان يكون الآب فيه وهو في الآب لأن الابن في الآب
متأصلاً فيه بالمساواة التامة في الجوهر وبالولادة منه بدون ان يستدعي هذا أي
انفصال او مسافة بل الكينونة والمعية الدائمة. وهذا المعنى المقدس الذي نفهمه من
عبارة الانجيلي بأن "الابن في حضن الآب" وليس ذلك المعنى الذي توصل اليه
الذين يحاربون الله الذين دينونتهم عادلة (رومية 3 : 8) لأنهم يحرفون كل شيء من
اجل الاثم الذي فيهم (رجاع ميخا 3 : 9) فيفسدون آذان البسطاء ويخطئون دون أدنى
اهتمام بالأخوة الذين مات المسيح لأجلهم (1 كورنثوس 8 : 11، 12).

          وماذا
يجب ان نقول عندما نعلم الآخرين، لأن الانجيلي القديس يقول عن الابن "انه في
حضن الله الآب"؟ ابناء الكنيسة يعتقدون بكل صواب ويؤكدون انه من الآب وفي
الآب ويكتفون بذلك وهم على حق لأن حقيقة ميلاد الابن من الآب هي فوق الادراك أما
الذين سكروا بالجهل فأحياناً يبتسمون ويتجاسرون ويقولون رأيكم يا سادة بلا معنى
لأنكم لا تفكرون في الله كما يجب لأنكم تعتقدون انه من الصواب ما دام قد قيل عن
الابن انه في حضن الآب فهذا يعني انه من جوهره ومن الحماقة ان تتصوروا انه ثمرة
الطبيعة غير المخلوقة الم تسمعوا في امثال الانجيلي ما قاله المسيح نفسه عندما كان
يتكلم عن الغني ولعازر انه حدث بعد موت لعازر ان الملائكة حملته الى حضن ابراهيم
(لو 15 : 22) فهل تعتقدون ان لعازر في حضن ابراهيم تعني انه مولود منه وانه فيه
بالطبيعة؟ ام انكم بكل صواب سوف ترفضون ذلك وسوف توافقوننا على ان معنى
"حضن" هو المحبة فقط؟ وبذلك يصبح معنى "حضن الآب" ان الابن هو
في محبته كما قال هو "الآب يحب الابن" (يوحنا 3 : 35) وعندما يضر بنا
هؤلاء الباحثون عن الاخطاء، الذين غيرتهم طائشة ولا تبني بل تهدم فاننا سوف نجيب
هؤلاء وسوف نحشد اكبر قدر ممكن من كلمات الحق.

          انتم
تقولون يا سادتي الأعزاء ان كلمة حضن تعني المحبة وكيف يمكن ان يستقيم معنى نصوص
أخرى. وماذا تقولون عن هذا : أحب الله العالم، كذا يقول المخلص (يوحنا 3 : 16)، او
"يحب الرب أبواب صهيون" حسب ما صرح الانبياء القديسين دون خوف، فهل هذا
يعني ان العالم نفسه وأبواب صهيون في "حضن الآب"؟ وعندما يقول الله
لموسى رئيس الانبياء "ضع يديك في حضنك" (خر 4 : 6) فهل يعني هذا حسب
رأيكم ان الله يطلب منه ان يحب يده؟ ام انه يطلب منه ان يبقى يده مخفية؟ ان هذا
سوف يجعلنا نضحك، بل ربما قادنا الى الكفر عندما نتصور ان كل شيء في حضن الآب،
ونجعل هذه العلامة الخاصة، عامة وشائعة للك، مع انها العلامة المميزة الخاصة
بالابن الوحيد التي لا تشترك فيها الخليقة معه.

          اذا
وداعاً لرأيهم الفاسد، وعلينا ان نسير في الطريق المستقيم طريق الحق. لأن الكلام
عن ان "الابن في حضن الآب" معناه اننا نعتقد انه من الآب وفي الآب،
حسبما توضح الكلمات القوية نفسها "الاله الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو
الذي اعلنه لنا" وعندما قال "الاله الابن الوحيد" فقد أردف على
الفور "الذي في حضن الآب" بدلاً من ان يقول الذي من جوهره واستخدم لذلك
تشبيهاً حسياً. فالاشياء المحسوسة والظاهرة، يمكن ان تكون رموزاً تدل على الاشياء
الروحية، والأمور المنظورة تقودنا الى ادراك الأمور العالية، فالمحسوسات يمكن ان
نتخذها صورة تساعدنا على الاقتراب من الأمور العميقة حتى وان فهمنا الأمور الحسية
كما نطقت، مثلما قيل لموسى "ضع يدك في حضنك". ولا يضرنا بالمرة ان نفهم
ان لعازر صار فعلاً في حضن ابراهيم، بلغة خاصة، لأنه عندما مات لعازر وفارق الحياة
في الجسد، فهذا لا يتعارض مع ما قلناه سابقاً، لأن الأسفار الالهية تخاطبنا بلغة
خاصة، لأنه عندما مات لعازر وفارق الحياة في الجسد حمل لحضن ابراهيم، وهذه اللغة
الخاصة تعني انه "حسب ضمن ابناء ابراهيم" فالله قال لابراهيم
"جعلتك اباً لشعوب كثيرة" (تكوين 17 : 5).

يو
1 : 19-20 : "وهذه هي شهادة يوحنا، عندما أرسل اليهود كهنة ولاويين من
اورشليم ليسألوه : من انت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر اني لست انا المسيح".

          حسناً
فعل الإنجيلي، فقد سجل لنا بالتفصيل شهادة يوحنا وما سبق وقاله عن يوحنا المعمدان
يدعمه الآن تفصيلياً بشهادة يوحنا ويسجل بكل تفصيل المناسبة عندما "أرسل
رؤساء الفرق اليهودية" كهنة ولاويين ليسألوه، ماذا يقول عن نفسه؟ فأعترف ولم
يشعر بالخجل من الحق، وقال "أنا لست المسيح" وما هو واضح هو ما يريد ان
يسجله يوحنا الإنجيلي فكأنه يقول، لست أنا، كاتب الإنجيل، الذي اقول هذا بل يوحنا،
وأنا أيضاً لست أكذب، فهو "لم يكن النور، بل جاء لكي يشهد للنور".

يو
1 : 21 "وسألوه قائلين اذن ماذا. هل انت ايليا؟ فقال لست أنا. هل أنت النبي؟
فأجاب لا"

          بعد
ان أكد المعمدان انه ليس المسيح، أراد الانجيلي ان يشرح لنا كيف اعترف يوحنا ولم
ينكر، ويبدو لي ان الانجيلي يسجل ذلك بالتفصيل لكي يفضح انحراف اليهود. لأنهم
"بينما يزعمون انهم حكماء، صاروا جهلاء" (رومية 1 : 22) وافتخروا كذباً
بمعرفتهم بالناموس، لأنهم يدعون انهم ادركوا التعليم الكامل للناموس وكتابات
الأنبياء، ولكن اسئلتهم الغبية الموجهة ليوحنا تفضح جهلهم. فموسى رئيس الأنبياء
قال ان الرب سوف يظهر كنبي، وأخبر بني اسرائيل "ان الرب يقيم لكم نبياً من
وسطكم" من بين أخوتكم مثلي، له تسمعون، حسب كل ما طلبت من الرب الهك في
حوريب" (تثنية 18 : 15-16). وهذا نفسه جعل النبي اشعياء يقدم لنا السابق
والمعمدان قائلاً "صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب، واصنعوا سبله
مستقيماً" (متى 3 : 3 – اشعياء 40 : 3). وبالاضافة الى ذلك يقول ملاخي النبي
عن ايليا التشبيتي "ها أنا ارسل لك ايليا التشبيتي، فيرد قلوب الآباء الى
الابناء، والعصاه الى حكمة الأبرار لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن" (لوقا 1 : 5 –
6 ملاخي 4 : 5-6 س) وهكذا اعتقد اليهود ان ثلاثة سوف يأتون المسيح ويوحنا المعمدان
وايليا، وتم عنهم قول الرب "تضلون اذ لا تعرفون الكتب المقدسة" (متى 22
: 29). توقعهم مجيء ثلاثة ظاهر من سؤالهم الموجه ليوحنا المعمدان ولأنهم عندما
عرفوا انه ليس المسيح سألوه هل انت ايليا؟

          وعندما
قال لا، كان يجب عليهم ان يسألوه ان كان هو السابق الذي سيأتي ليهيء طريق الرب،
وكان يجب عليهم ان يعرفوا ان نبوة موسى خاصة بالمسيح ولكن لأنهم لم يدرسوا الكتب
المقدسة عادوا فسألوه ان كان هو النبي. فأجاب : لا. لأنه لم يكن هو المسيح.

يو
1 : 22-23 "فقالوا له ماذا تقول عن نفسك؟ اذاً صوت صارخ في البرية".

          ينتقد
يوحنا المعمان بشدة وفي رده على سؤالهم يقول لهم انتم لا تعرفون شيئاً، ومع انه
يشير الى نبوة اشعياء عن مجيئه، وهو لا يريد ان يضيف شيئاً، فهو ليس الموعود به،
وانما المسيح المنتظر فهو على الأبواب، بل بالحري ان الرب داخل الأبواب. وكأنه
يقول عليكم ان تذهبوا اليه هو حيث يريد، لقد سرتم الطريق كله مع موسى، وعليكم الآن
ان تتبعوا المسيح، لأن هذا هو الذي أخبر عنه خورس الأنبياء.

أقوال
خاصة بالطريق وراء المسيح :

          اشعياء
"تعالوا لنصعد الى جبل الرب، الى بيت اله يعقوب لكي يعلمنا طريقه، فنسير
فيها" (2 : 3).

          وايضاً
"وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة، ولا يكون هناك أسد، وحش
مفترس لا يصعد اليها. لا يوجد هناك بل يسلك المفديون فيها" (ش 35 : 8، 9).

          وايضاً
"سوف أعطي البدء (السيادة) لصهيون وأعلم اورشليم الطريق" (ش41 : 27
سبعينية).

          وايضاً
"سوف أقود العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها امشيهم" (أش 42
: 16).

          ارميا
: "قفوا على الطريق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة، اين هو الطريق الصالح
وسيروا فيه، فتجدوا راحة لنفوسكم" (ار 6 : 16).

          فما
هو الطريق الصالح، الذي ينقي الذين يسلكون فيه، المسيح نفسه يقول "أنا هو
الطريق" (يوحنا 14 : 6).

24
– "وكان المرسلون من الفريسيين" :

          الكهنة
واللاويين الذين ارسلهم اليهود، ادانتهم غباوة الاسئلة التي سألوها، لأنهم افترضوا
ان المسيح غير النبي الذي أشار اليه الناموس ونفس الدينونة لحقت بالفريسيين الذين
ادانتهم كبرياء الحكمة المزيفة، لاعتقادهم الباطل بأنهم يعرفون الاقوال الالهية.

          لقد
سألوه "لماذا تعمد ان كنت انت لست المسيح ولا ايليا ولا النبي؟" (يوحنا
1 : 25) وهم مثل الكهنة واللاويين ليس لديهم أي ادراك لحقيقة المعمدان، حتى انهم
لم يحسبوه ضمن الثلاثة الذين كانوا ينتظرون مجيئهم، حقاً لقد كانوا مرضى ليس
بالغباوة فقط بل بالتعالي : الأخ الشقيق للغباوة، ولذلك لم يدركوا مجيء ذاك الذي
سبقت وأخبرت به اصوات الانبياء. ومع انهم سمعوه يقول "أنا صوت صارخ في
البرية، اعدوا طريق الرب" (متى 3 : 23) إلا أنهم لم يقبلوا كلمته، بل رفضوه
قائلين يا سيد ما هو رصيدك الذي تعتمد عليه وما هو سندك الذي يجعلنا نصدقك؟ لماذا تعمد؟
وانت لا شيء فلماذا تتصرف هكذا وتقوم بهذا العمل العظيم؟. كانت هذه هي عادة
الفريسيين الكفرة، ان يحتقروا او يقللوا من شأن الذي جاء مدعين انهم في انتظار آخر
سوف يجيء، وذلك لكي يحتفظوا لأنفسهم بمكانة خاصة لدى اليهود، لا سيما ما يدخل
جيوبهم من أموال، فحرصوا ان لا يظهر آخر، او ان يبرز من ينال شهرة. وهؤلاء هم
الذين قتلوا الوارث نفسه قائلين "تعالوا نقتله ونأخذ ميراثه" (متى 21 :
38).

يو
1 : 25 – "أنا أعمد بماء" :

          بطول
أناة احتمل المعمدان المبارك الباحثين عن الأخطاء، واعلن عن نفسه في اطار الكرازة
بالخلاص، وأخذ يعلم الذين ارسلهم الفريسيون، ضد رغبتهم، بأن المسيح موجود داخل
الأبواب. وها هو يقول لهم، أنا أديت بمعمودية تمهيدية، تغسل بالماء الذين تدنسوا
بالخطية وذلك كبداية للتوبة، لكي يرتفعوا من أسفل الى أعلا، أي الى توبة كاملة.
ولكي يتم ذلك ارسلت لكي أمهد طريق الرب بالكرازة بالتوبة. لأن مانح العطايا العظمى
وواهب الخيرات الكاملة "هو في وسطكم" غير معروف بسبب حجاب الجسد، ولكنه
يفوقني في كل شيء، حتى انني احسب نفسي غير مستحق لمكانة العبد الواقف في حضرته،
وهكذا عبر يوحنا المعمدان عن نفسه واعتقد ان هذا ما يقصده بقوله "أنا لست
أهلاً لأن احل سيور حذائه".

          وعندما
قال الحق فقد عمل عملاً مفيداً، فقد كان يريد ان يعلم الفريسيين المنتفخين،
التواضع مقدماً ذاته كنموذج للتواضع.

          وقد
سجل يوحنا الانجيلي ان هذه الأمور تمت "في بيت عبرة في عبر الاردن"
(يوحنا 1 : 28)، وسجل بذلك دقة بالغة للأحداث لأننا نحن تعودنا عندما نكتب بدقة ان
نذكر الأماكن التي حدثت فيها الأحداث.

 

 

الكتاب
الثاني

فصول
الكتاب الثاني

الفصل
الأول :

          ان
الروح القدس في الآب، ليس كمن يشترك فيه من الخارج، بل هو فيه جوهرياً وبالطبيعة،
شرح الكلمات، شهد يوحنا قائلاً : "أنني رأيت الروح نازلاً من السماء مثل
حمامة واستقر عليه".

الفصل
الثاني :

          انالابن
ليس ضمن المخلوقات، بل فوق الكل، وهو اله من اله، شرح الكلمات "الذي يأتي من
فوق هو فوق الجميع".

الفصل
الثالث :

          ان
الابن هو الله ومن الله بالطبيعة، شرح الكلمات "ومن قبل شهادته فقد ختم ان الله
صادق".

الفصل
الرابع :

          ان
خصائص الله ليست في الابن بالمشاركة، بل جوهرياً بالطبيعة، شرح الكلمات "الآب
يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده".

الفصل
الخامس :

          ان
الابن ليس ضمن الذين يعبدون الله، لأنه الكلمة وهو الله، بل بالحري يعبد مع الآب،
شرح الكلمات "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أما نحن فنسجد لما نعلم".

الفصل
السادس :

          ان
الابن ليس أقل من الآب، في القوة، او العمل، بل هو مساوي في القدرة، وواحد في
الجوهر معه، وهو من طبيعة الآب، شرح الكلمات "لا يقدر الابن ان يعمل من نفسه
شيئاً، بل ما يرى الآب فاعله، لأن مهما يفعله الآب، هذا يفعله الابن ايضاً".

الفصل
السابع :

          ان
كل ما يليق بالله من سمو وكرامة ليس موجوداً في الابن بالمشاركة او من الخارج، شرح
الكلمات "الآب لا يدين أحداً، بل قد اعطى كل الدينونة للابن".

الفصل
الثامن :

          ان
الابن هو الله ومن الله بالطبيعة. وصورة الآب الكاملة، وهو مولود من الآب، وله ذات
المجد والكرامة مع الآب، شرح الكلمات "لكي يكرم الجميع الابن، كما يكرمون
الآب".

الفصل
التاسع :

          ان
الابن ليس اقل من الله الآب في شيء بل مساو له في القوة التي تعمل في كل الاشياء،
وهو اله من اله، شرح الكلمات "أنا لا أقدر ان افعل من نفسي شيئاً كما اسمع
أدين".

 

الكتاب
الثاني

(يوحنا
1 : 29) "وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً اليه" :

          لم
يمضي وقت طويل، حتى اشتهر يوحنا كنبي ورسول، وكان يبشر بمجيء المسيح الذي يجيء
اليه الآن، لكي يعلنه، ولذلك فاق يوحنا المعمدان في كرازته جميع الأنبياء، لأنه
يشير الى المسيح وهو أمامه ولذلك قال المخلص نفسه "ماذا خرجتم الى البرية
لتنظروا؟ أنبياً نعم أقول لكم، وأعظم من نبي" (متى (1 : 9). فالانبياء في
ازمنتهم تنبأوا ان المسيح سيظهر، أما يوحنا المعمدان فبعد ان صرخ بأنه سوف يأتي
اشار اليه، وهذا هو المقصود من قول الانجيلي، "وفي الغد نظر يسوع مقبلاً
اليه".

"فقال
: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" :

          لم
تعد كرازة يوحنا "اعدوا طريق الرب" مطلوبة، لأن الذي توقع مجيئه صار
أمام عينيه، فصار الموقف يتطلب كلمات جديدة.

          من
هو الآتي؟ ولمن جاء؟ ولماذا نزل من السماء؟ يجيب المعمدان "هوذا حمل الله
الذي يرفع خطية العالم" وهو الذي اشار اليه اشعياء، وما أشار اليه يتحقق الآن
"مثل حمل سيق للذبح ومثل نعجة صامتة أمام الذي يجزها" (اشعياء 53 : 7).

          وهو
الذي سبق واخبر عنه ناموس موسى بشكل رمزي، (الناموس) الذي خلص جزئياً دون ان تمتد
الرحمة وتشمل الكل، لأن الناموس كان رمزاً وظلاً حينئذ، أما الآن فالذي صورته هذه
الرموز بشكل معتم الحمل نفسه، والذبيحة التي بلا عيب، قد جاء لكي يقاد الى الذبح
لأجل الكل، لكي يرفع خطية العالم، لكي ما يبيد المهلك من الأرض، وعندما يموت عن
الكل، يجعل الموت لا شيء، ويرفع اللعنة التي لحقت بنا، ويضع حداً لما قيل
"تراب انت، والى التراب تعود" (تكوين 3 : 19). وبذلك يصبح آدم الثاني،
ليس "من التراب" وانما من السماء، ويصبح بداية الخيرات للطبيعة
الانسانية، ويعتق الانسان من الفساد الدخيل، ومانح الحياة الأبدية، وأساس المصالحة
مع الله، وبداية التقوى والبر، وطريقاً لملكوت السموات.

          لقد
مات حمل واحد عن القطيع كله لكي يخلص القطيع كله ويقربه لله الآب. واحد عن الكل
لكي يخضع الكل لله. واحد عن الكل لكي يربح الكل، وذلك لكي لا يعيش الكل فيما بعد
لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام (2 كورنثوس 5 : 15).

          لقد
كنا مستعبدين لخطايا كثيرة، خاضعين للفساد والموت، فأعطانا الآب ابنه فداء عنا.
الواحد عن الكل، لأن الكل فيه، وهو فوق الكل. واحد مات عن الكل، لكي يحيا الكل
فيه. لقد ابتلع الموت "الحمل" الذي كان ذبيحة خطية الكل، ولكن الموت
تقيأ الحمل ومعه الكل الذي فيه. لأننا جميعاً في المسيح الذي بسببنا ولأجلنا مات
وقام. لقد أبيدت الخطية، فكيف يبقى الموت الذي نتج عنها وبسببها، الا يتلاشى هو
ايضاً وينتهي الى لا شيء. لقد هلك الجذر، فكيف تعيش الاغصان او تبقى؟ وكيف نموت
نحن، بعد ان أُبيدت الخطية؟ لذلك نسر بذبيحة حمل الله ونقول : "أين شوكتك يا
موت؟ اين غلبتك يا هاوية" (1كورنثوس 15 : – هوشع 13 : 14).

          لأن
"كل اثم"، كما يقول المرنم "يسد فاه" (مزمور 107 : 42)، ولا
يستطيع بعد ان يتهم الذين أخطأوا بسبب الضعف. واذ كان "الله هو الذي يبرر فمن
هو الذي يدين"؟ (رومية 8 : 33-34). لقد افتدانا المسيح من لعنة الناموس،
عندما صار لعنة لأجلنا، (غلاطية 3 : 13) لكي نفلت من لعنة التعدي.

30-
"هذا هو الذي قلت عنه" :

          يذكر
يوحنا المعمدان السامعين بالكلام الذي قاله، ويحفظ المجد السامي للمسيح، مقدماً
اياه ليس عن محبة فقط، بل بحكم الضرورة والحق. فالمخلوق خاضع للخالق، حتى اذا لم
يرض بذلك لأن الخالق هو الرب، والمحتاج يخضع للواهب. وكيف جاء المسيح بعد يوحنا
المعمدان بل صار قدامه لأنه "كان قبله". كما يعترف هو نفسه، وهذا ما سبق
ان شرحناه بكفاية.

31-
"وأنا لم أكن اعرفه. لكن ليعلن لاسرائيل، لذلك جئت أعمد بالماء" :

          الذي
ركض بابتهاج في بطن أمه، عندما سمع صوت العذراء القديسة وهي حبلى بالرب والذي عين
نبياً قبل الآم المخاض به، وتلميذاً وهو لا يزال في الرحم، يقول "وأنا لم أكن
أعرفه" وهو يقول الحق فهو لا يكذب. الله وحده وهو الذي يعرف الأشياء كما هي،
دون ان يتعلم، أما المخلوق فهو يحتاج ان يتعلم. ولذلك يسكن الروح القدس في
القديسين لكي يكمل ما ينقص منهم، ويعطي للطبيعة الانسانية من صلاحه الذاتي، وانا
اعني معرفة الاشياء الآتية والأسرار الخفية. لذلك يقول المعمدان القديس انه لا
يعرف الرب، وقد تكلم الحق، لأنه كان يعبر عن الصفة الاساسية والحدود الخاصة
بالانسانية، لأنه ينسب معرفة كل الأمور لله وحده، ولكن الله بالروح القدس ينير
الانسان لكي يدرك الأمور الخفية. وبكل يقين يقول أنه من ذاته لم يعرف المسيح،
وانما لقد جاء لأجل هذا الغرض لكي يعرفه، ويعلنه لاسرائيل وبذلك لا يكون قراره
مؤسساً على ذاته، او انه يعلم ويخدم بارادته، بل يكون خادماً ومنفذاً للتدبير
الالهي، والمشورة التي من فوق، التي اعلنت له "الحمل الذي يرفع خطايا
العالم".

          لقد
قال يوحنا هذه الكلمات "وأنا لم أكن أعرفه" لكي يسهل لليهود الايمان
بمخلصنا المسيح، ويدركوا الايمان به، فهو يقول انه لا يعرفه مع انه يعرفه، لكي
يفهموا، ان الله هو الذي سيعلن ابنه، وانه هو الذي سيحكم من فوق، فيقبلوا كلامه.
وعندما يرى اليهود ان الخادم عظيم بهذا القدر، يدركون ان السيد أعظم، وقوله انه
جاء لكي "يعلنه لاسرائيل". يعلن عن اهتمام الخادم غير العادي بما يخص
سيده.

 

الفصل
الأول

ان
الروح القدس في الابن ليس كمن يشترك فيه من الخارج بل هو فيه جوهرياً وبالطبيعة

يو
1 : 32-33 "وشهد يوحنا قائلاً اني قد رأيت الروح نازلاً من السماء مثل حمامة
واستقر عليه. وانا لم اكن اعرفه. لكن الذي ارسلني لأعمد بالماء هو نفسه الذي قال
لي "الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح
القدس".

          بعد
ان قال سابقاً : أنه لم يكن يعرفه، يشرح السر الالهي ويعلنه، موضحاً ان الذي أخبره
هو الله الآب، ويسجل الاعلان الذي اخذه من الآب بكل دقة. وسجل الانجيلي ذلك من أجل
فائدة سامعيه، قائلاً ان سر المسيح المعلن للناس قد علمه اياه الله نفسه، فيعرف
مقاوموه انهم يحاربون القصد الالهي نفسه، وبذلك يجلبون الدينونة على انفسهم لانهم
يحاربون قصد الاب. وبهذا كان هو يحثهم بمهارة ان يتركوا مشورتهم الباطلة ويقبلوا
شهادته لقد "رأى الروح نازلاً من السماء عليه في شكل حمامة واستقر عليه"
ولا يكتفي بالمنظر الذي رآه بل لقد سمع الذي أرسله يعمد بالماء يقول له "من
ترى الروح القدس نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" صادقة
هذه الشهادة ومستحقة كل قبول، لا سيما العلامة الفائقة التي رآها، وفوق الكل كلمات
الآب الذي يعلن ويخص بها الابن.

          هذه
الأمور يجب ان تؤخذ كما هي. ولكن ربما وجد الهرطوقي المحب للجدال فرصة تجعله يقفز
وعلى وجهه ابتسامة عريضة. ويقول ماذا تقولون يا سادة؟ وليس لديكم أي جواب تقدمونه،
فهل ستصارعون ما هو مكتوب؟ ها هو يقول ان الروح القدس نزل على الابن. وها هو قد
مسح بواسطة الله الآب. ومن ليس لديه، يأخذ بل ان المرنم يشهد معنا قائلاً عنه
"لذلك مسحك الله الهك بزيت البهجة، اكثر من رفقائك" (مزمور 45 : 7).
فكيف يكون الابن بعد هذا الذي قيل، من جوهر الآب الكامل، لأن الابن ناقص ولذلك مسح؟

          والى
هؤلاء الذين يقبلون تعاليم الكنيسة ويفسدون الحق الذي في الأسفار اعتقد انه يجب ان
نقول لهم "افيقوا ايها السكارى من خمركم" (يوئيل 1 : 5 س).

          لعلكم
تشاهدون جمال الحق معنا، وتقدرون ان تصرخوا معنا للابن "بالحقيقة انت ابن
الله" فكيف لا يكون كاملاً؟ لأن هذا تعدى على الآب نفسه وكفر به.

          فاذا
كان الابن ناقصاً، ومحتاج للكمال كما تقولون، فكيف لا يصيب هذا الاتهام الآب نفسه
الذي منه يولد الابن ويصبح حسب كلامكم بدوره هو ايضاً ناقصاً، لأن الجوهر الالهي
في الابن اصيب بعدم الكمال حسب شرحكم غير المدقق والفاسد. فالطبيعة الالهية
الواحدة، لا يمكن تقسيمها الى كلمتين، كلمة كامل وكلمة آخر غير كامل، لأنه حتى
الطبيعة الانسانية نفسها هي واحدة في كل البشر، ومتساوية فينا جميعاً، ولا يوجد
انسان اقل من انسان آخر في اشتراكه في الطبيعة الانسانية واعتقد ان ملاكاً لا
يختلف عن ملاك آخر في انتسابهم للطبيعة الملائكة فكل الملائكة لهم نفس الطبيعة.
فكيف تكون الطبيعة الالهية الفائقة، في وضع أقل من وضع المخلوقات، او تحتمل ما لا
تستطيع ان تحتمله الطبيعة المخلوقة؟ وكيف تكون بسيطة وغير مركبة، اذ اظهر في اقنوم
منها الكمال وفي اقنوم آخر عدم الكمال؟ الا تكون حسب ادعاء الهراطقة مركبة لأن
الكمال ليس مثل عدم الكمال. وهذا يعني التركيب.

          واذا
كان الآب والابن لهما طبيعة واحدة، ولا تركيب فيها ولا اختلاف، فعدم كمال الابن،
يصبح بدوره عدم كمال الآب. ويصبح أيضاً كمال الآب هو كمال الابن، وبذلك تسقط
التهمة الموجهة للابن، رغم ادعاء الهراطقة، لكن التعليم الصحيح، ليس الآب غير
كامل، ولا هو يتفوق على الابن.

          ولعل
هذا هو نهاية الجدل. فلو كان بين الكمال والنقص فاصل زمني، والطبيعة الالهية تقبل
الكمال والنقص فهي بذلك مركبة ولا تكون طبيعة الله البسيط. ولو افترض احد ان الاضداد
لا يمكن ان تجتمع في طبيعة واحدة مثل اللون الأبيض واللون الأسود في جسد واحد. هذا
افتراض جيد يا سيدي لأنك بذلك تؤكد ما أقدمه. لأنه اذا كانت الطبيعة الالهية
واحدة، فاخبرني كيف تقبل الاضاد؟ وكيف يمكن لأقنومين يختلفان تماماً ان يوجدا معاً
في جوهر واحد؟ ولكن لأن الآب بالطبيعة اله، كذلك الابن ايضاً، ولا يصبح مختلفاً عن
الآب، لأنه مولود من جوهره الالهي الكامل. وبذلك يصبح الابن كاملاً. لأنه من الآب
الكامل لأنه صورته الكاملة ورسم جوهره (عبرانيين 1 : 3).

          وعلى
الذين يقاوموننا ان يقولوا لنا : كيف ان الابن هو صورة الآب الكاملة ورسم جوهره
ومع ذلك ليس فيه كمال الطبيعة الالهية فالابن كامل كما ان الآب كامل.

          وقد
يقول قائل عن يوحنا انه رأى الروح القدس نازلاً من السماء على الابن، فنال التقديس
من الخارج، ونال بذلك ما ليس عنده. اذا صح كلامك فهذه هي المناسبة لكي تدعوه
مخلوقاً نال كرامة وكمالاً وتقديساً، مثل كل المخلوقات، وينال ما يحتاجه من خيرات
مثل الباقين. واذا صح قولكم يكون الانجيلي كاذباً، عندما يقول "ومن ملئه نحن
جميعاً اخذنا" فكيف هو مملوء وهو يأخذ من آخر؟ وكيف يمكن ان نعتقد ان الله هو
الآب، اذا كان الابن الوحيد مخلوقاً؟ فاذا صح ان الابن مخلوق، لا يمكن ان ندعوه
بصدق الآب، ولا الابن يمكن ان ندعوه بالحق الابن، بل يصبح هذا مجرد لقب فارغ بلا
دلالة. وبذلك يصل كل شيء عندنا الى العدم فالآب ليس الآب حقاً، والابن ليس
بالطبيعة ابناً. ولكن اذا كان الله حقاً هو الآب، فبالتأكيد له ذلك الذي هو أب له.
أي الابن الذي من جوهره.

          وكيف
يمكن للاهوت القدوس ان يلد من هو خال من القداسة، لا سيما وان القداسة طبيعة وصفة
من صفات اللاهوت؟ واذا كان الابن نال التقديس من الخارج – كما يدعون – فعليهم
الاعتراف رغماً عن ارادتهم بأنه كان وقت لم يكن الابن فيه قدوساً، وصار قدوساً
عندما نزل الروح القدس وحل عليه. فكيف كان الابن قدوساً قبل التجسد لأن السارافيم
مجده وكرر التقديس "قدوس" ثلاث مرات (اشعياء 6 : 3). فاذا كان قدوساً
حتى قبل التجسد، بل لأنه ازلي مع الآب القدوس، فكيف يقال انه احتاج الى من يقدسه؟
أليس الكلام كله عن الزمان الأخير عندما تأنس؟ انني مندهش كيف لا يدركون هذا وهم
محبون للبحث. ومن ناحيتنا علينا ان نعتقد ان التقديس لم يأت للابن كما يجيء الينا.
لأن الخالي من التقديس يمكن ان يسقط في عبودية الخطية بل ويغرق الى ما هو أسوأ غير
محتفظ بالقوة التي تحول بينه وبين الرذيلة. لذلك ليس الابن قابلاً للتغير، والا
كذب المرنم وهو يصرخ بالروح قائلاً له "أنت هو هو" (مزمور 102 : 27).

          وبالاضافة
الى ما قلناه علينا ان ندقق فيما يلي فهو هام جداً. ان البراهين كلها تؤكد ان من
يشترك في شيء مختلف تماماً عن الذي هو مشترك فيه. واذا لم يصح هذا، فان من يشترك
يصبح مشتركاً في ذاته طالما انه غير مختلف عن الذي يشترك فيه. وكيف يمكن منطقياً
ان يشترك كائن في ذاته؟ وحيث ان الذين يشتركون في غيرهم لهم طبائع مختلفة فعلى
الذين يقولون ان الابن الوحيد يأخذ الروح بالاشتراك فيه ان يروا انحدارهم في أعماق
الكفر والغرق هناك دون ان يشعروا.

          لو
كان الابن يشترك في الروح القدس، والروح القدس بالطبيعة قدوس، فالابن يصبح غير
قدوس بالطبيعة بل يصير قدوساً باشتراكه في آخر، أي يتحول بالنعمة الى ما هو أفضل
من وضعه الأصلي، وعلى الذين يحاربون الله ان يروا الى أي درجة من الانحدار والكفر
تطرحهم الاجابة على هذا السؤال. فأولاً الادعاء بأن الطبيعة الالهية قابلة للتبديل
والتحول، وهو الادعاء الذي ينسبونه للابن. وهذا التحول يعني انه تقدم ونما الى ما
هو افضل. ثانياً تحول الابن الى ما هو أقل من الآب ثم تحوله الى ما هو أسمى من الآب
بسبب اشتراكه في القداسة، حسب منطق المعاندين، لأنه في إطار هذا التفكير الطائش
يبدو ان الرسول بولس الحكيم يقول عنه "ليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح
يسوع ايضاً، الذي اذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاساً، ولكنه اخلى
ذاته واخذ صورة العبد، وصار في شبه الناس. ووضع ذاته" (فيلبي 2 : 5-8).

          اذ
قبل التجسد كان في صورة الله أي في المساواة مع الآب، ولكن عندما تجسد، أضاف الى
ذلك قبول الروح القدس من السماء والتقديس، وحسب منطق هؤلاء، يصبح في وضع أفضل
وأعظم مما كان عليه، مما يجعله يتفوق على وضع المساواة مع الآب. واذا كان قبول
الروح جعله ترتفع الى مستوى أعظم من مستوى الآب، فهو والروح يصبحان اعظم من الآب،
وبذلك يصبح الآب هو الذي يمنح السمو والعظمة التي ليست له. من لا يرتعد خوفاً من
سماع هذا الكفر؟!!

          بالحقيقة
ان مجرد كتابة هذه الأفكار التي لا تخرج مطلقاً عن اطار منطق كفر هؤلاء هو ايضاً
صعب، ولكن غباوة هؤلاء لا يمكن مطاردتها الا بمثل هذه الطريقة. لكن علينا ان نسأل
هؤلاء هل حصل الكلمة الله عندما صار انساناً على الروح القدس وتقدس؟ وماذا قبل
التجسد، عندما كان في صورة الآب اي في المساواة، هل كان في التقديس؟ عليهم الآن ان
يجيبوا بكل صراحة، لأنه ان كان قبل التجسد غير قدوس، فالآب ايضاً غير قدوس، لأن
الابن فيه وهو في الابن وفي مساواة تامة. وهذا يعني ان الابن لم يكن قدوساً منذ
البدء، وصار كذلك في الأيام الأخيرة عندما تجسد. هل يوجد كفر أعظم من هذا.

          وأيضاً
اذا كان هو حقاً كلمة الله الذي قبل الروح، وتقدس في طبيعته الخاصة فعلى المعاندين
ان يقولوا، هل حدث تغير في الابن، هل صار أعظم أم أقل مما كان عليه أم ظل كما هو؟
واذا سرنا مع الهراطقة الطريق كله واخذنا بمنطقهم، فيمكننا ان نقول اذا لم يأخذ
الابن شيئاً من الروح القدس، وظل كما هو بدون تغيير، فلا تتضايقوا عندما تسمعون
انه "نزل عليه".

          واذا
كان قد تغير عندما قبل الروح وصار أقل فأنتم تقدمون الينا كلمة متغير، وتتهمون
جوهر الآب بالنقص وليس بالتقديس. واذا كان الكلمة صار أفضل عندما قبل الروح، مع
انه اصلاً في صورة ومساواة الآب فالآب نفسه لم يرتفع الى نفس المستوى من المجد
الفائق الذي ناله الابن. وهنا من المناسب ان أقول للهراطقة الجهلاء "ها هو
الشعب الغبي الذي بلا فهم الذين لهم عيون لا تبصر، وأذان لا تسمع، لأن اله هذا
الدهر أعمى عيون غير المؤمنين حتى لا يضيء لهم انجيل مجد المسيح (ارميا 5 : 12 –
2كورنثوس 4 : 4) لكن ما قدمناه من أفكار هو صحيح، حتى اذا كنا لم نحاول ان نشرح
ذلك من قبل بشكل كامل. لأن شرحنا سوف يدور حول ما تكلم به بولس الرسول والذي
قدمناه كاعتراض على فكر الهراطقة المنحرف "ليكن فيكم هذا الفكر الذي كان في
المسيح يسوع ايضاً، الذي اذ كان في صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاساً، بل
أخذ صورة العبد وصار في شبه الناس واذ وجد في الهيئة كانسان وضع نفسه.."
(فيلبي 2 : 5-8) فها هو الرسول يتعجب من الابن الذي في مساواة مع الآب، ليس بسبب
محبة الآب لنا، وصل الى ذلك، بل العكس صحيح ان محبته لنا جعلته ينزل الينا الى
حقارتنا، وصار في صورة العبد، وأخلى ذاته بسبب ناسوته.

          ولكن
يا سادتي اذا كان الابن قد قبل الروح القدس وتقدس كما تدعون، عندما صار انساناً،
وصار بالتقديس الذي قبله أعظم مما كان عليه اي أعظم من ذاته. فما هو التنازل الذي
حدث في التجسد وكيف تم الإخلاء؟ كيف أخلى ذاته وتمجد في نفس الوقت؟ كيف تنازل الى
التقديس؟ أليس التقديس ارتفاع ومجد؟ كيف أخلى ذاته، وقبل الروح القدس في نفس
الوقت؟ او كيف يمكن ان تقول على وجه الاطلاق انه تجسد لأجلنا؟ وكيف يمكن ان ندعي
انه نال فائدة عظمى عندما تجسد لأجلنا وسمى ذلك تنازلاً؟ كيف صار الغني فقيراً
لأجلنا، لكي نغتني نحن بفقره (2 كورنثوس 8 : 9).

          أو
كيف كان غنياً قبل ظهوره في الجسد اذا كان حسب ادعاء الهراطقة قد أخذ في التجسد ما
لم يكن له من قبل اي الروح القدس؟

          ألا
يحق للابن اذاً ان يقدم لنا تسبحة شكر على ما أخذه بسببنا؟ اننا نقول عن كل هذا
"تعجبي ايتها السموات وارتعدي يقول الرب، لأن شعبي" الهراطقة "قد
ارتكبوا شرين" : "لا يفهموا ما يقولون، ولا ما يقررون" (ارميا 2 :
12 – 13 – 1تيموثاوس 1 : 7).

          انهم
لا يقدرون الخطر الذي يقعون فيه عندما يحرفون هذه الأمور العالية والثقيلة! ومن
الأفضل ان يسكبوا دموعاً غزيرة وان يصرخوا بصوت عال الى الله قائلين "ضع
يارب، حارساً على فمي، واحفظ باب شفتي، لا تمل قلبي الى كلمات الشر" (مزمور
141 : 3-4) لأن كلمات الشر هي حقاً كلماتهم لكي تدمر السامعين، لكننا نحن قد طرحنا
ترهاتهم من قلوبنا لكي نسير في طريق الايمان المستقيم، حافظين في عقولنا ما هو
مكتوب : "طارحين كل ظنون وكل فكر يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر الى
طاعة المسيح" (2كورنثوس 10 : 5). اذن لنحصر عقولنا الى أسر المسيح لا سيما
الموضوع الذي نحن بصدده لكي نخضع لمجد الابن الوحيد كل فكر، قائلين الحكمة النابعة
من طاعته، اي تجسده. فهو الغني الذي لأجلنا صار فقيراً، "لكي نستغني نحن
بفقره" (2كورنثوس 8 : 9).

          اقبلوا
ان شئتم، برهاننا، على ما سنقول، لكن افتحوا اذان الاحتمال لكلماتنا. ان الأسفار
الالهية تعلمنا ان الانسان خلق على صورة الله ومثاله، الذي هو فوق الكل. والذي جمع
لنا الأسفار الخمسة الأولى موسى الذي شهد الله عنه بأنه أكثر من عرف الله (خروج 33
: 17س) يقول "خلق الله الانسان، على صورة الله خلقه" (تكوين 1 : 27).
ولكنه بالروح القدس ختم الصورة الالهية في الانسان، وموسى يعلمنا عن هذا ايضاً قائلاً
"ونفخ في انفه نسمة حياة" (تكوين 2 : 7). فأعطى الروح القدس فوراً حياة
في الخليقة وبشكل الهي طبع صورة الله في الانسان. وهكذا فان الله الصانع الحكيم،
اذ صنع المخلوق العاقل الحي على الأرض، اعطاه الوصية المخلصة. وكان الانسان في
الفردوس كما هو مكتوب (تكوين 2 : 8) يحفظ العطية، مالكاً الصورة الالهية بالروح
القدس الذي سكن فيه ولكن عندما حالت فخاخ الشيطان بينه وبين أكرام الله وبدأ يحتقر
خالقه، ويدوس الناموس الذي أعطاه الله اياه، ويحزن المحسن اليه، نزع الله النعمة
التي اعطيت له، والذي خلق للحياة سمع لأول مرة "تراب أنت، والى التراب
تعود" (تكوين 3 : 19).

          أما
شبه الله فبدخول الخطية بدأ يبهت، ولم يعد الختم مشرقاً لامعاً، بل بدأ يظلم بسبب
التعدي. وعندما كثر جنس البشر الى اعداد لا تحصى، وسادت الخطية على الكل، وصارت
تدمر نفس كل انسان تدميراً كاملاً، نزعت من طبيعة الانسان النعمة الأولى وفارق
الروح القدس تماماً الطبيعة الانسانية، وسقطت الطبيعة العاقلة في أعماق الغباوة،
وصارت تجهل الله خالقها. ولكن خالق الكل احتمل ذلك لفترة طويلة واشفق على العالم
الفاسد، ولأنه الله الصالح، فقد أسرع لكي يجمع قطيعه الشارد على الأرض ويضمه الى
الذين فوق (الملائكة) وقرر أن يعيد الطبيعة الانسانية فيه من جديد الى الصورة
الأولى بالروح القدس. ولم يكن طريق آخر ممكن ان تطبع الصورة الالهية بواسطته من
جديد وتشرق في الانسان كما كانت أولاً.. فماذا جهز الله ليحقق هذا؟ وكيف أعاد غرس
النعمة غير المغلوبة؟ أو كيف تجذر الروح القدس في الانسان؟

          من
اللائق ان نقول بأي طريقة أعيد خلق الطبيعة الانسانية الى حالتها الأولى؟ الانسان
الأول، ترابي من تراب الأرض، وكان في قدرته الاختيار بين الخير والشر، لأنه يميل
الى الخير او الشر ولكنه سقط بمكر وخدعة لئيمة، ومال الى العصيان، فسقط الى الأرض،
الأم التي خرج منها، وساد عليه الفساد والموت، ونقل العقوبة الى كل الجنس البشري
كله. ونما الشر وكثر فينا وانحدر ادراكنا الى الأسوأ وسادت الخطية، وبالإجمال ظهر
ان الطبيعة الانسانية تعرت من الروح القدس الذي سكن فيها. "لأن روح الحكمة
يهرب من الخداع" وكما هو مكتوب "ولا يسكن في الجسد الخاضع للخطية"
(حكمة 1 : 4 سبعينية) ولأن آدم لم يحتفظ بالنعمة التي اعطاها الله له قرر الله
الآب ان يرسل لنا آدم الثاني من السماء. فنزل الى شكلنا، ابنه الوحيد، الذي هو
بالطبيعة بلا تغيير او اختلاف، بل لم يعرف الخطية مطلقاً، حتى كما
"بعصيان" الأول خضعنا للغضب الالهي (رومية 5 : 19)، هكذا بطاعة الثاني
نهرب من اللعنة وكل شرورها تنتهي. ولكن حينما صار كلمة الله انساناً، قبل الروح
القدس من الآب كواحد منا، ولم يقبله كأقنوم في ذاته، لأنه كأقنوم هو واهب الروح
وانما الذي لم يعرف خطية، عندما يقبل الروح كانسان، يحفظ الروح لطبيعتنا، لكيما
تتأصل فينا النعمة التي فارقتنا. لذلك السبب اعتقد ان المعمدان القديس اضاف
"رأيت الروح نازلاً من السماء واستقر عليه". لقد فارقنا الروح بسبب
الخطية، لكن الذي لم يعرف خطية، صار كواحد منا لكيما يتعود الروح القدس على السكن
فينا، بدون مناسبة للمفارقة او الانسحاب منه. لذلك أخذ الروح القدس فيه، ليجدد،
الصلاح الأول لطبيعتنا. وعن ذلك قيل ايضاً : "لأجلنا افتقر" (2كورنثوس 8
: 9) لأنه وهو الغني كالله ولا يحتاج لأي صلاح، صار انساناً يحتاج الى كل شيء،
وعنه قيل بكل صواب "وأي شيء لك لم تاخذه"؟ (1 كورنثوس 4 : 7).

          وأيضاً
وهو بالطبيعة الحياة، مات بالجسد لأجلنا، لكي يغلب الموت لأجلنا ويقيم طبيعتنا
كلها فيه، (لأن الكل كان فيه بصيرورته انساناً)، وهكذا ايضاً، قبل الروح القدس
لأجلنا، لكي ما يقدس طبيعتنا كلها. لأنه لم يأت لكي ينفع نفسه بل لكي يصبح لنا
جميعاً، الباب والبداية والطريق لكل الخيرات السمائية. ولو كان قد رفض ان يقبل
(الروح) كإنسان، او ان يتألم عنا كواحد مثلنا، فكيف يمكن لأي انسان ان يوضح انه
وضع ذاته؟

          او
ما الداعي لأن يحتفظ بصورة العبد، اذا لم يكن شيء خاص بصورة العبد قد كتب عنه.
وعلينا ان لا نقطع التدبير الحكيم الى اجزاء، لأن بولس يصرخ مندهشاً من التدبير
"لكي يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في الأماكن السماوية بواسطة الكنيسة
بحكمة الله المتنوعة حسب القصد الأزلي الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا" (أفسس
3 : 10-11).

          وحقاً
عظيم هو سر التجسد الذي رأيناه مملوءاً حكمة الهية. هكذا يجب ان نفهم المخلص، نحن
الذين اخترنا طريق التقوى، ونبتهج بالتعاليم الارثوذكسية. لأننا لن ننحدر الى عدم
التعقل. لكي نعترض ان الابن كأقنوم ينال الروح القدس، لأنه بسبب وحدة الجوهر،
فالروح موجود في الابن، كما هو في الآب ايضاً، لأنه كما ان الروح القدس من الآب
كذلك هو من الابن، كما هو مكتوب "فلما أتوا الى ميسيا حاولوا ان يذهبوا الى
بثينية، فلم يدعهم روح يسوع" ([vi])
(أعمال 16 : 7).

          لكن
اذا كان أحد لم يستحسن ما قلناه، ويعترض على الشرح الذي قدمناه، وبغيرة عمياء يدعي
ان الابن ينال الروح القدس بالمشاركة او انه لم يكن فيه من قبل، ثم حل الروح فيه
عندما اعتمد واثناء فترة التجسد، فعليه ان يرى الى أي درجة من عدم الادراك سوف
يسقط. لأنه أولاً يقول المخلص : ليس بين المولودين من النساء من هو أعظم من يوحنا
(متى 11 : 11)، وهذا حق، ولكننا نرى ان الذي وصل الى هذه المكانة والمجد والفضيلة
كانسان، يكرم المسيح بكرامة لا يمكن مقارنتها. فهو يقول "أنا لست مستحقاً ان
انحني وأحل سيور حذائه" (مرقس 1 : 7). فكيف لا يبدو غير معقول، بل بالحقيقة
كفر، ان نؤمن ان يوحنا "امتلأ من الروح القدس من بطن أمه" (لوقا 1 :
15)، ونعتقد ان سيده، بل سيد ورب الكل قبل الروح القدس عندما اعتمد، مع ان جبرائيل
يقول للعذراء القديسة "الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، لذلك القدوس
المولود منك، يدعى ابن الله" (لوقا 1 : 35) وعلى محب المعرفة ان يرى قوة
الكلمات التي تتمخض بالحق. لأنه يقول عن يوحنا "يمتلئ من الروح القدس (لأن
الروح القدس صار فيه كعطية وليس بالجوهر) أما عن المخلص فالملاك لا يقول "سوف
يمتلئ" بالمعنى الدقيق للكلمة بل "القدوس المولود منك" ولم يقل
"المولود منك سوف يصير قدوساً" فهو دائماً قدوس بالطبيعة لأنه الإله.

          ولكنني
اعتقد انه يجب ان نبحث عما يليق من كل الزوايا، فان دراسة بشارة الملاك نفسها
تدريب عملي على التقوى، وياليتنا نتقدم فيه قليلاً قليلاً. يقول الملاك
"الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، لذلك القدوس المولود منك يدعى ابن
الله". وعلى الذين يقاومون التعليم الارثوذكسي للكنيسة ان يقولوا لنا هل كان
الكلمة قبل التجسد هو ابن الله، ام كان له مجد البنوة بالاسم فقط، وهل دعي زوراً
الابن ام هو بالحقيقة كذلك؟ فاذا قالوا انه لم يكن الابن بالمرة، فبذلك ينكرون
الآب ايضاً، كمن لا ابن له، وهذا الاعتقاد مضاد تماماً للأسفار المقدسة. واذا
اعترفوا بأنه الابن قبل التجسد، وانه كان وسيظل الابن فكيف يقول الملاك في البشارة
للعذراء القديسة ان الذي سيولد منها سيدعى ابن الله؟ لكنه بالطبيعة ابن الله، لأنه
كذلك منذ الأزل مع الآب، ولكن عند التجسد، ولأنه سوف يظهر في العالم بالجسد يؤكد
الملاك انه سيدعى ابن الله، أي لن يفقد طبيعته الالهية.

          كذلك
ايضاً فالابن له الروح حسب وحدة الجوهر، ولكنه قيل انه سوف يقبله كانسان لكي يحفظ
للانسانية الصلاح الذي تحتاجه ومع هذه العطية يحفظ لنا كل ما يمكن ان نأخذه. ولكن
كيف يمكن ان نعتقد ان الكلمة يمكن ان يكون منفصلاً عن روحه؟ الا يكون غير معقول ان
نقول ان روح الانسان ليست فيه، وحسب تعريف طبيعة الانسان الكاملة والحية، هل يمكن
ان نتكلم عن انسان بلا روح. وافترض ان هذا واضح جداً للكل، فكيف يمكن ان نفصل
الروح القدس عن الابن، الذي هو معه، ومتحد به في الجوهر الواحد، والذي به ينبثق،
وهو موجود فيه بالطبيعة، ولا يمكن ان يكون مختلفاً عنه لأنه اقنوم مثله، له ذات
الطبيعة الالهية التي للابن. وعلينا ان نسمع ما يقوله المخلص لتلاميذه. "ان
كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب وهو سيعطيكم معزياً آخر، روح الحق
الذي لا يستطيع العالم أن يقبله" (يوحنا 14 : 15-17) وها هو يقول عن الروح
القدس "روح الحق" والابن وحده وليس آخر غيره هو الحق، لأنه يقول
"أنا هو الحق" (يوحنا 14 : 6). واذا كان الابن بالطبيعة يدعى الحق،
فعلينا ان نرى كم هي عظيمة الوحدة التي بينه وبين الروح القدس، وهي التي جعلت يوحنا
الرسول يقول عن مخلصنا "هذا الذي جاء بالماء والدم والروح، يسوع المسيح ليس
بالماء فقط، وانما بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق" (1
يوحنا 5 : 6) ولذلك السبب نفسه اذ يحل الروح القدس في انساننا الداخلي (أفسس 3 :
16)، يقال ان "المسيح نفسه هو الذي يحل فينا" (افسس 3 : 17) وحقاً
يعلمنا بولس المبارك ذلك قائلاً "ولكنكم لستم في الجسد ولكن في الروح، ان كان
روح الله ساكناً فيكم. والآن اذا كان انسان ليس له روح المسيح فهو ليس للمسيح. وان
كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية، أما الروح فحياة بسبب البر" (رومية
8 : 9-10). أعطوا آذاننا صاغية يا سادة، لما سمعتم. لأن الرسول يسمي الروح الساكن
فينا، روح المسيح، ولذلك فوراً يضيف "وان كان المسيح فيكم" مقدماً بذلك
المساواة التامة بين الابن والروح، "نصرخ أبا ايها الآب" (رومية 8 : 15)
وكما يقول يوحنا المبارك "بهذا نعرف انه ساكن فينا، لأنه قد اعطانا من
روحه" (1 يوحنا 4 : 13).

          اعتقد
ان ما ذكرت يكفي ابناء الكنيسة لمقاومة أخطاء الهراطقة ولكن ان كان أحد معتاداً ان
يشرب الخمر الرديء الذي يقدمه الهراطقة لكي يسكر به ويفترض ان الابن قبل الروح
القدس عندما تأنس. فعليه ان يعلن رأيه بصراحة ويقول ان كلمة الله لم يكن قدوساً
قبل تجسده، وهذا الكفر الظاهر يجعلنا نكف عن مناقشته ونحتفظ بسلامنا الداخلي.

          يمكن
ان نتعجب كيف يحتفظ الانجيلي القديس بالكلام الدقيق الذي يليق بالطبيعة الالهية.
فقد قال سابقاً "الله لم يره أحد قط"، ولكنه يقول عن المعمدان أنه
"رأى الروح نازلاً من السماء" على الابن، ويضيف بالضرورة "رأيت
الروح" ولكن في شكل حمامة، فهو لم ير الروح كما هو في طبيعته، وانما في ظلال
وداعة الطائر. وبذلك حفظ لنا الانجيلي المساواة ايضاً بين اقنوم الابن واقنوم
الروح، فالابن يقول عن نفسه "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (متى
11 : 29). فالروح لم يظهر مطلقاً، لأنه الله، واحتفظ بطبيعته الالهية غير الظاهرة،
وظهر فقط بشكل حمامة، بسبب الاعلان الذي قدم ليوحنا المعمدان، الذي قال ان نزول
الروح وهب له كعلامة، لكي يشهد للمخلص "والذي ارسلني لأعمد بالماء، هو نفسه
قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، هو نفسه الذي يعمد بالروح
القدس".

          اعتقد
اننا نستطيع ان نضحكم من آراء الهراطقة غير عابئين بما يقولونه، لأنهم أخذوا
العلامة على غير معناها، مع انها اعطيت كعلامة فقط ولأجل اعلان تدبير، وكما قلت
أكثر من مرة وبسبب حاجة الجنس البشري.

يو
1 : 34- "وأنا قد رأيت وشهدت ان هذا هو ابن الله" :

          صادقة
هذه الشهادة، فالذي رأى تكلم بما رآه. فهو لا يجهل ما هو مكتوب "ما تراه
بعينيك ايه اخبر" (أمثال 25 : 7 س) "رأيت" العلامة وفهمت ما هو
المقصود منها، لكي أشهد ان هذا هو ابن الله الذي أعلنه الناموس بواسطة موسى، وبشرت
به أصوات الأنبياء القديسين.

          ولكي
يبدو لي ان الانجيلي المبارك يسجل شهادة يوحنا المعمدان بثقة عظمى "هذا هو
ابن الله" أي الواحد الوحيد بالطبيعة ووارث طبيعة الآب ذاتها، وبالابن نحن
نتشبه، وبه ندعى بالنعمة الى كرامة البنوة. لأن كل شيء من الله الآب ولذلك منه
"تسمى كل عشيرة في السماء وعلى الأرض" (أفسس 3 : 15)، فهو الآب حقاً وهو
الآب الأول والحقيقي، وكذلك كل بنوة هي من الابن، بسبب انه هو الابن حقاً، الذي من
جوهر الآب، وليس بالاسم فقط. فهو لم ينفصل، ولا أنقطع عن الآب، فالطبيعة الالهية
لا تقبل التجزئة، بل الابن واحد من واحد، كائن مع الآب الذي منه ولد، وهو في الآب،
ويشرق من الآب، غير منظور وغير متجزئ وبلا حدود، لأن اللاهوت ليس مثل الجسد، ولا
محصور في مكان، ولا من طبيعة تتقدم تدريجياً وتنمو مثل الكائنات المخلوقة. بل
اللاهوت مثل الحرارة الصادرة من النار، يمكن تمييزها فكرياً، وادراكها متميزة عن
النار، ولكنها في النار، ومن النار، وتصدر عن النار دون انفصال، او انقطاع، لأنها
في النار كلها وليس في جزء منها، وهكذا نعتقد في المولود الالهي. وندرك ان هذا
التشبيه يليق بالله. فالابن له اقنومه المتميز عن أقنوم الآب، دون ان ينفصل عن
اللاهوت الواحد الفائق، ولا نقول ان له جوهراً آخر غير جوهر الآب. لأنه بدون وحدة
الجوهر لا يمكن ان نقول بصواب انه الابن، بل يكون آخر غير الابن، او اله جديد قد
ظهر غير الاله الحقيقي الذي هو كائن منذ الأزل، فكيف لا يكون من هو ليس من جوهر
الآب نفسه بالطبيعة، سوى آخر غير الاله الحق؟ ولكن حيث ان المعمدان المبارك هو
شاهد صادق، له سمعة عظيمة ويشهد ان "هذا هو ابن الله"، سوف نعترف ان
الابن هو الاله الحق، من جوهر الآب ذاته، وهذا وحده ولا سواه هو معنى اسم الابن.

يو
1 : 35-36 "وفي اليوم التالي ايضاً كان يوحنا واقفاً هو واثنان من تلاميذه.
فنظر الى يسوع ماشياً فقال هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" :

          لقد
أشار اليه المعمدان من قبل، ولكن هل هو يعيد نفس الكلمات، ويشير لتلاميذه بأن يسوع
هو حمل الله الذي يسير أمامه وأنه هو الذي يرفع خطية العالم. هذه الشهادة تهدف الى
ان تذكر السامعين بالذي قال عنه الانبياء "انا هو الماحي ذنوبك ولا أذكر
خطاياك" (اشعياء 43 : 25). وليس عبثاً ان يكرر المعمدان نفس الكلام الذي قاله
سابقاً عن المخلص، لأن كفاءة المعلم، ان يثبت في نفوس التلاميذ الكلمة الخاصة
بالتعليم، ولا يتردد في أن يكرر، وانما يحتمل التكرار من أجل فائدة التلاميذ.
ولذلك يقول بولس المبارك "كتابة نفس الأمور اليكم، ليست على ثقيلة وأما لكم
فهي مؤمنة" (فيلبي 3 : 1).

يو
1 : 37- "فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع" :

          هل
ترون الثمرة ابنه التعليم الصحيح؟ هل ترون قيمة التكرار؟ وعلى الذين اؤتمنوا على
التعليم ان يتعلموا من هذا ان يكون مرتفعاً فوق التكاسل، وان يعتبر الصمت أشد
ضرراً لنفسه من السامعين، وان لا يدفن وزنة الرب في تل من التهاون مثل الذي دفن في
الأرض وزنته بل ان يعطي النقود للصيارفة، (متى 25 : 18-27). لأن المخلص سوف يسترد
نقوده مع الفوائد، وكما يحي البذرة في التراب، كذلك يفعل بالكلمة. وهنا لدينا
برهان كاف عما قلناه. لأن المعمدان لا يتوانى عن الاشارة الى الرب لكي يدرك
تلاميذه انه الآتي. وعندما سمعه تلاميذه في المرة الثانية "هوذا حمل الله".
فقد استفادوا فائدة عظمى من التكرار؟ حتى ان التكرار نفسه حملهم على ان يتبعوه،
وان يطلبوا التلمذة له.

يو
1 : 38- "فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان. فقال لهما ماذا تطلبان" :

          يليق
بالرب ان يلتفت للذين يتبعونه، لكي نتعلم بالعمل ما قيل في المزمور "طلبت
الرب، فاستمعني" (مزمور 34 : 4). لأننا عندما لا نطلب الحياة الفاضلة
والايمان الحق، نصبح كما لو كنا خلفه، ولكن عندما نعطش للناموس الالهي ونختار طريق
البر المقدس، فهو سوف يلتفت الينا ويصرخ بما هو مكتوب "التفتوا الى فالتفت
اليكم يقول رب الجنود" (زكريا 1 : 3). ولكن يسوع يقول لهما ماذا تطلبان؟ ليس
لأنه يجهل ما يطلبان، كيف يمكن ان يحدث هذا فهو كاله يعرف كل شيء وانما جعل السؤال
بداية وأساس حديثه.

"فقالا،
يا معلم اين تمكث" :

          مثل
أناس تعلماً جيداً حسن الكلام ويجيبان حسناً، وها هما يقولان له "يا
معلم" أي ايضاً "يا سيد" وهو تعبير يؤكد استعدادهما لكي يتعلما.
ويطلبان ان يعرفا منزله فهو أكثر مكان مناسب يمكن ان يجدا فيه احتياجهما. وربما
شعراً بأن الحديث عن احتياجهما في الطريق العام هو غير مناسب لا سيما مع رفاق
السفر وما قيل هنا هو مثال مناسب لنا جميعاً عن العلاقة بين المعلم والتلميذ.

يو
1 : 39- "فقال لهما تعاليا وانظرا" :

          لا
يشير المسيح الى المنزل مع انهما سألا عنه بشكل واضح، لكنه يسألهما ان يأتيا اليه
وجعل هذا مثالاً للسلوك الصالح لأن كل من يريد ان يبحث عن ما هو صالح، عليه ان لا
يتأخر بالبحث عن أمور فرعية، لأن التأخير مضر.

          وبالإضافة
الى ذلك كان هذان يسجلان البيت المقدس لمخلصنا المسيح، أي الكنيسة ولا يكفي بالمرة
للخلاص ان يعلما اين هي، ولكن ان يدخلا اليهما بالايمان، لكي يشاهدا الاشياء التي
تمت فيها سرياً.

"فأتيا
ونظرا اين يمكث، ومكثا عنده ذلك اليوم. وكان نحو الساعة العاشرة".

          بشوق
يطلب التلميذان معرفة الأسرار الالهية. واعتقد ان العقل المزدوج والمنقسم يناسب
الذين يشتهون المعرفة، وانما على الذي يبحث عن المعرفة الالهية ان يكون ثابتاً،
مرتفعاً فوق الخرافات غير عابئ بالتعب المقدس، وهكذا خلال الحياة كلها يواصل ما
يسعى اليه بغير تامة. وهذا معنى الكلمات "ومكثا عنده ذلك اليوم". ولكن
عندما يقول "وكان نحو الساعة العاشرة". فان كل انسان يستطيع ان يصل الى
المعنى الذي يناسب ادراكه لأن كاتب الالهيات، أراد ان يوصل الينا معنى خفياً يصعب
ادراكه لأول وهلة، وأراد ان يعلمنا انه ليس في بداية العالم العالم أعلن السر
العظيم الخاص بالمخلص، وانما في نهاية الدهور. لأنه في الأيام الأخيرة، يكون
"الكل متعلمين من الله" (اشعياء 54 : 13). ويمكننا ان نأخذ ايضاً الرمز
الذي أراده الانجيلي من الساعة العاشرة، لأن التلميذين مكثا مع المخلص، وصارا
ضيوفه، وهكذا الذين بالايمان يدخلون البيت المقدسة (الكنيسة) ويتقابلون مع السيد
المسيح، عليهم ان يتعلموا ان يمكثوا معه، وان لا يرغبوا في الاغتراب عنه، او
الابتعاد عنه بالعودة الى الخطية، او العودة الى عدم الايمان.

يو
1 : 40-41 "كان اندراوس اخو سمعان بطرس واحداً من الاثنين اللذين سمعا يوحنا
وتبعاه. هذا وجد أولاً أخاه سمعان فقال له قد وجدنا مسيا الذي تفسيره المسيح. فجاء
به الى يسوع" :

          عندما
أخذ الوزنة، على الفور بدءاً في الثمار، لكي يقدما الى الرب ما يخصه. وهكذا
بالحقيقة النفوس الطائعة الوديعة التي لا تحتاج الى كلمات كثيرة لكي تعمل ولا
يقدمون ثمار التعليم بعد سنوات وشهور من التعب، بل يصلون الى غاية حكمة التعليم مع
بداية تعليمهم. لأنه مكتوب اعط تعليماً للحكيم فيزداد حكمة، وعلم البار فيزداد
علماً" (امثال 9 : 9).

          اندراوس
يخلص اخيه أي بطرس، ويعلن له السر كله في كلمات قليلة، لقد وجدنا يسوع، الكنز المخفي
في حقل، او اللؤلؤة الكثيرة الثمن على حد تعبير أمثال الانجيل نفسه (متى 13 :
44-46).

يو
1 : 42 "فنظر اليه يسوع وقال انت سمعان بن يونا. انت تدعى صفا الذي معناه
صخرة".

          ينظر
المسيح الى سمعان نظرة الهية، أي نظرة من يعرف القلب والاحشاء "ارميا 20 :
12) ويرى الدرجة العالية التي سيصل اليها التلميذ في ادراكه للتقوى، وكيف سيترك
خلفه آثاراً لا تمحى. والذي يعرف الاشياء قبل ان تكون، لا يجهل شيئاً، ولذلك يبدأ
على الفور يعلم التلميذ ويبدأ بالدعوة نفسها، لأنه الاله الحق الذي له معرفة لم
يتعلمها من أحد. فهو لو يكن محتاجاً الى كلمة او حتى اشارة لكي يعلم من هو، ومن
اين جاء صفا (بطرس). ويقول له فوراً اسم ابيه، واسمه، بل لا يسمح له بأن يكون اسمه
سمعان فهو يمارس سلطان ربوبيته عليه، لأنه يملك الكل ولذلك فهو ايضاً يخصه. ويغير
اسمه من سمعان الى بطرس
Petra أي
صخرة، أي يشير الى الاساس الذي سوف يبني عليه كنيسته (متى 16 : 18).

يو
1 : 43 "وفي اليوم الذي بعد ذاك أراد يسوع ان يخرج الى الجليل فوجد فيلبس
فقال له اتبعني".

          كان
فيلبس من نفس نوع الرجال الذين تقابلوا مع المسيح، وكان على استعداد لأن يتبع
المسيح. وكان المسيح يعرف انه سيكون تلميذاً صالحاً. لذلك يقول له
"اتبعني" جاعلاً هذه الكلمة علامة على النعمة التي سينالها، ولذلك يأمره
بأن يتبعه. وهذه شهادة بأن تغييره كان فائقاً. ولذلك اختاره، عالماً انه سيكون
صالحاً.

يو
1 : 45 "فيلبس وجد نثنائيل، وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء
يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة".

          بسرعة
فائقة يجمع التلميذ الثمر، لكي يلحق باللذين سبقوه من التلاميذ. لقد "وجد
نثنائيل" وهذا لا يعني انه تقابل معه من مدة طويلة، بل يبحث عنه بكل اهتمام.
فقد كان يعلم ان نثنائيل مجاهد محب للمعرفة. وهذا ظاهر من الكلمات الموجهة اليه.
وجدنا الذي كتبت عنه الأسفار المقدسة، فهو لم يكن يتكلم مع شخص جاهل، بل مع من هو
متعلم جيداً فيما يخص موسى والانبياء. ومع هذا كانت هناك أفكار خاطئة كثيرة منتشرة
بين اليهود عن يسوع مخلصنا، مثال ذلك انه سيكون من قرية الناصرة مع انه حسب
الاسفار الالهية سيكون من بيت لحم حسب النبوة "وأنت يا بيت لحم ارض يهوذا،
بيت افراثه، لست الصغرى بين ألوف يهوذا، لأن منك سوف يأتي الذي يملك في اسرائيل،
وخروجه من القديم منذ الأزل" (ميخا 5 : 2 سبعينية) والحقيقة ان يسوع من بيت
لحم ولكنه تربى وكبر في الناصرة، حسب شهادة الانجيلي نفسه الذي قال "وجاء الى
الناصرة حيث كان قد تربى" (لوقا 4 : 16)، ولكنه لم يكن مطلقاً من الناصرة بل
من بيت لحم حسب شهادة الانبياء. ومن هذا ندرك ان فيلبس اذ يتبع الأفكار الشائعة
بين اليهود لذلك يقول يسوع الذي من الناصرة.

يو
1 : 46 – فقال له نثنائيل "أمن الناصرة يمكن ان يكون شيء صالح".

          نثنائيل
مستعد ان يوافق ان شيئاً عظيماً وهاماً، يتوقع الكل ان يستعلن لا يمكن ان يأتي من
الناصرة. واعتقد انه واضح جداً، لم يعتبر الناصرة، المكان الذي كان سيأتي منه
المسيح لأن معرفته بالناموس والأنبياء، لا تنبئ بذلك وكشخص متعلم ويفهم لم يقبل
بسرعة ما قاله فيلبس.

"تعال
وانظر" :

          يقول
فيلبس ان النظر يكفي لإقناع الايمان، واذا تحدثت معه سوف تعترف بسبب استعدادك،
وبدون تردد سوف تقول، انه هو الآتي. ومعنى الكلمات "تعال وانظر" هو ان
الكلمات التي كانت تسمع من المخلص كانت الهية محملة بالنعمة، تجذب نفوس السامعين.
لأنه مكتوب ان الكل "تعجب من كلمات النعمة الخارجة من فمه" (لوقا 4 :
22). ولأن كلمته قوية في فعلها فهي قادرة على ان تجذب السامعين.

يو
1 : 47 – "هوذا اسرائيلي حقاً لا غش فيه".

          لم
يكن المسيح قد أجرى آيات بعد، ولذلك لجأ الى اسلوب آخر لكي يقنع تلاميذه والحكماء
من بين الذين أتوا اليه، بأنه بالطبيعة ابن الله، ولكنه بسبب خلاص الكل جاء في شكل
بشري. وما هو بديل المعجزات، انه معرفة الخفيات، التي هي خاصة بالله. وهنا يقبل
نثنائيل ليس بكلمات الإطراء، بل بما يشعر به نثنائيل، مقدماً له عربوناً بأنه يعرف
القلوب كاله.

يو
1 : 48 "من اين تعرفني".

          بدأ
نثنائيل يتعجب، وبدأت دعوته الى ايمان ثابت، ولكنه يرغب في ان يعرف من اين حصل
المسيح على ما عرفه عنه. لأن النفوس التقية والمحبة للتعليم هي دقيقة جداً، ولعله
افترض ان بعض ما يعرفه الرب جاء عن طريق فيلبس.

"قبل
ان دعاك فيلبس وانت تحت التينة رأيتك" :

          هنا
ينهي المخلص تعجبه قائلاً له قبل ان تتقابل مع فيلبس، وقبل ان تتحدث معه،
"رأيتك تحت التينة" بدون ان أكون حاضراً معك بالجسد. وما أعظم منفعة
التينة والمكان، مؤكداً له حقيقة أنه رآه. ولأن المسيح كانت لديه معرفة دقيقة بما
يعرفه نثنائيل عن نفسه، خضع له نثنائيل على الفور.

يو
1 : 49 "يا معلم انت ابن الله، انت ملك اسرائيل".

          يعرف
نثنائيل ان الله وحده فاحص القلوب، وهو وحده الذي يعرف الخفيات، ولا يشاركه أحد في
هذه المعرفة، وهو ما قيل عنه في المزمور "الله فاحص القلوب والكلى"
(مزمور 7 : 9) ولم ينسب المرنم الى أحد آخر هذه الصفة بالذات سوى الله وحده.

          وعندما
رأى نثنائيل ان الرب رأى افكاره وهي تدور في عقله، دون ان تتحول الى صوت مسموع او
حتى همسات، على الفور قال له "يا معلم"، وأعلن بذلك استعداده لأن يدخل
في التلمذة، وباعترافه بأنه "ابن الله وملك اسرائيل" أكمل التلمذة، لأن
هذه هي صفات اللاهوت، ونثنائيل كشخص متعلم جيداً يؤكد ان يسوع هو تماماً وبالطبيعة
الله.

يو
1 : 50 "هل آمنت لأني قلت لك اني رأيتك تحت التينة سوف ترى أعظم من
هذا".

          يقول
المسيح له سيكون ايمانك أكثر ثباتاً، لا سيما عندما "ترى أعظم من هذا"
لأن الذي يؤمن بمجرد رؤيته آية واحدة، كيف لا يتقدم ايمانه اذا رأى آيات أخرى،
خصوصاً اذا كانت هذه الآيات أكثر وأعظم في قوتها.

51
– "الحق الحق أقول لكم : من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون
وينزلون على ابن الانسان".

          هذه
الكلمة هي دعوة عامة لكل الذين يؤمنون، وهي في نفس الوقت ختم ايمان نثنائيل. ولكن
القول بأن الملائكة سوف يرون، يصعدون وينزلون على ابن الانسان، أي يخدمون وينفذون
ما يأمر به، من اجل خلاص الذين يؤمنون، فان ذلك سوف يعلن بشكل خاص، انه بالطبيعة
ابن الله. لأن القوات العقلية السمائية، لا تخدم أحداً سوى الله وهذا لا يعني ان
الملائكة بعد التجسد لم تعد خاضعة بل كما نسمع في أحد الأناجيل، ان ملائكة جاءت
لكي تخدم مخلصنا المسيح (متى 4 : 11).



([i]) س تعني ان الشاهد مأخوذ من الترجمة السبعينية للعهد القديم.

([ii]) على أساس أن Archi تتضمن معنى السيادة.

(*) فجوة في النص نفسه.

(*) تحسب لنا.

([iii]) عدد من المخطوطات الرئيسية القديمة وجدت فيه
الآية هكذا "وارث بالله" بدلاً من "وارث لله بالمسيح".

([iv]) حرفياً: جوهر.

([v]) باليونانية Angeloi اي ملائكة او رسل.

([vi]) "روح يسوع" هكذا في الترجمة السريانية القديمة، وهكذا
وجدت ايضاً في أقدم المخطوطات.

هل تبحث عن  هوت طقسى علم اللاهوت الطقسى 57

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي