الإصحَاحُ
السَّادِسُ

 

مقدمة

          يعالج
القديس كيرلس في الإصحاحين السادس والسابع من الإنجيل للقديس يوحنا البشير موضوعات
متعددة جداً. والملاحظة العامة التي يلزم ان ننبه لها القارئ هو أنه من خلال آيات
الإنجيل يعطي تعليماً عقائدياً وفي نفس الوقت يعطي تعليماً روحياً بدون انفصال بين
شرح العقيدة والكلام في الايمان والحياة الروحية.

 

الأصحاح
السادس

          ففي
شرح الجزء الأول من أصحاح (6) (من 1-26) :

          وهو
الجزء الذي ورد فيه معجزة إشباع الجموع وكذلك معجزة سيره على الماء أثناء هبوب
الريح على سفينة التلاميذ، في هذا الجزء نجده يعطي المعنى الروحي لعبور المسيح الى
الجليل (يو 6 : 1). وأن هذا العبور من أورشليم الى الجليل يشير الى انتقال النعمة
الى الابن.

          كما
انه حينما يعلق على انصراف المسيح بعد المعجزة الى الجبل وحده (يو 6 : 15) فإنه
يربط بين الصعود الى الجبل والصعود الى السماء "مؤجلاً زمن استعلان ملكوته
بشكل أوضح لحين عودته الينا من أعلى حين ينزل في مجد الآب". وهذا تعبير عن
رفض المسيح للملك الأرضي الذي كان يحلم به اليهود، لأن مملكته ليست من هذا العالم.
ويعلق على مجيء المسيح ماشياً على البحر وإعلانه للتلاميذ قائلاً : "أنا هو
لا تخافوا"، فيقول ان : "الذين يحضر المسيح في وسطهم الآن، يرتفعون فوق
كل خطرٍ محدق".. "وأن نعمة المخلص تفتقدنا حينما يبدو الخطر نفسه عنيفاً
جداً.. حينئذٍ يظهر المسيح ويبدد مخاوفنا ويخلصنا من كل خطر.. ويصير هدوء
وسلام".

          وفي
الجزء الثاني من إصحاح (6) (من 27 – 40) :

          وهو
الجزء الذي يحوي حديث المسيح له المجد مع جمع اليهود ابتداء من "اعملوا لا
للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية" (27) حتى الآية "كل من
يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية.." (40).

          في
هذا الجزء يشرح القديس كيرلس أولاً باستفاضة معنى ان ابن الانسان قد ختمه الله
الآب ويرد في شرح هذه الآية على بدعتين : الأولى هي بدعة تقسيم المسيح الواحد الى
اثنين اي النسطورية دون ان يذكر صاحب البدعة بالاسم، ويختم كلامه في هذا الرد
بالقول ان المسيح "يريد ان ندرك عنه انه واحد.. فالمسيح هو واحد من كليهما
معاً" اي من اللاهوت والناسوت.

          أما
البدعة الثانية التي يرد عليها القديس كيرلس عندما يتحدث عن "ختم الله
الآب" فهي بدعة إنكار ألوهية الابن، ويبرهن انه من الآب بالجوهر وليس مخلوقاً
وغير منفصل عن الآب بل هو في الآب.

          ثانياً
: يعلق القديس كيرلس على قول المسيح لليهود "هذا هو عمل الله ان تؤمنوا بالذي
هو أرسله" بقوله : لأن من الحق اعتبار الخلاص بالايمان أفضل من العبادة بحسب
الظلال والناموس، والنعمة التي تبرر أفضل من الوصية التي تدين.

          وثالثاً
: يقدم القديس كيرلس في هذا الجزء دراسة مفصلة عن المن يشرح فيها من سفر الخروج كل
ما يتعلق بالمن عندما أعطاه الله بواسطة موسى وان المن المحسوس هو رمز للمن
الروحاني وأنه يرمز لحضور المسيح وللنعمة الروحية التي يعطيها لنا المسيح، وان
خلاصة الأمر بالنسبة للمن هي بعبارة مختصرة "ان المن الحقيقي هو المسيح
ذاته" لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم" (يو 6 :
33).

          ورابعاً
: يعلق القديس كيرلس في هذا الجزء على قول الرب "أنا هو خبز الحياة من يقبل
الي لا يجوع ومن يؤمن بي لا يعطش أبداً" ويقول ان المقصود بهذه الكلمات هو
الحياة والنعمة التي تنتقل الينا بواسطة جسده المقدس. وان المسيح يعطينا في "الأولوجية"
(اي الافخارستيا) حياة لا تفسد لأن هذا الجسد هو "جسد ذلك الذي هو الحياة
بالطبيعة". وعلى هذا الأساس يحث القديس كيرلس الذين اعتمدوا ان يعرفوا أنهم
ان تراخوا في الذهاب الى الكنائس وظلوا زماناً طويلاً بعيدين عن عطية الافخارستيا
بالمسيح وتظاهروا بورعٍ زائف بعدم اشتراكهم فيه سرائرياً فإنهم يقطعون أنفسهم عن
الحياة الأبدية" ويختم قوله في هذه الآية بأننا باشتراكنا في الافخارستيا
نصبح شركاء الطبيعة الالهية.

          وخامساً
: يشرح القديس كيرلس الآيات (38-40) من الاصحاح (6) والتي يتحدث فيها الرب عن
مجيئه ليعمل مشيئة الآب ويدافع في هذا الجزء عن ألوهية الابن وانه ليس أقل من الآب
في اي شيء لأنه منه بالطبيعة وان الخضوع للآب وهو في الجسد، اي ان يعمل مشيئة الآب
فهذا يقصد به عمل المشيئة الالهية في تتميم الخلاص بواسطة آلام المسيح على الصليب
وقيامته من الموت فيقول : "لما كان من المستحيل ان يعيد الى الحياة (اي
الانسان)، إن لم يصر الابن الوحيد انساناً، ولما كان الاحتياج هو بالكامل لمن خلق
الانسان ان يتألم فقد جعل ما لم يرده ارادته، وقد سمحت الطبيعة الالهية بذلك حباً
فينا.

وفي
الجزء الثالث من اصحاح (6) (من 14 – نهاية الإصحاح) :

          أولاً
: يعلق القديس كيرلس على كلمة الرب "ويكون الجميع متعلمين من الله" (يو
6 : 45) ويبين ان الله الآب يعلم بواسطة الابن ويبين ان كل أعمال الله الآب نحو
الناس هي أعمال الثالوث القدوس كله. فحينما يُقال ان الآب يعلن ابنه فإن الابن
نفسه يقوم بالأعلان ايضاً وهو نفس الأمر بالنسبة للروح القدس. وفي هذه النقطة يقدم
شرحاً مختصراً لعقيدة الثالوث.

          ثانياً
: يشرح أقوال الرب "أنا هو خبز الحياة..، أنا هو الخبز الحي..، والخبز الذي
أنا اعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم". وبقية الأقوال حتى (عدد
56) "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه" فيبين ان جسد المسيح يهب
الحياة وان المسيح بذل جسده لأجل حياة الجميع وأنه يموت جسده يموت الموت. ويقول ان
الحياة التي يعطيها الجسد هي في حقيقتها "الحياة في المسيح في قداسة وبركة
وفرح لا يخبو".

          ثالثاً
: وفي شرحه لقول الرب "الروح هو الذي يحيي اما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام
الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو 6 : 63). يقول ان جسد المسيح المتحد
بلاهوته هو الذي يعطي حياة لأنه جسد ذاك الذي هو الحياة بالطبيعة "وان الجسد
لا يفيد شيئاً لو انه لم يكن جسد المسيح الذي هو الحياة ويفسر القديس كيرلس كلمة
"الروح هو الذي يحي" على ان الروح هنا هو المسيح مستشهداً بقول الرسول
بولس في (2كو 3 : 17) "أما الرب هو الروح". وآيات أخرى في الإنجيل.
ويلخص المعنى في عبارة مختصرة اذ يقول "لأنه بسبب شخصه هو (اي المسيح)، فإن
جسده ايضاً يكون واهباً للحياة لأنه متحد بالكلمة الذي هو بالطبيعة الحياة".

          رابعاً
: في شرحه للأعداد الثلاثة الأخيرة من اصحاح (6) وخاصة عدد (68) الذي فيه يقول
بطرس الرسول للرب "الى من نذهب؟ وكلام الحياة الأبدية عندك". فهو يمتد
في الشرح ليقدم بحثاً مستفيضاً عن المسيح في العهد القديم. ويبين ان خيمة الاجتماع
كانت رمزاً للمسيح وان التابوت والسراج والمذبح والبخور والذبيحة، كل هذه ترمز
للمسيح نفسه.

 

الأصحاح
السادس

عن
ان رحيل المسيح من اورشليم غالباً ما يشير الى انتقال النعمة الى الأمم، وحيث يوجد
ايضاً حديث عن خمس خبزات الشعير والسمكتين

يوحنا
6 : 1 "وبعد هذا مضى يسوع الى عبر بحر طبرية".

          اعتقد
انه من الأفضل أولاً ان اُخبر سامعي، ان الرب بالتأكيد لم يجعل رحيله من اورشليم
لسبب ضروري جداً في بادئ الأمر. فهناك تدبير في كل مناسبة تقريباً، وفي طبيعة
الاشياء، فإن (الرب) ينقش الأسرار كما على حجر. فماذا كان قصده بالرحيل اذن، وما
الذي يشير اليه (ذلك الرحيل)، هذا ما سنوضحه في حينه المناسب، فقد بلغت الإصحاحات
التي نحن بصددها الى نهايتها. إذ بعد ان قسمنا كل شيء الى أقسام، وفسرنا النافع من
خلال الكتاب المقدس، واضعينه نصب اعين قرائنا لأجل فهمهم، سوف نعرض النظرة
النهائية للإصحاحات كلها، مقدمين موجزاص لما سبق ان ذكر في أقسام عديدة. لكني أرى
انه ينبغي لنا ان نتحدث أولاً عما هو أمامنا الآن.

          يقول
(النص) : "وبعد هذا مضى يسوع الى عبر بحر طبرية"، فبعد اي شيء، ينبغي ان
نبحث عن ما هي تلك الأمور ودون إهمال. إذ قد ظهر المسيح آنذاك في أورشليم كطبيب
عجيب، قد شفى الرجل الذي ظل طيلة "ثماني وثلاثين سنة" (ص 5) ليس بإعطائه
دواء ما، ولا باختراع اي عقار طارد للمرض، بل بالحري بكلمة، كإله، بسلطانه المقتدر
وبإشارة الهية : (إذ يقول) : "قم احمل سريرك واذهب الى بيتك" (مت 9 :
6). ولما كان اليوم السبت، غضب اليهود في جهلٍ، إذ كانوا مرضى بغلاظة الحرف،
والذين كانوا أكثر تقيداً من المشلول، بالحماقة اللاصقة بهم – هم الذين كانوا مرضى
بافتقادهم المتخاذل الى كل الخيرات على حدٍ سواء، الذين كانوا مشلولي الفكر ضعاف
السلوك، والذين يليق ان يُقال لهم بحق : "شددوا الأيادي المسترخية والركب
المرتعشة" (اش 35 : 3). لكنهم استشاطوا غضباً، زاعمين أنه ينبغي حتى على معطي
الناموس نفسه ان يكرم السبت!، فأدانوا المسيح كمتعدٍ، غير واضعين في فكرهم ما هو
مكتوب : "هو بلا تقوى، من يقول للملك أنت تعديت؟" (قابل اي 34 : 18س).
ولهذه الأسباب وبخهم المخلص بشدة، وألقى على اسماعهم حديثاً طويلاً أعده الرب
ليعلن لهم ان راحة السبت قد تعينت (فرضت) لهم في مثالٍ منذ القديم، وأن "ابن
الانسان هو رب السبت" (مت 12 : 8). لكنهم لم يتهيئزا لأي إصلاح، بل كانوا
مستعدين تماماً لكل ضلال، فهاجوا ضده، ذاك الذي يعلم ما ينبغي ان يتعلموه، وأرادوا
ان يقتلوه ذاك الذي يمكنه ان يجعلهم حكماء، فجازوه، كما هو مكتوب "عن الخير
شراً" (مز 35 : 12).

          لذلك،
فبعد هذه الأعمال والأقوال كلها، يرحل الرب عن أورشليم، كأنه عن ضرورة، "وإذ
كان الفصح عيد اليهود قريباً" (ص 6 : 4) (كما سنرى بعد قليل)، ابحر الى عبر (
*) بحر طبرية، او البحيرة. لكن
لما كان الدافع أساساً الى الرحيل بعيداً، وما حثه ان يمضي منسحباً الى أماكن أخرى
بعيداً عن أورشليم، كان (كما قلنا تواً)، "بسبب ان فصح اليهود كان
قريباً"، فإني أظن انه من المناسب جداً توضيح ان يسوع قد فعل حسناً للغاية،
إذ تجنب التواجد في أورشليم في ذلك الوقت.

          لقد
أمرنا ناموس موسى إذاً ان يُهرع اليهود من كل الأنحاء الى اورشليم، ليحتفلوا بعيد
المظال كمثال. وسوف يدرك الإنسان الروحي آنذاك تجمع كل القديسين معاً في المسيح،
حينما يأتون من كل المسكونة بعد قيامة الأموات، الى المدينة العلوية، أورشليم
السماوية، حيث سيقدمون تقدمات الشكر في خيمة المظال الحقيقية، التي لقيامة الأجساد
وسُكناها، حيث قد أُبيد الفساد وأُميت الموت!. وبقدر ما يستطيع المرء ان يتكلم من
واقع التاريخ، فإن جموع الذين صعدوا الى أورشليم كانت بلا حصر، ومن المحتمل ان
الفريسيين آنذاك كان لهم تأثير عظيم، فأوهموا الناس ليظنوا فيهم بأنهم حلوا محل
الناموس، فدفعوا بجموع عظيمة ان يصرخوا ضد المعتدي، او ضد ذاك الذي بدا لهم
كمعتدٍ. إذ لم يكن من الصعب إثارة حفيظة عامة الشعب، حينما يقول أحدهم إنه أساء
اليهم، ويسعى الى اثارتهم، حتى ضد الذين لم يسيئوا اليهم. لأنهم قد اندفعوا في كل
مكان كالماء او كالنار، بانفعالات غير منضبطة عشوائية وارتكبوا كل ما يمكن ان يسبب
أذى. وإذ لم يكن الرب يجهل تلك الأمور، فقد انسحب مسبقاً من اورشليم مع تلاميذه،
"ومضى الى عبر بحر طبرية". وقد فعل حسناً جداً، بمنعه اليهود الذين
ارادوا قتله، وهو ما سنراه مما سيأتي. لأن الإنجيلي المبارك نفسه يقول "وكان
يسوع يتردد بعد هذا في الجليل، لأنه لم يرد ان يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا
يطلبون ان يقتلوه" (7 : 1).

          وإنني
أوافق أنه تحاشى السير في اليهودية، لكي لا يتعرض للموت قبل ان يأتي وقته (وربما
قال قائل ان الأمر مصادفة). ولكن هل كان يتحاشى العيد (أيضاً) أم لا، فهذا ما لا
أعرفه بعد. فالذين اشتهر عنهم انهم اخوته، كانوا قد جاءوا الى المسيح في الجليل،
قائلين : "انتقل من هنا وأذهب الى اليهودية، لكي يرى تلاميذك ايضاً أعمالك
التي تعمل" (7 : 3). لكن الرب أجابهم : "أصعدوا انتم الى هذا العيد. أنا
لست أصعد بعد الى هذا العيد، لأن وقتي لم يكمل بعد" (7 : 8).

          واضح
للغاية إذن، وبشكل قاطع ان المخلص قد انصرف من اورشليم، وليس انه قد دفع فقط الى
نفي اختياري من هناك، إن جاز القول، بل إنه يتحاشى ايضاً شدة بغض عديمي الايمان،
فهو بحذقة يتخلص من (قساوة) مضطهديه، وبفطنته يصد سهم الحسد. وينصرف مرة أخرى،
بالرغم من انه يستطيع ألا يعاني شيئاً، ورغم هذا كان حاضراً، ليرسم لنا مثالاً
رائعاً، لا للجبن، بل للتقوى والمحبة تجاه جارنا، وإذ قد استرشدنا به كنموذج الى
معرفة ما هو نافع، فإننا سوف نعرف إنه ان اضطهدنا أعداؤنا، وحتى إن لم يقع علينا
أذى من جراء بقائنا، مع ذلك، فإنه بانسحابنا، ومن ثم تحاشينا خضم الهجمة الشرسة،
وابتعادنا عن سعيرها، نجد ان غضب اولئك الذين يخطئون في حقنا قد فاق ذروته، وإذ نقطع
عليهم جسارة غطرستهم، فإننا بذلك ننفع أولئك الذين لم يحسنوا الينا، فينتفع هؤلاء
ظلماً أكثر من منفعتنا نحن، ويصبح من الواضح، اننا لا نسعى لخيرنا نحن بل لخير
الآخرين أيضاً. إن عمل المحبة إذن، ليس هو التصدي لأولئك الذين يريدون بنا شراً،
ولا في الاكتفاء بكوننا لن نعاني اي شيء حتى لو كان حاصلاً، فنثير فيهم غضباً
مريراً بسبب عجزهم عن السيطرة على ما يكرهونه "فالمحبة لا تطلب ما
لنفسها" كما يقول بولس (1كو 13 : 5). وهذا ما كان في المسيح بشكل صاف.

          لكنكم
ان ثبتم عيون الفهم البصيرة على المكتوب، لاندهشتم لاكتشاف تدبير سام جداً في
انتقالات مخلصنا، أعني من اورشليم. لأنه قد طرد منها أكثر من مرة لحماقة اليهود
الخرقاء، وأقام مع الغرباء، وبدا : انه في أمان معهم، وكان ينعم بالكرامة الواجبة.
وحيث يعطي الأفضلية لكنيسة الأمم، ومن خلال تقوى الآخرين، كان يبكت شعب اسرائيل
على بغضهم لله، ويكشف عن القساوة التي في (هذا الشعب) بواسطة اللطف الذي في هؤلاء.
حتى يثبت من كل ناحية أنهم قد طرحوا بعدل خارج موعد الآباء. وإذ أسرع الرب بعيداً
عن اورشليم، لم يكن يقيم في أحدى المدن المتناثرة حولها، ولم يمكث في القرى
المجاورة، بل "مضى الى عبر بحر طبرية"، وذلك بفعل جلي ظاهر جداً يهدد به
أولئك الذين قد تبنوا فكرة وجوب اضطهاده مجدفين، حتى يرحل بعيداً عنهم فيتغرب
بنفسه عن أمتهم كلها، ويجعل طريق تحولهم اليه بنوع ما مستحيلاً، لأن أقدام البشر
لا تستيطع ان تمشي في البحر ابداً. ونحن نجد شيئاً ما من هذا القبيل يقوله لهم
فيما يلي أيضاً، "ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم ان
تأتوا" (7 : 34). لأن طريق البر بالنسبة للذين يذهبون اليه بالايمان، إنما هو
طريق ممهد للغاية وسهل جداً، خالياً من الوعورة، لكنه بالحري وعر وشاق، ومستحيل
السير فيه، أمام الذين يقاومونه، كما قال أحد الأنبياء القديسين : "فإن طرق
الرب مستقيمة، والأبرار يسلكون فيها، وأما المنافقون فيعثرون فيها" (هو 14 :
9س). لهذا فإن معبر البحر الذي يفصل بين الجانبين يشير الى مشقة عبور اليهود، بل
بالحري الى استحالة سيرهم في الطريق المؤدية اليه، إذ يعلن الله أنه يسيج طرق
النفس الشريرة، قائلاً في الأنبياء "هأنذا أسيج طريقها بالشوك.. حتى لا تجد
مسلكها" (هو 2 : 6)، فما تشير اليه الأشواك هناك، يشير اليه البحر هنا، في
انه يفصل "المهان" عن أولئك الذين أهانوه بلا هوادة، ويفصل بين "المقدس"
والنجس.

          لكن
المثال يبدو لنا وقد حوى سراً آخر خفياً. لأن اسرائيل حينما ارسل من وطن المصريين،
تبعهم فرعون بحمية منقطعة النظير، وقد جن جنونه لتصرف الأمة الصائب على غير
المتوقع، وقد أسرع بقانون الحرب متطاولاً عليهم بخططه الحسودة والخطيرة، وكان
يتبعهم، معتقداً أنه قادر ان يعيد الى العبودية والأسر، أولئك الذين رزحوا تحت
سلطانه طويلاً، ثم تخلصوا من نيره : بعد جهد جهيد، لكن الله كان يقود شعبه وسط
البحر، أما (فرعون) ففي سعاره تبعهم، مطلقاً العنان لغضبه، منجذباً في حماقة وراء
هيجانه المنفلت، ليقاتل الله، فابتلع هو وجيشه في اليم، ونجا اسرائيل وحده.

          لكن
فليأت موسى في وسطنا الآن ايضاً، والذي قال مرثاته في حماقة اليهود الخرقاء، وليقل
لهم في سخطه على ضلالهم من جهة المسيح : "جيل معوج ملتوٍ، أهكذا تكافئون
الرب؟" (تث 32 : 5، 6س). ذاك الذي حملكم في وسط البحر وعبر الأمواج العاتية،
فسرتم "على البحر"، ألا تخجلون من اضطهاده؟ إنما المعاناة هي من نصيبكم
إذن ايها اليهود، انتم الذين سيبتعلكم البحر اخيراً. لأن الموت هو للمضطهدين، لا
لمن وقع عليهم الاضطهاد في كلا الحالين، سواء قديماً في حالة اليهود، والآن
بالنسبة للمسيح من قبل اليهود الأشرار. ويرنم داود رجل الله ايضاً قائلاً لنا :
"لا يغمرني سيل المياه، ولا يبتلعني العمق" (مز 69 : 15) ملمحاً الى
الانهيار المروع الذي يحيق بمجمع اليهود، متضرعاً ألا يبتلع معهم في عمق جهلهم.
لكن الهلاك الذي أحاق بالمصريين وحاكمهم، كان هلاك أجسادهم الترابية، لكن اليهود
اذ يتصل مسلكهم بشيء أثمن، يكون عقابهم أشد، إذ تعاقب نفوسهم، بما يتناسب وحجم
شرورهم. لأن فرعون كان قد عوقب بسبب أنه سعى جاهداً ان يأسر الأحرار في العبودية،
وهكذا ايضاً وبعدل، عوقب اسرائيل ولكن بالعكس؛ لرفضهم ان يدخلوا تحت نير الرب. لكن
ما كان، بالنسبة لفرعون في شدة نهمه، كان ايضاً بالنسبة لإسرائيل في مجده الباطل،
تجاه الله.

          وعلينا
ان نلاحظ، انه دعا بحيرة طبرية "بحراً"، بحسب كلمات الكتاب الإلهي، لأن
الخالق "دعا مجتمع المياه معاً بحاراً" (تك 1 : 10). وتستخدم الكلمة
ايضاً عند الكتاب الذين هم من خارج بعدة معان، فلا يحجم البعض عن ان يدعوا البحر
بحيرة.

2-4
"وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى. فصعد يسوع
الى الجبل وجلس هناك مع تلاميذه. وكان الفصح، عيد اليهود، قريباً".

          لأنه
لما صعد يسوع الى اورشليم، بحسب ما قيل بالأنبياء "قد تركت بيتي، رفضت ميراثي"
(ار 12 : 7). ولما رفضه وأزدرى به شعب اليهود المعاند العاصي، أعطى نفسه للغرباء
"فتبعه جمع كثير". لكنه صعد الى "جبل" بحسب ما كان سيقوله
حقاً فيما بعد "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الي الجميع" (12 : 32).
لأنه رفع من على الأرض بصعوده على الصليب لأجلنا، ورفع ايضاً بطريقة أخرى إذ ارتفع
او صعد كما "على جبل" الى مجد وكرامة الهيين. لأننا، لا نفعل مثلما فعل
اسرائيل، فنحتقره كإنسان، بل نعبده كإله ومخلص ورب. لأنهم كانوا ينظرون اليه كأنه
شخص وضيع وكلا شيء على الإطلاق، وفي الحقيقة فإنهم لم يستنكفوا ان يدعوه
"سامرياً" (8 : 48)، وبمنتهى الاحتقال يدعونه "ابن النجار"
(مت 13 : 55). لكنه في وسط الذين يؤمنون به، قد رأوا فيه الفاعل المقتدر والإله،
وصانع العجائب، لأنكم قد تسمعون كم كان قصد تابعيه صالحاً وتقياً. "لأنهم إذ
أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى"، آمنوا ان عليهم ان يتبعوه بغيرةٍ
أوفر، إذ قد اقتيدوا من الأمور المصنوعة بحكمة (قابل حكمة 13 : 5) الى معرفة
الصانع نفسه. ومن سلطانه الإلهي عرفوا ان ذلك الذي تسربل بالجسد هو بالطبيعة ابن
الله. لأنه بهذا الطريق قد أوصانا المخلص ان نتقدم الى الايمان به. إذ يقول :
"هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي" (يو 5 : 36). وأيضاً
"إن كنت لست أعمال أعمال أبي، فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا
بي فآمنوا بالأعمال" (يو 10 : 37، 38). إذ أنه "من خلال عظمة جمال
المخلوقات يُرى الله صانعها" (حكمة 13 : 5) هكذا ايضاً من المعجزات، وبنفس
تسلسل التفكير، يُرى صانع الآيات، ومن ثم تصير ايمان تابعيه موضع تعجب بحق. لكنني
اعتقد ان تفسيراً آخر خاصاً جداً وليس ظاهراً للعيان، نجده مخفياً في الأمور التي
قيلت. لأن الإنجيلي نراه يقول إن الذين تبعوا المسيح، لم يكونوا فقط معاينين
للمعجزات بفرح، لكنه يركز على نوعية المعجزات التي اندهشوا لها واعجبوا بها. إذ
يضيف "التي كان يصنعها في المرضى"، ليوضح ان فكر هؤلاء الذين تبعوا
المسيح كان مناقضاً لفكر اليهود. لأن أولئك استشاطوا غضباً ودون تقوى، إذ شفى
المشلول، لكن لم يكتف الآخرين بالإعجاب بما صنعه من أمور أثناء حضوره معهم، بل
راحوا يتجمعون ويتبعونه عند رحيله، كصانع عجائب وكإله.

          علينا
نحن ايضاً الذين أعلنا تبعيتنا جهاراً للمسيح كرب لنا، ان نهرب من جهل اليهود،
ولنلتصق به بالصبر، كما فعل أكثر التلاميذ حكمة على الدوام، فلا نحتمل ان نهجره
ونتركه بأي حال، بل بأعمالنا ذاتها نصيح عالياً، بالكلمات التي نطق بها بولس في
شجاعة، "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟" (رو 8 : 35). فلنتبعه إذن، وهو
مضطهد وهارب من عناد الذين يقاومونه، حتى اننا نحن ايضاً "نصعد الى جبل
وهناك نجلس معه
"، اي نرتفع الى نعمة مجيدة، الى نعمة أسمى من كل شيء،
ونملك معه، كما قال هو نفسه "أنتم الذين تبعتموني في تجاربي متى جلس ابن
الانسان على كرسي مجده في التجديد تجلسون انتم ايضاً على اثني عشر كرسياً تدينون
اسباط اسرائيل الأثنى عشر" (مت 19 : 28، وقابل لو 22 : 28)، لأنني أعتقد ان
التلاميذ إذ قيل عنهم إنهم مكثوا مع المخلص، وإنهم "صعدوا الى جبل وجلسوا
هناك معه" إنما يوحي بتلك الأفكار.

"فرفع
يسوع عينيه ونظر ان جمعاً كثيراً مقبل اليه، فقال لفيلبس : من أين نبتاع خبزاً
ليأكل هؤلاء؟ وإنما قال هذا ليمتحنه، لأنه هو علم ما هو مزمع ان يفعل" (5، 6،
7).

          مرة
أخرى، يتيح المسيح لتلاميذه درساً آخر أكثر سمواً، هو أنسب ما يكون للقديسين، لكي
يحثهم على قهر الجبن فيما يتعلق بحسن الضيافة أثناء الضيقات الشديدة، ومن ثم
يطرحون عنهم اي تردد بعواطف أكثر غيرة لكي يبلغوا تلك الفضيلة. لأنه اي شيء أعظم
عند أولئك الذين يعرفون ويريدون الأمور التي ينتفعون بها لشراء الصداقة التي من
فوق لأنفسهم. لأنه حيثما لم يأت اليه "جمع" قليل، وحيث أن جموعاً لا حصر
لها قد تدفقت كالمياه التي تتدفق على الأراضي، حيث كان واقفاً، فإنه سرعان ما أمر
تلاميذه ان يجهزوا لإطعامهم. وفي الحقيقة، لم يكن من غير المألوف انه حتى الإنسان
الغني جداً، لا يبالي بتلك الجموع رغم الغيرة والاهتمام، ويرتجف خوفاً من ان يعجز
عن حسن ضيافتهم. لكن المسيح يوضح ان الأمر لم يكن جد خطيراً على الإطلاق، حينما
تنحصر محبتنا الأخوية في عدد قليل، بل يريد ان نرتفع ايضاً بشجاعة وبعزم فوق تلك
الأمور التي تفوق توقعاتنا، ثابتين ثباتاً لا يتزعزع بالثقة فيه، فننال الجرأة على
فعل كل ما هو صالح.

          أما
فيما يخص الرواية، فإن قوة ما قيل، لا تهدف الى أبعد من المقصود، ولكننا نحول
الأمور مرة أخرى الى مغزاها الروحي، مستبعدين ما تكتسي به من كساء رمزي كثيف فإننا
نقول جهراً، إن أولئك الذين يطلبونه بغيرة صالحة وايمان، يراهم الله بسابق علمه،
كما من جبل، اي من سابق علمه الإلهي العالي، بحسب ما قاله بولس : "لأن الذين
سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه.. فهؤلاء دعاهم ايضاً" (رو
8 : 29، 30)، عندئذ "رفع المسيح عينيه، ليكشف ان الذين يحبونه يستحقون النظرة
الالهية، كما قيل لإسرائيل في البركة "يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك
سلاماً" (عد 6 : 26). ولكن نعمته لم تتفاضل بمجرد النظر الى أولئك الذين
يكرمونه، لكن الإنجيلي المبارك إذ يضيف شيئاً أكثر، يكشف ان الرب كان مهتماً بالجموع،
بل وقد تهيأ تماماً لإطعامهم وإدخال السرور عليهم :

          ولكي
نفهم بذلك ايضاً ما سلم لنا في "الأمثال"، "الرب لا يجيع نفس
الصديق" (أم 10 : 3). لأنه يضع "نفسه" أمامهم، كخبز من السماء،
ويغذي نفسو خائفيه، ويهيئ كل ما يكفي لإعالتهم، كما يقول هو في المزامير،
"وتهيء طعامهم لأنه هكذا تكون (إعالتك)" (مز 65 : 9س).

          ويقول
المسيح نفسه في موضع آخر "الحق الحق أقول لكم، من يقبل الى فلا يجوع"
(يو 6 : 35)، لأنه كما قلنا قبلاً، إنه سيعطي طعاماً من السماء، ويهب نعمة الروح
المتنوعة بغنى. وهو يهيئ أكثر ان طعاماً لمن يأتون اليه، دون حتى ان ينتظر سؤالهم.
"لأننا لا نعرف ما الذي ينبغي ان نصلي لأجله" (رو 8 : 26)، لكنه يسبقنا
في بلوغ الأمور التي تحفظنا الى حياة أبدية.

          "فقال
لفيلبس : من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء؟"، ويليق بنا ان نتأمل، لماذا تحدث
الى فيلبس، على الرغم من ان بقية التلاميذ كانوا واقفين بجواره وملاصقين له؟ كان
فيلبس إذاً مستفسراً ومحباً للتعليم، لكنه لم يكن فائق السرعة في القدرة على الفهم
الفوري للأمور الإلهية. هذا ما ستتعلمونه إذا ما اعتبرتم مع انفسكم أنه، بعد ان
تبع المخلص زمناً طويلاً وتجمعت لديه دروس عديدة تخص لاهوته، وحصل على إدراك
بواسطة أعمال الرب وأقواله، فإذ به وكأنه لم يتعلم شيئاً، إذ يقول ليسوع في أواخر
زمان التدبير، "يارب أرنا الآب وكفانا" (يو 14 : 8). لكنه إذ يقول ذلك
في بساطته، كان من اللائق ان يُعاد تعليمه، فيقول له المسيح "أنا معكم زماناً
هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟" (يو 14 : 9). لهذا، وكما لواحد أكثر بطئاً في
الفهم، يتقدم ببطء أشد مما ينبغي نحو إدراك الأمور الإلهية، يطرح (الرب) السؤال
عليه، لتدريب التلميذ على الايمان. لأن هذا هو أحد معاني القول
"ليمتحنه"، في هذا النص، رغم ان الإنجيلي المبارك يؤكد (عن يسوع)
"أنه هو علم ما هو مزمع ان يفعل". لكن قول (المسيح) "من أين
نبتاع" يثبت عدم الاهتمام بالمال لدى الذين كانوا معه، وفقرهم الاختياري لأجل
الله، حتى أنهم لم يتوفر معهم القدر القليل لشراء الطعام الضروري. والى جانب هذا
فإن (الرب) يفعل شيئاً، ويأمر به بمهارة. لأنه يقول "من أين"، لا من
فراغ، كما لو كان (الأمر) لأولئك الذين لم يبذلوا جهداً لتوفير اي شيء على
الإطلاق، بل لأولئك الذين اعتادوا على عدم الاهتمام بالمال بشكل كامل. إذن
باستبعاد التوقع الناجم عن المال وقطعه نهائياً وبحذق بالغ، فإنه يحثهم وبشكل حسن
ان يستمروا في التوسل الى الرب، لأنه إذا أراد سوف يطعم المقبلين اليه، حينما لا
يتوفر لديهم اي شيء، وذلك بقوته التي لا ينطق بها، وبقدرته الالهية يخلق طعاماً.
لأن هذا هو ما كان يتبقى بعد، إذ كان يدعوهم أخيراً ان يروا ان آمالهم الباقية
كانت، بحسب الشعراء الأغريق بمثابة : جرح الضرورة النافذ.

          أجاب
فيلبس "لا يكفيهم خبز بمئتي دينار، ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً" ها
هو فيلبس يتقدم تقدماً ضعيفاً، لا الى قدرة يسوع الذي يفعل كل شيء، وهذا سهل، بل
عند سماعه "من أين نبتاع، والتي قالها يسوع ليمتحنه" نجده يتعلق بهذه
الكلمات وينظر الى المال كوسيلة وحيدة، غير مدرك ان طبيعة الأمر قد تتم بكيفية
أخرى عدا القانون الشائع، الذي يمارسه الجميع، بكثر الإنفاق. لهذا وعلى أساس عدم
اهتمام التلاميذ بالمال، وعدم اقتنائهم شيئاً، وادراك فيلبس الشخصي، الذي لم يعكس
بوضوح تام بعد كرامة مخلصنا الفائقة، فقد تحول السخاء مع الجموع الى استحالة. لكن
الأمر لم يكن كذلك. فقد صارت به مشيئة المخلص نحو كماله. "غير مستطاع عند
الناس مستطاع عند الله" (لو 18 : 27). وتثبت القدرة الإلهية في كل الأحوال
تفوقها على نظام أمورنا الطبيعي، تلك القدرة التي تستطيع انجاز كل شيء بشكل يثير
العجب، حتى ما يفوق مداركنا.

(8،
9، 10) "قال له واحد من تلاميذه، وهو اندراوس أخو سمعان بطرس، هنا غلام معه
خمسة أرغفة شعير وسمكتان. لكن ما هذا لمثل هؤلاء؟".

          ان
اندراوس يفكر ويستنتج بشكل مشابه لفيلبس، ولديه قناعة بأنه يفهم المسيح المخلص
جيداً. لأنه لا هو قد اعتبر قدرة (الرب)، ولا قادته عظمة أعمال الرب السابقة الى
ادراك قدرة يسوع على كل شيء، وهذا من أيسر الأمور، فإن اندراوس يشير الى ما لدى
(الغلام)، وهو بالتأكيد ضعيف الايمان : إذ يقول "لكن ما هذا لمثل
هؤلاء؟" (وما يجب ان نقوله) إنه كان عليه بالحري ان يوطد العزم ويتجه صوب
تذكر تلك الأمور التي قد تم فعلها معجزياً، ويعتبره عملاً غير غريب عن ذاك الذي
حول الماء خمراً، وشفى المشلول وطرد ضعفاً شديداً بكلمة واحدة، أقول، أنه هو ايضاً
سيخلق طعاماً من العدم، ويضاعف بقوة الهية ذلك (الشيء) المتناهي في الصغر والذي
كان متوفراً بين أيديهم. لأن السلطان الإلهي الذي أتمم أمراً، كيف لا يقدر ان يتمم
أمراً آخر؟ وهكذا أجاب التلميذان بضعفٍ أكثر من اللائق.

          لكن
علينا نحن هنا أن ندقق في الأمر مرة أخرى. لأن تلك الأمور التي تبدو سقطات صغيرة
للقديسين، هي كثيراً ما تكون ذات نفع كبير، بل إن لها شيئاً ما مغلفاً بها، تعين
طبيعة اولئك الذين تُنسب اليهم تهمة ضعفهم الظاهري. لأن التلاميذ القديسين
المذكورين أعلاه قد اهتموا وقال أحدهم جهاراً، إنهم، "لا يكفيهم خبز بمئتي
دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً". وقال الآخر، "هنا غلام معه
خمسة أرغفة شعير وسمكتان. ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟" وهكذا يرفعون الأعجوبة
الى ذروتها، وتظهر قدرة المخلص بشكل كبير، مشيرين بكلماتهم الخاصة الى الجمع الذي
كان من المنتظر اشباعه، وتحولت قوة عدم إيمانهم الى شهادة حسنة للمسيح. لأنهم
باعترافهم أن مبلغاً كبيراً كهذا من المال لن يكفي الجموع ولو لزادٍ طفيف، فإنهم
بنفس هذا الشيء يكللون قدرة رب الجنود التي لا يُنطق بها، الذي عندما يتوفر شيء
(كما يقول اندراوس، ماذا يمكن لما لدى الغلام ان يقدمه وسط هؤلاء الكثيرين؟) فإنه
قد أتم عمل محبته نحو الجموع بغنى فائق.

          ومثل
هذه القلة في الايمان سوف نجدها في البرية مع الحكيم جداً موسى ايضاً. لأن شعب اسرائيل
كان يبكي، تثيرهم الشهوة الرديئة لموائد مصر ويصورون لأنفسهم أطباق اللحم النجسة، ملتفتين
الى أكثر الملذات غرابة، الى البصل والثوم، ومثلها من الاشياء التافهة (قابل عد 11
: 4، 5)، مهملين الخيرات الإلهية، فيهاجمون موسى وسيطهم وقائدهم. لكن الله لم يكن يجهل
ما كان الجمع يئن اليه في لهفة وقد وعد ان يعطيهم لحماً. لكن لما كان الوعد بالفيض
قد أُعطي في البرية، وبدا الأمر صعب التنفيذ، فيما يخص فهم الإنسان، جاءه موسى صارخاً
: "ست مائة ألف ماشٍ هو الشعب الذي أنا في وسطه، وأنت قد قلت أعطهم لحماً ليأكلوا
شهراً من الزمان. أيذبح لهم غنم وبقر ليكفيهم أم يُجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم، فقال
الرب لموسى : هل تقصر يد الرب؟" (عد 11 : 21، 22). لأنه في أي أمر كان الله عاجزاً؟!

          لهذا
يمكن للمرء ان يرد على كلمات فيلبس وأندراوس قائلاً : هل تقصر يد الرب"؟.

          دعنا
ايضاً، وقد اتخذنا طبيعة الشيء وبطريق المثال، نقر ان هذا القليل من الايمان هو أشر
أنواع الأمراض ويتجاوز كل شر، ولو ان فعل الله ودعوته ان يعمل، قد تم قبوله بيننا في
ايمان بسيط، ولا نتهم الله، بسبب عجزنا عن إدراك كيفية حدوث ما يفوقنا، بسبب عجزنا
الذاتي عن (فعل) ذلك. لأنه يليق بالذهن الصالح وصاحب العقل الرزين ومن له ذهن سليم،
ان يعتبر ذلك ايضاً في فكره، كيف ان العين الجسدانية ايضاً لا ترى بالقدر المؤكد ما
يرغب المرء (ان يراه)، بل بقدر ما تستطيع، وحسبما تسمح حدود طبيعتنا، لأن الأمور الموضوعة
على ارتفاع هكذا عظيم، لا تقدر العين على تمييزها حتى إن هي تخيلتها، وهي لا تلمح إلا
أقل منظر منها وبصعوبة. هكذا تعلمون انتم عن فكر الانسان ايضاً، بقدر ما اعطاه الخالق
من حدود يمكنه ان يبلغ المدى وان يمتد حتى إن كان طاهراً بالكامل، لأنه لن يرى أياً
من تلك الأشياء العتيدة، بل سوف يستسلم، حتى ولو ضد إرادته، أمام ما هو أعلى من الطبيعة،
ويصبح عاجزاً بالكلية عن إدراكه.

          إذن
فالأمور التي تفوقنا، نقبلها بالايمان، وليس بالفحص، وكما ان من يؤمن يكون موضع الإعجاب،
هكذا من يسقط في النقيض لا ينجو بأي حال من اللوم. وهذا ما شهد به المخلص نفسه، قائلاً
"الذي يؤمن بالابن لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين" (يو 3 : 18).

          وإذ
قد انتهينا من الحديث عن واجب الثقة في الله، تعالوا، مرة أخرى نكشف عن بعض من الكتابات
المقدسة، ونقدمها، ونصف عقوبة عدم الإيمان، لنفع قرائنا. (لأنني سوف أعود من جديد لموسى
معلم الأقداس الإلهية
hierophant). لهذا
قد أُمرة موسى مرةً في البرية، حينما ضغط الشعب بالعطش غير المحتمل ان يأخذ هارون،
ويضرب الصخرة بعصاه، لكي تفجر ينابيع ماء. لكنه، إذ لم يؤمن ايماناً كاملاً بكلمات
ذاك الذي أمره، بل إذ خار وجبن بسبب الطبيعة البشرية، يقول "اسمعوا ايها
المتمردون أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين
فخرج ماء غزير. وقال الرب لموسى وهارون : من أجل إنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني
أمام أعين بني اسرائيل، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة الى الأرض التي اعطيتهم
اياها". أليس من الواضح اذن لكل فرد، مقدار مرارة أجرة عدم الايمان؟ وان كان
موسى وهو بهذه العظمة التي كان عليها، قد وبخ، فمن ينجو بسبب عدم ايمانه، من غضب
الله، الذي لا يحابي الأشخاص حيث إن الله لم يشفق حتى على موسى، الذي قال له
"عرفتك أكثر من الجميع، ووجدت نعمة في عينيَّ" (قابل خر 33 : 12س).

10
"فقال يسوع : اجعلوا الناس يتكئون. وكان في المكان عشب كثير. فاتكأ الرجال،
وعددهم نحو خمسة آلاف".

          مارس
المخلص رقته المعهودة، وأزال حدة توبيخاته. لأنه لم يكن يوبخ تلاميذه بمرارة، على
الرغم من أنهم كانوا يغطون في نوم عميق من جهة خوار قلوبهم وقلة ايمانهم به : بل
بالحري كان يقودهم بأعماله الى إدراك أمور لم يكونوا يؤمنون بها بعد. لأن الكلمات
"اجعلوا الناس يتكئون" ليست نبرات قوة يسيرة، وتظهر يسوع تماماً وكأنه
يتحدث بهذه الطريقة : يا من تبطئون في فهم قوتي، وإدراك من هو الذي يتكلم،"
اجعلوا الناس يتكئون "لتروهم وقد شبعوا من العدم الموضوع أمامكم فتتعجبوا.
"اجعلوا الناس يتكئون". لأن هذا ما ينقصهم. لأن مائتي (دينار) لن تكفي
للحصول على وسيلة تضمن العيش لهذه الجموع، لكن نقصان المال الذي يستخدمه الناس
لحفظ الحياة، فهذا سوف تعوضه قوتي، التي تدعو كل الاشياء الى الوجود، وتخلق
الاشياء غير الموجودة، أو لم يجعل ايليا النبي كوز زيت الأرملة لا ينقص، وكوار
الدقيق لا يفرغ (1مل 17 : 14)، فذاك الذي أعطى ايليا القوة، ألا يقدر ان يكثر
الأشياء وان يجعل ولو حتى مجرد فرصة توفر نبعاً من سخائه الذي يفوق الإدراك، (وأن
يصيرها) أساساً وأصلاً لنعمة غير متوقعة؟.

          من
المصدق ان تلك كانت أفكار المسيح فيما قاله. ومن النافع ان الانجيلي المبارك يذكر
ان "في المكان عشب كثير" موضحاً ان الناحية (تلك) كانت ملائمة لجلوس
الناس. لكن لاحظ كيف أنه بينما الجموع التي أُطعمت كانت مختلطة بعضها ببعض، وأن
النساء كن هناك مع اطفالهن، فقد أُحصي الرجال فقط، متبعاً حسب افتراضي، عادة
الناموس. لأن الله أمر موسى معلم الأقداس قائلاً : "احصوا كل جماعة بني
اسرائيل بعشائرهم (عائلاتهم) وبيوت آبائهم بعدد الأسماء كل ذكرٍ برأسه، من ابن
عشرين سنة فصاعداً" (عد 1 : 2، 3). وفعل النبي كما أُمر وأحصى قائمة كبيرة من
الأسماء، ولوحظ أنه تجاوز تماماً عن الإناث والأطفال، وأحصى الجموع من البالغين،
لأنه مكرم في كتاب الله ايضاً كل من هو رجل يافع، وليس من هو طفولي في طلب الأمور
الصالحة. لهذا كرم عادة الناموس ايضاً هنا، وصاغ مرة أخرى مفهوماً روحانياً.

          أو
ليس هناك سبب لما نقول، إننا إن نظرنا الى الفكرة العامة للفقرة، المسيح قد تحول
عن شعب اليهود الهائج والمحب للمجد الباطل، وتركهم عن حق : لكنه قبل وبكل مودة
أولئك الذين أتوا اليه، وأطعمهم بالطعام السماوي، معطياً لهم "الخبز
الروحاني" الذي يسند قلب الإنسان"؟ (مز 104 : 15)، لأنه لا يطعمهم
بحزنٍ، بل بفرحٍ وبلا مقابل يمتعهم كثيراً في تقوى. لأن هذا هو ما يشير اليه اتكاء
الجموع على "العشب الأخضر"؛ حتى أن كل من وهبت له تلك النعمة ايضاً،
يليق به ان يقول ما في المزمور : "الرب راعي فلا يعوزني شيء، في مراع خضر
يربضني" (مز 23 : 1، 2)، لأن عقل القديسين يقتات بفرح بالغ وحبور على مواهب
الروح. كما قيل في نشيد الأناشيد "كلوا أيها الأصحاب واشربوا واسكروا"
(نش 5 : 1). ولكن إذ كان هناك كثيرون، وكانوا متكئين مختلطين بعضهم ببعض، كما قلنا
قبلاً، فقد ذكر الرجال فقط متجاوزاً في صمت عن النساء والأطفال بما يفيد الفكرة
(المقصودة). لأنه يعلمنا، كما في لغز، ان الذين يسلكون كرجال أي في صلاح، هؤلاء
يعطون الطعام بواسطة المخلص بشكل أكثر مناسبة وخصوصية، وليس لأولئك الذين هم
متخنثون، لا يمارسون في حياتهم صلاحاً، ولا لأولئك الذين هم أطفال في الفهم،
عاجزون حتى عن إدراك أي أمر من الأمور التي من الضروري معرفتها.

11
"وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ، والتلاميذ أعطوا المتكئين. وكذلك
من السمكتين بقدر ما شاءوا".

          لقد
شكر الرب، كمثال لنا ونموذج للتقوى ينبغي ان يكون فينا : وها هوذا كإنسان، ينسب
مرة أخرى قوة المعجزة للطبيعة الإلهية. هكذا كانت عادته، إنه كمثال للتقوى، كما
قلت، يساعد أولئك الذين كشف لهم معلماً للأمور البالغة السمو، وبتدبير يحجب كرامته
الإلهية، الى ان يقترب زمان آلامه : والذي كان يبذل قصارى اهتمامه ليخفيه عن
"رئيس هذا العالم" (قابل 1كو 2 : 8). لهذا السبب نراه في موضع آخر
أيضاً، يستخدم كلمات بشرية، كإنسان، ويشفي أذهان سامعيه مرة أخرى، أحياناً
بتشويقات حكيمة جداً، كما في قوله : "أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي"
(يو 11 : 41).

          أترون
كم كان حديثه بشكل بشري، حديثاً محسوباً حساباً جيداً يربك فهم البسطاء جداً؛ لكنه
حينما يقول هذا، كإنسان، فإنه سرعان ما يكشف عن أسلوب التدبير، ويبقى هدف مشيئته
محتجباً، بترتيب فائق السمو، مقوياً ذهن البسطاء الذين صدموا. (إذ يقول) :
"وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي" (يو 11 : 42). لماذا إذاً (يارب)
تتحدث بمثل هذه الأشياء؟ يقول "لأجل هذا الجمع الواقف. ليؤمنوا انك
ارسلتني". أليس من الواضح إذن، أنه بهدف ان يعيننا بطرق متنوعة، ولكي يحقق ما
يليق به، سر التدبير بالجسد، كان في بعض الأحيان ينزل بنفسه الى أقل مما هو عليه
في الحقيقة؟ لذلك فكما في تلك الفقرة، فإن عبارة "اشكرك" تؤخذ بشكل
تدبيري، هكذا هي أيضاً هنا. [فإن لفظة "بارك" تفهم أنها عن الخبز].

          لكن
جدير بنا ان نلاحظ انه بدلاً من "شكر" يقول متى البشير "بارك"
(مت 14 : 19). ولكن كتابات القديسين لا تتعارض بأي حال من الأحوال لأن بولس سوف يوضح
ان كلا الأمرين واحد، قائلاً إن "كل طعام (
W)
الله جيد، ولا يرفض شيء، إذا أخذ مع الشكر لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة"
(1تي 4 : 4، 5). لكن ذاك الذي يقدس بالصلاة في توسل، وهو ما نفعله دائماً على
المائدة، وهو بالتأكيد يتبارك.

          ولكن
لما كان من اللائق ألا نترك أي شيء نافع دون فحص من جانبنا، هيا نتحدث قليلاً عن
"خمسة أرغفة الشعير" التي كانت مع الغلام وعن السمكتين : لأن كل نوع من
هذه الأنواع ذاتها، الى جانب الأعداد، إنما هو مفعم بالسر. (إذ قد يتساءل شخص
مجتهد في البحث) لماذا لم تكن الأرغفة سوى خمسة، ولم تكن الأسماك ثلاثة؟ ولماذا
الأرغفة خمسة، والأسماك أربع؟ وفي أية مناسبة على الإطلاق يوجد إحصاء للعدد
الموجود، ولماذا لم يقل بالحري وبأكثر بساطة وبشكل عام إن الجموع الكثيرة التي بلا
حصر والذين تبعوه قد تم إطعامهم كلهم بأشياء قليلة؟ الحقيقة ان الانجيلي المبارك
قد أحصى وبكل اجتهاد تلك الأشياء ايضاً، ليعطينا بالتأكيد شيئاً ما نفكر فيه،
والذي يحتاج منا ان نتفحصه ايضاً.

          يقول
ان "الأرغفة كانت خمسة" وإنها كانت من "الشعير" وإنهما
"سمكتان" وبهذه أطعم المسيح الذين يحبونه. وأعتقد (وعلى محب الحكمة ان
يبحث عن شيء آخر أفضل) أنه بالأرغفة الخمسة، يشير الى كتاب الحكيم جداً موسى ذي
الأسفار الخمسة، أعني الناموس كله، الذي كان بمثابة الطعام الأغلظ، أي بالحرف
والتاريخ. لأن هذا ما يلمح اليه لفظ "الشعير". لكنه يشير
"بالسمكتين" الى ذلك الطعام الضئيل الذي حصلنا عليه بواسطة الصيادين،
أعني الكتب الشهية جداً التي لتلاميذ المخلص، (ويقول) إنهما اثنتان، إشارة الى
الكرازة الرسولية والانجيلية، التي أشرقت في وسطنا. وكلاهما مخطوطات الصيادين
وكتاباتهم الروحية. هكذا فإن المخلص إذ يخلط الجديد بالقديم، وبالناموس وتعاليم
العهد الجديد يقوت أنفس المؤمنين به، الى الحياة، التي هي بلا شك الحياة الأبدية،
وكون التلاميذ من الصيادين، فهو (كما افترض) أمر واضح وجلي وبالرغم من ان الجميع
لم يكونوا صيادين، إلا أن بينهم من كانوا كذلك، وإن مناقشتنا لن ترتد عن الحق فيما
قيل.

12
"فلما شبعوا، قال لتلاميذه : إجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء".

13
"فجمعوا، وملأوا اثنتي عشرة قفة (سلة) من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي
فضلت عن الآكلين".

          قد
يبدو للبعض أن المسيح يهتم بتوفير الكسر، حتى أنه أمر تلاميذه أن يجمعوها معاً.
ومع هذا (فأنا أظن) أن كل إنسان قد يتصور بشكل ملائم، أن المسيح لا يحتمل ان ينزل
الى مثل هذه الدرجة من الدنو، ولماذا أقول المسيح، بل أن احداً منا لن يفعل ذلك :
لأنه ما المفترض ان تكونه تلك البقايا من خمسة أرغفة من الشعير؛ لكن الآية تتضمن
تدبيراً عظيماً، وتجعل المعجزة واضحة للسامعين. لأنه ما أعظم تأثير السلطان الإلهي
في هذا الأمر، من جهة أنه لم تكن الجموع فقط غفيرة، تلك التي شبعت من خمسة أرغفة
شعير وسمكتين، بل إن اثنتي عشرة قفة مملوءة بالكسر، قد تم جمعها ايضاً. هكذا فإن
المعجزة تطرد شكاً آخر، وبجمع الكسر يتأكد الايمان بأنه كانت هناك وفرة من الطعام
حقاً، وليس مجرد خداع نظر لعيون المشتركين في الوليمة او الذين يخدمونهم. فما أعظم
تلك الفائدة لنا وما أجدرها بالتأمل، انظروا كيف أنه بواسطة هذه المعجزة، يجعلنا
أوفر غيرة في اشتياقنا لممارسة الضيافة بفرحٍ بالغٍ، ويدعوننا بصراحة بواسطة
الأشياء التي تمت، الى ان الله لن يخيب من يستعد للتوزيع ويتهلل بمسلك المحبة
الأخوية، ويتمم باستعداد ما هو مكتوب "اكسر للجائع خبزك" (إش 58 : 7).
لأننا نجد ان التلاميذ في البداية كانوا معاقين بالتردد من جهة ذلك (الأمر)، لكن
المخلص إذ رأى أنهم يفكرون هكذا، وهبهم عدداً وفيراً من الكسر : ويعلمنا نحن أيضاً،
أننا، إذ ننفق قليلاً لأجل مجد الله، ننال نعمة أوفر حسب قول المسيح "كيلاً
جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً يعطون في أحضانكم" (لو 6 : 38). لهذا لا يجب ان
نكون كسالى حيال شركة المحبة نحو الإخوة، بل نتقدم بالحري نحو العزم الصالح، ونترك
عنا بقدر المستطاع الجبن والخوف الذي يدفعنا الى عدم الضيافة وإذ نتثبت في الرجاء
بالإيمان بقوة الله لمضاعفة القليل أيضاً، لنفتح احشاءنا للمحتاجين، حسب أمر
الناموس، لأن الله يقول : "افتح احشاءك بسعة لأخيك المحتاج الذي معك"
(أنظر تث 15 : 11). لأنه متى ستصير رحيماً، إن ظللت قاسياً في هذه الحياة؟ متى
ستتمم الوصية، ان كنت تبدو وقت القدرة على عملها منزلقاً الى التراخي؟ تذكر المرنم
وهو يقول "لأنه ليس في الموت من يذكرك، وليس في القبر من يعترف لك" (مز
5 : 6). لأنه أي ثمر يكون بعد من الميت، او كيف لأي من الذين انحدروا الى الهاوية
ان يذكر الله بتتميم وصاياه؟ "لأن الله قد أغلق عليه" كما هو مكتوب (أي
3 : 23 س). لذلك فالحكيم جداً بولس يعلمنا ايضاً، اذ يكتب الى البعض "حسبما
لنا فرصة، فلنعمل الخير" (غل 6 : 10).

          وسوف
تذكر تلك الاشياء للمنفعة من خلال الرواية. لكن إذ أننا نعتبر ما قيل بمفهوم روحي
(لأنه هكذا ينبغي علينا ان نفعل، وليس من سبيل آخر)، قلنا إن "خمسة أرغفة
الشعير" إنما تشير الى كتاب موسى، وإنه بالسمكتين يُشار الى كتابات الرسل
القديسين الحكيمة : وفي رأي، فإن جمع الكسر معاً، يجعلنا ندرك مفهوماً ما سرياً
وروحياً، يتفق مع ترتيب الأمر، فقد أمر المخلص ان يتكئ الجموع، وبعد ان شكر، وزع
الخبز والسمك، أعني، بواسطة خدمة التلاميذ : ولكن بعد ان شبع الذين أكلوا بطريقة
معجزية، أمرهم ان يجمعوا الكسر، حتى امتلأت (اثنتي عشرة قفة). ويبدو وكأن (واحدة
لكل تلميذ، عدا بالتأكيد هذا الأمر، وان نفهم حقاً ان المسيح هو رئيس أولئك ([i]) الذين
يؤمنون به، وانه يطعم الذين يأتون اليه بالطعام الالهي والسماوي؟ أي تعاليم
الناموس والأنبياء والتعاليم الإنجيلية والرسولية لكنه لا يبدو هو نفسه انه فاعل
لتلك الأشياء، بل التلاميذ هم الذين يوصلون لنا النعمة التي من فوق (لأنه مكتوب،
ليس هم الذين يتكلمون بل روح الآب الذي يتكلم فيهم) (مت 10 : 20). لكن لن يكون عمل
الرسل القديسين هنا بدون مكافأة، لأنهم إذ قد وزعوا علينا الطعام الروحاني، وكرزوا
بخيرات مخلصنا، سوف ينالون أوفر مجازاة، وينعمون بملء نعمة سخاء الله. لهذا وليس
لشيء آخر سواه، أظن، يكون معنى تجميع وملء قفة بواسطة كل (تلميذ) حسب أمر المسيح،
بعد اتعابهم وخدمتهم التي قدموها لجمهور الآكلين. لكن ما من شكٍ، ان الاشياء التي
حدثت معهم، هي مثال سوف ينطبق بعدهم، على مدبري الكنائس المقدسة.

14
"فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع، قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي
الآتي الى العالم".

          إن
أولئك الذين يعرفون كيف يقبلون أمور الله، قد تعجبوا للآية ونظموا أنفسهم بواسطة
الإدراك البشري أكثر من أولئك المرضى بعدم الفهم الذي للبهائم، كما كان اليهود
المجدفون، الذين بدلاً من ان ينتفعوا من شيوع الأمور التي تمت، يفقدون حتى القدرة
على الحكم الصائب. لأنهم حكموا بوجوب ان يُرجم يسوع ايضاً، لأنه كثيراً ما ظهر
كصانع عجائب. والأكثر حماقة من حمق هؤلاء الناس، بدرجة ليست بأقل، هم اولئك الذين
يتعجبون، وقد اغرتهم تلك الآية العظيمة جداً، فقالوا إنه كان هو بالحقيقة النبي
الآتي الى العالم، الذي سبق التنبؤ به. لكن انظروا عظيم الفارق الذي يبدو هنا،
أعني، بين جنس بني اسرائيل، وأولئك القادمين من خارج اليهودية، لأن بني اسرائيل
رغم انهم شاهدوا العديد من الأمور، الجديرة بالإعجاب، فإنهم لم يكونوا قساة القلوب
فقط وغير انسانيين، بل اشتهوا ايضاً وبدون وجه حق ان يقتلوه، ذاك الذي كان غيوراً
على خلاصهم. فطردوه بضراوة حماقتهم من دينتهم ووطنهم : بينما أولئك الذين استوطنوا
بعيداً عن اورشليم، ومن ثم يمثلون جنس الغرباء، فإنهم بسبب معجزة واحدة يمجدونه،
ويقررون بنبل ان ادراكهم له يجب ان يتم بايمان بلا تردد. ومن كل تلك الأمور، ظهر
اسرائيل مداناً من نفسه، مدعواً من ذاته الى رفضه النهائي العادل، وكان الوقت قد
حان ان ينال الأمم أخيراً نصيباً في الرحمة من فوق، ونصيباً من المحبة بالمسيح.

15
"وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون ان يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف
ايضاً الى الجبل وحده".

          يمكن
للمرء ان يحكم حكماً جديراً بكل المدح، وصائباً الى التمام، عن أولئك الذين آمنوا
بسهولة بسبب المعجزة العظيمة، وذلك لأن المسيح كان هو اختيارهم الأمثل والذي كان
بالحق اختياراً لائقاً جداً، ذلك الاختيار هو اختيارهم الأول الذي قدموه تكريماً
له. فعلى أي شيء آخر سوى هذا تدلنا رغبتهم ان يختاروه "ليجعلوه ملكاً"؟

          لكن
من بين أشياء أخرى يمكن للمرء ان يعجب بهذا ايضاً، لأن المسيح صار مثالاً لنا في
بغضه للمجد (الباطل). إذ هرب من الذين أرادوا ان يعطوه الكرامة التي يستحقها ورفض
مملكة تعتبر أعلى جائزة أرضية، على الرغم من انها بالنسبة له لم تكن في الحقيقة
أمراً يشتهيه، لأن له الملك، مع الآب على كل الأشياء، ومع هذا فهو يعطي ايضاً
لأولئك الذين يترقبون الرجاء العتيد، ان يفهموا ان العظمة العالمية شيء ضئيل
بالنسبة له، وأنه ليس حسناً ان يقبلوا الكرامات في هذه الحياة، أعني، في العالم،
حتى لو كانوا يقدمون أنفسهم، لكي يرتقوا الى الكرامة التي من الله. لأنه من غير
اللائق في الحقيقة ان يرغبوا في ان يسطع نجمهم في الشهرة حيال تلك الأمور وهم
الذين يسعون باجتهاد الى النعمة الالهية، ويعطشون للمجد الأبدي.

          لهذا
يجب علينا ان نتحاشى محبة المجد، الذي هو شقيق الغطرسة وقريبها، وليس عنها ببعيد،
ويجب ان نتحاشى ايضاً الكرامة البراقة في هذه الحياة الحاضرة، فهي ضارة ولنبحث
بالحري عن الاتضاع المقس، مقدمين بعضنا بعضاً، كما ينصح الطوباوي بولس ايضاً
قائلاً : "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع ايضاً، الذي إذ كان في
صورة الله لم يحسب خلسة ان يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد
صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت
الصليب. لذلك رفعه الله ايضاً وأعطاه الاسم ([ii])
الذي هو فوق كل اسم" (في 2 : 5-9).

          ألا
ترون ان خاتمة اتضاعه الارادي كانت خاتمة مجيدة، وان وداعة فكره كشفت لنا انها هي
أصل أمور صالحة كثيرة بالنسبة لنا؟ لأن الوحيد الجنس إذ هو في صورة الله الآب وضع
نفسه، إذ صار انساناً لأجلنا ورغم انه قد ظهر في هذه الحياة بالجسد، لكنه لم يظل
وضيعاً : لأنه سرعان ما رجع الى كرامته الأولى ومجده الالهي رغم انه صار انساناً :
هكذا يمكن ان نفترض ان يكون لنا نحن ايضاً نفس الطريق. لأننا حين ننحدر بنفوسنا من
الارتفاعات الفارغة للحياة الحاضرة، ونطلب الأمور المتضعة، فإننا يقيناً سوف ننال
(بالمقابل) المجد من أعلى، ونرتفع لنكون آلهة بالنعمة، لأننا على مثاله الذي هو في
الحقيقة ابن بالطبيعة، سوف نُدعى "أبناء الله".

          ولكي
أقول شيئاً قريب الصلة بالموضوع الذي نحن بصدده الآن، فإن كنا نهتم بالأمور
السماوية، ونحيا لأجل أمور علوية أكثر من الأمور الأرضية، فلنرفض، إن عرض علينا، التعظم
على الأرض، الذي هو أبو كل مجد باطل.

          لكن
حديثنا لا يخلو من تفكير روحاني، لهذا سنكرر، موجزين معنى كل ما تم فعله، ثم نفحص
مرة أخرى الرواية التي أمامنا منذ بدايتها. لأنه هكذا سيتضح لنا ما يوشك ان يقال،
خاصة ان الانجيلي المبارك اضاف، وكأني به يلمح الى شيء ما ضروري لا يجب رفضه، ان
(المسيح) "انصرف الى الجبل وحده". لهذا إذ يرفض المسيح عنف اليهود، يبدأ
في الرحيل عن اورشليم، الأمر الذي نراه بوضوح في القول "قد تركت بيتي، رفضت
ميراثي" (إر 12 : 7). فحينما عبر "بحر طبرية" وصار بعيداً عن
حماقتهم، "صعد الى جبل وجلس هناك مع تلاميذه" (ع3). هكذا أشار كما قلنا
الى طبيعة الطريق التي تقود اليه، تلك الطريق التي لا تعبر وغير الممهدة عملياً
بالنسبة لليهود، كما أشار الى انسحاب المسيح بعيداً عنهم في غضب وقت آلامه، زماناً
ما، أي، أشار الى ان المسيح سوف يظهر، مع تلاميذه، حين يرحل من اليهودية، ويذهب
الى الأمم، ناقلاً نعمته اليهم. ومن أعلى الجبل نظر الى الذين تبعوه، وأكثر من ذلك
فقد اهتم بطعامهم، وقد قلنا ايضاً ان هذا يشير رمزياً، الى الاشراف من أعلى وهو
الإشراف الذي يلزم للقديسين بحسب ما قيل : "عينا الرب على الصديقين" (مز
34 : 15) وان المسيح لا يهمل العناية بمن يخافونه. ثم ان كثيراً من الشعب قد
اطعموا بشكل معجزي، بالخمس خبزات والسمكتين"، والتي قلنا عنها انها ربما تشير
الى كتابات القديسين قديماً وحديثاً، والتي وضعها الرسل أمام الذين يحبون المسيح.
ايضاً فإن جوقة التلاميذ سوف تنال من الله ثمراً وفيراً بسبب خدمتهم لنا، ومن
بعدهم، أساقفة كنائس الله المقدسة، لأن المثال كان في البدء للجميع فيهم. ايضاص
هناك المشاهدون الذي أبدوا إعجابهم بالمعجزات، وخططوا ان "يختطفوا يسوع
ليجعلوه ملكاً". وإذ يدرك هو ذلك، "ينصرف الى الجبل وحده"، كما هو
مكتوب، لأن المسيح حينما يتعجب منه الأمم كصانع عجائب وكإله، وحينما ينصبه الجميع
ملكاً لهم ورباً، حينئذ يتم استقباله هو وحده في السماء، وما من أحد سواه يتبعه
هناك. لأنه هو، بكر الأموات، قد "صعد وحده الى الجبل" العظيم والحقيقي،
حسب ما قيل بالمرنم : "من يصعد الى جبل الرب؟ ومن يقوم في موضع قدسه؟ الطاهر
اليدين والنقي القلب" (مز 24 : 3، 4) لأن مثل هذا الانسان سوف يتبع المسيح،
وسوف يصعد الى "الجبل" الروحي ايضاً، في زمان ملكوت السموات. لكنه
"انصرف الى الجبل"، أي، صعد الى السماء، ليس كمن يرفض ان يملك على اولئك
الذين آمنوا بل مؤجلاً الزمن، زمن استعلان ملكوته بشكل أوضح، لحين عودته الينا من
أعلى، حين ينزل في مجد الآب، لا بمعجزات بعد، كما كان قبلاً، معروفاً أنه هو الرب
بالحق وبالطبيعة، لكن بالمجد الالهي يعترف به انه هو الملك دون شك.

          لهذا
(وكما سأقولها مرة ثانية، ضاغطاً مجموع الكلمات)، عندما تم الايمان به بواسطة
معجزاته، وعرف انه هو الله، قد انصرف بعيداً عن الشعب اليهودي، ثم اندفع الجميع
نحوه يريدون تنصيبه ملكاً، لكنه ارتفع الى السموات وحده، تاركاً اظهار ملكوته
اظهاراً اكثر علانية، الى الوقت المناسب لذلك.

16
"ولما كان السماء نزل تلاميذه الى البحر".

17
"فدخلوا السفينة، وكانوا يذهبون الى عبر البحر الى كفر ناحوم".

          تمت
الآية الأولى بشكل معجزي. أما هروبه وانصرافه فهما "تدبيرياً" اصل وفرصة
لعمل آية ثانية، وكان صانع العجائب، كما هو مكتوب، يسير من "قوة الى
قوة" (مز 84 : 7)، لأنه لما طلب الذين انبهروا بالمعجزة الكبيرة، ان يجعلوه
ملكاً، واذ كان يرفض هو نفسه الكرامات العالمية بحسب ما قررناه قبلاً، كان من
الضروري جداً ان يرحل عن المكان، بل ان يرحل عن بلادهم بأسرها ولكي يبدو انه ابحر
بعيداً، ولكي يخفف من تشدد الباحثين عنه لحد ما، أمر التلاميذ ان ينصرفوا قبله،
لكنه ظل هو نفسه (هناك)، ليهيئ الفرصة السانحة للمعجزة القادمة. لأن هذا كان سعيه
الدؤوب في كل مناسبة وكل فعل، ان يثبت ذهن الرسل في ايمانهم به، لأنهم اذ كانوا
مزمعين ان يصيروا معلمي المسكونة، وان "يضيئوا كأنوار في العالم" كما
يقول بولس الرسول (في 2 : 15)، فقد كان أمراً ضرورياً ان يقودهم الى كل الأمور
التي هي لنفعهم. لأن هذا كان لكي يظهر الرأفة لا نحوهم وحدهم، بل ايضاً نحو الذين
يقودنهم الى ادراكه بشكل لا يعتريه الخطأ.

          (وربما
يقول قائل) لكن لماذا بعد تلك المعجزة، يقدم لنا مباشرة قوة يسوع في السير على
البحر؟ إن مثل هذا السائل سوف يسمع سبباً معقولاً للغاية. لأنه لما أراد يسوع ان
يطعم الجموع، فإن فيلبس وأندراوس افترضا انه سيكون بلا قدرة آنذاك، إذ قال احدهما
ان تلك الجموع لا يكفيها خبز بمبلغ كبير، ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً، وقال
آخر إن "خمسة أرغفة وسمكتين" التي وجدت مع أحد الصبية، ليست بالشيء الذي
يكفي ذلك الجمع الغفير، ومن كل أقوالهم ظنوا أنه لن يستطيع ان يفعل شيئاً في حينه
حيال احتياجاتنا هذه. ولكي لا يكون أسير مثل هذا الفهم القاصر، ولكي يدرب ذهن
الرسل الضعيف على التعلم، فقد تمم كل تلك الأمور بشكل معجزي حسبما أراده هو، دون
ان تعوقه طبيعة الاشياء، ولا استطاع الترتيب الضروري للأمور ان يعوقه أقل إعاقة،
لهذا وضع تحت قدميه طبيعة الماء الرخوة، رغم ان أجساد الناس لم تعتد من قبل ان
تبقى فوقها، لأن كل الأشياء ممكنة بالنسبة له إذ هو الله. ولما حل "المساء"،
وقد أخمد الوقت سهر أولئك الذين كانوا يطلبونه، فإن طغمة التلاميذ القديسين نزلوا
الى البحر، وبدأوا يبحرون في الحال، طائعين الههم ومعلمهم في كل شيء، وقد تم هذا
الأمر دون تأخير.

"وكان
الظلام قد أقبل، ولم يكن يسوع قد أتى اليهم".

18
" وهاج البحر من ريح عظيمة تهب".

          وفي
الحال ظهرت اشياء كثيرة نافعة، وقادت الظروف التلاميذ ان يبحثوا عن المخلص بأوفر
غيرة. لأن الظلام الدامس في تلك الليلة ازعجهم، وكان يحوم حولهم كدخان فوق الأمواج
الهادرة، يغتصب منهم كل معرفة بمدى ما تهدر به تلك الأمواج. كانت قسوة الرياح
ايضاً تؤرقهم بشكل كبير، وهي ترتفع بجلبة صاخبة، وترتفع الأمواج العاتيات ارتفاعات
لم يألفوها قبلاً. أجل، ورغم ان تلك الأمور كانت قد حدثت فإن الكتاب يقول "لم
يكن يسوع قد أتى اليهم" وهذا هو سبب الخطر المحدق بهم آنذاك بشكل خاص، وكان
غياب المسيح عن المبحرين يزيد من خوفهم.

          لهذا
فإن الأمواج العاتية تتقاذف الذين ليسوا مع يسوع وانقطعوا عنه، او بدوا غائبين
عنه، بانصرافهم عن شرائعه المقدسة، فانفصلوا بسبب الخطية عن ذاك القادر ان يخلص.
فإن كان ثقيلاً (علينا) ان نكون في ظلمة روحية، وان كنا مثقلين بسبب ابتلاع بحر
الملذات المرير لنا، فلنقبل يسوع : لأن هذا سيخلصنا من المخاطر، ومن الموت في
الخطية، إن مثال ما قيل سوف نراه فيما حدث، لذلك فالمسيح بالتأكيد سوف يأتي الى
تلاميذه.

19
"فلما كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين او ثلاثين غلوة، نظروا يسوع ماشياً على
البحر، مقترباً من السفينة، فخافوا".

20
"فقال لهم : أنا هو، لا تخافوا".

          لما
انفصل "التلاميذ" عن الأرض بمسافة كبيرة بدا أنهم في اضطرابهم لن يخلصوا
بأية وسيلة (لأنهم كانوا آنذاك في وسط البحر)، وإذ بالمسيح الذي يشتاقون اليه بقوة
يظهر لهم. لأنه هكذا يمنح خلاصاً عظيماً للذين هم في خطر حينما يكون الخوف قد قطع
كل أمل في الحياة. لكنه ظهر لهم بشكل معجزي (لأنه هكذا رتب الأمر لنفعهم بالأكثر)
واندهشوا حين رأوا يسوع يمشي وسط البحر وفوق المياه نفسها، فزادت المعجزة من
خوفهم. لكن سرعان ما يريحهم المسيح من خوفهم، قائلاً "أنا هو لا
تخافوا". لأن الحاجة باتت ماسة ان يختفي القلق بعيداً، وبالنسبة لأولئك الذين
يحضر المسيح في وسطهم الآن، فإنهم يرتفعون فوق كل خطر محدق. وسوف نرى من خلال ذلك
ايضاً، انه ينبغي علينا ان تكون لنا روح شجاعة وجسورة في التجارب، وتحمل قوي بسبب
الرجاء في المسيح، ونحن ثابتون في ثقة تامة اننا سوف نخلص بالتأكيد مهما كان حجم
مخاوف التجارب التي تحيق بنا.

          إذن
"تأملوا كيف ان المسيح لم يظهر لأولئك الذين في القارب عند ابحارهم في الحال،
ولا عند بدء الأخطار التي حدثت، ولكن حينما كانوا على بعد غلوات كثيرة بعيداً عن
الأرض. فإن نعمة ذاك الذي يخلص لا تفتقدنا حالما تبدأ الخطر المنذر حولنا، بل
حينما يبلغ الخوف ذروته، ويبدو الخطر نفسه عنيفاً جداً، ونوجد نحن، في وسط أمواج
الضيقات : حينئذ – على غير المتوقع – يظهر المسيح، ويبدد مخاوفنا، ويخلصنا من كل
خطر، وبقدرته التي لا ينطق بها يبدل المخاوف فرحاً ويصير هدوء وسلام.

21
"فرضوا ان يقبلوه في السفينة، وللوقت صارت السفينة الى الأرض التي كانوا
ذاهبين اليها".

          لا
يخلص الرب المسافرين من الأخطاء فقط التي أحاقت بهم بشكل عاصف، بل هو أيضاً يحررهم
من التعب ومن الكد، وبقوته الالهية يوجه السفينة الى الشاطئ المقابل. لأنهم كانوا
يتوقعون يتجذيفهم المستمر وهم في حالة سكون، ان يقدروا صعوبة على بلوغ الشاطئ، لكن
(الرب) أراحهم من أتعابهم، مظهراً لهم ذاته، كصانع عجائب كثيرة في زمن وجيز، مما
جعلهم في يقين كامل.

          فحينما
يظهر المسيح ويشرق علينا، فإننا دون تعب ننجح، حتى ولو على عكس ما نتوقع، ونحن الذين
كنا في خطر بتركنا له، لا نعود بعد في احتياج الى التعب لإنجاز ما هو نافع لنا،
حينما يكون هو حاضراً معنا. المسيح إذن هو نجاتنا من كل خطر، وهو تحقيق الإنجازات
بما يفوق توقع الذين يقبلونه.

          لكننا،
ما دمنا قد تحدثنا عن كل جزء من الموضوع على حدة، دعونا، نربط المعنى السابق بما
يليه من اجزاء، ونضع لها التفسير الروحي. قلنا إذن ان يسوع صعد الى السماء كما الى
جبل، أي ما معناه، أنه صعد بعد قيامته من الموت. لكن عندما حدث هذا، فإن تلاميذه
وحدهم وبأنفسهم كنموذج للمعلمين الكنسيين بالتتابع عبر الأزمان كلها، يسبحون خلال
أمواج هذه الحياة الحاضرة كنموذج للبحر، يواجهون تجارب عديدة وشديدة ويتحملون
مخاطر لا يستهان بها عند التعليم، وذلك على أيدي أولئك الذين يعارضون الايمان
ويحاربون كرازة الإنجيل : لكنهم أولئك الذين يعارضون الايمان ويحاربون كرازة
الانجيل : لكنهم سيتحررون من خوفهم ومن كل خطر، وسوف يستريحون من أتعابهم وبؤسهم،
حينما يظهر المسيح لهم بعد موته ايضاً بقدرته الالهية. إذ قد وضع العالم كله تحت
قدميه. فهذا ما يشير اليه سيره على البحر، ما دام البحر غالباً ما يعتبر رمزاً
للعالم في الكتب المقدسة، كما قيل في المزامير، "هذا البحر الكبير الواسع
الأطراف، هناك دبابات بلا عدد صغار حيوان مع كبار" (مز 104 : 25). إذاً
فحينما يأتي المسيح "في مجد أبيه" كما هو مكتوب (مت 16 : 27) حينئذ، فإن
سفينة الرسل القديسين، أي "الكنيسة" والذين يبحرون فيها، أي، أولئك
الذين بالايمان والمحبة نحو الله يرتفعون فوق أمور العالم، دون تأخير ودون أي تعب،
يربحون الأرض، "التي كانوا ذاهبين اليها". لأن غايتهم كانت ان يبلغوا
ملكوت السموات، كما الى مرفأ هادئ، ويؤكد المخلص هذا المفهوم لكل ما قيل، حين يقول
لتلاميذه ذات مرة، "بعد قليل لا تبصرونني. ثم بعد قليل ايضاً ترونني.."
ويقول مرة أخرى ايضاً.. "في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا، أنا قد غلبت
العالم" (يو 16 : 16، 33). لكن في الليل نزل الرب من الجبل وافتقد تلاميذه
الذين كانوا ساهرين، ونظروا اليه آتياً وهم خائفون، ومن هذه الحالة يمكن لنا ان
نعرف شيئاً نحن في حاجة اليه لنفهمه. لأن المسيح سينزل من السماء، كما في الليل،
والعالم لا يزال نائماً ومستغرقاً في الخطايا الكثيرة. لهذا ايضاً يقول لنا
"اسهروا إذاً، لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم" (مت 24 : 42).

          ويعلمنا
ايضاً مثل العذارى نفس الشيء، لأنه يقول ان خمساً منهن كن حكيمات، وخمساً جاهلات،
لكن "وفيما أبطأ العريس نعسن جميعهن ونمن. ففي نصف الليل صار صراخ هوذا
العريس مقبل فأخرجن للقائه" (مت 25 : 5، 6). هل ترون كيف يظهر العريس لنا في
نصف الليل؟ (أو ما هوذا ذاك الصراخ) وكيفية اللقاء، ذلك ما سوف يعرفنا به بولس
الالهي، إذ يقول ذات مرة "لأن الرب نفسه بهتاف، بصوت رئيس الملائكة وبوق الله
سوف ينزل من السماء" (1تس 4 : 16)، ثم يقول عن القديسين الذين يقومون
"ثم نحن الأحياء الباقين، سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في
الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب" (1تس 4 : 17). لكن التلاميذ إذ ضربوا
بالخوف، بالرغم من انهم رأوه آتياً، وكانوا في تعب وسهر، مما يشير الى ان مجيء
الديان سوف يرعب الجميع، وان البار سوف يرتعد في نفسه، ممتحناً كما بنارٍ، ورغم
انه يتوقع مجيئه دوماً، لا يحجم عن الجهاد في الفضيلة، متغذياً بالسهر واليقظة
الصالحة، لكن الرب لا يدخل السفينة مع تلاميذه، وكأني به كان قاصداً الإبحار معهم،
لكنه بالحري يحرك السفينة نحو الأرض، لأن المسيح لأن المسيح لن يظهر بعد شريكاً
في العمل مع الذين يكرمونه، لأجل اتمام الفضيلة، بل لكي يعطي أولئك الذين قد أتموا
(الفضيلة) قبلاً، يعطيهم تلك الغاية التي يسعون اليها.

22
"وفي الغد لما رأى الجمع الذين كانوا واقفين في عبر البحر انه لم تكن هناك
سفينة أخرى سوى واحدة وهي تلك التي دخلها تلاميذه، وان يسوع لم يدخل السفينة مع
تلاميذه، بل مضى تلاميذه وحدهم.

23
"غير انه جاءت سفن من طبرية الى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز اذ شكر
الرب".

          لم
تكن المعجزة غفلاً عن الملاحظة، أعني، معجزة سير يسوع على البحر فعلاً، بالرغم من
انها حدثت ليلاً وفي الظلام، وقد تمت سراً، لكن جموع الذين اعتادوا اتباعه، ولكثرة
مراقبتهم (له) بشكل مؤكد، فإنهم أدركوا انه لم يبحر مع تلاميذه، ولا هو عبر
(البحر) بواسطة سفينة أخرى لأن سفينة التلاميذ هي التي كانت هناك بمفردها، وهم قد
اخذوها ورحلوا قبله. لا شيء إذاً من الصلاح يمكن اخفاؤه حتى لو تم سراً على يد أي
أحد، ونحن هنا نرى ان هذا صحيح : "ليس خفيٍ لا يُظهر ولا مكتوم لا يعلم
ويعلن" (لو 8 : 17). أقول إذاً إن من يريد اقتفاء خطوات المسيح، وبقدر ما هو
مستطاع للبشر لكي يتشكل الانسان حسب مثاله هو، لا يجب ان يحيا في حب التفاخر، ولا
ينحرف سعياً وراء المديح، حين يمارس فضيلة، ولا يتفاخر حين يدخل في حياة غير عادية
بنسكٍ كثير، بل عليه ان يشتاق ان تراه عينا الله فقط، الذي يكشف الخفيات، وما يتم
في الخفاء يظهره بأوضح إعلان.

24
"فلما رأى الجمع ان يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه، دخلوا هم أيضاً السفن
وجاءوا الى كفر ناحوم يطلبون يسوع".

          كان
هؤلاء الناس يتبعونه، وربما يتعجبون من معجزاته. ومع هذا لا ينتفعون بها من جهة ما
يحتمه الايمان، وكأني بهم يعودون الى "صانع العجائب" لمجرد ان يمتدحوه.
وهو مرض كئيب يصيب الذهن والنفس التي لم تألف الانقياد أبداً الى اختيار ما هو
نافع لها. وسبب وجود هذا الأمر فيهم، أنهم كانوا يسرون فقط بملذات الجسد،
ويتقافزون بلهفة على أحط الأطعمة البائدة، بدلاً من الاسراع الى الغذاء الروحي،
والسعي الى اقتناء ما يمكن ان يعطيهم الحياة الأبدية. هذا ما سوف تتعلمونه بوضوح
مما يلي أيضاً.

25
"ولما وجدوه في عبر البحر قالوا له : يا معلم متى صرت هنا؟".

          وكان
حديثهم الى (الرب) يبدو وكأنه حديث أناس يحبونه، وإن كانوا يتظاهرون باللطف، لكنهم
مدانون بإفراطهم في الحماقة والصبيانية. لأنه كان يجب عليهم عند مقابلتهم لمعلم
عظيم بهذا القدر، ألا يتحدثوا بغير هدف، دون ان يتكبدوا مشقة تعلم شيء ما (منه).
لأنه ماذا كانت الحاجة الى تلهفهم على سؤاله، متى صار هناك؟ وما الخير الذي يمكن
ان يعود عليهم من معرفتهم الإجابة؟ علينا اذن ان نطلب الحكمة من الحكماء، مفضلين
الصمت الرزين على الكلمات غير المنضبطة. لأن تلميذ المسيح ينصح أن يكون
"كلامنا كل حين.. مصلحاً بملح" (كو 4 : 6)، وينصحنا حكيم آخر قائلاً :
"يا بني. إن كان عندك كلمة فهم، أجب، وان لم يكن، ضع يديك على فمك"
(حكمة يشوع 5 : 12س). وكم يكون شراً أن نُدان بسبب عدم انضباط لساننا، إذ سنعرف من
(حكيم) آخر يقول : "إن كان أحد فيكم يظن أنه دين، وهو ليس يلجم لسانه، بل
يخدع قلبه، فديانة هذا باطلة" (يع 1 : 26).

26
"أجابهم يسوع وقال : الحق أقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آياتٍ، بل
لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم".

          سوف
نقول لكم شيئاً شائعاً، ومع ذلك قلما نلجأ لاستخدامه؛ فالمعلمون العظام معتادون
غالباً ان يعتريهم كثير من الغضب، حينما يسألهم (الناس) عن أمورٍ فارغةٍ لا طائل
من وراءها وهم لا يفعلون ذلك بدافع الغطرسة، بل بالحري لتبرمهم وضيقهم من حماقة
السائلين، لهذا أظن انه من الصواب ان يقال ذلك عنا او عن اولئك الذين هم مثلنا،
لكن المخلص يلوم اولئك الذين طرحوا تلك الاستفسارات لوماً كثيراً، لحديثهم غير
المهذب، وسؤالهم غير الحكيم، لا لأن ليس من واجبهم ان يطلبوا او يكتشفوا الأمور
التي بها يصيرون أمناء وصالحين، لكن لأنهم قد تبعوه لأجل مجاراة جسدانية، وتلك من
أحقر الأمور. لأنه أي شيءٍ أدنى من الطعام اليومي، وليس هذا بترفٍ؟ علينا ان نطيع
المسيح ونحبه، لا بغرض الحصول على الخيرات الجسدانية، بل لكي ننال منه الخلاص، وعلينا
ألا نقول له كلمات توقير، مثلما نقول "يا معلم"، او نخترع الكلام
المعسول كأساسٍ يهدف الى طلب خيرات وفيرة والحصول عليها. وبالحق فإن من يحاول عمل
مثل هذه الأمور، فإنه سيلاقي من يدينه بصرامةٍ ويكشف شره الدفين.

          من
الملائم ايضاً ان نعجب بذلك التدبير. لأنه حينما رأى (الرب) أنهم كانوا مصابين
بالمرض السابق ذكره، وكطبيب ماهر يملك (أدوات) حرفته، ابتكر عقاراً (ذا فائدة)
مزدوجة لهم، فراح ينسج التوبيخ المناسب بواسطة معجزة هي في غاية العظمة، والمعجزة
التي سنجدها إذن هي في معرفة أفكارهم، وفي صانع العجائب الذي لم يخبرهم بما
يطلبونه – ليس عن حب للمعرفة – وسترون التوبيخ. و(لهذا الفعل) ميزة ذات شقين : فمن
جهة هو يعرف تماماً اساليبهم، ومن جهة فهو يدرك تماماً (ما يفعلونه)، ويوضح انهم
بلا فهم – لكونهم يفكرون في الهرب من العين الالهية – بينما هم يجعلون الشر يتراكم
في قلوبهم، ويلجأون الى معسول الكلمات بألسنتهم. لكن ذلك هو جانب ذاك الذي يحثهم
على ترك مرضهم هذا، والكف عن أية خطية (ولو) صغيرة. لأن من له هذا الإدراك عن الله
إنما هو متهور ومتمرد. وإذ هو يحكم عليهم بسبب خطاياهم لأجل منفعتهم، فإنه يمنع
بشكلٍ ما تيار الشر مستقبلاً. لأن ما لم يتم منعه، يزحف ويتغلغل، لكن حينما يمسك
الحق به، يخزى، ويتلوى كحبلٍ منكمشاً على نفسه. لهذا يفيدهم الرب بالتوبيخ ايضاً.
وبتلك الاشياء التي قد يظن المرء ان (الرب) يلطمهم بها، نراه بواسطتها هي ذاتها
بمثابة "المحسن" اليهم.

          يجب
علينا اذن، ونحن نرى البعض يمتدح قادة الكنيسة او يتملقهم بكلمات ناعمة لنوال
منفعة ما، ألا نعتبرهم برغم ذلك من المؤمنين، وانهم ينبغي ان يقلقوا بتملقهم هذا،
وينبغي الا ان يكافئوا على تصفيقهم (للرؤساء)، وهم (أي المتملقون) الأحوج الى
التصويب، فلا نصمتن على أخطائهم : بل يجب علينا بالحري ان نوبخهم بجسارة، وان
نحضهم على التغيير نحو الأفضل، او ان نجعلهم على الأقل ذوي نفع للآخرين، حسب قول
بولس : "الذين يخطئون، وبخهم أمام الجميع، لكي يكون عند الباقين خوف"
(1تي 5 : 20).

          هذا
إذن عن الموضوعات المستقلة : لكن يلزمني ان اوضح ارتباطها بعضها ببعض، وان اتتبع
بالضرورة مسار تلك الموضوعات السابق دراستها. قلنا إذن ان مجيء مخلصنا من الجبل
يرمز الى مجيئه الثاني العتيد، الينا من السماء، واضفنا بايجاز، انه ظهر لتلاميذه
حينما كانوا يترقبون (مجيئه) وهم في حالة اعياء، وانه خلصهم من خوفهم وأتى
بالسفينة بسرعة الى البر. وأمامنا هنا ما هو مرسوم لنا كما في مثال، وكنا قد أعلنا
عنه في حينه. لكن تأملوا الآن ان يسوع بعد ان نزل من الجبل، فإن البعض لم يتبعه،
وجاء اليه أخيراً. لأنهم كانوا قد جاءوه "في الغد" (22)، وقد أضاف
الانجيلي تلك العبارة عن قصدٍ. ثم عند مقابلتهم للمسيح، سعوا ان يتملقوه بكلمات
طيبة : لكن المسيح يوبخهم بعنف، موجهاً اليهم لوماً صارماً وشديداً، حتى نهتم نحن
ايضاً بهذا الأمر، أنه عندما يأتي الرب الينا من السماء، يكون السعي من جانب البشر
وراء الخيرات الأرضية من أكثر الأمور بطلاناً وخسارة، ولن يكون هناك فرصة لمن يرغب
في اتباعه.

          أجل.
حتى إن كان البعض يقتربون منه، ظانين انهم يسترضونه بكلمات ناعمة، سيجدون ان
الديان لم يعد بعد لطيفاً ووديعاً، بل موبخاً ومنتقماً. لأنكم ستجدون مع إطراء
أولئك الذين وبخهم ذلك التوبيخ ذاته في كلمات المخلص، حين يقول : "كثيرون
سيقولون لي في ذلك اليوم (وهو يعني يوم الدينونة)، يارب، يارب، أليس باسمك..
اخرجنا شياطين؟ لكنه يقول (لهم) : حينئذ اصرح لهم إني لم اعرفكم قط" (مت 7 :
22). (كأنه يقول لهم) لأنكم لم تطلبوني بنقاوة ولا أحببتم ان تسموا في القداسة،
وإلا كنت قد عرفتكم، لكن ما دمتم تمارسون المحبة بحسب الظاهر فقط، وهي مجرد محبة
شكلية بغرض الانتفاع فإنني بحق أصرح انني لم اعرفكم.

          وألفاظ
يارب يارب التي وردت في هذا النص، وردت هنا بلفظة يا معلم.

          وعلى
من كانت العقوبة بالنسبة له شيئاً مريراً، ألا يقع في الرخاوة ناظراً الى صلاح
الله، بل عليه ان يكون أكثر حزماً من جهة وقوعه في التعدي، وان يهيء أعماله من أجل
خروجه، وان يعدها لنفسه (في الحقل)، (أم 24 : 27س) أي "أثناء وجوده في
العالم" (مت 13 : 38) كما هو مكتوب. عليه ان يستعد لإظهار القداسة والبر أمام
عرش الدينونة الالهي. لأنه لن يرى بعد دياناً عطوفاً في غير أوان العطف، ولن يزعن
(هذا الديان) لإستجداء الرحمة، وهو الذي كان يجب على الانسان ان يطيعه بلا تسويف
حينما كان يدعوه الى الخلاص، وحين كان زمن الرحمة متاحاً له، لكي يتضرع طلباً
لغفران خطاياه السالفة، وان يطلب الشفقة المملوءة محبة من الله الذي يخلص.

27
"اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية".

          يعلمنا
بولس شيئاً من هذا القبيل، حيث يوسع من نطاق الحديث بشكل يشمل العالم كله، وبصورة
أكثر عمومية، قائلاً : "لأن من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فساداً. ومن يزرع
للروح (القدس)، فمن الروح يحصد حياة أبدية" (غل 6 : 8). لأنه يقول إن الذين
يزرعون للجسد، هم أولئك الذين يطلقون العنان كاملاً لشهوات الجسد، مندفعين بأقصر
سرعة الى كل ما يرغبون فيه، دون ان يميزوا بأي حالٍ على استحسان ما يبدو حسناً
أمام معطي الناموس، لكنهم ودون هوادة يهرعون الى ما هو جالب للذة ومقبول، مفضلين
هذا العدم على الأمور غير المنظورة. ويؤكد الرسول مرة أخرى ان الذين يزرعون للروح
هم اولئك الذين يصرفون جل قصد فكرهم الى تلك الأمور التي يريد الروح القدس لنا ان
نسمو فيها، مستثمرين ذهناً منهمكاً بكليته في فلاحة الصالحات، أولئك، الذين لا
يستجيبون لنداء الطبيعة، إلا فيما لا يمكن غض الطرف عنه في قضاء حاجات الجسد من
مأكل، وهم قد لا يحتملون حتى النزول الى هذا المستوى. أعتقد اذن ان علينا ألا
"نصنع تدبيراً للجسد لأجل الشهوات" (رو 13 : 14). بل بالحري، نلتفت الى
ما هو نافع بالأكثر، وان نكون غيورين في ممارسة تلك الأمور، التي تحضرنا الى
الحياة الالهية والأبدية. لأن الزهو بمباهج الجسد وعدم الاهتمام بشيء الا بزوائد
البطن (الأمعاء)، هو في الحقيقة شيء بهيمي وهو منتهى الحماقة، لكن ان نشغل انفسنا
بالصالحات مجتهدين في السعي للسمو في الفضائل، وان نخضع لنواميس الروح، وبكل استعداد
نطلب أمور الله، القادرة ان تعيننا على الخلاص : فإني أؤكد ان ذلك يليق بالحق بمن
يعرف طبيعته الذاتية، ولا يجهل أنه جُعل مخلوقاً عاقلاً "بحسب صورة
خالقه" (كو 3 : 10). لهذا كما يقول المخلص في موضع ما : "لا نهتم.. ماذا
نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس".. بل ان نعتبر ان "الحياة أفضل من
الطعام، والجسد أفضل من اللباس" (مت 6 : 31 : 25). هيا نفكر كيف يمكن
للجزء الأثمن فينا ان يعمل حسناً.

          لأنه
رغم ان الجسد يفعل حسناً، ويسمن بتتابع المسرات، فإن هذا لن ينفع النفس البائسة،
بل على العكس، يسبب لها ضرراً أكثر، لأنها سوف ترحل الى النار الأبدية، حيث إن
الذين فعلوا السيئات، سوف يلقون العقاب صنيع ما فعلوا، لكن إن كان الجسد قد لجم
بالتعقل الملائم وأُخضع لناموس الروح، فإن الجسد والروح كليهما يخلصان معاً. لهذا
يصبح في منتهى السخف، ان نهتم بالجسد، الذي هو الى حين، والذي سيضمحل الآن حتى،
ونحن نفتكر ألا نحرمه من أي شيء يحبه، ولا نهتم بالنفس، وكأنها شيء زائد لا لزوم
له، ولا يستحق شيئاً، رغم اننا في ظني يجب ان نشغل انفسنا كثيراً جداً باهتمامات
النفس بالأحرى، لأنها أكثر قيمة من الجسد. لأنه عندما يحتم الحق علينا ان نفضل ما
هو أسمى على ما أدنى في المقابل، مولين هذا الأمر رأياً صائباً، فإننا سنصبح
قديسين وحكماء فلا نسبغ تصديقاً حقاً على أي أمر آخر، بل بالحري نضعه فى رؤوسنا
وعلينا إذن، كما يقول المخلص، ألا نعمل "للطعام البائد" الذي إذا ما مر
الى الأمعاء، والذي يجعل العقل ينتشي لبرهة وجيزة جداً بأتفه الملذات، فإنه يتحول
الى نفاية، وسرعان ما يُقذف خارج البطن مرة أخرى، لكن الطعام الروحي الذي
"يقوي القلب" (مز 104 : 15)، يحفظ الإنسان الى حياة أبدية، الذي وعد
المسيح ايضاً ان يهبه لنا قائلاً : "الذي سيعطيكم ابن الانسان"، مدخلاً
في الحال ما هو "بشرى" في نسيج "الالهي"، وبذلك يكون قد ربط
كل سر التدبير بالجسد في ترتيبه الصحيح لكنه في رأي يلمح الى الطعام السري الأكثر
وروحانية، الذي بواسطته نحيا فيه، مقدسين جسداً ونفساً، لكننا سوف نراه يتكلم
بعلانية أكثر فيما بعد وعلينا ان نحفظ الحديث لوقته ومكانه المناسبين.

 

الفصل
الخامس

في ان
الابن الوحيد الجنس هو ختم شخص الله الآب، وما من ختم آخر سواه يكون هكذا، أو
يُدرك أنه كذلك إلا هو وحده.

تابع
آية 27 "الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا، قد ختمه الله الآب".

          كإله،
لم يكن (المسيح) يجهل الاتهامات التي تنشئ عن الحمق اليهودي، ولا أسباب ثورتهم
التي غالباً ما كانت تهب بحماقة. وكان يعرف أنهم كانوا يفكرون في أنفسهم، ناظرين
الى الجسد وحده، دون ان يدركوا الله الكلمة في الجسد. فمن هو ذاك الذي ينطق بكلام
الله؟ لأن من يقدر ان يعطي الناس طعاماً يحفظهم الى حياة أبدية؟ لأن مثل هذا الأمر
شيء غريب تماماً على طبيعة الإنسان. ويليق فقط بذاك وحده الذي هو إله فوق الجميع،
لهذا فإن المخلص يدافع عن نفسه مسبقاً وبالبراهين المناسبة، يخزي حديثهم الصفق
المنتظر. إذ يقول إن "ابن الانسان سوف يعطيهم الطعام الذي يقوتهم الى حياة
أبدية ويؤكد في التو انه مختوم من الآب. و"مختوم" هنا إما انها تعني
"ممسوح" (أي الذي يُمسح ويُختم)، او أنها تظهر انه كائن بالطبيعة في
الآب. تماماً كأنه قال، أنا غير عاجز عن ان اعطيكم طعاماً يمكنه ان يدوم ويثمر الى
حياة أبدية وفرحٍ أبدي. لأنه على الرغم من أنني أبدو كواحد منكم، أي إنسان له جسد،
إلا انني قد مسحت وختمت من الله الآب لمماثلة معه. (ويقول) لأنكم سوف ترون انه في،
وأنا أيضاً فيه بالطبيعة، رغم انني لأجلكم ولدت إنساناً من امرأة بحسب ترتيب
التدبير الذي لا ينطق به، لأنني استطيع كل شيء بسلطان الهي، ولا أخفق فيما يخص
القدرة الكائنة في، ورغم ان الله الآب يعطيكم الطعام الروحي الذي يحفظ الى حياة
أبدية، فمن الواضح ان "الابن ايضاً سوف يعطيه حتى وهو في الجسد، لأنه صورته
المطابقة تماماً، والمماثلة، والتي تدرك في كل شيء، ليس بحسب قسمات الجسد، ولكن لا
تدرك في هيئة جسدية، بل في مجد الهي وقوة مساوية وسلطان ملوكي. لكن علينا ان نلاحظ
مرة أخرى، أنه حين يقول ان ابن الانسان سيعطي أمور الله، وانه قد ختم اذ هو صورة
الله الآب، ولا يعتريه انقسام (ينادي به) ذاك الذي يفصل هيكل العذراء عن البنوة
الحقيقية، لكنه يعرف نفسه ويريد ان ندرك عنه انه هو ايضاً واحد. لأن المسيح هو
الواحد بالحق، الكائن علينا، حاملاً رداءه القرمزي الملوكي، أعني جسده البشري، أي
هيكله المكون من نفس وجسد، لأن المسيح هو واحد أيضاً من كليهما معاً ([iii]).

          وقد
يقول مقاوم المسيح مرة أخرى، لكن أيها السيد المبجل، أعط الحق قوة الغلبة : ولا
تتعامل بحدة الذهن مع القول، محولاً اياه بشكل مزر، كيفما تشاء. فها هوذا الابن
هنا بكل وضوح يظهر وقد ثبت انه ليس من جوهر الآب، بل بالحري "نسخة من
جوهره". (ويقولون) افترض مثلاً هذا الأمر، كما نقول : إن ختماً او علامة قد
طبعت على شمع، مثلاً، او على أية مادة أخرى تقبله، حافرين فقط شبهاً لهذا الشكل،
وان الذي طبع هذا الختم قد أخذه مرة أخرى، دون ان يفقد أي جزء منه، هكذا الآب، إذ
طبع ورسم نفسه بالكامل على الابن بطريقة ما بتماثل في غاية الدقة، فبالتأكيد
(فالابن) لا يأخذ من ذاته أي جزء من جوهره، ولا هو بمدرك هكذا، بل يكون مجرد صورة
وشبه دقيق.

          فليتأمل
ذلك الذي هو غيور على المعرفة ان معارضنا الآن يتهجم علينا، كأفعى، ويرفع رأسه
عالية مثقلة بالسم : لكن ذاك الذي يعصف "برؤوس التنين" (مز 74 : 14)،
سوف يهشم رأسه ايضاً، ويعطينا قوة لننجو من عناده الوبيل. فليخبرنا اذن، ألا يكون
الختم او العلامة، المصنوعة (ربما) من خشب او من حديد او من ذهب، هذا الختم ألا
يختم بالكامل وبالتأكيد ختماً ما على تلك الأشياء، وألا يعد او يدرك بأنه ختم
منفصل عن الطبع المختوم؟ لكنني افترض ان أياً من معارضينا ايضاً، حتى إن كان ذلك
ضد ارادته يلتزم بحدود الحق فعلاً، فيعترف ان الختم سوف يختم بطبع : ودون طبع، حسب
العقل الخالص، لن يطبع على الإطلاق. هكذا أيضاً، كما تشهد الكتب المقدسة لنا، فإن
الابن هو ختم شخصي لله الآب (عب 1 : 3)، في انه هو فيه ومنه بالطبيعة (في الختم
ومن الختم) حيث هو مطبوع، وإلا فمن خلال من سواه سيطبع الآب ختمه؟ لأن أحداً لن
يقول ان الآب ليس هو في الصورة الالهية بالكامل، فالصورة التي هي الابن، صورة ذلك
الذي ولده، ذاك الذي إذا رآه أي أحد روحياً، فإنه من الواضح سيرى الآب. لهذا هو
يقول انه هو ايضاً فيه بالطبيعة، حتى لو أدرك انه منه بسبب وجوده الذاتي : كالبهاء
مثلاً، الذي يكون في اللمعان ومن اللمعان يكون، وثمة شيء آخر مختلف، حسب ترتيب
الإدراك، ومرة أخرى شيء آخر غير مختلف، كما يظهر في علاقته به، لأنه يقال إنه منه،
ومرة أخرى إنه فيه.

          وأنا
لا أفترض ان في ذلك انقساماً وتجزأة جوهرية كاملة فيما يخص تلك الأمور : لأنها
متأصلة بالنسبة لتطابق الجوهر في تلك الأشياء حيثما تكون، والتي يعتقد فيها أنها،
تميل بحسب التعبير عن الفكرة الى شيء آخر من ذاتها، ومع ذلك فهي ليست منفصلة عنها.
إن كلمة جوهر الآب، وليس مجرد الكلمة، ولا بدون جسد، قد ختمه الآب، بل بالحري فإنه
بواسطته تختم تلك الأشياء التي تصير مشابهة لله، بقدر المستطاع، كما نفهم من
الكلام الذي يقول "نور وجهك قد ارتسم علينا يارب" (مز 4 : 6س). لأنه
يقول إن وجه الله الآب، هو الابن، الذي هو ايضاً الختم، لكن النور الذي فيه هو
النعمة التي تنقل الى الخليقة بواسطة الروح القدس، حيث يعاد تشكيلنا في الله
بالايمان، فننال به كما بختم، المطابقة مع ابنه، الذي هو صورة الآب، حتى ان كياننا
الذي صنع على صورة ومثال الخالق، يمكن ان يظل محفوظاً فينا. لكن لما كان الابن
معترفاً به بأنه وجه الله الآب، فإنه يكون حتماً الختم ايضاً الذي به يختم الله.

          (ويقول
المعترض علينا) أجل، نحن نؤمن ان الله يختم القديسين بواسطة الروح القدس، لكن
الأمور التي تأتينا بها لا مكان لها في الوضع الراهن. لهذا فإننا نلخص الكلام مرة
أخرى ونقول، إن الختم المفترض انه من حديد او ربما من ذهب، يطبع شبهه هو على
المادة التي يلتصق بها، دون ان يفقد شيئاً من ذاته، لكنه بالعملية التي يختم بها،
يضع علامة على الاشياء التي تتقبل منه هذا الختم، لهذا نحن نقر ان الابن قد ختم
بواسطة الآب، دون ان يأخذ من جوهره بل يملك فقط تماثلاً كاملاً، إذ هو آخر غيره،
كما تكون الصورة بالنسبة للأصل.

          يا
للحماقة التي بلا حدود، والوهم المحفوف بالمخاطر!

          كيف
نسيتم بسهولة تلك الأمور التي خضنا فيها للتو. لأننا قلنا ان الابن هو ختم الآب،
وانه مع الآب، وانه مع الآب قد ختم آخر غيره، وليس هو ذاته، لئلا يعتقد ان (الآب)
هو ختم ذاته. لكنكم إذ قد ازدريتم بغير حق بمناقشتنا وقتئذ، لا تستحون ان تنسبوا
له مماثلة في العمل فقط. ووفقاً لكم يكون الابن الهاً بحسب الصورة فقط، وليس الهاً
بالطبيعة على الإطلاق، بل هو اله فقط بحسب ما تشكل وتكون هكذا على مثال ذاك الذي
ولده؛ ولم يعد بعد من ذاك الذي ولده. لأنه سيأتي وقت ستحذفون الولادة أيضاً، حسب
تلك التقديرات، أجل وتكون هناك بالحري كل حاجة لذلك حتى لو ضد ارادتكم. وعن واجب
الاعتقاد بأن الابن مولود من الآب، فقد استغرق الجدل منا الوقت الكثير، أو أننا
سنفعل ذلك في حينه. لكن من المناسب أكثر ان ندخل في صميم الموضوع الذي نحن بصدهه،
واضعين أمام أولئك الذين اعتادوا على الحديث المخزي دون إحجام : ألن يقولوا
بالتأكيد إن ما أعطي يمكن ان يؤخذ، ويعترفون ان ما يضاف يمكن ان يفقد ايضاً؟ لأنه
ألا يحدث في وقت ما ان يرفض كل شيء لم يكن متأصلاً بثبات في أي أحد بالطبيعة؟ إنه
لأمر واضح، حتى إن حاول أي منهم ألا يؤيده.

          إذن
ففي وقت أو آخر، وبحسب قانون الاحتمالات، سوف يكون الابن محروماً من مثيله. لأنه
(كما تقولون) قد ختم بمجرد عملية أجراها أبوه عليه، فلم يتوفر له ثبات ما يأتي من
المواهب الطبيعية، بل هو مدرك وكائن بمفرده تماماً كياناً خارجاً عن ابيه، ومنفصل
تماماً عن جوهره، فهل بعملكم هذا وأموركم المستقبلية الفاحصة التي تتسم بالتفكير
الخبيث، تؤمنون الآب، بقولكم إنه لا يعطي شيئاً من ذاته للابن، إلا ان يمنحه
المماثلة فقط، لئلا يظن به الهوى. لأن هذا هو سركم الأحمق. لأن أغلب الظن ان
لجهلكم ان الله الآب، الذي يفعل كل الاشياء دون هوى، فإنه يلد ايضاً بلا هوى، وانه
أسمى من النار (لأن الجدل يحتم علينا التدني الى هذا المستوى من الأمثلة بالضرورة)
التي بدون هوى او انقسام جسداني، تلد الاشتعال الذي هو منها. فليسمع إذن أولئك
الغيورون في الأوهام فقط، فلا يكبحون تجديفهم، غير معتبرينه شيئاً دنساً، بل
بالحري فضيلة، أنه إن قالوا إن الابن مصنف مع الآب في امتلاك المماثلة وحدها، فإن
امتلاكه للخيرات لن يبقى مأموناً، بل سوف يخاطر بفقدان كونه الله بالطبيعة، ومن
المحتمل ان يتحول الى الأسوأ. إذ قيل ايضاً لملك صور، كلمات يمكن ان تجعلنا نعزيها
الى شخص الشيطان : "أنت ختم المثال" (حز 28 : 12س) : لكن الذي قيل له
مثل هذا الكلام كان قد سقط من المثال، ترون إذن، وبكل وضوح، بواسطة مثل تلك
الأمثلة، ان مجرد الكينونة في شبه الله لا يضمن او يؤمن ثباتاً لا يتزعزع في
الأمور الروحية، ولا هو يكفي للبقاء في الصالحات التي هم فيها، ليختموا بطبيعة
الخالق كما يجب، لأنهم هم ايضاً يسقطون، وهو مولودون طائشين، وكثيراً ما يتحولون
الى ذهن أردأ، أسوأ مما كانوا عليه في البداية. ومن المحتمل ايضاً اذن، وفقاً لهذه
الحجة، ان الابن إذ نال المماثلة مع الآب بالتماثل في العمل فقط، وان هذه الخاصية
ليست ثابتة فيه بالطبيعة، بل نال وضعه من مجرد اتجاه ارادته الذاتية، وربما يعتريه
تغيير، او على الرغم من انه لا يعاني من ذلك التغيير، فإنه سيجد ان عدم معاناته
هكذا ناتجة من غرض مثير للإعجاب، وليس بالحري بسبب ثبات طبيعته بالميلاد كإله.

          فماذا
إذن أيها السادة الأفاضل، هل لم يعد الابن بعد الهاً حقيقياً؟ وإن كان كذلك حسب
زعمكم – فلماذا نعبده نحن؟ ولماذا يمجد مع الله الآب؟ ولماذا يحمل كإله فوق أعلى
القوات؟ فهل السيرافيم القديسون انفسهم هم جهلة ايضاً معنا، من جهة انهم يضلون
كثيراً عن جادة الصواب بتمجيدهم لمن هو ليس بالطبيعة الله؟ على ما يبدو انهم
يخطئون بدعوتهم ذلك الذي يكرم بكرامة مساوية بأنه رب الصباؤوت. أو لسنا نقول ان
القوات العلوية والسيادات والعروش والسلاطين والأرباب، يجربون، بحسب قوتهم، ان
يظهروا متفقين مع الله؟ لأنه إن كان أصغر حيوانات الأرض بالنسبة لهذه الخليقة،
أعني الانسان، يكرم مثل هذا الجمال، فأي عقل يكون للمرء الذي لا يفكر بالكامل، أنه
بالنسبة لأولئك الأفضل منا بما لا يقاس، يحظى بنصيب من أفضل الأمور؟

          كيف
يدعونه إذن برب الصباؤوت من جهة، ويقفون حوله كحراس، كخدام لملك الكون من جهة
أخرى؟ لماذا يجلس مع الآب، وعن يمينه، العبد مع السيد، والمخلوق مع الخالق؟ لأنه
أليس من الأنسب ان يأتي بهذا الذي بسبب الحيطة والحذر هو خال من الهوى وكامل، كيف
يأتي به الى مستوى الأشياء المخلوقة عن ان يكون بالحري من الله بالجوهر، الذي له
بالطبيعة عدم القدرة على التألم؟ لكن ذلك واضح رغم عدم اعترافهم به. من ذا الذي
يحتمل هؤلاء المثرثرين إذن، او كيف هم لا يسمعون (القول)، "ويل للسكارى بغير
خمر" (إش 28 : 1س).

          لكنهم
ربما يخجلون بسخافات مثل تلك المجادلات، ويرضخون لذلك ويقولون، إن الابن قد ختم
بواسطة الآب، الى مماثلة غاية في الدقة، وهو غير متغير بالطبيعة، رغم انه ليس من
الآب.

          كيف
إذن، أخبروني، أن ذاك الذي هو ليس من الله بالطبيعة، سوف يحمل خاصياته، فلا يوجد
مشاركاً بالجوهر لكمالات الجوهر الإلهي التي لا تظهر عندئذ بحسب ترتيب الميلاد
الحقيقي؟ لأنني افترض، ان ذلك واضح ومعترف به من الجميع، ان خصائص اللاهوت لا يمكن
للطبيعة المخلوقة ان تنالها أبداً، وان الصفات الخاصة بالألوهية بالطبيعة لا يمكن
ان توجد في أي شيء عداها، بشكل مساو ودقيق : فمثلاً، عدم التغيير في الله
بالطبيعة، لكنه ليس فينا بهذا الشكر على الإطلاق، لكنه فينا ايضاً نوع ما من
الثبات يشبهه، من خلال الحذر والسهر، فالأمر لا يأتي دون جهاد من جهتنا سعياً وراء
تلك الأمور التي هي ليست لنا أصلاً. لكن إن كان من الممكن، أنه وفقاً لهم، فإن
الخاصيات الإلهية قد تكون في أي فرد ليس هو من الطبيعة الالهية جوهرياً، وانها يجب
ان تكون فيه هكذا كما هي في اللاهوت ذاته، (فأخبروني) ما الذي يمنع كل الأشياء
الخاصة بالله ان تحل في النهاية حتى على أولئك الذين هم ليسوا آلهة بالطبيعة؟ لأنه
إن استطاع احدهم دون عائق ان يوجد لنفسه عدم التغيير، لأصبح هناك متسع أيضاً
للبقية، ان يكونوا كذلك. فماذا ينتج عن ذلك؟ خلط ما بعده خلط! (ارتباك تام). ألن
ينحدر الأسمى الى أسفل ويرتفع الأدنى الى أعلى مكان؟ وما الذي يمنع إذن حتى الله
العلي العظيم من ان ينحدر الى مستوانا، ومن ان نكون نحن مرة أخرى آلهة مثل الآب،
حيث لا يعود هناك فرق بيننا وبينه، ان كانت الخصائص التي هي لله فقط تنتقل الينا،
وهي ليست فينا بالطبيعة؟ وحيث ان الله الآب يحوي في ذاته وحده، كما نعرف، هذه
الخاصيات، وحيث إننا سنصير مثله، وقد بقينا بشراً، والملائكة كذلك معنا كما هم، لا
يرتفعون الى ذاك الذي هو فوق الجميع. لأنه إن كان الله يمكنه ان يكشف نفسه انه غير
غيور بوضعه خاصيته الذاتية في إمكان الجميع، لصار كثيرون بالتأكيد آلهة، قادرين
على خلق الأرض والسماء وباقي الخليقة كلها. لأن كمالات ذلك الذي هو بالطبيعة خالق
قد انتقلت مرة، فكيف لا يصيرون هم مثله هو؟ او ما الذي يمنع ذاك الذي يشع بصلاح
مساوٍ بأن يظهر في مجد مماثل؟ لكن مقاوم الله يرى يقيناً وبالتأكيد مدى عظم
الاختراعات الغريبة الكثيرة التي تراكمت فوقنا، ويهتف ضد الجهل الذي فيه. سيبقى
اللاهوت إذن في طبيعته الذاتية، وسيتشارك المخلوق فيه بواسطة العلاقة الروحية،
لكنه أبداً – لن يرتق الى الكرامة التي تخص الله دون تغيير. لكن إذ قد رتبنا
مناقشتنا هكذا، سنجد ان عدم التغيير يوجد جوهرياً في الابن. فهو اذن الله
بالطبيعة، وبالضرورة هو من الآب، وإلا يكون ذاك الذي هو ليس منه بالطبيعة، قد بلغ
درجة من اللاهوت مساوية في الكرامة.

          لكن
ما داموا يكشفون لنا عن جدل يزعمون انه لا يبارى قائلين ان الابن هو آخر غير الآب،
كما هي الصورة بالنسبة للأصل ومن خلال ذلك يظنون بطياشة انهم يفصلوه عن جوهر الذي
ولده، فإنه سيسقطون في حماقة شديدة، وسوف يصير تأكيدهم الى لا شيء، لا قوة فيه من
جهة الحق لإنجاز ما في قلوبهم من أمر. لأنه ما الذي يرمون اليه هكذا عبثاً، أو لماذا
يفصلون الابن عن الآب من خلال التمايز فقط في جوهره؟ لأن حقيقة أنه كائن أقنومياً
لا تثبت (حسب ظني أنه مختلف عن جوهر ذاك الذي ولده. لأنه معترف به انه من الآب،
كائناً من جوهره، وهو ايضاً في الآب، بسبب كونه فيه بالطبيعة، وسوف تسمعونه يقول،
في وقت ما : "خرجت من عند الآب، وأتيت"، وفي وقت آخر : "أنا في
الآب، والآب في" (يو 16 : 28، 8 : 42، 14 : 10). لأنه لن ينعزل في كيان ذاتي،
منفصلاً تماماً، وإذ نرى ان الثالوث القدوس يدرك ككائن في لاهوت واحد، لكن كونه في
الآب، غير منقسم من حيث الكيفية والوضع بالنسبة للجوهر (وحدانية الجوهر)، فإنه
بالمثل يدرك على أنه من الآب، بحسب الصدور
Procession الذي يظهره بطريقة لا يعبر عنها من جهة الإشراق. لأنه نور من نور.
لهذا فهو في الآب ومن الآب، وبالمثل أيضاً فهو غير منقسم وغير منفصل، وهو في الآب
كختم له، لكنه كصورة الأصل سيدرك بأنه من نفس شخصه (أي جوهرياً). لكننا ببساطة لن
نكمل حديثنا في هذا الأمر بل سنؤكده بمثال من الناموس، مدعمين من كل جانب قوة الحق
ضد أولئك الذين يفكرون فكراً مختلفاً.

          فالناموس
كان قد أذن لبني اسرائيل "يعطي كل واحد فدية نفسه… نصف الشاقل" (خر 30
: 12، 13 س). لكن ديناراً واحداً يحوي الشاقل. أجل، وها نحن هنا نرى ظلاً للمسيح
نفسه، الذي قدم ذاته لأجل الجميع، كما بالجميع (نيابة عنهم) قد فدية لله الآب،
ونفهم ذلك من الشاقل الواحد، لكنه ليس بمنفصل عن الآخر، لأن العملة الواحدة كما
قلنا قبلاً، تحوي نصفي شاقل.

          هكذا
يمكن ان ندرك الابن بالنسبة للآب، وايضاً الآب بالنسبة للابن، كلاهما معاً في
طبيعة واحدة، لكن كلا منهما متميز كقائم في شخصه الذاتي، لكنهما ليسا منفصلين
أبداً، ولا الواحد منعزل عن الآخر. وكما كان هناك نصفا شاقل في العملة الواحدة،
متساويان في الوزن معاً، وليس الواحد بأي حال أقل من الآخر، لهذا يجب عليك ان تدرك
ان لا اختلاف هناك في جوهر الابن بالنسبة لله الآب، ولا في جوهر الله الآب بالنسبة
للابن، وفي النهاية تستلم تعليماً سليماً يغطي كل النقاط التي تحدثنا عنها بخصوصه.

28
"فقالوا له : ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟".

          لم
يكن سؤالهم لقد طيب، ويمكن لنا ان نفترض ان السؤال لم يكن نابعاً عن رغبة في
التعلم من جهتهم، بل بالحري كان نتيجة كبرياء زائدة. إذ كأني بهم يحجمون عن تعلم
شيء أكثر مما كانوا يعرفونه فعلاً، فإنه سوف يقولون تقريباً شيئاً من هذا القبيل :
يكفينا ايها السيد الصالح، كتابات موسى : فنحن نعرف أكثر مما نحتاج عن تلك الأمور
التي ينبغي على الماهر في أعمال الله ان يقصدها. فما الشيء الجديد الذي ستزودنا به
إذن، بالاضافة الى تلك الأمور التي كانت قد حددت في ذاك الزمان؟ وأى شيء غريب
ستعلمه لنا ولم يكن قد انكشف لنا من الكلمات الإلهية؟ كان التساؤل إذن من قبيل
الحماقة وليس بدافع الإرادة النشطة. وتجدون شيئاً مما هذا في أعمال متى المبارك
ايضاً. لأن شاباً صغيراً، كان قد فاض بما يصعب توفيره من الثروة الطائلة، وكان ويد
بشدة ان يدخل في خدمة لائقة بالله. هذا الشاب حين جاء الى يسوع سأل بلهفة : ماذا
عليه ان يفعل، حتى يرث الحياة الأبدية. فقال له الرب أنت تعرف الوصايا. لا تزن. لا
تقتل. لا تسرق. لا تشهد بالزور وما مثلها. لكن، إذ كان الشاب لا يعوزه شيء من هذه
الأمور، أو على الأقل لأنه كان لا يقبل تعليماً يقترب الى حد ما من خبرته التي
لديه، يقول : "هذه كلها حفظتها منذ حداثتي فماذا يعوزني بعد؟" (انظر مت
19 : 16-20).

          فماذا
بعد وقد ربط العجرفة بالجهل قائلاً : فماذا يعوزني بعد؟

          إن
نفس الشيء يفعله هؤلاء بواسطة كبريائهم الزائدة وخداع نفوسهم، قائلين : "ماذا
نفعل حتى نعمل أعمال الله؟".

          شيء
طيب إذن ألا يكون هناك خداع وعمل النفس النبيلة ان تطلب من معلميها المعرفة
الشاملة لما هو نافع، ومن ثم تخضع لدروسهم، التي يعتقدون ان من الصواب اتباعها،
عالمين انهم افضل في المعرفة. لأنه كيف لهم ان يقبلهم الناس أبداً كمعلمين، إن لم
يكن لهم التفوق في الفهم على فكر تلاميذهم، حيث ينتهي تقدم (التلاميذ) بالكاد عن
قياس معرفة معلميهم، بحسب كلمة المخلص "ليس التلميذ أفضل من المعلم – يكفي
التلميذ ان يكون كمعلمه" (مت 10 : 24، 15).

29
"أجاب يسوع وقال لهم : هذا هو عمل الله ان تؤمنوا بالذي هو أرسله".

          يندد
الرب بحماقة سائليه في منتهى القسوة وإن كان سراً وفي كتمان، إذ قد يفترض المرء،
ناظراً فقط الى المعنى البسيط للكلمات، أن يسوع لم يكن يأمرهم بشيء آخر، إلا بأن
يؤمنوا به : لكن بفحص القصد من وراء الكلمات، سيجد أنها تشير الى شيء آخر، لأنه
يرتب حديثه جيداً للغاية ليتوائم وحماقة سائليه. لأنهم وكأني بهم قد تعلموا ما فيه
الكفاية بواسطة الناموس يتساءلون كيف يصنعون أعمالاً ترضي الله، وهم يهملون
بتجديفهم تعاليم مخلصنا، قائلين : "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله"؟ لكن
كان من الضروري ان يريهم، أنهم كانوا لا يزالون بعيدين جداً عن العبادة المرضية
لله، وانهم لا يعرفون شيئاً عن الأمور الصالحة الحقيقية، وإذ يلتصقون بحرف
الناموس، قد صار ذهنهم ملآن بالرموز والأشكال المجردة.

          لهذا
نرى يسوع وبمزيد من التأكيد الشديد، مفارقاً بين ثمر الايمان وعبادة الناموس يقول
"هذا هو عمل الله ان تؤمنوا بالذي هو أرسله" – أي كأنه يقول – إن الأمر
ليس حسب ما افترضتموه ناظرين الى الظلال وحدها، لكن اعلموا، حتى إن لم تريدوا ان
تتعلموا ذلك، ان معطي الناموس لا يسر بذبائحكم من الثيران، ولا يلزمه ان تقدموا له
ذبائح الخراف، وكأن الله أراد ذلك ورغب فيه، لأنه ما هو البخور، رغم أنه يتصاعد في
طبقات الهواء ليعطي رائحة ذكية، (وكأنه يقول) ماذا يفيد لحم الجداء وتقدمات القرفة
الغالية الثمن؟ فالله "لا يأكل لحم الثيران ولا يشرب دم التيوس" (مز 49
: 13س)، فهو "يعرف طيور الجبال ووحوش البرية هي عنده" (مز 49 : 11س).
وهو يقول : "بغضت كرهت أعيادكم ولست أشتم اعتكافاتكم" (عا 5 : 21) ولا
هو "يكلم آباءكم.. من جهة محرقات أو ذبائح" (إر 7 : 22). لذلك فإن هذا
"ليس هو عمل الله"، بل "عمل الله ان تؤمنوا بالذي أرسله". لأن
من الحق اعتبار الخلاص بالايمان أفضل من العبادة بحسب الظلال والناموس، وان النعمة
التي تبرر أفضل من الوصية التي تدين.

          إن
"العمل" إذن الذي تعمله النفس التقية هو الإيمان المتجه نحو المسيح.
والأسمى من ذلك بكثير هي الغيرة في ان يصير الانسان حكيماً في معرفة المسيح، أكثر
من الالتصاق بالظلال الرمزية. وسوف تعجبون ايضاً لهذا الأمر : لأنه بينما لم يهتم
المسيح بالذين سألوه، وجربوه، فإنه يجيب على هذا لأجل التدبير الحاضر (على الرغم
من انه كان يعرف أنهم لن ينتفعوا به) وذلك لأجل إدانتهم، كما يقول في موضع آخر
ايضاً : "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية وأما الآن فليس لهم عذر
في خطيتهم" (يو 15 : 23).

30
"فقالوا له : فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل؟

31
"آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزاً من السماء
ليأكلوا".

          هكذا
يكشف ابتعاد اليهود عن ذاته رويداً رويداً، رغم ان ابتعادهم كان مختفياً ومطموساً
في ذرائع أقل صراحة. إذ أنهم كانوا يقولون في حماقتهم "ماذا نفعل حتى نعمل
أعمال الله؟" (عدد 28)، وكأنهم، كما سبق وذكرنا، يظنون ان الوصية بواسطة موسى
كافية لكي ترشدهم الى كل الحكمة، حيث كان من المفروض عليهم ان يعرفوا كيف يعملون
ما يرضي الله جيداً. لكن قصدهم هذا كان محتجباً، وإذ انكشف الآن، وراح ينجلي أكثر
فأكثر هكذا تدريجياً، لأنه كما يقول المخلص "ليس خفي لا يظهر" (لو 8 :
17). فما الذي يقولونه عن "أية آية تصنع؟ "لقد كرم موسى الطوباوي، ولسبب
معقول جداً، قد صار وسيطاً بين الله والإنسان، أجل، وكان قد صنع آية كافية أمام كل
الذين كانوا معه" فأكلوا المن في البرية". لكنك أنت أخيراً، حيث إنك قد
جئتنا في وضع أعظم من موسى، ولم تتراجع عن تكميل أمور الشريعة القديمة، فبأي آيات
سوف تعطينا برهاناً واضحاً او أي أعمال عجيبة سوف تظهرها لنا، قدم لنا نفسك كصانع
تعاليم أكثر جدة لنا؟ هنا يظهر أيضاً صدق كلمة مخلصنا : لأنهم يدانون بكلامهم هم الذين
يفكرون فيه من جهة ان عليهم ان يطلبوه، لا لكي يتعجبوا منه بسبب تلك الأمور التي
عملها بكيفية الهية، بل لأنهم قد "أكلوا من الخبز فشبعوا" (آية 26).
لأنهم يسألونه "آية" – ولا يطلبون أية آية هكذا عارضة، بل (هكذا
اعتقدوا) كما فعل موسى، الذي ليس ليوم واحد، بل على مدى اربعين سنة كاملة، أطعم
فيها الشعب الذي خرج من مصر الى البرية، بطعام المن. وإذ يجهلون على ما يبدو كل
شيء عن الأسرار التي في الكتب الإلهية فإنهم لم يفكروا أنه كان من اللائق أن
ينسبوا هذا الفعل العجيب الى القدرة الالهية التي تممته، لكنهم بمنتهى الغباء يتوجون
هامة موسى بهذا العمل. لهذا يطلبون من المسيح آية مساوية لتلك الآية، دون ان يبدوا
أي إعجاب على الإطلاق بالآية التي آراهم آية ليوم كامل، حتى وإن كانت عظيمة، لكنهم
يقولون ان عطية الطعام، عليها ان تمتد لهم زمناً طويلاً. لهذا نراه يخزيهم بشدة
جداً ليقروا ويقبلوا ان قدرة المخلص وتعليمه الذي هم على وشك قبوله هما الأكثر
مجداً. الأمر اذا واضح وحتى وإن لم يقولوه بألفاظ مباشرة، أنهم لم يبالوا أبداً
بالآيات، وتحت ستار التعجب منها، تأخذهم الغيرة لخدمة ملذات البطن الدنسة.

 

الفصل
السادس

عن
المن، وأنه كان رمزاً لحضور المسيح

ورمزاً
للنعم الروحية بواسطته

32
"فقال لهم يسوع : الحق الحق أقول لكم، ليس موسى أعطاكم الخبز من
السماء".

          الآن
أيضاً يقول لهم المخلص أنهم لا يفهمون، وأنهم يجهلون الى أبعد حد ما في كتابات
موسى. لأنه كان حري بهم ان يعلموا في جلاء تام ان موسى كان يخدم أمور الله للشعب،
وايضاً (كان يخدم) أمور بني اسرائيل تجاه الله، وأنه لم يكن هو نفسه بصانع عجائب،
بل بالحري خادم وفاعل في خدمة تلك الأمور، والتي أراد، معطي الخيرات كلها ان
يصنعها لمنفعة أولئك الذين دعاهم من العبودية. فما كانوا يتوهمونه – بعدم تقوى –
قد وطد المسيح العزم على إزالته (فإن نعزي أمور الطبيعة الإلهية وحدها والتي تحدث
بواسطتها، ان نعزيها الى كرامات الناس وليس بالحري الى الطبيعة الالهية، كيف لا
يكون ذلك قمة الحماقة والعقوق؟) وحال كون (المسيح) قد حرم المفسر الحكيم موسى من
المعجزة وسحبها من يده، يكون (بحسب افتراضي) ظاهراً (بغرض) نسب مجدها الى نفسه مع
الآب، حتى وإن امتنع عن الكلام بأكثر مجاهرة، بسبب خلو سامعيه من التعليم. لأن
الأمر في الحقيقة لم يكن مناقضاً للتوقعات، انهم سيثورون وكأن موسى قد أهين بتلك
الكلمات، فيتقدون بغضب جامح، دون ان يستفسروا أبداً عن بقية الأمر، ودون ان
يتعرفوا على كرامة المتكلم، بل يندفعون دون تروٍ الى تكريم موسى فقط، ودونما سبب
معقول كما يبدو، حين تمت مقارنة (موسى) بمن يفوقه.

          فلنتعلم
إذاً، بأكثر تمييزاً وتعقلاً (للأمور)، أن نحترم آباءنا القديسين، وكما هو مكتوب،
أن "نعطي.. الخوف لمن له الخوف والإكرام لمن له الإكرام" (رو 13 : 7)
(لأننا ما كان ينبغي ان نجرح (أحداً). إن أعطينا لكل ما يليق به، لأن "أرواح
الأنبياء خاضعة للأنبياء" (1كو 14 : 32). لكن حين يكون الحديث عن المسيح
المخلص، علينا ان نقول : "من في السماء يعادل الرب، من يشبه الرب بين أبناء
الله؟" (مز 89 : 6).

33
"بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء : لأن خبز الله هو النازل من السماء
الواهب حياةً للعالم".

          لم
يتطلب الأمر فقط ان يُستبعد موسى عن السلطان الخاص بالله، حسب إدراكهم، وأن يوضح
(لهم) ان (موسى) كان خادماً لهذا العمل المعجزي، وليس بالحري معطيه، بل (تطلب
الأمر) أيضاً ان يخفف من التعجب رغم ان العمل قد تم بطريقة معجزية، وان يوضح انه
لم يكن بشيء ذي بال على الإطلاق إذا ما قورن بالأعظم، إذ تصوروا المسيح وهو يصرح
بأمر كهذا، هل تتعرفون أيها السادة على عظائم الأمور من بين صغائرها واحقرها،
وإحسانات رب الجميع تحدونها بحدود مؤسفة للغاية. لأنكم بغباوة شديدة تفترضون ان
المن هو "الخبز الذي من السماء"، رغم ان المن قد أطعم فقط جنس اليهود في
البرية، بينما يمد العالم بأسم أخرى لا حصر لها، وتفترضون ان الله قد أراد ان يظهر
رأفات محبة (ناقصة) جداً، فيعطي طعاماً لشعب واحد فقط (لأن تلك كانت رموزاً
للعموميات، وكانت – جزئياً – إظهاراً لجوده العام، والذي قدم منه عربوناً، لأولئك
الذين قبلوه أولاً). لكن حين أشرف زمان الحق على أبوابنا، "أبي يعطيكم الخبز
الحقيقي الذي من السماء" والذي كانت عطية المن ظلاً له في القديم.

          (فهو
يقول) لا يظنن أحد ان ذاك المن كان بالحق هو الخبز من السماء، بل أنه بالحري يحكم
لصالح هذا (الخبز)، القادر فعلاً ان يُطعم الأرض كلها، ويمنح العالم ملء الحياة.

          لهذا
هو يتهم اليهود بالتصاقهم بالإشارات الرمزية، رافضين ان يفحصوا جمال الحق. لأنه
تبعاً للياقة الحديث، لم يكن ذاك هو المن بل كلمة الله الوحيد نفسه، الذي هو من
جوهر الآب، إذ هو بالطبيعة الحياة، ويحيي كل الاشياء. لأنه هو إذ قد (صدر) من الآب
الحي، فإنه هو ايضاً بالطبيعة الحياة. وحيث ان عمل ذاك الذي هو بالطبيعة الحياة،
ان يحيي، فالمسيح يحيي كل شيء. ولما كان خبزنا الأرضي الذي يخرج من الأرض لا يتاثر
بهشاشة طبيعة الجسد الذي يبلى : فإنه هو أيضاً، من خلال فعل الروح يحيي ارواحنا،
وليس ذلك فقط، بل هو يحفظ أجسادنا ذاتها أيضاً من الفساد.

          ولكن
لما كانت تأملاتنا قد انصبت مرة على المن، (اعتقد) انه لن يكون من الخطأ بالنسبة
لنا ان نهتم فنقول شيئاً يسيراً عن المن ايضاً، مستخرجين من الأسفار الموسوية
نفسها عدة أشياء مكتوبة هناك، وإذ نوضح الأمر بشكل أعمق، نميز كل أمر مشار اليه
تميزاً صحيحاً. لكننا سوف نظهر من خلالها كلها، ان المن الحقيقي هو المسيح ذاته،
مدركاً باعتبار ان الله الآب قد أعطاه تحت رمز المن الى أولئك الذين في القديم.

          وتتحدث
بداءة الأقوال الإلهية التي عن المن على هذا المنوال : ".. في اليوم الخامس
عشر من الشهر الثاني بعد خروجهم من أرض مصر، تذمر كل جماعة بني اسرائيل على موسى
وهارون في البرية. وقال لهما بنوا اسرائيل : ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ
كنا جالسين عند قدور اللحم، نأكل خبزاً للشبع. فإنكما اخرجتمانا الى هذا القفر،
لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع" (خر 16 : 1-3).

          إذن
التاريخ أمره واضح وفي منتهى الجلاء، ولا أظنني بحاجة الى أية كلمات لفحص المعنى
الظاهر : لكننا سنتحدث عنه، ناظرين فقط الى المعنى الروحي. إن بني اسرائيل إذن وهم
لا يزالون في أرض المصريين، كانوا بأمر الهي، يحفظون رمزياً عيدهم، الخاص بالمسيا،
وإذ كانوا يتناولون عشاء الحمل، نجوا بالكاد من طغيان حكم فرعون، ونفضوا عنهم نير
العبودية الغير محتمل. وغذ عبروا البحر الأحمر بطريقة معجزية، ودخلوا الى البرية،
تضوروا جوعاً واشتهوا لحماً يأكلونه، وانزلقوا الى عادة اشتهاء الأكل : فبدأوا
يتذمرون ضد موسى، وسقطوا في التأسي على عطيتهم المجانية التي من الله، وكان ينبغي
عليهم ان يقدموا بسببها شكراً ليس بقليل. تشير مصر اذاً الى الظلمة، وهي التي ترمز
الى حالة الحياة الحاضرة، وحالة العالم، حيث نندرك نحن به بشكل أو بآخر، فنخدم فيه
في عبودة مرة، لا نعمل شيئاً على الإطلاق لله، بل نعمل أعمالاً تبهج الشيطان
كثيراً، مندفعين الى ملذات الجسد الدنسية، كطمي او كطين عفن، نعاني من مشقة تعسة،
دون أجر، ودونما ربح، ساعين الى محبة الملذات، وهي محبة بائسة.

          لكن
حين ينطق ناموس الله في نفوسنا، ونعاين أخيراً العبودية المرة التي تسببها تلك
الأشياء، حينئذ للأسف، وحينئذ فقط، نعطش الى التخلص من كل شر، آتين الى المسيح
نفسه، فهو بدء الحرية وبابها، وإذ لنا زاد الأمان والنعمة التي ننالها من خلال دمه
الثمين، نترك حالة هذه الحياة الجسدانية، التي تشبه بحراً هائجاً عاصفاً – ومن وسط
كل اضطرابات العالم نبلغ أخيراً الى حالة أكثر نقاوة وروحانية، وكأننا نرتحل
مؤقتاً في البرية.

          لكن
لما كان ذاك الذي تعلم بواسطة الناموس ليس مدرباً على الفضيلة، وحين نجد اننا قد
بلغنا هذا الحال أخيراً، فإننا نحن الذين نسقط في التجارب التي تمتحننا، تلتهمنا
ذكرى الشهوات الجسدانية، وعندئذ إذ تلهبنا الشهوة بعنف، نصرخ في أغلب الأحيان بسبب
تهورنا، على الرغم من ان الناموس الالهي قد دعانا الى الحرية، وإذ نكون في حنين
لملذاتنا القديمة التي اعتدنا عليها – حاسبين حساباً طفيفاً لأتعابنا بحسب انضباط
النفس لا ننظر بعد الى قيود العالم كأنها شر. وفي الحقيقة فإن إرادة الجسد كافية
ان تجر الذهن الى حالة خوار القلب من جهة الصلاح.

          وفي
(خروج 16 : 4) "قال الرب لموسى : ها أنا أمطر لكم خبزاً من السماء".
ترون في تلك الكلمات بوضوح تام ما يرنم به (المرنم) في المزامير : "وخبز
السماء أعطاهم. أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز 78 : 24، 24). لكنني أفترض، ان
ذلك واضح للجميع، إنه ليس هناك خبز وطعام للقوات العقلية في السماء سوى ابن الله
الآب الوحيد، إذن فهو المن الحقيقي، والخبز الذي من السماء لكل الخليقة العاقلة
الذي يعطيه الله الآب. لكن بالولوج الى نسق موضوعنا نقول هذا : تأملوا كيف ان
النعمة الالهية من فوق تجذب الى نفسها طبيعة الانسان حتى في أوقات مرضها بسبب عاداتها،
وتخلصها بكافة الطرق. لأن شهوة الجسد هي مثل حجر ساقط على الذهن تهوى به الى أسفل،
وتجبره في طغيان على الإنقياد لإرادتها، لكن المسيح يعيدنا مرة أخرى، كما بلجام،
الى الاشتياق الى الأمور الأفضل، ويشفي الذين مرضوا فيجعل لهم ذهناً محباً لله.
لأنه بينما الويل لأولئك الذين تغرقهم الملذات الجسدانية، فإن (المسيح) يعدنا ان
يعينا الطعام الذي من السماء، أي التعزية، بواسطة الروح، أعني المن الروحاني،
وبهذا المن نتقوى في احتمال كل مشقة وعزم، وإذ نحصل عليه، لا نسقط بسبب عجزنا في
تلك الأمور التي لا ينبغي ان نهوى اليها. لهذا فإن المن الروحاني – أي المسيح، كان
من قبل يقوينا ايضاً لبلوغ التقوى.

          لكننا
إذ خالفنا مرة، بسبب الحاجة، فإني اعتقد انه ليس من الجيد ان نترك الموضوع دون
فحص، لأنه يفضي الى فائدتنا جداً. وقد يسأل واحد وبشكل موضوعي : إن كان الله يحب
الإنسان حباً جماً وهكذا يحب الفضيلة، وحين كان يلزم ان يلبي الله مطلبهم، فلماذا،
يتباطأ في وعده، ولا يعاقب البتة أولئك المنحرفين من البشر، رغم أنه عاقبهم فيما
بعد حينما كانوا بمرضى بنفس الشهوة، فصوروا لأنفسهم الخبز حتى الشبع، وقدور اللحم
وأقروا بإشتياقهم الى أفسد أنواع البصل، لأننا سوف نجد في سفر العدد، ان كليهما قد
عوقب، ودعي المكان الذي نصبوا فيه خيامهم "قباروت هتأوة" أي – قبور
الشهوة – لأنهم قبروا فيه القوم الذين ماتوا من الشهوة (عد 11 : 34). فبالنسبة إذن
للسؤال الأول، نقول إنه بالتأكيد يتوجب عليه ان نتظر الرغبة، وان يعلن في النهاية
عن ذاته في وقت مقبول انه هو المعطي. فمرحباً كثيراً بالعطية لأولئك الذين هم في
حال طيب، حين تظهر ملذات معينة قبلها وتسبقها، لتثير فينا عطشاً لما لم يأت بعد،
لكن نفس الإنسان سوف تحرم من شعور أكثر عرفاناً بالجميل،، حين تظهر ملذات معينة
قبلها وتسبقها، لتثير فينا عطشاً لما لم يأت بعد، لكن نفس الإنسان سوف تحرم من
شعور أكثر عرفاناً بالجميل، إن لم تهب أولاً، وتعمل لملذات أفضل. لكن ربما تقولون
إنه لم يكن ثمة توسل من جانبهم، بل بالحري تذمر، وندم وصراخ : لأنه هكذا يكون
الكلام أكثر صدقاً، لهذا نقول، ان التضرع بالصلاة يفيد الذين لهم عادة كاملة،
وربما كان التذمر هو بالنسبة للضعفاء بسبب الاكتئاب الذي اصابهم، او لأي سبب آخر.
ومخلص الجميع، إذ هو محب للإنسان لا يغضب على الإطلاق لذلك. لأنه كما هو الحال مع
الذين لا يزالون أطفالاً، سوف يساعد الصراخ أحياناً في تلبية احتياجاتهم، وغالباً
ما تلبي الأم الصراخ لترى ماذا يرضي طفلها.

          هكذا
الحال بالنسبة للذين في طور الطفولة، ولم يتقدموا بعد الى الفهم، فإن صراخ الضيق،
له قوة التوسل أمام الله. وهو لم يعاقب في البداية، حتى وهو يراهم قد انحطوا
بالشهوات الأرضية، لكنه عاقبهم بعد وقت، لهذا السبب، كما يبدو لي؛ فإن الذين كانوا
قد جاءوا حديثاً من مصر، ولم يأخذوا المن بعد، ولا الخبز من السماء، الذي
"يسند قلب الانسان" (مز 104 : 15)، سقطوا كما هو متوقع في الشهوات
الجسدانية، ولهذا نالوا عفواً. لكن الذين كانوا قد تلذذوا قبلاً بالرب (مز 37 : 4)
كما هو مكتوب، في تفضيلهم الملذات الجسدانية على الخيرات الروحية، كان عليهم ان
يقدموا ترضية عادلة بالأكثر، وفوق ذلك فإن أفعالهم تلك خصتهم بتذكار يناسب مصيرهم.
لأن اسم الموضع الذي تم فيه عقابهم قد صار "قبور الشهوة".

          "فيخرج
الشعب ويلتقطون حاجة اليوم بيومها" (خر 16 : 4).

          سوف
نعتبر المن المحسوس رمزاً للمن الروحاني، ويرمز المن الروحاني الى المسيح نفسه،
لكن المن المحسوس (المادي) يشير الى تعليم الناموس الأكثر غلظة.

          وكان
جمع المن يتم يومياً، ويمنع معطي الناموس الاحتفاظ بالمن حتى الغد، مما يشير بشكل
مبهم الى شعب العهد القديم، انه حينما أشرق زمان الخلاص، حين ظهر الابن الوحيد في
الجسد في العالم، كان على الظلال الناموسية ان تمحى، ومن ثم يصير جمع الطعام دون
جدوى، بينما الحق ذاته كائن أمامنا لأجل سرورنا وبهجتنا.

          "ويكون
في اليوم السادس انهم يهيئون ما يجيئون به فيكون ضعف ما يلتقطون يوماً
فيوماً" (خر 16 : 5).

          لاحظوا
مرة أخرى، حتى تدركوا انه لم يجعلهم يجمعون المن المادي في اليوم السابع، لكنه
يأمر ان يأكلوا مما تم إحضاره وجمعه مسبقاً، لأن اليوم يشير الى زمن مجيء مخلصنا،
الذي فيه نستريح في القداسة، ونكف عن أعمال الخطية، وننال طعامنا، الذي هو تحقيق
إيماننا، والمعرفة التي تم إيداعها فينا من خلال الناموس، فلا نجمعه بعد كضرورة،
حيث ان الطعام الأسمى معد أمامنا الآن، أو قد صار لنا الخبز من السماء. ويجمع المن
مضاعفاً قبل السبت المقدس، وسوف تفهمون عندئذ، ان الناموس قد اكتمل من جهة ختام
زمنه المؤقت، وأن السبت المقدس، أي مجيء المسيح، قد بدأ فعلاً، وهو ذا قد صار
لنوال الخيرات السماوية مضاعفاً، والنعمة مضاعفة، ويأتي تعليم الإنجيل ايضاً
مزيداً على مزايا الناموس – الأمر الذي يدرك عن الرب نفسه وهو يعلم حين يقول، كما
في مثل، "كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلاً رب بيت، يخرج من كنزه
جدداً وعتقاء" (مت 13 : 52)، أما العتقاء فهي أمور الناموس، وأما الجدد فهي
أمور المسيح.

          خر
16 : 6، 7، 8 "فقال موسى وهرون لجميع بني اسرائيل في المساء تعلمون ان الرب
اخرجكم من ارض مصر. وفي الصباح ترون مجد الرب.. بأن الرب يعطيكم في المساء لحماً
لتأكلوا وفي الصباح خبزاً لتشبعوا".

          وعد
موسى بني اسرائيل، ان السلوى سوف يعطيها الله لهم في المساء، ويعلون بهذا انهم
يعرفون بالتأكيد ان الرب أتى بهم من مصر. ويقول "إنكم في الصباح ترون مجد
الرب".. حين يعطيكم خبز للشبع. تأملوا أرجوكم، الفارق بين كل من هذين
الأمرين. لأن السلوى تشير الى الناموس (لأن ذلك الطائر يحلق على ارتفاع منخفض
قريباً من الأرض) : أرأيتم ايضاً أولئك الذي تعلموا التقوى الأرضية بالناموس
بالأكثر من خلال الرموز، أعني ما يتصل بالذبيحة والتطهيرات والغسل اليدوي. لأن تلك
ترتفع فوق الأرض وتبدو أنها تعلو عليها، لكنها لا تزال فيها على الرغم ذلك، وحولها
: لأن الناموس لا يحوي ما هو كامل الصلاح وسام على الفهم، وأيضاً فإنه يعطي
"في المساء" : ويشير "المساء" مرة اخرى الى غموض الحرب، او
حالة العالم المظلمة، حينما لم يكن فيه النور الحقيقي بعد، أي المسيح، الذي عندما
تجسد، قال "أنا قد جئت نوراً للعالم" (يو 12 : 46). لكنه يقول عن بني
اسرائيل "سوف يعرفون ان الرب أخرجهم من مصر "لأن معرفة الخلاص بواسطة
المسيح يمكن ان تُرى في كتابات موسى، بينما لم تكن النعمة بعد حالة في كل شخص.
ونفس الشيء يلمح اليه، حين أضاف : "في الصباح ترون مجد الرب.. الذي يعطيكم
خبزاً للشبع"، لأنه إذ كان الوقت ليلاً، وضباب الناموس قد انتشر. وأشرقت
الشمس الروحية علينا، "ننظر مجد الرب كما في مرآة" (2كو 3 : 18) الحال
الآن، فننال الخبز من السماء للشبع، أعني المسيح ذاته.

          (خر
16 : 13، 14س) "فكان في المساء ان السلوى صعدت وغطت المحلة، وفي الصباح كان
سقيط الندى حوالي المحلة.. وإذا على وجه البرية شيء دقيق مثل قشور. أبيض مثل بذور
الكزبرة".

          انظروا
الى ترتيب الأمور الجديرة بالتأمل، إنه يقول عن السلوى إنها غطت المحلة (المخيم)،
وعن المن مرة أخرى، إنه في الصباح "حين صعد سقيط الندى.. وغطى وجه البرية حول
المحلة". لأن التعليم بواسطة الناموس، أعني ذاك الذي في رموز وأشكال، والذي
قارناه بظهور السلوى، يغطي مجامع اليهود : لأن بولس يقول : "البرقع موضوع على
قلوبهم.. وان القساوة حصلت جزئياً" (2كو 3 : 15، رو 11 : 25). لكن حين كان
"صباح" أي، حينما قام المسيح، وأشرق نوره على العالم، وحين انقشع سقيط
الندى، أي تقديم الفرائض الناموسية الكثيفة المشابهة للضباب (لأن المسيح هو غاية
الناموس والأنبياء) (رو 10 : 4).

          وعن
أن المن السماوي الأكيد والحقيقي، سوف يهبط الينا، أعني، تعليم الإنجيل، ليس على
تجمع الاسرائيليين، بل "حول المحلة"،أي لكل الأمم "وعلى وجه
البرية" أي كنيسة الأمم، حيث قيل إن "بني المهجورة أكثر من بني
المتزوجة" (إش 54 : 1). لأن نعمة المن الروحي منتشرة فوق العالم كله، وهي
التي تقارن أيضاً ببذور الكزبرة، والتي دعيت "دقيقة – أي صغيرة" لأن قوة
الكلمة الالهية إذ هي كلمة الحق تكون دقيقة، وتبرد حرارة الشهوات وتطفئ نار
الحركات الجسدية داخلنا، وتتغلغل في أعماق القلب. لأنهم يقولون ان لهذا العشب،
أعني الكزبرة، تأثيراً ملطفاً كبيراً.

          خر
16 : 15 : "فلما رأى بنو اسرائيل، قالوا بعضهم لبعض ما هذا؟ لأنهم لم يعرفوا
ما هو؟"
لأنه شيء لم يصنعوه إذ تم عمله بمعجزة، ولم يقدروا على القول ما
هو لأنهم لم يختبروه قبلاً، فقال بعضهم لبعض، ما هذا؟ لكن ذاك الشيء الذي استفسروا
عنه، قد جعلوا له أسماء وسموه باللغة السريانية، المن
Manna أي من ذا؟ او – من دا – أي ما هذا؟ وسوف ترون كيف ان المسيح سيصير
مجهولاً من اليهود. لأن ذاك الذي انتشر في شكل رمزي، أظهرت التجارب ان له قوة
الحق.

          "وقال
لهم موسى : لا يبق أحد منه الى الصباح، لكنهم لم يسمعوا لموسى، بل أبقى منه أناس
الى الصباح، فتولد فيه دود وأنتن. فسخط عليهم موسى" (19، 20).

          يشير
الصباح في هذا الموضع الى الوقت المشرق والأكثر مجداً لمجيء مخلصنا، حينما يبطل ظل
الناموس وضباب الشيطان وسط الأمم، ويشرق علينا الابن الوحيد كنورٍ، وينبلج الفجر
الروحي.

          لقد
أمر الطوباوي موسى إذن ألا يُترك المن الرمزي حتى الصباح، لأنه حين أشرق علينا
الزمن المتنبأ عنه قبلاً، تبددت من المكان وانقشعت ظلال الناموس بسبب الحق الحاضر
الآن. لأن بر الناموس شيء غير نافع حقاً إذ قد أشرق نور المسيح، ويوضح بولس قائلاً
عنه، "إني أحسب كل شيء خسارة – أي المجد بالناموس – أحسبها نفاية لكي أربح
المسيح، وأوجد فيه وليس لي برى الذي من الناموس، بل الذي بإيمان يسوع المسيح (قابل
في 3 : 8، 9).

          أرأيتم
كيف إنه كإنسان حكيم لم يهتم ان يدع منه شيئاً حتى الصباح؟ والذين حفظوا منه شيئاً
للصباح هم رمز للجموع اليهودية التي لم تؤمن، الذين تكون رغبتهم المتلهفة على حفظ
وصية النامو، سبباً في الإنتان والديدان.

          اسمعوا
كيف ان معطي الناموس كان سخطه عظيماً عليهم؟ خر 16 : 33س "وقال موسى لهرون،
خذ قسطاً ذهبياً واحداً واجعل فيه ملء العمر مناً وضعه أمام الرب للحفظ".

          يأخذنا
التعجب في الحقيقة لهذا الأمر، ونقول "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه!"
(رو 11 : 33) – لأنها غير مدركة في الحقيقة تلك الحكمة المخفاة في الكتب الموحى
بها من الله، (وما أعمق عمقها، من يجدها) كما هو مكتوب (قابل جا 7 : 24).

          أرأيتم
كيف اتفق تعليقنا الأخير مع تلك الأمور : لأنه إذ ظهر أن المسيح نفسه هو مننا الحقيقي،
معلناً في الرمز كصورة لهم في القديم، يحتاج الأمر منا ان يعلم هو في هذا الموضع،
عن ذاك وعن أية فضيلة ومجد يمكن ان يمتلئ بهما ذلك الذي يكنز في نفسه المن
الروحاني، ويدخل يسوع الى عمق تجاويف قلبه، بالإيمان الصحيح فيه وبالحب الكامل.
لأنكم تسمعون كيف ان ملء العمر من المن كان يوضع في قسط ذهب، وبيد هرون يوضع أمام
الرب للحفظ. لأن النفس المقدسة والتقية حقاً، والتي تنقب في كلمة الله، وتكد
بالتمام في نفسها، وتقبل الكنز السماوي بالكامل، سوف تصير إناءً ثميناً، كما من
ذهب، وسوف تقدم بواسطة رئيس الكهنة على الجميع، الى الله الآب، وسوف يؤتى بها الى
محضر ذاك الذي يمسك كل الأشياء معاً ويصونها للحفظ، فلا تبيد وهي التي لها طبيعة
بائدة في ذاتها. يوصف البار إذن، كأن له المن الروحاني في إناء ذهبي، أي المسيح،
الذي لا يعتريه فساد كما أمام ناظري الله، ويبقى للحفظ، أي الى حياة أبدية بلا
نهاية.

          لهذا
فإن المسيح يعتبر اليهود أنهم يعانون من جنون مطبق لافتراضهم ان المن قد اعطاه لهم
قديماً موسى الكامل الحكمة، وتوقفوا عند هذا الحد، ولم يتفكروا على الإطلاق فيما
تشير اليه الأمور، ذلك بقوله "الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم المن"
– وكان الأجدر بهم ان يدركوا هم هذا. وأن يعرفوا ان موسى قد جلب فقط خدمة الوساطة.
وان العطية لم تكن من صنع يد بشرية، بل هي عمل النعمة الالهية، فتضع الروحي داخل
إطار المادي الكثيف، وعبر لنا عن الخبز الذي من السماء، الذي يعطي حياة لكل
العالم، ولا يطعم جنساً واحداً فقط.

6 :
34 "فقالوا له، يا سيد اعطنا في كل حين هذا الخبز".

          من
الواضح هنا ان قصد اليهود، قد أنكشف تماماً، على الرغم من شدة رغبتهم في إخفائه،
وعلى المرء ان يدرك ان "الحق" لا يمكن ان يكذب، والذي قال إنهم ليسوا
لأنهم رأوا المعجزات، قد تلهفوا على اتباعه، بل لأنهم "أكلوا من الخبز
فشبعوا" لهذا كان ثمة سبب لإدانتهم بسبب كثرة غباوتهم، وإني افترض ان على
المرء ان يقول بحق لهم "اسمع ايها الشعب الجاهل، والعديم الفهم، الذين لهم
أعين ولا يبصرون. لهم آذان ولا يسمعون" (إر 5 : 21). لأنه بينما كان مخلصنا
المسيح وبكلمات كثيرة – إن جاز للمرء ان يقول – يجذبهم بعيداً عن التصورات
الجسدانية، وبتعليمه الكلي الحكمة يحلق بهم الى التأمل الروحاني، فإنهم لا يبتعدون
عن منفعة الجسد، وإذ يسمعون ان "الخبز الذي يعطي حياة للعالم" يصورون
لأنفسهم خبز الأرض "لأن إلههم بطنهم" (في 3 : 19) كما هو مكتوب، وإذ
ينهزمون بشرور البطن، فإنهم يستحقون سماع القول "مجدهم في خزيهم".

          وستجدون
مثل هذه اللغة متسقة مع لغة المرأة السامرية. لأنه حين كان مخلصنا المسيح يلقي على
أسماعها حديثاً مطولاً، مخبراً اياها بالمياه الروحانية، وقائلاً بوضوح "كل
من يشرب من هذا الماء يعطش ايضاً، ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا، فلن يعطش
الى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع الى حياة أبدية" (يو
4 : 13، 14) (أما المرأة السامرية) فقد أدركت المعنى بغشاوة الذهن التي كانت فيها
فلم تنتبه الى الينبوع الروحاني، ولم تفكر فيه على الإطلاق، بل غاصت في عطية
الآباء الحسية، لذلك تقول : "يا سيد، أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي
الى هنا لأستقي" (15).

          كانت
لغة اليهود إذن قريبة الصلة بلغة السامرية. لأنه إذ وهي بالطبيعة ضعيفة، فبنفس
الطريقة (كما أظن) لم يكن أولئك رجالاً في فهمهم، بل كانوا نسائيين في شهوات البطن
التي لغير الناضجين، فاظهروا انه يحق عليهم ما هو مكتوب "لأن اللئيم ينطق
باللؤم. وقلبه يفكر بالشر" (إش 32 : 6س).

6 :
35 "فقال لهم يسوع : أنا هو خبز الحياة".

          هي
عادة مخلصنا المسيح حين يشرح الأسرار الالهية التي سبق التنبؤ عنها، ان يجعل حديثه
عنها غامضاً وليس شفافاً تماماً. لأنه لا يريد لكلمته المرهوبة بهذا المقدار ان
تظهر بلا حجاب أمام الأشرار والدنسين الذين لا يميزون بين شهواتهم، فتداس منهم، بل
إذ يحجبها بدرع من الغموض، يجعلها مخفية عن المتكبرين، لكنه حين يرى وسط سامعيه
اياً من الحمقى، والذين لا يفهمون شيئاً البتة من الأمور التي يتكلم عنها، فإنه
وبوضوح يفتح ما يريده ليجعله معروفاً، فيزيل كل ما يحيط بحديثه من ضباب، فيجعل
معرفة السر أمام أولئك مكشوفة (بغير قناع)، وبكامل مضمونها، ويصير عدم ايمانهم
بغير عذر.

          تلك
(كما قلنا) كانت رغبته ان يستخدم الغموض وان يحفظ طريقته في الحديث. وهو يعلمنا
بنفسه، قائلاً في سفر المزامير "افتح بمثل فمي" (مز 78 : 2). ثم يؤكد
النبي المبارك اشعياء شرحنا بنفس القدر، فلا يظهره بأي حال على خطأ، إذ يقول :
"سيأتي ملك يملك بالحق وأمراء يحكمون بالعدل وانسان يخبئ كلماته.." (إش
32 : 21س). لأن (الرب) يقول "إنه مسح ملكاً على صهيون جبل قدسي، ليخبر بقضاء
الرب" (مز 2 : 6، 7س)، والأمراء الذين يحيون معاً في القضاء، أي في الاستقامة
في كل شيء، وهو اسم يدعو به التلاميذ القديسين الذين أتوا الى المخلص المسيح الذي
كثيراً ما كان يحجب كلماته، فيقولون له "فسر لنا المثل" (مت 15 : 15).
وذات مرة عند سماعه السؤال "لماذا تكلمهم بأمثال؟" (13 : 10)، يعلن
السبب بكل جلاء (فيقول) "لأنهم كانوا (على ما يبدو) غير مستحقين ان يدركوا ان
الله الذي يحكم بعدل، قد اصدر هذا الحكم ضدهم. وإذ أجرى المخلص العديد من
الإنعطافات في حديثه حينما رأى ان سامعيه لم يفهموا شيئاً، يقول في النهاية
بعلانية أكثر "أنا هو خبز الحياة" وحسناً يهاجم جهلهم المفرط، قائلاً :
أيها الذين فاقوا الجميع في عدم تهذيبهم الذي لا يباري، حين يعلن الله أنه سيعطيكم
خبزاً من السماء وقد وعدكم بمثل هذا الوعد العظيم في إطعامكم المن، هل حددتم
الحرية الإلهية، ألا تخجلون من ابقاء النعمة التي من فوق عند هذا الحد، غير عالمين
انه ما هو الا شيء زهيد ان تنالوا مثل تلك الاشياء من الله، وانه قليل بالنسبة لله
ان يعطيه لكم؟ (وهو يقول) فلا تفتكروا اذن ان ذلك الخبز هو الخبز الذي من السماء
لأنني "أنا هو خبز الحياة" والذي سبق وتنبأ عنه في القديم لكم كما بوعد،
وأخبر عنه كما في رمز، لكنني الآن حاضر أحقق وعدي في حينه. "أنا هو خبز
الحياة" وليس خبزاً جسدانياً، والذي لا يسد الإحساس بالجوع فقط، ويحرر الجسد
من الهلاك الناشئ عنه، بل إنه يعيد تشكيل كل الكائن الحي بالكامل الى حياة أبدية،
ويصير الإنسان الذي خلقه ليحيا الى الأبد، يصيره يسود على الموت، ويشير بهذه
الكلمات الى الحياة والنعمة التي بواسطة جسده المقدس، الذي به تنتقل الينا خاصية
الابن الوحيد هذه "أي الحياة".

          لكن
علينا ان نعرف – (لأنني اعتقد ان علينا بمحبة غيورة للتعلم ان نسعى الى ما يجلب
النفع لنا) – إنه لمدة أربعين سنة كاملة كان الله يمنح اسرائيل المن الرمزي، بينما
لا يزال موسى معهم، لكنه حين وافته المنية التي تحدث للكل، وإذ عين يشوع الآن
القائد والمدبر لصفوف اليهود : جاء بهم الى الأردن، كما هو مكتوب، وختنهم
"بسكاكين من صوان" (يش 5 : 2)، ,اتى بهم الى أرض الموعد، ورتب أخيراً ان
يطعمهم بالخبز، وكان الله كلي الحكمة قد ابقى لهم على عطية من المن. (وإذ يتحول
الرمز الى واقع الآن) فإنه حين تم تكفين موسى، أي، حينما أبطلت رموز العبادة بحسب
الناموس، وظهر المسيح لنا، وهو يشوع الحقيقي – لأنه "خلص شعبه من
خطاياه" (مت 1 : 21) – فإننا قد عبرنا الأردن، ونلنا الختان الروحي، من خلال
تعاليم "الاثنى عشر حجراً" (يش 4 : 8) – أي التلاميذ القديسين الذين
كُتب عنهم في الانبياء "الحجارة المقدسة مرفوعة على أرضه" (زك 9 : 16س)
لأن الحجارة المقدسة التي تجول وتطوف في كل الأرض، هم بالتأكيد أولئك الذين من
خلالهم ايضاً قد "ختنا ختاناً غير مصنوع بيد" (كو 2 : 11)، ختاناً في
الروح أي بالايمان. وحينما دعينا الى ملكوت السموات بالمسيح (لأن ذلك حسب ظني وليس
شيء آخر – هو ما يشير اليه الدخول الى أرض الموعد) فإن المن الرمزي لم يعد بعد
يخصنا (لأنه ليس بحرف موسى نقتات بعد) بل (لنا) الخبز الذي من السماء، أي، المسيح،
يقوتنا الى حياة أبدية، من جهة بواسطة زاد الروح القدس، كما وبشركة جسده الخاص،
الذي يسكب فينا شركة الله ويمحو الموات الذي حل بنا من اللعنة القديمة.

35
"من يقبل الي فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً".

          ثمة
شيء محتجب هنا يجب ان نقوله. لأنها عادة المسيح المخلص، ألا يضيق بتمجيد القديسين،
بل على العكس يكللهم بكرامات مجيدة. لكن حين يقوم بعض من جهلة القوم، غير مدركين
عظم تفوقه عليهم، فيقدمون لهم مجداً أعظم، فإنه لنفعهم بقدر كبير يأتي بهم الى
فكرة تفي بالمطلوب بشكل أعمق، بينما يعتبرون من هو الوحيد الجنس : وأنه سوف يفوقهم
يقيناً بأمجاد لا تقارن. لكنه لم يجعل خطابه بهذا الموضوع الزائد ليحدث ذلك
التأثير، بل جعله مبهماً بعض الشيء، خالياً من أي افتخار، لكنه بمقارنةالأعمال او
فحصها، فإن الأمر ينحني وبقوة لجانب السمو والتفوق. فمثلاً كان يتحدث ذات مرة مع
المرأة السامرية، التي وعد أن يعطيها ماءً حياً، والمرأة إذ لم تدرك الأشياء التي
قيلت لها، قالت" العلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر؟" (يو 4 :
12). لكن حين رغب المخلص ان يقنعها بأنه أعظم منه، وانه مستحق لايمان به أعظم بما
لا يقاس، فإنه يتقدم ليشرح لها الفارق بين ماء وماء، فيقول "كل من يشرب من
هذا الماء يعطش ايضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا،.. بل الماء الذي يصير
فيه ينبوع ماء ينبع الى حياة أبدية" (يو 4 : 13، 14). فما الذي أراد ان
تفهمه، سوى، ان المعطي لمواهب أعظم لابد وأن يكون هو نفسه أعظم من الذي يقارن به؟

          ومثل
هذه الطريقة في القيادة والارشاد يتبعها الآن ايضاً. لأنه إذ كان اليهود يتعالون
عليه، ولا يفتكرونه عظيماً، إذ في كل مناسبة يقدمون عليه واضع ناموسهم موسى،
ويؤكدون دوماً ان عليهم ان يتبعوا أوامره لا تعاليم المسيح، ظانين ان عطية المن
وتدفق الماء من الصخرة كانت دليلاً أكثر منطقية لسموه على الجميع، بل وعلى مخلصنا
يسوع المسيح نفسه، كان لزاماً ان يعود (المسيح) الى خطته المعتادة، وألا يقول
بصارحة إنه أسمى من موسى، بسبب تجاسر سامعيه المطلق العنان، وشدة ميلهم الى الغضب،
بل إنه بلغ ذلك الشيء الذي أثار تعجبهم، وبمقارنته بالأعظم يبرهن على أنه ضئيل.
(إذ يقول) "من يقبل الي فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً" (كأني به
يقول) أجل، إني اتفق معكم ايضاً ان المن قد اعطي بواسطة موسى، لكن الذين أكلوا
آنذاك جاعوا، وأقر معكم ان من جوف الصخرة خرج لكم ماء، لكن الذين شربوه قد عطشوا،
وتلك العطية التي سبق الحديث عنها لم تعطهم سوى تمتعاً مؤقتاً، لكن "من يقبل
الي فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً".

          فما
الذي يعد المسيح به إذن؟ (هو لا يعد) بشيء قابل للفساد، بل بالحري بذلك (السر) –
الألوجية ([iv])
– في شركة جسده ودمه الأقدسين الذي يستعيد الإنسان بكليته الى عدم الفساد، فلا
يحتاج أبداً الى أي شيء من تلك التي تدفع الموت عن الجسد، أعني الطعام والشراب.

          ويبدو
هنا انه يطلق على الماء، صفة التقديس بواسطة الروح، أو بالروح الإلهي او الروح
القدس نفسه، والذي تسميه هكذا الكتب الإلهية.

          إن
جسد المسيح المقدس إذن يعطي حياة لأولئك الذين يكون الجسد فيهم، فيحفظهم جميعاً في
عدم فساد، إذ يختلط بأجسادهم، لأننا ندرك انه ما من جسد آخر سوى جسده هو الذي
بالطبيعة هو الحياة، الذي فيه كل فضل "الكلمة" المتحد به، والذي لا
يعادله جسد آخر، أجل أو بالحري الذي يتحقق مع قدرته الفاعلة، التي بواسطتها تحيا
كل الأشياء وتبقى كائنة، لكن إذ الأشياء هذه هكذا، فعلى الذين اعتمدوا الآن وذاقوا
النعمة الإلهية، أن يعرفوا، أنهم إن هم تراخوا في الذهاب الى الكنائس او استصعبوا
الأمر وظلوا زماناً طويلاً بعيدين عن عطية الإفخارستيا بالمسيح، وتظاهروا بورع
زائف، من جهة أنهم لن يشتركوا فيه سرائرياً، فإنهم يقطعون أنفسهم عن الحياة
الأبدية إذ أنهم حادوا عن الحياة، وإن بدا رفضهم هذا، ثمرة من ثمار ورعهم فإنه
يتحول الى فخ ورذيلة.

          وكان
الأجدر بهم ان يهموا في تجميع قواهم المتأصلة فيهم، وهكذا قصدهم، ليكونوا عازمين
في تصميمهم على إزالة الخطيئة، وان يوطدوا العزم على ان يحيوا حياة جميلة، فيسرعون
بكل جسارة الى الشركة في الحياة.

          لكن
لما كان الشيطان كثير الخداع، فإنه يحاول جاهداً ان يمنعهم عن السمو بأذهانهم،
وبعد ان يكون قد دنسهم بالشرور، يحثهم على ان يعزفوا عن تلك النعمة ذاتها، حتى
أنهم وهذا أمر متوقع، ما أن يفيقوا من الشهوة التي تؤدي الى الرذيلة، كما من خمر
وسكر، لا يرون ولا يهتمون بما هو لخيرهم. علينا إذن ان نكسر قيده، وان نحطم نيره
الملقى علينا من طغيانه، وان "نعبد الرب بخوف" كما هو مكتوب (مز 2 :
11). ومن خلال اللطف، نظهر انفسنا اسمى من ملذات الجسد فنقترب الى تلك النعمة
الالهية والسماوية، ونصعد الى شركة المسيح المقدسة، لأننا بذلك وبذلك وحده نقهر
خداع الشيطان، وإذ نصبح "شركاء الطبيعة الالهية" (2بط 1 : 4)، نرتفع الى
الحياة وعدم الفساد.

36
"ولكني قلت لكم : إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون".

          تعب
(المسيح) معهم بكلمات عديدة، وكان يحثهم بكل طريق على الخلاص بالايمان. لكنه وهو
الله، لم يكن يجهل ان المطاف سينتهي بهم الى عدم الايمان، الذي هو بمثابة توأمهم
بل توأمهم الحميم، معتبرين الذي يدعوهم الى الحياة كأنه لا شيء. فلكي يعرفوا إذن
ان يسوع لم يكن يجهل أي صنف من الناس يكونون، أو بالحي ليكون حديثنا مناسباً
للمقام بشكل أكبر، نقول : لكي يتعلموا انهم كانوا تحت الغضب الالهي، وهو يتهمهم
مرة أخرى "ولكني قلت لكم، إنكم قد رأيتموني، ولستم تؤمنون" (كأنه يقول)
لقد سبق فعرفت الأمر وأنبأت به، بشكل صريح، إنكم بالتأكيد ستظلون قساة، متمسكين
وبشدة بعصيانكم العالق بأذهانكم، لهذا ستُحرمون من أي نصيب في عطاياي. لكن متى قال
المسيح شيئاً من هذا القبيل؟ تذكروه قائلاً للنبي المبارك اشعياء "أذهب وقل
لهذا الشعب اسمعوا سمعاً ولا تفهموا، وابصروا ابصاراً ولا تعرفوا، لأن قلب هذا
الشعب قد غلظ" (اش 6 : 2، 10).

          أفلا
تظهر الكلمة صادقة بتلك الأشياء ايضاً الماثلة أمامنا. لأنهم أروا، رأوا ان الرب
كان الله بالطبيعة، حينما أطعم جمعاً غفيراً لا يحصى، كان قد جاء اليه بخمسة أرغفة
شعير وسمكتين صغيرتين، كان قد قسمها لهم. لكنهم "رأوا ولم يؤمنوا" بسبب
العمى الذي أغضى فهمهم كضباب بسبب الغضب الالهي. لأنهم (بحسب ظني) كانوا مستحقين دون
شك لمكابدة ذلك (الأمر)، لأنهم وهم ممسكون بعثرات لا حصر لها، ومقيدون بحبال
تعدياتهم التي لا فكاك منها" (قابل أم 5 : 22) لم يقبلوه حين جاء اليهم، وهو
القادر على حل قيودهم (وتحريرهم). لهذا السبب كان قلب هذا الشعب غليظاً.

          وسوف
تفهمون حسناً جداً بهذا ايضاً، كيف رأى جموع اليهود بواسطة عظمة الآية، ان يسوع
كان هو الله بالطبيعة. لأنهم إذ تعجبوا لما تم، كما يقول الانجيلي قبلاً، أرادوا
أن "يختطفوه ليجعلوه ملكاً" (15).

          أي
عذر يبقى لليهود إذن بسبب حماقتهم؟ لأنهم (ولسبب قوي) اندهشوا للآيات الالهية من
أعمال تتناسب وقدرة ذاك الذي يعملها، فإنهم على وجه التقريب يرتعدون من احتمال
الايمان، ثم لا يلبثون ان يتقهقروا عن العادات الصالحة، وسرعان ما يمضي صيفهم وهم
في عمق أعماق الهلاك.

37
"كل ما يعطيني الآب فإلي يقبل".

          لم
يقل الرب فقط "لقد رأيتموني ولم تؤمنوا" لكن كان من الضروري ان يورد ذكر
السبب في عماهم، ليعرفوا أنهم قد وقعوا تحت الغضب الإلهي. لهذا، وكطبيب ماهر فإنه
يظهر ضعفهم من جهة، ويكشف عن سببه من جهة أخرى، لا لكي إذا ما علموا بأمره يبقوا
رازحين فيه، بل لكي يهدئوا من غضب رب الجميع، الذي حزن لأجلهم أي حزن لأسباب
عادلة. لأن بكل وسيلة لن يحزن دون عدل ولا يمكن لمن يدين بعدل ان يحكم بمثل تلك
الدينونة عليهم، إنه لم يكن ثمة سبب يدعوه لذلك، فالاتهام موجه اليهم من كل اتجاه.
لهذا أكد المخلص ان كل من سوف "يقبل اليه" ذلك "يعطيه الآب"
لا كأنه عاجز ان يأتي بالمؤمنين الى نفسه، لأن ذلك يفعله بمنتهى اليسر إذا اراد.
"بحسب عمل استطاعته ان يخضع لنفسه كل شيء" (في 3 : 21) كما يقول بولس.
لكن إذ تقتضي الضرورة واللياقة بالأكثر، أن نقول ان اولئك الذين كانوا في جهل، قد
استناروا بالطبيعة الالهية، فإنه مرة أخرى، كإنسان ينسب العمل للآب، كأمور تخص
الله أكثر. لأن تلك كانت عادته، كما قلنا مراراً.

          لكن
من المحتمل أنه حين يقول "أن كل من يعطيه إياه الآب يقبل اليه" فإنه
يشير الى شعوب الأمم الموشكين ان يؤمنوا به ايماناً كاملاً. إنها كلمة من يتوعد
بحذق، إنهم سيسقطون عن النعمة من جهة، وعوضاً عنهم، سوف يقبل من كل الأمم الذين
أتى بهم صلاح الله الآب، الى الابن أي الى ذاك الذي هو بالطبيعة المخلص ومعطي
الحياة، حتى إذا ما اشتركوا في البركة التي منه، يصيرون شركاء الطبيعة الالهية.
وبذلك يعادون الى الحياة وعدم الفساد، وتعاد خلقتهم الى حالة طبيعتنا الأولى.

          ومثلما
يأتي المرء بمريض الى طبيب، ليطرد المرض الذي حاق به، هكذا نقول إن الله الآب يحضر
الى الابن اولئك المستحقين للخلاص الذي منه. إذن، فما أمر قساوة قلوبهم التي فيهم
والملآنة هلاكاً. لهذا هل توبخ كلمة النبوة اليهود صارخة تقول "اختتنوا للرب
واختنوا قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان اورشليم" (إر 4 : 4س). وليس لهم، بل لنا
نحن ايضاً بالحري قد حفظ الله الآب "ختان القلب" (رو 2 : 29) : أعني ذلك
الختان الذي بالروح القدس، يتم في ذاك الذي هو يهودي "في القلب". إذن من
الصواب ان نهرب من عصيانهم، وبكل ميزة نتخلى عن قساوة القلب، وان نصلح من وضعنا
ونتجه بالأكثر اليه، إن أردنا ان نحول مسار الغضب الآتي علينا بالهلاك.

ومن
يقبل الي لا أخرجه خارجاً

          يقول
(الرب) ان الاهتداء بالايمان لن يكون عديم النفع بالنسبة لمن يقبلون اليه. لأنه
يجب ان يظهر ان القدوم اليه بواسطة الله الآب أمر مستحب للغاية، ومثمر لعشرة آلاف
خير. (ويقول) ستكون الأمور الأسمى من نصيبهم، أولئك الذين بواسطة النعمة التي من
فوق يدعون الى ويقبلون. لأني "لن أخرج من يقبل الى خارجاً" أي إنني لن
أطرحه كإناء عديم النفع، كما قيل بأحد الأنبياء "يكنيا.. كوعاء خزف مكسور لا
نفع فيه، هذا الرجل يكنيا.. ما باله قذف هو ونسله وألقوا الى أرض لا يعرفونها.. يا
أرض، يا ارض اسمعي ما قاله الرب.. كتب على هذا الرجل ان يكون محروماً" (إر 22
: 28 – 30س). (وكأنه يقول) إذن فمن يقبل الى لن يحرم ولن يطرح بعيداً، كإنسان
محتقر، ولن يبقى دون نصيب في اهتمامي، بل سوف أجمعه الى مخزني، وسوف ينزل ساكناً
في المنازل السماوية، وسوف يرى نفسه مالكاً لكل رجاء يفوق إدراك البشر. "ما
لم تره عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال انسان. ما أعده الله للذين يحبونه"
(1كو 2 : 9).

          من
المحتمل ان الكلمات "من يقبل الي، لا أخرجه خارجاً" تشير بالأكثر الى ان
المؤمن، ومن يأتي الى النعمة الالهية، لن يسلم للدينونة. لأنكم ستجدون ان كلمة
"خارجاً" تحمل مثل هذا المعنى، كما في المثل الذي في انجيل المبارك متى.
(إذ يقول) "يشبه ملكوت السموات شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع. فلما
امتلأت اصعدوها على الشاطئ.. وجمعوا الجياد (جمع جيد) الى أوعية. وأما الأردياء
فطرحوها خارجاً" (مت 13 : 47، 48). وأما أن الجياد يجمعون الى الديار الالهية
والسماوية، فسنفهمه بقوله إن "الجياد قد جمعوا الى أوعية" أما عن الطرح
خارجاً دون نفع، فسنرى ان الأشرار سيسقطون من كل صلاح، ويطرحون في الدينونة. إذن
حين يقول المسيح "من يقبل الي، لا أخرجه خارجاً" فلنفهم ان الذين يقبلون
اليه بالايمان لن يمسهم العذاب أبداً. أولئك الناس الذين أمعنوا في هجرانه، إنه إن
لم يرجع أي منهم وبكل سرعة الى الطاعة، سيحرم من كل صلاح، وسيقطعون حتى ضد ارادتهم
من صداقته، لأنه وهو يعد "بألا يطرح من يقبل اليه خارجاً" فإنه في نفس
الوقت يشير الى أنه بالتأكيد سوف يطرح الذي لا يقبل اليه.

كيرلس
رئيس اساقفة الاسكندرية على الانجيل بحسب يوحنا.. انتهى الكتاب الثالث

 

فصول
الكتاب الرابع

(تقسيم
القديس كيرلس)

1- في
ان الابن ليس أدنى من الآب في شيء، لأنه منه بالطبيعة، حتى إن قال البعض عنه إنه
خاضع، على الكلمات "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي
أرسلني. وفيه أيضاً حديث نافع جداً عن "صليب المسيح الثمين".

2- في
ان الجسد المقدس الذي للمسيح هو واهب الحياة، على الكلمات "أنا هو خبز الحياة
وفيه يتحدث عن جسده بأنه "خبز".

3- في
ان الابن ليس شريكاً لحياة من أي شخص آخر بل بالحري هو الحياة بالطبيعة، إذ هو
مولود من الله الآب الذي هو الحياة بالطبيعة. على الكلمات، "كما أرسلني الآب
الحي، وأنا حي بالآب، فمن يأكلني فهو يحيا بي".

4- في
ان خيمة الاجتماع المقدسة كانت رمزاً للمسيح، وهي التي قادت الشعب في البرية، وان
التابوت الذي كان فيها والسراج والمذبح، وايضاً البخور والذبيحة، كلها ترمز للمسيح
نفسه، على الكلمات، "الى من نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك".

5- عن
عيد المظال، الذي يشير الى إعادة الرجاء المتوقع للقديسين والقيامة من الأموات،
على الكلمات، "وكان عيد اليهود عيد المظال قريباً".

6-
بحث في راحة السبت، وبيان مغزاها من عدة نواحٍ، على الكلمات "فإن كان الإنسان
يقبل الختان فليس السبت، أفتسخطون عليه لأني شفيت إنساناً كله في السبت".

7-
بحث في الختان في اليوم الثامن، يظهر ما تشير اليه من عدة وجوه، على الكلمات،
"فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت.. الخ".

 

الفصل
الأول

في ان
الابن ليس أدنى من الآب في شيء، لأنه منه بالطبيعة، حتى إن قال البعض عنه إنه خاضع

يو 6
: 38 "لأني قد نزلت من السماء، ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني".

يو 6
: 39 "وهذه هي مشيئة الآب الذي ارسلني، أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً،
بل أقيمه في اليوم الأخير".

          سوف
يبدو هذا النص صعباً أمام من يعالجه بسطحية، فيصير غير بعيداً عن رذيلة عدم
الإيمان، حتى انهم يتوقعون ان ننزلق الى مصاعب من العسير قهرها، يجلبها علينا
معارضونا. لكن ما من شيء صعب ها هنا على الإطلاق، لأن "كل الاشياء واضحة لدى
الفهيم ومستقيمة لدى الذين يجدون معرفة" كما هو مكتوب (أم 8 : 9)، أي لدى
الذين يدرسون في تقوى ليفسروا ويفهموا الأسرار المحتواة في الكتب الالهية.

          إذن
يعطينا المسيح بتلك الكلمات نوعاً ما من البرهان، ويعلق مؤكداً ان من يقبل اليه لن
يخرجه خارجاً. لأنه (يقول) لهذا السبب "قد نزلت من السماء" أي، صرت
إنساناً حسب مسرة الله الآب الصالحة، ورفضت ان أنخرط في أعمال غير موافقة لمشيئة
الله، حتى أحقق لهم – أولئك الذين يؤمنون بي – الحياة الأبدية والقيامة من
الأموات، محطماً قوة الموت. واحتمل التحقير من اليهود والشتائم والسباب والإهانات
والجلدات والبصاق، والأدهى من ذلك، الشهادة الزور، وآخر الكل، موت الجسد.

          تلك
الأمور قد اجتازها المسيح بارادته لأجلنا، لكنه لو كان ممكناً ان يتمم لنا رغبته
دون معاناة تلك الأمور، لما كان قد تألم. لكن لما كان اليهود عازمين يقيناً وحتماً
إثارة الأمور ضده فإنه يقبل الألم، ويجعل ما أراده ليس ارادته هو، ولأجل ما لآلامه
من قيمة، واتفاق مع الله الآب، وموافقته معه على انه سوف يحتمل فوراً كل شيء، وذلك
لأجل خلاص الجميع.

          هنا
نرى بوجه خاص الصلاح الوفير الذي للطبيعة الالهية، في انها لم ترفض ان يكون
اختيارها لأجلنا لما هو مرفوض ومزدرى به. لكنكم سوف تفهمون لماذا لم يكن المسيح
مخلصنا يريد الآلام التي على الصليب، ومع ذلك أرادها لأجلنا ولأجل مسرة الله الآب
الصالحة، لأنه حين كان على وشك الخروج (للآلام) ايضاً، جعل حديثه الى الله (الآب)
قائلاً ما قاله في صيغة صلاة :

          "يا
ابتاه، ان أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد
أنت" (مت 26 : 39). لأنه وهو الله الكلمة، الغير المائت، والغير الفاسد،
والحياة ذاتها بالطبيعة، لم يقدر ان يرتعد أمام الموت، وإني اعتقد ان ذلك واضح
للجميع : إذ وهو في الجسد قد جعل الجسد يعاني الأشياء اللائقة به، وان يسمح له ان
يرتعد أمام الموت، حين كان على مشارفه، لكي يُظهر انه بالحقيقة انسان، لهذا يقول
"إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس". (وكأنه يقول) إن كان ممكناً، من دون
معاناة ألم الموت، أن أهب الحياة للذين سقطوا، وإن كان الموت يموت من دون موتي
أنا، بالجسد، أي (كما يقول) فلتعبر عني هذه الكأس، لكن (على حد قوله) ما دام ذلك
لن يحدث، فليكن الأمر إذن، لا كما أريد "أنا" بل كما تريد
"أنت".

          أنت
ترى كم هو مقدار عجز الطبيعة البشرية، حتى في المسيح نفسه، بقدر ما يتعلق بها الأمر
: لكن باتحادها بالكلمة قد أُعيدت الى ما يليق بالله من إقدام واستعيدت الى غرض
شريف، أعني ان الطبيعة البشرية لم تقترف ما يبدو صالحاً لإرادتها هي الذاتية بل
بالحري تتبع القصد الإلهي، مهيأة على الفور للركض الى مهما يدعوها اليه ناموس
خالقها.

          وحتى
يكون قولنا قول الحق، يمكن لكم ان تتعلموا ذلك مما يلي أيضاً. (إذ يقول) إن
"الروح نشيط، أما الجسد فضعيف" (مت 26 : 41). لأن المسيح لم يكن يجهل
انه لو بدا كأنه مغلوب من الموت ويجزع منه، فهذا شيء أدنى كثيراً من أن يليق
بكرامة الله، لهذا الحق بما كان قد قاله أقوى دفاع قائلاً، إن الجسد كان ضعيفاً،
بسبب ما يلائم (طبيعته)، لكن الروح نشيط
Willing، عالماً أنه يحتمل ما قد يجلب الضرر.

          أرأيتم
كيف ان المسيح لم يكن يريد الموت، بسبب الجسد، ولا هوان التألم، ومع هذا أراده،
حتى يتمم به مقاصد مسرة الآب الصالحة لأجل العالم أجمع، أي، خلاص وحياة الجميع؟

          ألم
يشر هو بالحق والصواب الى شيء من هذا القبيل، حين يقول ان هذه هي ارادة الآب، أنه
من بين الذين أتى بهم اليه لن يهلك أحد، بل سيقيمه في اليوم الأخير؟ لأنه كما سبق
وعلمنا، ان الله الآب في محبته للانسان يحضر للمسيح، الحياة والمخلص، ذاك الذي
يحتاج الحياة والخلاص.

          لكنني
متيقن انني أقول ما لا يرضي عدو الحق. لأنه لن يوافق أبداً على ما قلناه حالاً :
بل سيصرخ بأعلى صوته ويأتينا بصراخه المدوي : ألست تحيد بنا (يا سيد) عن طريق
فكرنا مخترعاً مسالك معقدة من الأفكار، وتسحب النص بعيداً عن الحق؟ (وهو يقول) إنك
كما اعتقد تخجل من الاقرار بخضوع الابن اللاارادي. او ليس الأمر واضحاً ايضاً لنا،
ان (الابن) لن يأمر أبداً ويهيمن على مجريات الأمور، بل هو بالحري خاضع لإرادة
الآب؟ لأنه وهو واعٍ لقصوره عن المساواة به، يحجم بكيفية ما عن ان يجعل ما يريده
ليس وفق ارادته هو وألا يفعل ما يراه صالحاً له، بل يفعل بالحري ما يسر الآب. (وهو
يقول) ولا تقل لي، وقد جرجرت التعبير الى مسألة "التجسد"، إنه خاضع
كإنسان. لأنه ها هو ذا، كما نرى، إذ وهو الله، والكلمة المجرد من الجس، قد نزل من
السماء، وقبل ان يكتسي بشكل العبد، كان خاضعاً للآب، أي باعتبار الآب أعلى منه
وقائده.

          أيها
السيد الفاضل، ها أنت بكلمات مروعة، كما تحسب أنت بالتأكيد، وبالركض الرشيق تسبقنا
سريعاً، لكنها ثمة كلمات لا تبلغ قصدها باستقامة، بل هي تفزع لمرأى الملوك
المضروبين أعالي الطريق، (وكما يعبر المثل اليوناني) قد حادت عن طريق سير المركبة،
وها أنتم قد اندفعتم الى الجرف والصخر. لأنك عبثاً تؤكد (زعمك) وتورد الدليل ضدنا
ان الابن يطيع الآب، وتواصل حديثك حتى توهم الذين يظنون انهم على نحو صحيح ان
واحداً لابد وان يكون نقيض الآخر، وهم لم يكن مقدراً لهم ان يوافقوك الرأي آنذاك.
لأننا لا نقر عن الثالوث القدوس الواحد جوهرياً انه قد انقسم ابداً ضد نفسه، او
انشطر الى آراء متعارضة متباينة، او ان الآب (ربما) او الابن او الروح القدس
انقسموا الى ما قد يبدو صالحاً لكل منهم على حدة، بل هم يتفقون في كل شيء، ولأنهم
لاهوت واحد، ومن الواضح، ان تكون لهم نفس الإرادة، في الثالوث القدوس كله.

          وان
احتدم النقاش الطويل معنا، فإن الروح لا يزال يتشاحن فيما لا ينبغي ان يفعل، لأن
ما من احد ناقم بسبب ذلك لدينا. لهذا فإنه من نافلة الأمر ان نزيد كلاماً.

          لكن
ما دمتم قد تعودتم على التفكير في أمور مخزية والتمسك بها، فإنكم تسمون اتفاق
الابن مع ارادة الآب، خضوعاً بالضرورة، لهذا سنناقشكم فيما هو صائب. لأن تلك
العبارة إن كانت قد قيلت منكم هكذا ببساطة، فإننا ايضاً ولسبب معقول سوف نحتفظ
بسلامنا، فلا نفحص بتدقيق مفرط اتفاق اللغة. لكن حيث إننا نرى ان عبارتكم قد قيلت
بخبث شديد، فإن الضرورة تحتم علينا ان نعارضكم، واثقين في قوة الروح القدس، لا في
كلماتنا الذاتية. لأن الابن لم يؤكد انه لا يملك ارادته الذاتية بالكامل وعلى
الإطلاق، فالأمر ليس على وجه الإطلاق، ولا هو هكذا ببساطة بخصوص قاعدة مسلكه، ولا
حتى بالنسبة لكل فعل يأتيه، بل هو يقول إنه حفظ مشيئة أبيه في فعل واحد محدد، بصدد
محاولتكم تعويج الكلمات (كما أفهم) – هذا الفعل قد أتاه كإله لخلاصنا نحن. لكنه
احتمل ما لا ينبغي ان يحتمله، ولأجلنا جعل ذلك حسب ارادته، أعني تألمه على الصليب،
الأمر الذي يرضي اباه، كما سبق وقلنا.

          وقد
يجد المرء البرهان قائماً بشكل مباشر ها هنا، والمبدأ واضح بشكل أكيد أمامنا،
والذي بموجبه (كما يقول هو بذاته) تخلى عن ارادته الذاتية، وتمم مشيئة الآب.

          لأن
"هذه مشيئة الآب الذي ارسلني ان كل ما اعطاني لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في
اليوم الأخير" (39).

          وقد
أوضحنا سلفاً وبشكل جلي ان الألم على الصليب كان بالحقيقة ليس ألماً مرغوباً فيه
من قبل الابن الوحيد. لكننا سنورده هنا ايضاً مقترناً بأدلة أكثر دقة، مبسطين الحق
أمام قراءنا. لكنني سوف أتقدم أولاً لفحص مسألة الخضوع التي زعمتموها وكنتم قد
عرضتم قبلاً، واعترفتم دونما تردد ان مشيئات الثالوث الأقدس منذ الأزل تندمج معاً
في مشيئة واحدة وقصد واحد. فليخبرنا إذن أولئك المحاورون الماكرون، ما إذا كان
خضوع كيان الابن هو خضوع بالاسم أم ما هي حقيقته؟ وهذه هي طبيعة (الابن)، بنفس
الطريقة مثلاً التي بها تخص الطبيعة البشرية الإنسان، او إن كان (الابن) كائناً من
قبل في حالة وجوده الذاتي الخاص به، في خضوع للآب، كما يدرك المرء عن ملاك مثلاً،
او أية قوة أخرى عاقلة، لأن تلك المخلوقات إذ هي موجودة ومخلوقة، تتقبل حالة خضوع.

          فإن
كنتم إذن تقولون إن كيان الابن يكمن في كونه خاضعاً للآب، فإنه سيكون خضوعاً وليس
بالحري ابناً. خبروني إذن كيف لا تكونون أناساً تافهين؟ لأنه كيف لهذا الخضوع ان
يكون كائناً بذاته دون ان يستمد كيانه من أي من الأشياء الموجودة؟ لأن تلك الأشياء
هي عادة الأشياء العارضة الناتجة عن الشخوص السابقة الوجود بالضرورة حيث تعتاد أن
تكون، وليس من أمر آخر، وتظهر وهي تنتمي الى (جواهر)، أو تحدثها، دون ان يكون لها
بالأحرى وجود في ذواتها. فالشهوة مثلاً التي تنادينا وتجبرنا على فعل أي شيء ما،
ليس لها وجود في ذاتها، بل هي مدركة فقط فيمن يتقبلها لتعمل فيه، لهذا فالخضوع
الذي يسير الى التأرجح نحو الإرادة عن واجب الخضوع لأي فرد آخر، لا يمكن ان يدرك
في ذات طبيعته، بل يعتبر بالحري شهوة او ارادة او رغبة في أحد الأمور الموجودة،
وبجانب اسم وحقيقة الخضوع الذي نتحدث عنه بشكل مطلق، فإنه لن يفهم بأنه منسوب لأي
منها، ولا الإرادة، التي يعرف المرء إن كانت صالحة أم ردية، إن لم تكن مضافة
لأولئك الذين لديهم الخضوع لهم، فالإنسان خاضع لله، لكنه خاضع ايضاً للشيطان. كما
ان لفظة "حكيم" هي لفظة متدنية (لأن البعض "حكماء في عمل
الشر" (إر 4 : 22)، وأيضاً "سيرث الحكماء مجداً" (أم 3 : 35) إذ
تكون حكمتكم في الأمور الصالحة بشكل واضح، فإن الخضوع ايضاً لفظ متدن نوعاً ما،
وليس هو الحق الذي يمكن التعبير عنه بشكل محدد. لأنه من غير المؤكد تماماً ان نعرف
لمن يكون الخضوع، هكذا ايضاً فإن طبيعة الابن تكون متروكة لعدم اليقين، إن كانت
تدرك (حسب زعمكم) بأنها خضوع، فلأي شيء يكون الخضوع ولمن يكون، لأنه إن لم يكن ثمة
شخص واحد متقدم ها هنا، فإن الكلام لا يخلو من زيف. ولكن حيث لا يوجد الخضوع من
ذاته، حال كيفية وجوده، فإننا سنأتي بحجة أثقل وأوضح فيما يخص المخلوقات فعلاً،
وسنرى إن كنتم تقبلون مثالاً توضيحياً على ذلك. لأننا إن كنا نقبل ان كيان الإنسان
(مثلاً) يتألف من حال كونه خاضعاً، فإن حالة عدم وجوده تتألف من حالة عدم خضوعه.
كيف إذن قيل بالمرنم للمزامير الى شخص ما كأنه موجود فعلاً ولكن ليس خاضعاً :
"اخضع للرب وتوسل اليه" (مز 37 : 7س). ألا ترون اذن كم من الحماقة
المفرطة افتراض ان الخضوع له أي وجود في ذاته؟ وقد يعترف واحد عن ضرورة ان الابن
كان موجوداً قبلاً في طبيعته الذاتية، ولهذا يقول إنه كان خاضعاً للآب.

          (خبرني)
إذن ما اضطرارنا للقول إن ذلك الذي هو من جوهر أبيه، وختم طبيعته الحقيقي ان يسقط
عن مساواته له، على أساس كونه خاضعاً؟ لأننا نحن الذين نعتقد ونفكر بصواب، نعلم
أنه واحد مع الآب في الجوهر، ونحن نعطيه كرامة مساوية من جميع الوجوه، وأنه لا
يعتبر أدنى ولا أقل في شيء من ألوهية الآب.

          لكن
هل ترى أنك بكيفية ما لا تستطيع أن تستبعده عن الكرامة المساوية مع الآب على أسس
خضوع مزعموم، لذاك الذي يتمتع بصلاح مساو بسبب تماثل الجوهر.

          (ويقول)
المعارض : لكن هذا الشيء هو لصلح جدلنا، أعني ان الابن خاضع (مطيع) للآب، ولا يهتم
كثيراً بإرادته الذاتية، بل بالحري يخضع لمشيئة الآب، باعتبار الآب أعلى منه
وأعظم.

          لكن
نفس هذا الشيء بحسب كلامك يا سيد، والذي تعتقد أنه سيؤيد مناقشتك، ستجده لا شيء
سوى ثمرة جهلك : لأننا إن كنا نتناقش، من كان الأعلى في الكرامة وصاحب المجد
الأعظم، فإن جدلكم المتكرر دوماً قلما يبدو أنه قائم على أرضية مناسبة.

          لكننا
ما دمنا قد فحصنا حالة "وحدانية الجوهر"، فكيف لا تقعون في حماقة ليست
هينة، إن نسيتم الى الله الآب السمو على وليده الذاتي؟ لأن ألفاظاً مثل
"أعظم" او "أدنى" أو ما شابه، لا نسمح لها أن تكون جواهر بشكل
صارم (كما قلنا عن الخضوع). لكنها شيء ما خارجي وهي صفات للجواهر. لأن ذاك الذي هو
فعلاً كائن وذو وجود سابق، سوف يقبل (ربما) ما هو "أعظم" أو
"أدنى" بالمقارنة مع شيء آخر. لكنه إن لم يكن موجوداً من قبل أو له وجود
سابق، بالنسبة لما قد يحدث من أي من تلك الأشياء فكيف توجد (هذه الجواهر) من تلقاء
نفسها، على الرغم من إدراكها وتصنيفها تحت طبقة الحادثات؟

          من
ثم فإن كنتم تخبروننا عن الأعظم والأدنى، فإنكم لا تلمسون جوهر الابن الوحيد ولا
حتى جوهر الآب، بل كمالات خارجية أو مواطن ضعف، فتمتدحون الآب (على حد زعمكم)
وتسبون الابن، رغم انكم سمعتموه يقول صراحة وبصوت عالٍ "من لا يكرم الابن لا
يكرم الآب" (يو 5 : 23) وأن على الجميع "ان يكرموا الابن كما يكرمون
الآب". لأن تلك لا يمكن فصلها بأي حال كأنها أشياء مغايرة غريبة عن بعضها
البعض بل لها نفس الجوهر الواحد "ويجب ان تمنح مجداً سماوياً، ويعلم المسيح
برقي سام جداً أنه لا يقبل "شهادة" لنفسه "من انسان" (5 : 34)
كما قال هو بنفسه، بل هو بذاته شهادة لذاته يأتي بها كأعظم وأصدق ما تكون الشهادة
وأكثر استحقاقاً من أية شهادات أخرى. وإذ هو بالطبيعة الحق فإنه حتماً سيقول
الصدق، كما يمكن للمرء ان يثبت (ذلك) من عمق طبيعة الأشياء. لأنكم من المحتمل ان
تقبلوا ان "الأعظم" و"الأدنى" ينتميان لا الى ذات الجوهر
الواجب من الاشياء، بل الى الأشياء بالنسبة لجوهرها. فمثلاً، لن يكون انسان أعظم
أو أدنى من آخر حال كونه معروفاً ومدعواً إنساناً لأنه لا الإنسان أقل من إنسان
بوصفه إنساناً ولا هو بأعظم من إنسان، بوصفه إنساناً، لأن حالة او كيفية
"الطبيعة" هي هي نفسها في كل البشر. ونفس أسلوب التفكير او القياس نجده
مع الملائكة ايضاً، او أي شيء آخر مخلوق ومحسوب في عداد الخليقة. لهذا لا وجود على
الإطلاق لمثل تلك الأمور بالنسبة للجواهر في حد ذاتها. بل هي الأمور الحادثة
بالنسبة للجواهر او فيما له صلة بالجواهر، كما أوضحنا سلفاً.

          كيف
يكون الآب إذن أعظم من الابن، (كيف يكون) إله بالطبيعة أعظم من إله بالطبيعة؟ لأن
الابن إذ هو مولود منه، سوف يجبركم بالتأكيد، حتى لو ضد إرادتكم ان تقبلوه مقرين
بأنه واحد في الجوهر معه.

          وإذ
تقبل المقدمة المنطقية إذن، ودونما تردد أن يكون الابن هو بالطبيعة الله، فلنعتبر
إذا سمحت، أننا بإعطائه كرامة مساوية مع ذاك الذي هو منه، سوف نسبغ كرامة على
المولود، أم أننا نفعل العكس، بأن نهين المولود بكرامة أدنى أو أقل. لأن مجد الآب
أن يلد وحيداً كذاته بالطبيعة. لكن العكس ليس صحيحاً (لأنه ليس من اللائق النطق
بذلك) فإن لم يكن للابن نفس الحالة الطبيعية اللائقة به، تكن له دونية إما في
المجد أم في وجود القدرة اللازمة له، لكي يكون معلناً بأنه الكلي الكمال والله
الحقيقي خلال كل شيء، فإن كان هو وهو الله بالطبيعة يكرم الآب، فلا تسخرن إذن أيها
الإنسان، ولا تذنب بالبحث عن خطأ بجهلٍ، حيث لا يسمح المقام بأدنى خطأ. لأنه (حسب
ظني) كأن الأليق أن نعجب به لهذا أيضاً، أنه يكرم أباه ويحبه :

          لأن
كل نوع فضيلة له في أصله وجذره، "جوهره" الذي هو فوق الكل، وفي (جوهر
الفضيلة) تنشأ كل الصالحات وتنساب بعد ذلك إلينا، نحن المخلوقين حسب صورته، وقد
أمرنا معطي الناموس أيضاً ان نكرم الأب والأم، كأمر طبيعي وقد ألحق بهذه الوصية
أنبل المكافآت (لأنه يعلم، حسب ظني، أن ذلك كان شيئاً عظيماً للغاية، بعيداً عن كل
لائمة، ان تكون حياته طويلة).

          فنحن
حينما نطيق والدينا ونخضع لهم، لا تختلف طبائعنا عنهم، بل نظل كما نحن بشر من بشر،
ويظل تعريفنا الذي لنا كمنتمين للإنسانية تعريفاً كاملاً غير منقوص، فنحن نمارس
الطاعة كفضيلة عالية جداً. هكذا ندرك الأمر بالنسبة للآب والابن، لأنه حال كونه ما
هو عليه، إله من إله، كامل من كامل، الختم الحقيقي لجوهر أبيه، لا يفكر إلا فيما
يفكر فيه الآب أيضاً، فهو نفس وذات مشورته وكلمته، ويفعل بالتمام والكمال ذات ما
يفعله الآب، مضطلع (إن جاز التعبير) بنفس قوانين وحدانية الجوهر، في أن يشترك
مع الآب في أن يريد كل الصالحات.

          فلا
تستاء أيها الإنسان، حينما تسمعه يقول "لأني قد نزلت من السماء، ليس لأعمل
مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني" (38).

          لأن
كل ما قلناه في البداية سوف نقوله مرة أخرى : قال المسيح ذلك عن أمر واضح ومحدد.
لأنه يقول تلك الكلمات معلماً أنه أراد أن يموت عن الجميع لأنه هكذا أشارت الطبيعة
اللاهوتية، لكنه لم يرد (ذلك) بسبب الآلام على الصليب، وبقدر ما هو متصل بالجسد
الذي يستنكر الموت. وقد أسهبنا فعلاً في الشرح، لكن من المناسب أننا يجب ان نفهم
من طبيعة الاشياء ذاتها ان الآلام على الصليب لم يكن يريدها المسيح لأنه كان
إنساناً.

          تقول
إذن أنها من فعل الحماقة اليهودية، ان يُصلب المسيح عن الجميع، وكان ذلك على وشك
الوقوع حالاً من جانبهم، هم الذين تدربوا على الجسارة فيما يتعلق بما فعلوه من قبل
مع الأنبياء القديسين وقديسي ذلك الزمان. لكن لما كان من المستحيل أن يعيد الى
الحياة ذلك الذي مات، إن لم يصر الابن الوحيد إنساناً، ولما كان الاحتياج هو
بالكامل لمن خلق الإنسان ان يتألم، فقد جعل ما لم يرده، إرادته (أراد ما لم يرد)،
وقد سمحت الطبيعة الإلهية بذلك حباً فينا.

          لأن
خالق كل الأشياء، الحكمة، أي، الابن، قد جعل ما هو مكيدة للحماقة الشيطانية، أعني
موته بالجسد، ذلك قد جعله طريقاً للخلاص لنا وباباً للحياة، فانهارت آمال الشيطان،
وتعلم أخيراً بالخبرة، أنه من العسير عليه ان يحارب الله. ويبدو ان المرنم الالهي
للمزامير يتفق مع ما قلته عن تلك الأمور، فهو يلمح الى شيء من هذا القبيل، حين
يقول، كما عن المسيح والشيطان، "في شركة سوف يذله" (مز 10 : 9، 10س)،
لأن الشيطان نصب الموت فخاً للمسيح، لكن الشيطان وقع في نفس الشرك الذي نصبه. لأنه
في موت المسيح انحل الموت، وأبيد الطاغي الذي لم يظن انه سيسقط. ولم يكن من الصعب
ان تُضاف أمور الى تلك الأشياء : وسنواجه ما هو موضوع أمامنا، "إن موت المسيح
لم يكن حقاً وبصدق هو عمل المشيئات اليهودية وثمرة جسارتهم الشريرة، بل كان الحكم
الالهي (كما يزعم البعض) هو المسبب الوحيد لذلك (الموت) :

          كيف
لم يكن الأمر يحتاج ان ما قدر ان يكون، كان بالضرورة لابد ان يتم وبالتأكيد
وبواسطة أيدي البشر وليس عن طريق آخر؟

          (أخبرني)
إذاً كيف أن الذين يسهلون تنفيذ قوانين وأحكام الله التي لا راد لها، يمكن ان
يعاقبوا بعدل؟ وكيف لهذا الإنسان البائس، الذي خانه، كان أفضل له، "لو لم
يولد" (مت 26 : 24). لأنه إن كانت الآلام يُدرك عنها ان المخلص أرادها، وهي
ليست محل ارادته بأي مفهوم آخر، فأية عقوبة يمكن ان تقع وبشكل معقول، على ذاك الذي
كان خادماً لمشيئة سيده، وخادماً للأمور التي ستحدث بعد ذلك وبشكل مؤكد؟ ألا يكون
جلياً أمام الجميع، أن الأمور التي تبدو صالحة بالنسبة للطبيعة الإلهية الفائقة
الوصف، يمكنها ان تقع وينفذها البعض؟ من تلك الاشياء ومن غيرها أكثر، يمكن للمرء
ان يرى ان ابن الإنسان قد "نزل من السماء" ليجتاز الموت لأجل الجميع بإرادته،
لكي يقيم الجميع في اليوم الأخير ما دام ذلك يُسر الآب نفسه لخير الجميع. لكن هذه
الأمور لا تجعلنا ندرك أنه من طبيعة أخرى مختلفة، أو أنه أقل وجوباً من ذاك الذي
ولده.

          أظن
ان معارضنا سوف يخجل أخيراً، ولن يناقض كلماتنا حول هذه النقطة، لكن إن ظل يعارض
ثانية واستقر عنده ان يناسبه أمر التشاحن أكثر، أتكلم أنا هكذا قائلاً، إن كان
الابن قد نزل من السماء لا لكي يعمل مشيئته هو، كما يقول بنفسه، بل
مشيئة الآب
، وإن كلماتنا التي حول الاعتبار المستنتج للتو إذن يتصادف أنها لن
ترضيك : ألا يقول المرء إن مشيئتهما متعارضتان، وإن مشورتيهما منقسمة على النقيض؟
لكن ذلك الأمر واضح للجميع، لأنه إن لم يكن ثمة عائق، فإن المشيئة في كليهما سوف
تكون واحدة بالكامل حتماً : لكن إن كان يضع مشيئته كما لو كانت متعارضة مع مشيئة
الآب، ثم يتمم ذلك، كيف لا يكون من الحماقة القول إنهما واحد، وليسا مختلفين،
الواحد بالنسبة للآخر؟

          فلنر
ما معنى مشيئة الآب، لأننا بذلك ندرك الأخرى أيضاً، (ونعرف) الى أين تميل. إن
مشيئة الآب إذن، كما قال المخلص نفسه، "إن كل ما أعطاني الآب لا أتلف منه
شيئاً، بل أقيمه في اليوم الأخير". وما من أحد ينكر ان في ذلك صلاحاً وحباً :
ولكن بنقل اعتباراتنا الى مشيئة الابن المضادة، نجد انه لا صلاح ولا حب في ذلك على
الإطلاق بل ها نحن نتذوق مما يناقض الآب بالكامل، (فالابن) لا يشاء ان يخلصنا، ولا
ان يقيمنا من الموت. فكيف إذن يظل هو الراعي الصالح، وكيف يعطينا إشارة لرأفات
محبته التي فيه، وفي بذله حياته لأجلنا؟ لأنه إن كان قد "نزل من السماء ليتمم
ذلك عن قصد إرادي، كيف لا يتمم مشيئته الخاصة في عدم إتلاف ما يحضره (الآب) اليه،
وإقامته في اليوم الأخير؟

          ولكن
إن لم تكن تلك هي مشيئته، لكنه يناقض مشيئة الآب، في الإقامة من الموت، وفي
الخلاص، أي، إقامة وخلاص أولئك الذين ساد الموت عليهم، كيف لا نكون صادقين في
تأكيدنا على أن الابن لا هو بصالح ولا هو بمحب للإنسان بأي شكل؟

          فليكف
معارض المسيح إذن، إذ قد ثبت تجديفه من كل جانب، وليتوقف عن النباح علينا بخصوص
تلك الأمور بكلماته المرة.

40
"لأن هذه هي مشيئة أبي، أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية،
وأنا أقيمه في اليوم الأخير".

          بعد
أن عرف (الابن) مشيئة الآب الصالحة، يوضح الأمر، ويسهب لأجل منفعة السامعين،
بتكراره الأمر مرة أخرى، إذ يشرح بجلاء كيفية الإحضار وها يعود من وراء الإحضار من
نفع. إذن فالآب يعطي للابن الذي لديه القدرة على الإحياء، يعطيه الذين تعوزهم
الحياة، هو يعطي هكذا، من خلال المعرفة التي يغرسها في كل واحد، والإدراك الحقيقي
للابن. والقدرة على نقاوة الفهم بأنه هو إله من الله الآب ذاته، ليفعل هكذا،
ويتعبد بالتأملات المتحصلة لديه، فينال هبة الإيمان وهي بمثابة حياة أبدية مباركة
لا نهاية لها.

          إذن
فالآب بالمعرفة والتأمل الإلهي يُحضر للابن أولئك الذين قصد أن يهبهم النعمة
الإلهية. والابن يقبلهم ويحييهم، ويحضر فيهم صلاحه الذاتي وهم الذين بالطبيعة عرضة
للفناء، وكشرارة من نار، يسكب عليهم قوة الروح الواهبة الحياة، ليعيد صياغتهم كلهم
بالكامل الى حياة الخلود. لكن حين تسمعون ان الآب يحضرهم اليه، وان الابن يمنح قوة
الإحياء من جديد للذين يركضون نحوه، فلا ينخرطون في خيالات سخيفة، كأن يزعموا
مثلاً أن كلاً منهما (الآب والابن) يفترض فيه انه يعمل مستقلاً ومنفصلاً فيما يخص
ويناسب طبيعة كل منهما، بل يفهم بالحري أن الآب شريك في العمل
co-worker مع الابن، وبالمثل الابن (شريك في
العمل) مع الآب، وان خلاصنا ونجاتنا من الموت واستعادتنا الى الحياة هو عمل
الثالوث الأقدس كله. وأن نعلم ان الآب كافٍ بذاته في كل اقتدار وكل حاجة، وهكذا
الابن بالمثل والروح القدس. لكن من خلال الثالوث الأقدس كله تأتينا الصالحات
لأجلنا نحن، فيكون الله الآب هو كل شيء في الكل بالابن في الروح القدس.

          مع
ذلك، علينا ان نلاحظ هذا ايضاً، ان قيمة الايمان بالابن هي قيمة عظيمة، لأن الحياة
هي مجازاة هذا الايمان. لكن إن كان الله الآب معروفاً فيه، ذاك الذي هو الابن
بالطبيعة، فمن يحتمل بعد ذلك الذين يستعبدونه من جوهر الآب – ولهم فم بلا لجام لا
يكبح جماحه في التجديف ضده؟ لأنه وهو يقول أنه يستطيع ان يقيم من الموت الى الحياة
ذاك الذي سقط في الموت، بنفس تلك الكلمات ودونما أي فرق، يرتفع الى ذات الطبيعة مع
الآب. لأن إحياء الموتى عمل خاص بالحياة، ولما كان الآب بالطبيعة هو الحياة، فإن
الابن الوحيد الذي هو الحياة، يُدرك عنه بالتأكيد ايضاً أنه منه بالطبيعة.

41
"فكان اليهود يتذمرون عليه، لأنه قال، أنا هو الخبز الذي نزل من السماء".

          مرة
أخرى يغضب الذين لا يفهمون شيئاً عن الأمور التي تحدث بها المسيح : وها نحن وبوجه
خاص، نرى العقل غير المتعلم. لأنهم إذ لا يقدرون على استيعاب الأفكار، كما ينبغي
لهم أن يفعلوا ليرتقوا الى الأفضل، فإنهم ينتهون الى أن تكون نفوسهم صغيرة في غير
أوانها. لأننا هل لا نكتشف ما قيل بخصوص اليهود أنفسهم؟ ولماذا هم غاضبون؟ وما
الذي يدعوهم لذلك؟ ولماذا يتذمرون؟ على الرغم من ان الواجب عليهم ان يستخدموا
ذهناً أكثر حصافة بالنسبة لما قيل، وأن يكونوا قد أدركوا الحق من نفس الأفعال التي
تمت، وبإعجاز ما تم من أعمال يبلغون اختبار المعرفة الممحصة ما إذا كان المسيح
يكذب، بدعوته نفسه الخبز، والخبز "الذي نزل من السماء"، أم أنه كان
صادقاً، وهو في الحقيقة كذلك. لأنهم بهذه الطريقة إذ هم يحكمون بصواب ينقادون بيسر
الى اكتشاف ما هو نافع لهم : لكنهم غاضبون دون ان يستفسروا، على الرغم من انه فيما
سبق فعلاً، قد أظهر المسيح نفسه أنه خبز الحياة الحقيقي ذاته، مقابلاً نفسه
بالمن، الذي أُعطي على سبيل الرمز والظل، الى آبائهم في البرية.

          (فيقول)
: "من يقبل الي فلا يجوع" (35). بينما الذين أكلوا المن نالوا قليلاً من
المتعة الجسدية التي سرعان ما تفقد. لكن هؤلاء الذين يأتون اليه بالايمان، ولا
يبلغون الى تمتع مماثل لأولئك، بل بالحري ينالون حصاد النعمة الدائم الذي للبركة
(الأولوجية).

          لهذا
تعثر ذهن اليهود، ناظراً فقط الى الأرضيات : ولهذا كانت ترنيمة المزمور عنهم
"لتظلم عيونهم فلا تبصروا – ولترتجف متونهم كل حين" (مز 69 : 24س)، حتى
لا يلتفتوا أبداً الى معرفة الأسرار الإلهية، فيبيد الشر بشره بسبب حمقهم وعدم
إيمانهم الشديد الجماح.

          وإذ
نتذكر ما في كتابات موسى، نجد، أن التذمر ضد أكثر الناس رفعة وصلاحاً كان متأصلاً
في اليهود كصفة موروثة. لكن نهايته كانت مرة، وها هي التجربة تكشف عما حدث قديماً
وعما يحدث الآن بدرجة أقل مع هؤلاء. لأن أولئك تذمروا في البرية، وعلا صراخهم بغير
شكر ضد الله "فأهلكتهم الحيات" (1كو 9 : 10)، كما شهد الحكيم بولس
أيضاً، وهؤلاء تذمروا على المسيح، وأهانوا فاديهم معطي الناموس لعدم إيمانهم هذا
الذي دام طويلاً، لكن أمراً ما سيصدر ل "للحية فتلسعهم" (قابل عا 9 :
3)، كما هو مكتوب، وسينصبون كوليمة أمام الوحش الشديد الافتراس : فإن عدم الايمان
دائماً ما ينتهي بالضرورة نهاية محزنة للغاية.

42
"وقالوا أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه؟ فكيف يقول
هذا إني نزلت من السماء".

          يا
للجهل المطبق، والفهم الذي أظلم بشراب قوي مسكر و"قلب هذا الشعب غلظ"
(إش 6 : 10س) كما هو مكتوب. لأنهم لم يفهموا حقاً شيئاً عن تلك الأمور التي كان
يجب عليهم ان يفهموها بوضوح، وكلا الأمرين من تفكير ومن كلام يستحقان الضحك. لأنهم
إذ قد تدربوا على كتابة الحكيم جداً موسى، وابتهجت نفوسهم بكرازة الأنبياء
القديسين، كان عليهم بالأولى، ان يدركوا، ان المسيح كان من المتوقع مجيئه الينا
ليس بدون الجسد او ترتيب جسداني، بل في هيئة بشرية كما سبق وتم التنبؤ عنه، إنه
سوف يظهر وإنه سوف يوجد في هذا الرداء المشترك بين الجميع، لهذا يخبرنا صوت النبي
ان العذراء القديسة "تحبل وتلد ابناً" (إش 7 : 14). ويوجد الرب وقد
"أقسم لداود بالحق" (مز 132 : 11س). فهو "لا يرجع عما" وعد به
ان "من ثمرة بطنك اجعل على كرسيك"، كما هو مكتوب : وتنبأ ايضاً انه
"يخرج قضيب من جذع يسى" (إش 11 : 1).

          لكن
اليهود باندفاعهم الى مثل هذا الجنون الشديد، لم يدركوا ذلك، مفترضين أنه طالما
يعرفون "أمه بحسب الجسد" ذاك الذي سبق وتنبأ عنه أنه يأتي في الجسد،
فإنهم وإلى أبعد حد لا يؤمنون أنه "نزل من السماء". لأنه رغم أننا لا
نجد أن هذا قد حدث بالنسبة للجسد، إلا أن الكلمة الإلهي حل في جسده الذي من
العذراء، كهيكله الخاص، إذ قد جاء من فوق من عند الآب، ولأجل خلاص الجميع أمسك
"نسل ابراهيم".. ليشبه اخوته في كل شيء" (قابل عب 2 : 16، 17) وحتى
يدعو طبيعة الإنسان الى بنوة مع الله، إذ قد استعلن الهاً وانساناً معاً. لكن إذ
لم يفهم اليهود تدبير الجسد الذي لمخلصنا المسيح، ومن معرفتهم لأمه وأبيه، مع ان
(يوسف) لم يكن أباه فعلاً، لم يخجلوا ان يتذمروا، لأن المسيح قال أنه "نزل من
السماء".

          من
هذا نرى مثالاً لنا ذا نفع كبير : إذ طالما تعلمنا شيئاً عن انفسنا، قد يسبب لنا
ضرراً كبيراً، إن لم نكن بالحري بالعيون الروحانية التي للقلب نسلك في الفضيلة
التي تسكن في القديسين، ونتطلع الى المجد المخفي بداخلهم، لكننا على أساس التدني
المتكرر لمظهر الجسداني نعتبر ما هو عظيم وثمين أمام الله أنه بلا قيمة. هكذا يقول
الله عن القديسين الأنبياء، متحدثاً عن الجميع في شخص واحد :

          "مبارك
من يثق بالرب، ويصير الرب رجاءه، فيكون كشجرة مغروسة على مياه، وعند النهر تمد
جذورها، في سنة القحط لا يخاف، ولا يكف عن الاثمار. القلب عميق، فوق كل الاشياء،
وثمة رجل، من يعرفه؟ أنا الرب فاحص القلوب ومختبر الكلى" (إر 17 : 7-9س).

          بينما
نحن في غطرستنا نحط من قدر ذاك الذي يعرفه الله، والنائل إعجابه بسبب ما سبق من
فضائل، ناظرين فقط الى الجسد البائد بحسب ظاهره، وجاعلين من تدني الجسد مبرراً
لخسة النفس، كيف لا نوجد مقاومين ملك الجميع بأذهاننا، فيقع علينا هلاك ليس بالهين،
فندعو احياناً ما هو عال بأنه وضيع "جاعلين النور ظلاماً، والحلو مراً"؟
(إش 5 : 20 بتصرف).

          علينا
إذن ان نحفظ للقديسين الكرامة التي تليق بهم، فننظر بالحري الى مجدهم الخفي
الداخلي، لا الى ما هم عليه بحسب الجسد الظاهري. ومع ذلك فإن كثيرين منا لا
يحتملون التفكير في ان الوضيع في العالم جدير بأي كرامة او أي مجد على الإطلاق،
حتى إن اشتهر بالفضيلة، بل ننظر فقط الى توسعات الغنى، متطلعين بدون عيون بارة الى
المجد الحالي البائ والذي هو ميت في ذاته حتى الآن، غير عاملين حساباً للحكم
الصحيح.

          لهذا
وسبب جد معقول، يضحك تلميذ المخلص في احتقار، قائلاً : "فإنه إن دخل الى
مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهي ودخل ايضاً فقير بلباس وسخ. فنظرتم الى اللابس
اللباس البهي وقلتم له اجلس انت هنا حسناً، وقلتم للفقير قف انت هناك او اجلس هنا
تحت موطئ قدمي. ألستم بهذا قضاة أفكار شريرة؟" (يع 2 : 2-4).

          فمن
اللائق إذن أن نلاحظ، ان هناك تهمة معقولة تجعل أولئك الذين يعجبون بإنسان لمظاهره
الخارجية، وليس لحسناته الداخلية تجعلهم مذمومين، لأن الغنى ومجد الغنى (كما
اعتقد) يجلب بعض المجد الغريب المصطنع لمن يملكونه، لكن المجد الذي في القلب،
والحياة بالأعمال الصالحة، هما من الغنى الحقيقي الأصيل للناظرين، لا يمكث مع
الجسد ويتحلل معه، بل يسكن النفس بينما هي في هذه الحالة، وينتقل معها عند رحيلها،
حسبما يعين ضابط الكل، لأنه كما سمعنا "في بيت الآب منازل كثيرة" (قابل
يو 14 : 2).

          علينا
إذن، ألا نكرم هكذا او بالضرورة ذاك المشهور بالثروة، فنطلي كما في صورة بالأمجاد
التافهة، بل (نكرم) أولئك الذين تتسبب عظمة أعمالهم في تولد صيد من الله لا يخبو،
ويشرق جمالهم الداخلي عليهم ممجداً بكل الصالحات.

43،
44 "فأجاب يسوع وقال لهم : لا تتذمروا فيما بينكم لا يقدر أحد ان يقبل الي ان
لم يجتذبه الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير".

          نظر
اليهود الى يسوع، وهم يجهلون أن أباه في السماء، دون ان يعترفوا انه بالطبيعة ابن
رب الجميع، بل ناظرين فقط الى امه الأرضية والى يوسف. وإذ يجيبهم (الرب) بحنو
بالغ، سرعان ما يعجل بالالتفات الى كرامته الالهية لأجل نفعهم، وحين إنه كإله يعرف
تذمرهم الباطني وما يعتمل بفكرهم، فإنه من خلال نفس هذه الأمور يدفعهم الى ادراك
انهم قد سقطوا عن الحق، وكونوا عنه فكراً بالغ الحقارة. وكان الواجب عليهم ان
يكللوا بالكرامة الالهية، ذاك الذي يعرف القلوب بالضبط، ويختبر حركات الفكر، وهو
لا يجهل ان بنفوسهم مكراً، فيرفعوه فوق صغر الانسان، او ليس الله أعلى من السموات؟
وإذ يكشف (الرب) الفكر الدفين وإن كان يلومهم بدون كلام، وإذ يظهر على الملأ
التذمر الباطني فيهم، للسبب المعلن عنه تواً، يقول :

          "لا
تتذمروا فيما بينكم" : ثم إذ يكشف عن ان السر الخاص به هو صلاح الله الذي علم
به البشر، وان معرفته هي عمل النعمة من فوق، فإنه يقول انهم لا يقدرون ان يقبلوا
اليه، ان لم يجتذبهم الآب بتعليمه، لكن تلك كانت خطة من يهدف فقط الى حثهم على
التفكير في الأمر، وان عليهم، وهم يبكون ويولولون حزناً على تلك الاشياء التي
احزنوه بها فعلاً، عليهم ان يسعوا ليصبحوا احراراً، وان يجتذبوا الى الخلاص
بالايمان به، بمشورة الآب. وبالعون الفوقاني الذي ينير لهم الطريق ويمهده، ذلك
الطريق الذي صار بالغ الوعورة حين أخطأوا. ولنفعهم يؤكد على الوعد انه سيقيم من
الموت ذاك الذي يؤمن، من ثم يبرهن حتى لأكثر الناس جهلاً أنه هو الله حقاً
وبالطبيعة. لأن القدرة على الاحياء من الموت، وأمر من ساد عليه الموت أن يعود الى
الحياة، (هو أمر) يخص بالحق فقط طبيعة الله، ولا ينتسب الى أي مخلوق من المخلوقات
لأن إقامة الموتى تختص بالله الحي وليست خاصة بمن ينال نعمة من آخر.

45
"إنه مكتوب في الأنبياء، ويكون الجميع متعلمين من الله".

          وإذ
كإله يدرك حماقة سامعيه، لا يترك "كلمته" دون شهادة، بل يوضح أنه فعلاً
قد سبق التنبؤ عنه والكرازة به بواسطة الأنبياء القديسين، وهكذا ينزع مقدماً الفرص
من أيدي أولئك الذين تصوروا ان عليهم ان يتنكروا له، وفي نفس الوقت يفضح جهلهم، من
حيث إنهم كانوا عاجزين عن إدراك هذا الأمر، بالرغم من تعلمهم بالناموس بفهم الأمور
العتيدة.

          وها
هو يحثهم على القبول ولو ضد إرادتهم، لأنه لا يليق ان يقاوموا أصوات الأنبياء
القديسين، ان الله الآب سيكشف السر عن ذاته في أولئك المستحقين، وسوف يعلن عن ابنه
الذاتي الى كل واحد، بطريقة لا ينطبق بها، وبأسلوب الهي يغرس الفهم فيهم.

          لكنه
إذ قال قبلاً "لا يقدر احد ان يقبل الى ان لم يجتذبه الآب الذي ارسلني
"يكشف ان الأمر ليس بالإجبار ولا بالاجتذاب القهري، مضيفاً : "فكل من
سمع من الآب ويعلم يقبل الي".

          فإنه
حيث يكون السماع والتكلم ومنفعة التهذيب، يكون الإيمان، والشهادة بالإقناع لا بالإلزام
: ومعرفة المسيح تُعطى من الآب للمستحقين، تعينهم بالحب لا بالإجبار. لأن كلمة
التعليم تتطلب ان تتوفر للنفس الإرادة الحرة والاختيار الحر لكي تسعى لطلب
المكافآت العادلة لأعمالها الصالحة، وهي ان حادث عن الحق، وفي طياشة تعدت مشيئة
معطي الناموس، يقع عليها عقاب تعديها وهذا أمر معقول جداً.

          لكن
علينا ان نعرف حتى إن قيل إن الآب يعلم أي احد بسر المسيح، فإنه لن يفعل ذلك وحده،
بل يتممه بالحري عن طريق (حكمته) أي الابن، لأنه من اللائق ان نعرف، أنه من دون
الحكمة لا يدركون الإعلان المعطى لأي احد من الآب، لأن الابن هو حكمة الآب – لذلك
فإنه بالحكمة يحقق الآب استعلان وليده الذاتي في المستحقين. وفي الواقع، ولكي نقرر
الحق الناس، او مشيئته نحوهم، هي أعمال الثالوث القدوس كله، وهكذا ايضاً أعمال
الابن نفسه، وكذلك أعمال الروح القدس. لهذا السبب، افترض، أنه حين يقال ان الله
الآب يعلن ابنه الذاتي وان يدعو (الى ابنه) اولئك الأكثر ميلاً للايمان، يوجد
الابن نفسه وهو يفعل ذلك ونفس الأمر بالنسبة للروح القدس. لأن المخلص يقول للمبارك
بطرس، الذي اعترف بمنتهى الشجاعة بالايمان أمامه : "طوبى لك يا سمعان بن
يونا. إن لحماً ودماً لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات" (مت 16 : 17).
لكنه في أحوال أخرى يُرى هو نفسه يفعل ذلك، وحسناً ما يفعله بولس الذي يفخر كما لنفسه
صارخاً بخصوص "سر المسيح" "لم أقبل الإنجيل من عند إنسان ولا
عُلمته. بل بإعلان يسوع المسيح" (غل 1 : 12). وسوف ترون ان الروح القدس أيضاً
يعلن لنا المسيح وبالحق يكتب الحكيم جداً يوحنا "وأما أنتم فالمسحة التي
أخذتموها منه ثابتة فيكم، ولا حاجة بكم الى ان يعلمكم أحد بل تعلمكم هذه المسحة
عينها عن كل شيء" (1يو 2 : 27).

          والمخلص
نفسه يقول عن الباراقليط، أي الروح : "إن لي أموراً كثيرة ايضاً لأقول لكم،
ولكن لا تستيطعون ان تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم الى
جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية.
ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16 : 12-14).

          لأنه
إذ هو روح الحق، سوف ينيرهم ويعرفهم من هو، ويقودهم الى إدراك الحق.

          ونقول
ذلك، لا لنقسمهم الى عدة (أشخاص)، فنجعل الواحد الكامل منقسماً، سواء الآب :
فنفصله عن الابن، او الابن (فنفصله) عن الآب، او حتى الروح القدس فنفصله عن الآب
والابن. لكن ما دام هناك بالحقيقة لاهوت واحد، وهكذا يُكرز به كمعلن في الثالوث
الواحد جوهرياً، فإن الأعمال التي تخص كلاً منهم، والتي تبدو أنها تنتسب الى كل
واحد على حدة، تعرف بأنها المشيئة والعمل الذي للاهوت كله. لأن الطبيعة الالهية
غير المنقسمة سوف تعمل من خلال ذاتها، ليس بانقسام، طالما ان هذا العمل يختص
باللاهوت الواحد. رغم ان كلاً منهم له وجوده (الشخصي) فالآب هو الكائن بذاته، أي
هو الذي هو
What he is، وكذلك
الابن، والروح القدس.

          علينا
ايضاً ان نلاحظ ذلك : ان الاشياء التي تشير الى وجوب الوجود بالأسماء، تعرف في كل
منهم، ويمكن للمرء ان يرى واحدة (من تلك الأشياء) موجودة في الآخر (أو حتى في
الآخرين). لهذا وجب ان يستعلن الابن من خلال الآب، والآب يستعلن ايضاً من خلال
الابن. لأن كلاً منهما في الآخر، وإن كان أحد يعرف ان الله بالطبيعة آب، لأدرك
بالكامل ويقيناً الابن المولود منه، والعكس صحيح. لأن من يعترف بالابن لن ينكر
الآب.

          لهذا
حال كون الله آباً، وهكذا يدرك عنه ويكرز به، فإنه يغرس معرفة ابنه الذاتي في
سامعيه : ويقال عن الابن ذلك، وأنه في الحقيقة، منه بالطبيعة، فهو يعلن الآب. لهذا
يقول له :

          "أنا
أظهرت اسمك للناس" (يو 17 : 6). لأنه حيث ان الابن كان معروفاً من الذين
آمنوا، يقول ان اسم الآب قد أُظهر. لكن الله الآب يدرك بأنه قد زرع فينا معرفة
ابنه الذاتي، ليس بصوت يشق عنان السماء من فوق، أو يلف الأرض لفاً كالرعد، بل
بالاستنارة الالهية، مشرقاً فينا، لفهم الكتاب المقدس الموحى به : لكنكم تجدون
الابن شريكاً في العمل فينا في ذلك ايضاً، لأنه مكتوب عن التلاميذ القديسين
"حينئذ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب" (لو 24 : 45).

46
"ليس ان احداً رأى الآب الا الذي من الله هذا قد رأى الآب".

          إذ
قد سبق (الرب) فرأى، أنهم لن يقبلوا الإعلان بالروح، ولا الحكمة من فوق بإنارتها،
بل سيرفضون – بسبب ما فيهم من سوء المشورة البالغ – واجب إدراك الآب والتهذب برؤية
الله ذاتها، وهو نفس الأمر الذي حدث مع آبائهم، حين نزل مجد الله على جبل سيناء،
فإنه يبدأ فيستعيدهم أولاً، وكما بلجام يحولهم الى واجب عدم إدراك الله بطريقة
كثيفة، وبعدم افتراض ان الطبيعة غير المرئية، يمكنها بأي حال ان تصبح منظورة : (إذ
يقول) "ليس أن أحداً رأى الآب" في أي وقت، ولكنه ربما كان يلمح لمعلم
الأقداس موسى، لأن اليهود، بفكرهم الأحمق جداً ايضاً، افترضوا على أساس دخول موسى
الى "الظلمة الكثيفة" (قابل خر 21 : 21) أنه رأى طبيعة الله التي لا
ينطق بها، وأنه بعيني الجسد عاين ذلك الذي هو بالطبيعة الجمال الذي لا عيب فيه،
ولكن لئلا يذكر أي شيء علانية عن الحكيم جداً موسى، يبدو وهو يحثهم على حالة الذهن
المألوفة، فيقول بوجه عام غير محدد وعن الجميع سواء بسواء، "ليس أن أحداً رأى
الآب" (كأني به يقول) لا تطلبوا ما يفوق الطبيعة، ولا تحملوا بمسلك جاهل الى
ذلك الذي لا يمكن ان تدركه كافة المخلوقات. لأن الطبيعة الالهية غير المدركة قد
كفت وانسحبت ليس من عيوننا فقط، بل من عيون كل الخليقة ايضاً. لأنه في العبارة
"ليس أحد" يعني كل الاشياء، وفي إعلانه انه هو وحده من الله، وأنه قد
رأى الآب يضع نفسه خارج الجميع، فإن عبارة "ليس أحد" تفهم بانها (عبارة)
تصريحية (لا تشمله هو). لكنه حيث انه بمعزل عن الكل، وإذ لم ير أي أحد الآب، فهو
وحده الذي يرى الآب، فلماذا من ثم لا يدرك عنه، ليس من بين الجميع، كواحد منهم، بل
خارج عن الكل، فهو فوق الكل، وإن كان، والأشياء كلها يقال انها من الله، وما من
شيء منها يرى الآب، (لأن بولس يقول : "جميع الأشياء هي من الله" (1كو 11
: 12) "وكذلك الكل من الله" (2كو 5 : 18).

          وهو
وحده يرى "الآب" لأنه "من الله" : فإننا نفهم بصواب، الكلمات
"من الله" أنها عن جوهر (الله) الآب، بالنسبة له هو وحده. لأنه إن لم
يكن الأمر كذلك، فلماذا، كما سبق وقلنا، إذ وكل الأشياء هي من الله، يختص هو وحده
برؤية ذاك الذي ولده لأنه هو من الله؟ وسيكون الأمر أقل دقة، إن قيل هذا عن
المخلوقات (لأن كل الأشياء هي من الله بالحق لأنها جاءت الى الوجود بواسطته هو) :
لكن عن الابن، فإنه بمفهوم آخر وأصدق سيكون كيانه هو الذي من الله، مستعلناً
باعتباره منه بالطبيعة. لهذا لا يُحسب من بين "الكل" بل هو خارج عن
"الكل" وهو فوق الكل مع الآب، لن يشترك في نقص الكل، في انه مستثنى من
نسبه اليهم، بل هو اذ يرتفع الى طبيعة من ولده، سوف يرى بالتأكيد الذي هو منه
بالطبيعة.

          لكن
كيف وبأية وسيلة يرى هو الآب، او يراه الآب، إن لساننا يعجز عن ذكر هذا الأمر :
لكن علينا ان ندركه بطريقة الهية.

47
"الحق الحق أقول لكم : من يؤمن بي فله حياة أبدية".

          الإيمان
هو الباب والطريق الى الحياة، والعودة من الفساد الى عدم الفساد، لكن تدبير التجسد
ليس بأقل عجباً للمتعلمين، لأن الرب حين أدرك أنهم لم يفهموا شيئاً على الإطلاق
ورأى أنهم لا يجب ان يقبلوا على تصديق أي شيء حتى لكلام الأنبياء، قطع بقدر
المستطاع ضعفهم بالنسبة للإيمان بالمناقشات البشرية، بتأكيد على صدق الأمر. لأنه
إذ يعرض أمامهم ما يعتقد انه من المكافآت التي تثير حسداً باشتياقهم، ولو الى آثار
هذه الاشياء، فإنه يلزمهم كلهم ضد إرادتهم، ويحثهم على القدوم الى ما هو معلن لهم.

          لأنه
أي شيء أثمن من "الحياة الأبدية" بالنسبة للذين يعتبر الموت وآلام تحلل
الجسد شيئاً مريراً؟ وهو أمر يليق أيضاً بمعلم حكيم إذ يعيد تعليمهم نحو الأفضل،
بكل وسيلة، تدعوهم الى الحياة أولئك الذين اختاروا ان يفكروا بحماقة. لكنه هو،
باعتباره الحياة الأبدية، يعد ان يعطي نفسه للذين يؤمنون به، أي، أن "يحل
المسيح بالايمان في قلوبنا" (قابل أف 3 : 17).

 

الفصل
الثاني

ان
الجسد المقدس الذي للمسيح هو واهب الحياة، حين يتحدث عن جسده بأنه لله خبز لله.

48
"أنا هو خبز الحياة

49
"آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا

50
هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت".

          يمكن
للمرء ان يعاين هنا بكل الوضوح ما قيل بالنبي اشعياء قبلاً "ظهرت لمن لا
يسألون عني، ووجدت لمن لا يطلبونني، قلت ها أنا لأمة لا تدعو باسمي. مددت يدي طول
النهار نحو شعب متمرد سائر في طريق غير صالح" (إش 65 : 1، 2س). لأنه إذ
يستعبد من حديثه الأمر كله، ويجرده مما يدثر به من عباءة تخفيه (إن جاز القول)،
فإنه يكشف في النهاية عن ذاته بغير برقع، أمام بني اسرائيل، قائلاً "أنا هو
خبز الحياة" حتى يتعلموا الآن أنهم إن كانوا يريدون ان يصيروا فوق الفساد،
وان يخلعوا الموت الذي اصابنا بسبب المعصية، قد يتقدمون الى شركة القادر على
الاحياء وابادة الفساد وهدم الموت : وذلك في الحقيقة هو عمل يليق به ويناسبه
بالأكثر، ذلك الذي هو بالطبيعة الحياة، ولكنهم جيث انهم لم ينالوا الخبز الحقيقي النازل
من السماء، أي الابن، وإذ هو يؤكد ان المن قد اعطي لآبائهم في البرية، فإنه يعقد
مقارنة ضرورية بين الرمز والحق، ليعرفوا ان الذي من السماء ليس هو الخبز، بل هو
الذي تُظهر المحاولة انه هو هكذا بالطبيعة. إذ يقول لهم – إن آباءكم وأجدادكم
بأكلهم المن، سدوا احتياجات الطبيعة الجسدانية، حاصلين لهذا على حياة مؤقتة، معطين
للجسد حاجته اليومية فقط، دون ان يستطيعوا درء الموت عنه. (ويقول) إن ذلك لخير
دليل عن ان (المن) ليس هو الخبز الذي من السماء بالمفهوم الحق، فإن الذين أخذوه لم
يحظوا بمنفعة عدم الفساد بأي حال : وهو ما يظهر ايضاً بنفس الطريقة ان الابن هو
وحده وبحق خبز الحياة، وان الذين اشتركوا فيه مرة، واختلطوا به بطريقة ما من خلال
الشركة معه، قد ظهر انهم فوق رباطات الموت ذاتها. وقد سبق ان قلنا مراراً إن المن
يؤخذ بالحري كرمز او كظل للمسيح، وكان يمثل خبز الحياة، ويسندنا المرنم في هذا
صارخاً بالروح "أعطاهم خبزاً من السماء، أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز
78 : 24، 25).

          إذ
يبدو وكأن الكلام المكسو بالروح قد قيل لإسرائيل، لكنه ليس كذلك في الحقيقة، بل
بالحري، إن قصد الكلمات ان تكون موجهة لنا نحن. لأنه أليس من الحماقة والجهل الشديد
ان يفترض ان الملائكة القديسين الذين هم في السماء، رغم ان لهم طبيعة غير جسدانية،
يمكنهم ان يشتركوا في طعام مادي كثيف، وان يحتاجوا الى مثل ذلك العون لكي يستمروا
في الحياة، كما يشتهي جسد الأرض هذا؟ لكني أعتقد ان الأمر ليس صعباً على الإدراك،
فحيث انهم أرواح، فإنهم يحتاجون الى طعام روحي، أعني طعام الحكمة. كيف يُقال اذن
ان خبز الملائكة أُعطي لأجداد اليهود، إن كان النبي يتكلم في صراخه خذا؟ لكن الأمر
واضح، أنه طالما كان المن الرمزي صورة للمسيح، الذي يحوي ويضبط كل شيء في الوجود،
مطعماً الملائكة ومحيياً الأشياء على الأرض، فإن النبي كان يدعو ذلك الذي يرمز
اليه بالظلال يدعوه باسم الحق – مستنداً على حقيقة ان الملائكة القديسين لا يمكنهم
ان يشتركوا في الطعام الأرضي، جاذباً سامعيه – حتى ولو ضد ارادتهم بعيداً عن الفهم
الكثيف للمن، ومرتفعاً بهم الى المعنى الروحي، أي الى المسيح الذي هو طعام
الملائكة القديسين انفسهم ايضاً.

          يقول
إذن، ان هؤلاء الذين "أكلوا المن" – "قد ماتوا"، إذ لم تكن
لهم شركة في الحياة آنذاك (لأن الطعام لم يكن في الحقيقة واهباً الحياة بل بالحري
تم أكله كمعين على الجوع الجسداني وكرمز للحق). لكن الذين يقبلون في انفسهم خبز
الحياة، سوف ينعمون بالخلود مكافأة لهم، فلا يحل بهم فساد بعد، ولا شروره الناجمة
عنه، وسوف يرتعون الى حياة المسيح التي لا نهاية لها ولا حدود. ولن يضر بكلماتنا
أبداً حول هذا الموضوع ان اولئك الذين قد صاروا شركاء المسيح، هم بحاجة الى تذوق
الموت الجسدي بحسب ما يناسب الطبيعة، لأنهم حتى ان بلغوا هذه النهاية، يقع عليهم
ما يصيب البشرية كلها، ومع ذلك يقول بولس، فإن الذين يعيشون، فللرب يعيشون"
(رو 14 : 8).

51
"أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا الى
الأبد".

          يكتب
الروحاني بولس الى البعض قائلاً : "كتابة هذه الأمور اليكم ليست على ثقيلة،
وأما لكم فهي مؤمنة" (في 3 : 1). وهذا ما نتعلمه نحن ايضاً من كلمات نطق بها
المخلص – لأنه كما ان الذين اصيبوا بالجراح، لا يحتاجون الى وضع ضمادة واحدة، بل
الى العديد من الضمادات، وباستمرار وضع الضمادات يُطرد الألم. هكذا الأمر بالنسبة
للنفس الفظة، تكون الحاجة الى كثير من التعليم لأجل العون، يأتي الواحد تلو الآخر،
لأن التليين النفسي لا يتأتى من تعليم واحد فقط، بل بتوالي الأمر يحدث المطلوب،
حتى وإن جاء التعليم بنفس الكلمات. لهذا فإن المخلص غالباً ما يأتي بنفس الكلمات
وبنفس طريقة الحديث الى اليهود يعرضه عليهم عدة مرات، أحياناً في غموض، ملفوفاً
بكثير من السرية، وفي أوقات أخر متحرراً ومقدماً بشكل سلس خالياً من أي التباس في
المعنى، حتى إذا لبثوا دون ايمان، لا ينقصهم شيء بعد لإدانتهم، لكن إذ هم أشرار،
فبالشر ايضاً يهلكون، فتصير نفوسهم في صراع يجلب عليهم سيف الهلاك.

          لهذا
إذ لا يعود المسيح بعد يخفي أي شيء يقول "أنا هو الخبز الحي النازل من
السماء" – (كأني به يقول) كان ذاك رمزاً وظلاً وصورة. اسمعوه الآن جهاراً
ودون حجاب بعد "أنا هو الخبز الحي، ان أكل أحد من هذا الخبز يحيا الى
الأبد". أولئك الذين أكلوا من ذاك الخبز (المن) قد ماتوا، لأنه لم يكن واهباً
للحياة "أما من يأكل من هذا الخبز، الذي هو أنا، أو جسدي "سوف يحيا الى
الأبد".

          علينا
اذن ان ننتبه ونرفض ان نقسي نفوسنا أمام كلمات التقوى، طالما ان المسيح لم يحثنا
مرة واحدة فقط، بل مرات. لأنه ما من شك انهم سيتعرضون لأشد أنواع الاتهامات، أولئك
الذين يضلون الى منتهى الحماقة، وهم في كفر مبين، يرفضون ان يكفوا عن التمرد على
خالق كل هذه الأمور السامية. لهذا يقول عن اليهود "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم
لم تكن لهم خطية. وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15 : 22) لأن أولئك
الذين دونما سماع أبداً قد قبلوا كلمة الخلاص في قلوبهم، سوف يتفق ان يجدوا الديان
ألطف معهم. بينما في توسلهم يقولون انهم لم يسمعوا أبداً عنه، حتى إن قرروا أنهم
لم يجدوا في طلب التعلم : لكن أولئك الذين تعلموا دائماً وفي كل مرة بنفس كلمات
اللوم لطلب ما هو نافع لهم، يتوهمون دون فهم ان عليهم ان يحرموا انفسهم من أسمى
آيات الخيرات، هؤلاء سوف ينالون أشد العقاب، ويتقابلون مع ديان أساءوا اليه،
فيصبحوا عاجزين عن نوال العفو لحماقتهم التي تكون قد جلبت عليه الخزي.

"والخبز
الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم".

          (ويقول
الرب) أموت لأجل الجميع، لكي أحيي الجميع بذاتي، وقد صيرت جسدي فدية لأجل الجميع.
لأن الموت سوف يموت في موتي، ومعي سوف تقوم طبيعة الانسان الساقطة. لأنني لهذا صرت
مثلك ايها الانسان، أي من ذرية ابراهيم، حتى "أشابه اخوتي في كل شيء"
(عب 2 : 17).

          إن
المبارك بولس نفسه ايضاً، قد فهم جيداً ما قاله لنا المسيح الآن، لهذا يقول
"فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو ايضاً كذلك فيهما، لكي يبيد
بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي ابليس" (عب 2 : 14). لأنه لم يكن من طريق
آخر به يمكن ان ذاك الذي له قوة الموت يمكن ان يباد، وكذا الموت ايضاً، وألم يبذل
المسيح نفسه فدية لأجلنا، الواحد لأجل الجميع؛ لأنه كان نائباً عن الجميع. لهذا
يقول في المزامير ايضاً، مقدماً ذاته كذبيحة بلا عيب لله الآب، "بذبيحة
وتقدمة لم تسر، لكن هيأت لي جسداً، محرقة وذبيحة خطية لم تطلب. حينئذ قلت : ها
أنذا جئت. بدرج الكتاب مكتوب عني. أن أفعل مشيئتك يا الهي. هذه كانت مسرتي"
(مز 40 : 6-8س) لأنه لما كان "دم ثيران وتيوس ورماد عجلة" (قابل عب 9 :
13) لم يكف لتطهير الخطية ولا كان حتى ذبح البهائم العجماء كافياً بالمرة ان يبيد
قوة الموت، فإن المسيح نفسه جاء بطريقة ما لينال عقاباً عن الجميع. لأننا
"بجلداته شفينا" (إش 53 : 5) كما يقول النبي "الذي حمل هو نفسه
خطايانا في جسده على الخشبة" (1بط 2 : 24). وهو قد صلب لأجل الجميع ولحساب
الجميع، حتى إنه إن "مات الواحد عن الجميع" (2كو 5 : 14) سوف نحيا نحن
فيه. لأنه لم يكن ممكناً ان "يمسك من الموت" (أع 2 : 24). ولا أن يسود
الفساد ذاك الذي هو الحياة بالطبيعة. لكن كون المسيح قد بذل "جسده لأجل حياة
العالم" فهذا ما نعرفه من كلماته ايضاً التي يقولها : "أيها الآب القدوس
احفظهم" ومرة أخرى (يقول) "لأجلهم أقدس أنا ذاتي" (يو 17 : 11،
19). هو يقول هنا إنه يقدس نفسه، وليس إنه يعين نفسه على التقديس بتطهير النفس او
الروح (كما يفهم الأمر عنا نحن)، ولكي لا يشترك في الروح القدس، لأن الروح القدس
كان فيه بالطبيعة وهو دائماً وأبداً مقدس، وسوف يظل كذلك. إنه هنا يقول "أقدس
ذاتي"، لأنني أقدم نفسي وأحضرها كذبيحة بلا عيب لرائحة ذكية، لأن ذاك الذي
يؤتى به الى المذبح الإلهي كان مقدساً، او يدعى حسب الناموس مقدساً.

          لهذا
بذل المسيح جسده الشخصي لحياة الجميع، ومرة أخرى يجعل الحياة تسكن فينا بواسطة
جسده، لكن كيف، هذا ما سأحاول قدر طاقتي ان اشرحه.

          لأنه
منذ ان سكن كلمة الله المعطي الحياة في الجسد، حوله الى صلاحه هو الشخصي اللائق
به، أي الحياة، وبالاتحاد غير المنطوق به، أي مجيئه الكامل في الجسد، قد جعله
معطياً للحياة، كما هو ذاته بالطبيعة (واهب الحياة). لهذا فإن جسد المسيح يعطي
حياة لكل من يشترك فيه. لأنه يطرد الموت، حين يأتي ويدخل الى أناس مائتين ويزيل
الفساد إذ أن (جسد الكلمة) ممتلئ بالكامل بالكلمة الذي يبيد الفساد.

          لكن
قد يقول انسان ما، مثبتاً عين فهمه على قيامة الذين رقدوا : أولئك الذين لم يؤمنوا
بالمسيح، ولم يكونوا شركاءه، لن يقوموا مرة أخرى في زمن القيامة. ماذا؟ ألن يعود
الى الحياة ثانية، كل من مات؟

          نقول
عن هذه الاشياء، أجل، كل جسد سوف يحيا ثانية : لأن النبوة تخبر أن "الموتى
سيقومون" (إش 26 : 9). لأننا نعتبر ان سر قيامة المسيح يشمل كل طبيعة
الإنسان، وفيه أولاً نؤمن ان كل طبيعتنا البشرية قد تحررت من الفساد. لأن الجميع
سوف يقومون، على مثاله ذاك الذي أقيم لأجلنا، وجمع في نفسه الجميع، إذ هو إنسان،
وكما في الإنسان الأول سقطنا في الموت، هكذا في البكر مرة أخرى، الذي صار هكذا
لأجلنا، سوف يقوم الجميع من الموت : ولكم كما هو مكتوب "فيخرج الذين فعلوا
الصالحات الى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات الى قيامة الدينونة" (يو 5 :
29)، وإني أسلم بأن ما هو أكثر مرارة من الموت هي القيامة للدينونة، ونوال الحياة
مرة أخرى للخزي وحده.

          إذن
بمفهوم أدق علينا ان نفهم الحياة كما هي في حقيقتها بأنها "الحياة في
المسيح"، في قداسة وبركة وفرح لا يخبو. لأن تلك هي الحياة حقاً التي يعرفها
ايضاً يوحنا الحكيم، قائلاً "الذي يؤمن بالابن له حياة ابدية. والذي لا يؤمن
بالابن لن يرى حياة أبدية بل يمكث عليه غضب الله" (3 : 36). لأنه يتحدث، ويا
للعجب، يا للعجب، ويقول ان الذي لا يؤمن لن يرى حياة : رغم ان كل مخلوق سيعود الى
الحياة مرة أخرى، وسيقوم ثانية. لهذا من الواضح، ان المخلص لسبب معقول، قد سمى تلك
الحياة المعدة للقديسين بأنها هي الحياة، أعني تلك الحياة التي في مجد وقداسة،
التي علينا ان نسعى وراءها، بقدومنا الى شركة الجسد الواهب الحياة، الأمر الذي لن
يرتاب فيه كل عاقل.

          لكن
طالما ان المخلص قد دعا نفسه الخبز في كثير من النصوص التي طالعناها فعلاً، فلنر
ان كان سيحضر ايضاً لأذهاننا اياً من الاشياء المعلن عنها قبلاً، ويذكرنا باشياء
في الكتاب المقدس، حيث رمز اليه من زمن طويل بصورة الخبز. مكتوب لذلك في أسفار
موسى "وكلم الرب موسى قائلاً : كلم بني اسرائيل وقل لهم متى دخلتم الأرض التي
انا آتٍ بكم اليها. فعندما تأكلون من خبز الأرض ترفعون رفيعة (صعيدة) للرب : أول
عجينكم ترفعون قرصاً رفيعة كرفيعة البيدر هكذا ترفعونه. من أول عجينكم تعطون الرب
رفيعة في اجيالكم" (عدد 15 : 17 – 21). في غموض إذن، وبغطاء كثيف هو غطاء
الحرف، يرمز الناموس لتلك الأشياء : إذ قد أعلن قبلاً عن الخبز الحقيقي الذاتي
"النازل من السماء" أي المسيح، و"الذي يعطي حياة للعالم". لأنه
إن أمعنتم النظر في كيف أنه جعل انساناً مثلنا لسبب تشبهه لنا، جعله باكورة عجيننا
ورفيعتنا، كما هو مكتوب، مقدماً لله الآب، فصار بذلك باكورة الراقدين، وباكورة
قيامة الجميع، لكي يحيي الجميع، ويقدم لله الآب، إذ كان كأنه أول حفنة من الدقيق.
لكن إذ هو في الحقيقة النور، قد سكب تلك النعمة على تلاميذه، إذ يقول "أنتم
نور العالم" (مت 5 : 14) : لذلك إذ هو الخبز الحي الذي يحيي كل شيء ويحفظ
وجوده، بشبه وظل الناموس كان يرمز بالأثنى عشر رغيفاً الى جماعة الرسل المقدسة.
لأنه هكذا يقول في سفر اللاويين "وكلم الرب موسى قائلاً أوص بني اسرائيل ان
يقدموا اليك زيت زيتون مرضوض نقياً للضوء لإيقاد السرج دائماً. خارج حجاب الشهادة
في خيمة الاجتماع" (لا 24 : 1-3). ثم يكمل قائلاً "وتأخذ دقيقاً وتخبزه
اثنى عشر قرصاً : عشرين يكون القرص الواحد. وتجعلها صفين، كل صف ستة على المائدة
الطاهرة أمام الرب. وتجعل على كل صف لباناً نقياً (وملحاً)([v])
فيكون للخبز تذكاراً وقوداً للرب" (لا 24 : 5-7س).

          فالسراج
إذن داخل الخيمة المقدسة، وإعطاء النور من دون حجاب، كنا قد قلنا قبلاً إنه كان
يوحنا المعمدان، الذي يقتات على أنقى زيت، أي الاستنارة بالروح القدس، خارج
الحجاب، لأن تعليمه كان للموعوظين : إذ يقول "أعدوا طريق الرب، قوموا في
القفر سبيلاً لإلهنا" (إش 40 : 3). لكن الأشياء داخل الحجاب، أي، سر المسيح
المخفي، لم يوضحه كثيراً. لأن (يوحنا المعمدان) يقول "أنا أعمدكم بماء
للتوبة. ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً ان احمل حذائه، هو
سيعمدكم بالروح القدس ونار" (مت 3 : 11). أترون إذن كيف يضيئ :

          إذ
في لغة بسيطة يدعو الى التوبة؛ لكن الأمور التي داخل الحجاب يدعها لذاك الذي يعمد
بنار وبالروح القدس، لكي يكشف عنها؟ وتلك الأمور قد كشفنا النقاب عنها بتوسع عن
الكلمات التي أوردناها في بداية الكتاب "إنه كان النور الموقد والمنير"
: ومع ذلك نلمسها الآن بشيء من السرعة، حيث كان الأمر ضرورياً، عن رحيل يوحنا،
لنوضح ان كرازة الرسل القديسين كانت وشيكة.

          لأنه
لهذا السبب، أظن، أن الكتاب المقدس، إذ أشار أولاً اليه بالسراج، يضع أمامنا أمر
إعداد الإثنى عشر رغيفاً. (إذ يقول) "وتخبز الدقيق اثنى عشر قرصاً (خبزاً) :
عشرين يكون القرص الواحد" تلك كانت عادة الكتاب الالهي ان يشير الى الكمال
بالرقم عشرة وان يعتبره اشارة الى الأكمل، حيث ان تسلسل وترتيب الأرقام المتتالية،
يحدث لها شيء من الازدياد والتضاعف من نفس الرقم الى نفس الرقم، فيتزايد ويتنامى
الى ما شاء الأمر. لهذا يأمر ان يكون كل قرص من عشرين، لتروا الكمال في التلاميذ،
في الزوج المتساو، أعني التساوي في الفضيلة، وفي التأمل. وهو يأمر بعمل صفين
مشيراً الى نفس الوضع عينه، وهو ما كان متبعاً كالعادة، حيث المسيح في وسطهم، وقد
اعتادوا دوماً ان يحيطوا به كسيدهم. ولكي نعرف كما يقول بولس انهم "رائحة
المسيح الذكية لله الآب" (2كو 2 : 15). فإنه يأمر ان يوضع البخور على الأقراص
وان تُرش عليها مع ملح لأنه قيل لهم "أنتم ملح الأرض" (مت 5 : 13).

          أجل
ولسبب معقول أمر ان تقدم في يوم سبت : لأنها جعلت ظاهرة في أزمنة العالم الأخيرة :
وآخر يوم في الأسبوع هو السبت. ليس ذلك فقط، بل لأنه في زمن مجيء مخلصنا نعاين
السبت روحياً : لأننا استرحنا من الخطية. ثم جعل الرسل ايضاً ظاهرين لنا، الذين
أقتتنا بكتاباتهم الالهية لبلوغ حياة القداسة. لهذا في يوم السبت يأمر بوجه خاص ان
تعد الأقراص المخبوزة على المائدة المقدسة، أي، في الكنيسة. لأن الكل يشار اليه
غالباً بالجزء. لكن هل هناك ما هو أقدس من مائدة المسيح المقدسة؟ لهذا سبق الناموس
وأشار الى المخلص بأنه خبز : والرسل بأنهم أقراص مخبوزة لتشبههم به، لأن كل
الاشياء كانت بالحقيقة في المسيح، ولكن بالمماثلة له، فإنها تنتمي الينا ايضاً
بفضل نعمته.

52
"فخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين : كيف يقدر هذا ان يعطينا جسده
لنأكل".

          مكتوب
"كل الاشياء واضحة لدى الفهيم ومستقيمة لدى الذين يجدون المعرفة" (أم 8
: 9). لكن لدى الحمقى فإنه حتى الأمور البالغة اليسر تبدو غامضة؛ لأن السامع
الحكيم حقاً يغلق في كنز فهمه على التعليم الأوضح، دون ان يسمح بأي تأجيل للفهم :
لكن في حالة الأمور عسرة الفهم، فإنه يجول باستفساراته، ولا يكف عن السؤال عنها،
ويبدو لي أنه من النافع أن يلح فاعلاً نفس ما تفعله كلاب المطاردة السريعة الخطى،
التي لها بالطبيعة حاسة الشم القوية، فتظل تعدو وتركض في مسالك لعبتهم.

          والوحي
الحكيم النبوي، يدعو الى عادة مشابهة "إن كنتم تطلبون، فاطلبوا، امكثوا
معي" (إش 21 : 12س) لأن الطالب عليه ان يطلب، أي ان يأتي بغيرة لا تفتر، وألا
يضل وراء مناظرات فارغة، بل بتعقل كما يكون أي شيء أكثر عسراً في صعوبته، ومع
الذهن المتمرس جداً يتعامل وتحمله عواصف أفكاره التي تعتمل فيه لحل المبهم. أما
الذهن غير المتمرس وغير المتعلم، فإن أي شيء يصادفه، يثور ضده في عدم إيمان، ويرفض
كلمة "هزيمة"، ككلمة زائفة، وبسبب جسارة بلا تهذيب ترتفع عنده حدة
الغطرسة.

          لأن
الذي لا يقودنا الى شيء، ولا يفكر ان الفعل أعظم من اللاشيء، كيف لا يكون في
النهاية مثلما قلنا عنه؟

          وسوف
نجد بإمعان النظر في طبيعة الشيء ان اليهود ايضاً سقطوا في هذا الارتباك. لأنه حين
كان عليهم ان يقبلوا كلمات المخلص دون تردد، إذ نالهم الإعجاب مرات عديدة لقوته
الالهية وسلطانه الذي لا يقهر على الجميع، وأن يستاءلوا ما الذي يعجز عن فعله،
فيطلبوا التعليم، فيما هم حيارى : فإنهم دون فهم يكررون كلمة "كيف" أمام
الله غير عالمين إنها كلمة مشحونة بكل تجديف لأن قوة إتمام كل شيء دونما تعب إنما
هي تخص الله، لأنهم إذ هم أناس "طبيعيون" ([vi])
كما يقول الطوباوي بولس، "لا يقبلون ما لروح الله" (1كو 12 : 14). لكن
"السر" المخوف جداً يبدو بالنسبة لهم "جهالة".

          علينا
إذن، ان نستخلص المنفعة مما لدينا ونعيد بنيان حياتنا (متعلمين) من سقطات الآخرين،
وأن نوطد إيماننا دون تساؤل حول تعاليم الأسرار الإلهية، وألا نطرح السؤال
"كيف" في أمور يجب ان نخبر بها فقط. (لأن كلمة "كيف" لفظة
يهودية، تستوجب أشد العقاب).

          وحين
سمع رئيس المجمع اليهودي المدعو نيقوديموس، الكلمات الإلهية قال "كيف يمكن ان
يكون هذا" فاستحق بعدل ان يوبخ (من الرب) سامعاً (قوله) "أنت معلم
اسرائيل ولست تعلم هذا" (3 : 9، 10).

          هيا
بنا إذن، نجتهد بحذق أكثر ان نسعى وراء ما هو نافع، حتى من طريق حماقة الآخرين،
وأن نحذر النطق بكلمة "كيف"، بالنسبة لما يعمله الله، بل بالحري ان
نجتهد ان ننسب اليه معرفة كيفية صنع أعماله الذاتية. لأنه إذ لا يعرف أي أحد ما هي
طبيعة الله، بل يتبرر من "يؤمن بأنه موجود، وأنه يجازي الذين يطلبونه"
(عب 11 : 6)، هكذا ايضاً يكون المرء جاهلاً بكيفية أعمال الله العديدة، لكن بإيعاز
الأمر الى الإيمان وباعترافه بقدرة الله القوية، وهو الذي فوق الكل، سوف ينال
مجازاة لا يُزدرى بها لقرار بمثل هذا الصلاح. لأن رب الجميع نفسه الذي يريدنا ان
نكون هكذا يقول بالنبي اشعياء : "لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي
يقول الرب. لأنه كما علت السموات عن الأرض، هكذا علت طرقي على طرقكم وأفكاري عن
أفكاركم" (إش 55 : 8، 9). لكن ذاك الذي يفوقنا بما لا يقاس من عظمة في الحكمة
والقدرة، كيف لا يفعل شيئاً عجيباً، يفوق فهمنا؟

          وسوف
أقدم بسرور مزيداً من المناقشة، ليست بالهينة حسب ظني، لأن الذين هم في هذه الحياة
والذين يلمون بمعرفة الآلات، غالباً ما ينخرطون في أداء مهمة عظيمة، وتكون طريقة
عمل ذلك مخفية عن ذهن السامعين، حتى يروا العمل وقد تم، لكن إذ يراقبون مهارة
العاملين، حتى قبل ان يتم الإنجاز نفسه، يقبلونه بالإيمان، غير ساعين الى النكران.
(ويقول قائل) كيف إذن لا يكونون وبسبب معقول معرضين لاتهامات جسام، لتجاسرهم ان
يحتقروا بعدم ايمانهم، الله أعظم صانع لكل شيء، الذين لا يرفضون ان يقولوا
"كيف" لمثل تلك الأمور التي يعملها، وعلى الرغم من إقرارهم بأنه معطي كل
حكمة، وقد علمهم الكتاب الالهي كله إن (الله) يقدر أن يفعل كل شيء؟ لكن إن كنت تصر
ايها اليهودي قائلاً : كيف؟ فإني أنا ايضاً سأحاكي جهلك لأجل خاطرك وأقول لك، كيف
خرجت من مصر؟ (اخبرني) كيف تحولت عصا موسى الى حية؟ وكيف صارت اليد برصاء، ثم عادت
من جديد كما كانت، كما هو مكتوب؟ وكيف صار الماء دماً؟ وكيف مررت أنت عبر البحر
الأحمر كما في أرض جافة؟ (قابل عب 11 : 29) كيف تحولت مياه مارة المرة الى ماء عذب
حلو (خر 15 : 25). "كيف" أيضاً تفجرت الصخرة لك بالمياه؟
و"كيف" نزل اليك المن؟ وكيف أيضاً وقف نهر الأرض في موضعه؟ أو
"كيف" بصرخة فقط انهار سور اريحا المنيع؟ وكيف لم يخذلك ذلك أبداً؟ لأنك
سوف تنكشف أنك قد اندهشت فعلاً أمام أعمال قديرة عديدة، لو طبقت حيالها كلمة
"كيف" لما آمنت أبداً بالكتاب الإلهي كله، ولطرحت عنك كل كلمات الأنبياء
القديسين، وفوق ذلك كله، الكتابات المقدسة لموسى نفسه الذي تعتبره نبيك الخاص.
لهذا كان يمكن ان يفي بالغرض أكثر لو أنه بايمانك بالمسيح والتسليم بكلماته ودونما
تردد، تصبح غيوراً على تعلم سبيل البركة، فلا تصبح ثملاً بزيادة قائلاً :
"هذا الإنسان" يقولونها ايضاً في ازدراء لأن حديثهم المتغطرس يلمح الى
مثل هذا المعنى ايضاً.

53
"فقال لهم يسوع : الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان، وتشربوا
دمه فليس لكم حياة فيكم".

          حقا
ان المسيح طويل الأناة عظيم الرحمة، كما يمكن للمرء ان يرى من الكلمات التي أمامنا
الآن. إذ لا يوبخ صغر نفس غير المؤمنين، بقدر ما يعطيهم بغنى مرة أخرى معرفة السر
الواهبة الحياة، وكإله، يقهر غطرستهم التي تحزنه، فيخبرهم بتلك الأمور حيث يمكنهم
ان يرتقوا (حسب قوله) الى حياة بلا نهاية.

          أما
كيف يعطيهم جسده ليأكلوه، فإنه لا يخبرهم بذلك بعد، لأنه كان يعلم أنهم (غارقون)
في ظلمة ولن يقووا أبداً على فهم ما هو فوق الإدراك : لكنه يكشف لمنفعتهم عن عظم
الإرادة التي تنشأ عن الأكل، حتى يتفق ان يحثهم على رغبة الحياة في استعداد أعظم
لمسرات لا تخبو، وحتى يعلمهم الايمان.

          لأنه
بالنسبة للذين آمنوا الآن تكون لهم القوة على التعلم أيضاً. لأنه هكذا يقول اشعياء
النبي : "إن كنتم لا تؤمنون فلن تفهموا" (إش 7 : 9س). لهذا كان من
الصواب، ان يتأصل الإيمان فيهم أولاً، ثم يأتي بعده الفهم لتلك الأمور التي
يجهلونها، ويجب ألا يسبق الفحص الايمان.

          أعتقد
انه لهذا السبب أحجم الرب لسبب معقول عن اخبارهم بكيفية إعطائه جسده لهم ليأكلوه،
ودعاهم لواجب الايمان قبل الطلب. لأنه بالنسبة للذين آمنوا، فإنه قد "كسر
الخبز وأعطاهم قائلاً : خذوا، كلوا، هذا هو جسدي" (قابل مت 26 : 27، 28).

          هكذا
أيضاً، إذ يسلمهم كلهم الكأس، يقول : "اشربوا منها كلكم. لأن هذا هو دمي الذي
للعهد الجديد، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (مت 26 : 27، 28).

          هل
رأيتهم كيف إنه لا يشرح طريقة السر لغير الفهماء، والذين لا يقبلوه الايمان، بل
يذهب بعيداً عنهم، بينما هو يشرح (السر) للذين آمنوا فعلاً، فيعلنه بكل وضوح؟

          فليسمع
الذين لم يؤمنوا بعد بالمسيح لحماقتهم "إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان وتشربوا
دمه، فليس لكم حياة فيكم". فإن الذين لا يقبلون يسوع بواسطة البركة ([vii]) السرية
يبقون محرومين من كل نصيب ومذاق تلك الحياة، حياة القداسة والبركة. لأنه هو الحياة
بطبيعته، بقدر ما انه مولود من آب حي، وجسده المقدس ليس بأقل قدرة على الإحياء
أيضاً، لأنه جسد بكيفية ما، قد اجتمع واتحد بطريقة لا ينطق بها، بالكلمة الذي يحيي
الجميع. إذ الجسد محسوب انه جسده هو (الخاص)، ومدرك انه واحد معه. لأنه منذ
التجسد، لم ينفصل عنه. وينبغي ان نعرف أن الكلمة الذي جاء من عند الله الآب،
والهيكل الذي من العذراء، ليسا هما في الحقيقة من نفس الطبيعة (إذ أن الجسد ليس من
نفس جوهر الكلمة الذي هو من الله). ومع ذلك فهما واحد باتقائهما معاً بالاتحاد
الذي لا ينطق به. وإذ قد صار جسد المخلص واهباً للحياة (إذ هو قد اتحد بذاك الذي
هو بطبيعته الحياة، الكلمة من الله)، فإننا حينما نتذوق (الجسد)، تكون لنا حياة
فينا، ونتحد ايضاً به كما ان الجسد متحد بالكلمة الساكن فيه.

          لهذا
السبب ايضاً، حين اقام الميت، نجد ان المخلص قد أتم، لا بالكلام فقط، او بوصايا
الله، بل قد شدد على استخدام جسده المقدس كشريك معه في هذا العمل
Co-operator، ليظهر ان لجسده
قوة إعطاء الحياة، وانه أي الجسد قد صار بالفعل واحداً معه. لأنه في الحقيقة كان
جسده الذاتي (الخاص) وليس جسد شخص آخر. وبالحق حين أقام الطفلة ابنة رئيس المجمع
قائلاً : "يا صبية قومي" (لو 8 : 54) أمسك بيدها، كما هو مكتوب، معطياً
لها الحياة، بأمره الكامل القدرة، فهو الله. ومرة أخرى إذ يهب حياة بلمسة جسده
المقدس، فإنه يظهر ان ثمة عملاً واحداً متجانساً يتم بكليهما معاً (أي الكلمة
اللوغوس والجسد). أجل، وحين توجه الى مدينة تدعى نايين، وكان ميت محمول "ابن
وحيد لأمه" فإنه مرة أخرى "لمس النعش" قائلاً "أيها الشاب، لك
أقول قم" (لو 7 : 12، 14). وهو لم يعط كلمته فقط القوة على إعطاء حياة للميت،
بل ولكي يظهر ان جسده الخاص كان واهباً للحياة (كما قلت تواً)، فإنه يلمس الميت
مانحاً حياة للذي تحلل فعلاً. وإن كان بلمسة جسده المقدس وحدها، يعطي حياة لجسد
تحلل، كيف لا ننتفع نحن بأكثر غنى بالبركة، التي نشترك فيها، والواهبة الحياة
(الأولوجية)، حينما نتذوقها ايضاً؟ لأنها سوف تتحول بالتأكيد الى خيرنا الذاتي،
أي، الخلود (وعدم الموت).

          فلا
تتعجب إذن، ولا تسأل نفسك، على طريقة اليهود "كيف"؟ بل بالحري، إذ الماء
بطبيعته بارد، لكنه إذ يصب في غلاية ويسخن على النار، فإن طبيعته تتبدل، ويخضع
للعملية التي تسود عليه.

          هكذا
نحن ايضاً وبنفس الطريقة، حتى ونحن قابلون للفساد بطبيعة جسدنا، نهجر ضعفنا
الطبيعي باختلاطنا بالحياة، ونتبدل الى خاصية الحياة. لأن الأمر بحاجة لا ان تعاد
خلقة فقط النفس بالروح القدس الى جدة الحياة، ليست الحاجة الى ذلك فحسب، بل ايضاً
ان ذلك الجسد الغليظ الأرضي، ينبغي انه بواسطة الشركة الأكثف والأقرب يتقدس ويدعى
الى عدم الفساد.

          لكن
ليكف فهم اليهود المتباطئ عن ان يفترض ابداً ان كيفية ما لأسرار جديدة قد
اكتشفناها نحن. لأن اليهودي سوف يرى ذلك في الكتب القديمة، أعني كتب موسى، والتي
تنبأت فعلاً من خلال الظل وكانت تحمل قوة الحق، لأنها كانت قد تمت بأشكال خارجية
ايضاً. لأنه أخبرني : ما الذي أخجل المهلك؟ وما الذي وفر ان اجدادهم ايضاً لم
يهلكوا مع المصريين، حينما تسلح الموت قاهر الجميع ضد الأبكار؟ ألم يكن الأمر
ظاهراً للجميع، أنهم حين كانوا في طاعة للناموس الإلهي قدموا ذبيحة الحمل، وبعد ان
ذاقوا من لحمه دهنوا أعتاب الأبواب بالدم، فاضطر الموت ان يمضي بعيداً عنهم، إذ قد
كانوا مقدسين، لأن المهلك، أي موت الجسد، كان قد نظم صفوفه ضد طبيعة كل البشر،
بسبب تعدي الإنسان الأول، إذ نسمع أولاً، "لأنك تراب والى التراب تعود"
(تك 3 : 19). لكن إذ كان المسيح على وشك ان يطرح ذلك الطاغية الرهيب، بوجوده فينا
كحياة بواسطة جسده المقدس، فقد سبق ورمز الى السر للقدماء، ذاقوا من لحم الحمل
وتقدسوا وحفظوا بدمه، من ذاك الطاغية الذي كان يدمر في عبوره، حسب تدبير الله،
أولئك الذين كانوا شركاء في الحمل. لماذا انت غاضب إذن، ايها اليهودي، انك دعيت
الآن من الرموز الى الحق، حيث يقول المسيح "إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان،
وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم"؟ بدلاً من ان تأتي بثقة أكثر الى ادراك
السر، الذي سبق وتعلمته من كتب موسى، وبواسطة الرموز القديمة تنقاد دون أدنى شك
الى واجب الإيمان.

54
"من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير".

          علينا
هنا ايضاً ان نعجب بشكل خاص بالإنجيلي المقدس الذي يصيح علانية "والكلمة صار
جسداً" (1 : 14). لأنه لم يحجم عن القول، ليس أنه صار في الجسد، بل أنه صار
جسداً، لكي يوضح الاتحاد. (الاتحاد بين الكلمة والجسد). ونحن لا نقول إن الله
الكلمة الذي من الآب، قد تحول الى طبيعة الجسد، او ان الجسد تحول الى الكلمة (لأن
كلاً منهما يبقى على ما هو عليه بالطبيعة، ومسيح واحد من كليهما معاً). لكن بطريقة
لا ينطق بها وتفوق الفهم البشري، اتحد الكلمة بجسده الخاص، واذ قد ضمه كله الى
نفسه (حسب عمل قدرته في احياء الاشياء التي تنقصها الحياة)، قد طرد الفساد من
طبيعتنا، وازاح ايضاً الموت الذي ساد منذ القديم بسبب الخطية. لهذا فإن كل من يأكل
من الجسد المقدس الذي للمسيح، "فله حياة أبدية" : لأن الجسد له في ذاته
الكلمة الذي هو الحياة بالطبيعة. لهذا يقول "وأنا أقيمه في اليوم
الأخير". وبدلاً من القول : جسدي سوف يقيمه، أي يقيم من يأكل هذا الجسد، قد
وضع الضمير (أنا) في عبارة "أنا أقيمه" : لا كأنه شيء آخر غير جسده
الخاص (الذاتي)، لأنه بعد الاتحاد لا يمكنه ابداً ان ينقسم الى اثنين. لهذا
(يقول)، أنا الذي صرت فيه، من خلال جسدي الخاص نفسه، أي انني سوف أقيم في اليوم
الأخير، ذاك الذي يأكل جسدي، لأنه كان من المستحيل حقاً ان ذاك الذي هو الحياة
بالطبيعة، الا يقهر الفساد بشكل أكيد وألا يسود على الموت، لهذا فإنه حتى إن كان
الموت الذي بالتعدي قد انقض علينا، فأجبر الجسد البشري على الخضوع للفساد الا انه
منذ ان صار المسيح فينا من خلال جسده الخاص، فإننا سنقوم يقيناً. لأنه كان من غير
المعقول، بل ومن المستحيل بالأحرى، أن الحياة لا يحيي أولئك الذين يكون فيهم. لأنه
كما لو كان شخص ما قد اخذ جذوة ودفنها وسط كثير من حصيد الزرع، حتى تظل الجذوة
النارية محفوظة فيه، هكذا ايضاً يخفي ربنا يسوع المسيح الحياة فينا من خلال جسده
الخاص، ويغرسها كبذرة خلود، فيبيد كل الفساد الذي فينا.

55
"لأن جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق".

          مرة
أخرى يعقد مقابلة بين البركة السرية وعطاء المن، وبين مذاق الكأس والينابيع
المتفجرة بين الصخر. وما كان قد قاله بكلمات أخرى، بقوله مرة ثانية هنا، فينوع نفس
حديثه بعدة اساليب مختلفة. لأنه لم ينصحهم ان تعجبوا بالزيادة للمن، بل بالحري ان
يقبلوه هو، كخبز نازل من السماء، فهو معطي الحياة الأبدية. (إذ يقول) إن
"آباءكم أكلوا المن في البرية وماتوا، هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي
يأكل منه الإنسان ولا يموت" (49 : 50). (وحسب قوله) فإن طعام المن قد وفي
بحاجة الجسد زمناً قليلاً جداً، فأبعد ألم الجوع، لكنه صار بعدها بلا قوة، ولم يهب
الذين أكلوه حياة أبدية. إذن لم يكن ذاك هو "الطعام الحقيقي" والخبز
الذي من السماء، بل : الجسد المقدس الذي للمسيح، الذي يقوت الى حياة الخلود
والحياة الأبدية، الذي هو بالحقيقة الطعام "الحقيقي". "وهم شربوا
ماءً من الصخرة ايضاً" (وهو يقول) (وماذا ايضاً)، او ما المنفعة التي عادت
على الذين شربوا؟ لأنهم قد ماتوا. لم يكن ذاك الشراب ايضاً شراباً حقيقياً (او
مشرب حق)، بل المشرب الحق في الواقع هو الدم الثمين الذي للمسيح، الذي يستأصل
الفساد كله من جذوره، ويزيح الموت الذي سكن في جسد الإنسان. لأنه ليس دم أي انسان
هكذا، بل هو دم الحياة ذاته الذي هو هكذا بالطبيعة. لهذا نحن نعتبر كلاً من جسد
المسيح ودمه، اللذين نتناولهما في سر البركة (الافخارستيا)، نعتبرها الابن نفسه
نأخذه في انفسنا.

56
"من يأكل جسدي ويشرب دمي، يثبت في وأنا فيه".

          كثيراً
ما يستهل المسيح كلامه معنا بتلك الكلمات، ولما كان حديثه صعب الفهم لدى الأكثر
جهلاً، وهو حديث يتطلب الايمان قبل الفحص، فان المسيح مرات ومرات ينبر على نفس
الوتيرة ليسهل الأمر بطرق شتى وينير من كل جانب ما هو نافع لنا، مثبتاً في حدثه
رغبة هي من أسمى الرغبات ليجعلها أمراً أساسياً. (فيقول) من يأكل جسدي ويشرب دمي،
يثبت في وأنا فيه. "فإني افترض انه كما يوصل المرء شمعاً لشمع فانه بالتأكيد
سوف يرى الواحد في الآخر، (لهذا افترض) انه بنفس الطريقة فان من ينال
"جسد" مخلصنا المسيح، و"يشرب دمه" الثمين، كما يقول، يوجد
واحداً معه، ممتزجاً ومختلطاً به من خلال الشركة، لكي يوجد في المسيح، والمسيح
أيضاً فيه. هكذا كان المسيح أيضاً يعلمنا في الإنجيل بحسب متى قائلاً : "يشبه
ملكوت السموات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر
الجميع" (مت 13 : 33).

          من
هي المرأة اذن؟ وما هي ثلاثة أكيال الدقيق، أو ما هو المكيال عموماً، سنتحدث عن
ذلك في موضعه المناسب : أما الآن، فسنتكلم فقط عن الخميرة، فكما يقول بولس إن
"خميرة صغيرة تخمر العجين كله" (1كو 15 : 6)، هكذا فإن أقل كمية من
البركة (الأولوجية) تخلط جسدنا كله معها، وتملأها بفعلها المقتدر، هكذا جاء المسيح
ليكون فينا، ونحن ايضاً فيه.

          لأن
المرء يحق له ان يقول ان الخميرة هي في العجين كله، وبالمثل العجين كله في
الخميرة، ها أنتم تدركون معنى الكلام بايجاز، فإن كنا نشتاق الى الحياة الأبدية،
وان كنا نصلي لننال واهب الخلود في انفسنا، فعلينا الا نشابه بعض الطائشين، فنرفض
ان نبارك (ننال البركة) والا ندع الشيطان الغارق في الشر ينصب لنا فخاً وشركاً من
الوقار الضار.

          (ويقول)
أجل، لأنه مكتوب "من يأكل من الخبز ويشرب من الكأس.. بدون استحقاق، يأكل
ويشرب دينونة لنفسه.." (1كو 11 : 29) : وها أنذا قد فحصت نفسي، فوجدت انني
غير مستحق.

          (إن
الذي يتكلم هكذا، سيسمع مني هذا السؤال : فمتى إذن ستكون مستحقاً، ومتى تسلم نفسك
للمسيح؟ لأنك إن كنت ترتاع دائماً، مبتعداً بعثراتك، فإنك لن تتوقف أبداً عن
(الوقوع) في العثرة (إذ يقول المرنم : السهوات من يشعر بها؟ (مز 19 : 12). وكيف
تكون كاملاً وصحيحاً دون الاشتراك في التقديس الذي يحفظ الانسان كاملاً. قرر ان
تحيا حياة أكثر قداسة في توافق مع الناموس، وهكذا اقبل البركة (الأولوجية)، مؤمناً
ان لهذا السر القدرة على طرد، لا الموت وحده، بل الأمراض التي فينا.

          لأنه
لهذا جاء المسيح، ليكون فينا، ليهدئ من الناموس الذي يثير فينا اعضاء الجسد، ويوقد
التقوى من نحو الله، ويميت شهواتنا فلا تلصق بنا بعد التعديات التي كنا فيها، بل
بالحري، يشفينا من أسقامنا؛ لأنه يضمد ما انسحق، ويقيم ما سقط، كراعٍ صالح وكمن
بذل حياته لأجل خرافه.

 

الفصل
الثالث

ان
الابن ليس شريكاً لحياة من أي شخص آخر، بل بالحري هو

الحياة
بالطبيعة، إذ هو مولود من الله الآب، الذي هو الحياة بالطبيعة.

57
"كما ارسلني الآب الحي، وأنا حي بالآب، فمن يأكلني فهو يحيا بي".

          معنى
هذا النص غامض، تغلفه صعوبة ليست بقليلة، لكنه ليس عسر الفهم تماماً. إذ يمكن
إدراكه وفهمه من قبل أولئك الذين اختاروا ان يفكروا باستقامة. لهذا حينما يقول
الابن انه أُرسل، فهو يشير الى تجسده، ولا شيء غير ذلك. وحينما نتحدث عن تجسده،
نعني انه صار انساناً كاملاً. (ويقول) كما ان الآب جعلني انساناً، وحيث انني انا
الله الكلمة، وولدت حياة من ذاك الذي هو بالطبيعة حياة، وصرت انساناً، وقد ملأت
هيكلي، أي، جسدي، بطبيعتي الذاتية (الخاصة)، هذكا ايضاً وعلى نفس المنوال، فإن من
يأكل جسدي "يحيا بي". لأنني أخذت جسداً مائتاً، لكن، إذ قد سكنت فيه،
ولأنني الحياة بالطبيعة، لأنني من الآب الحي، فقد أعدت صياغته بالكامل في حياتي
الذاتية، ولم يقهرني فساد الجسد، بل بالحري قهرت الفساد، كإله. (ولن أحجم عن ذكر
ذلك للمنفعة). (فهو يقول) : ورغم انني قد صرت جسداً (لأن ذلك ما تعنيه لفظة أُرسل)
فإنني أحيا ايضاً بسبب الآب الحي، أي، احتفظ في نفسي بالسمو الطبيعي لذاك الذي
ولدني، لهذا ايضاً، فإن من يأخذني في نفسه بالاشتراك في جسدي، سوف
"يحيا" وقد طعم بالكامل في، أنا القادر ان اعطيه حياة، لأنني من أصل
واهب الحياة، أي الله الآب، لكنه يقول إنه تجسد بواسطة الآب، على الرغم من ان
سليمان يقول "الحكمة بنت بيتها" (أم 9 : 1). والمبارك جبرائيل يعزي خلق
الجسد الإلهي لفعل الروح القدس، حينما كان يتحدث الى القديسة العذراء (إذ يقول ان
الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك) (لو 1 : 35). ذلك حتى تفهموا ايضاً، ان
اللاهوت : إذ هو بالطبيعة واحد، يدرك انه في الآب وفي الابن وفي الروح القدس. لا
بشكل انقسامي متعدد يعمل كل منهم بمفرده ما ينبغي ان يتم من أمور، لكن ما يقال إنه
تم بواسطة واحد منهم فإن ما يتم هو عمل بالطبيعة اللاهوتية كلها. لأنه لما كان
الثالوث القدوس واحداً، فيما يخص وحدانية الجوهر، فإن قوته هي قوة واحدة بالكامل
من جهة كل شيء. لأن كل شيء هو من الآب بالابن في الروح. لكن ما قلناه غالباً، سوف
نقوله مرة أخرى. لأن ذكر نفس الاشياء، حتى ان بدا مملاً إلا أنه آمن.

          وكانت
عادة مخلصنا المسيح لأجل منفعتنا، إن ينسب تلك الاشياء التي تفوق القوة التي تناسب
الانسان، ان ينسبها الى عمل الآب. لأنه وضع نفسه إذ صار انساناً : ولما كان قد قبل
شكل العبد، فإنه لم يستنكف قامة العبيد، ومع ذلك لم يستبعد من فعل كل شيء مع الآب.
والذي ولده، يصنع به كل شيء، حسب كلمة المخلص نفسه (إذ يقول) : "الآب الحال
في هو يعمل الأعمال" (يو 14 : 10). وإذ قد وفر لتدبير الجسد ما يليق به، فإنه
ينسب لله الآب ما يفوق قوة الإنسان، لأن بناء الهيكل في العذراء يفوق قوة الإنسان.

          لكن
معارضنا قد يجيب مرة أخرى : وبأية كيفية أخرى يكشف الابن عما يكونه بالطبيعة، او
كيف يظهر بوضوح ان الآب أعظم، إلا بقوله، "أنا أحيا بالآب"؟ لأنه إن كان
الآب هو معطي الحياة للابن، فمن ذا الذي يندفع في مثل هكذا حماقة، فلا يدرك
بالكامل ان من يشترك في الحياة، لن يكون بالطبيعة هو نفسه حياة او يكون قديراً على
الإحياء؟

          سوف
نورد كلمة الحق مرة أخرى للرد على تلك الأمور، فنقول في وقت ملائم، "لأن
اللئيم ينطق باللؤم، وقلبه يفكر بالأمور الباطلة، يمارس أعمال التعدي ويتكلم على
الرب بافتراء" (إش 32 : 6س). لأنه أي شيء يمكنه ان يكون أشر من مثل مفهوم
الهراطقة هذا؟ وكيف لا يكون ما يلفظونه ضد المسيح الذي يحيي كل شيء هو بمثابة أشد
الخطايا، حيث إن هؤلاء الشديدو الحماقة لا يخجلون من قول، إنه يحيا بمشاركته
الحياة من آخر، تماماً مثل خلائقه؟ ألا يكون الابن في النهاية مخلوقاً أيضاً؟
طالما انه شريك في الحياة، وليس هو الحياة ذاتها بالطبيعة؟ لأن المخلوق هو بالفعل
شيء آخر مخالف تماماً للحياة التي فيه. لكن إن هم افترضوا ان الأمر سيان. فليدعو
كل مخلوق بأنه حياة. لكني لا أظن ان أي انسان عاقل يمكنه ان يفعل ذلك. لهذا فلا
الوحيد الجنس بمخلوق، بل هو مدرك عنه انه بالطبيعة الحياة : لأنه كيف يصدق في قوله
: أنا هو القيامة والحياة (يو 11 : 25) لأن الحياة هي تلك التي تعطي حياة، وليست
تلك التي تحتاج ان تنالها من آخر، تماماً مثلما يفهم ان الحكمة هي تلك التي تجعل
الانسان حكيماً، وليست هي التي تأخذ حكمة. لهذا فإنه بحسب قولكم يكون الحق زيفاً،
ولن يكون المسيح صادقاً، وهو يقول، "أنا هو الحياة". أجل بل إن طغمة
القديسين الساطعة ستكذب ايضاً، حين ينطقون بالروح، فيدعون الوحيد الجنس بأنه
الحياة. لأن المرنم الإلهي نجده يقول للآب "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز
36 : 9). والإنجيلي العجيب يوحنا في رسائله هكذا يقول "الذي كان من البدء
الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته ايدينا من جهة كلمة الحياة.
فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب
وأظهرت لنا" (1 يو 1، 2).

          أرأيتم
كيف يتحدث المرنم بالصدق، حتى بشهادة يوحنا، حين يقول لله الآب أبي الجميع
"عندك ينبوع الحياة؟" لهذا فإن المتسربل بالروح يقول هذه الأشياء عنه،
وسيثبت ايضاً بكلماته : لأنه هكذا يكتب : "ونعلم ان ابن الله قد جاء واعطانا
بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة
الأبدية" (1 يو 5 : 20). أخبروني، من يحتمل اذن تفاهات الهراطقة؟ أو من لا
يصرخ في وجه كفرهم، إذ يتجرأون على القول ان الابن مشترك في حياة من آخر، بالرغم
من ان الكتاب المقدس الموحى به من الله، لا يذكر مثل تلك الأشياء عنه، بل بالحري
يصيح جهاراً وعالياً، انه هو الله بالطبيعة، وهو الله ذاته، وهو ينبوع الحياة،
وايضاً هو "الحياة الأبدية".

          لأنه
كيف يمكن ان يعرف انه هو الله ذاته، ان كان يحتاج حياة من آخر، وليس بالحري الحياة
ذاتها بالطبيعة؟ او كيف له ان يدعى بعد ينبوع الحياة، إن كان يعان بواسطة عطايا
آخر، ليقدر ان يحيا؟

          (لكن
يقول المعترض) أجل، نحن نقر ان الابن هو الحياة، في انه ايضاً يمكنه ان يحيي، إذ
له في ذاته الآب المحيي.

          ومع ذلك، فإن هذا لا يكفي، أيها
السادة الشرفاء، لينفي عنكم تهمة التجديف على الوحيد الجنس : بل في ذلك أيضاً
سيثبت ان جدلكم غير متماسك، وأنه سيتمزق على أي حال الى أشلاء. لأنه لكي يلزمنا ان
نقول إن الابن يدعى الحياة، لأنه يقدر ان يحيي الأشياء القابلة للحياة، بسبب ان له
في نفسه الآب، فكيف لا يكون الأمر متخماً بحماقة لا حدود لها.؟

          إذ
يبدو أنكم لا تعرفون معنى عبارة "بالطبيعة" أو معنى القول "ان يكون
من أي شيء بالطبيعة"، مقارناً بما يكون وليد الصدفة والظروف. فالنار حارة
بالطبيعة، وثمة أشياء أخرى حارة ايضاً، لكن بالمشاركة في عمل النار، مثل الحديد
والخشب، لكن لا يقال عنها أنها نار، لمجرد أن تم تسخينها، إذ فيها فعل خارجي وليست
فيها خاصية عمل طبيعية.

          وسيستمر
نقاشنا بواسطة أمثلة خاصة بنا نحن أيضاً :

          فقواعد
النحو اللغوية مثلاً، أو الهندسة، هما نوعان من علوم المنطق أو العقل، لكن حينما
يصبح الفرد حاذقاً في قواعد اللغة أو في العلوم الأخرى فإننا لا نراه وقد صار هو
نفسه قواعد اللغة أو علم الهندسة، لكن بسبب حذقه في علوم الصرف، يسمى
"عالما بالنحو والصرف". ونفس الأمر بالنسبة للشخص الآخر : فإن من هو
الحياة بالطبيعة، يختلف بالكامل عن الأشياء التي عداه، إذ يغير لنفسه ما هو ليس
كذلك بطبيعته. لذلك حين تقولون ان الآب هو في الابن، كما هو ايضاً في المادة
(مثلاً)، وإذ هو بالطبيعة الحياة، فانه يقدر ان يحيي، انكم في حماقة تسلمون انه
الحياة، وانه لا يشارك فيها من آخر، ومع ذلك فإنه بالنسب وليس بالجوهر، مدعو
لكرامة الفاعل لهذا السبب. وكما لا يدعو المرء حسب العقل، الحديد المحمى ناراً،
رغم انه له فعل النار، الذي يحصل على حرارته منها، أو لا يدعى الانسان الحاذق في
النحو بأنه هو نفسه نحو، لأنه يقدر ان يرشد آخرين الى هذا العالم، لذلك، فإنني لا
أتصور ان أي انسان عاقل سيدعو الابن حياة؛ لأنه يقدر ان يحيي آخرين أيضاً، رغم أنه
حسب زعمهم، ليس له بالطبيعة كيان الحياة، بل هو له الحياة من فعل الآب المحفور
فيه، او بسبب سكنى الآب (فيه).

          أخبرني
: ما الذي يمنعنا أخيراً من إدراك ان الابن واحد منا، أي من طبيعة قابلة للفساد،
إن كان يحيا بسبب الآب، أي انه نال هبة الحياة من الآب، كما يفهمون هم الأمر كذلك؟

          لأنه
سيهلك، حسب تصورات مفاهيمهم، إن لم يكن فيه الآب الحي في ذاته. وإن كنا نعترف أنه
يقول الحق، إنه "في الآب، الآب فيه" فإن له حقاً الآب في نفسه، (الآب)
الذي هو الحياة بالطبيعة، وانه هو نفسه في الآب، حتى لو لم يكن هو الحياة بطبيعته
:

          سأتجاوز
عن هذا التجديف، على الرغم من انه على المرء ان ينطق بما يدين محاربي الله لعدم
تقواهم (كفرهم)؛ إذ يوجد الآب وقد صار له في نفسه ذاك الذي تجرد من الحياة، أي،
صار له البلى، او الطبيعة الفانية. لأنه لما كانت طبيعة المادة المتاحة تضطرنا أن
ندرك هكذا عن الابن، فإن علينا ان نفحص الأمر أكثر، وان ندخل في اعتبارات مختلفة،
طالما ان هدفنا ان ننقي المسألة بشكل أدق. أنتم تقولون ان الله الآب هو الحياة
بالطبيعة. حسناً، فهو كذلك، لكنه هو في الابن ايضاً. لأن هذا ما يسمح به جدلكم.

          وإني
الآن أسألكم بتعقل، رغبة في معرفة الأمر، "ما الذي يفعل (الآب) حيال ابنه، إذ
الابن فيه؟ "هل يمنح من حياته الذاتية لوليده، وكأن الابن خال من الحياة؟ ومن
هو فارغ من الحياة، ماذا يكون، إلا عرضة الانحلال بالفساد؟ لكنه – أي الآب – لن
يمنح من حياته الذاتية لوليده، لأن ابنه هو الحياة، حتى لو لم يأخذها منه.

          فكيف
اذن ودون احتراس، يثرثر البعض، ويستمرون في اتهامه، ويقولون ان الابن يحيا، لأن له
في ذاته الآب، الذي هو بالطبيعة الحياة؟ لأنه إن كان (الابن) يحيا أيضاً بمعزل عن
الآب، إذ هو بذاته الحياة جوهرياً، فإنه لن يحيا "بسبب الآب"، أعني،
بسبب شركته في الآب. لكن لو كان له الآب معطي حياته الذاتية، لكان من الواضح ان لا
حياة له في ذاته. لأنه يقترضها من آخر، فيكون (كما اسلفنا) مخلوقاً، وليس بالحري
الحياة، ومن طبيعة قابلة للفساد. فكيف إذن يسمى نفسه الحياة؟ لأننا نحن لا يمكن ان
نقول بالحق (وفي ثقة) إننا الحياة (أو أنا هو الحياة). وإن كانت تلك الكلمة ليست
سليمة (لأنه ليس من حق أي مخلوق أن يرتفع الى الكرامات الخاصة بالله)، فإن الابن
يعرف أنه الحياة بالطبيعة : وإلا كيف يكون هو "رسم جوهر ذاك الذي ولده"
(عب 1 : 3). وكيف يكون هو الصورة والشبه والحقيقة؟ أو كيف لا يكون فيلبس على صواب
حين قال، أرنا الآب وكفانا؟ لأنه في الحقيقة، يمكن للمرء أن يفترض، ان من رأى
الابن، لم ير الآب. ما دام واحد هو بالطبيعة الحياة، والآخر شريك في الحياة التي
منه. لأن المرء لا يمكنه ابداً ان يرى ذاك الذي يحيي في هذا الذي يأخذ منه الحياة،
وذاك الذي لا يعوزه شيء في هذا الذي في عوز. لأنه (أي الابن) وبشكل آخر ايضاً،
يوجد غير صادق في قوله "من رآني فقد رأى الآب".

          لكن
من يحب التعاليم التقوية التي للكنيسة، ويرى مدى السخافات التي تعقب ثرثرتهم، عليه
اذن ان يتجنبهم، وان "يمضي" كما هو مكتوب، وعليه "ان يمهد سبله وان
يثبت طرقه" (أم 4 : 15، 26س) وأن يتطلع الى الجمال البسيط الذي للحق، مؤمنا
ان الله الآب هو بالطبيعة الحياة، وأن الابن المولود منه هو الحياة ايضاً. لأنه
كما يقال عنه إنه نور من نور، هكذا أيضاً هو حياة من حياة، وكما ان الله الآب ينير
كل الاشياء التي تفتقر الى النور، فينيرها بنوره الذاتي، أي ابنه، ويعطي حكمة
للاشياء التي تنال هذا منه، بواسطة حكمته الذاتي ويقوي الاشياء المحتاجة الى
القوة، من خلال قوته الذاتي ايضاً، هكذا هو ايضاً يحي الاشياء التي تفتقر الى
الحياة منه، بحياته الذاتي الذي يتدفق منه، أي ابنه. لذلك فإنه حينما يقول
"أنا حي بالآب"، لا تعترفوا انه يحيا لأنه ينال حياة من الآب، بل
تتيقنون انه هو ايضاً يحيا، لأنه مولود من الآب الحي، لأنه من المستحيل ان ذاك
الذي هو من الآب الحي لا يحيا. وكأن واحداً منا قد يقول، انا انسان عاقبل بسبب
أبي، لأنني ولدت طفلاً لإنسان عاقل، هكذا تدركون انتم بالنسبة للابن الوحيد ايضاً.
(فهو يقول) "أنا حي بالآب" لأنه حيث إن الآب الذي ولدني هو الحياة
بالطبيعة، وأنا وليده الطبيعي والذاتي، فإني احصل بالطبيعة على ما هو له، أي انا
الحياة، لأن الآب هو كذلك ايضاً. لأنه لما كان مدركاً عنه وهو كذلك واحد من واحد
لأن الابن هو من الآب، حتى وهو معه منذ الأزل، فإنه وبحق يمجد بالخاصيات الطبيعية
التي لذاك الذي ولده، كخاصياته هو الذاتية.

58
"هذا هو الخبز الذي نزل من السماء. ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا. من يأكل
هذا الخبز فإنه يحيا الى الأبد".

          (يقول)
لابد ان تكون آثار الأمور العظيمة، عظيمة، ويجب ان تظهر عطايا النعمة من فوق، أنها
عطايا الهية جديرة بالسخاء الالهي. لأنكم ان قبلتم بالايمان وبشكل كامل انه
"الخبز الذي نزل من السماء"، فهو يعطي حياة على الدوام للذين يشتاقون
اليه، لأنه يهب فاعلية الخلود بلا توقف. لأن ذلك برهان جلي على كونه "الخبز
الذي نزل من السماء" أي من الله : ما دمنا نقول انه يليق بالأبدي ان يعطي ما
هو أبدي، لا ان يعطي تمتعاً بطعام وقتي، يقدر بالكاد ان يدوم لحظات قليلة. لأن
المرء لا يفترض بعد بحكمة ان ذاك كان هو الخبز من الله ومن فوق، ذلك الذي أكله
أجدادنا، ثم غلبهم الموت، وهو يطرد شر الاضمحلال، ولا غرو، لأن ذلك لم يكن هو
الخبز الذي يتوفر ليجعل الانسان خالداً. من ثم لا يكون من الصواب ادراك وقول انه
من السماء. لأنه كان يليق بالذي نزل آنذاك، ان يجعل المشاركين في تناوله أسمى من
الموت والاضمحلال. وببرهان لا شك فيه ايضاً، يتأكد ان ذلك كان هو "الخبز الذي
نزل من السماء، ذلك الذي يوهب بواسطة المسيح، أي جسده. لأنه يجعل من يتذوقه يحيا
الى الأبد. هنا ايضاً نرى ميزة عظيمة للطبيعة الالهية، التي لا تمنح شيئاً يسيراً،
بل تعطي كل شيء عجيب، حتى انه يفوق مداركنا، لدرجة انه لعظم النعمة، قد لا يصدقها
البسطاء. فالذي له هذه اليد السخية، كيف لا تكون له الإرادة الحاضرة للعطاء بسخاء؟
إذ يقول بولس ايضاً في اندهاش "ما لم تره عين، ما لم تسمع به اذن، ما لم يخطر
على قلب بشر، ما أعده الله للذين يحبونه" (1كو 2 : 9).

          وبأمثلة
صغيرة كان الناموس يرمز الى أمور عظيمة، كما هو مكتوب "لأن الناموس إذ له ظل
الخيرات العتيدة، لا نفس صورة الاشياء" (عب 10 : 1). وهكذا نرى البركة
(الأولوجية) التي بالمسيح في طعام المن، لأن "الخيرات العتيدة" قد سبقت
الإشارة اليها بالرمز قديماً.

59
"قال هذا في المجمع، وهو يعلم في كفر ناحوم".

          إذ
يعرض لنا الإنجيلي شديد الحكمة الأسرار العجيبة، فإنه ولسبب معقول، ينسب الى
مخلصنا المسيح، بدء التعليم آنذاك، برؤية شخصه الواضحة التي تخزى من ينكره، فيلقي
الروع مسبقاً في نفوس أولئك الذين يقصدون الإنكار.

          أحياناً
فإن شهرة المعلمين تدفع السامعين الى الايمان، وتتطلب التفاتاً أكثر جدية من جانب
المتعلمين. لهذا يضيف لحسن استكمال المعنى "في المجمع". لأن التعبير
يوضح ان الذين سمعوا المسيح يذكر تلك الأمور، لم يكونوا مجرد شخص او شخصين : بل
رأوه وهو يعلم الجميع علناً في المجمع، كما يقول هو نفسه بالنبي اشعياء ايضاً
"لم أتكلم بالخفاء في مكان مظلم من الأرض" (أش 45 : 19) لأنه كان يتكلم
بتلك الأمور علناً، جاعلاً حكمهم بلا عذر لدى اليهود، وجاعلاً عواقب عدم الايمان
به أثقل لدى العصاة. لأنهم لو لم يتهذبوا بعد بمثل هذا السر المخوف، لاستنكروا
العقاب، ولو أظهروا جهلاً مطبقاً، لنالوا من الديان حكماً مخففاً : لكنهم بعد ان
عرفوا، وتهذبوا كثيراً، ولا يزالون يتمردون عليه بكفرهم، فكيف لا يعاقبون عقاباً
مناسباً، وإذ نُزعت كل رحمة، نجدهم يعاقبون أشد عقوبة من ذاك الذي احتقروه، ومثل
هذا الأمر قد تحدث المخلص عنه ايضاً بنفسه، إذ يقول عنهم "لو لم أكن قد جئت
وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (15 : 22).

          علينا
اذن ان نحذر العصيان، بل وننبذه، اذ هو جالب للموت وان ننظر الى الايمان بما يعلم
المسيح، كمعطٍ للحياة. لأننا بهذا نفلت من عقاب ألم بهم. لكنه يضيف ان المسيح تكلم
بتلك الأمور، "في كفر ناحوم"، ليثبت انه يتذكر ما حدث تماماً. لأنه من
يعرف المكان والقرية معاً، كيف يفشل في معرفة الأمور التي علم بها المسيح؟

60
"فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا : ان هذا الكلام صعب. من يقدر ان
يسمعه؟".

          هذه
هي عادة البسطاء : فهم كثيراً ما يتعثرون في التعاليم الأرقى سمواً وفي حماقة
يمزقون الى اشلاء اي فكر يعلو على تفكيرهم، لأنهم وهم أنفسهم لا يفهمونه، لأنه كان
ينبغي عليهم بالحري ان يشتاقوا الى التعلم، وان يحبوا البحث باجتهاد في الأمور
التي يسمعونها، لا ان يقاوموا مثل هذه الكلمات الحكيمة، فيدعونها
"صعبة"، عوض ان يتعجبوا منها. لأنهم هم الى حد ما في نفس الورطة، مثل
أناس يراهم المرء وقد فقدوا أسنانهم. لأن الذي يهرع الى الطعام الأخف، غالباً ما
يرفض الطعام الخشن (القوي)، وأحياناً يلوم ما هو ممتاز، دون ان يتعرف على الداء.
الذي بسببه يضطرون الى تحاشي ما هو جيد من طعام.

          وأولئك
الذين هم أشقاء الجهل والمجردون من العقل الراجح، يحجمون عن المعرفة، التي كان
ينبغي عليهم طلبها بأوفر تعب وجدية، وان يبلغوها بغيرة وتصميم.

          إن
الروحاني سيبهج نفسه إذن بكلمات مخلصنا، ويصيح عن حق "ما أحلى قولك لحنكي –
أحلى من العسل لفمي" (مز 119 : 103). بينما اليهودي الجسداني، في جهل، يحسب
السر الروحاني حماقة، وحين تحضه كلمات المخلص على الارتقاء الى الفهم اللائق
بالانسان، يغوص في حماقة كأنها توأمه، قائلاً : "للشر خيراً، وللخير
شراً" (إش 5 : 20)، بحسب صوت النبي. وهو يتبع آباءه ايضاً، فيوجد آنذاك
مقلداً جهل أجداده. لأن الذين نالوا المن من الله، وجعلوا شركاء البركة من فوق، قد
انزلقوا الى غلظتهم التي اعتادوا عليها قبلاً، وطلبوا أطعمة مصر التافهة، مشتهين
ان ينظروا البصل والكرات وقدور السمك.

          وهؤلاء
حينما حثهم (الرب) على نوال النعمة واهبة الحياة التي للروح، وعلمهم ان يقتاتوا
على الخبز الحقيقي، الذي ينزل من عند الله الآب، فإنهم ينحرفون وراء خطأهم الشخصي
"محبون للذات دون محبة الله" (2 تي 3 : 4). وكما كان آباؤهم قبلاً
يعيبون على طعام المن متجاسرين بالقول "قد يبست انفسنا" بهذا المن (عدد
11 : 6)، فإن هؤلاء أيضاً يرفضون الخبز الحقيقي، فلا يستحون من القول "إن هذا
الكلام صعب".

          إذن،
على سامعي الأسرار الإلهية، ان يكونوا حكماء، وعليهم ان يكونوا "صرافي عملة
مهرة" : فيعرفون العملة الجيدة من العملة الردية، فلا يطرحون في وقت غير
مناسب، أسئلة معقدة حول تلك الأمور التي يجب تسلمها وقبولها بالايمان، ولا ان
يبالغوا في الايمان بتلك الأمور، والمفروض انها تتطلب فحصاً، حتى لا يقع عليهم ضرر
أحياناً. بل يجعلون لكل ما يقال ما يستحقه، وان يتقدموا في سبيل مستقيم، رافضين
الحياد عنه الى اي من الجانبين. فالذي يركض نحو استقامة الايمان الذي في المسيح،
يليق به ان يسافر عبر طريق ملوكي.

61
"فعلم يسوع في نفسه ان تلاميذه يتذمرون على هذا، فقال لهم : أهذا يعثركم؟

62
"فإن رأيتم ابن الانسان صاعداً الى حيث كان أولاً؟.

          بسبب
الجهل المطبق، فإن بعض الذين كان المسيح المخلص يعلمهم، قد استاءوا من كلماته. إذ
أنهم حين سمعوه يقول "الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الانسان،
وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم" (53)، ظنوا أنهم مدعوون الى سلوك بربري
وحشي، وكأنهم مدعوون الى الاشتراك في أكل لحم إنسان وشرب دمه، وأنهم
سيضطرون الى عمل أمور تثير الذعر لمجرد سماعها. لأنهم لم يعرفوا جمال السر، ولا
ذلك التدبير البديع جداً الخاص به.
الى جانب ذلك، فإنهم قد تناقلوا هذا الأمر
مع أنفسهم، كيف يمكن للجسد البشري ان يغرس فينا حياة أبدية، كيف يمكن لشيء من نفس
طبيعتنا ان يهب خلوداً؟ وإذ يعرف المسيح أفكارهم لأن كل شيء عريان ومكشوف لعينيه
(قابل عب 4 : 13)، فإنه يشفي أسقامهم مرة أخرى، فيقودهم بيده بطرق متنوعة الى فهم
هذه الأمور التي كانوا لا يزالوا يجهلونها بعد، (فيقول) أيها السادة إنكم تستاءون
من كلماتي بمنتهى الحماقة. لأنكم إن كنتم لا تستطيعون بعد ان تؤمنوا، بالرغم من
كثرة ما تعلمتموه : أن جسدي يهبكم حياة، فماذا سيكون شعوركم (هكذا يقول) حينما
ترون جسدي صاعداً حتى الى السماء عينها، لأني لست أعد فقط إني سأصعد الى السماء
ذاتها، حتى لا تقولوا مرة أخرى : كيف؟ لكن سوف يملأ المشهد عيونكم، فيخزى كل ناكر.
(ويقول) فإن رأيتم ابن الانسان صاعداً الى السماء فماذا أنتم بقائلين آنذاك؟ لأنكم
ستتهمون بحماقة ليست بقليلة. لأنه إن كنتم تفترضون ان جسدي لا يستطيع ان يهبكم
حياة، فكيف له ان يصعد الى السماء مثل طائر؟ لأنه إن كان لا يقدر ان يحيي، لأن ليس
من طبيعته ان يحيي – فكيف سيحلق في الهواء، وكيف يصعد الى السماء؟ لأن هذا أيضاً
مستحيل. لكن ذاك الذي جعل الجسد الأرضي (جسداً) سماوياً، سوف يجعله واهباً للحياة
ايضاً، حتى إن كانت طبيعته تتحلل، فيما يختص بتكوينه الخاص.

          علينا
ان نلاحظ كيف انه لم يحتمل ان ينقسم الى مسيحين، حسب حماقة البعض، لأنه، وبكل
وسيلة يحفظ نفسه غير منقسم بعد التجسد. لأنه يقول ان "ابن الانسان يصعد الى
حيث كان اولاً"، رغم ان الجسد الأرضي لم يكن "فوق" قبل ذلك، بل كان
"الكلمة" بمفرده قبل اتحاده بالجسد. وحسناً كتب بولس في رسائله عن "رب
واحد يسوع المسيح" (1كو 8 : 6). لأنه ابن واحد، قبل التجسد الإلهي وبعد
التجسد ايضاً، ونحن لا نحسب جسده الشخصي غريباً عن الكلمة. لهذا يقول ان (الكلمة)
الذي نزل من فوق من السماء هو ايضاً "ابن الانسان". لأنه صار جسداً، كما
يقول الانجيلي المغبوط، ولم يتحول او يتغير الى جسد (لأنه بلا تغير ولا تبديل
لطبيعته كإله)، بل كان حالاً في هيكله الخاص، الذي من العذراء، وصار انساناً
بالفعل حقاً. لكن بقوله إنه سوف "يصعد الى حيث كان أولاً"، يتيح لسامعيه
ان يفهموا انه قد نزل من السماء، حتى أنهم متى ادركوا قوة المناقشة، ينصتون اليه،
لا كمن ينصت الى مجرد انسان عادي فقط، بل يعرفون اخيراً انه هو الله الكلمة في
الجسد، ويؤمنون ان جسده ايضاً واهب للحياة.

63
"الروح هو الذي يحيي. أما الجسد فلا يفيد شيئاً".

          (ويقول)
إنه من المعقول انكم لم تخلعوا على الجسد قوة منح الحياة. لأنه حينما ننظر الى
طبيعة الجسد وحدها وبمفردها، فمن الواضح انها لا تهب حياة. لأنه لا يمكن للاشياء
المخلوقة ان تعطي حياة، بل بالحري تحتاج هي نفسها الى القادر على إعطاء الحياة.

          لكن
حينما تمعنون النظر في سر التجسد، وتعرفون من هو ذاك الذي حل في هذا الجسد،
ستشعرون حتماً (هكذا يقول) ودون ان تتهموا الروح الالهي نفسه ايضاً، ان
الجسد يمكنه ان يهب حياة، مع ان الجسد في حد ذاته "لا يفيد شيئاً"
البتة. لأنه إذ اتحد الجسد بالكلمة معطي الحياة، فقط صار واهباً للحياة
كلية، مرتفعاً الى قوة الطبيعة الأكثر علواً، دون ان يجبر ذاك الذي لا يمكن اخضاعه
بأي حال الى التحول الى طبيعته الخاصة. برغم ان طبيعة الجسد في حد ذاتها عاجزة
"عن ان تعطي حياة من ذاتها"، ومع هذا فهي تقدر على فعل ذلك، حينما يصير
لها الكلمة معطي الحياة، وهو (الجسد) مفعم بفاعليته كلها. لأنه جسد ذاك الذي هو
الحياة بالطبيعة، وليس جسد اي كائن ارضي الذي يقال عنه بحق ان "الجسد لا يفيد
شيئاً". لأنه (مثلاً) ليس جسد بولس، ولا جسد بطرس، او اي شخص آخر، يمكنه ان
يفعل بنا ذلك. بل هو فقط وبوجه خاص جسد مخلصنا المسيح الذي حل فيه "كل ملء
اللاهوت جسدياً" (كو 2 : 9). لأنه سيكون في غاية السخف حقاً ان يدمج العسل وصفاته
في اشياء لا حلاوة فيها بطبيعتها، فتتوفر للعسل القدرة ان يحول الى نفسه ذاك الذي
امتزج به، ثم لا تقوى طبيعة الله المانحة الحياة على ان ترفع الى صلاحها الخاص ذلك
الجسد الذي حلت فيه. من ثم كان القول صادقاً بالنسبة لكل الاشياء الأخرى ان
"الجسد لا يفيد شيئاً"، لكنه بالنسبة للمسيح وحده، فإنه لا يستقيم بسبب
تلك (الحياة)، اي (الوحيد الجنس) الذي حل فيه، وهو يدعو نفسه الروح، لأن
"الله روح" (4 : 24). وكما يقول المغبوط بولس "أما الرب فهو
الروح" (2كو 3 : 17). ونحن لا نقول تلك الاشياء، كأننا نسلب الروح القدس
وجوده الخاص، فكما يدعو نفسه ابن الانسان، لأنه صار إنساناً، هكذا أيضاً يدعو نفسه
الروح بسبب روحه هو الخاص. لأن الروح ليس روح شخص آخر سواه، بل روحه هو.

"الكلام
الذي أكلمكم به، هو روح وحياة".

          هو
يملأ جسده الشخصي بفاعلية الروح الواهبة للحياة. لأنه الآن يسمى الجسد
"بالروح"، لا بمعنى انه استبعد عنه كونه جسداً : بل بسبب اتحاد الكامل
به، وقد تأيد الآن بقوته كلها المانحة الحياة، لهذا ينبغي ايضاً ان يدعى الروح.

          ولا
غرو، ألا نستاء نحن لذلك، لأنه إن كان "من التصق بالرب، فهو روح واحد"
(1كو 6 : 17)، فكيف بالحري لا يُدعى جسده الخاص واحداً معه؟ إنه يعني إذن
شيئاً من هذا القبيل في النص الموضوع أمامنا : (إذ يقول) أنا أدرك من الأفكار التي
تعتمل في داخلكم، أنكم بغباوة تتخيلون أنني أخبركم، ان الجسد الأرضي هو من ذاته
مانح للحياة : لكن ليس ذلك هو قصدي من كلامي. لأن شرحي الكامل لكم كان عن الروح
الإلهي والحياة الأبدية. لأنه ليس من طبيعة الجسد ان يجعل الروح واهباً للحياة، بل
قدرة الروح هي التي تجعل الجسد واهباً للحياة. لهذا فإن "الكلام الذي أكلمكم
به هو روح" أي روحاني ومن الروح، و"حياة" اي واهب
للحياة، وهو من ذاك الذي هو بالطبيعة الحياة، وليس كمن يتنكر لجسده الخاص، نراه
يقول تلك الأمور، بل كمن يعلمنا ما هو الحق. لأن ما قلناه تواً، سنعيده للمنفعة :

          إن
طبيعة الجسد، لا تستطيع من ذاتها ان تحيي، لأن الذي هو الله بالطبيعة ليس مجرد جسد
فقط، ومع ذلك فإن طبيعة الجسد لا تدرك بمفردها او بذاتها لأنها قد اتحدت بالكلمة،
الذي هو بالطبيعة الحياة. لهذا فحينما يدعو المسيح طبيعة الجسد أنها واهبة الحياة،
فإنه لا يشهد لها بقوة الإحياء من الموت، بقدر ما يشهد بهذه القوة لنفسه او لروحه.
لأنه بسبب شخصه هو، فإن جسده ايضاً يكون واهباً للحياة، إذ قد أعاد صياغة مادته
موحداً إياه بقوته الذاتية. ولا يليق للعقل ان يفكر في لفظة "كيف"، او
ينطق اللسان بها، بل يكرم كيفية الاتحاد هذه في صمت وايمان يفوق الفهم.

          لكن
كون الابن يدعى ايضاً ومراراً باسم الروح في الكتب الموحى بها من الله، فهذا ما
سنعرفه مما هو أت : فالطوباوي يوحنا يكتب عنه "هذا هو الذي أتى بماء وروح،
يسوع المسيح، لا بالماء فقط، بل بالماء والروح : والروح هو الذي يشهد؛ لأن الروح
هو الحق" (1يو 5 : 6)(*).

          ها
هو يدعو الروح بالحق، من ان المسيح يصرح علناً "أنا هو الحق" (يو 14 :
6). ويكتب بولس الينا قائلاً : "فالذين هم في الجسد، لا يستطيعون ان يرضوا
الله، وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، ان كان روح الله ساكناً فيكم، ولكن
ان كان احد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له. وإن كان المسيح فيكم، وأن كان المسيح
فيكم، فالجسد ميت بسبب الخطية، وأما الروح، فحياة بسبب البر" (رو 8 :
8-10) وهو إذ يبرهن مرة أخرى هنا ان روح الله يسكن فينا، قد قال إن المسيح نفسه هو
فينا. لأن روح الابن لا يمكن ان ينفصل عن الابن، على أساس ترتيب وحدة الطبيعة، حتى
لو كان يدرك عنه ان له وجوداً شخصياً. لهذا هو غالباً ما يسمى باسمين مختلفين،
أحياناً الروح، وأحياناً يسمى باسم نفسه.

64
"ولكن منكم قوم لا يؤمنون. لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون، ومن
هو الذي يسلمه.

65
"فقال : لهذا، قلت لكم إنه لا يقدر أحد ان يأتي الي إن لم يعط من أبي".

          يمكن
للمرء هنا ان يرى بوضوح تحقيق ما سبق ان تنبأ به واحدٌ من الأنبياء القديسين
قائلاً : "مهما سمعتم لا تفهمون، ومهما نظرتم لا تبصرون. لأن قلب هذا الشعب
تقسى، وهم قد ثقلوا آذانهم، واغمضوا عيونهم، لئلا يبصروا بعيونهم ويفهموا بقلوبهم،
فيرجعون إليَّ واشفيهم" (إش 6 : 9،10س). لأنهم إذ هم أنفسهم شهود سماع
لتعاليم المخلص، ولم يتعلموا من أي من القديسين الآخرين، بل تعلموا الأسرار بالحري
بصوت رب الجميع، ومع أنهم رأوه بعيونهم الجسدانية، فقد تقسوا في حماقتهم، وإذ
أغلقوا عيون فهمهم، أشاحوا بها بعيداً عن شمس البر، غير معترفين باستنارة تهذيب
الإنجيل، لأنهم كانوا أشراراً، اقترفوا الكثير من الآثام في الماضي. لهذا ايضاً يشهد
بولس الحكيم لنا عن ان "القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل" (رو 11 : 25).
لكن لما كان العمل ليس عمل حكمة عامة يمكن لها ان تعترف ان الذي احتجب في هيئة
بشرية هو الله، يقول ان الانسان "لا يقدر ان يأتي اليه" إن لم يأخذ
فهماً من الله، ولذلك سببه : لأنه إن كانت "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي
من فوق نازلة من عند أبي الأنوار" (يع 1 : 17)، فكيف بالأحرى لا يكون
الاعتراف بالمسيح، هو بالأكثر عطية من الآب، وكيف لا يكون إدراك الحق أمراً يفوق
كل نعمة؟ إذ كان يتضح بأنه هو معطي أعظم الصالحات، هكذا أيضاً يليق بالاعتراف بالمسيح
ان يكون معتمداً على السخاء الإلهي. لكن ليس لغير الأطهار يهب الآب الاعتراف
بالمسيح، ولا لمن اعتادوا ان يضلوا الى الكفر المتهور، يسكب الله نعمة الروح
المليئة بالمعونة : لأنه ليس من الصواب ان نسكب الدهن الثمين على الطين. وفي
الحقيقة فإن النبي الطوباوي إشعياء يأمر الذين يشتهون الاقتراب من المسيح
بالايمان، ان يتطهروا أولاً من الشهوات وان يتقدموا الى كل عمل صالح، فيصيح قائلاً
"اطلبوا الرب ما دام يوجد، أدعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه، ورجل الإثم
أفكاره، وليتب الى الرب فيرحمه والى الهنا لأنه يكثر الغفران" (إش 55 : 6،
7).

          أترون
كيف يقولون إنه يجب أولاً ان يتخلى عن طريقه القديم، ويتخلص من الحيل البطالة،
لينال غفران الخطايا، بالايمان بالمسيح. لأننا نتبرر "ليس بأعمال
الناموس" (غل 2 : 16)، بل بالنعمة التي منه، وبالغفران الممنوح لنا من فوق.

          لكن
ربما يقول قائل، من الذي منعه عن الصفح عن اليهود ايضاً، ومن سكب الغفران على
اسرائيل ايضاً معنا؟ لأن هذا ايضاً يليق بذاك الذي هو كلي الصلاح : وكيف يكون
ايضاً حديثه صادقاً حين يقول لنا : ما جئت لأدعو أبراراً بل خطاة الى التوبة؟ (مت
9 : 13).

          ما
قولنا إذن عن هذه الاشياء؟ لأن نعمة المخلص قد قصدها أصلاً لإسرائيل وحده ايضاً في
بادئ الأمر. لأنه أرسل فقط، كما يؤكد هو نفسه "الى خراف بيت اسرائيل
الضالة" (يو 15 : 21). وفي الحقيقة فإن الذين سيؤمنون منهم، سينالون حياة
ابدية. لكن بعض الذين يحيون حياة أكثر نبلاً، وهو باحثون عن الحق، ينالون نعمة
الله الآب العامل فيهم لخلاص بالايمان، وهو قد خلصوا، لكن الفريسيين المتكبرين،
ورؤساء الكهنة قساة القلوب معهم، وكبار الشعب لم يؤمنوا، رغم انهم قد سبق وتعلموا
من موسى والأنبياء – لكن إذ أظهروا في النهاية بسوء مشورتهم أنهم "غير
مستحقين للحياة الأبدية" (أع 13 : 46) لم ينالوا الاستنارة التي من الله
الآب، وأنتم ايضاً لكم في ذلك مثال في الكتابات القديمة. لأنه كما كان الأمر
بالنسبة للذين لم يؤمنوا بالله في البرية، أنهم حرموا من دخول أرض الموعد، هكذا
أيضاً بالنسبة للذين لا يكرمون المسيح لعدم ايمانهم، ولا يمنح لهم دخول ملكوت
السموات، والذي كانت (أرض الموعد) رمزاً له – "العل الله الذي يجلب الغضب
ظالم؟" (رو 3 : 5). لأن الله إذ هو عادل بالطبيعة، سيحكم بالعدل تماماً،
وسيقيم عدله متفقاً مع طبيعته الذاتية، حتى إن كنا لا نفهم كيفية التدبير الذي
يعلو على (أفهامنا).

          ولنفعنا،
يخبرنا البشير المبارك ان يسوع عرف كل شيء، ولم يكن يجهل من من الناس سوف لا يؤمن،
ومن هو الذي يسلك بعدم تقوى ضده، لكي ندرك انه هو الله "كعالم بكل الأشياء
قبل ان تكون" (سوسنة 42).

66
"من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه الى الوراء، ولم يعودوا يمشون
معه".

          حقاً،
ما أصعب الحكمة عند الجهلاء، وما يظنه المرء يمنحهم منفعة ليس بقليلة، غالباً ما
يرونه هم ضاراً لهم. لأن الذين أصابهم مرض في بصرهم الجسداني، يكون نور الشمس
عدواً لهم، وهم يسرون بالجلوس في الأماكن المظلمة، هكذا الأمر بالنسبة لمرضى
الذهن، إذ تكون التعاليم الأصعب مكرهة لهم، وتلك التي يكتنفها الغموض بسبب معانيها
الصعبة تكون ممقوتة منهم، حتى وإن كان نفعها عظيماً، أما توافه الأمور، فهي مبهجة
لهم وأكثر قبولاً، حتى إن لم تأت من وراءها أية ميزة.

          ألا
نجد نحن ذلك صحيحاً في الحالة الراهنة؟ حين كان المسيح يكشف أمامهم السر الإلهي
والعظيم، وكان يفتح أذهانهم بشتى الأفكار على فهم كلامه، ورغم ان حجاب الهيكل، قد
ارتفع الآن، وانكشف السر عن المسكن الداخلي، فإنهم يستعفون من الكلمة السماوية
الممتلئة حكمة، فيتحولون الى جهلهم البهيمي، فهم كما يقول الإنجيلي قد
"رجعوا" ولم يعودوا "يمشون معه". وهذا في الحقيقة هو معنى
الرجوع الى الوراء، وهو يقول بالنبي إرمياء ايضاً لأورشليم العنيدة التي بلا فهم،
حاضنة الجاحدين "تركتني وارتدت عني يقول الرب" (إر 15 : 6 س). لأن
الرجوع الى الوراء، يتبع في الحقيقة رفض الصالحات، والله هو كلي الصلاح. لهذا فإن
التعساء من الناس قد رجعوا الى الوراء، وما عادوا يمشون مع المخلص مرة أخرى، بل
انعطفوا الى مسالك أخرى، وانحرفوا الى شهوتهم المعتادة.

          ولكن
دعنا نفحص الأمر مرة أخرى، لنعرف إن كنا لم نجد رمز هذا ايضاً في أسفار موسى.
فحينما سافر بنو اسرائيل مسافات طويلة، وعبروا تلك البرية الموحشة، وقد بلغوا الآن
أرض الموعد نفسها، فإن يشوع بن نون وآخرين معه قد أُرسلوا بناءً على أمر الهي
ليتجسسوا عليها. لكنهم لما تجسسوا على الأرض كلها وعادوا الى موسى، بدأ البعض في
الحديث الى الجمع بكلمات مرة. إذ قالوا إن الأرض التي تجسسنا عليها يقطنها سكان
قساة، ونحن رأينا أبناء العمالقة هناك، وانتهى حديثهم بإضافة هذه الأشياء لإلقاء
الرعب في قلوب السامعين. لكن يشوع : حاول بعدهم أن يشيد بمحاسن الأرض، وحثهم
قائلاً "الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها جيدة جداً جداً. إن سر بنا الرب
يدخلنا الى هذه الأرض" (عدد 14 : 7، 8). لكن أجداد اليهود أصروا على أنهم
لابد ان يرجموا يشوع : وقد حكموا على الله القادر على كل شيء بأنه عاجز
"وجلسوا وبكوا" كما هو مكتوب (عد 11 : 4)، وهم قد أثاروا رب الجميع بسبب
ذلك. ولكنهم إذ كانوا هكذا عديمي الإيمان ومهتاجين، سقطوا عن نوال الوعد : إذ يقول
الرب "أقسمت في غضبي ألا يدخلوا راحتي" (مز 95 : 11س). وماذا بعد أيضاً؟
إن الله يأمرهم بالعودة مرة أخرى، لأنه يقول لموسى "انصرفوا غداً وارتحلوا
الى القفر في طريق البحر الأحمر (بحر سوف) (عد 14 : 25). لأنهم إذ هم لن يدخلوا
الأرض التي دعوا اليها، قد أرسلوا للالتفاف حولها، مضطرين الى اقتفاء نفس الطريق
مرة أخرى. فهم لن يتتبعوا كلمات يشوع، وعند سماعهم بالأرض الطيبة، لم يكرموا
الناصح بموافقتهم، لذلك فما عاناه أولئك آنذاك، قد فعله هؤلاء الآن أيضاً. لأنهم
بعدما تعلموا طريق الحياة الأبدية، وحثهم الرب على الإسراع الى ملكوت السموات،
نجدهم يثورون عليه لكفرهم : ولهذا قد "رجعوا الى الوراء"، فخسروا
بضلالهم تقدمهم الى الأمام مع مرشدهم نحو الخلاص.

67
"فقال يسوع للاثنى عشر : ألعلكم أنتم أيضاً تريدون ان تمضوا؟

          لم
يحث ربنا يسوع المسيح الرسل القديسين على تركه، ولا هو أعطاهم مطلق الحرية على فعل
ذلك، ولم يسمح حتى لهم بالرجوع عن طريقهم وكأنهم لن يلحقهم ضرر من جراء ذلك، بل
بالحري هو يحذرهم حسناً، انهم ان لم يكونوا أفضل من اليهود في سلوكهم غير المهذب،
فإنهم يرسلون بعيداً، فلا يعودوا بعد معه، بل يرحلون الى الهلاك، لأنه ما هو ثمين
في عيني الله، ليس هو على الإطلاق عدد العابدين، بل هو يسمو بايمانهم الصحيح حتى
لو كان عدد المؤمنين قليلاً. لهذا يقول الكتاب الالهي ان كثيرين هم الذين وجهت
اليهم الدعوة، لكن المختارين فقط هم الذين يتم قبولهم، وهؤلاء الذين يقبلون هم
قليلون جداً. وهذا ما يشهد به لنا الله الكلمة نفسه. لهذا يبدو الأمر كما لو ان
المخلص قال لتلاميذه، إن كنتم تؤمنون بكلماتي دون تردد، وان كففتم عن التذبذب في
المشيئة، فإنكم تقبلون السر، بإيمان بسيط، وإن كان الأمر يبدو لكم مراً ومليئاً
بعار لا يحتمل، لأنكم تظنون ان كلماتي صعبة، وإن كنتم ترفضون القول بأسلوب اليهود
"كيف يقدر هذا ان يعطينا جسده لنأكل" (52)، فإني بفرح سوف أراكم معي
وسوف أتهلل للحياة معكم، وسوف أحبكم كخاصتي، لكن ان اخترتم ان يكون فكركم مثل
الذين رجعوا الى الوراء، فعليكم ان تهربوا معهم، وهم يجرفونكم معهم حقاً. لأن
العابدين لن يخذلوني، إذ يرون ان رسالة الإنجيل لن يكرز بها في اليهودية وحدها، بل
هي تطوف الآن في العالم كله، وتدعو الناس جميعاً من كل الجهات الى شركة واحدة،
وتجمعهم معنا في يسر الى معرفة الحق. وكما يقول بولس "هوذا لطف الله وصرامته،
أما الصرامة فعلى غير المؤمنين، وأما اللطف فللذين يعترفون به "إن هم ثبتوا
في لطفه" كما يؤكد بولس مرة أخرى "وإلا فإنهم يقطعون" (رو 11 :
22). "لأنه إن كان الله لم يشفق على الأغصان الطبيعية" (رو 11 : 21)،
فإنه لن يشفق على الذين تم تطعيمهم كأغصان. فليعلم إذن الذي يعرج عن الايمان في
حماقة وليتعلم من تلك الأمور، إنه إن لم يكف عن مثل هذا الداء، فسوف يرجع الى
الوراء، ولن يكون فيما بعد، له أي مرشد الى الحياة الأبدية، وسوف يسقط الى الهاوية
تعيساً، وهناك ينوح على سوء مشورته. لأنه الرب يقول "هناك يكون البكاء وصرير
الأسنان" (مت 8 : 12).

          ومع
ذلك فمن المحتمل ان درساً آخر نافعاً ينقله يسوع لنا، بقوله لتلاميذه "ألعلكم
انتم ايضاً تريدون ان تمضوا؟" لأنهم إن لم يظن بهم ايضاً انهم محمولون
بالحماقة اليهودية، وقد تعثروا مع غير المؤمنين، أو من اي طريق آخر قد يصيحون ضده
معهم، وكأنه علم أموراً صعبة، وحاول ان يرشد سامعيه الى معرفة المستحيلات، فإنه
لنفعهم يستفسر منهم إن كانوا قد رغبوا في المضي معهم، لهذا فهو يدعوهم الى
الاعتراف بالإيمان الصحيح الذي بلا عيب، وهذا ما حدث فعلاً.

 

الفصل
الرابع

أن
خيمة الاجتماع المقدسة كانت رمزاً للمسيح، وهي التي قادت الشعب في البرية، وان
التابوت الذي كان فيها والسراج والمذبح، وأيضاً البخور والذبيحة، كلها ترمز للمسيح
نفسه.

68
"فأجابه سمعان بطرس، يارب، الى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك".

          يتكلم
الجميع بواسطة فم واحد، حافظاً المعرفة التي هي بالحق تناسب القديسين جداً، حتى
أنهم يعطون في ذلك ايضاً مثالاً يحتذى به عند أولئك الذين يأتون بعدهم، ليشهدوا
بالحكمة الفائقة المثيرة للإعجاب لأنه كان يليق ان يتكلم هؤلاء في أذني سيدهم، دون
ان يسرع البعض في ارتباك ليصلوا قبل الآخرين، متمسكين بالحديث بلا ترتيب، بل في
حكمة يتهيأون لتمهيد الطريق لأولئك الذين لهم المكانة الأولى في الحكمة، وايضاً في
الرتبة. لهذا يقول بولس ايضاً "ليتكلم الأنبياء اثنين او ثلاثة،
وبترتيب" (قابل 1كو 14 : 27، 29). لأنه ليس لأنهم مكرمون بنعمة البنوة، يتعين
عليهم ان يتحدثوا بغير ترتيب، بل لأنهم كانوا حكماء، ولهذا أمروا ان يتحدثوا بأكثر
حكمة الى سامعيهم. إذن كان الفعل فعل حكمة يليق بالقديسين ان يدعوه هو وحده (أي
بطرس) ليجاوب عن الجميع، وهو الذي له الصدارة في المكان. لهذا يقول "الى من
نذهب" بدلاً من قوله، من سيرشدنا مثلما تفعل أنت؟ أو الى من نذهب، ونجد ما هو
أفضل؟ "كلام الحياة الأبدية عندك" وهو ليس بالكلام الصعب، كما يقول
أولئك، بل هو الكلام الذي يرفعنا الى أفضل الأمور كلها، الى الحياة التي بلا
نهاية، والتي لا تضمحل : إني اعتقد ان هذا الأمر واضح لنا تماماً من تلك الكلمات
التي يجب علينا ان نجلس بجوار المعلم الواحد الوحيد، المسيح، ونلتصق بلا انقطاع
وبلا انفصال عنه، ونجعله سيدنا، الذي يعرف حسناً كيف يقود أقدامنا الى الحياة التي
بلا نهاية، لأنه هكذا، وهكذا فقط ينبغي علينا ان نرتقي الى المنازل السماوية
الالهية ونسرع الى كنيسة الأبكار، لنعيد بالصالحات التي تفوق ادراك الانسان. لأن
ذلك شيء صالح وجدير بالتحية ان نشتهي ان نتبع المسيح وحده وان نكون معه الى الأبد،
أن نفس طبيعة الشيء سوف تبرهن على ذلك دون شك : مع هذا فليس قليلاً ان نراه من
العهد القديم.

          حينما
تخلص الاسرائيليون من طغيان المصريين واندفعوا نحو ارض الموعد، امرهم الله بألا
يقوموا بأية مسيرات غير منتظمة، فمعطي الناموس لن يدع أحداً يسير حسب هواه. لأنه
ما من شك انهم سيضلون إذ لا قائد لهم. لهذا كتب ايضاً كمثال لنا، في سفر العدد
"ويوم نصب مسكن الرب غطته سحابة، اعني خيمة الشهادة، وعند الليل كانت عليه
كمنظر نار الى الصباح. وكان كذلك دائماً. تغطية السحابة نهاراً ومنظر النار ليلاً.
وكان إذا ارتفعت السحابة عن خيمة الاجتماع، يرحل بنو اسرائيل، وحيث حلت السحابة،
كانوا ينصبون خيامهم : بحسب أمر الرب كان يرحلون، وبحسب أمره كان بنو اسرائيل
يحفظون أمر الرب فلا يقومون. وبصوت الرب كانوا ينزلون، وبأمر الرب كانوا
يرتحلون" (عد 9 : 15-18س).

          ها
أنتم ترون كيف أمرهم الرب ان يتبعوه، وان يرتحلوا مع ارتحال السحابة، وان يتوقفوا
ايضاً ويستريحوا معها. لأن خلاص بني اسرائيل كان مع مرشدهم، وهو خلاصنا نحن ايضاً،
وعلينا الآن ألا نترك المسيح. لأنه كان معهم في القديم في هيئة خيمة الاجتماع
والسحابة والنار. لكن ترتيب الرواية سيتحول (بمقدار ما نستطيع نحن) الى التفسير
الروحي، لأنه كما هو مكتوب، حين "بنت الحكمة لها بيتاً" (أم 9 : 1)،
ونصبت لها الخيمة الأكثر حقاً، أعني، هيكل العذراء، فإن الله الكلمة الذي هو في
حضن الله الآب، قد نزل بكيفية غير مدركة والهية، والحكمة صار انساناً، حتى أنه
للذين قد نالوا البصيرة فعلاً، ويسكلون كما في النهار كما يقول بولس (رو 13 : 13)،
يكون لهم سحابة تظللهم، ويضع نهاية للهيب شهواتنا من الضعفات : لكن بالنسبة لأولئك
الذين لا يزالون جهلاء، وضالين، ويعيشون كما في ليل وظلمة، فإن النار تكون لهم
لتعطي نوراً، وتنقلهم الى حرارة الروح. لأننا نؤمن ان الصالحين حارون بالروح. لأني
اعتقد انه ليس لأي سبب آخر تظهر السحابة فوق مسكن الرب في النهار والنار في الليل،
إلا بسبب قد ذكرناه قبلاً. لكنه حث أولئك الذين عين لهم ان يتبعوه، ألا يمكثوا حسب
رأيهم في ترحالهم، بل ان يتحركوا مع المسكن، وان يتوقفوا معه، حتى أنه في مثال مرة
أخرى يمكن لكم ان تفهموا ما قاله المسيح "إن كان أحد يخدمني فليتبعني وحيث
أكون أنا، هناك ايضاً يكون خادمي" (يو 12 : 26). لأن الثبات في اتباع الرب،
والدوام على الالتصاق به يشار اليهما بملازمته بغير انقطاع. ومرافقة المسيح المخلص
وابتاعه، لا يفهم على الإطلاق انه بالجسد، بل يمكن بلوغها بالحري بالفضيلة عملياً،
فيما يخص التلاميذ الأوفر حكمة إذ قد ثبتوا ذهنهم، فرفضوا الانقياد الى الهلاك،
بذهابهم الى الوراء مع الذين لم يؤمنوا، لهذا كان صراخهم مسبباً، الى من نذهب؟
وكأنهم يقولون، معك سنبقى وبوصاياك سنلتصق الى الأبد، وسنقبل كلماتك، دون ان نعثر
بها، ولا نعتقد مع غير المتعلمين ان ما تقوله صعب فيما ورد في ارشادك، بل بالحري
نفكر "ما أحلى كلماتك في حلقي، هي أحلى من العسل وشهد العسل في فمي" (مز
119 : 103س).

          هذا
هو إذن معنى هذا النص. لكن كون خيمة الاجتماع كانت بالنسبة لشعب العهد القديم
رمزاً للمسيح فهو ما سنعرفه، باستخدام ذهن رصين في الأمور التي قيلت بخصوصها في
كتابات المقدس موسى. إن حديثنا حول هذه الأمور قد يبدو للبعض استطرادياً، لكنه
حديث سيعطي منفعة ليست بقليلة، لأني أرى أنه علينا في غيرة ان نتفحص هذه النقاط
متبرئين من كثر انتقادات اولئك الذين يلوموننا بغير حق.

          ان
الوحي الالهي هو اذن على هذا النحو : لأننا سنعرضه بترتيبه، منقبين بقدر المستطاع،
ظل الحرف، "وقال الرب لموسى : في اليوم الأول من الشهر الأول تنسب مسكن خيمة
الاجتماع" (خر 40 : 1، 2س).

          وقد
يسأل الأكثر حصافة في التعلم ما الذي حدا برب الجميع ان يأمر بالمسكن، فيقام في
"يوم واحد" وليس في اثنين، او ثلاثة، وفي الشهر الأول، وليس في أي شهر
ببساطة، بل في الأول، إن مثل تلك الأمور تحتاج منا الى مزيد من الفحص، إذ لا شيء
من الأمور المذكورة في الكتب المقدسة قد ذكر بدون داع – لهذا (لأننا سنتبع حديثنا
عن تلك الأمور) فإن مسكن خيمة الاجتماع الذي نصب يشير الى الجسد المقدسة للمسيح،
وغقامة بيت خيمته الثمين، "لأنه فيه سر ان يحل كل الملء، كل ملء اللاهوت
جسدياً" (كو 1 : 19، كو 2 : 9). وهو يوصينا ايضاً ان تنصب في يوم واحد، وذلك
في منتهى الحكمة والتدبير، لكي بواسطة اليوم الواحد تفهمون الحياة القائمة، التي
بها وحدها صار انساناً. ومن اللائق ان نفهم بالهلال الجديد، لا شيء سواه سكنى
مخلصنا الذي يجددنا، تلك السكنى والتي بها "الاشياء العتيقة قد مضت، وهوذا
الكل قد صار جديداً" (2كو 5 : 17). لأن فصلاً جديداً قد استعلن لنا في
المسيح، طارحاً عنا عتق العبادة الناموسية، ومجددنا الى حياة جديدة عذبة خلال
تعاليم الانجيل، أجل، ومجدداً ايضاً الى باكورة البر، هؤلاء الذين اصابتهم الخطية
بالشيخوخة، فصاروا قريبين من الاضمحلال" (عب 8 : 13)، ومبطلاً عتق الفساد
الذي حل بنا، وواهباً جمالاً مع جدة عدم الفساد لأولئك الذين بالايمان قد اسرعوا
الى الحياة الأبدية، لأنه "إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة" كما
هو مكتوب (2كو 5 : 17).

          لكن
الرب يأمر ان تنصب خيمة الاجتماع الالهية في الشهر الأول، حينما يشرق جمال زمن
الربيع، غاسلاً كآبة الشتاء، والرض في نعومة تدلل الآن بالشموس الأنقى والأسطع،
"والقرون تزهر" (نشيد سليمان 2 : 13س). ويجد الكلام متعة بالغة في شذى
عطور الأزهار، وتنضر السهول بالعشب، وتنتصب الحقول كلها بسنابل القمح، كما يقول
بعض شعراء الاغريق، حينما "يمضي الشتاء" كما هو مكتوب، "وينتهي
المطر ويزول، ويأتي زمان الشذب" (نشيد سليمان 2 : 12س).

          كل
هذه الأمور ستدركونها روحياً، ان الشتاء في نهايته والمطر قد اوشك على الزوال، وهي
التجارب التي تقع علينا بسبب طغيان الشيطان، وتلهفه على تجريدنا من كل شيء، لأن
قوة الشياطين قد زالت في أيام المسيح، واشرقت علينا الشمس الساطعة، لنشهد بما
يقوله الله الآب "وتشرق شمس البر عليكم" (مل 4 : 2)، باعثة دفء الروح
الى البر، للذين طرحتهم الخطية بلا حراك. أما الكروم الروحية والزهور وسنابل
القمح، فإنكم ستفهمون انها تعني القديسين الذين يمتازون في تقوى كثيرة نحو الله،
ويطرحون ثمر الفضيلة المتعدد الألوان. وعلينا ان نوجز ونقول ان الربيع يأتي
بالزهور ويمهد الأرض كلها لتحمل العشب وتتوج المروج بالبراعم الجديدة، وتجدد شباب
الجذوع التي جفت طويلاً تحت وطأة الشتاء غير المحتمل، وتضفي عليها شكلاً ابهى،
وتجعلها تزهر بأوراقها المعتادة، وتهيئ الكرام صاحبها ان يتمجد في ثمارها
الطبيعية. ومثل هذا الشيء سنجده يحدث بخصوص انفسنا ايضاً، لأننا نحن الذين اجدبتنا
الخطية طويلاً لما سادت علينا، وحرمتنا من ثمار الفضيلة، قد احيينا الى البر في
المسيح، ونحن الآن نثمر ثمراً جديداً عذباً خلال الايمان، لخلاص أرواحنا. هكذا
نفهم حسناً ذلك الذي قيل بأحد الأنبياء القديسين كما في شخص المسيح "أنا الذي
يتكلم أنا ها هنا، كالربيع بين الجبال" (اش 52 : 6، 7س). لكن ما يفعله
الربيع، اي فصل الربيع فوق الجبال، فقد تحدثنا عنه تواً.

          إذاً
للنفع يأمر ان تنصب الخيمة في "يوم واحد" واضعاً مثالاً للمسيح، حتى
تدركوا لماذا كان موته مرة واحدة عن الجميع في هذا الزمان الحاضر. لأنه لن يولد
مرة اخرى، فيما بعد، ولن يموت، إذ قد ولد ومات مرة واحدة عن الجميع وقام من
الأموات. لأن القيامة هي نصب خيمة الاجتماع المقدسة، لابد وان تتبع موته
بالضرورة، لكن ذلك قد تم في الشهر الجديد، لأننا في المسيح لنا حياة جديدة، لأن كل
من فيه، هم خليقة جديدة. والشهر الأول يؤخذ للدلالة على تجديد الطبيعة البشرية من
الموت والفساد الى الحياة وعدم الفساد وتحولها أخيراً من الجدب الى الإثمار،
وهروبها من طغيان الشيطان، مثلما مضي الشتاء الان وبلغ نهايته. وهو يوضح ايضاً
بطريقة اخرى لنا عمانوئيل بالمثال والشكل قائلاً "وتضع فيه تابوت الشهادة.
وتستر التابوت بالحجاب" (خر 40 : 3). لأنه في السابق كان الكلمة موصوفاً في
خيمة الاجتماع الكاملة، لأنها كانت مسكن الله الذي يسكن فيها. لتشهد عن الجسد
المقدس للمسيح، ونفس الشيء يمثل لنا بواسطة التابوت، كل على حدة، لأنه كان يبني من
خشب غير فاسد، لتفهموا انتم ان جسده غير قابل للفساد، وكان يغطى "بذهب نقي من
خارج ومن داخل" (خر 25 : 11). كما هو مكتوب، لأن كل ما يخصه هو ثمين وملوكي،
أعني اللاهوت والناسوت، وكما يقول بولس "لكي يكون هو متقدماً في كل شيء"
(كو 1 : 18). ويؤخذ ذهب كمثال للكرامة والتقدم في كل شيء. إذ كان التابوت مصمماً
من خشب لا يفسد ومغشى بذهب، وفيه الشريعة الإلهية موضوعة داخله، كمثال لله الكلمة
الساكن في جسده المقدس والمتحد به. لأن الشريعة كانت ايضاً هي كلمة الله، بالرغم
من انها ليست هي الأقنوم الكلمة. وكان التابوت يستر بالحجاب. لأن الله الكلمة
المتجسد لم يكن منظوراً من كثيرين، وله جسده الشخصي كغطاء، ومخفي داخل جسده الذاتي
كما بحجاب، لهذا بينما لم يعرف البعض كرامته الالهية، فقد حاولوا ذات مرة ان
يرجموه، متهمينه بجريمة انه وهو انسان، قال إنه إله، وفي وقت آخر، لم يستنكفوا ان
يقولوا "أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه، فكيف يقول
هذا إني نزلت من السماء" (يو 6 : 42). إذن قد طرح الحجاب على التابوت، ليرمز
الى ان كثيرين لن يعرفوا يسوع، ولهذا كان التابوت ايضاً رمزاً له، ولهذا ايضاً كان
يسبق بني اسرائيل في البرية حالاً محل الله، لأنه كان قائد الشعب. وكان المرنم
شاهداً على ذلك بقوله "اللهم عند خروجك أمام شعبك، عند صعودك في القفر، الأرض
ارتعدت، والسموات ايضاً قطرت" (مز 68 : 7، 8). لأنه فيما كان التابوت يسير
أمامهم ويتقدمهم، كان الله يعلن عنه جهاراً أنه تقدمهم. ويمكن ان يتوفر لكم دليل
أوضح على ذلك بخصوص هذا الأمر. وقد أمر الله مرة بني اسرائيل بواسطة موسى ان
يصعدوا بجسارة الى جبل سعير لحصار الأموريين، لكن الذين تلقوا الأمر سقطوا في جبن
بضعفهم، وكانوا ينسبون النجاح لقوتهم الذاتية، وليس بالحري للثقة في العون الذي من
فوق، لهذا جلسوا وابتدأوا ينوحون بجوار الجبل كما هو مكتوب (تث 1 : 7، 19، 45).
وقد اثار عملهم هذا معطي الناموس تماماً، فهددهم بأنه لن يأتي بهم الى أرض الموعد.
وتأثروا أخيراً بالتهديد، واندفعوا الى توبة متأخرة عن زمانها وحاولوا الصعود الى
الجبل، فوقعوا في عصيان ثان، واشهروا اسلحتهم ضد الأموريين. لكن الله سبق وأنبأهم
بالنتيجة بلسان موسى : لأنه قال "قل لهم لا تصعدوا ولا تحاربوا لأني لست في
وسطكم لئلا تنكسروا أمام اعدائكم" (تث 1 : 42). لكنهم إذ كانوا مرضى بكل
أنواع العصيان، غصبوا أنفسهم وصعدوا الى الجبل، كما هو مكتوب. "لكنهم تجبروا
وصعدوا الى رأس الجبل، وأما تابوت عهد الرب، فلم يصعد معهم، لأنه بقى في
المحلة" (عد 14 : 44).

          أترون
كيف أنه عند قول الله "أنا لست في وسطكم"، لم يصعد التابوت مع العصاة،
مظهراً بوضوح أكثر لهم ليفهموا ان التابوت يأخذ مكان الله قائدهم؟ أجل وقد حمل
التابوت بواسطة الكهنة وطافوا به حول اريحا فسقطت أسوارها العالية، ليس باستخدام
آلات حرب ومجانق، بل بالحري بأبواق وصياح : وهذا أيضاً نجده صحيحاً في المسيح.
لأنه هو الذي يحمله القديسون والأتقياء فيطرحون به قوة الشيطان بأكملها، لا بأسلحة
بل بصيحة وببوق، اي بالكرازة الرسولية والانجيلية، وقبول كل الشعب، معترفين بربهم
في استقامة الايمان. هذا نراه قد تم ايضاً في التماجيد الروحية (الذكصولوجيات)
والبوق الكهنوتي، اي صوت الخادم الذي يتقدم الشعب، وهكذا تسقط وتتبدد قوة
المعاندين "لأن اسلحتنا ليست جسدية، بل قادرة بالله" (2كو 10 : 4).

          وكون
المسيح محمولاً بقديسيه ويستريح فيهم، فهذا قد أعلنه حبقوق النبي قائلاً
"ركبت خيلك، مركباتك مركبات الخلاص" (حب 3 : 8). ويعلمنا المخلص نفسه
ايضاً، قائلاً لحنانيا بخصوص بولس "اذهب لأن هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي
أمام أمم.." (أع 9 : 15).

          ونقرأ
المزيد من الخروج، إذ يقول النص "وتدخل المائدة وترتب ترتيبها. وتدخل المنارة
وتضع سروجها" (خر 40 : 4). ستفهمون ان المسيح هو المقصود بكليهما، وهو يشبه
بهيئة مائدة والخبز موضوع عليها، لأن فيه يقتات الجميع الى حياة أبدية، حسب قوله
هو "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء ويعطي حياة للعالم، إن أكل أحد من
هذا الخبز يحيا الى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة
العالم.." (يو 6 : 51). هذا هو إذن الذي كان موضوعاً على المائدة، اي الخبز
الذي يرمز الى الجسد المقدس للمسيح الذي يقوت كل البشر الى الحياة الأبدية. ولكن
لما جاع الطوباوي داود والذين كانوا معه كما هو مكتوب، فإنهم أكلوا خبز الوجوه (1
صم 21 : 6).

          هيا
نرى إن كان لهذا الأمر شيء ما سري قد سجل لنا. لم يكن من الجائز شرعاً ان يتذوق
أحد خبز الوجوه إلا الكهنة وحدهم، بحسب أمر الناموس. لكن داود والذين معه، إذ هم
ليسوا من السبط الكهنوتي، أخذوا من الطعام الأقدس، حتى يمكن ايضاً ان يرمز ذلك الى
ايمان الأمم وجزئياً الى شعب اسرائيل. لأن المسيح كان من المتوقع مجيئه الى
اسرائيل، كما ان الذين كانوا قديسين بالأكثر "من أجل الآباء" (رو 11 :
28)، والناموس، لكن جموع الأمم وعلى الرغم من ضلالهم، ودنسهم، قد دخلوا هم ايضاً
بشكل ما، وأكلوا من خبز الحياة، وقد صاحبهم داود كأنه يرمز الى المحفوظين من
اسرائيل، الذين يدعوهم اشعياء ايضاً "بالبقية" (اش 10 : 22). لأن كثيرين
منهم قد آمنوا بالمسيح.

          هكذا
سندرك المسيح، من خلال المائدة المقدسة : لكنه هو ايضاً المرموز له بالمنارة، إذ
يعطي النور لكل البيت، اي للعالم، لأنه يقول "أنا هو نور العالم" (8 :
12 مع عد 8 : 4س).

          لكنه
يمسك بسبعة مصابيح وليس بمصباح واحد، لأنه يعطي بصيرة بطرق عديدة، وبنعم متنوعة،
يضيء نفوس المؤمنين، هو ايضاً من الذهب الخالص، لأنه فوق الكل، كما انه ثمين. وله
ساق صلبة (لأنه هكذا مكتوب) لأنه في المسيح ليس شيء فارغ أو خفيف. وبالمنارة زهور
السوسن ايضاً بسبب رائحة القداسة الحلوة، حسب القول "أنا نرجس السهل،
سوسنة الأودية" (نش 2 : 1). وتشير أنابيب زيتها ايضاً الى خدمات النعمة
الالهية. ويشهد ايضاً زكريا النبي ان غصني زيتون حولها، حتى تفهموا ان الشعب الذي
ينال المراحم، نوعان، وهما اللذان يدعوهما "ابني الزيت" والذي يقول
عنهما انهما "الواقفان عند سيد الأرض كلها" (زك 3 : 14)، وعلى الرغم من
ان اغصان الزيتون ترى على ضوء المصباح، فإنه يعطي أوضح بيان على ان المسيح هو
المنارة، الذي بالطاعة والأمانة قد هيأ بواسطته كل من شعبي الأمم واليهود.

          وهو
يستمر بطرق شتى مشيراً لنا اليه "وتضع مذبح الذهب للبخور أمام تابوت العهد،
وتعلق ستارة على باب المسكن (خيمة الشهادة). وتضع مذبحاً للمحرقات، أمام باب مسكن
خيمة الشهادة وتغطي المسكن، وكل ما فيه تقدسه حولها" (خر 40 : 5، 6س) لأننا
يجب علينا ان نلاحظ كيف ان المذبحين يمثلان لنا المسيح، لأن الله بعد ان أمر ان
يعد المذبح الذهبي، الذي كان عليه البخور أمام التابوت، وقال ان توضع المعلقات
أمام أبواب المسكن، حتى لا يرى أحد الداخل، فإنه يأمر ان يكون مذبح المحرقات
قائماً عند باب خيمة الشهادة. فلا يكون مستوراً ولا مخفياً، لأنه كان بدون حجاب.
أنظروا اليه إذن من خلال مذبح البخور الصاعد كرائحة ذكية الى الله الآب الآن، هذا
ما يشير اليه البخور، ومن خلال مذبح المحرقات، مقدماً كتقدمة وذبيحة عنا. لكن
المذبح الذهبي كان مستوراً بحجاب، لأن مجد المسيح كان مخفياً؛ أما مذبح التقدمة،
حيث تقدم الذبائح، فكان ظاهراً مرئياً، لأن موت المسيح كان ظاهراً معروفاً للجميع.
والوضع ليس هكذا بلا تمييز، لأن واحداً كان قبالة التابوت، والآخر عند أبواب
المسكن. وموضع المذبح الذهبي هو أمام التابوت، كما لو كان في حضرة الله الآب، مما
يلمح بشكل غامض الى ان مجد الابن عجيب، كما قيل "لا أحد يعرف الابن الا
الآب" (يو 10 : 22). لكن موضع مذبح التقدمة هو عند أبواب المسكن تماماً،
مشيراً بالرمز الى موته وذبيحته عن الجميع، وهكذا ايضاً يشير الى أننا لا نستطيع
ان نأتي الى الله الآب الا بواسطة ذبيحة المسيح، كما يقول هو "أنا هو الباب،
ليس أحد يأتي الى الآب، الا بالابن" (يو 10 : 9، 14 : 6) وقد أمر أيضاً أن
تنصب خيمة الاجتماع بحيث تشمل كل الاشياء التي بداخلها، لكي يراها الجميع انها
واحدة وليست كثيرة. لأن المسيح الذي في وسطنا هو واحد، حتى ان ادركناه بطرق شتى،
فهو خيمة بسبب حجاب الجسد، وهو تابوت يحوي الناموس الإلهي ككلمة الله الآب، وهو
مائدة أيضاً باعتباره الحياة والطعام، وهو المنارة لأنه النور الروحاني، وهو مذبح
البخور، كرائحة بخور ذكية في التقديس، وهو مذبح المحرقة، كذبيحة عن حياة العالم.
وكل الأشياء التي في المسكن هي مقدسة، لأن المسيح قدوس بكليته، وهو يعرف هكذا أنه
قدوس.

          ولما
كانت خيمة الاجتماع اذن هي قائدهم، فإن شعب اسرائيل قد أُمر ان يرحل معها، وان
يتوقفوا ان هي توقفت. هكذا فإن الله يعلمنا ايضاً ويهذبنا للمنفعة، ان نأخذ الله
الكلمة الذي تجسد لأجلنا، قائداً ومرشداً لنا، وبطاعة وصاياه دون تردد نرتفع الى
الحياة الأبدية. أما الذين لم يختاروا ان يفعلوا ذلك بعد ان تهذبوا بالأسرار
بكلمات كثيرة فقد "رجعوا الى الوراء ولم يعودوا يمشون معه" (66). لكن
الطوباوي بطرس يقول للمخلص بحكمة شديدة، الى من نذهب؟ لأنه لا يمكن ان نترك الله،
بل بالحري ان نجتهد لنبقى معه روحياً، وهذا بالحق هو الأكثر لياقة بالقديسين.

69
"ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي".

          ما
أعجب ايمان الرسل القديسين، وما أقوى طريقة اعترافهم، وما أحب وأحكم فهمهم. لأنهم
ليسوا مثل بعض الجهلاء، أو مثل الذين اعتادوا ان يصفوا كلمة المخلص بأنها صعبة،
فرجعوا الى الخلف وسقطوا، بل بكامل يقينهم قبلاً، قد دعوا الى الايمان، وهم
مقتنعون بالحق ان معلمهم كان مملوءاً بالكلمات المحيية، وانه هو معلم التعاليم
السماوية. ومثل هذا الايمان لهو ايمان وطيد الثبات، أما الايمان الذي ليس كذلك،
فمن السهل رفضه بازدراء اذ لا أصل ثابت له، وسرعان ما ينمحي من ذهن الانسان. وفي
الحقيقة فإن المخلص نفسه حينما كان يتحدث في الأمثال عن باذر البذار، كان يقول ان
الذي يسقط على الصخر وليس له أصل، يذبل سريعاً، مشيراً في غموض الى ان الذهن الذي
يجف ولا يمكنه ان يقبل الكلمة التي تلقى فيه "هو حجر" (لو 8 : 6). لأن
اليهود التعساء إذ هم الآن في تلك الحالة من الجهل المطبق، كانوا قد تعلموا بصوت
النبي القائل "مزقوا قلوبكم لا ثيابكم" (يؤ 2 : 13). لأنه مثلما يحدث قبل
إلقاء البذار، فإن من عادة الكرام ان ينصح بتسوية الأرض اولاً بالمحراث. هكذا أظن
ان الذين يقتربون لنوال الكلمات الالهية بنوع ما، عليهم أولاً ان يفتحوا قلوبهم
مسبقاً بالرغبات التي فيها، من ثم يقبلون الكلمة، فيجعلون النفس تعمل كتربة مثمرة.
لهذا وفي يقين الايمان الكامل يقول التلاميذ الحكماء جداً إنهم يعرفون ومتأكدون
انه هو "المسيح ابن الله الحي". وبحكمة شديدة ستجدون حديثهم محكماً في
ذلك القصد ايضاً. لأنهم يقولون انهم "يؤمنون ويعرفون" فيربطون الأمرين
معاً. لأن على الانسان ان يؤمن وايضاً ان يفهم. وليس معنى ان الأمور الالهية لابد
من قبولها بالايمان، ان نبتعد تماماً عن اي فحص لها، بل نحاول بالحري ان نبلغ الى
معرفة معتدلة، كما يقول بولس "كما في مرآة كما في لغز" (1كو 12 : 12).
وحسناً أنهم لم يقولوا ايضاً انهم عرفوا اولاً ثم آمنوا، بل إذ يضعون الايمان
أولاً، ويلحقونه بالمعرفة، ولكن ليس قبل الاميان، كما هو مكتوب "إن لم تؤمنوا
لن تفهموا" (اش 7 : 9س). لأن الايمان البسيط قد سبق ووضع فينا، كنوع من
الأساس، ثم بنيت المعرفة عليه فيما بعد وعلى درجات، وهي تاتي بنا الى قامة انسان
بالغ (أف 4 : 13) اي الذي في المسيح (الى قامة انسان كامل وروحي). لهذا فإن الله
ايضاً يقول في موضع ما "ها أنذا أؤسس في صهيون حجراً، حجر امتحا، حجر زاوية،
كريماً" (اش 28 : 16) لأن المسيح هو لنا بداية وأساس القداسة والبر بالايمان،
اي ليس هناك من طريق آخر، لأنه هكذا هو يسكن فينا.

          لكن
لاحظوا كيف انهم يقولون بلغة المفرد وباستخدام أداة التعريف المحددة "أنت هو
المسيح، ابن الله الحي" فاصلين بينه وبين الكثيرين الذين دعوا بالنعمة الى
البنة، باعتباره الواحد والخاص ذلك الذي هو الابن بالحق، ونحن على شبهه ابناء
ايضاً. وهم يدعونه المسيح ايضاً باعتباره هو الواحد. ولكن علينا ان نعرف انه لم
يدع المسيح بحسب ما هو عليه فعلاً او حال كونه هكذا جوهرياً، مثلما هو الابن
بالجوهر. ومع ذلك فهو واحد بالحق وبوجه خاص (لأنه ليس أحد من بين المسحاء مثله).

          ومع
هذا ومن جهة مشابهته بنا يدعى المسيح. لأن اسمه الخاص والطبيعي والمميز والحقيقي
وبالحق هو اسم الابن، اما الاسم المشترك معنا فهو المسيح. لأنه لما كان ممسوحاً،
إذ قد صار انساناً، لذلك فهو المسيح، فإن كنا نعزي حال كونه ممسوحاً الى حاجة
الطبيعة البشرية، فانه سيدرك كالمسيح فيما يخص مشابهته لنا، وليس بنفس الطريقة
التي يكون فيها الابن، ومع ذلك فهو واحد فقط بالطبيعة وبالخصوصية، قبل الجسد،
وبالجسد، وليس اثنين، كما يزعم البعض، الذين لم يفهموا عمق السر، لأن كلمة الله
الآب لم ينزل الى انسان، كما تفعل نعمة الروح حينما تحل على واحد مثلاً من
الأنبياء القديسين، بل هو نفسه "صار جسداً" كما هو مكتوب (يو 1 : 14)،
اي صار انساناً، فهو لذلك غير قابل للانقسام من بعد الاتحاد، وهو لا ينفصل الى
شخصين، حتى رغم اننا ندرك ان كلمة الله مختلف عن الجسد الذي سكن فيه. وحيث ان كل
طغمة الرسل القديسين تؤكد لنا هذا الايمان، فيما يقولون انهم يعرفون وبشكل خاص انه
هو "المسيح ابن الله". ونحن إن كنا نحسب انفسنا ننطق بالصدق، فاننا لا
نقبل هؤلاء الذين في حماقتهم لم يحجموا عن ان يضعوا بدعاً حول هذه الأمور.

70
"أجابهم يسوع، أليس إني أنا اخترتكم الاثنى عشر وواحد منكم شيطان؟

71
"قال هذا عن يهوذا سمعان الاسخريوطي، لأن هذا كان مزمعاً ان يسلمه وهو واحد
من الاثنى عشر".

          ويستمر
الرب في توبيخه لهم، وهو يحذرهم بكلمات اشد، فيستأصل ما فيهم من تراخ وإهمال يعوق
رغبتهم ان يكونوا حكماء. إذ يبدو أنه يقول تقريباً شيئاً من هذا القبيل (يا
تلاميذي هذا هو الوقت للإسراع والفطنة والذهن المدعم بالرغبة في الخلاص. لأن طريق
الهلاك هو في غاية الانزلاق، الذي يجر لا الذهن الضعيف فقط الى أسفل، بل ايضاً ذلك
الذي يظن انه قائم).

          إن
الخطية مهلكة جداً، ولها صور عديدة، تفتن ذهن الانسان بملذاتها المتنوعة، وشهواتها
الناعمة جداً، فتجرها الى حيث لا ينبغي ان يكون (وهو يقول).

          ان
حالتكم الخاصة ستكون مثالاً لما أقول. لأني سأخبركم أنني لم اختر احداً من أولئك
الذين قد رجعوا بسبب استخفافهم الآن الى الوراء، مثلما اخترتكم انتم الذين كنتم
صالحين (لأنني كإله عرفت ما فيكم، ومع ذلك امسك الشيطان بواحد منكم بسبب طمع
الربح، وأنا لم انخدع فيه بالتأكيد. لأن في الانسان إرادة حرة واختياراً حراً، أن
يذهب الى اي من الطريقين، إما يميناً، او يساراً، اي الى الفضيلة، او الى
الرذيلة).

          لهذا،
فإنه وفي الحال وبتوبيخه الأشد، يوقظ فيهم الصحوة، ويجعل كل واحد منهم أكثر ثباتاً
بالنسبة لنفسه، لأنه لم يقل بعد بصراحة من سيخونه، بل هو يلقى بنير الإثم على واحد
وحده، دون تحيد، فيضعهم كلهم أمام التحدي، ويدعوهم الى مزيد من الاهتمام والحذر،
اذ يرتعد كل واحد خشية خسارة نفسه، وفي نفس الوقت، كان الرب يصنع امراً آخر
للمنفعة لأجل ايمان تلاميذه، لأنهم حينما اعترفوا انهم عرفوا، وآمنوا بثبات، انه
هو (ابن الله)، فإنه يكشف انه يعلم بالأشياء قبل حدوثها، لهذا يظهر لنا ايضاً ان
اعترافهم به كان مؤكداً. لأن معرفة الأمور العتيدة لا تناسب إلا واحداً وحده، ذاك
الذي هو بالطبيعة الله، المكتوب عنه ايضاً "الذي يعرف كل الاشياء، قبل ان
تكون" ([viii]).
لكنه دعا الذي يفعل ارادة الشيطان، دعاه "شيطاناً"؛ وهذا حق. لأنه كما
ان "من التصق بالرب فهو روح واحد" (1كو 6 : 17)، فالعكس صحيح أيضاً.



(*) كلمة
"عبر" تعني الضفة الأخرى من البحر.

(W) وردت
لفظة
Brwma اليونانية أي
طعام، هكذا في مخطوطة القديس كيرلس (رغم أنه ليست هناك مخطوطة بهذه الصيغة للقديس
بولس) وذلك محل اللفظة العادية
KTISMA أي
خليقة.

([i]) الكلمة Panygiriarchis باليونانية تعني قائد أو رئيس اجتماع موقر.

([ii]) الاسم هو "هذه العبارة ترد مرات عديدة في كتابات القديس
كيرلس بأداة التعريف كما هي هنا وأداة التعريف موجودة ايضاً في النسخ الثلاث
الشهيرة للكتاب المقدس: الاسكندرانية والفاتيكانية، والسينائية.

([iii]) واحد من كليهما معاً "يقصد" واحد من اللاهوت والناسوت
معاً.

([iv])
دائماً ما كان
القديس كيرلس يدعو سر الإفخارستيا بلفظة "الألوجية".

([v])
هكذا جاءتنا في
المخطوطة التي قرأناها للقديس كيرلس.

([vi])
يقصد
النفسانيين، الذين يتبعون هوى نفوسهم. (المعرب).

([vii])
يقصد سر
التناول – الإفخارستيا.

(*) هكذا يقرأ نص القديس كيرلس
لرسالة يوحنا الأولى.

([viii]) سيرة سوسنة 42 (ضمن دانيال 13 في الترجمة السبعينية).

هل تبحث عن  م الأباء أثناسيوس الرسولى أقوال أثناسيوس الرسولى 05

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي