الإصحَاحُ
السَّابعُ

 

في
الجزء الأول من اصحاح (7) من (1-21) :

          يقدم
القديس كيرلس بحثاً مستفيضاً عن عيد المظال ومعناه الروحي بالنسبة للعهد الجديد
وانه يشير الى الرجاء المنتظر الذي يعطى للقديسين فيقول على لسان المسيح :
"بل بالحري أنا انتظر وقت العيد الحقيقي الذي لم يكمل بعد، وحينئذ سوف أكون
مع صحبتي نتهلل في بهاء القديسين، في مجد الآب". ويقول ايضاً ان المسيح
"صار لنا باكورة القيامة وباب عيد المظال الحقيقي".

وفي
الجزء الثاني من الاصحاح (7) :

          وفي
شرحه الآيات من (22-24) التي يتحدث فيها المسيح لليهود عن السبت والختان يوم
السبت، يقدم القديس كيرلس بحثين مستفيضين الأول عن راحة السبت ومعانيها الروحية،
والبحث الثاني : عن الختان في اليوم الثامن وعلاقته بقيامة المسيح والختان بالروح.

وفي
الجزء الثالث من الاصحاح (7) من آية (25-38) :

          أولاً
: عند تعليقه على قول الرب لليهود عن الآب "الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم
لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأني منه" (يو 7 : 27) يقول القديس كيرلس [انه (اي
المسيح) يعرف نفسه والآب يعرفه حق المعرفة تماماً… لأن الابن لا يعرف الآب بنفس
الطريقة التي نعرفه بها نحن.. فالابن الوحيد الجنس يرى ذلك الذي ولده كاملاً في
نفسه، ويرسم جوهر الآب في ذاته ويعرفه بطريقة لا يمكن الإخبار عنها لأن أمور الله
لا ينطق بها].

          ثانياً
: في تعليقه على قول الإنجيل "ولم يلق أحد يداً عليه لأن ساعته لم تكن قد
جاءت بعد" (يو 7 : 30) يقدم القديس كيرلس شرحاً مفصلاً عن ان شئون البشر ليست
خاضعة للساعات او الأوقات وان مشيئة الله هي التي توجه أمور حياتنا.

وفي
الجزء الرابع من الاصحاح (7) من آية (39 -52) :

          يتحدث
القديس كيرلس عن الروح القدس عندما يشرح قول الانجيل "لأن الروح القدس لم يكن
قد اعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد" (يو 7 : 39).

          ويشرح
القديس كيرلس هنا كيف ان الانسان الأول قد خلق في البداية في عدم فساد لأن روح
الله كان يسكن فيه قبل السقوط، ولكنه بسبب خداع الشيطان انحرف الى الخطية ونتيجة
لذلك فإن فقد الروح الذي كان يحفظه من الفساد. ولذلك لما أراد الله ان يجدد طبيعة
الانسان ويعيدها الى حالتها الأولى كان لابد ان يعطيها الروح القدس من جديد. ولهذا
جاء ابن الله متجسداً من العذراء لكي يقبل الروح القدس في انسانيته كباكورة
للطبيعة الجديدة. ويؤكد القديس كيرلس ان المسيح لم يقبل الروح كإله لأن الروح كائن
فيه بالطبيعة تماماً كما هو في الآب، ولكنه قبل الروح لأنه صار انساناً، وبواسطة
المسيح يأتي الروح الى المؤمنين. ويقول ان السبب في ان اعطاء الروح كان بعد تمجيد
المسيح اي بعد القيامة وليس قبلها هو ان المسيح بالقيامة قد صار باكورة الطبيعة
الجديدة. ولذلك فبعد القيامة نفخ المسيح الروح القدس في التلاميذ قائلاً :
"اقبلوا الروح القدس". ويؤكد ان الذين يؤمنون بالمسيح لا يكون لهم فقط –
مجرد استنارة من الروح القدس – بل ان الروح نفسه يسكن فيهم ويجعل اقامته فيهم
ولذلك يدعون بحق "هياكل الله" وهو ما لم يدع به أبداً اي واحد من
الانبياء القديسين. ويختم بالقول ان معنى هذه الآية هو "ان سكنى الروح القدس
في البشر هي سكنى كاملة وبالتمام".

          ملحوظة
: نذكر القراء الأحباء ان اقتباسات القديس كيرلس من العهد القديم هي من الترجمة
السبعينية والتي رمزنا لها بعد كل شاهد من العهد القديم بالحرف (س) بعد الشاهد.

          ولإلهنا
الصالح محب البشر الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس كل تمجيد وسجود وتسبيح
الآن والى الأبد آمين.

 

الأصحاح
السابع

الفصل
الخامس من الكتاب الرابع

(حسب
تقسيم القديس كيرلس)

عن
عيد المظال، الذي يشير الى إعادة الرجاء المتوقع للقديسين، والقيامة من الأموات

حول
الكلمات، "وكان عيد اليهود عيد المظال قريباً.

1
"وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل، لأنه لم يرد ان يتردد في اليهودية، لأن
اليهود كانوا يطلبون ان يقتلوه.

2
"وكان عيد اليهود عيد المظال قريباً".

          (وهو
يقول) "بعد هذا"، اي بعد كل هذه الكلمات والأفعال، فإن المسيح وبسرور
أكثر يعود مرة أخرى ليتردد في الجليل : لأن ذلك هو معنى "كان يسوع يتردد – او
اعتاد ان يمشي" حسب افتراضي، ومع ذلك فإنه يُظهر ان كونه معهم لم يكن
باختياره الشخصي، بل قد حدث حسب الضرورة، وبذلك يضيف السبب (في تردده هناك).

          (ويقول
يوحنا) "لأن اليهود كانوا يطلبون ان يقتلوه". وكان قد قدم نفسه زمناً
طويلاً للغرباء، رافضاً "ان يتردد في اليهودية". ولكني افترض مرة أخرى
انه في تلك الكلمات لم يكن اسرائيل يعاب بسبب ضلاله الشديد، ان كان الوجود حقاً
بين (الأمم) الجليليين قد ظهر أنه افضل كثيراً من الحياة مع اسرائيل. وهذا ما نطق
به ارميا النبي "قد تركت بيتي، رفضت ميراثي، دفعت نفسي الحبيبة ليد
أعدائي" (إر 12 : 7س).

          لأن
جعل المسيح طريداً بسبب كفر أولئك الذين يضطهدونه، وتردده وسط الجليليين، كيف لا
يكون واضحاً انه دفع نفسه ذاتها الى ايدي أعدائها؟ لأن الأمم أعداء المسيح، حال
كونهم يقدمون العبادة لآخر، ويعبدون المخلوق دون الخالق، لأنهم لم يكونوا قد آمنوا
به بعد. وهذا ما سوف يعلمه لنا قائلاً : "من ليس معي، فهو علي" (لو 11 :
23). لكنني افترض ان كل واحد سوف يقول ان الأمم لم يكونوا مع المسيح، قبل معرفتهم
الحقيقية لله وايمانهم به، لهذا كانوا "ضده"، ومن ثم فهم في رتبة
أعدائه. وإذ كان الأمر كذلك وقد عرف بكل وضوح، أنه ثمة كرهاً شديداً كان يمارس بين
شعب اسرائيل ضده، حتى انه كان في حال أحسن، وهو يعيش في وسط أعدائه، وقد جعل
إقامته مع أولئك الذين أظهروا نحوه لطفاً أكثر، من تلك التي وسط أقربائه حسب الجسد،
والمفترض ان تكون أكثر ملائمة، وعلى ضوء الأساس، كان من المفروض ان يحبوه.

          إذن
ولهذا السبب، رحل المسيح الى الأمم، وبفعله هذا، كان كأني به يقول، إنهم إن لم
يحجموا عن اضطهاده، وبحماقتهم المجنونة يحطمون من أحسن اليهم، فإن المسيح سوف يعطي
ذاته بالكامل للذين هم من خارج، ويذهب الى الأمم، وكما قلنا إنه ألمح الى ذلك
بفعلته هذه، فإننا مرة أخرى سوف نجد أنه بواسطة رمز من القديم قد هدد برحيله من
اورشليم.

          ولما
كان (الله) يأمر بشرائع الذبائح، كما هو مكتوب ايضاً في اللاويين، وإذ قد أشار
مسبقاً، كصورة للمسيح، ان يأتوا بثور قرباناً وتقدمة محرقة كاملة للرب، فإنه يشير
اليه بشكل آخر، قائلاً "وإن كان قربانه للرب محرقة من الضأن أو الحملان او
صغارها، فذكراً صحيحاً يقربه، ويضع يده على رأسه، ويذبحونه على جانب المذبح جهة
الشمال أمام الرب" (لا 1 : 10، 11). كيف إذن يتشكل بالنسبة لنا سر المسيح
بواسطة تلك الأمور، نحن بحاجة الى السؤال. اعتقد اننا يجب أولاً أن نتكلم عن حالة
كل من الهيكل نفسه في أورشليم، وعن المذبح المقدس (الالهي)، حتى يمكن لنا بذلك ان
نفهم، وما معنى ألا يوضع الضأن في وسط المذبح، اي امامه مباشرة، بل يوضع جهة
الشمال؟ إن مقاطعة اليهود تقع في أقصى الأرباع الجنوبية من الأرض، ويواجه الهيكل
جهة الشرق وتفتح أبوابه جهة أول أشعة للشمس، ويكون المذبح الالهي نفسه، مقاماً في
مواجهة قدس الأقداس، كما لو كان أما عيني الله، ويظهر واجهته لأولئك الذين يدخلون
من ناحية المشرق، أما جانباه فواحد يقع نحو الجنوب، والآخر نحو الشمال. هذا كان
فعلاً ما يحدث كما قلنا، ولكن لكي تحصلوا على البرهان الكامل فهو من النص الذي في
نبوة حزقيال : لأنه حينما علم حزقيال فوراً بموت فلطياً، اي، من خلال رؤيا زوجته،
فإنه يقو لهكذا "ورأيت.. نحو خمسة وعشرين رجلاً ظهورهم نحو هيكل الرب ووجوههم
نحو الشرق، وهم ساجدون للشمس نحو الشرق" (حز 8 : 16). لكن إن كان إنسان يعبد
الشمس والهيكل يكون خلفه، كيف لا يمكن للمرء ان يفترض ان واجهة الهيكل كانت جهة
الشرق؟ لكن المذبح الالهي ذاته كان في نفس الموضع، كما قلنا.

          لذلك
فإن الجزء الأمامي الذي يعد بمثابة المدخل لكل من الهيكل نفسه والمذبح الالهي كان
من جهة الشرق : أما الجانبان، فواحد من جهة الجنوب والآخر جهة الشمال، أما الجانب
المتبقي، الذي يعتبر بمثابة الخلف، فإنه يقع ناحية الغرب. إذن فالأمور التي تكلمنا
عنها تبدو هكذا، سوف نجد ان شمال المذبح يقع بجوار اليهودية، اي الجليل، بلاد
الأمم، كما هو مكتوب "جليل الأمم" (مت 4 : 15 – قابل اش 9 : 1). ومنذ
ذلك الحين كان ربنا يسوع المسيح على وشك ان يرحل من بلاد اليهود، بعد آلامه
المخلصة، وان يذهب الى الجليل، اي الى كنيسة الأمم، اما الخروف الذي يقدم ذبيحة فهو
مثال، وكان يذبح على جانب المذبح الذي يقع ناحية الشمال، حسبما قيل بالمرنم عن
المسيح : "عيناه تراقبان الأمم" (مز 66 : 7).

          لكن
إذ يقول الانجيلي الطوباوي ان (المسيح) رفض حضوره وسط اليهود، لأنهم كانوا يتآمرون
على قتله، فإننا سوف نضيف ذلك الى ما سبق ان قلناه، إننا لا نعتبر انسحاب المسيح
ضرباً من ضروب الجبن، ولا ان نتهم بالضعف ذاك الذي هو قدير في كل شيء، بل نحن
سنقبل ترتيب التدبير الالهي، لأنه يليق به ان يتحمل الصليب لأجل الجميع، في وقته
وليس قبل وقته.

3
".. فقال له اخوته، انتقل من هنا واذهب الى اليهودية، لكي يرى تلاميذك ايضاً
اعمالك التي تعمل.

4
"لأنه ليس احد يعمل شيئاً في الخفاء وهو يريد ان يكون علانية. ان كنت تعمل
هذه الأشياء فاظهر نفسك للعالم.

5
"لأن اخوته ايضاً لم يكونوا يؤمنون به.

          وإذ
لم يتعرف أخوة المخلص المعروفون بعد على الله الكلمة في جسده المقدس، غير عالمين
في ذلك الوقت الذي يقولون فيه تلك الاشياء، انه قد صار انساناً، لهذا لا يزال
فهمهم عنه قاصراً، وهم يقللون جداً من النعمة والسمو اللذين فيه، فلا يرون فيه
شيئاً أكثر مما يراه الباقون مخدوعين بالآراء العامة عنه، ظانين انه هو ايضاً قد
ولد في الحقيقة من ابيهم يوسف، ولا يرون التدبير الخفي للسر. لأنه حينما اجريت
معجزات كثيرة سراً بواسطة المسيح في الجليل، حثوه ان يطلب المجد الباطل، ونصحوه ان
يتقبل اعجاب النظارة، وكأن هذا الأمر شيء عظيم للغاية، وكأنه لأجل ذلك وحده، كان
يريد ان يصنع معجزات عديدة، فقط لكي يبدو محل اعجاب الناظرين، فينافس الآخرين في
مديح الناس له، بحسب عادة بعض الذين يطلبون المجد. لأنه، انظروا كيف يشيرون عليه
ان يصعد الى اليهودية، وان يعمل معجزات هناك ايضاً، لا لكي يؤمن به تلاميذه، بل
"لكي يروا ايضاً الأعمال التي يعملها". (إذ يقولون) إن كنت تريد ان تصبح
معروفاً (لأن هذا هو معنى "علانية") فلا تعمل المعجزات سراً، إذ وأنت
متفرد في قدرتك على فعل كل شيء، لا تمنع الدعاية عنك. لأنك هكذا تصبح مشهوراً عند
"العالم كله"، واكثر شهرة لدى الناظرين. هذا كان إذن حديثهم هنا. وللنفع
فقد أوضح الانجيلي الأكثر حكمة ان اخوته "لم يكونوا يؤمنون به" لأنه
سيكون حقاً أمراً من الأمور الشديدة الغرابة، ان الذين بالايمان قد تأكد لديهم
الاعتراف به كاعتراف بالله نفسه، سوف يكونون مذنبين بمثل تلك التعبيرات الباردة.
لكن في ذاك الوقت، وإذ لم يكونوا قد آمنوا بعد، فهم لا يتكلمون بحكمة، لكن حين
يدركون السر العظيم الخاص به يؤمنون، ويصلون الى تلك القامة من التقوى والفضيلة،
فيدعون رسلاً، وينالون تقوى متميزة. هنا ايضاً قد عرفتموه، إذ ترنم به قبلاً صوت
الانبياء. وحقاً يقول الطوباوي ارميا، كما لربنا يسوع المسيح "لأن اخوتك وبيت
ابيك، هم ايضاً يزدرون بك ويصرخون، ومن بين اتباعك، قد اجتمعوا معاً، فلا تصدقهم،
ان هم تكلموا عليك بالخير" (ار 12 : 6س). لأن اخوته الذين قبل الايمان قد
قللوا من شأنه، وفي الكلمات التي قيلت تواً، حاولوا ان يصرخوا ضده، لكنهم (بعد
الايمان) تجمعوا معاً بالايما، وتكلموا عليه بالخير، فاعانوا آخرين، كما جاهدوا
بالكلام نيابة عن الايمان، وفي منتهى اليقظة، اذ ذكر النبي اخوته، يضيف للنفع
"بيت أبيك"، لئلا يفترض انهم كانوا هم ايضاً من العذراء المباركة،
وليسوا بالأحرى من ابيه يوسف وحده (كأبيه حسب الجسد).

6
"فقال لهم يسوع : إن وقتي لم يحضر بعد. وأما وقتكم ففي كل حين حاضر".

          يظهر
حديث المخلص دائماً، وقد غلفته الظلال الكثيفة، لأنه هكذا مكتوب عنه "وسوف
يكون إنساناً، يخفي كلماته" (إش 32 : 2س).

          وقد
كان هذا الأمر مخططاً ايضاً لنفعهم، ومن هو الحكيم الذي لا يقول بذلك؟

          (لهذا
يقول) إن الوقت لم يحن "بعد" لدعاية بلا قيود، ولا الوقت جاء
"بعد" بالإعلان المكشوف للجميع، إذ لا يزال عقل اليهود غير ناضج بعد
للفهم، ليقدروا على قبول كلماتي دون ثورة او غضب. ولا الفرصة سانحة بعد لدعوتي
الآن ان أكون معروفاً للعالم، فاليهود لم يسقطوا بالتمام بعد عن النعمة، ولا هم قد
صاروا ضدي بعد، حتى احتاج في النهاية الى الرحيل للآخرين. لهذا السبب إذن يقول إن
"وقته لم يحضر بعد". لكنه يقول ان زمانهم حاضر، وانه مهيأ دائماً. لأننا
نقول ان اهل العالم قد يفعلون مثلما يضعون في ترتيباتهم، وما من ضرورة تعوقهم، او
تدعوهم لتدبير ملائم يرشدهم الى عمل شيء او الامتناع عنه، كما كان الحال مع
المسيح. وعلى العكس، فإن طريقة الحياة بالنسبة للذين اختاروا المعيشة في العالم،
فهي طريقة تتسم بالاهمال وتخلو من اي اهتمام جاد، تنتهز اية فرصة سانحة ومكشوفة
لعمل ما يحبونه بالأكثر، وتسمح للذين يمارسونه، بالذهاب كيفما كانت ميولهم.

          لهذا
حين تكون الأمور خاضعة بالضرورة للتدابير، لا يكون كل وقت مناسباً لعمل ما يجب
عمله، بل ان يكون عملاً يناسب ما يتفق مع الواجبات المتعددة، ووفقاً لطبيعة الشيء
المطلوب : لكن بالنسبة للمرء الذي اختار ان يعيش متحرراً من القيود، لا يحدث له مثل
هذا الأمر، بل بالأحرى، يكون الطريق الذي يريد السلوك فيه، جاهزاً وحاضراً دوماً
وبلا أي التزام.

7
"لا يقدر العالم ان يبغضكم، ولكنه يبغضني انا لأني أشهد عليه ان اعماله
شريرة".

          يوبخ
المخلص اخوته الآن ايضاً بمنتهى اللطف، وهم الذين لا تزال اذهانهم وميولهم عالمية
جداً، ويأتي بدفاع ثان، ممتزج بمهارة، حيث يظهر انهم ليسوا جهلة فقط بمن يكون هو
بالطبيعة، بل هو لا يزالون بعيدين للغاية عن محبته، وليس بالأحرى الذين في حياة
الفضيلة. لأنه سيكون من شدة السخف حقاً ان يقول لكل واحد عداه ما هو نافع له، بعد
ان نحى جانباً كل اخفاء حول الأمر، واذ قد صار لهم الآن واهب الحكمة، ومع هذا فإنه
يمنح اخوته المعروفين، وبقدر فائق، الأمور التي بواسطتها، قد يتعلمون منفعة كبيرة.
تلك كانت عادة مخلصنا المسيح. لأنه كان ينتهز الفرصة السانحو ليصيغ منها ارشاداً
عظيماً لسامعيه. (وهو يقول) ان كل شخص يعتز جداً بما هو قريب من نفسه، ان تطابق
العادات يصنع اتفاقاً عجيباً.

          "لا
يقدر العالم ان يبغضكم"، "ولكنه يبغضني انا" لأنه لا يقبل اتهامي
له بسبب اعماله الشريرة. لهذا يمكنكم في أمان ان "تصعدوا" الى العيد،
"أما أنا فلا". لأني سوف اناقشهم بالتأكيد لأني سأكون حاضراً وسأكلمهم
بما هو لصالحهم؛ لكن التوبيخ مر عند محبي الملذات، ويستشيط غضباً ذاك الذي لا
يتلقى التوبيخ بذهن رزين.

          لكن
الرب ينفعنا ايضاً بتلك الكلمات، لأنه من النافع ألا يكون التوبيخ هكذا بلا
مناسبة، وألا نعطي الإرشادات للكل بالتوبيخ، لكن ان نعرف المكتوب "لا توبخ
الاشرار لئلا يبغضوك" (أم 9 : 8). (لأن الكراهية ليست بلا ضرر) بل بالحري ان
نكون غيورين ان "نتكلم في آذان الذين يسمعون" (سفر الحكمة 25 : 9)، كما
هو مكتوب، والعالم يحب الخطية، أما الرب فهو مقوم الذين لا يسلكون بصواب : ودائماً
ما يكون التقويم مصحوباً بالتوبيخ. لأن مجرد ذكر الخطية، هو توبيخ للذين يحبونها،
وتوبيخ الإثم، هو لوم موجه لأولئك الذين يفعلونه، لهذا حين تقتضي الضرورة ان يلجأ
الى التوبيخ، ويكون اسلوب العلاج مستوجباً ذلك، ويكون اللوم بالنسبة للذي يراد
ارشاده، أمراً ضد ارادته، مما يثير غضبه. فان شرور الكراهية تثور حتماً. لهذا فإنه
كان لا يبخل ان يمنح اخوته الفرص التي بواسطتها يمكنهم ان ينتفعوا كثيراً.

          يقول
المخلص انه مكروه من العالم، إذ لا يحتمل العالم النصح بالتوبيخ، حينما يجب عليه
ان يحتمل للمنفعة. لأن الذهن الواقع تحت أسر الملذات الردية يغضب للغاية من النصح
الذي يحضه على الرزانة الواجبة.

          ويقول
المخلص تلك الأمور، لا ليؤكد انه لن يذهب الى اورشليم، ولا لكي يمتنع عن التوبيخ
الذي ينفع الخطا’ بل قد قرر ان يفعل ذلك ايضاً واي شيء آخر عداه في الوقت المناسب.
وعلينا ان نلاحظ انه يقول شيئاً من نفس القبيل لأخصائه التلاميذ ايضاً. لأنه حينما
كان يشجعهم، ويعلمهم الا يكونوا ساخطين ايضاً على الأمور التي ينبغي ان تتم، حينما
يتحتم عليهم ان يكرزوا به للعالم، ويقعوا في تجارب متنوعة بالآلاف، إذ يقول
"لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته..، ولكن لأنكم لستم من العالم..،
لذلك يبغضكم العالم" (يو 15 : 19) وهو لا يقصد بالعالم هنا الخليقة المنظورة،
بل بالحري الذين يستطيبون امور العالم، والذين اذ لم يحب احد نفس ما يحبونه،
يعتبرونه وبشكل مبالغ فيه انساناً صعباً وخصماً وعدواً لهم، أما الذي يتفق معهم
فهم يعتبرونه منهم وعزيزاً عليهم، وهو يقع في شراكهم اذ يعيش نفس حياتهم، بتجانسه
معهم في وضاعتهم.

8
"اصعدوا انتم الى هذا العيد. انا لست أصعد بعد الى هذا العيد لأن وقتي لم
يكمل بعد".

          يقول
الرب الآن بوضوح، إنه لن يعيد مع اليهود، او يذهب معهم، ليشاركهم فرحتهم في
الظلال. لأن الذي قيل مرة لقليلين، على الرغم من انهم اخوته، سوف يمتد في معناه
لكل جنس اسرائيل. لن لا أحد سيقول ان يسوع رفض ان يكون مع اخوته حسب طلبهم هم بوجه
خاص، إذ يرى انه كان معهم بشكل واضح في الجليل، وعلينا ان نفترض انه لم يكن لغرض
ما بسبب علاقته المفترضة عموماً بهم حسب الجسد، انه كان يقيم معهم. من الواضح اذن
ان كل جموع اليهود اذ هم محسوبون حسب الرمز اخوته، فإن المسيح يمتنع عن حضور العيد
معهم، حسب ذاك الذي قيل بأحد الأنبياء القديسين "بغضت، كرهت اعيادكم، ولست
التذ باعتكافاتكم، اني اذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم، لا أرتضي، وذبائح السلامة
من مسمناتكم لا التفت اليها. أبعد عني ضجة اغانيك، ونغمة ربابك لا اسمع" (عا
5 : 21 -23). "لأن الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي ان
يسجدوا" (يو 4 : 24) – كما يقول المخلص نفسه، (وقد يظن احد) انه ما دام روحاً
فإنه سيسر بالكرامات الروحية والتقدمات. لأن الرمز ايضاً الذي بأمر الناموس، حيث
تعين في وقت مناسب لذبائح من الثيران والضأن، والقرابين مع كثير من البخور،
والدقيق الناعم، والخمر والزيت، هذه التي تدلل بأشكال مرئية بالأكثر، على العديد
من ملامح فضيلة أولئك الذين يسجدون بالروح. (وهو يقول) أما أنتم اذن الذين لا
تزالون تحبون الظل، وانتم متأثرون بالأكثر بغلاظة الأمور اليهودية فيما يخص تلك
الترتيبات "فاصعدوا الى العيد" الذي هو في ظلال ورموز؛ أما أنا فيسرني
ألا أحضر العيد "أنا لست اصعد بعد الى هذا العيد" ذلك العيد، الذي هو في
مثال وظل : لأن لا مسرة لي فيه، بل بالحري أنا انتظر الوقت الذي للعيد الحقيقي،
الذي "لم يكمل بعد". (وهو يقول) وحينئذ سوف أكون مع صحبتي نتهلل في بهاء
القديسين، في مجد الآب، الذي يسطع ببريق مفرط. لكنه يدعو الوقت وقته هو. لأنه
العيد عيده هو، وهو سيده. لأن النبي الطوباوي ينسب العيد اليه، قائلاً لأولئك
الذين اهملوا التقوى من نحو الله، ولم يهتموا ان يكون لهم اشتياق الى السمو في
الصلاح، "ماذا تصنعون في يوم الموسم، وفي أيام عيد الرب؟" (هو 9 : 5).
(فهو يقول) إنكم انتم الذين ترفضون بالكامل كل تعب الفضيلة، وليس لكم ثوب محبة الله
اللامع "ماذا تصنعون في يوم الموسم؟" وكيف تأتون الى العيد الالهي
والسماوي، او كيف لا يطردكم بحق سيد العيد من بين الجوقة الأكثر مجداً، التي للذين
وجهت اليهم أوامر الدعوة، قائلاً : "يا صاحب كيف دخلت الى هنا وليس عليك لباس
العرس؟" (مت 22 : 12). وهناك ما له صلة بذلك، ويعطينا نفس المعنى، ذلك الذي
في النبي زكريا (إذ يقول) "ويكون ان كل الباقي من جميع الأمم الذين جاءوا على
اورشليم يصعدون من سنة الى سنة، ليسجدوا للكل رب الجنود، وليعيدوا عيد
المظال" (زك 14 : 16). يقول ان البقية ستصعد لتسجد للملك العظيم، وتعيد عيد المظال.
لأنه بينما كثيرون قد دعوا بالنعمة، فان كثيرين لا يصعدون الى المدينة العلوية،
لأن "قليلين ينتخبون" (مت 20 : 16)، كما يقول المخلص، حيث يؤخذون
ليشهدوا من كل أمة، لكن بقوله : إنهم سيصعدون للسجود، يوضح انهم لم يعودوا بعد
يمارسون عبادة الناموس، بل بالحري (يسجدون) بالروح، ويعيدون عيد المظال بالحق،
مرنمين تقريباً بصوت واضح مرددين كلمات المزامير "مبارك الرب، لأنه سمع صوت
تضرعي، فيه وثق قلبي، وقد أعانني، فازدهر جسدي" (مز 28 : 6، 7س) لأن الجسد
يزدهر (يحيا)، وسيقوم ثانية، ولن يتم ذلك بمعزل عن المسيح : لأنه صار لنا باكورة القيامة،
والباب لعيد المظال الحقيقي. وذلك ما قيل بأحد الأنبياء القديسين "أقيم مظلة
داود الساقطة" (عا 9 : 11). وهو هنا يتحدث عن المسيح الذي من نسل داود حسب
الجسد، فيقول ان مظلمة داود قد سقطت، قد أقيمت أولاً الى عدم الفساد بقوة الله
الآب، حسبما قيل لليهود على لسان واحد من الرسل بخصوص المسيح : "هذا اخذتموه
مسلماً بمشورة الله المحتومة وعمله السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه : الذي
أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت، إذ لم يكن ممكناً ان يمسك منه" وايضاً قال
"فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهود لذلك" (أع 2 : 23، 24، 32).
وليس من الصعب ان ندرك ان عادة الكتاب المقدس الالهي ان يدعو المسيح داود، اذ هو
من نسل داود حسب الجسد.

9
"قال لهم هذا، ومكث في الجليل.

10
"ولما كان اخوته قد صعدوا، حينئذ صعد هو ايضاً الى العيد لا ظاهراً، بل كأنه
في الخفاء".

          يسكن
المسيح فرحاً في الجيل، وإذ ابتعد عن اليهودية، فإنه يقيم في سلام أكثر وأمان، حتى
ان جموع الأمم رغم انهم غير متعلمين بشكل متزايد بسبب الضلال الذي هم فيه، يظهرون
أكثر نبلاً من اولئك الذين يبدون حاذقين في الناموس. وبهذا يظهر كلاً من حبه
الحقيقي لهم، ورفضه لسكان اليهودية. لأنه كيف ان "الذي يعرف كل شيء قبل ان
يكون" (سوسنة 42) لا يتأثر هكذا، فيجعل الكنيسة كنيسة الأمم، مستحقة فعلاً
للمحبة الالهية، اذ دعيت هكذا، بمنتهى اليسر لتؤمن به، وفي النهاية يطرد اورشليم
وينفر منها بحق كمدينة بلا عقل، ذاك الذي حتى قبل مجيئه قيل عنه انه "اشتهى
حسنها" حسب قول المرنم (مز 14 : 11)، لكنه دعا اورشليم غليظة الرقبة ودعاها
زانية وداعرة، وماذا كان يمكن ان يدعوها بغير ذلك، فهو بكل وضوح في الحق، يقول لها
بلسان النبي حزقيال "فلذلك يا زانية اسمعي كلام الرب" (حز 16 : 35).
وبصوت ارميا يتهمها بأنها زانية، اذ يسميها قائلاً "كما تخون (ترفض) المرأة
زوجها، هكذا رفضتموني يا بيت اسرائيل، يقول الرب" (ار 3 : 20). وبحسب مشورة
الله وعلمه السابق، يظهر جمال كنيسة الأمم، ووضاعة مجمع اليهود في طرقه الشريرة.
فإنه كان فعلاً قد سبق وأحب واحدة وذهب اليها، كما الى عروس في خدرها، لكنه كان
يكره الأخرى، مدخراً للوقت المناسب ما يلائم كل واحدة حسب قامتها. لأنه لم يأت
بعقاب كامل على بني اسرائيل قبل الوقت، ولا هو يعطي نفسه بالكامل الى الجليليين
قبل صليب الخلاص : لأنه آنذاك وبحق ولأسباب معقولة، ينسحب من محبته لهم. اذ كان قد
قال انه "لن يصعد الى العيد" واذ كان قد يسمح لاخوته ان يصعدوا هكذا ان
هم ارادوا، فإنه بمفرده (لأنه أكد ان وقته لم يحن بعد) يصعد بعدهم، لا كأنه يقول
شيئاً ثم يفعل عكسه (لأن في ذلك كذباً، بل وفيه خداع، وهو الذي قيل عنه لم يضبط في
فمه غش) بل هو أمر لا يتعارض مع ما وعد به. لأنه (فعلاً) لم يصعد معهم الى العيد،
بل بالحري لكي لا يلومهم، (ولما كان قد جاء ليخلص) فإنه يقول ويعلم بالأمور التي
تقود الى حياة أبدية. لأن ذلك كان قصده، أي عدم رغبته في الصعود معهم الى العيد،
والذهاب بالكاد خفية، وليس علانية ويفرح اولئك الذين يذهبون الى عيد من الأعياد،
وهذا ما سيتضح بجلاء.

          وبحق،
وحين صعد في النهاية، الى آلامه الخلاصية، فإنه لم يذهب سراً، بل امتطى ظهر جحش،
كرمز للشعب الجديد، ومعه صحبة بلا عدد من الأطفال يسبقونه، كنموذج لجزء من الشعب
الذي سيولد، الذي كتب عنه "وشعب سوف يخلق يسبح الرب" (مز 102 : 18).
وكان الأطفال المنطلقون أمامه يهتفون : "مبارك الآتي باسم الرب، اوصنا في
الأعالي" (مت 21 : 9). لهذا وبمجيئه سراً، يكشف ان المسيح لم يأت الى اورشليم
ليعيد معهم، بل بالحري ليوبخهم : لأنه كما قلنا قبلاً، لم يرحل تماماً عن اسرائيل،
حتى إذا ما سلم للموت، يظهر واضحاً انه قد فعل بهم هذا باستحقاق.

          أما
عن قوله : انه لن يصعد بعد، ثم بعد ذلك لا يرفض ان يصعد، فانكم ستجدون مثال هذا
محققاً منذ زمن بعيد في سفر الخروج. لأن الالهي والمقدس جداً موسى، كان قد مكث
طويلاً في الجبل مع الله، منتظراً الناموس الذي يعطيه له الله. أما اسرائيل اذ لم
يرع التقوى من نحو الله، فقد صنع عجلاً في البرية. وغضب معطي الناموس بحق بسبب تلك
الأمور واذ قد صرخ ضد استخفاف اولئك الذين حادوا بسهولة عما لا يجب ان يحيدوا عنه،
واذ كان قد هدد بهلاكهم هلاكاً تاماً في الحال، فإنه في النهاية يقول للقديس موسى :
"اذهب اصعد من هنا، انت والشعب الذي اصعدته (انت) من ارض مصر الى الأرض التي
حلفت لإبراهيم واسحق ويعقوب قائلاً لنسلك اعطيها. وانا ارسل امامك ملاكاً"
(خر 33 : 1، 2). ثم يقول له موسى "ان لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا. فإنه
بماذا يعلم اني وجدت نعمة في عينيك انا وشعبك. أليس بمسيرك معنا؟.. فقال الرب
لموسى : هذا الأمر ايضاً الذي تكلمت عنه افعله (أنا). لأنك وجدت نعمة في
عيني" (المرجع السابق 15، 16، 17). أرأيتم، كيف انه حزن على ارتداد اسرائيل،
مؤكداً انه لن يصعد معهم الى ارض الموعد، لكنه قال انه سيرسل ملاكه، ومع ذلك
وتقديراً لموسى وتذكاراً لآبائهم، منحهم عفواً ووعدهم مرة اخرى بالصعود معهم.

          واذ
قال انه لن يعيد مع اليهود اذ هم متكبرون وعنفاء، اذ لا يكرمون الله بانكارهم له،
كما فعلوا بصنعهم العجل، واذ هو بطيء الغضب جداً نحو أثام اولئك الذين يحزنونه
(بخطاياهم طبعاً)، وإذ هو يفي بوعده للآباء القديسين، فإنه يصعد ليعلمهم ويضع
أمامهم تعاليم الخلاص، ولم يعط مثل هذه الخدمة لملاك، مثلما لم يفعل ذلك آنذاك، بل
بالحري هو بنفسه الفاعل في الخلاص حتى لغير الشاكرين.

11
"فكان اليهود يطلبونه في العيد ويقولون، أين ذاك (الإنسان)؟"

          يطلب
اليهود يسوع، لا لكي يؤمنوا به، حين يجدونه (لأنه لو اراد بالتأكيد ان يمنعهم من
طلبه، لما كان قد قدم نفسه حسبما قيل عنه "وجدت من الذين لم يطلبونني، صرت
ظاهراً للذين لم يسألوا عني" (اش 65 : 1س). لكنهم (يطلبونه) بسبب عصيانهم
المتزايد ساقطين في تعب اليونانيين الباطل، متشبهين بعاداتهم، وليس بالحري بالأمور
التي بها يستنيرون بالنعمة من فوق. لأن بعض أولئك اليونانيين الذين يبدو انهم
حكماء، ملآنين بحكمة عالمية شيطانية، إنما يصرفون الوقت في محادثات طويلة فارغة،
يدورون في حلقات مفرغة من الافتراضات الباطلة، و"ينسجون خيوط العنكبوت"
كما هو مكتوب (اش 59 : 5) ويهجمون بخداع لكي يفحصوا ما هي طبيعة الحق او الصلاح او
العدل، واضعين لأنفسهم ظلاً فقط للمعرفة الحقيقية، فيبقون بالكامل محرومين من مذاق
الفضيلة التي في الأفعال، ويظلون معدمين من "الحكمة" الحقيقية "التي
من فوق" (يع 3 : 17) صانعين تداريبهم حول الكلمات وحدها دونما نفع. واليهود
ايضاً، اذ هم اخوة واقرباء لجهلهم، يطلبون يسوع، لا لكي يؤمنوا به حين يجدونه، كما
اثبتت طبيعة الأمور، بل إذ هم يقذفونه بشتائمهم، يجلبون على رؤوسهم النار التي لا
تطفأ.

          ومن
جهة أخرى سوف نفترض انهم سعوا وراءه سعياً باطلاً. لأنهم يتظاهرون فقط انهم
يطلبونه، لأنه ليس حاضراً. إذ (يقول قائل) وعلى صانع العجائب ان يكون حاضراً مع
المعيدين، طالباً بالأحرى مسرة الاستمتاع بالأعجوبة، لا طلباً للنفع من ورائها
بالمرة، بل هم يدثرون بخداع معرفة الناموس ظانين ان لديهم معرفة ليست بالقليلة في
الكتابات المقدسة، لذلك فهم غير مدركين لصوت النبي القائل هكذا "اطلبوا الرب
مادام يوجد، ادعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه، ورجل الإثم افكاره، وليتب الى
الرب فيرحمه" (اش 55 : 6، 7). اترون كيف انه لا يكفي للخلاص ان نطلب فقط، لكن
حين نجده، ان نرجع اليه ايضاً، أي بالطاعة والايمان؟ فلو فعل شعب اليهود الغبي
والمعاند ذلك، لكان قد خلص : لكنهم إذ كانوا جهلاء جداً في ذلك ايضاً، فإنهم
سيسمعون في النهاية "كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟ حقاً انه الى
الكذب حولها قلم الكاتب الكاذب. خزي الحكماء، ارتاعوا واخذوا. أية حكمة لهم، لأنهم
قد رفضوا كلمة الرب؟" (ار 8 : 8،9).

          لأنه
كيف لم يرفضوها وهم اصلاً لم يقبلوها؟ وكيف لم يزدروا بها، اولئك الذين في حكمة
الأجلاف، لم يأبوا ان يقولوا "اين ذاك الانسان"؟ لأن تعبير "ذاك
الإنسان" هو عن من هو مرفوض، وعن أولئك الذين يعتبرون انه لا يليق ان يتعجبوا
منه، على الرغم من انه وبسبب عمله العجيب، كان يجدر بهم ان يتوفر لديهم اعظم وأرفع
ادراك عنه.

12
"وكان في الجموع مناجاة كثيرة من نحوه بعضهم يقولون انه صالح. وآخرون يقولون،
لا بل يضل الشعب".

          ما
أصعب نوال الصلاح وما اعسر اكتسابه، وما اشق على كثيرين قوة اقتفاء جمال الحق
وتحقيقه، خاصة لدى الأوفر جهلاً، واولئك الذين ليس عندهم حدة الفهم، الذين بسبب
انحرافات الأفكار الحمقى للغاية ودون فهم ينحرفون الى ما يبدو اسهل بالنسبة لهم،
غير محتملين اثبات طبيعة الأمور المعروضة، فلا يصلون ابداً الى النوعية الحقيقية،
رغم ان بولس يقول "كونوا صرافي عملة مهرة" ([i])
ويحضنا ان (نمتحن كل شيء) (1تس 5 : 21). حتى انه بالفحص الدقيق نبلغ ما هو نافع.

          وليسمع
إذن، الذين لفرط حماقتهم لا يتعجبون من يسوع، بل يظنون انه من المناسب ان يدينوه
دون فحص عبارة "ذوقوا وانظروا ما اطيب الرب" (مز 34 : 8). لأنه كما ان
الذين يختارون العسل من خلال تذوقه، ومن مجرد التذوق يدركون ما هم ساعون وراءه،
هكذا هم الذين يبذلون جهداً قليلاً بالنسبة لكلمات المخلص، سوف يعرفون انه صالح،
وسوف يتعجبون لتعلمهم منه. إذن فالأكثر حكمة من بين اليهود هم الذين يدافعون عن
قضية المسيح، ويحكمون حكماً عادلاً من جهته، ويعترفون بأنه صالح، ويكون هذا الأمر
بالنسبة لهم فوق كل اعتبار، حتى انه يصبح من المستحيل على امرئ ان ينجز الأمور
التي لا يعملها الا الله، إن لم يكن هو بالطبيعة الله، او شريكاً لله، ولهذا فهو
صالح، ذاك الذي يليق به اعتراف الجميع. لكنهم يخوضون في أكثر التخيلات سخفاً،
ويضلون كثيراً عن الحق، فلا يحجمون عن ان يدعوه "مضلاً" ذاك الذي يرشد
الى طريق البر غير المعوج. فليسمع اليهود الأغبياء اذن "ويل للقائلين للشر
خيراً، وللخير شراً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً" (اش 5 : 20) لأنه
يضيف مع استحسان الشر، انتقاداً للخير، وحجب ما يمكن ان يوبخ الشر بشدة، والقاء
اللوم الظالم على الذين هم في صف الخير. لكن قد سبق وتنبأ ايضاً عن التهم ضد الذين
هم في صف الخير. لكن قد سبق وتنبأ ايضاً عن التهم ضد الذين تفوهوا بالشتائم، (إذ
يقول) "ويل لهم، لأنهم هربوا عني، بئساً لهم، لأنهم عصوني : أنا أفديهم، وهم
تكلموا علي بكذب" (هو 7 : 13س).

13
"ولكن لم يكن أحد يتكلم عنه جهاراً، بسبب الخوف من اليهود.

          كان
بين اليهود همهمة (مناجاة)، ولسبب الخوف من اليهود، يقول ان احداً لم يكن يتكلم
"جهاراً". اذن فالانجيلي الالهي يدعو حكام اليهود "باليهود"
على وجه التأكيد، دون ان يتنازل (حسب ما يبدو لي) فيدعوهم بالشيوخ او الكهنة، او
ما شابه، اذ قد اشتعل بالغيرة الالهية حزناً عليهم، وهم الذين يتهمهم الله بحق
بتدمير كرمه الروحي، قائلاً في الانبياء، "رعاة كثيرون افسدوا كرمي، وداسوا
ميراثي الخصيب. وقد صار قفراً للهلاك" (ار 12 : 10، 11س). لنه كيف لا نفترض
ان كرم الرب لم يفسد حقاً بسبب كراهيتهم، حين اظهروا انه من المخاطرة ان يوافقوا
على الخير، وان يتعجبوا ممن هو مستحق للتعجب؟ لكن ذلك ايضاً يجلب عقاباً اشد على حكام
اليهود وعلى الباقي منهم، ومن هو العاقل الذي يشك في ذلك؟ عجباً وأي عجب، فان كل
الشعب يخشونهم، ويرتعدون منهم، وهم لم يتهذبوا بالناموس، ولا تعلموا ان يحيوا
باسلوب لائق، على الرغم من انهم وبغيرة شديدة قد تعرضوا لإنذاراتهم. لأن الخوف
دليل على أعلى درجات العبودية. إذن فقد كانوا مضطرين ان يتعدوا دون ان يفحصوا
بالحري غاية معطي الناموس، (واذ لم يتجاسروا ان يمتدحوا ما هو خير)، ويحكمون بالشر
لا حكماً ارادياً بل اضطرارياً، على ما يختاره الآخرون، وان يدينوا بالخسة، ذلك
المستحق للمديح والإجاب. تماماً مثل انسان عنده مهارة عالية في أمور البحر، ويجلس
على دفة السفينة، واذ يجعلها تحت امرته يحطمها على الصخور. فيصبح هو نفسه مذنباً
بتهمة تحطيم السفينة" او كان واحداً معتاد على القيادة، يمتطي اسرع الجياد.
واذ هو قادر بواسطة مكابح العنان ان يمسك بزمام السهلة التوجيه اينما اراد، نراه
يصطدم بالعربات في حجر، وليس من المقبول ان يلوم الجياد بسوء الطالع، بل بالحري ان
يلوم نفسه. بنفس الطريقة، أظن، ان قادة اليهود، اذ قد جعلوا شعب اليهود لا
يكرمونهم فحسب، بل ان يخدمونهم في خوف ايضاً، وان هم استطاعوا ان يوجهونهم ضد
الوصايا الالهية، فإنهم يكونون هم انفسهم مسئولين عن ضياع الجميع. ولكن عن انهم هم
انفسهم كانوا السبب في هلاك الشعب فإن النبي ارميا سوف يشهد، قائلاً "صار
الرعاة بهيميين، ولم يطلبوا الرب : لهذا لم يفهم القطيع كله وتبدد" (ار 10 :
21س).

14
"ولما كان العيد قد انتصف، صعد يسوع الى الهيكل وكان يعلم".

          ان
تعليم مخلصنا يناسب الهيكل : لأننا اين يمكن لنا ان نسمع الصوت الالهي سوى في
الهيكل، وسوى في الأماكن التي نؤمن ان اللاهوت يسكن فيها؟ لأن الله يرعى كل شيء،
ولا يظن فيه انه محدود بمكان، فيما يخص طبيعته الذاتية، بل هو غير المحوى من
الاشياء الموجودة، ومع ذلك من الأكثر قبولاً وجوب افتراض انه يسكن في الأماكن
المقدسة، وعلينا بأكثر تعقل ان نقر ان مشيئة الطبيعة الالهية سنسمعها بوجه خاص في
الأماكن المقدسة. لكن ما الذي صور لهم ايضاً في القديم من خلال الرمز والظل والذي
يحوله المسيح الآن الى حق، لأن الله يقول لموسى مفسر النصوص المقدسة "وتجعل
الغطاء (كرسي الرحمة) على التابوت من فوق، وفي التابوت تصنع الشهادة التي اعطيك.
وأنا اجتمع بك هناك (أكون معروفاً لك)، واتكلم معك على الغطاء (كرسي الرحمة)، من
بين الكروبين الذين على تابوت الشهادة، بكل ما أوصيك به الى بني اسرائيل" (خر
25 : 21، 22). لكن ربنا يسوع المسيح، "ولما كان العيد قد انتصف" كما هو
مكتوب، وقد دخل باعتباره الله الى الأماكن المقدسة المخصصة لله، هناك بدأ يتكلم مع
الجموع، على الرغم من انه صعد الى هناك سراً، وكما فوق الغطاء (كرسي الرحمة) في الخيمة،
هكذا كان نزول الله نزولاً سرياً، قلما يمكن ادراكه، وعندما حان وقت كلامه، لواحد
أيضاً وهو الطوباوي موسى، فقد تكلم الله، ولم يتحدث الى آخر سواه : هكذا المسيح
ايضاً يعلم جنس اليهود، ويتحدث الى شعب واحد، وهو بعد لم يكشف عن نعمته كأمر عام
للأمم. وحسناً جداً يقول الطوباوي الإنجيلي، ولا يقول ببساطة، دخل، بل "صعد
الى الهيكل". لأن دخوله الى المدرسة الالهية، وحلوله في الأماكن المقدسة كان
أمراً عالياً يفوق بكثير ضعتنا المطروحة ارضاً. ومثال الفعل ينطبق بالحق علينا نحن
ايضاً. لأن الذي قدس الهيكل كان هو المسيح، وكمثال لذلك كان موسى في القديم اذ
يمسح "الخيمة" بالزيت المقدس (لا 8 : 10) ويقدسها، كما هو مكتوب : على
الرغم من الأمر يلزم ان يتقدس الانسان بالحري بواسطة الأماكن المقدسة، لا ان
يقدسها : لكن ليس هناك اعتبار (من جهتنا) للأمور المعمولة في رمز من اجل الحق،
الذي لصالحه كانت تتم الأمور في ظلال، كما يرى المرء في الانبياء القديسين ايضاً.
اذ أمر واحد منهم ان يذهب ضد ارادته الى زانية، وآخر ان يمشي عرياناً، اجل، بل وان
يرقد على جانبه الأيمن عدة أيام. وقد تمت تلك الأمور من أجل ما تحمله من معان وليس
لأجلها في ذاتها. هكذا ايضاً أمر موسى المبارك ان يقدس الخيمة، على الرغم من انه
هو المحتاج للتقديس منها، حتى يمكن ان نفهم المسيح فيه، وهو يقدس هيكله الشخصي،
على الرغم من انه عاش بالجسد وسط اليهود، وفي الجسد تكلم الى الجموع، كما فعل الله
في القديم من فوق الغطاء (كرسي الرحمة).

15
"فتعجب اليهود قائلين : كيف هذا يعرف الكتب (الحروف) وهو لم يتعلم؟".

          لم
يكن تعجب اليهود بلا سبب، لكن ثمة شيئاً حاذقاً في مجادلتهم. لأنه كان من الأمور
العادية ان يندهشوا لرؤيته يتفوق في الكلام والمعرفة بشكل غريب، على الذين لم
يغتنوا بالتعليم. لأن ذهن الإنسان متقبل للحكمة، ومع هذا لا يبدو المرء حكيماً،
رغم ان طبيعته وبشكل جيد للغاية قد تكيفت مع نوال الحكمة والمعرفة حول بعض
الموضوعات. لكن في حالة أولئك الذين لم يتمرسوا جيداً في التعلم، فإن الميزة
الطبيعية تتوقف بعض الشيء وتصبح كثيفة. وفي حالة أولئك الذين اعتادوا التعمق في
مثل هذه الاجتهادات، والتفوق في التمارين الكتابية، يكون الأمر واضحاً جداً،
وقابلاً لمران جيد، ولا يوجد بغير رصيد كبير من الكتابات (الأحرف)، والوسائل
الحكيمة. لهذا اندهش اليهود، ناظرين الى المخلص المسيح، لا حال كونه الله
بالطبيعة، بل كمجرد انسان في نظرهم حتى الآن. وهم يتعجبون انه يتفاضل في الحكمة،
دون ان يكون له من يزوده بذلك، أعني المراس في القراءة، اذ هو يعرف الحروف
المكتوبة دون ان يتعلم. هذا اذن مع ما يليه، هو اتهام لليهود بالحماقة : لأنه ما
كان يجب ان يبدو هذا المر عجيباً امامهم، ان (الحكمة)، و(صانع) كل شيء، أي، كلمة
الله الوحيد الجنس، الذي كان في وسطهم مخفياً في صورة انسان، لا يحتاج الى الحروف،
(او الكتب).

          يجب
ملاحظة ذلك لمنفعتنا. لأن اليهود حين كانوا يطلبون يسوع، كانوا يسألون : اين هو
ذاك (الإنسان)؟ (كأني بهم يعرفونه، فقط من خلال معجزاته : دون ان تتوفر لهم المعرفة
الحقة، من هو، او ممن، ومن اين يأتي) لكنهم هنا ليس كأنهم يجهلون ما يخفيه، بل
كعارفين بكل شيء في وضوح، يقولون "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟ لهذا كان
التساؤل الأكثر غموضاً عنه، هو الذي نطقوا به قائلين "اين هو ذاك"؟
والذي سألوه باحتقار، وهو سؤال من الذين كانوا يعرفونه بالأحرى. وما اشد عقاب
الذين لا يجهلون، فهذا أقسى من عقاب الذين يجهلون : لأن الجهل بالنسبة لهؤلاء عذر،
بينما للآخرين فإن معرفتهم تدينهم، لهذا قيل انه للبعض "كان خيراً لهم لو لم
يعرفوا طريق الحق" (2 بط 2 : 21). لأن في المعرفة عقاباً اشد، لأن الناس
"محبون للذة دون محبة الله" (2تي 3 : 4). اذن كان يسوع، وحسب عسر فهم
اليهود "يعرف الكتب وهو لم يتعلم". أما موسى (كما هو مكتوب) "فقد
تهذب بكل حكمة المصريين" (أع 7 : 22) : ومع ذلك واذ لم يكن يعرف شيئاً على
الإطلاق، برغم انه كان حكيماً جداً وسط أولئك (العبرانيين)، فإنه نال معرفة أفضل
بواسطة كلام الله – وبذلك حكم على حكمة العالم بأنها ضعيفة – وهكذا فإننا من خلال
موسى الذي يتنبأ، نتهذب بأمور المسيح، نائلين الفهم الذي هو بالحق من فوق ومن
الله. المسيح اذن هو الصالح صلاحاً كاملاً في كل شيء، والوحيد وحده من بين الكل،
الذي له الحكمة والفهم، الذي له الرفعة، لا بالتعليم بل كخاصية كامنة فيه وبالحق
يقول النبي اشعياء عنه "قبل ان يعرف الصبي الخير والشر، سيرفض الشر ليختار
الخير" (اش 7 : 16س) – وعلينا الا نفترض في حماقة، ان المولود الالهي
والسماوي، سعياً وراء فطنة العقل او باختياره الأحسن، يحيد عن الشر، ويلتصق بالحري
بالخير : بل كمن ينبغي للمرء ان يقول عن النار، انها لا تقبل البرد، وليس يعني
انها حال كونها باردة ان بها اختياراً ارادياً، بل بالحري تقبل التصاق الطبيعة
التصاقاً وثيقاً جداً بما يخصها من خصائص، هكذا الأمر فيما يخص المسيح. لأن كل
الصالحات هي في الله بالطبيعة، وهي ليست فيه من خارج، هكذا الحكمة فيه ايضاً، اجل
بالحري، فهو ذاته، وبشكل خاص نبع الحكمة، الذي بواسطته يعطي حكمةً جزئياً لأولئك
المشتركين فيه، لكل من الخلائق السماوية العاقلة والخلائق الأرضية كذلك.

16
"أجابهم يسوع وقال : تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني".

          سنجد
ان ما كتبه واحد من الحكماء هو صادق بالحق ان "روح الرب ملأ المسكونة، وأذن
السمع تسمع كل شيء" (حك 1 : 7، 10) أما أولئك ذوو الحماقة الشديدة، وبسبب
التجديف، فإنهم بالحري يفترضون انهم حين يتكلمون، فانهم يفلتون من رقابة العقل
الالهي، وهؤلاء يقول لهم المرنم الالهي "افهموا، ايها البلداء في الشعب ويا
جهلاء، متى تعقلون؟، والغارس الأذن، ألا يسمع؟" (مز 94 : 8، 9). لأنه كيف
يمكن لمن يزرع حاسة السمع في الذين خلقهم، ألا يسمع كل شيء فعلاً!

          في
هذا ايضاً، ترون كيف ان الرب هو الله بالطبيعة. لأنه لا يجهل الهامسين سراً من
اليهود في وسط الحشد الحاضر، بل هو يسمعهم بأذنيه كإله، على الرغم من انهم لا
يقولون عنه شيئاً جهاراً خوفاً من الحكام. وحين تحدث، تعجبوا وراحوا يتساءلون
ويقولون همساً لبعضهم البعض "كيف هذا يعرف الكتب؟ وهو لم يتعلم؟" (آية
15). فإنه يليق به مرة أخرى ان يظهر نفسه معادلاً لله الآب الذي لم يتعلم على
الإطلاق، بل له المعرفة بكل شيء بالطبيعة ودون تعلم، لأنه يفوق كل فهم ويعلو فوق
كل حكمة موجودة في الكائنات. لهذا كان ممكناً له من خلال أمور أخرى أيضاً، ان يظهر
لسامعيه ويؤكد لهم، ان كل ما في الآب، هو ايضاً فيه، بسبب وحدة الطبيعة، وهو الشيء
الذي اعتاد فعله ايضاً في أمور أخرى، مثل قدرته على عمل نفس الأشياء وكونه صاحب
نفس الفعل قد عمل في كل الأشياء، إذ له كرامة مساوية : (إذ يقول) "مهما عمل
(الآب) فهذا يعمله الابن كذلك.. لأنه كما ان الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن
ايضاً يحيي من يشاء" (يو 5 : 19، 21).

          ولكني
اعتقد ان الوقت الآن موائم وأكثر ملائمة لعرض أهم النقاط. لأن حديثه عن الحكمة
والتعلم من دون حروف، قد تم مع اولئك المهتمين بتلك الأمور – لهذا يليق به إذن ان
ذلك قد وجد فيه، تماماً كما في الآب، ما هي اذن كيفية الاثبات؟ من مساواته في
الحكمة معه، رغم انه حسب التفكير الصادق والحكيم، فإنه هو نفسه الحكمة يقيناً وهو
من الله الآب، الذي يقول انه يعلم نفس الاشياء معه بدون أي اختلاف، لأنه إما على
أساس التماثل الدقيق لتعليمه مع تعليم الآب، يقول إنه تعليم الآب، او بسبب انه هو
نفسه حكمة الآب، الذي يتكلم وينظم كل شيء بواسطته، لهذا يقول ان التعليم هو ايضاً
تعليمه : ومع ذلك فإن ثمة شيئاً آخر يدبره. عاملاً لأجل خلاص تلاميذه، لأنه حيث
إنهم يرون انساناً، وبسبب الجسد المأخوذ من التراب، فإنهم لم يقبلوا الكلمة على
انها من الله، ولذلك يبدو ان مرضى بمرض عدم الايمان وان بدا مقبولاً حسب الظاهر،
ولهذا ومن اجل نفعهم ينسب التعليم لله الآب، لهذا وإذ هو يقول الحق، وخوفاً من ان
يكونوا مقاومين لله، ان ظلوا بعد معاندين للتعاليم التي من فوق، فإنه يحثهم على
قبول كلماته.

          لكن
علينا ان نعرف انه بقوله مرة اخرى انه مرسل، لا يعني انه تال للآب في الكرامة.
لأننا لا ينبغي ان نتخيل رسالة ما تليق بخادم، حتى وهو لابس صورة عبد ان يقول ذلك
بصواب حتى عن نفسه. لكنه كان "مرسلاً" ككلمة من العقل، كشعاع الشمس من
الشمس نفسها؛ لأن تلك حسب ظني هي الصدورات من تلك الاشياء التي هي موجودة فيها،
ومن خلال ظهورها كصادرة منها، فإنها توجد بشكل طبيعي وبغير انفصال في تلك الاشياء
التي هي فيها. لأننا لا ينبغي اذ والكلمة تصدر عن العقل، والشعاع من الشمس، ان
نفترض ابداً ان تلك الاشياء التي اصدرتها، تنفصل عن الاشياء الخارجة منها، بل سوف
نرى بالحري ان تلك توجد في هذه، وان هذه ايضاً توجد في السابقة. لأن العقل لن يكون
ابداً من دون كلمة، ولا الكلمة ايضاً بدون العقل الذي تتشكل فيه. وعلى نفس
المنوال، سوف ندرك الأمر الآخر ايضاً.

17
"ان شاء أحد ان يعمل مشيئته، يعرف التعليم هل هو من الله ام اتكلم انا من
نفسي؟".

          علينا
ودون حرج، وبلا أدنى شك، ان نقبل كلام الحق، وان نؤمن ان الشيء اذ قيل مرة، لا
يمكن ان يكون سوى ما كان قد أُعلن قبلاً – لكن (المسيح) لا يسمح ان يكون قوله من
غير برهان، بسبب غير المؤمنين، بل هو يقدم حلاً في منتهى الوضوح والبيان، وهو يصيغ
كلماته بمهارة بالغة. أما ما هي المهارة، وما هو نظام التدبير، فهذا ما سوف نقوله
: كان (اليهود) يطلبون ان يقتلوه بسبب المخلع، أعني ذلك الذي نال الشفاء يوم سبت.
وبرفق كان (المسيح) يرهبهم بسبب قصدهم المخيف ضده، ووبخ اولئك الذين كانوا يسعون
بمرامهم الدموي ضده، وانهم كانوا قد اختاروا ان يحققوا شهوتهم الخاصة، وليس مشيئة
معطي الناموس. (وهو يقول) حينئذ ستعرفون بالتمام "تعليمي"، إنه من
"الله الآب"، حين تختارون ان تتبعوا مشيئته لا مشيئتكم، لكن
"مشيئة" معطي الناموس الذي هو الله، هي ان نبتعد تماماً عن القتل. (وهو
يقول) لهذا إذن فإنكم لم تمسكوا مسبقاً من بغضكم الذي بلا سبب، ولا من اندفاعكم في
هيئة حيوانية في غضب بلا مناسبة، فتعرفوا بوضوح، ما اذا كانت كلمة
"تعليمي"، هي من الله، أم "اتكلم انا من نفسي". واذ قد نسج
(الرب) التوبيخ للمنفعة، فإنه يتهمهم بعدلٍ، انهم يسخرون من تعليمه بلا سبب، مع ان
الله الآب يوافق (على تعليمه) وهو شريك معه، أو ما هو ايضاً حق، انه شريك يعلم معه
في التعليم وفي التفسير. لكنه يضع عبارة "من نفسي"، لأنه، وبشكل خاص
وكامل قد نأي بنفسه عن ان يكون متخلفاً عن شركة المشيئة والقصد مع الآب. لأني لا
أحسب ان انساناً ذا عقل سليم يمكنه ان يظن ان (المسيح) يتهم كلماته هو شخصياً
بأنها زائفة، بل يقول انها لن تكون شيئاً آخر خلاف ما يتفق مع مشيئة الله الآب لأن
(الآب) يتكلم بكلمته الذاتي وبحكمته، التي هو وليده الذاتي، أما ذاك (الابن) فلا يتكلم
من نفسه أبداً بشكل مختلف، فكيف له ان يفعل ذلك؟

18
"من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه".

          هو
هنا يقدم هذا البرهان الواضح انه بتعليمه، لا يعمل لمجده الشخصي، وأنه لم يستخدم
اية كلمات غريبة خارجة عن الناموس (لأن هذا هو معنى ان "يتكلم من
نفسه")، لكنه كان يحضهم بالحري ان يطيعوا كلمات الوحي السابقة، بينما يزيل
فقط ظل الحرف الكثيف غير النافع، ويحوله بطريقة مقنعة الى المعنى الروحي الذي كان
مخفياً في المثال. اذن ما يقوله في الانجيل حسب متى، "ما جئت لأنقض الناموس،
بل لأكمل" (مت 5 : 17)، إنما يشير اليه هنا مرة اخرى بشكل غير مباشر. لأن نهج
الانجيل قد حول الحرف الى الحق، اذ قد حول المثال الموسوي الى ما هو أكثر ملائمة،
اي الى الذي فيه معرفة العبادة بالروح. لهذا فالمسيح لا يتكلم من نفسه، اي لا يقول
شيئاً يختلف عما تم التنبؤ به قبلاً. لأنه لا يتجاهل موسى، ولا هو يعلمنا ان نرفض
تأديب الناموس، بل فوق ما كان مظللاً عليه في مثال وكأنه نور اكثر لمعاناً ليظهر
الحق. وبمنتهى المهارة يربح مسرة اليهود بأن يقدم المجد والكرامة لله الآب. لأنه
حيث ان اليهود لم يعرفوا الكلمة الذي ظهر من عند الله الآب، افترضوا ان الناموس
اعطي من الآب فقط، ولهذا السبب يؤكد (المسيح) انه تمجد بحفظه الناموس، وانه سيتحمل
العكس لو لم يكن الناموس قد تم حفظه كما ينبغي. لكن حتى وان كان الابن شريكاً لمجد
الآب، وان الله الآب قد تكلم بواسطته الى موسى، فإنه يوافق على آرائهم بشكل
تدبيري. لكن حال كونه "لا يتكلم" من نفسه، اي بما لا يتفق مع الناموس،
يعترف انه يقيناً لا يسعى الى تأكيد مجده الشخصي، بل الى ذلك المجد اللائق
بالناموس.

          بالإضافة
الى ذلك، يجب ملاحظة هذا ايضاً. لأنه بشكل غير مباشر وغامض، يجد ان ثمة خطأ في وسط
اليهود، الذين يقعون في تلك الأمور عينها، والتي يلومونها عن جهل، وانهم قد
اعتادوا ان يطلبوا لأنفسهم اذ ينحرفون عن وصايا الناموس، قد اشنغل كل واحد منهم
بما يروق له، معلمين تعاليم هي وصايا الناس، كما هو مكتوب (مت 15 : 9). لهذا
فحسناً يتهمهم المسيح كمتعدين، وكمخطئين ضد معطي الناموس نفسه، باستمالتهم
لسامعيهم؛ لا ليحيوا حسب وصايا الله، بل بالحري ان يلتفتوا الى تعاليمهم هم.
ولهذا، وعلى الرغم من ان المسيح لا يزال وبشكل مطلق وبلا حدود، يقول إن "من
يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه" (يو 7 : 18)، فهو يوبخ مرض جنون الفريسيين، في
أنهم باندفاعهم للتحدث بأقوالهم هم، يسرقون مجد معطي الناموس، ناقلين الى انفسهم
الأمور الواجبة لله، لهذا فإنهم لم يحجموا في النهاية عن السعي لقتله. فعلى هذا
الأساس يتهمهم المسيح بالتعدي، إذ هم يغالون في تبرير انفسهم بزعم انهم غيورون على
حفظ الناموس، وانهم بهذا يكرمون الله الآب.

          (وهو
يقول) "أما من يطلب مجد الذي أرسله، فهو صادق وليس فيه ظلم"، فالذي لا
يطلب مجد الله بل مجد نفسه، ليس صادقاً، بل ظالم الى ابعد الحدود، وهو ليس
"صادقاً" لأنه يفتري على الناموس، ويصنع ارادته هو، عوض الناموس، وهو
ظالم جداً للغاية ايضاً، اذ انه يطرح جانباً، الحكم العادل الذي لمعطي الناموس،
ويضع حكمه فوق حكم ربه. فالمسيح اذن عادل وصادق، إذ انه ليس عرضة لأي من الاتهامات
السابقة.

19
"أليس موسى قد أعطاكم الناموس؟

وليس
أحد منكم يعمل الناموس. لماذا تطلبون ان تقتلوني؟".

          إن
حديث المخلص يصل الى هدف واحد، بواسطة اساليب متعددة. لأنه إذ قد لام قبلاً الفريسيين
وبشكل غير مباشر الذين فكروا ألا يطيعوا الوصايا التي من فوق، بل ان يفرضوا آراءهم
الخاصة، وسعوا بالحري ان ينالوا الكرامة من اولئك الذين هم تحت إمرتهم، ولم يقدموا
هذه الكرامة لرب الجميع، بل حولوها الى شخوصهم هم، حتى انهم تجاسروا على التعدي
بشكل أكثر سهولة : وهو مرة اخرى، يعد لهم التوبيخ العلني الأشد وبلا مواربة، لأنهم
إذ قد أدانوه بكسر السبت، واحتمل هو أقسى اتهام ظالم بأنه متعدٍ على الناموس بسبب
هذا المر، فإنه قد اتهمهم لا بتعديهم الفردي على "الناموس"، بل بأن أمة
اليهود كلها قد أبطلت ناموس موسى. إذ يقول "اخبروني انتم الذين تحكمون على
الإنسان الغيور على إظهار الرحمة في يوم السبت، وانتم الذين القيتم كل اللوم على
من يفعلون الخير، ويدينون الرؤوف بسهولة، ألم تصلكم وصية عدم القتل من موسى، الذي
تعجبون به؟ ألم تسمعوه يقول "لا تقتل البريء والبار" (خر 23 : 7). فلماذا
تحزنون اذن حتى موسى نفسه الذي لكم، بتعديكم هكذا بسهولة على "الناموس"
الذي اعطي بواسطته؟ والدليل الواضح على ذلك، انكم تضطهدونني، انا الذي لم يفعل اي
خطأ، وتتلهفون في ظلم ان تقتلوا ذلك الذي لا يمكن ان يتهم بتلك الأمور التي تستوجب
ان يتألم بسببها.

          وهكذا
يظهر حديث المخلص حاداً للغاية وفي منتهى الشدة يهاجم حماقة اليهود الجنونية،
ويوضح ان الذين يقعون، دون كبح لأفعالهم، في اتهامه بتعديه على السبت، يظهرون
انفسهم متعدين، ومتآمرين على قتله، ولهذا السبب وحده يسقطون في أرذل جميع الخطايا.
وهو يصرخ عالياً قائلاً إن ذلك المشلول (المفلوج) الذي وقع تحت وطأة مرض مر لا
شفاء منه، والذي استهلكه الضعف مدة طويلة لا تحتمل، هذا قد شفيته في يوم سبت،
لكنني بسبب حسن صنيعي، أدان وكأنني ارتكبت أسوأ الجرائم، ولهذا حكمتم علي بالقتل.
(وهو يقول) فأي أسلوب للعقاب سيصاغ لكم، جزاء هذه الأفعال الوحشية؟ لأنه ها أنتم
انفسكم تتعدون على "الناموس"، لكن طريقة تعديكم، ليست مثل الاتهامات
التي تتهمونني بها. ولكنكم لا تستمالون لفعل هذا كفاعلي خير، مثلي، بل بغرض القتل،
الذي هو أسوأ من كل تعدي، كيف إذن يكون موسى معكم في هذه الأمور، الذي بحسبه أُدان
أنا رغم انني حافظ (للناموس)؟ ألم يعطكم هو الناموس بخصوص هذا؟ ألستم أنتم ايضاً،
تدوسون على كلمتي، تتعدون على الناموس؟ بتدبيركم القتل ظلماً؟

          هذا
ما يمكن ان يقوله المسيح حسناً للفريسيين المقاومين لله. لكنه لا ينسب الناموس في
الوقت الحاضر الى شخصه هو، على الرغم من انه هو نفسه معطي الناموس وينسبه للآب
وحده، وبواسطة الاب بنوع خاص، وهو الذي يعتبر عندهم أعظم من (المسيح)، يجبر اليهود
الذين لا يخجلون، على الصمت، لأنه كما قلنا كثيراً انهم لم يعترفوا به أنه إله
بالطبيعة، ولم يكونوا قد عرفوا بعد السر العميق الذي لتدبير التجسد، بل اعجبوا
بالحري بمجد موسى.

20
"أجاب الجمع وقالوا : بك شيطان. من يطلب ان يقتلك؟".

          احس
اليهود بالاتهامات، وآلمتهم الكلمات المرة السابق ذكرها، ولجأوا الى الإنكار، ولم
يحيدوا عن خطتهم في القتل، لكنهم بكل اجتهاد يبعدون عن انفسهم مظهر التعدي على
الناموس، فإن فخر الفريسيين هو في التظاهر فقط، لهذا كان المسيح يدعوهم ايضاً
"قبوراً مبيضة"، فهم يكتسون من الخارج بجمال مصطنع ببراعة، لكنهم
"من داخل مملوءون بكل نجاسة الأموات" (أنظر مت 23 : 27) : لكني افترض
انهم يقولون مثل هذه الأشياء تحاشياً للخوف من توقع (المسيح) ان يتألم بأي ألم،
ولم يكن في قصدهم الحقيقي ان يعطوه تأكيداً بأنه لن يتألم، بل ان يجروه الى ثقة
خطرة، ظانين انهم بذلك سيقنعونه بعدم الاهتمام باخفاء نفسه عنهم؛ لأنه لن يكون من
الصعب التآمر عليه حينئذ، على الأقل كما افترضوا هم. لأنهم تصرفوا معه بجهل، غير عارفين
من هو (ذاك) الذي اضطهدوه، وانه سيكون عرضة لشرهم، حتى لو لم يكن يريد الألم، وسوف
يلقي القبض عليه : كمن لا يعرف الفكر المخفي في أذهانهم. إذن كان انكارهم له هو
ثمرة عنادهم، وهو نوع آخر من التجديف على المسيح. لأنه بأي شيء كانوا يسعون ان
يرفضوا كلماته، كأنها غير صادقة، فيدينونه ككاذب، "جاعلين إثماً على
إثمهم" كما هو مكتوب (مز 69 : 27).

21
"أجاب يسوع وقال لهم : عملاً واحداً عملت فتتعجبون جميعاً؟".

          سوف
تقرأ الآية كسؤال، بعده فاصلة، ثم ينتهي بنقطة. لكننا لن نجهل المعنى الدقيق
للكلمة، المذكر فيها تدبير حكيم جداً. إذن لاحظوا كيف انه حين تقدم لليهود برأفته
المملوءة حباً لهذا الإنسان العاجز، لا يقول في غير حذر، قد شفيت الرجل في يوم
السبت، فهل لأجل هذا تتعجبون؟ بل بأكثر حرص وأوفر انتباه، يقول "عملاً واحداً
عملت، ملطفاً من غضب الجموع الذي ثار في غير أوانه، لأنه كان من المحتمل انهم وقد
صدموا بالتعدي على السبت، يحاولون الآن ان يرجموا يسوع، وحسبما يقول شعراء
اليونان، فإن الجموع لأنهم يكونون في طياشة بسبب عدم المشورة، ومعرضون للغضب
دائماً، فإنهم يجتمعون معاً على التفكير في شيء واحد، ويصير من السهل استثارتهم
كثور، الى جسارة لا تحتمل، فيتعرضون بسهولة للسقوط في إتيان افعال جسورة تؤدي الى
نهايات مخيفة. فإنه إذ قد أبعد عنهم كل افتخار لمنفعتهم، فإنهم يستخدم أرق
الكلمات، وباعتدال شديد، فيقول "عملاً واحداً عملت، فتتعجبون جميعاً؟".

          (وهو
يقول) إنه على أساس هذا العمل الواحد، وعلى الرغم من انه عمل لأجل خلاص وحياة
المطروح ارضاً، فهل تدينون الصانع القدير بسبب هذا؟ بسبب أفعال (تبدو) كأنها شنيعة
فعلاً ناظرين فقط الى تكريم السبت، دون ان تبدو اندهاشاً للمعجزة؟ (فإن هذا في
الحقيقة، كان سيبدو أكثر لياقة). ولكن لأن وصية الناموس كانت قد كسرت حسب تصوركم
الأحمق، لأسباب ليست بالهينة او عديمة القيمة، لكن لأجل خلاص الإنسان وحياته،
وأنتم غاضبون بلا سبب، بينما كان الأجدر بكم ان تمدحوا ذاك المتسربل بقوة الهية
عظيمة المقدار حقاً. إذن فقد تبرهن ان شعب اليهود كانوا جهلة بهذه الأمور، اذ
أبدوا دهشة لا تلائم حالة انسان نال شفاء، وكان الأحرى بهم ان يندهشوا من المسيح
الذي يشفي بطريقة معجزية.

          لكن
علينا ان نعرف، ان المسيح بمخاطبته شعب اسرائيل قائلاً : "عملاً واحداً عملت
فتتعجبون؟" إنما يوبخهم مرة أخرى بطريق غير مباشر، ويعرفهم شيئاً من هذا
القبيل، لأنه بسبب هذا الخطأ الذي تنسبونه الى (كما يقول) تتعجبون على قصدي،
وكأنني تجاسرت ان انحي معطي الناموس جانباً : إذن ما هو تصوركم عن شعور الله من
نحوكم، الذي لم يتعد الناموس ولا مرة واحدة، بل ولم يتعد عليه أبداً، في الأمور
التي تحكمون بسببها على الآخرين؟

22
"لهذا اعطاكم موسى الختان، (ليس انه من موسى بل من الآباء) ففي السبت تختنون
الانسان".

          للكلام
معنى عميق، ومن العسير ان نبلغ القصد منه، لكنه سينكشف لنا بنعمة ذاك الذي يعطينا
الاستنارة. هكذا يغلب (المسيح) بكلمات كثيرة، جهالة اليهود، ويعلمهم بطرقٍ متنوعة
ألا يندفعوا الى غضب في غير أوانه بسبب كسر السبت، لأن "ابن الإنسان هو رب
السبت" (مت 12 : 8)، لأنه إذ لم يحصل في النهاية على تأثير طيب بسبب مشورة
السامعين الردية، فإنه يتحول الى تدبير آخر، ويسعى ان يشكف بوضوح ان معلم الأقداس
الحكيم موسى نفسه "خادم الناموس" قد كسر ناموس السبت لأجل "الختان"
الذي امتد من الآباء حتى زمن اليهود ليظهر انه هو ايضاً كان حافظاً لعادة الآباء،
ولما كان الله يعمل ايضاً في السبت، لذلك فهو يعلن نفسه انه يعمل ايضاً، فلا يكون
هذا تعدياً على السبت، وذلك بسبب ان له نفس الفكر مع الآب. لهذا ايضاً قال "ابي
يعمل حتى الآن، وأنا أعمل" (يو 5 : 17).

          (وهو
يقول) ولكن لا تتعجبوا اذ ترون عملاً لي في السبت، كأنه شيء ما غريب وبشع، فإن
"موسى اعطاكم الختان" في السبت، وكان بكسره للناموس، إنما يوقره، لماذا؟
لأنه لم يكن يفتكر انه سيصنع شيئاً غير حسن، بازدرائه بالناموس المعطى للآباء، وعاداتهم،
بسبب السبت. لهذا فإن "الانسان يختتن في يوم السبت" ايضاً. لكن ان كان
موسى قد اهتم ان يكرم عادة الآباء، وجعل هذا التكريم اعلى من تكريم السبت، فماذا
تنزعجون باطلاً مني، وتتعجبون، وكأنني واحد من الذين يسعون الى التعدي على
الناموس، ويزدرون به. (وهو يقول) وبالرغم من انني اعمل عملاً معادلاً لعمل الآب،
واتفق معه دوماً في كل قصد، وحيث إنه يعمل يوم السبت، فإنني ارفض ان اتكاسل في هذا
اليوم. وهو يقول، إن "موسى اعطاكم الختان : على الرغم من انه لم يكن منه بحسب
ما قيل تواً" بل من الآباء"، لأن فريضة الختان كانت قد أُعطيت للآباء،
لكن تم ترتيب وتحديد طقوسها وبشكل أكثر تحديداً بواسطة موسى. لأن جدنا الأول
ابراهيم كان قد اختتن، لكن ليس في اليوم الثامن، ولا كان قد قدم زوجاً من اليمام
او فرخي حمام، بحسب طقوس موسى.

 

الفصل
السادس

بحث
في راحة السبت، وبيان مغزاها من عدة نواح

23
"فإن كان الإنسان يقبل الختان في السبت، لئلا ينقض ناموس موسى، افتسخطون علي،
لأني شفيت انساناً كله في السبت؟".

          تبدو
الآية غير مفهومة لكثيرين وليست واضحة تماماً من حيث اقسامها، لذلك سنتحدث عن هذا
أولاً. وسنقرأها جزءاً جزءاً، مع تغيير (تركيب) الآية، لأنه بذلك يمكن ان تفهموا
المعنى. (وهو يقول) "إن كان الانسان يقبل الختان في السبت، افتسخطون علي،
خشية ان ينقض ناموس موسى، لأني شفيت انساناً كله في السبت؟" لأن الإنسان يقبل
الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى : لأنه ينقض حينما يصير السبت باطلاً بسبب الختان.
لأننا كما علمنا قبلاً (من التعليم)، وكما قال المخلص نفسه بالحري، "ليس
الختان من موسى، بل من الآباء" (يو 7 : 22). لهذا فإنه بسبب الختان الذي من
الآباء، ينقض ناموس موسى، من جهة حفظ السبت. لذلك ينبغي ان نربط الكلمات
"لئلا ينقض ناموس موسى" بكلمات المخلص، إذ يقول "افتسخطون علي،
لئلا ينقض ناموس موسى، لأني شفيت انسان كله في السبت؟". واذ تستقيم حالة قسم
من الآية، دعنا ننتقل الى تفسير الأمور التي تشير اليها ايضاً، حتى وان بدت عسرة
الفهم جداً. (فهو يقول) ان الختان اذن هو السبيل الىالعناية بالانسان، وهو يفوق
فريضة السبت نفسها. لأنه كان من الضروري ان يشفي المريض تماماً. فما العانق اذن،
او كيف يعقل ان تقف فريضة السبت في طريق شفاء الجسد كله، مادام يسمح فعلاً ودون
لوم بخرقة عن طريق شفاء جزئي (او طفيف)؟ لأن الإنسان يختن ويشفي من جرحه دون لوم
في يوم السبت. (وهو يقول) : عبثاً إذن يكونون ساخطين على صانع الأمور الأفضل إذ
يعترضون على تعدي الناموس، حين لم يأسفوا لحال الناموس لما نحاه موسى جانباً لأجل
ختان قليل الشأن، هكذا دون نقاش بسبب تلك الأمور، حاثاً إياهم على الموافقة على
الا يتضايقوا عبثاً، طالما ان موسى كان مثالاً لذلك فعلاً، الذين ظنوا بحماقة ان
عليهم ان يشاركوه (موسى) وهم لا يعملون لناموسه هذا حساباً، إذ اسرعوا الى محاولة
اقتراف القتل.

24
"لا تحكموا حسب الظاهر، بل احكموا حكماً عادلاً".

          (وهو
يقول) ان الناموس الذي انتم غيورون هكذا على الاشتراك فيه، والذي بسببه اشتعلتم
بثورة عارمة، انما يصرخ عالياً فيقول "لا تهابوا وجه انسان، لأن القضاء
لله" (تث 1 : 17). اذن انتم يا من تدينونني كمتعد بسبب السبت وتقررون انه من
اللائق تماماً ان تغضبوا لهاذ، هل تهتمون بكرامة الناموس، اذن اخجلوا من الرسالة
التي تقول "لا تحكموا حسب الظاهر، بل احكموا حكماً عادلاً". لأنكم ان
كنتم تستبعدون موسى من التعدي، وبصواب تعتبرون انه لا دينونة عليه في ذلك، رغم انه
يكسر فريضة السبت بسبب الختان (الذي هو) من الاباء، فهل تعتقون الابن ايضاً من
اللوم، وهو الذي يتفق دوماً مع فكر الآب ويوافق مشيئته، وكل ما يفعله الآب، فهذا (الابن)
يفعله ايضاً. فكيف ان كنتم تدينون الابن فقط، ولا تدينون موسى، رغم انه مشترك (كما
يقول الرب) في نفس اللوم فيما يخص ما تفترضون انتم انني انا ايضاً متورط فيه بسبب
السبت، فكيف لا تحسبون انتم انكم تدوسون الناموس الالهي، وتهينون القوانين
الفوقانية، من باب محاباة بعض الذين يفسدون الحكم بعدل، ورغم انه يتعدى الوصية،
تجعلونه فوق الوصايا الالهية، وتوقرونه من باب محاباة الوجوه.

          وليلاحظ
السامع الحكيم مرة اخرى حذق مخلصنا المسيح، ذلك الحذق المثير للعجب. فحين اتهم
بخرق الناموس، ادانهم كمتعدين بواسطة عدة مناقشات، كلها تنطق بكلمات الانجيل :
"ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن
لها؟" (مت 7 : 3). ان ادانة الآخرين اذن هي أمر شرير. لأنه كما هو مكتوب ان
الانسان "فيما يدين الآخر، يحكم على نفسه" (رو 2 : 1) وقال المخلص نفسه
ايضاً "لا تدينوا فلا تدانوا، لا تقضوا على احد، فلا يقضى عليكم" (لو 6
: 37). وهذا نقوله فيما يخص انفسنا : لأن المسيح لن يصبح متعدياً بتغييره لنواميسه
الخاصة لمن يريده هو، فيغلف ظلال الناموس بجمال الحق الخالص. حتى انه في النهاية،
تتحول الأمور ذات المعنى الجسداني في القديم الى معنى روحاني.

          لكن
لما كانت عظتنا، التي هي حول ذكر السبت، قد تدرجت الى ذكر الختان، أظن ذلك لن يكون
أقل نفعاً لدى الباحث عن الحكمة ومن خلال استكشافه الجلي، ان يعرف ما الذي تعنيه
راحة (اليوم السابع)؛ والتي يشار اليها بالختان في اليوم الثامن.

          وبتعلمه
ايضاً، لماذا يقبل الختان في السبت نفسه، دون المحافظة على الراحة الشرعية : وإذ
افحص كل نقطة بشكل صحيح، وبقدر ما استطيع، سأسعى جاهداً ان اجعل الشرح واضحاً :

          اول
ما نهتم به هو ما يعنيه اليوم السابع او السبت، وراحته. لأنه بذلك يكون التساؤل
حول ما يلي من امور استفساراً مقبولاً. لهذا هيا نستفسر عن القانون الأول المعين
حول هذا الموضوع، وكيف وبأية وسيلة قد نشأ الأمر.

          لأنه
عندما اعتق الله اسرائيل من العبودية في مصر وأتى بهم الى حريتهم الأصلية
والقديمة، بيد الحكيم جداً موسى، واذ اجازهم البحر بطريقة معجزية، بأقدام جافة غير
مبتلة، امرهم ان يسرعوا الى أرض الموعد، وقد عودهم على ضرورة ان يطهروا انفسهم
مقدماً، وان يغتسلوا، فإنه قد دعاهم الى اجتماع على جبل سيناء : واذ نزل عليه في
شبه نار، اعطاهم وصايا للخلاص، قائلاً "أنا الرب الهك، الذي اخرجك من ارض مصر
من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة
مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد
لهن ولا تعبدهن. لأني انا الرب الهك اله غيور" (خر 20 : 2-5). لأنه كان
لائقاً، نعم كان لائقاً آنذاك ان يبدأ بعرض ما كان نافعاً، وان يبدأ أولاً مع
اولئك الذين كانوا قد سلموا انفسهم مرة لخدمة الله وطاعته، وذلك بأن يدخلهم بواسطة
تعاليم المعرفة الالهية، لأن معرفة الله هي أصل كل الفضائل والايمان هو اساس
التقوى، واذ اعلن عن نفسه، وجعل نفسه ظاهراً بقوله "أنا الرب الهك" واذ
قد حرم نهائياً صنع صورة وعبادة الآلهة الزائفة الاسم، يظهر ان تعديهم لن يمر دون
عقاب، وهو يضع أمامهم عقوبة الارتداد، صارخاً "لا تنطق باسم الرب الهك
باطلاً" (خر 20 : 7) أي لا تصنع صنماً باطلاً للاسم الالهي المخوف جداً
"لأن الرب (كما يقول) لا يبرأ من نطق باسمه باطلاً". وبعد ان قال إن ذاك
الذي يسر بعبادة آخر ويخضع نفسه لإله زائف، انما هو مذنب بتعد ليس بقليل. وبعد ان
هددهم، تبعاً لذلك كشعب جاء الى الايمان حديثاً وله فهم ضعيف، يضيف في وقته، وكأني
به يؤسس قانوناً ثانياً، قائلاً "اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع
جميع عملك، اما اليوم السابع ففيه سبت للرب الهك، لا تصنع عملاً ما" (خر 20 :
8-10).

          ولنفعهم
يظهر لهم من يتمثلون به في هذا العمل، فيقول، "لأنه في ستة أيام صنع الرب
السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم
السبت وقدسه" (خر 20 : 11).

          (وقد
يقول قائل) فما هي فحوى فريضة السبت اذن؟ او لماذا بعد التهديد الموجه ضد
التعديات، كان هناك ناموس ثان مماثل قد تم وضعه مباشرة؟ لهذا نقول، كان من الصائب
لا ان يهدد المتعدين فقط انهم سيعانون من آلام مروعة، وليس بالخوف وحده يؤسس
اسرائيل على التقوى (لأن خدمة الخوف هي من النوع المتسم بالعبودية)، بل لكي يظهر
ما يصيرون شركاء فيه وما ينتهون اليه، اولئك الراسخون بثبات في محبتهم له. لذلك هو
يعرف، ويعطيهم كما في مثال الوعد بالخيرات العتيدة. "لأن الناموس له ظل
الخيرات العتيدة" كما هو مكتوب (عب 10 : 1)، ويبدو شكله كتمرين تمهيدي للحق.
لأنه يأمرهم ان يستريحوا من كل عمل، وان ينتهوا منه، وان يمارسوا الراحة عندئذ،
مشيراً بذلك الى الراحة والتمتع الذي سيصير للقديسين في انقضاء الدهور، حين تنتهي
حياتهم في العالم وقد غسلوا عرق اعمالهم الصالحة، اولئك الذين سيحيون في المسيح
حياة بلا تعب، خالية من كل قلق، حسبما قيل عنهم بفم النبي القائل "لأنهم
سينسون ضيقتهم السابقة، ولن تأتي على قلوبهم بعد، بل يكون فرح ابدي على رؤوسهم،
لأن على رأسهم سروراً، ويستقر عليهم فرح، ويهرب منهم الحزن والكآبة والتنهد"
(اش 65 : 16س). هم ايضاً يحاكون الخالق الذي توقف وكف عن اتعاب الخلق، هكذا هم
ستتوقف اتعابهم في هذه الحياة، ويبلغون الفرح الذي يهبه المسيح لهم في نهاية
الدهور. واعتقد ان الراحة المعنية في السبت تتجه نحو تلك الغاية.

          لكن،
لاحظوا كيف ان معطي النامسو ينفي بالقول، عبادة آلهة اخرى، لأنه وهو يعطي الوصية
القريبة الصلة حول السبت والتي تلي هذا الكلام، يقول "اذكر"، ولماذا؟
لأن زمان عدم عبادة آلهة أخرى قد ولى الآن (لأنه لذلك يوصيهم على الفور ان يجتهدوا
في هذا الأمر). لكن كان من الممكن من خلال الذكرى ان يعاينوا اموراً مستقبلة، وان
يروا مقدماً بالفكر ما كان موصوفاً مثلاً بأمثلة. علينا نحن ايضاً ان نلاحظ ذلك.
لأنه حينما عزز موقفنا حسناً من جهة ايماننا، فإنه يضيف على الفور ذكرى الوعد في
نهاية الأزمنة، ثم يرتب سن النواميس الباقية، "اكرم اباك وامك.. لا
تقتل" (خر 20 : 12، 13) وهكذا : وحتى لا نظن اننا نتبرر بالأعمال، غير ناظرين
الى سخاء الله الوفير كثمرة لأتعابنا، بل اننا سنناله بالايمان، لذلك، فقد دخلت
النعمة جنباً الى جنب مع ايماننا ورجائنا في الخيرات، قبل النواميس التي تناولها
الحديث الالهي.

          اذن
تشير راحة السبت الى حياة القديسين في راحة وقداسة، بعد ان يخلعوا في النهاية كل
ما يضايق، ويتوقفوا عن كل كد، فإنهم يبتهجون بالخيرات التي من الله. وحين يحدثنا
المغبوط بولس عن هذه الأمور حقاً، ويحاول بكل امتياز ان يستفسر عن كيفية راحة
الشعب، يقول هكذا "ولمن اقسم لن يدخلوا راحته الا للذين لم يطيعوا؟ فنرى انهم
لم يقدروا ان يدخلوا لعدم الايمان" (عب 3 : 17، 18). لأنه اذا افترض البعض ان
تلك كانت ارض الراحة التي جاء اليها الذين أتوا من مصر، رغم انها أخذت كرمز للأرض
التي سيعطيها المسيح للقديسين، والتي دعاها داود "ارض الأحياء" (قابل مز
27 : 13)، ويسعى الحكيم جداً بولس ان يظهر، ان تلك التي اعطيت كميراث لبني اسرائيل
بأمر هوشع كانت مثالاً لتلك الأرض المنتظرة، وهو يثبت ان تلك الأمور اخذت كمثال
للحق، فهو يثبت الأمر باجتهاد بمناقشة توضيح ما قيل. اذ يتكلم هكذا :

          فإذ
بقي ان قوماً يدخلونها، والذين بشروا أولاً لم يدخلوا، بسبب العصيان، يعين ايضاً
يوماً قائلاً في داود اليوم، بعد زمان هذا مقداره، كما قيل اليوم ان سمعتم صوته
فلا تقسوا قلوبكم، كما في الاسخاط، لأنه لو كان يشوع قد أراحهم، لما تكلم بعد ذلك
عن يوم آخر" (عب 4 : 6، 8).

          أترون
كيف انه باجتهاد يسقط الاعتراض الظاهري؟ لأن شخصاً ينخرط في المناقشات اليهودية،
يجب عليه ان يقول "ماذا تقول ايها السيد الفاضل جداً؟" ألم يأت يشوع
بالشعب الى أرض الموعد؟ ألم يستريحوا ويحفظوا السبت فيها؟ (ويقول) "اجل"
لكن في رمز وكمحاكاة للحقيقة. لأنه إن كان في تلك الأمور فقط تقاس نعمة الله ويقدر
قياس وعده، وفيها تحققت لإسرائيل مواعيدهم، ولا يشير حرف الناموس الى شيء آخر
سواه، فكيف تحددت فترة اخرى بواسطة المبارك داود، وكأن يشوع لم يعطهم راحة، رغم
انه جاء بعد يشوع بفترة طويلة؟ وبعد ان اظهر ان الأحداث التاريخية هي مثال وصورة
للأمور الروحية، نراه يكشف التفسير المختوم المخفي للسبت، بحكمة وحزن شديدين،
فيضيف قائلاً "إذا بقيت راحة لشعب الله. لأن الذي دخل راحته، استراح هو ايضاً
من اعماله، كما الله من اعماله" (9، 10). كيف لا نقر إذن في النهاية وبوضوح،
ان ذهن القديسين يعرف ان الراحة من الاتعاب، أي الراحة من اتعابنا، هي حفظ السبت، حين
تبتهج جوقة القديسين المشرقة باعمالهم الصالحة التي سبقوا وعملوها في هذه الحياة،
على مثال خالق كل الاشياء، الذي استراح وفرح في اليوم السابع، كما يقول الحكمة في
سفر الأمثال "وكنت أنا فرحه، وفي بهجة أمامه يوماً بعد يوم، بعد ان تهلل
لتكميله الأرض، ومبتهجاً مع بني البشر" (أم 8 : 30، 31س).

          (وسأرجع
مرة اخرى للموضوع الأساسي، فأوجز ملخص الحديث كله)، لهذا، فإن راحة السبت تشير الى
حياة القديسين التي بلا تعب. لأن الله سيعطي القديسين كل الصالحات في ذلك الدهر
بلا تعب. وحينئذ فنحن ايضاً لن نصنع خطية، والتي هي أصل كل الأوجاع، لأنها ستبيد
من داخلنا بجذورها وفروعها، مع ذاك الذي كان يبذرها فينا، حسب ما قيل : "لا
يكون هناك أسد. وحش مفترس لا يصعد اليها، بل تكون هناك سكة نقية يقال لها الطريق
المقدسة" (إش 35 : 8، 9).

          اجل
وسيتذكر القديسون كل الأمور الصالحة دون تعب. هكذا فإن من جمع عصياً ايضاً يوم
السبت يموت رجماً، لأنه أخطأ الى الحق في مثال. لأنه بعد ان نكون قد توقفنا،
وبلغنا تلك الراحة، لن نكف عن تلك العادة المدهشة والشهيرة وسط الفضائل، كما فعلوا
هم من خيمتهم، ولن نجمع خطية فيما بعد، والتي هي وقود النار واصلها (كالعصى تماماً)،
كما يجمع ذلك الرجل الحطب، من خلال حماقته الشديدة، دون ان يفهم معنى المثالات
التي تشير الى الحق. ولذلك ايضاً يرجمه المنتقمون مع الأحجار العديمة الحس، لأنه
حسب عديم الحس هو ايضاً، إذ له نفس صفاته الأخلاقية مكتوبة فيما عوقب به. لذلك من
الواضح اننا لن نقترف اية خطية شائنة حينئذ، كما اننا لن نعرق لنحصل على ما هو
نافع، وهذا ما ستراه ايضاً واضحاً وان بشكل مبهم بعض الشيء في كتب موسى. لأن الله
أمطر المن مثل ندى على بني اسرائيل، في البرية، واعطاهم خبز الملائكة، كما هو
مكتوب (مز 78 : 25)، ثم عين ناموساً ايضاً بخصوصه بواسطة الحكيم جداً موسى. لأنه
هكذا نادى قائلاً : "كلوه اليوم، لأن للرب اليوم سبتاً. اليوم لا تجدونه في
الحقل. ستة أيام تلتقطونه أما اليوم السابع ففيه سبت. لا يوجد فيه" (خر 16 :
25، 26). لأنه يلمح انه قبل انقضاء الدهور، من الملائم ان نجمع بكد ما ينفعنا ويقوينا
للحياة الأبدية، كما عبروا هم البرية الواسعة وجمعوا من كل الأطراف منا لطعامهم،
لكن في اليوم السابع، أي، في النهاية الأخيرة. فإن زمن ما هو نافع يكون قد ولي،
ونحن سنبهج انفسنا بالأمور التي سبق ان وهبت لنا، كما قيل بالمرنم "لأنك
ستأكل ثمرة اتعابك" (مز 127 : 2س).

          فالله
اذن معطي الناموس، إذ لا يجد مسرة في الظلال، بل هو يتطلع مسبقاً الى نفس صورة
الأشياء، أعلن ألا نعمل في السبت. لكن بعض الناس الذين احتقروا الناموس المعطي
لهم، ولم يحجموا عن الإساءة بحماقة بالغة الى رب الكل، قرروا انهم ينبغي ان يخرجوا
ليجمعوا المن حتى في يوم السبت، ولم يكن مسعاهم المتجاسر هو في المشورات فقط، بل
في الفعل ذاته قد عملوا ما بدا لهم حسناً. لذلك فإن معطي الناموس يلومهم مرة أخرى
بسبب هذا "الى متى تأبون ان تحفظوا وصاياي وشرائعي؟ انظروا ان الرب اعطاكم
هذا اليوم لأجل السبت (راحة). لذلك هو يعطيكم في اليوم السادس خبز يومين، اجلسوا
كل واحد في مكانه، لا يخرج أحد من مكانه في اليوم السابع" (خر 16 : 28 : 29).
أترون كيف انه سبق وعين لنا حياة خالية من كل تعب وعرق، في الراحة في مثال، لهذا
يحثهم ألا يفعلوا شيئاً في يوم السبت؟ لأنه لم يسمح لهم ان يجمعوا، وبالإضافة الى
ذلك يأمرهم الا يبرحوا بيتهم ويذهبوا الى أي مكان والا يغادروا مكانهم فما الذي
يريد ان نتعلمه ايضاً من هذا، هذا ما سنوضحه لكم، بأن نضع أمامكم وصية أخرى قريبة
ومماثلة. فقد قال النبي الطوباوي ارميا لليهود حول هذا الأمر :

          "هكذا
قال الرب. احفظوا نفوسكم. ولا تحملوا حملاً يوم السبت، ولا تخرجوا من أبواب
اورشليم، ولا تخرجوا حملاً من بيوتكم يوم السبت، ولا تعملوا شغلاً ما، بل قدسوا
يوم السبت، كما امرت آباءكم" (ار 17 : 21، 22س).

          وماذا
بعد إذن، اذ هو يحثهم كما قلنا قبلاً على ان يكون في حالة سهر، فإنه يوصينا ان
نحفظ نفوسنا؛ وهذا ستحقق بسهولة واجبنا في الإسراع الى الحفظ المرجو للسبت. لكن كم
من الخيرات العديدة سوف تكشف لأولئك الذين يقتنون هذا، ذلك هو ما يجعله معروفاً
بشكل جميل بعرضه لأمور أخرى. لأنه لم يجعل احداً يحمل حملاً، لأنه ما من احد في
ذاك الزمان سيثقل كاهله بحمل الخطية الثقيل. لأنه زمان القداسة، حيث تكون خطيئتنا
القديمة قد طرحت طرحاً نهائياً في الإبادة التامة، وحين تتجدد نفس كل واحد الى
حالة الفضيلة غير المتذبذلة. أجل، فهؤلاء لا يدعهم يخجرون الى أبواب اورشليم. لأنه
بحسب التعليم الصحيح والقديم، فإن جوقة القديسين المجيدة ستسكن آمنة في اورشليم
السماوية، ولن تخرج من المدينة المقدسة، بل تبقى بالحري هناك الى الأبد. مثبتة
بالقوة الالهية، فلا تقدر ان تترك الخيرات التي اعطيت لها مرة واحدة ([ii])
"لأن هبات الله ودعته هي بلا ندامة" كقول القديس بولس (رو 11 : 29).

          ولكن
بقوله ثانية "لا يخرج احد من مكانه"، يبدو انه يقصد هذا الأمر بكل وضوح.
لأنه في الحقيقة توجد "منازل كثيرة عند الله الآب" كقول المخلص (انظر يو
14 : 2). وعن هذا كانت الخيمة المقدسة في كل مجدها هي المثال، والتي كان لها عشرة
غرف، وسيعطي لكل مسكناً حسب ما يستحقه وبما يتناسب مع أعماله الصالحة، لكن الذين
يملكون تماماً مساكنهم تلك، فهؤلاء سيسكنون الى الأبد هناك، ولن يفقدوا ابداً
الاشياء التي اعطيت نصيباً لهم بالهبة الالهية المجانية. وسنقدم شهادة حقيقية عن
هذا : فالنبي اشعياء اذ اوضح تلك الأمور بجلاء، يتحدث هكذا :

          "سوف
ترى عيناك اورشليم، مدينة مزينة،.. خياماً لا تنتقل، لا تقلع اوتادها الى
الأبد" (انظر اش 33 : 20س). لأنه بقوله ان الخيام في المدينة المزينة الثرية
لن تهتز، يكشف عن عدم تغير المسكن والإقامة هناك. أجل، بل إنه يقول اكثر من ذلك،
"ولا تعملوا شغلاً ما، بل قدسوا يوم السبت". وكما قلنا مراراً، فإن زمان
الراحة والانتعاش يخص كلا الأمرين، وهو محفوظ بالكامل مقدساً كعيد للمسيح.

          وسنعرف
من مصادر اخرى ايضاً اننا يجب الا نعمل شيئاً في السبت، بل نستريح ونكف عن كل شيء
يجلب تعباً وعرقاً. لأنه يقول في الخروج "وست سنين تزرع ارضك، وتجمع غلتها،
وأما في السابعة فتريحها وتتركها" (خر 23 : 10، 11). وفي سفر اللاويين يقول
"متى اتيتم الى الأرض التي انا اعطيكم، تحفظ الأرض سبتاً للرب. ست سنين تزرع
حقلك وست سنين تقضب كرمك وتجمع غلتها. وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض راحة
عطلة، سبتاً للرب" (لا 25 : 2-4).

          لأنه
ليست الأرض التي لا تحس بالتعب هي التي يطلقها، ولا قد اعطى الله هذا الناموس
للأرض نفسها. بل قد اعطاه لأولئك الذين يمتلكونها، لكي لا يتعبوا، من خلال تحريره
للأرض. لأنه بطرق كثيرة يشير الى عيدنا في المسيح، الذي فيه يسرع، اولئك الذين
عاشوا في مخافة الله، الى الحرية الكاملة والتامة، الحرية التي في القداسة، والى
نعمة الروح الفائقة الغنى، هذا نعرفه ايضاًَ من وصايا موسى ذاتها.. لأنه مكتوب
هكذا "اذا بيع لك اخوك العبراني او اختك العبرانية وخدمك ست سنين، ففي السنة
السابعة تطلقه حراً من عندك" (تث 15 : 12). لأننا نحن الذين كنا في القديم
عبيداً للخطية، وبتلذذنا بالشر قد بعنا انفسنا للشيطان، اذ قد تبررنا في المسيح
بالايمان، سنرتفع الى الحفظ الحقيقي والمقدس للسبت، مكتسين بالحرية التي هي
بالنعمة، وممجدين بالخيرات من الله.

 

الفصل
السابع

بحث
في الختان في اليوم الثامن، يظهر ما يشير اليه من عدة وجوه

          (كما
أظن)، فإني وبحسب مقدرتي على الفهم، قد بينت الآن بما يكفي الغاية من السبت،
وسننقل جهدنا البحثي الى الختان الذي هو قريب الصلة بالسبت، عاقدين العزم من كل
جهة ان نفتش عما هو ملائم لنستخدمه. إذ كان الأمر في غاية السخف ولا يخلو من منتهى
السخرية، ألا يبذل المرء كل الجهد وبفرح لنبلغ معرفة تلك الأمور. وسنفحص روحياً ما
الذي يعبر عنه هذا الأمر ايضاً في مثال للشعب القديم، وسنقدمه وفقاً لقياس هبة
الله إله الكل الذي يجعل الأمور الغامضة ظاهرة، ويفتح لنا الكنوز المخفية وغير
المرئية. لأن أولئك الذين بلغوا فعلاً الى الحالة التي بلا عيب وكان لهم فهم اكثر
نضجاً، يمكن لهم ان يدركوا اموراً اسمى بكثير من تلك الأمور وينطقوا بها، لكننا
سنضع أمام سامعينا ما يرد على ذهننا، رغم انه يبدو قاصراً عن بلوغ ما هو ملائم،
دون ان نخطئ في حق المحبة الأخوية بخوفنا ان نظهر كأننا أدنى من أي أحد، بل بالحري
لأننا نعرف قول الكتاب "أعط حكيماً، فيكون أوفر حكمة. علم صديقاً فيزداد
علماً" (أم 9 : 9).

          وقد
تم فرض القانون الأول عن الختان، حين قال الله لإبراهيم : "وأما انت فتحفظ
عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين
نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني
وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر" (تك 17 : 9-12).

          لكنه
حينما عين القانون بخصوص ذلك، وقد قرر ان عليهم ان يختنوا لحم غرلتهم، أظهر ان
التعدي على القانون لن يكون بغير ضرر، مظهراً ان ذلك مثال لسر جوهري جداً : إذ
يكمل كما يلي ".. فيكون عندي في لحمكم عهداً أبدياً. وأما الذكر الأغلف الذي
لا يختن في لحم غرلته، فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي" (13، 14).
وقد أكد بولس الالهي ان "الختان" قد اعطي لرئيس الآباء (إبراهيم)
"علامة وختماً لبر الايمان الذي كان في الغرلة" (رو 4 : 11) (لأنه حسب
ما يبدو) كانت غايته وسعيه الغيور ان يظهر ان الدعوة والبر اللذين بالايمان يفوقان
كل وصايا الناموس، وانهما اقدم منها. لأنه هكذا بالكاد قد أخزي بني اسرائيل، وحثهم
الا يعتبروا بر الايمان تعدياً على الناموس، بل بالحري عودة الى الوضع الذي كان
منذ البدء قائماً، وقبل كل ناموس، مع ذلك نجده قد عرف نوعاً آخر من الختان، إذ انه
وفي الوقت المناسب يستعيد قوة موضوعة الى ما هو نافع مباشرة، وذي فائدة في الوقت الحاضر،
لأنه إذ يريد ان يجهل اليهود في فرحهم بالافتخار بالجسد، يكتب مرة أخرى "لأن
اليهودي في الظاهر ليس يهودياً، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً، بل
اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالحرف (بالكتاب) هو الختان
الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" (رو 2 : 18، 19). ألا يحثهم هو هنا اذن
على التغيير الى أفكار اخرى من جهة هذا الأمر فلا ينظرون الى الختان، كمجرد عطية
الختم "الموهبوة لأبينا بالايمان الذي كان له وهو في الغرلة" (رو 4 :
11)، بل ان يعرفوا الختان كشيء أعظم، بل يعرفونه كأمرٍ روحاني؟

          لذا
وجب علينا ان نفحص دون كسلٍ، ما معنى الختان بالروح؟ وما معنى ان ذلك الختان الذي
في الجسد هو رمز، ولماذا لا يتم في اي يوم آخر دون تحديد؟ بل ينبغي ان يختتن
الانسان في اليوم الثامن فقط؟

          من
الواضح اذن لكل انسان، انه ما دام ان غرضنا ان نكون متحدين بالله بالمسيح الوسيط،
لذلك فإنه يليق بالتأكيد بأولئك الذين يرتفعون بالايمان ليصيروا قريبين اقتراباً
حميماً من الرب كلي القداسة، ان يطهروا ويقدسوا انفسهم اولاً بكل وسيلة.

          وسنأخذ
ما قاله الله للقديس موسى، كأروع صورة لذلك النوع من الأشياء : "اذهب احتج
لدى الشعب وقدسهم اليوم وغداً. وليغسلوا ثيابهم ويكونوا مستعدين لليوم الثالث،
لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب على جبل سيناء" (خر 19 : 10، 11)، فلكي
يجعلهم يتمسكون بالعادات اللائقة، امرهم بتقديس انفسهم مقدماً، وامرهم بغسل
ملابسهم، ولكي يشير الى طهارة الجسد نفسه، لأن الجسد هو ثوب النفس وكسوتها.

          وأعود
الى اهم وانفع بداية للموضوع. فإنه منذ ذلك الحين، كان اولئك الذين يسرعون الى
اقتراب حميم من الله القدوس، ينبغي عليهم بالضرورة اساساً ان يطهروا انفسهم اولاً
كقول الله "تكونون قديسين، لأني أنا قدوس" (لا 11 : 44). لذلك فرض على
القدماء رمزاً للقداسة بواسطة الختان في الجسد.

          أما
كيف يكون ذلك، فهذا ما سنقوله عند فحصنا لطبيعة الاشياء التي بيننا، وسنجد سروراً
ونحن نسدد الضربات الى كل خطية : وكل شهوة ملتهبة تسبق فعلها، فتدعونا الى التعدي،
فتوقع في اسرها الفهم المتعقل. وفي النهاية تحرضنا بطريقة في غاية النعومة على
بلوغ الاشياء المرغوبة. ويظهر تلميذ المسيح ان ما قلناه عن تلك الاشياء هو صحيح،
اذ يعلن هكذا، "لا يقل أحد إذا جرب، اني أُجرب من قبل الله. لأن الله غير
مجرب بالشرور، وهو لا يجرب احداً. ولكن كل واحد يجرب اذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم
الشهوة اذا حبلت تلد خطية، والخطية اذا كملت تنتج موتاً" 0يع 1 : 13-15).
أترون إذن كيف يتولد الشر أولاً عن طريق اشتهاء اي شيء، وان بذرة الخطية يحبل بها
اولاً في اللذة المحرمة؟ لهذا يأمر الله معطي الناموس بأن توضع سكين الختان على
هذا الجزء من الجسم الذي فيه ومنه تتولد الشهوات، لتعلموا، بشكل غامض، انه من
المستحيل علينا ان نظهر اطهاراً، ان لم نقبل عمل الكلمة القاطع جداً في قلوبنا،
وندخل سيف الروح الى ذهننا، فنطرد ادنى الاشياء، والا نسلك بحسب ارادتنا الخاصة،
حتى وان ظهر انها تحوز احلى المتع، بل ان نكون مقتنعين في انفسنا، ان نحب مشيئة
الله ونعملها، عالمين ان الختان الحقيقي يعطينا مثل هذه القوة، لهذا يمكن ان يقال
لأولئك الذين اعتادوا ان يفتخروا بالجسد فقط "اختتنوا للرب، واختنوا قساوة
قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان اورشليم" (ار 4 : 4س).

          لأن
من يختن في الجسد فهو يختن للجسد فقط، اما الذي قبل الختان في الروح، بالايمان
بالمسيح، فهو يختن "لله" وحده.

          لكننا
نحن ننال الختان في الروح الذي يحضرنا الى اقتراب حميم مع الله، في اليوم الثامن،
اي يوم قيامة المخلص، آخذين هذا الأمر كعلامة على ان ختان الروح سيعطي الحياة،
ومتفقين بشكل ما، على اننا بالختان نفسه سنحيا مع المسيح، حسب ما قاله بولس
"لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا،
فحينئذ تظهرون انتم ايضاً معه في المجد" (كو 3 : 3، 4). لأنه هل يقول أحد
(وهذا حق) ان واحداً يموت عن العالم، برفضه لذات العالم لأجل الله؟ ومثل هذا
الانسان، قد اظهره لنا ايضاً بولس الالهي قائلاً : "حاشا لي ان افتخر الا
بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم" (غل 6 : 14)،
لأننا اذ صرنا شركاء (للمسيح) بالروح، الذي يختن بدون يد كل نجاسة فينا، لأننا نصير
موتى عن العالم، نحيا حياة لله في منتهى السمو.

          لهذا
فإن الختان هو في اليوم الثامن بسبب قيامة المسيح، وليس قبل اليوم الثامن، لأن
عطية الروح لم تعط قبل القيامة، بل بعدها، اي في نفس وقت القيامة، حين نفخ (الرب)
في تلاميذه ايضاً، قائلاً "اقبلوا الروح القدس" (يو 20 : 22).

          اذن
كان الختان لليهود بالسكين ملائماً جداً، اذ كانوا بعد عبيداً تحت ناموس النقمة
(والحديد رمز للعقاب)، اما نحن كأحرار وروحانيين فلنا التطهير بالروح، الذي يبيد
كل دنس من نفوسنا، واهباً لنا الكمال في بهاء التقوى بالايمان.

          ويمكن
لنا ان ندرك انه بالختان الحقيقي والروحاني يتحقق افتخار الكمال بالتقوى، وذلك
بفحص ما هو مكتوب عن رئيس الآباء ابراهيم. فقد كتب اذن عن ابينا ابراهيم ان عدد
سنينه كان تسعاً وتسعين، وعندئذ أمره الله ان يختن لنفعه، جاعلاً هذا الختان ايضاً
علامة واضحة، وكان الختان اقتراب الى الكمال في الفضيلة ومدخل اليها، أي بالحري
ليشير بوضوح انه لن يبلغ احد الى هذا (الكمال) ابداً، ان لم تتوفر له الطهارة التي
يرمز لها بظل الختان. ولأن العدد 100 هو رمز الكمال. لهذا فإن الختان ([iii])
يسبق الكمال، حينما يكون الختان اولاً، فإنه يصل بنا بسهولة لبلوغ الكمال.

          لكن
منافع الختان ليست قاصرة على تلك الأمور، وأنا أعني الختان بالروح، لكننا سنجد انه
يخص ايضاً اولئك الذين هم أحرار في المسيح. (ولكني أظن) ان الحر بالكامل في المسيح
هو الانسان الذي نفض عنه عبودية الشيطان ونير الخطية "وقطع قويدهما"
(قابل مز 2 : 3)، كما هو مكتوب، وحمل على كاهله فخر البر الممجد، الفخر الذي بلا
طغيان، اعني البر الذي في ايمان المسيح.

          ولن
ينتابنا شك، عندما نفتش في الكتاب المقدس الالهي، اذ نجد ان الختان في اليوم
الثامن يليق بالأحرار، وليس بالذين هم عبيد بأي حال. فقد ختن اسماعيل اذن وهو
الابن المولود للآب رئيس الآباء من الجارية هاجر، لكنه لم يختن في اليوم الثامن،
بل بالحري وهو في سن الثالثة عشرة سنة؛ لأنه كما هو مكتوب ان ابراهيم ختن ابنه
اسماعيل وهو "ابن ثلاث عشرة سنة" (تك 17 : 25). لكي توضح الكلمة الالهية
لنا ان ابن اورشليم الذي في العبودية، أي اسرائيل، قد سقط من كل من
"الثامن" ومن "الثاني عشر" : لأنه يسقط عن الثامن، اذ لم يرد
ان يقبل الكرازة الخلاصية بالقيامة، التي تمت في اليوم الثامن، أي انجيل المسيح؛
الذي به واذ قد نلنا معونة الى الايمان، فاننا نختن بالروح. لكنه يسقط ايضاً من الثاني
عشر اذ هم في رمز قد طرحوا بعد ايمانهم جوقة الرسل المقدسة عنهم، راغبين في البقاء
بدون أي تذوق واختبار لتعليمهم. هنا اذن يكون العبد، اما اسحق الحر ابن الحرة، فقد
ختن في اليوم الثامن. لأن الأولاد الأحرار ابناء الحرة، اعني اورشليم العليا لهم
غنى نوال "الثامن"، أي قيامة المسيح، والختان الروحي أي بالروح الذي
يحررهم من كل خطية، ويعتقهم من الموت، اذ يعتقهم من الخطية ايضاً، التي منها
وبسببها يأتي الموت، ويحضرهم الى الحياة في المسيح.

          لكن
بالإضافة الى ما قلناه فإن ابطال مفعول الموت، وطرح الفساد يتمان بواسطة الختان
بالروح، وهذا ما سنراه بسهولة، بدراسة سفر الخروج، لأن المغبوط موسى أرسل بأمر
الهي الى فرعون طاغية المصريين، ليخبره انه ينبغي عليه ان يدع اسرائيل يذهب من هذه
العبودية القاسية، وبعد ان خرج (اسرائيل) بالفعل، وقعت له الأمور التي تحثنا عنها،
لكن "حدث في الطريق الى المنزل الى الملاك التقاه وطلب ان يقتله. فأخذت صفورة
صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه. فانفك عنه، لأنها قالت دم ختان ابني قد
بقى" (خر 4 : 24-29س).

          اسمعوني
باهتمام. ان ذاك الملاك حاول ان يقتل موسى، لكنه تركه بالكاد وانصرف عنه، اذ اخزاه
ختان الطفل، الذي اتمته صفورة بحجر صوان، التي قال عنها (الكتاب) انها قد اتمت ما
هو ضروري. فلكي تخيف مهلك موسى وتبعده، صرخت "دم ختان ابني باق". لكن
(اخبروني) ان لم يكن ثمة معنى سري مخفي في تلك الكلمات، فما هو المعنى الأكيد، من
وراء نجاة معلم الأقداس موسى، بختان ابنه، وان المهلك بعدما بدأ الهجوم كوحش سافر
كاسر، ما إن رأى الدم حتى أحجم عن القتل وانسحب وتراجع عنهم؟

          اذن،
لم تكن المنفعة او المجد من وراء ختانه الشخصي، لتكفي لخلاص المبارك موسى، (وسأعود
الى هذه النقطة أولاً). لأنني اعتقد انه ينبغي على ان اتحدث هكذا : ان قوة الختان
الذي هو بحسب الناموس، أن تطرح الموت الذي يأتي على كل واحد دون تمييز، شريراً كان
أم صالحاً.

          لكن
الختان بالروح (القدس) للشعب الجديد، أي أولئك الذين آمنوا بالمسيح، والذي تم بشكل
فائق جداً بين صفورة، أي الكنيسة، فإنه يفزع الموت ضد ارادته، ويجعله يهرب بعد
ثورته (ضدنا).

          وقد
يقول قائل ما وفي تعقل شديد، هل يكون اسرائيل اذن محفوظاً ايضاً في الختان الروحي
للشعب الجديد، رغم انه لم يشترك فيه؟ نقول لهذا الشخص، لو ان اسرائيل لم يرد ان
يقبل قيامة مخلصنا المسيح، لكان الموت قد ملك عليهم الى الأبد، ولكن حيث ان الذين
آمنوا قد قبلوها (أي القيامة)، فإن نعمة القيامة تكون قد انتقلت الى الجنس كله
بسببهم وامتدت بصورة ما الى الجميع بالختان بالروح، رغم الاختلاف الكبير الذي يرى
في القيامة في كلا الحالين. لأن الذين يطرحون عنهم الايمان بالمسيح، ويهينون معطي
الحياة بعدم ايمانهم، سيقومون ويعودون الى الحياة مرة أخرى (لأنهم سيحيون مرة أخرى
للهلاك، لأنهم لم يحبوا المسيح الذي يبرر)، أما الذين يؤمنون بقيامة المخلص،
ويحفظون الوصايا بحق، سيخرجون من تلك الأرض المدفونين فيها الى "قيامة
الحياة" (يو 5 : 29) كما هو مكتوب.

          اذن،
فالشعب الذي ختن بالروح سينقل صلاحه هو حتى الى غير المؤمنين. لأنه، اذ له نعمة
القيامة بحق، فانه سينقلها الى الباقين ايضاً، فالله بحكمته يريد ان يحفظ الطبيعة
البشرية كلها، لأنه كما يقول بولس، مثلما لم نؤمن نحن في الأزمنة الماضية، حتى انه
بواسطة عدم طاعتهم، نلنا نعمة المسيح "هكذا هؤلاء ايضاً الآن لم يطيعوا لكي
يرحموا هم ايضاً" (رو 11 : 31)، فان مخلصنا المسيح، ينقل اليهم ايضاً نفع
القيامة من خلال ايماننا، لأن الأمور التي هي للمؤمنين، انما تعطى بشكل مناسب لكل
الجنس البشري. لهذا فإن المبارك بولس الرسول ايضاً اذ يكشف لنا السر الخاص
بالقيامة العتيدة، يقول ان المسيح سيقوم "باكورة" (1 كو 15 : 3)، لأنه
بالحق قد قام هو اولاً من الأموات، "ثم الذين للمسيح في مجيئه". لأنه
يقول ان الذين ارتبطوا في علاقة حميمة مع (المسيح) بالايمان يجب ان يقوموا قبل
الباقين، موضحاً ان القيامة على وجه التحديد تحق لهم فوق الجميع، رغم انها قد بلغت
الى كل الطبيعة البشرية، فالله في صلاحه وشفقته المملوءة حباً، سر ان يبيد الموت
كلية.

          لكن
تأملوا كيف ان صفورة لم تختن الطفل بحديد (لأن الحديد أداة انتقام، تناسب اولئك
الذين هم تحت الناموس الذي يعاقب) بل ختنته "بحجر" كما هو مكتوب، لنفهم
انه مثال للمسيح. حيث يشير (الحجر) الى ما في طبيعة الابن الوحيد من صفات الثبات
وعدم التحطم. لهذا فإن الله الآب يدعو المسيح بلسان الأنبياء القديسين بأنه
"حجر صلب" ايضاً، قائلاً : "ها أنذا واضع (حجراً صلداً) في وسط
شعبي اسرائيل" (عا 7 : 8س).

          ويشير
لنا حجر الأدامنت (الصلد) كما في مثال، الى ان الطبيعة غير المدركة للكلمة، لا
يمكن ان تستسلم لأولئك الذين يقاومونها. هكذا ايضاً فإن يشوع الإلهي، اذ دعي الى
القيادة، بعد موت موسى، طهر بني اسرائيل بحجر معين من قبل الله، واذ كان عليه ان
يتصدى ليد العدو، فانه بصواب جداً قد أمر ان يسلحهم اولاً بنوع من الختان، عالماً
انهم ما من طريق آخر يستطيعوا به الذين كاوا على حافة القتال ان يكونوا فوق مستوى
السقوط وأقوى من الموت.

          لهذا
كتب عنه "قال الرب ليشوع : اصنع لنفسك سكاكين من صوان حاد، وعد فاختن بني
اسرائيل. فصنع يشوع سكاكين من صوان فختن بني اسرائيل" (يش 5 : 2، 3س).

          وهنا
ايضاً تشير كلمة "صوان" الى كلمة الله الراسخة التي لا تتحطم، وتشير لنا
ايضاً كلمة "حاد" الى قوة الاختراق النافذة الى كل الاشياء، وقدرتها
الباترة، وبولس ايضاً، الذي اقتات على الكتابات المقدسة والالهية، يدعو الكلمة
الالهية بأنها حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين" (عب 4 : 12). ويقول انها
"تخترق الى مفرق النفس والروح".

          لكن
(الكلمة) الحاد للغاية والخارق، حين يدخل قلوبنا بواسطة روحه الشخصي يحررها من كل
نجاسة، وبطريقة لا يعبر عنها، يختن الاشياء التي بسببها نمتلئ نحن بأعمال كريهة جداً،
فنصير مقدسين وبغير دنس. تأملوا هاهنا كيف تبدو صورة الحق في منتهى الشفافية. لأن
يسوع هو الذي يختن، والذي يختنهم، هم كل "طفل صغير"، كما هو مكتوب (تث 1
: 39س) "الذين لم يعرفوا اليوم الخير والشر". لأن الذين خرجوا من مصر،
ادركهم الغضب الالهي جزاء عدم ايمانهم، وحل بهم العديد من أنواع العقاب في البرية،
وكان حكم الله كلي القداسة صائباً إذ لم يأت بهم الى الأرض التي أقسم ان يعطيها
لآبائهم. لكن الذين جاءوا بعدهم، اذ هم خالون من تهم عدم الايمان، حققوا مثال
الشعب الجديد، فاختتنوا بالروح (القدس) بالمسيح، أما (الجيل) الأول، فكان قد هلك،
كما سبق وقلنا تواً.

          مع
ذلك فقد اختتن الشعب الجديد الشريف، بأمر يشوع، في الضفة الأخرى من الأردن، كما هو
مكتوب. لأن الاعتبارات التي تنبع من الحق هي هكذا : لن ننال الختان بالروح في
القلب، إن لم نأت الى الأردن السري. ولكننا لا نزال هناك على الضفة الأولى من
المياه المقدسة. لكن حينما اختتن كل الشعب بأمر يشوع، اعلمهم معطي الناموس على
الفور، بمنفعة الأمر، وقال للقديس يشوع "اليوم، قد دحرجت عنكم عار مصر"
(يش 5 : 9). فأين يمكن لنا ان نسلم بأن اسرائيل نال منفعة من الختان، او ماذا نقول
عن ذلك العار الذي دحرج عنهم؟ انه هو عبوديتهم، وتعرضهم للطغيان بسبب ضعفهم،
وايضاً اتعابهم الشاقة في الطين والطوب اللبن. أرأيتم كيف لقدرة الختان بالروح ان
تحرر من شرور عظيمة؟ لأن الختان ينجي نفس الإنسان من يد الشيطان، ويجعلها حرة
ومطلقة السراح من الخطية التي تطغى علينا، ويصيرها مرتفعة فوق كل غطرسة الشياطين
الأشرار. أجل. إن الختان يحرر من الطين والطوب اللبن، اذ لا يعود الانسان مدنساً
بعد بملذات الجسد، ولا ينخرط في أتعاب الأرض، بل يتحرر من الموت والفساد، ليست هذه
هي كل منافع الختان، بل إنه يجعلنا ايضاً "شركاء الطبيعة الالهية" (2 بط
1 : 4) بالشركة في مخلصنا المسيح.

          لأن
كاتب السفر يضيف الى ما قيل "وعمل بنو اسرائيل الفصح في اليوم الرابع عشر من
الشهر.. وأكلوا من غلة الأرض خبزاً غير مختمر (فطيراً) وجديداً" (يش 5 : 10،
11س). لأنه ما من وسيلة أخرى يمكن للمرء بواسطتها ان يشارك في الحمل الحقيقي الذي
يرفع خطية العالم، او ان يجد الطعام الجديد غير المختمر الذي لكرازة الانجيل، ان
لم يعبر الانسان اولاً في نهر الأردن السري وينال الختان من الكلمة الحي، ويمحو
عار مصر، كأنه لطخة على النفس، بالطريقة التي عرضناها تواً.

          وينفر
الله، من الذي لم يختتن، كانسان مملوء عاراً وكل دنس، ليس كمن يمقت الجسد الذي لم
يحجم عن خلقه، بل (كمن يكره) ذاك الذي لا يزال شديد البأس والثورة فيما يخص التلذذ
بالشر، بسبب انه لم يقطع منه شيء. وهذا ما سنعرفه حينما نجده يقول للقديسين موسى
وهارون : "هذه فريضة الفصح لا يأكل منه غريب. ولكن كل عبد رجل مبتاع بمال
تختنه ثم يأكل منه" (خر 12 : 43، 44). لأن (الله) يستثني الغريب تماماً،
مشيراً بذلك الى من لم يرتبط بعد بالمسيح بالايمان : اما الذي هو عبد للخطية،
ومبيع للشيطان، يأمره (الله) ان يختتن اولاً، في الوقت المناسب، ويتطهر، ثم يتذوق
الجسد الأقدس. لأننا ونحن انقياء، فإننا بنقاوة نشترك في المسيح، حسب الترتيب الذي
ينادي به في كنائسنا : "القدسات للقديسين" لأن ذلك الأمر في الحقيقة هو
"عادل ومستحق للشكر"، اذ ان مخلصنا المسيح مات لأجلنا، وطهرنا، لا
بتطهيرات الناموس، بل بدم نفسه، لكي نقدم له نحن ايضاً حياتنا ذاتها، كدين نرده عن
حق، فلا نعيش بعد لأنفسنا، بل نرد الدين، بأن نقدم انفسنا بتكريسها بالكامل
للقداسة. لأجل ان الدم الثمين وموت المسيح الذي مات لأجل الجميع، قد انقذنا من كل
شر، وكان هو معطي الختان الروحي، الذي به نربح ارتباطنا بالله الذي هو فوق الجميع،
وهذا ايضاً ما سنراه. اذ انه هكذا مكتوب عن ذاك الذي كان قائداً بعد موسى، اعني
يشوع بن نون : "وكان بعد هذا الكلام انه مات يشوع بن نون عبد الرب ابن مئة
وعشر سنين. فدفنوه في تخم ميراثه : وهناك دفنوا معه في القبر حيث دفنوه هو،
السكاكين والصون التي ختن بها بني اسرائيل" (يش 24 : 29، 30س). لأنه لما مات
المبارك يشوع ودفن، كان من النافع ان تدفن معه السكاكين في القبر، وهي أدوات تخدم
هذا النوع من الختان، لنفهم نحن مرة اخرى بواسطة ذلك ان نعمة الختان بالروح – وهي
أكثر الخيرات السماوية كلها قرباً منا – هي مرتبطة بموت مخلصنا المسيح.

          سنفهم
اذن ان الختان في اليوم الثامن، ليس بالمفهوم اليهودي، هو التطهير بواسطة الروح
(القدس)، بالايمان وقيامة المسيح، وهو طرح كل خطية، وابادة الموت والفساد، ويمنحنا
القداسة والملك مع المسيح، وهو صورة الحرية، والطريق والبابا الى الصداقة الحميمة
مع الله.

          اذن
فقد قدمنا الآن وفرة من الاعتبارات الروحية من كافة الوجوه، وقد قسمنا الفصلين
بشكل مناسب، وختمنا كل فصل منهما بالمناقشة التي تناسبه، فيبقى ان نقول، لماذا
يسود الختان الروحي حتى على كرامة السبت. لأن الختان يجب ان يجب ان يتم حتى في يوم
السبت، بدون مراعاة الناموس الذي يمنع العمل في يوم السبت. وحيث ان الراحة في
اليوم السابع تشير الىالحرية والراحة من كل شر، والكف عن الخطية، ولا يعني الختان
بالروح ايضاً شيئاً آخر مختلفاً عن هذه الأمور، كما لو كانت تتأتى من طريق آخر
(لأنني اظن ان التحرر من الشهوات التافهة والملذات الزائدة المستعرة، تنتج عنها
بوضوح راحة من الشر)، وسنجد ان الختان لا يكسر وصية ناموس السبت، بل بالحري يسانده
ويتطابق معه بنفس اللغة علينها، منادياً علناً ان على المرء ان يستريح وان يحجم عن
الشر، من هنا فالأمران متساويان، اعني الختان والراحة في السبت (كما يحق للمرء ان
يحسب)، وذلك لأن للأمرين معاً نفس القصد. لأننا لن نلتصق بثخانة مثال التاريخ، بل
بالحري ننطلق روحياً الى أقوال الروح.

          اذن
تأتينا منفعة الختان بلا لوم في السبت ايضاً، كما يقول المخلص : "الكهنة في
الهيكل يدنسون السبت" بخدمتهم فيه (أي السبت)، وعدم توقفهم عن مهامهم العادية
– وهم ابرياء (مت 12 : 5) كما شهد لهم الديان نفسه بلياقة عظيمة. لأنه ما هو الوقت
الذي علينا فيه ان نحجم عن اعمال القداسة، وفعل هذه الأمور التي تفرح الله؟ ومتى
لا يكون مضراً ان نتراخى في غيرة التقوى؟ ان الراحة في السبت اذن هي راحة الكف
والتوقف عن الشر فقط وعن خطية مكروهة، الأمر الذي يستحق كل مديح، لكنها لا تعوقنا
ابداً عن التلذذ بأعمال مقدسة، وما يعتقد كل أحد انه نافع لنفسه هو، فهو يلزمه ان
يسعى بكل جهده ان يفعله بلا لوم وفي استقامة. وقد ترون نفس هذه المنفعة داخلة
ايضاً في قوة الختان. لأنه بقطع التلذذ بالشر، ندرك ميلاد الراحة من الخطية،
وبداية العبادة بالروح والسيرة الكاملة القداسة، والفارق بينهما طفيف، على الرغم من
وجوده. لأن الله اذ لم يأمر بأن نحفظ كليهما في اليوم السابع، ولا حتى في الثامن،
فإن القصد من كليهما يهيأ لنا ان نفهم انه ليس هناك تمييز بينهما. وهذا له معنى
ايضاً ولا يعد من الأمور التي لا تليق، كما يبدو لي. لأن الراحة من الشر ليست هي
بعد طرح الشر بشكل نهائي. لأن شهواتنا في داخلنا في أغلب الأحوال، ومع ذلك فهي
ليست منزوعة بالكامل من عقولنا، لكنها تهدأ في سكون بالتفكير المتعقل، كما بلجام،
وتكبح الى الراحة، وهو الأمر الذي لا يناسبها، أجل بل وتتراجع ضد ارادتها تحت وطأة
أتعاب النسك ايضاً. لكن طرح شهوات الإنسان، بقدر ما يستطيع، هو في اعتقادي شيء
مختلف تماماً وأعظم بكثير من الراحة من الأهواء.

          وإذ
قد رتبنا مناقشاتنا حول هذه الأمور، علينا في النهاية ان نفكر، اننا لن نستطيع ان
نطرح عنا شهواتنا او عثراتنا التي تنشأ عن اللذة، وهذا هو معنى الختان، إن لم نكف
أولاً عن الخطية التي تأتي الى حيز الفعل، وان نضبط ونحن في راحة حركات فكرنا التي
تقود الى التعدي، لأننا باتباعنا خطوة من هذا القبيل، يسهل علينا ان ننال ما هو
أعظم وأسمى، أعني الطرح الكامل لشهواتنا.

          لكن
يبدو ان الراحة من الشهوة، تكمن الى حد ما في قدرتنا نحن (لأننا سنكف عن الشر،
بتوجيه قوة ارادتنا الى الأفضل)، لكن ليس في مقدورنا نحن ان نتحرر من شهواتنا، بل
هو عمل المسيح الذي تألم لأجلنا، لكي يعيد تشكيل الجميع الى جدة الحياة – لهذا لاق
ان يكون الختان في اليوم الثامن اذ يهيأ الزمن الجديد للقيامة، بينما تكون الراحة
في اليوم السابع، مجاورة لها وتسبقها قليلاً، لأن الراحة لفترة ما وبالإرادة
القاصرة قليلاً عن ان تبلغ الى حد القطع الكامل للشهوات.

 

فصول
الكتاب الخامس

(حسب
تقسيم القديس كيرلس)

1- عن
ان شئون البشر ليست خاضعة للساعات، كما يظن الوثنيون الجهلاء. لكننا باختيارنا
نتقدم نحو الخير او العكس، وعن ان مشيئة الله هي التي توجهنا. على الكلمات،
"فطلبوا ان يمسكوه، ولم يلق أحد يداً عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت
بعد".

2-
انه عند قيامة المخلص من بين الأموات بعد صلبه، حل الروح القدس محله فينا على
الدوام
لأن الروح
القدس لم يكن قد أعطي بعد. لأن يسوع لم يكن مجد بعد.

3- أن
الآلام على الصليب لم تكن عملاً من أعمال القدرة اليهودية، ولا ان المسيح مات بسبب
طغيان اي أحد، بل هو نفسه وبإرادته الشخصية تألم لأجلنا، لكي يخلص الجميع، على الكلمات
"فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل… ولم يلق أحد يداً عليه لأن ساعته لم تكن قد
جاءت بعد".

4- أن
الابن هو الله بالطبيعة، بعيد كل البعد عن مماثلة الخليقة، من حيث الجوهر. على الكلمات
"أنتم من هذا العالم" أما أنا فلست من هذا العالم".

5- ان
الابن ليس ادنى من الله الآب في القدرة والحكمة، بل هو بالحري حكمة الآب ذاتها وقدرته.
على الكلمات "لست افعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي".

 

الكتاب
الخامس

25
"فقال قوم من أهل اورشليم : اليس هذا هو الذي يطلبون ان يقتلوه؟".

          لما
كان الوقت هو عيد الناموس المسمى بعيد المظال، وكان اليهود يتقاطرون من كل المناطق
المجاورة لأورشليم (لأنه هكذا شرع معطي الناموس)، وكان المسيح يعلم الجميع، لأنه بالتأكيد
لم يكن يتحدث فقط الى اهل المدينة وحدهم. فإن من يتصف بأنه باحث مدقق عن المعرفة، وسامع
مجتهد، عليه ان يفحص ما دفع الإنجيلي الالهي، ان يقدم كل جموع اليهود الآخرين كأنهم
لا يقولون شيئاً، وانما يُنسب الحديث هنا "الى اهل اورشليم" فقط، وما الذي
كانوا يتفكرون فيه ويهتمون به فيما بينهم، حينما قالوا هذه الأمور : لأن خطة عميقة
تكمن وراء هذه الكلمات. فماذا ستقول اذن حيال ذلك؟ إذ كان المسيح مخلصنا جميعاً قد
صنع آيات يتعذر حصرها في المدينة، وكان يقيم غالباً في اورشليم، (فإنني افترض) أن جزءاً
معيناً في المدينة قد تمت استمالته، وهم يتقدمون درجات نحو الرغبة في الايمان به في
النهاية، لكنهم لم يتجاسروا على محبته جهراً وفي حرية، اذ ارعبتهم جسارة رؤسائهم، فانتابهم
خوف مؤذ.

          فهذا
ما كان الانجيلي الطوباوي يظهره بوضوح، حينما قال قبلاً "لم يكن احد يتكلم عنه
جهاراً بسبب الخوف من اليهود" (13). وهو هنا يدعو الرؤساء "باليهود"
محجماً، كما يبدو لي، من إطلاق اسم رؤساء على مثل هؤلاء المتهورين. إذن حين كان مخلصنا
يسوع المسيح يتحدث جهاراً وبسلطان، كان يهاجم جنون الرؤساء، ويدينهم (وهذا في منتهى
الوضوح) بأنهم لم يحسبوا حساباً لمعطي الناموس، بل ودون قيد، اذ يحولون كل انسان عن
طريقه، انجرفوا بلا هوادة الى الرغبة في قتله، وكأن لا جريمة في هذا، وبينما هو لا
يتعرض لأذى من اولئك، الذين كان من الممكن ان يعاني على ايديهم من أمور مروعة – فإن
الذين "من اورشليم" ينتهزون ذلك الظرف عينه كدليل وتأكيد على سلطان الله
الكائن فيه، واذ يقبلون ذلك ايضاً كإضافة الى معجزاته السابقة، فيجمعونها على ما سبق
منها، فإنهم ينقادون في النهاية بميول اكثر حمية الى واجب الايمان به. واذ يكتسبون
معرفة قوامها التفكير الصائب يقولون، "أليس هذا هو الذي يطلبون ان يقتلوه؟".
تفكروا اذن انهم جميعاً يرفعون يمينهم الى أعلى، فيولوحون بها هنا وهناك، مشيرين الى
ذاك الذي يدينهم، ويضحك اذ ينظر هياج هؤلاء الناس الجامح الذي لا يهدأ بالتفكير الرصين
(وكيف له؟) بل يهدأ بالحري بقوة الله وسلطانه.

          لكن
علينا ان نلاحظ ان الذين "من اورشليم" وحدهم هم الذين تحدثوا بعكس كل بقية
جموع اليهود، كيف؟ هذا ما سأخبركم به، حينما كان مخلصنا المسيح يقدم ارشاداً ذات مرة
في أمور غاية في السمو، تربص له الفريسيون وقد انغلقت عنه قلوبهم وقتها، وكشفوا فوراً
عن توقحهم واندفاعهم الى اقتراف القتل، وعن ذلك قال هو، متهماً، بالتعدي اولئك الذين
عقدوا النية على قتله : "أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس؟
لماذا تطلبون ان تقتلوني؟" (عدد 19). وكان كل قصده من حديثه مصوباً الى قلوب الرؤساء
: مع ذلك، فقد انتاب الرعب جموع الناس، ولم يتحملوا الكلمات، فأجابوا بعنف اكثر قائلين
"بك شيطان" من يطلب ان يقتلك؟" (20). لكني افترض ان الأمر مكشوف للجميع،
وهو ان المسيح يقول هذه الأمور، لأنه رأى الفريسيين يشتهون قتله. كيف يكون اذن انه
بينما ينكر البعض هنا ويصرخون "من يطلب ان يقتلك؟". فإن أولئك الذين
"من اورشليم" وحدهم يقولون عكس ما ينطق به جميع الباقين "أليس هذا هو
الذي يطلبون ان يقتلوه؟" بل ويقولون ايضاً "يطلبون"، اي عن الرؤساء
وحدهم الذين تنسب اليهم وحدهم الأعمال الجسورة. ان الاحتمال يجعلنا نعتقد ان بقية الشعب
اليهودي كانوا يجهلون خطة رؤسائهم، لكن اولئك الذين "من اورشليم" يعيشون
معظم الوقت معهم، ويسكنون في نفس المدينة معهم، ويقابلونهم باستمرار، ويعرفون التخطيط
الشرير الذي ملأهم ضد المخلص المسيح. وتصادف انه ليس فقط من خلال صوت مخلصنا قد اتهمت
عصبة اليهود الدنسة، بل بواسطة نفس القطيع الذي تحت سلطانهم، الذي هلك وهوى الى شفا
الكوارث بسبب عدم تعقلهم. وأظن انه ربما يمكن لأحدهم وبسبب ما قيل، ان يرى القطيع يعطش
الى الايمان بالمسيح ويشتعل شوقاً اليه، لكي يعوزهم من يرشدهم، الذي لو توفر لهم، لأصبح
من السهل عليهم ان يقبلوا ذاك الذي أتى الينا من السماء. اذن المسئولية عن فقدان الخراف
هي مسئولية الذين اعطيت لهم الرئاسة. وشاهدنا في ذلك هو النبي ارميا، الذي يصيح
"لأن الرعاة صاروا متبلدين، ولم يطلبوا الرب، من اجل ذلك لم يفهم القطيع كله وتبدد"
(ار 10 : 21س).

26
"وها هو يتكلم جهاراً، ولا يقولون له شيئاً".

          ويكثر
(اهل اورشليم) من تعبيرات التأكيد فيما بينهم، ويتقدمون الى دليل واضح جداً، وهم ينظرون
شجاعة المسيح التي لا تخشى الخطر. لأنهم اندهشوا ولهم كل الحق، حينما وجدوا اولئك الذين
كانوا أشراراً منذ القديم قد صاروا الى صبر لم يمارسوه ولم يألفوه، واذ ينظرون اولئك
الذين كانوا من قبل عنفاء، يمارسون (الآن) لطفاً جديداً عليهم، فإنهم يظنون ظنوناً
معقولة : اذ يتعجبون من صبر (الرؤساء) في تلك الأمور التي لم يكن ينبغي ان يغضبوا بسببها
ابداً، وهذه الأمور نفسها كانوا يلومون رؤساءهم بسببها، وكأنها عادتهم ان يضغطوا دون
تمييز بشدة على معلمي التعاليم العظيمة، وان يندفعوا بحدة، ضد اي واحد مهما كان، فقط
ان كان يقول أموراً مختلفة عنهم، حتى لو كان متفقاً مع الناموس الالهي. لأن غرور الفريسين
كان مخيفاً، وكانت جسارة حماقتهم لا تعرف حدوداً. (وهم يقولون) من هو اذن ذاك الذي
يروضهم في الوقت الحالي، ومن هو الذي يضع لهم تعقلاً رزيناً كلجام، به يكبح غضبهم القديم
الذي لا يطاق؟ من هو ذاك الذي خلب لبهم هكذا، اولئك الذين يشبهون حيات لا تكف عن الفحيح،
كان يهدئهم الى نوم لطيف؟ "ها هو يتكلم جهاراً، ولا يقولون له شيئاً". وهو
لا يتكلم وحسب، بل "يتكلم جهاراً". ولا أظن ان احداً سينتقد بحق غضب اولئك
الناس فانه غضب خامد، ان كان ذاك الذي يطلبونه قد تكلم ضدهم في الخفاء. فلو لم يتصادف
ان عرفهم احد، ما ثار غضبهم، لكن رغم انه "تكلم جهاراً ووبخهم بشدة (لأن هذا هو
معنى "جهاراً")، لما رفضوا فقط ان يغضبوا رغم ميلهم لهذا المرض، بل لأحجموا
عن الكلام. "لأنهم لم يقولوا له شيئاً".

"ألعل
الرؤساء عرفوا يقيناً ان هذا هو المسيح (حقاً)؟"

          ها
أنتم ترونهم وهم يهيأون انفسهم للايمان من خلال استقراءات عقلانية ومناقشات محتملة،
وقد انتابهم خزي شديد لأن "رؤساءهم" يعرفون يقيناً الآن، لكنهم بينما يحجمون
عن مقاومة الله جهاراً، عوضاً عن ان يستعطفوا ذاك الذي اتى من فوق، فإنهم يدفنون معرفتهم
العلنية به في صمت حسود؟.

          (وهم
يقولون) ان لم يكن الرؤساء "قد عرفوا يقيناً ان هذا هو المسيح (حقاً)"، فما
الذي يغريهم بتحمل توبيخه العلني لهم وتجديده للأمور التي كانت فريضة منذ القديم، في
انه وجد يشفي حتى في يوم السبت، ويحزنهم اشد الحزن بقوله صراحة "أليس موسى قد
اعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمل الناموس؟" (19). وهم يتحملون كل هذا، رغم
تأثرهم فوق طاقتهم، ومع انهم قد اعتادوا حتى على مهاجمة اولئك الذين لم يخطئوا اليهم.
لهذا فانهم بانخراطهم في كل مناقشة انما يجمعون ايمانهم بالمسيح تدريجياً، لكنهم ينسبون
معرفة الحق لرؤسائهم، بقدر ما انهم تربوا مثلهم على الكتب المقدسة، وهم اقدر منهم على
فهم اسرار الكتب الالهية. لا حظوا ان شعب اليهود مهيأون دون تردد لاتباع رؤسائهم في
كل أمر، وهم بالتأكيد محفوظون ان ارشدهم اولئك الرؤساء ارشاداً صحيحاً. ولهذا فإن هؤلاء
(القادة) سيحل بهم عقاب مرير، اذ يتهمهم المخلص نفسهم ايضاً قائلاً : "ويل لكم
ايها الناموسيون، لأنكم اخذتم مفتاح المعرفة. ما دخلتم انتم، والداخلون منعتموهم"
(لو 11 : 52). لأن كلمة اولئك الذين يعلمون بالصواب انما هي مثل باب ومدخل الى معرفة
الله، وطريق يقود بسهولة الى كل فضيلة، وتظهر مهارة الراعي في معرفته كيف يخلص قطيع
الخراف : تماماً مثلما يهلكهم عكس ذلك بسهولة، ويهوى بالقطيع الى شفا الكوارث حتى ولو
ضد ارادتهم.

27
"ولكن هذا نعلم من اين هو. وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو؟".

          قبل
ذهن اهل اورشليم الايمان، ليس لاعتبارات خارجية فقط، ولا لأن رؤساءهم جعلوا ألم التوبيخ
أمراً محتملاً، ولكن لأنهم بعد ان انتفعوا كثيراً من المناقشات التي كان من المحتمل
ان تؤدي بهم الى مفاهيم صحيحة عن المسيح بواسطة السلطان الالهي الذي فيه، كان يمكنهم
ان يبلغوا اخيراً وبمهارة الى معرفة التقوى، الا انهم اسقطوا ثانية دون يدروا، في الجهل
الذي كان اخاً لليهود. لأن هؤلاء الذين تفكروا في تلك الأمور جيداً وكأنهم اقتنصوا
الحق من كل الأماكن، وتقدموا الى الايمان الواجب ليس فقط لمجرد صمت رؤسائهم ولطفهم
غير المعهود، بل فتشوا ايضاً الكتاب المقدس نفسه، مدفوعين الى ذلك بدافع سليم، ولكنهم
امتحنوا السر بدون اي علم او فهم. لأنهم لمجرد انهم يعرفون "من اين هو"
(7 : 27) ذاك الذي يتحدث جهاراً، اي، من أية قرية قد خرج، ومن اي أبوين قد ولد، يقولون
انه ليس هو ذاك الذي تنبأ عنه الناموس. لهذا هم يضيفون "وأما المسيح فمتى جاء،
لا يعرف احد من اين هو" واني افترض انه امر واضح، ان خطأهم في هذا الصدد نشأ عن
الجهل. لكني افترض ان على المرء ان يفتش من اين اتوا بهذه الأفكار، وما الذي اغرى اولئك
الذين كانوا يفحصون كل شيء عنه جيداً، ان يفترضوا لهذا السبب انه ليس هو المسيح، لأنهم
لم يكونوا يجهلون من اين كان : ولماذا يضيفون قائلين "وأما المسيح فمتى جاء، لا
يعرف احد من أين هو" لأنهم بهذا يفقدون معرفة الحق. اذن ان هناك قولاً مقتبساً
لاشعياء بخصوص المسيح "من يخبر بميلاده؟ لأن حياته تنتزع من الأرض؟" (اش
53 : 8). وحين يطبق النبي المبارك التعبير على (كلمة الله)، يستعمل كلمة ميلاد ليعبر
بها عن (الكيان). لأنه من يستطيع على الإطلاق ان يخبر بصيغة كيان الابن الوحيد؟ واي
لسان يمكنه ان يعلن الولادة، ولادة الابن غير المنطوق بها من الآب؟ او اي عقل لن يكون
عاجزاً أمام ذلك. ونحن نعرف وقد آمنا انه مولود من الله الآب : أما "كيف"،
فنحن نقول انه لا يقدر اي عقل ان يدركه. وان الفحص في (هذا) الأمر محفوف للغاية بالأخطار.
لأنه لا ينبغي علينا ان نستقصي ما هو عميق جداً، ولا ان نتفحص ما هو صعب جداً، بل بالحري
نتمسك بشدة بما "أوصينا" به. وان يكون لنا ايمان لا يتزعزع في ان الله حقاً،
موجود، وانه يجازي الذين يطلبونه (باجتهاد) (عب 11 : 6) – لكن لا يجب علينا – كما هو
مكتوب – ان نبحث في الأمور التي تفوق الفهم والفكر، ليس فهمنا وفكرنا نحن فقط، بل
(فهم) الخليقة كلها، او حتى كل الخلائق العاقلة. من اذن سوف "يخبر بميلاد"
الابن الوحيد؟ "لأنه حياته تنتزع من الأرض "اي ان الاخبار عن "جوهره"،
هو اعلى من كل ما هو ارضي، لأنه هنا ايضاً يدعو وجوده "بالحياة".

          إذن،
فقد اضل هذا الأمر ذهن اليهود غير المهذب. وجعلهم يحيدون عن تمييز المسيح تمييزاً حقيقياً.
(إذ يبدو) انهم لم يفطنوا الى كلمات الانبياء القديسين عنه هي نوعان. فهي تشير احياناً
الى انه سيأتي الى العالم في الجسد، ويعلن لنا ميلاده من عذراء حسب الجسد. "فها
العذراء تحبل وتلد ابناً" (اش 7 : 14)، اجل، بل هي تعلن مكان ميلاده : "أما
انت يا بيت لحم افراته، وانت صغيرة، ان تكوني بين الوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون
متسلطاً على اسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل" (مي 5 : 2). لكنه حينما
كانوا يقدمون – بقدر المستطاع – ميلاده الغير مدرك من الله الآب، فإنهم يقولون ما ذكرناه
آنفاً "ان ميلاده من يخبر به؟" لأن "حياته انتزعت من الأرض". او
ما يتصل بالنص المقتبس "ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل". لأنه يعني
هنا بتعبير "مخارج" الابن الوحيد، كخروج البهاء من النور، وكخروج خاص من
جوهر الذي ولده، الى كيانه الخاص (الذاتي) الذي قبل كل دهر وكل يوم وكل لحظة.

          منذ
ذلك الحين والكتاب المقدس يضع كلا الأمرين امامنا، وتخبرنا الكتابات المقدسة
"من أين يأتي المسيح" بحسب الجسد، ويكرم كيانه غير المفحوص من الآب، بالصمت،
فكيف لمن يجد اليهود على هذه الدرجة التي لا يستهان بها من الجهل الا يضحك عالياً ويقول
بحق، ليس فقط لأن ميلاد المسيح غير معروف، يتوجب على الإنسان ان يطرح تساؤلات عنه،
بل ايضاً بسبب كونه معروفاً من هو ومن اين يأتي بحسب الجسد؟.

28
"فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلاً : تعرفونني وتعرفون من اين انا".

          بينما
كان اهل اورشليم يتهامسون فيما بينهم بتلك الأمور (لأنهم لم يتجرأوا ان "يتكلموا
جهاراً خوفاً من اليهود" كما هو مكتوب). فإن المسيح ايضاً بطريقة الهية يعلم بما
يتحدثون. لكن لما كان القصد ان ينفع هؤلاء الناس، فإنه يظهر على الفور القدرة الالهية
التي فيه، ويكشف لهم بوضوح انه يعلم كل شيء. لأنه يرفع صوته عالياً، وان لم يكن قبل
ذلك قد اعتاد ان يفعل هذا، ويدينهم مرة أخرى بعدم فهمهم بالمرة للكتب الالهية الموحى
بها، ويجعل ما هو خفي، والذي لم يبرح الفم، أساس حديثه معهم، ومن خلال تلك الأمور ذاتها
التي منها يفترضون في حماقة انه لا ينبغي ان يؤمنوا به، فإنه يقنعهم حسناً انه يجب
عليهم ان يؤمنوا : هذا هو ما يحمله قوله من معنى. (فهو يقول) إنكم تتعجبون، وهذا في
منتهى الحق، ان القدرة الالهية بالحق هي في، وفي يسر تروضون قصد اليهود، رغم انهم قتلة
: لأنهم يطلبون قتلى، كما لاحظتم انتم حقاً وبدقة، وانهم يجتهدون كل الجهد لتحقيق تلك
الغاية. (وهو يقول) ولكن وحين يجب على الهرب، والفرار الى أبعد ما يمكن، من اولئك الذين
يظنون انه من الصواب قتلى، فإنني لا اهتم ولو للحظة بحماقتهم الطائشة، بل بالعكس اتكلم
جهاراً وادين اولئك الذين يتعدون الناموس انهم يختارون الا يحكموا حكماً عادلاً، وانني
لا أتأثر بهم على الإطلاق. لأن أولئك القدماء كانوا يعاندون بعنف ضد ارادتهم، وهذا
لم يكن ثمرة اختيارهم الحر، بل كان بسبب سلطاني أنا، لأنني وعلى الرغم من هياجهم المجنون،
واندفاعهم في غضب لا انساني، فإني لا احتمل ان يتجرأوا قبل الوقت على بقصدهم القاتل
ضدي. (وهو يقول) لهذا كان اندهاشكم من هذه الأمور معقولاً جداً وانتم تقولون ان الرؤساء
يعرفون حقاً إنني انا المسيح. وانتم اذ تتبعون تفكير مناسباً وقتها، تتجهون نحو أقوال
الكتاب الالهي المقدس، وعوضاً عن ان تنتفعوا بالحري من هذا الأمر، الذي يؤكد ادراككم
عني، فإنكم على العكس تعثرون، لأنه من مجرد معرفتكم "من أين أنا" وممن ولدت،
قد قررتم انني لست أنا المسيح.

          اعلموا
اذن "انكم تعرفونني وتعرفون من اين انا"، اي ان الكتاب الموحى به من الله
قد اعطاكم ان تعرفونني وان تعرفوا من اين انا، وليس لأنكم قد تعرفون انني من الناصرة
او بيت لحم، وانني مولود من امرأة، يتوجب عليكم بهذا ان يصيبكم مرض عدم الايمان، لكن
بسبب تلك الأمور التي قيلت عني، وبسبب ميلادي بحسب الجسد، كان ينبغي عليكم بالحري ان
تتقدموا الى ادراك الأسرار التي تخصني، والا ترتدوا بمجرد صوت وحيد لنبي يخبر عن ميلادي
غير المدرك من الله الآب.

"ومن
نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق".

          وفي
اثناء الدفاع يجد في اليهود خطأ، اولئك الذين كانوا يهينونه بواسطة طول فترة عدم ايمانهم.
هكذا يصيغ حديثه بمهارة ليست بقليلة، ويسعى بكل وسيلة الا يبدو وقد أثار حفيظة سامعيه
في اية فرصة، ليقعوا في توتر مبرر، بل هو يغلف كلماته بغموض، ويهدئ شدة غضبهم ويلطف
من انفعالهم. (وهو يقول) وهم حينما شرحت كثيراً وصحت علناً بأنني مرسل من الله الآب،
لماذا لم يؤمنوا حتى الآن، ولأنهم يعرفون ميلاده حسب الجسد يقولون انه ليس هو المعلن
عنه قبلاً بالناموس، الذي أنبأ عنه الانبياء القديسون من قبل، فيقابلونه بالكلمات
: أنت تنطق بالأكاذيب يا سيد، آتياً الينا حسب ارادتك الذاتية، ولا تخجل من ان تنتحل
اسم الآب لنفسك؟ لذلك واذ يصد اتهامهم هذا بخصوص ذلك ايضاً، فإنه يخلط دفاعه بالتوبيخ،
ويقول بكل رفعة "ومن نفسي لم آت، بل الذي ارسلني هو حق" (كأنه يقول) لأنها
عادتكم ايها الذين تتجرأون في سهولة على كل شيء، وتندفعون بلا توقف نحو كل شيء، حتى
الى الافعال الشائنة جداً، فتتنبأون احياناً بنبوات كاذبة، ورغم ان الله لم يرسلكم،
تقولون انكم مرسلون من الله. لكني لست مثلكم، ولا أنا حتى أحاكي خستكم التي تمرستم
عليها جيداً. "فأنا لم آت من نفسي"، ولا أنا بمرسل نفسي، مثلكم، بل أنا آت
من السماء : والذي ارسلني هو حق، وليس مثل الشيطان مرسلكم، شيطان الكذب، الذي تقبلون
روحه فتتجرأوا على التنبؤ كذباً، والذي هيجكم لتخترعوا كلمات من الله، فهو ليس حقاً
"لأنه كذاب، وأبو الكذاب" (يو 8 : 44).

          ويمكننا
ان نعرف دون تعب من كلمات الانبياء، ان اليهود معتادون على التنبؤ كذباً اذ يقول رب
الجميع عنهم وبمنتهى الصراحة "لم أرسل الانبياء، بل هو جرواً، لم أتكلم معهم،
بل هم تنبأوا" (ار 23 : 21). وفي ارميا ايضاً "بالكذب يتنبأ الانبياء باسمي.
لم ارسلهم ولا امرتهم ولا كلمتهم، برؤيا كاذبة وعرافة ونبوات من صنع قلوبهم هم يتنبأون
لكم" (ار 14 : 14س). هكذا يوبخ اليهودي المتغطرس على هذا الأمر اذ يسقط على المسيح
جسارته هو ضد الله، اي النبوة الكاذبة. اذ بسبب عدم ايمانهم المطلق بذاك الذي يصيح
انه مرسل من الله الآب، يصرخون هم علانية، انك تتنبأ كذباً، محاكياً ممارساتنا ضد انفسنا.

29
"الذي أنتم لستم تعرفونه. أنا أعرفه لأني منه، وهو ارسلني".

          (ويقول)
لقد قلتم تواً "أما المسيح فمتى جاء، لا يعرف احد من اين هو؟" (27). لكنكم
ما دمتم تصرون ان رأيكم هذا صحيح، كما لو كان هو الحق، لا أوافقكم رأيكم بصدد هذا الأمر.
لأن ذاك الذي أنا منه، الآب، هو حق، لكنكم لستم تعرفونه. (ويقول) ما دمتم تفحصون السر
الخاص بي بأسلوب لا حكمة فيه، لكن بشكل يرضيكم انتم، ومن معرفتكم من انا ومن اين اتيت
حسب الجسد، تطردون واجب الايمان من انفسكم، وهل لهذا السبب وحده تؤمنون، حين تجدون
انكم لا تعرفون من اين انا؟ لأنني من الآب، "الذي لستم تعرفونه"، حيث انكم
لا تعرفون ذاك الذي هو منه، الذي فيه وحده يرى الآب. لأن من رأى الابن، فهذا قد رأى
الآب (14 : 9). والذي يعرف الابن لا يجهل ذاك الذي ولده. لذلك، فإذ قد فوتت عليهم كل
فرصة للمراوغة، فإنهم ايضاً اذ يؤخذون في خبثهم، واذ لا يجدون بعد اي عذر لعدم ايمانهم،
وهم الذين تركوا المعرفة جانباً بسبب عنادهم، ليصدق المكتوب : "ناظرين كثيراً
ولا تلاحظون، مفتوحي الأذنين ولا تسمعون" (اش 42 : 20س). لكنه إذ كان منشغلاً
بكلمات اليهود انه "متى جاء المسيح لا يعرف احد من اين هو"، فقد فصل نفسه
بالضرورة، كإله، ان يحسب ضمن المخلوقات، ومن كل شيء آخر ما يمكن ان ينطبق عليه تعبير
"لا أحد"، موضحاً انه (مختلف بالطبيعة)، ويقول انه ليس مثلهم لا يعرف أباه
الشخصي، لكن يؤكد انه يعرف نفسه ويعرفه (اي الآب) حق المعرفة تماماً. لأنه إله من الله
الآب، يملك معرفة خاصة عجيبة وغريبة بتلك الأمور كلها، كما يليق به وحده، لأن الابن
لا يعرف الآب، بنفس الطريقة التي نعرفه نحن بها. لأن طبيعة المخلوقات تبلغ الى رؤية
الله بالفهم فقط، ولا تتجاوز حدودها التي تلائمها، وتذعن بغير ارادتها الى الطبيعة
الالهية، المحتجبة في الكلمات التي لا ينطق بها، اما الابن الوحيد الجنس لله الآب،
فيرى ذاك الذي ولده، كاملاً في نفسه، ويرسم جوهر الآب في ذاته ويعرفه، بطريقة لا يمكن
الإخبار عنها، لأن امور الله لا ينطق بها.

 

الفصل
الأول

عن
أن شئون البشر، بحسب ظنون اليونانيين الجاهلة، ليست خاضعة بالضرورة للساعات، وفي
اننا بمحض اختيارنا نتقدم الى الخير او الى عكسه : وفي ان مشيئة الله هي التي
توجهنا

30
"فطلب اليهود ان يمسكوه. ولم يلق أحد يداً عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت
بعد".

          اسكتت
توبيخات (الرب) الفريسيين، وإذ قد تأكدوا ان صمتهم حيال هذه الأمور قد أضر بعنادهم
وانتفع به الجموع (إذ قد اقنتعت بواجب الاعتراف بأنه هو المسيح)، انجرفوا الى
افتراضهم الذي الغوه، وتعطشوا مرة اخرى لقتله، لأنهم اذ طرحوا وقار الناموس
جانباً، كشيء لا يخدمهم على الإطلاق، وإذ لم يهتموا بما تحويه الكتابات المقدسة،
اذ حسبوا غير مستحقين لتذكر الوصية "لا تقتل البريء والبار" (خر 23 : 7)
قد اصابهم مرض جنون عدم التقوى ضد المسيح. لكن بالقدرة الالهية قد تحولت نتيجة
مكائدهم الى النقيض تماماً. لأن "المخادع لا يمسك صيداً" كما هو مكتوب
(أم 12 : 27س). إذ انهم، كما يقول الانجيلي، "طلبوا ان يمسكوه" وكأنهم
صمتوا صمتاً ارادياً فرضوه على انفسهم حيال توبيخاته، وبغضبهم اللاحق فيما بعد سوف
يبددون كل مظاهر (توحي) انه هو الذي اسكتهم. لأن "الذين من اورشليم"
(25) كانوا قد قبلوا ذلك الأمر كبرهان على ان يسوع هو الله بالطبيعة، قائلين،
"ها هو يتكلم جهاراً ولا يقولون له شيئاً، ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً ان هذا
هو المسيح حقاً؟" (26). لكن "الآخذ الحكماء بمكرهم" (1كو 3 : 19)
يجعل جسارتهم عديمة النفع لهم تماماً، اولئك الذين دبروا له "المكيدة"،
مؤكداً للجموع ما اشيع سراً بطريق التفكير والتخمين. لأن العمل الالهي كان قد
قمعهم، وكبح اعمالهم الشريرة، وحول خططهم الى مجرد محاولات. لأنه لأجل النفع يضع
الانجيلي الحكيم جداً سبب عدم قدرتهم على تحقيق مخططهم المقترح (اذ يقول، "ان
ساعته لم تكن قد جاءت بعد". وهو هنا، يطلق بوضوح لفظة "ساعته" على
الوقت، أي وقت آلامه، ووقت الصليب الثمين. فلمن اذاً لا يتضح وبالدليل ان المسيح
لم يكن ليتألم بالمرة، لو انه كان قد تخلى عن ارادة التألم؟ ليس عن طريق عنف اليهود،
بل بإرادته الذاتية قد جاء الى الصليب لأجلنا ولحسابنا نحن. لهذا فإنه يقول،
مفنداً تعييرهم له بأنه يبدو بلا قوة. "ليس أحد يأخذها (حياتي) مني، بل أضعها
أنا من ذاتي. لي سلطان ان اضعها ولي سلطان ان اضعها ولي سلطان ان آخذها
ايضاً" (10 : 18). لأنه كما قلنا قبلاً، فإنه لا يحمل من اجلنا صليباً بغير
ارادته. لأنه قد قدم نفسه ذبيحة مقدسة لله الآب، فاشترى خلاص كل الناس بدم نفسه.
ولهذا قال ايضاً في بشائر الانجيل، "لأجلهم اقدس انا ذاتي" (يو 17 :
19). ولكن كلمة "أقدس" التي يقولها هنا هي عن "التقدمة"
و"التكريس"، لأن ما يقدم لله كذبيحة هو مقدس. لكننا سنعرف حال كونه قد
قبل ان يكون ذبيحة عن الجميع، خلواً من كل عنف من أي احد، حينما نسمعه يقول في
المزامير لله الآب، "ذبيحة وتقدمة لم ترد، لكن هيأت لي جسداً، بمحرقات وذبائح
خطية لم تسر : حينئذ قلن ها أنذا جئت. بدرج الكتاب مكتوب عني ان افعل مشيئتك يا الله"
(مز 40 : 6-8س). أترون كيف انه من ذاته اتى الى آلامه لأجل الكل؟ اذ يقول "ها
انذا" ولم يقل "اخذني الآخرون عنوة". لهذا فإنه يهرب من العنف
الحالي للرؤساء، مدخراً آلامه لوقتها المحدد ومستخدماً جسارة الهية في كل شيء.

          افترض
اذن ان هذا يكفي لشرح المقطع الحالي، لكن لما كان من المحتمل ان بعض المبتدئين،
عند سماعهم الكلمات "ساعته لم تكن قد جاءت بعد"، قد تجرفهم خطة الفكر
الشديدة الى غباء الأمم الأحمق. فيفترضون بلا منطق ان امور الانسان خاضعة لساعات
وأيام وفصول، احسب انه من الضروري ان اذكر شيئاً قليلاً حول هذا الموضوع، حيث ان
قدصنا هو اننا في غيرة نفيد سامعينا في كل فرك، أما بالنسبة لأبناء الكنيسة الذين
تربوا على الكتب المقدسة، فإني افترض ان هذا يكفي لدحض مخادعات اليونانيين،
ولاستبعاد عدم المشورة الناشئة عن ذلك استبعاداً بشكل كاف، والتي ذكرها كاتهام او
توبيخ حكيم، بولس نفسه لبعض الذين لهم نفس الفكر "اتحفظون اياماً وشهوراً
واوقاتاً وسنين، اخاف عليكم ان اكون قد تعبت فيكم عبثاً" (غل 4 : 10، 11).
وفي الحقيقة وبعيداً عن اية مماحكات في الجدل، فمن الواضح ان المنخرط في مثل هذه
الحماقة، سوف يدمر نفسه، ويزدري بخالقنا جميعاً، الذي له وحده ينسب العقل الحكيم،
والمدرب جيداً على قيادة أمورنا. لكن اولئك الذين لهم هذا الفكر غير الصائب لحفظ
هذه الاشياء، سيقلبون ترتيب العناية الالهية، فيعتقدون ان رب كل شيء لم يعد هو
المدبر لشئوننا، بل يسلمون للأوقات والأزمنة أمر ضبط كل الاشياء، جاعلين الخليقة
فوق خالقها، وسالبين أسمى الخصائص من ذاك الذي يحق له كل كرامة ومجد وعبادة،
فيمنحون المخلوق ما هو أعلى منه، ويضفون على الاشياء المصنوعة ما ينبغي ان يتوجوا
به الخالق : ولا تتوقف افعالهم الشريرة عند هذا الحد، بل هم يتجاوزنه الى شيء آخر؛
لأنهم سيهينون الله علناً، وهو محب الصلاح، فيقولون انه، وهو عدو كل خطية، هو نفسه
صانع الشرور. لأنه إن كان بواسطته قد خلق الوقت والساعة واليوم والسنة، وهذه تؤدي
ضرورة وقسراً – الى شر غير مقصود احياناً، وتجعلهم يسقطون في تعاسات ناجمة عن
(الأوقات)، فكيف يكون ما نقوله غير صحيح؟ وماذا عن قول الحكيم جداً موسى
"ورأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن جداً" (تك 1 : 31). لكن الوقت هو
واحد من كل الاشياء التي "عملها" الله، ويشمل الوقت الساعة واليوم
والسنة. لكن ان كنا نسمي ذلك ادخالاً للشر، والذي تراه عين الطبيعة الالهية انه
حسن، افلا نكون بهذا معترفين صراحة ان رب الجميع هو خالق ادنى الاشياء؟.

          أظن
اذن ان اولئك المنخرطين في الفئات التي سبق ذكرها، سيحمرون خجلاً في النهاية. لكن
لما كان من المحتمل ان البعض قد اختاروا ليس فقط ألا يقاوموا مشورات اليونانيين
الردية، بل ان يدافعوا عنها ايضاً، فلنفحص تعليمهم المنافي للعقل من زاوية اخرى
ايضاً، وان نجمع المناقشات النافعة كأدوات مساعدة. فهيا بنا بالحق نناهض ضلالتهم،
لأنه ان كانت بحسب رأيكم ايها السادة وبتأثير الوقت وسلطانه، وبما تفرضه علينا
الساعة، ننجذب نحن الى فعل الخير الواجب او عكسه، فيبدو العقل وكأنه نافلة بغير
لزوم، وننقاد نحن (بإجبار الوقت) الى كل فعل، ويشار علينا بالحيد عن الشرور، ونُحث
بالأحرى على الإسراع الى ما هو مستحسن. فما النفع الذي يتبقى لنا. وما ميزة العقل
هنا، ان كنت أتألم او حتى اتقدم ضد ارادتي، حيثما تدعو الساعة وحيثما يختار الوقت
ان يجبرني؟ ومن اللائق اذن، كما يقولون ان قباطنة السفن يفعلون ذلك. حينما يعلنون
انه لا أمل في خلاص السفينة وسط مخاطر العاصفة، فيرخون الحبال، ويفكون وثاق اذرع
الدفة، فلا يبذلون اية مهارة آنذاك، ويتركون السفينة لقوة الأمواج، تتقاذفها في
وسط البحر، لأنه لا شيء لا (كما قلت قبلاً) يعود على اولئك الذين يرغبون في
الفضيلة، بل اننا نصير فاعلي شر، ان لم نقبل من الله، كل واحد منا لنفسه الاشياء
التي فعلناها، وان ننال المجازاة حسب نوع اعمالنا. (اخبرني) ألا تكرز الساعة
كثيراً بالاشياء الأكثر سمواً، والا تندفع كل الأوقات دون تمييز، حتى ان انزلقت
انا الى احط الأعمال؟ من جهة أخرى، فقد لا يحدد الوقت احيانا شيئاً حسناً واحداً
للبعض، بل قد يتسبب بالحري في وقوع اصعب الأمور قاطبة للذين قصدوا تكريم ممارسة
الأعمال الصالحة اكثر من أي شيء آخر.

          لكن
(ربما يقول قائل) ليس الأمر هكذا، بل ان الساعة والوقت سيتيحان لكل واحد ما
يناسبه.

          لهذا
نرى الوقت وقد ساد علينا، فننسب للساعات ما للعناية الالهية من كرامة، غير واضعين
الله بعد في فكرنا، وبدلاً من ان نسأله في الصلاة، نسأل الوقت او الزمن. فما الذي
يتبع ذلك؟ اننا سنعبد "المخلوق دون الخالق" (رو 1 : 25) وفي تجديف نعطي
مجد الخالق للمصنوعات التي خلقها، ومن ثم فالخزي هنا الذي يلحق (بنا)، وعظم
التجيف، سنراه دونما تعب، وقد صار متسعاً لأمور كريهة اكثر من التي تصدر عن نساء
ساقطات.

          ولأجل
المنفعة سنقول ما يرد على أذهاننا، ويبدو بطريقة سطحية، ان نواميس الله والإنسان
تظهر لمحبي الشر العقوبات المناسبة لهم، وتضيف كرامات لأولئك الذين يكون قصدهم
الخاص ان يعيشوا اكثر استقامة. لأنه ان لم تكن مشيئاتنا تحوي أي شيء على الإطلاق،
بل نخضع كل الأمور الى الضرورة التي تفرضها الساعات، مما يقودنا دون هروب، او قوة
على الرفض، الى كلا الأمرين معاً (الخير والشر). فكيف يتسنى لنا ان نعطي المدح
اللائق للصالحين، والذم للطالحين كمكافأة عادلة لهم؟ (اخبروني) لماذا تجبرنا
النواميس ان نترك الرذيلة وتلح علينا ان نسعى الى ما هو افضل، ان كانت اوقات هي
التي تتحكم في صميم قراراتنا، فتحضرنا بسهولة الى كل ما يرضها؟ لأنهم يقولون
ويعملون ايضاً، ان امور البشر هي تحت سلطان الساعات، دون ان يفكروا في الحماقة
الناجمة عن ذلك. أفلا يعلنون هم، حتى ولو ضد ارادتهم، ان ذاك (الإنسان)، الذي له
السيادة على كل شيء فوق الأرض، يكون أكثر شقاءً من البهائم نفسها، ويحيا في حالة
مزرية، وأما الذي ينبغي عليه ان يسمو بسبب طبيعته، سينحدر الى موضع أدنى، حتى الى
الموضع الأخير، لأنه إن كانت البهائم المخلوقة بما لديها من غرائز طبيعية تتجه الى
ما يرضيها دون ان يعوقها احد، فتقبل ما تراه صحيحاً، عما يؤذيها، ونحن تحت عبودية
الزمن، ذلك السيد المرير، وعلينا تسود الساعات، وهي طاغية لا يمكن الفرار منه (أي
الزمن)، يتسلط علينا كصارية مركب؟ ألا تكون حالتنا أسوأ من حالة البهائم؟

          لكن
من المحتمل ان ذاك الذي يسر بالساعات والأوقات وينطق بأكاذيب عنهما سيخجل لأن
(الأوقات) لم تخلق أبداً لمثل هذه الأغراض، وإذ يرفض سخف مثل تلك الأفكار، سيتقدم
قائلاً : "نحن لا نعلن يا سيدي، ان الساعة ولا الوقت ولا الزمن له سلطان على
شئون الناس، لكن نقول ان هناك ساعات وأوقات شريرة تنقض علينا احياناً بالبؤس مثل
رياح عاتية.

          لكننا
سنجيب، ايها المختلو العقل، والمنحدرون الى جنون مطبق، كيف لم تدركوا انكم تسلحون
ذهنكم ضد (ذلك الجوهر) الذي هو فوق الكل؟ لأنه، ان كانت الاشياء التي خلقها شريرة،
ألا يصبح هو صانعاً للشر؟ لكننا سنتجاوز عن هذا، كما ذكرناه قبلاً، وسنسعى بالحري
ان نقتنع بكلامكم انتم، كيف يمكن للساعة او الوقت ان يؤذينا، او على العكس يفرحنا،
الم يرتب الله كل الاشياء حسب مشيئته فيمنح كل واحد حسب نصيبه إما ألماً او على
النقيض مسرة؟ لأننا نسمعكم الآن تقولون، ان أياً من امورنا هو تحت سلطان الساعات
وان بضعها شرير بالطبيعة، تحدق بنا بعنف كالرياح. لكني لا أظن انه من الصعب ان
نظهر كيف ان مجادلتكم مملوءة بكل حماقة.

          (لأن
الذي لا يرى بوضوح ان الفترات الاثنتي عشرة للساعات موزعة، بعضها على اليوم،
والأخرى على الليل، وان الليل والنهار لا يحلان على انسان دون آخر، او على احد
بالصدفة، دون الآخر، بل هي تشمل كل الاشياء ولكن شرها ملازم لها بطبيعتها، ولا
يمكن تحاشيه، وهو ليس شراً ضد واحد دون الآخر، بل يلحق بالجميع بالتساوي، الذين
تأتي عليهم فترة الليل او النهار؟). كيف اذن يحدث انه في يوم واحد او في ساعة
واحدة، قد يرى المرء انساناً في نعيم يمتع نفسه برفقاء مرحين كثيرين، فيتوجه الى
ولائم فخمة، ويجمع ضيوفه بكل حماس، وآخرون قد ترونهم على العكس في حالة من البؤس،
حتى ان كثيراً ما نرى واحداً يولد ليموت في تعاسة. (اخبروني) ما هو السبب؟ او كيف
يمكن ان يكون ذلك انه في ساعة واحدة او فترة وجيزة، يوجد شخص ما في حالة سعادة،
وآخر في حالة شقاء، وبماذا تسمون تلك الساعة؟ شريرة ام خيرة؟ لأنني لا استطيع
القول، فإني اذ انظر الى أي الجانبين اجد انساناً يعربد، وآخر يرقد جسداً بائساً
بلا حراك. ألا يدل ذلك على ان تلك الآراء عن الساعات هي خرافة جهل، واختراعات جنون
شيطاني؟ اظن ان الجميع سوف يوافقون على ذلك دون تردد، وسوف يدينون اولئك الذين
يتمسكون بمثل هذه الآراء.

          واعتقد
اننا يجب ان نقنع بما قيل، لكن لئلا يتعرض كل شيء للخطر والتخمين، سأسمح ببعض
العذر، لمماحكة أي أحد، وسألجأ الى التاريخ، ومن الحقائق سأؤكد ضد أي شك الطريق
الذي سلكناه في مناقشاتنا فحينما أحاط الأشوريون بأورشليم المدينة المقدسة،
لحصارها، فإن قائدهم ربشاقي، كان يحاول في بادئ الأمر بكلمات الخداع ان يقوض عقول
الرجال المقاتلين الذين كانوا هناك آنذاك، وفي محاولة اخرى منه، كان يفعل ذلك
بالتهديدات، اما حزقيا المبارك الذي كانت له السلطة الملكية في ذاك الوقت فلم يثق
في قواته، بل نسب تحقيق النصر لله الذي هو فوق الكل، وفي صلاة حارة جداً، كان
يتضرع دائماً طلباً للعون الوحيد الذي من الله، وسرعان ما أمال الله أذنه للرجل
البار، ومنحه نعمة استجابة لصلواته لأن ملاك الرب خرج وضرب من جيش أشور مائة وخمسة
وثمانين الفاً. كما هو مكتوب (اش 37 : 36).

          ما
قولكم اذن في هذا الأمر ايها الرجال الشرفاء جداً؟ ففي ليلة واحدة وفي نفس الساعة
والوقت، سقط الاشوريين صرعى بيد ملاك، ونجا جموع شعب اورشليم، فكانت طائفة في
أعماق البؤس، واخرى في منتهى الفرح والمسرة، فأين هي قوة الساعة هنا؟ وكيف توزعت
بدون تساو بين الفريقين؟ فلواحد منهما جلبت تهليلاً، والآخر موتاً شريراً؟ لأنكم
لن تجازفوا بالقول انها ساعة ذات طبيعتين ومتعددة الأشكال، حتى ان كنتم تثرثرون
بإفراط.

          نفس
النقاش هو بالنسبة لداثان وابيرام، اللذين اذ قد تمردا ضد سلطان موسى، واذ لم
يخشيا ان يندفعا دون كبح الى التعدي على وظيفة (الكهنوت الالهي)، سقطا مع كل اهل
بيتهما في اعماق الأرض، فصاروا في الهاوية، بينما حفظ بقية الجموع، لكن الانتقام،
لو لم يكن على الإطلاق بسبب الغضب الالهي، بل بسبب الساعة، فإنه بالتأكيد حقاً،
كان سيعم على الجميع بنفس القدر، ولا يطيح بمجموعة من الحشد فقط دون الأخرى.

          اذن
دعونا لا نظن ان الساعة او اليوم او الوقت هو معطي الحزن او الفرح، من حيث طبيعته
هو او فليتكلم المرء بشكل صحيح عنه، بل دعونا ننعم بالنفع من الساعة او الوقت، او
بالعكس نسلم بالضرر، حينما نكون ونحن مهيأون لأي من الأمرين بحذق او بجهل، نحظى
بالنتائج السارة او عكسها. فمثلاً "لكي شيء وقت" كما هو مكتوب (جا 3 :
1). ولكي نعرف الأوقات المناسبة، فإنه من المفيد جداً الا نعرفها، وقد اتخمت
بالضرر. إذ على المرء الا يقوم برحلات في الشتاء، بل من الصواب ان يفعل ذلك في
الصيف. وإذ نكون هكذا متعقلين، فإننا نعزي شئون حياتنا لله رب الكل. لأنه، ان كان
بحسب كلمة المخلص التي لا تكذب، ان هذا العصفور الصغير عديم القيمة لن يسقط ابداً
في فخ بدون مشيئة الله الآب (مت 10 : 29)، فكيف بالحري (الإنسان)، ذاك الذي كرم
كثيراً، وله سلطان على كل شيء، يعاني من امر ضد فكره او رغبته، ان لم تسمح العناية
الالهية بأي من الأمور السابقة ذكرها بحسب حياة كل واحد.

          وسأضيف
شيئاً آخر تذكرته، وجادت به ذاكرتي ومرتبط أشد الارتباط بالموضوع الحالي، وفي حاجة
بالحري الى ذات الفحص، رغم ان الحل ليس عسيراً لكنه في غاية السهولة للإنسان ذي
الفهم الكامل، والذي له "الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر" (عب
5 : 14).

          فما
الأمر اذن، الذي نتحدث عنه نحن؟ ان أولئك الذين في قانا، الساكنين في البلاد
المجاورة لليهودية، التي هي الجليل، كانوا ذات مرة يحتفلون بعرس، وقاموا بدعوة
الرب الى وليمتهم والتلاميذ القديسين، وكانت مناسبة وليمتهم هذه حفل الزواج. لكنه
لما جلسوا الى الطعام مع اولئك الذين كانوا مجتمعين مع الرب لهذا الغرض كان الرب
هناك يبارك ذلك الزواج، الذي شرعه هو، ونفذ الخمر من الجماعة، لكن ام المخلص، اذ
كانت لا تزال صاحبة سلطان على ابنها، بسبب خضوعه الشديد لها، واذ كانت قد تعلمت
بكثير من الخبرة ان لإبنها ايضاً قوة الهية، فانها تقول له "ليس عندهم
خمر" (يو 2 : 3). لأنها كانت تعرف، انه سينفذ طلبها، وبكل اليسر، مهما كان
نوع الشيء المطلوب. وقال الرب لها "ما لي ولك يا امرأة؟ ان ساعتي لم تأت
بعد" (يو 2 : 4). ان الذهن المحب للحكمة، واذ ينأى بنفسه بعيداً عن الآراء
الحيوانية، هارباً بالتمام من الخرافة اليونانية، سيقبل في تقوى ما يقال. وهو يقول
لم يأت بعد وقت اظهاري واعلاني، أي بالمعجزات. لأنه اذ هو الله بالطبيعة، لم يكن
يجهل الوقت المناسب لكل عمل (فكيف له ان يجهل؟).

          (وإذ
ان الشر طريق ممهد للجموع، الذين يفترضون كما يقول البعض ان المسيح نفسه كان
خاضعاً لفعل الساعات)، فإن ذاك الذي في انعدام حسه المفرط يميل الى هنا والى هناك،
يتأكد له بواسطتنا ان ليس له أي فهم. وايضاً بواسطة تلك الأمور عينها التي يحاول
بها ان يقوي جدله الشخصي، فإنه يدان بسبب ما فيها من سخف امام سامعيه. لأننا إن
سلمنا ان طبيعة الاشياء خاضعة لفعل الساعات، وانه لهذا قال المسيح لأمه "ان
ساعتي لم تأت بعد" (فأخبروني) كيف وبحسب فكركم الكريه وعديم الحكمة جداً، انه
بينما لم يكن له فعل الساعة متفقاً مع مشيئته، يصبح خالق الاشياء المطلوبة؟ لأنه
بعد ذلك يحول علناً الماء خمراً. لكنكم ان كنتم تعتقدون ان الأمور ينبغي ان تخضع
لسلطان الساعات فكيف ان الرب في بادئ الأمر لم يحاول ولو للحظة واحدة، ان يتمم ما
لم يحققه توافق الساعات معاً؟ لكنه في الواقع لم يفكر في ذلك قط، بل اعطاهم نعمته
قيل ذاك الوقت. اذن لم تكن قوة الساعة عائقاً، لكن المسيح يقول ذلك لأن الوقت لم
يكن قد حان بعد لإظهاره بواسطة المعجزات.

          هكذا
قد تحررنا نحن من ظنونكم هذه، وحينما تذكر الساعة، فلنعتبر انها هي الوقت الذي
يناسب كل عمل : واننا قد تحررنا ايضاً من جبرية الساعات، واظننا لسنا بحاجة الى
مزيد من الكلمات لتأكيد ذلك : لأننا قد وفينا الموضوع حقه فعلاً.

          لكننا
سنسعى الآن ان نبين ان لفظة "ساعة" في الكتب الالهية، تشير الى الوقت
المناسب لكل عمل. فينادي بولس العجيب ويشرح معنى كلمة ساعة قائلاً : "هذا
وانكم عارفون الوقت انها الآن ساعة لنستيقظ من النوم،.. قد تناهى الليل وتقارب
النهار" (رو 13 : 11، 12). أرأيتم كيف انه ذكر كلمة "وقت" أولاً ثم
اتبعها بكلمة "ساعة"؟ باعتبار ان الكلمتين تعنيان نفس المعنى، ولا شيء
سواه لأنه كان وقت يجب على الذين يرقدون في نوم الخطية العميق، ان ينهضوا انفسهم
ويفتحوا عيونهم على ما فيه نفعهم، وان يقوموا الى حالة السهر المملوء حباً لله.

31
"فآمن به كثيرون من الجمع، وقالوا ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه
التي عملها هذا؟".

          يليق
بنا ان نقول، ما أعظم التدبير هنا، وما أنسبه اذ جاء بعد تلك الأمور، انه اذ قال
قبلاً ان اليهود كانوا "يطلبون ان يمسكوه" (30)، وان يضيقوا عليه بفخاخ
حماقتهم، في خطر قاس يحيكونه بغير أوان، اظهر لجموع الذين يؤمنون (به)، ان مكائد
حكامهم الرديئة ضده ستنكشف في النهاية. وبقدر ما كانت رغبة الناس في الثورة ضده، الا
انهم في النهاية كانوا يجمعون بعض الأفكار من معجزاته، وكانوا يعترفون علاينة ان
عليهم ان يسرعوا الى سماع تعاليمه. (اذ يبدو) ان تقريراً ما قد شاع خبره بين كل
جنس اليهود وانتشر في كل بلادهم، ان مجيء المسيح سيكون لأجل بعض الأعمال العظيمة،
وان سيصنع مزيداً من المعجزات وانه سيقدم تعليماً اعظم واسمى من تعليم الناموس.
لأن المرأة السامرية حين جاءت الى بئر يعقوب لتستقي ماءً، وكانت تتحدث مع المخلص،
قالت "نحن نعلم ان مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل
شيء" (يو 4 : 25). والكلمات "نحن نعلم"، هنا، لن نطبقها طبعاً على
المرأة وحدها، بل على كل جنس السامريين واليهود، وسنؤكد النقاش الذي بدأناه تواً.
اذ ادرك هؤلاء اذن الآن ان الآمال المجيدة التي يتفكرون بها من جهته لا تتجاوز ما
هو حاصل بالفعل، فهم يتحدثون هكذا حسناً الواحد مع الآخر، لأنه ما الذي أعلنه
الناموس من جهة ظهور المسيح لنا؟ وعن أي انسان تنبأت كلمة الأنبياء القديسين؟ إلا
عن صانع معجزات ومعلم لأسمى الأمور. لكننا نرى ان ذاك الذي جاء الآن هو متفوق
تماماً في كلا الأمرين. فأي ازدياد في المعجزات يبقى عند هؤلاء الذين يتوقعون
شيئاً آخر اعظم بعد؟ وفي أي صعوبة نجده قد فشل. أي شيء لم يفعله ذاك الذي يفوق
النطق والاعجاز؟ ومن من الناس لا نزال نطلب له المزيد؟ دعونا نرى ما اذا كان
المسيح قد فاق كل حدود الأعاجيب، وما الذي (نتطلع اليه) في المسيح ولم يكن واضحاً
في هذا (الانسان)؟ يا لخزي ايماننا الآن، ويا لحماقة لا مبالاتنا، وكم هو غير مقنع
بالمرة ذلك الجدل حول (تأخير الساعة) تحت ستار اختيار الأفضل. فلنعترف بالله : لأن
هذا هو ما تتطلبه طبيعة الأمور، حتى بالنسبة للذين لا يريدونها.

          اذن
ليس بغير مناسبة ولا هو بغير لائق، ان يضع المرء هذا على فم اليهود. وعلينا رغم
ذلك ان نلاحظ انه بسبب انحراف الرؤساء يهلك الشعب، فالشعب كانوا شديدي الإعجاب به
تخميناً، منقادين بواسطة شهرة اعماله الى واجب الايمان به، واذ ينتظرون فقط حكم
رؤسائهم بخصوص المسيح، اولئك (الرؤساء) كانوا متوحشين جداً في القسوة، كمحاولتهم
ان يسيئوا معاملته ذاك الذي سبق التنبؤ به، لأجل آمال عراض، وقد صدق عليه بواسطة
ما عمله فعلاً.

32
"سمع الفريسيون الجمع يتناجون بهذا من نحوه..".

          كان
الجمع ساخطاً على رؤسائه، ولله في ذلك اسبابه الكثيرة. اذ كانوا يتصايحون صيحة
عظيمة بخصوص مخلصنا المسيح، ليس بسبب انه كان صانع عجائب يثير اعجابهم بشكل يفوق
التوقع ولا لأنه جاء ليخبر بأمور افضل من العبادة الناموسية، بل لأنه لم يكن قد تم
قبوله بعد من رؤساء الكهنة والفريسيين، بالرغم من ان له مجداً يتفق مع ما قيل عن
المسيح، ولم يكن أدنى ولو بقدر متناه في الصغر عما كانت تذكر عنه الأخبار العامة،
او عما سبق ان بشرت به كلمة الأنبياء القديسين. لهذا اتهمهم الناس بحق انهم
مغلوبون من الحسد، اكثر من اهتمامهم بالحري بخلاص الناس. لكن مثل هذا النطق الدائم
بالملام من جهة هذا الأمر، لم يفت على معرفة الرؤساء به، (ويبدو) ان الجمع قد أساء
اليهم، وقد بلغوا الآن حد الاندهاش من الرب بشكل معقول، وصاروا متعطشين بزيادة الى
الايمان به، وقد باتوا فعلاً يتكدرون من حملهم نير غطرسة الرؤساء محاولين ان
يتمموا ذلك الذي قيل في المزامير "لنقطع قيودهم ولنطرح عنا نيرهم" (مز 2
: 3) لأنه بعد اخضاعهم ذهن الشعب لوصايا الناموس، ووضعهم الشعب في حالة خضوع
لاختراعاتهم هم، وهم "يعلمون تعاليم هي وصايا الناس" (مت 15 : 9) فإنهم
يتركون الطريق الحق والسبيل الممهد، ويقودون اولئك الذين اوشكوا ان يخلصوا، وكانوا
من انفسهم على وشك الانقياد الى استقامة الادراك، يقودونهم الى الحفر والمزالق.

32
"فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداماً ليمسكوه".

          على
الرغم من ان الناموس قد اعلن "لا تقتل البريء والبار" (خر 23 : 7). وكان
في كل موضوع ينادي بوضوح وصوت عال "لا تتبع الكثيرين في فعل الشر"، فإن
حراس الناموس يريدون القتل (!) بمغالاتهم فيما يخص تقديرهم لقدسية موسى، واعتيادهم
على لوم كل واحد لا يعيش بنفس طريقتهم. لكن ولعدم اهتمامهم بما يقوله الناموس عن
هذه الأمور، بل ولازدرائهم بأثمن ما فيه، كانوا غيورين ان يوقعوا في فخاخهم ذاك
الذي لم يفعل خطية بالمرة، بل قد شهد له الآن بموجب افعاله ذاتها انه المسيح
بالحقيقة. (وقد يقول قائل) بالتأكيد كان ينبغي على رؤساء اليهود الاشرار هؤلاء –
ما داموا دارسين للأقوال الالهية، ومهرة في النواميس الالهية، ان يخاطبوا الجموع
بالحري، ليهدأوا من صخبهم آنذاك، بمناقشات منطقية، وان يطرحوا جانباً كل شكوك
الجسد، فهم يحولونهم ليفكروا كما ينبغي، وان كان ينبغي وهم منشغلون بالأفكار
السليمة عن المسيح قد انحرفوا عنها : وكان لازماً عليهم ان يبرهنوا بشهادات من
الانبياء من الكتاب الالهي كله، فيطهرون الجموع من اخطائهم، واذ يعرفون اكثر منهم،
كان ينبغي ان يعلموهم الحق الأوضح عن المسيح. لكنهم اذ لم يجدوا من ثم دفاعاً،
خوفاً من الكتاب المقدس، اذ وجدوا انه يتفق مع الجموع في اهتمامهم، فانهم سقطوا في
جسارة لا خجل فيها، واستماتوا في ان يتخلصوا من المسيح، اذ كانوا عاجزين عن الحكم
عليه بأية خطية والأمر الذي لا يمكن احتماله بين كل هذه الأمور، ان هذا العزم (على
قتله) لم يكن من اناس عاديين، لكن الأعمال الجسورة كانت من "رؤساء
الكهنة" المتفقة مع الفريسيين، رغم انه كان من واجبهم كرؤساء ان يقودوهم بما
لهم من وظيفة الكهنوت، واذ ان لهم المقام الأول عن طريق (هذه الوظيفة) كان عليهم
ان يظهروا انفسهم بمظهر القدوة في الأفكار الصالحة ايضاً، وان يمسكوا بزمام
التوجيه في المشورة التي لا تقاوم الله. لكنهم اذ كانوا مبتعدين عن كل اتجاه صالح،
وقد طرحوا الناموس الالهي وراء خيالاتهم الشخصية، انجرفوا الى ما يرضي انفعالاتهم
التي بلا فطنة وحدها. لأن "الرأس" قد صار "ذنباً" كما هو
مكتوب (تث 28 : 44). اذ ان القائد صار تابعاً، وباتفاقه مع عدم تقوى الفريسيين
يطلق العنان لهجماته ضد المسيح ايضاً. ودائماً ما نجد ان حرب الاشرار ضد الاتقياء
هي دائماً (حرب) بلا سبب، واسلوب محاربتهم معطل، فهو يفتقر الى الأسباب المنطقية،
بل ان دافعه فقط هو مرض الحسد. لأنهم اذ لم يكونوا مؤمنين بقيامة الأبرار المجيدة
ولم يكن لهم قوة النفس لنوال مجد مماثل، او حتى بواسطة اعمال افضل لكي ترى في حال
افضل، فقد سقطوا في فظاظة الذهن، وسلحوا انفسهم بحماقة ضد المديح الخاص بأولئك
الذين يفوقونهم، متحمسين لتدمير ما قد يجلب عليهم خزياً؛ لأن الشر دائماً ما يفضح
بمقابلته او مقارنته بالأفضل. لأنه كان ينبغي عليهم بالحري ان يريدوا مساواتهم
بواسطة أعمال مساوية، وان يكونوا غيورين بالحري ان يعقلوا وان يفكروا مثل اولئك
الذين يستحقون المديح. لكن كان من المحتمل ان يتسم موقف الفريسيين بالمرارة، لأنهم
اذ كانوا قد ادركوا ان الجموع يتناجون من نحوه، ويقول الواحد للآخر في احاديثهم
المشتركة، "أليس هذا هو الذي يطلبون ان يقتلوه؟ وها هو يتكلم جهاراً. ولا
يقولون له شيئاً، العل الرؤساء عرفوا يقيناً ان هذا هو المسيح؟" (25، 26).

          وبالشر
الذي كان لصيقاً بهم قاوموا هذا الافتراض؟ واصدروا أوامر للقبض عليه،
"وأرسلوا خداماً" (أي جنداً) لإتمام هذا الغرض عينه.

33
"فقال لهم يسوع أنا معكم زماناً يسيراً بعد، ثم أمضي الى الذي ارسلني".

          يعلم
الرب كل شيء، فهو الله بالطبيعة، اذ لم يكن يجعل افعال جسارة الفريسيين المتعطشة للدماء،
وكان يعلم بتخطيط رؤساء الكهنة الشرير ضده. لأنه بينما هو حاضر ومختلط بالجموع، يرى
بعيني اللاهوت الخدام الذين اختاروهم ليمسكوه. لهذا يجاوب جواباً عاماً بالحق على كل
الواقفين حوله، ومع ذلك يعطي جواباً خاصاً لهم (اي لخدام الفريسيين)، وفي نفس الوقت
يعلم بأمور نافعة كثيرة، لأنه بحذق يوبخهم على حقارة نفوسهم من جهة هذه الأمور التي
كان ينبغي عليهم ان يسروا بها : وأنه من طريق آخر كان ينبغي احباط محاولتهم حتى ولو
كانت ستقع وكيف؟ هذا ما سنشرحه بدخولنا في الأمر كله.

          لأنه
بقوله "أنا معكم زماناً يسيراً بعد"، فإنه يعلمهم كلهم حقاً، (قائلاً) اخبروني
لماذا انتم ناقمون، وكأنني باق معكم زماناً طويلاً في هذا العالم؟ انا أقر إنني حمل
ثقيل عليكم، وإنني لا أشكل مسرة كبيرة عند أولئك الذين لا يكرمون الفضيلة؛ فأنا أسحق
من لا يحب الله، وفي أوقات أضرب الأشرار بتوبيخات، وأنا لا أجهل إنني جلبت لنفسي كراهية.
لكن لا تنصبوا لي شبكة الموت في غير وقتها. "أنا معكم زماناً يسيراً بعد"
وسوف أرحل بفرح، حين يأتي الوقت المناسب لآلامي، ولن احتمل بعد ان أكون مع أناس أشرار
(إذ يقول، لا يسرني ان امكث مع المتعطشين للدماء)، سأرحل من وسط الأشرار، كإله، لكنني
سابقى مع خاصتي كل الأيام، حتى وإن ظهر انني غائب بالجسد. لكنه بقوله "أمضي الى
الذي ارسلني"، فإنه يعني شيئاً آخر من هذا القبيل.

          عبثاً
تشحذون ضدي سيف تجديفكم، (كأنه يقول) لماذا تمزقون انفسكم إرباً بمشورات غير مثمرة؟
اغمدوا سلاح الحسد لأنكم تصوبونه بلا هدف : إنه لن تخضع الحياة للموت ولن ينال الفساد
من عدم الفساد. لن تسكني أبواب الجحيم، لن اصبح جسداً ميتاً (جثة هامدة) في مقابركم،
سأنطلق مرتفعاً الى ذاك الذي أنا منه، سأصعد ثانية الى السماء، منظوراً من البشر والملائكة
معاً، كحكم على تجديفكم. لأن البشر سيتعجبون من صعودي، وحينما يلاقيني الملائكة يقولون
:

          "ما
هذه الجروح في يديك؟" فأجيبهم "هي التي جرحت بها في بيت احبائي" (زك
13 : 6).

          هكذا
إذن تم الحديث في وداعة عظيمة ورقة متناهية، كمثال لنا نحن ايضاً في هذا الصدد : حين
يقول بولس ايضاً إن "عبد الله لا يجب ان يخاصم، بل يكون مترفقاً بالجميع مؤدباً
بالوداعة المقاومين" (2 تي 2 : 24، 25). لأنه يليق بالذهن التقى ان يكون حراً
من كل اضطراب ومن انفعالات الغضب العنيفة، وان يسعى ليرفض ما تجلبه تفاهة النفس من
أمور تشبه انقضاض الأمواج العاتية، وان يتهلل لأفكار الوداعة التي تشبه نسمات هادئة
وان يحب ان يحيا بقدر المستطاع في طول أناة، ليظهر نفسه متضرعاً بالاحتمال أمام الكل،
وان يكون له ذهن صالح تماماً، وان يجعل معاملته لائقة مع اعدائه.

34
"ستطلبونني ولا تجدونني".

          يقول
هذا بمهارة ولطف كثير. لأنه يعني ما يمكن ان يفهم بشكل عام، وليس عسيراً في ادراكه،
ومع ذلك يحوي سراً ما قوياً مخفياً في داخله. لأنه حين يقول إنه سيصعد الى ذاك الذي
ارسله، اي، الى الله الآب، حتى وهم يحاولون التآمر ضده، ولم يكفوا عن اضطهاده، فإنه
يقول ان ذاك الذي يصعد الى السموات عينها، لا يمكن ان يؤخذ ابداً بواسطتهم. لكن المعنى
الأصوب، والذي يشار اليه بشكل مبهم، هو هذا : (يقول) ارسلت اليكم لأعطيكم حياة، جئت
لأنزع عن الطبيعة البشرية الموت الذي أصابها بسبب التعدي، واعيد الى الله في طول أناة،
اولئك الذين سقطوا بسبب الخطية : جئت لأغرس النور الالهي والسماوي في الذين هم في الظلمة،
وايضاً "لأبشر المساكين بالإنجيل" ولأعطي "البصر للعميان، وأنادي للمأسورين
بالإطلاق، وأكرز بسنة الرب المقبولة" (قابل اش 61 : 1، 2س مع لو 4 : 18، 19).
وما دام الأمر يبدو لكم حسناً في حماقتكم ان تطردوا من وسطكم ذاك الذي يضع أمامكم مثل
هذا الغني للتنعم بالخيرات السماوية، فإنني بعد قليل، أنا نفسي، سأعود بنفسي مرة أخرى
الى ذاك الذي أنا منه، أما أنتم فتندمون وتبكون بمرارة على نفوسكم، اذ تنهككم المشورات
غير المجدية، رغم انكم كان ينبغي ان تسروا اذ وجدتم معطي الحياة، الا انكم حينئذ لن
تقدروا ان تنعموا بذاك الذي اشتقتم اليه زمناً طويلاً. لأنكم إذ قد انحرفتم مرة عن
محبتي لكم وتركتموها، فإنني سأمنع عنكم بالكامل ما هو نافع ان تطلبوه لكم.

          وستجدون
شيئاً من هذا القبيل في كرازة الأنبياء عنهم. اذ يقول احدهم عن قوم اورشليم "يذهبون
بغنمهم وبقرهم ليطلبوا الرب، ولا يجدونه، لأنه قد تنحى عنهم" (هو 5 : 6).

          لأن
الذين كان في مقدورهم ان يختاروا (الحياة)، ولأفكار عقلية حمقاء طرحوا عنهم الخير الذي
كان في قدرتهم، كيف يصلحون بعد لنواله؟ وهؤلاء الذين لم يحسبوا حساباً لضياع الفرصة،
كيف تكون لهم الصالحات بعد فوات أوانها؟ لأنه والفرصة بعد سانحة ومهيأة، ينبغي لنا
ان نطلب الخيرات الموجودة فيها والتي هي منها، لكن اذ قد افلتت الآن وولت عنا، فإنه
من النوافل والعبث الشديد، كل طلب في النهاية للخيرات كانت توفره (تلك الفرصة).

          ويقول
الطوباوي بولس عن حق "هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص" (2كو 6
: 2) وايضاً "حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع" (غل 6 : 10) لأنه حقاً،
وبالحق، يليق بأولئك الذين لهم عادات صالحة، الا يطلبوا الخيرات، من فرصة قد ولت الآن
الأدبار، بل بالحري، حين تكون الفرصة في بدايتها، وهي في ريعان ازدهار حضورها كما يقولون.

          وقد
يقول المرء الكثير عن مسألة (الفرصة) من خلال الكتاب الالهي، لكننا اذ نترك ذلك لمحبي
البحث ليفتشوا عنها، فانني سأذكر بايجاز أمراً عاماً، وشائع الاستعمال في وسطنا، ولكنه
ذو فائدة ليست بقليلة.

          انهم
يقولون اذن ان اولئك الذين يرسمون صوراً على الألواح، وحينما يمثلون المناسبة (أو الفرصة)
في شكل بشري، فإنهم يمثلون النموذج المتبقي من جسمها كما يروق لهم، لكنهم يصورون الرأس
وحدها كالآتي :

          انهم
يمثلون قفاها اصلع الشعر ناعماً جداً، ويضفون عليه لمسات لونية براقة : لكنهم في منتصف
الجمجمة، يثبتون شعراً كثيفاً فوق الجبهة، كثيفاً من الأمام ومنهدلاً : وبهذا الشكل
ذاته يشيرون الى انه، بينما تكون الفرصة سانحة، وفي متناولنا، كأنها أمامنا وجهاً لوجه،
يكون من السهل الإمساك بها، لكنها حينما تولى (تعطينا القفا الأملس)، فكيف يمكننا ان
نمسك بها بعد ذلك؟ فهي من الأمام غزيرة الشعر، من السهل الإمساك بها وهي بعد حاضرة،
لكن حينما تمضي، لا يعود الأمر كذلك. لأن تلك النعومة الخلفية تشير الى ذلك، ويسخر
الجميع من يد ذاك الذي يحاول الإمساك بها.

          هكذا
فإن الفرص حينما تمضي، لا يتوفر لنا ما تأتينا به، لا ينبغي ان ننام عندما تكون الخيرات
حاضرة، بل ان نسهر بالحري، وألا نجتهد بغير حكمة ان نقبض على ما هو نافع، حينما يكون
البحث بلا طائل.

"وحيث
أكون أنا، لا تقدرون أنتم أن تأتوا".

          يضع
الرب مرة أخرى، وبمنتهى اللطف، جنس اليهود بعيداً عن ملكوت السموات، فيضيف كلمات تقابل
تلك التي نطق بها قبلاً، ومع ذلك فهي تحوي سراً عميقاً؛ لأننا اذ نستخدم عقولنا ببساطة
أكثر من جهة الكلمات، مع مزيد من التقدير السطحي، نقول انها ترمز الى شيء ما من هذا
النوع، اي ان (الرب) لن يكون مدركاً بأي حال منهم، ولا يقع حتى في فخاخهم، إذ قد عاد
الى الآب. وكذلك السماء ايضاً لن تكون متيسرة لهم، والذي يجلس في يمين الله الآب نفسه،
كيف يستطيع الذين يطلبونه ان يمسكوه؟

          تلك
كلمة ليست عميقة، بل هي تناسب الأكثر طيش اليهود، وهي أعلى من فهمهم (لأنهم ينشغلون
دائماً بما هو أدنى) : أما التفكير في الأمور الدقيقة والخفية فهو هكذا : (هو يقول)
إذ أفلت من فخ شركم، فإنني سأعود مرة أخرى الى الله الآب، لأنني بالتأكيد لن آخذ معي
تلاميذي عن رحيلي، حتى أنني إذ أكون قد أظهرت لهم الطريق الصاعدة الى أعلى، انها ممهدة
لهم هم ايضاً، فإنني آخذ الجميع معي (فيما بعد). "لكنكم" ايها اليهود
"لا تقدرون ان تأتوا"، اي، لن يكون لكم نصيب في الخيرات الالهية، ولن يكون
لكم شركة في مجدي وتكونون غرباء عن شركة الملك مع القديسين، وستظلون غير متذوقين للعطية
التي في الرجاء، ولا تعيدون بوليمة العرس الالهي، ولن تعاينوا محفل (مجدي)، ولن تصعدوا
الى المنازل العلوية، ولن تروا جمال كنيسة الابكار، ولن تشهدوا المدينة الفوقانية،
ولن تنظروا اورشليم في غناها (ثرائها) ([iv]).
لأن هناك حيث يمجدني قطيعي (لا تقدرون انتم ان تأتوا). لأن السماء لن تستقبل قتلة ربها،
ولا الشاروبيم سيفتح أبواب الفردوس ليدخل شعباً يحارب الله، ولا يمكن لإنسان مذنب بالشر
ضد الله ان يسترضي "السيف الملتهب" (قابل تك 3 : 24). فالفردوس يعرف فقط
الانسان التقي ويكرم المحب لله، ويجعل من الايمان عهد سلام.

          سنضيف
مثل هذا الفكر الى ما سبق قوله، ونقتفي من كل جانب المعنى الصحيح لننفع الفاهمين. لكننا
سنضيف بضعة أشياء قليلة، ولأجل المنفعة نظهر ان كل الذين يمارسون عادات مقدسة الهية،
سيعيدون مع المسيح : لكن هؤلاء الذين يسايرون الجهل اليهودي، لا ينالون ذلك (فكيف يتسنى
لهم هذا؟)، لكنهم سينالون العقاب المرير لعدم ايمانهم.

          فليأت
اذن بولس الروحاني منادياً بصوت عال الى أولئك الذين ماتوا عن الخطية، "لأنكم
قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون انتم
ايضاً معه في المجد" (كو 3 : 3، 4). وفي عظته عن القيامة ايضاً يقول : "ثم
نحن الاحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون
كل حين مع الرب" (1 تس 4 : 17) – واشياء قريبة ايضاً لهذه نرى المخلص نفسه يفاتح
فيها تلاميذه – لأنه لما جلس وأكل معهم، كان يقول "أقول لكم : اني من الآن لا
اشرب من نتاج الكرمة هذا الى ذلك اليوم حينما اشربه معكم جديداً في ملكوت أبي"
(مت 26 : 29).

          أجل،
وإذ يخاطب اللص الذي عُلق معه، وعند أبواب الموت عينها، وبالايمان به، أمسك بنعمة القديسين،
فيقول له "الحق الحق أقول لك، اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23 : 43).
اذن فالذين قد كرموه بالطاعة، سيكونون معه دونما عائق، وسيفرحهم بالخيرات التي تفوق
الفهم : لكن اولئك الذين لا يكفون عن اهانته بحماقتهم، وبالرغم من انهم ابناء العرس،
سيطرحون الى الهاوية في حزن، لينالوا عقوبات مرة. لأنهم كما هو مكتوب "يطرحون
الى الظلمة الخارجية" (مت 8 : 12). صدق قول الرب اذن الى اليهود في غموض
"حيث اكون أنا، لا تقدرون انتم ان تأتوا".

35
"فقال اليهود فيما بينهم : الى اين هذا مزمع ان يذهب حتى لا نجده نحن؟.

العله
مزمع ان يذهب الى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين؟".

          ألا
ترون هنا ايضاً مدى تعاسة أفكار اليهود؟ ألا ترون اتعس فكر للذهن الملتصق بالتراب؟
لأنهم لا يقولون انه سيصعد الى السماء، رغم انهم سمعوا بوضوح "أنا معكم زماناً
يسيراً بعد، ثم أمضي الى الذي ارسلني" (عد 33)، لكنهم يتخيلون مدينة "اليونانيين"،
كأن "الآب" قد أرسله في وسطهم، والذي وعد انه سيرجع اليه.

          لكن
شعب اليهود يبدون هنا وهم يتنبأون، رغم انهم لا يدرون ماذا يقولون. لأنهم اذ تحركوا
بدافع الهي ما، يقدمون المسيح الى مدينة الأمم، بطريق الشك مفكرين فيما قد صار حقيقة
بعد قليل. لأنه كان في الحقيقة على وشك ان يذهب الى "الأمم ويعلمهم"، رافضاً
اورشليم ام اليهود ناكرة الجميل.

          لكن
لاحظوا انهم لا يتحدثون عن هذا الأمر ببساطة : لأنهم يخمنون أنه لن يرحل فقط الى
"شتات" اليونانيين، بل يضيفون في عنادهم، قائلين "ويعلم اليونانيين"،
حتى ان شكهم كان سبباً للاتهام، لأن أمر الحديث مع "شتات اليونانيين"، بالذهاب
الى مدنهم او بلادهم، كان امراً شائعاً وسط اليهود وبلا لوم، لكن أمر شرح الناموس للغرباء
او الكشف عن الأسرار الالهية لغير المؤمنين، كان موضع اتهام، ولا يفلت من لومهم. وقد
وجد الله خطأ حقاً، مع بعض الذين كانوا غير مبالين حيال هذا الأمر، قائلاً بارميا النبي
"وهم يقرأون الناموس خارجاً" (عا 4 : 5 س). اذن كان كلامهم عن انه سوف
"يعلم اليونانيين" قريب الصلة بالموضوع، ملقين وصمة عليه كأنه قد تعدى الناموس
فعلاً ومما فعله قبلاً في يوم السبت، معتقدين ان عادة الرب ان يفعل كل شيء دون احتراس،
حتى ان كان ذلك مناقضاً للنواميس الالهية، وانه لم يكن يبالي بالأمر.

37
"وفي اليوم الأخير، العظيم من العيد، وقف يسوع ونادى قائلاً : ان عطش أحداً فليقبل
الى ويشرب".

          علينا
انم نبحث جيداً في هذا الأمر ايضاً، فيما يلمح اليه الانجيلي الحكيم جداً بمنتهى الاهتمام
الشديد، اذ يدعو "اليوم الأخير من العيد" باليوم "العظيم، او ما الذي
حدا بالرب يسوع المسيح، وبسبب نحتاجه ويخص الوقت آنذاك، ان يقول فيه لليهود "ان
عطش أحد، فليقبل الى ويشرب". اذ كان ينبغي عليه ان يستخدم كلمات أخرى، مثل أنا
هو النور، أنا هو الحق، لكنه اذ يحول شرحه الى أمور الايمان، قد ادخل الكلمة
"فليشرب"، كشيء ضروري وبحسب أمور العيد. وسأسعى ان اعرض بايجاز الغاية مما
هو معروض أمامنا.

          حينما
أمر الله بما يختص بعيد المظال، يقول هكذا لموسى، "في اليوم الخامس عشر من هذا
الشهر السابع، عيد المظال سبعة أيام للرب، سبعة ايام تقربون وقوداً للرب. في اليوم
الأول (الثامن) يكون لكم محفل مقدس" (لا 23 : 34، 36، 35) وبعد ان أوضح كيفية
تقديم الذبائح، أضاف ايضاً "أما اليوم الخامس، من الشهر السابع تقربون محرقات
كاملة للرب سبعة أيام، في اليوم الأول عطلة (راحة) وفي اليوم الثامن عطلة. وتأخذون
لأنفسكم في اليوم الأول ثمر أشجار بهجة وسعف النخل وأغصان اشجار غبياء وصفصاف الوادي
(النهر)" (لا 23 : 39، 40).

          واذ
قد فصلنا في الكتاب الثاني كل جزئية من الكلام السابق ذكره، واسهبنا في شرحه، فإننا
سنوجزه الآن.

          لأننا
قلنا إن عيد المظال يشير الى الاشتياق الى القيامة الى حد بعيد. وان أخذ الأغصان و"ثمر
الأشجار البهجة" والأشياء الأخرى، تعني استعادة الفردوس الموشك ان يعطي لنا بواسطة
المسيح.

          ولكن
اذ ينتهي الأمر بأن يكون على المرء ان يأخذ كل شيء من داخل النهر او الوادي، وان يتهلل
لذلك، قلنا ان ربنا يسوع المسيح كان يقارن بنهر، فيه نجد كل مسرة وتمتع في الرجاء،
وفيه نفرح فرحاً الهياً وروحياً.

          وعن
انه هو نهر، وقد دعي روحياً بالنهر، فإن هذا ما يشهد لنا به ايضاً المرنم الحكيم جداً،
"بنو البشر في ظل جناحيك يحتمون : يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم"
(مز 36 : 7، 8).

          والرب
نفسه في موضع آخر في الأنبياء يقول "ها أنا أدير عليهم سلاماً كنهر ومجد الأمم
كسيل" (إش 66 : 12س).

          منذ
ذلك الحين اعتاد الناموس ان يدعو اليوم الأول والسابع للعيد العظيم بأنه يوم
"مشهود" والانجيلي القديس نفسه دعاه ايضاً "بالعظيم"، ويبدو انه
لا يهمل عادة اليهود المتبعة. وهناك اذن في الفرائض عن العيد ذكر ايضاً عن النهر، واذ
يظهر المخلص انه هو نفسه هذا النهر الذي تنبأ عنه الناموس، يقول "إن عطش أحد فليقبل
الي ويشرب". وانتم ترون كيف انه يبعد ذهن اليهود عن المثالات التي في الحرف، وينقل
الاشياء الرمزية (التي في مثال) بشكل لائق، ان كانت كلها تساعد على بلوغ الحق. (اذ
يقول) لأنني أنا "النهر" الذي سبق واعلن عنه معطي الناموس في تنبؤه عن العيد.

          وان
أراد احد ان يأخذ اغصان الصفصاف والأجنوس (شجرة مثل الصفصاف) وفروعاً كثيفة من اشجار
من النهر، ولم يكن المسيح تحديداً هو النهر، ما كان شكل العيد حقاً في هذه الاشياء،
بل تكون بالحري رموزاً لأمور روحية ستعطي للأتقياء بواسطة المسيح.

          لكن
اذ قد ناقشنا هذه الأمور بتفصيل أكثر في الكتاب الثاني، كما قلنا تواً، فإننا لن نكرر
انفسنا، بل بالحري سننتقل الى ما يلي :

38
"من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي".

          هو
يظهر ان مجازاة الايمان عظيمة وبلا نهاية، ويقول ان من يؤمن سينعم بأغنى نعم الله.
لأنه سيمتلئ بعطايا الروح، فلا يسمن ذهنه فقط، بل يصبح قادراً ايضاً على ان يفيض على
قلوب الآخرين، كتيار النهر المتدفق الذي يفيض بالخير المعطى من الله على جاره ايضاً.
وقد اعتاد الرب ان يوصي الرسل القديسين بهذا الأمر عينه، قائلاً : "مجاناً اخذتم،
مجاناً اعطوا". واذ يريد بولس القديس والحكيم ايضاً هو نفسه ان يصير مؤيداً في
هذا الأمر، يكتب "لأني مشتاق ان أراكم لكي أمنحكم هبة روحية" (رو 1 :
11). ويمكن للمرء ان يرى ذلك وبشكل متزايد جداً في كل من الانجيليين القديسين، وفي
المعلمين الانجيليين في الكنيسة، الذين يفيضون بغنى على من يأتون الى المسيح بالايمان،
بكلمة التعليم الموحى به، فيفرحونهم روحياً، ولا يجعلونهم بعد عطشي الى معرفة الحق،
وبأصواتهم الحكيمة، يصيحون عالياً في قلب أولئك الذين قد تهذبوا (بالتعليم).

          واذ
يتهلل المرنم بالروح ينادي قائلاً عنهم "رفعت الأنهار يارب، رفعت الأنهار صوتها"
(مز 93 : 3).

          فعظيمة
هي ومقتدرة كلمة القديسين و"في كل الأرض خرج منطقهم، والى أقصى المسكونة كلماتهم"
كما هو مكتوب (مز 19 : 4).

          ومثل
هذه الأنهار، قد وعد الله، إله ورب الجميع، ان يضعها أمامنا، قائلاً بالنبي اشعياء
"تمجدني بهائم الحقل، الذئاب وبنات النعام، لأني جعلت في البرية ماءً وأنهاراً
في الثغر لأسقي شعبي مختاري. هذا الشعب جبلته لنفسه. يحدث بتسبيحي" (اش 43 :
20، 21).

          اذن
من الواضح جداً ان المخلص يقول انه "من بطن" الذي يؤمن ستأتي النعمة التي
تعطى بالروح، التعليم والحكمة، وحيث يذكر بولس ايضاً ويقول "لواحد يعطي بالروح
كلام حكمة" (1كو 12 : 8).

          من
الجيد ان نعرف ايضاً ان المخلص قد طبق على كلماته الشخصية هذا القول، ليس كما وضعه
الكتاب الالهي تماماً ([v])،
بل بالحري قد فسره حسب معناه. لأننا نجد ان اي انسان يكرم الله ويحبه سيصير "
كجنة رياً وكنبع مياه لا تنقطع مياهه" (اش 58 : 11)، وما كان يقوله منذ قليل للمرأة
السامرية يوضحه هنا ايضاً الآن. لأنه يقول هناك "كل من يشرب من هذا الماء يعطش
ايضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي اعطيه انا، فلن يعطش الى الأبد، بل الماء الذي اعطيه
يصير فيه ينبوع ماء ينبع الى حياة أبدية" (يو 4 : 13، 14) وهو هنا ايضاً يمتد
بالقصد من حديثه الى نفس المعنى، فيقول "تجري من بطنه أنهار ماء حي".

 

الفصل
الثاني

انه
بعد صلب المخلص، وقيامته من الأموات، جعل الروح القدس سكناه فينا على الدوام

39
"قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين ان يقبلوه، لأن الروح القدس لم
يكن قد أُعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد".

          يتطلب
معنى (المكتوب) أمامنا فحصاً دقيقاً، وحتى نفهم بشكل كاف عمق السر نكون بالكاد قد أنجزنا
عملاً يتسم بكثير من الفطنة. لأن المرء الذي يعمل فكره ويفحص كل نبي من الأنبياء القديسين،
يبلغ فعلاً الى عمق الأفكار اولاً، كيف ان "الروح لم يكن قد أُعطي بعد"،
بالرغم من ان خورساً كبيراً من الأنبياء كان قد أعده (الرب) لينطق بالروح بالأسرار
الالهية التي تخص المسيح بكلمات كثيرة. لأننا لم ننحرف بعيداً جداً عن الأفكار الملائمة،
حتى نزعم ان ذهن (الأنبياء) القديسين كان خالياً من الروح. لأن الذي يخجلنا، وبالضرورة
يدعونا الى الاعتقاد بأنهم كانوا في الحقيقة "متسربلين بالروح"، انما هي
حقيقة النبوة ذاتها والأمور التي تحويها الكتب المقدسة.

          لأن
صموئيل يقول لشاول "فيحل عليك روح الرب… فتتحول الى رجل آخر" (1 سم 10
: 6). ومكتوب عن المبارك اليشع نفسه "ولما ضرب العواد بالعود كانت عليه يد الرب"
(2 مل 3 : 15). ويشهد ربنا يسوع المسيح ذاته ايضاً عن الطوباوي داود انه كان بالروح
ينطق بالأسرار، ويمكن للمرء ان يحشد اشياء كثيرة قريبة الصلة مما قيل حيث يسهل علىالواحد
جداً ان يرى ان الانبياء القديسين هم متسربلون بالروح. لكن في الأمور الواضحة للغاية
يصبح من نافلة القول او من المتعب ان نتثقل بنقاش طويل. أما كيف "لم يكن الروح
قد اعطى بعد" فهذا ما يجب علينا فحصه بدقة لأنني اعتقد اننا ينبغي ان نؤكد ان
الانجيلي المبارك ينطق بالحق.

          لهذا
فإن الله كلي الحكمة هو الذي يعرف الحق ذاته، لأننا لا ينبغي ان نشغل انفسنا كثيراً
بأمور تفوق فهمنا. لكننا وبقدر ما نستطيع نسعى ان ندرك من خلال أفكار التقوى، شيئاً
من هذا القبيل. فإن هذا الكائن الحي العاقل على الأرض، اعني الانسان، قد خلق منذ البدء
في عدم فساد. وكان السبب في عدم فساده وفي بقائه في كل فضيلة، هو على وجه اليقين ان
روح الله كان يسكن فيه، لأن (الله) "نفخ في وجهه نسمة حياة" كما هو مكتوب
(تك 2 : 7). لكنه وبسبب تلك الخدعة القديمة قد انحرف الى الخطية، ثم تتابع تدريجياً
في الغلو في هذه الأمور، ومع ما تبقى لديه من أمور صالحة عانى من فقدان الروح، وفي
النهاية اصبح خاضعاً ليس فقط للفساد، بل عرضة ايضاً لكل الخطايا.

          لكن
حينما قصد خالق الجميع (وفي منتهى السمو) "ان يجمع كل شيء في المسيح" (أف
1 : 10)، وأراد ان يستعيد من جديد طبيعة الانسان الى حالتها الأولى، ووعد ان يعطيها
من جديد الروح القدس ايضاً مع المواعيد الأخرى، لأنه ما من سبيل آخر يمكن به ان تعود
الطبيعة البشرية الى الثبات في الصالحات بلا زعزعة. وهو لهذا يحدد وقت حلول الروح علينا،
ويعد قائلاً "في تلك الأيام (أي في أيام المخلص) ان اسكب روحي على كل بشر"
(يؤ 2 : 28)ز لكنه منذ ان احضر الينا من هذا الجود، قد جعل الابن الوحيد يأتي بالجسد
على الأرض، اي ان يصير انساناً (مولوداً) من امرأة حسب الكتاب المقدس، فقد بدا الله
الآب يعطي الروح من جديد وكان المسيح أول من قبل الروح كباكورة الطبيعة المتجددة، لأن
"يوحنا شهد قائلاً، اني قد رأيت الروح نازلاً من السماء فاستقر عليه" (1
: 32).

          لكن
كيف قبل المسيح الروح؟ لأننا يجب ان نفحص ما يقال. هل كان (المسيح) كأنه بغير روح؟
لا نقول ذلك، حاشا لله. لأن الروح هو روح الابن الذاتي، ولا يعطي له من خارجه، كما
تأتينا نحن أمور الله من الخارج، بل الروح كائن فيه بالطبيعة تماماً كما هو في الآب،
وبواسطة الابن يأتي الى القديسين ويوزع من الآب كما يوافق كل واحد. لكن قيل عن (المسيح)
انه قبل الروح لأنه صار انساناً، ويوافق الانسان ان يأخذ وهو، ابن الله الآب، مولود
من جوهره حتى قبل التجسد، بل قبل كل الدهور، فليس من الخزي ان يقول الله الآب له حين
صار (الابن) انساناً "أنت ابني انا اليوم ولدتك" (مز 2 : 7) لأن لذلك الذي
هو الله قبل الدهور قد ولد منه، يقول انه ولده في هذا اليوم، حيث يدخلنا فيه الى البنوة،
لأن الطبيعة البشرية كلها كانت في المسيح، اذ انه كان انساناً" لهذا قال (الآب)
للابن الذي له روحه الذاتي، انه يعطيه الروح، حتى يمكننا ان ننال الروح فيه هو. لأنه
لهذا السبب "يمسك نسل ابراهيم" (عب 2 : 16) كما هو مكتوب "ومن ثم كان
ينبغي ان يشبه اخوته في كل شيء "لهذا فإن الابن الوحيد لم يقبل الروح القدس لنفسه
(لأن له الروح وفيه الروح به الروح. كما قلنا قبلاً) لكن، حيث انه قد صار انساناً،
فقد صارت له كل طبيعتنا في نفسه، لكي يرفعها كلها مغيراً شكلها الى حالتها الأولى.

          بالإضافة
الى ما قيل علنيا ان نأخذ ذلك ايضاً في الاعتبار. لأننا سنرى بإمعان التفكير العميق
الحكيم، وبتأكيد ذلك بكلمات من الكتاب الإلهي، ان المسيح لم يقبل الروح لأجل نفسه،
بل بالحري لأجلنا نحن فيه، لأن كل الصالحات تفيض ايضاً فينا بواسطته.

          لأنه
إذ قد حاد جدنا آدم بالخديعة فسقط في (العصيان) والخطية. فلم يحفظ نعمة الروح، وهكذا
فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها الخير المعطي لها من الله، لهذا لزم ان الله الكلمة
الغير متحول، يصير انساناً، حتى إذا ما نال كإنسان، يمكنه ان يحفظ الصلاح ([vi]) في طبيعتنا
على الدوام. ودليلنا في تفسير هذه الأسرار، هو المرنم الإلهي نفسه : إذ يقول للابن،
"أحببت وأبغضت الاثم، من اجل ذلك مسحك الله الهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك"
(مز 45 : 7). (فالمرنم يقول) إذ قد أحببت البر كل حين (فلأنك أنت البار، يا الله، لا
يمكن ان تحيد عن ذلك أبداً) وأبغضت الإثم دائماً (لأنك كراهية الخطية كامنة فيك بالطبيعة،
فأنت الله المحب للبر). لهذا فإن الله الآب قد مسحك، لأنك أنت الذي يملك البر الذي
لا يتغير كامتياز طبيعتك الخاصة، ولا يمكنك ان تميل الى الخطية التي لا تعرفها : وهكذا،
فإنك تحفظ في نفسك دون شك ولصالح الطبيعة البشرية (إذ قد صرت انساناً)، تحفظ المسحة
المقدسة من الله الآب، اي، الروح. لهذا صار الابن الوحيد انساناً مثلنا، حتى تعود فيه
أولاً الصالحات ونعمة الروح متأصلة فيه، فتحفظ في أمان لطبيعتنا كلها، هكذا فإن الابن
الوحيد وكلمة الله الآب اذ يقرضنا ثبات طبيعته الخاصة، لأن طبيعة الإنسان قد ادينت
في آدم كطبيعة عاجزة عن الثبات، قد سقطت وانحرفت (وكان سقوطها سهلاً للغاية).

          فكما
أنه في انحراف الأول انتقل خسران الصالحات الى الطبيعة كلها : هكذا وبنفس المنوال أحسب
ان فيه ايضاً ذاك الذي لا يعرف انحرافاً، يحفظ لجنسنا كله ربح سكنى المواهب الالهية.
وان كان يبدو أمام اي أحد اننا لا نفكر ولا نتحدث بما هو لائق، فليأت ويخبرنا لماذا
دعي المخلص بواسطة الكتب الالهية بآدم الثاني. لأنه في آدم الأول، جاء الجنس البشري
الى الوجود من العدم، واذ قد جاء الى الوجود، فسد، لأنه كسر الناموس الالهي : ففي آدم
الثاني، المسيح، قد قام (هذا الجنس) مرة اخرى في بداية ثانية، ويعاد تشكيله مرة اخرى
الى جدة الحياة والى عدم الفساد، لأنه "إن كان احد في المسيح، فهو خليقة جديدة"
كما يقول بولس (2كو 5 : 17). لذلك أعطى لنا الروح المجدد، اي، القدوس، فرصة الحياة
الأبدية بعد ان تمجد المسيح، اي بعد القيامة، الذي بعدما حطم رباطات الموت وظهر أعلى
من كل فساد، عاش مرة أخرى وله كل طبيعتنا في نفسه، في أنه كان انساناً وواحداً منا.

          وان
فحصتم عن السبب في ان سكب الروح قد تم بعد القيامة وليس قبلها، ستسمعون الإجابة، ان
المسيح قد صار وقتئذ باكورة الطبيعة الجديدة، حينما أبطل قيود الموت عاش ثانية (قام)
كما قلنا تواً. فكيف ينبغي اذن لولئك الذين جاءوا بعده ان يحيوا مثل الباكورة؛ لأنه
كما ان النبات لا يزهر من الأرض، إن لم يطلع أساساً من جذره الخاص به (لأن هذا هو بدء
النمو، كذلك كان من المستحيل أننا إذ لنا ربنا يسوع المسيح وجذر عدم فسادنا، نرى وقد
نبتنا مثل جذرنا. لكنه اذ يظهر ان وقت حلول الروح علينا كان قد جاء الآن، بعد القيامة
من الموت، "نفخ في تلاميذه، قائلاً : أقبلوا الروح القدس" (يو 20 : 22).
اذ كان زمن التجديد حقاً على الأبواب، وعلى الباحث عن التعلم ان يرى مرة اخرى اذا ما
كان ما نقوله عن تلك الأمور صادقاً أم لا. لأنه في البدء، كما قال الناموس، المتسربل
بالروح، ان خالق الجميع، اذ أخذ (من تراب الرض) وخلق الانسان "نفخ في أنفه نسمة
حياة" (تك 2 : 7). وما هي نسمة الحياة، سوى أنها بالتأكيد روح المسيح الذي يقول
"انا هو القيامة والحياة" (11 : 25). لكن حيث ان الروح القادر ان يجمعنا
ويشكلنا الى الرسم الالهي، قد غادر الطبيعة البشرية، فإن المخلص يعطينا هذا الروح من
جديد، ليأتي بنا مرة اخرى الى الكرامة القديمة مجدداً خلقتنا الى صورته الذاتية. لهذا
يقول بولس ايضاً للبعض "يا أولادي الذين أتمخض بكم ثانية الى ان يتصور المسيح
فيكم" (غل 4 : 19).

          (ولأنني
سأوجز الغرض من حديثي) دعنا مرة أخرى نعرف أنه في الأنبياء القديسين بريقاً غنياً خاصاً،
يستمدونه من مصدر الاستنارة من الروح القدس، القادر ان يقودهم الى ادراك امور عتيدة
ومعرفة انباء مخفية : ولكننا نثق ان الذين يؤمنون بالمسيح، لا يكون لهم مجرد استنارة
من الروح القدس، بل الروح نفسه يسكن ويجعل اقامته فيهم. من هنا دعينا بحق بهياكل الله
ايضاً، رغم ان أحداً من الانبياء القديسين لم يدع أبداً بالهيكل الالهي. فكيف يمكن
ان نفهم هذا، وماذا نقول حين نسمع مخلصنا المسيح يقول، "الحق الحق أقول لكم لم
يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات
أعظم منه؟" (مت 11 : 11) فما هو "ملكوت السموات"؟ إنه عطية الروح القدس
التي قيل عنها "ملكوت السماء في داخلكم" (لو 17 : 21)، لأن الروح يسكن فينا
بالايمان. هل ترون كيف ان (المسيح) يفضل على كل مولود امرأة، ذاك الذي هو في ملكوت
السموات أصغر منه.

          لكن
لا يظنن أحد اننا نقلل من مجد فضيلة اولئك القديسين او ان يقول ذلك، لأن جمال سيرتهم
لا يقارن. لكنا دعنا نفسر بايجاز ما قاله مخلصنا، لأجل فهم واضح، اذ كان المعمدان المبارك
عظيماً في الحق وبالغ الشهرة في كل فضيلة، نائلاً في النهاية كل حدود هذا البر الذي
لنا، حتى ان أحداً لم يكن يفوقه فيه. ومع هذا كان في هذه الحالة يتوسل الى المسيح قائلاً
"أنا محتاج ان اعتمد منك وانت تأتي الي؟" (مت 3 : 14). هل ترون كيف وهو كامل،
بحسب مقياس الكمال عند البشر مولودي النساء، فإنه يتضرع لكي يكون بشكل ما خليقة جديدة،
ومولوداً جديداً بالروح القدس؟ أترون كيف انه صار دون غيره اعظم من اولئك المولودين،
بقوله إنه هو نفسه "محتاج" لهذا؟ لأنه إذا كان في حال أفضل بدون المعمودية،
فما الذي استماله ان يتوسل ان يعتمد؟ لكن ان كان سيصير الى حال أفضل، فلماذا لم يعط
الأفضلية لأولئك الذين اعتمدوا فعلاً؟ لذلك يقول المسيح إن الأصغر في ملكوت السموات
اعظم من يوحنا نفسه، اي المعمد حديثاً، الذي لم يكن قد بلغ بعد السمو في (الأعمال).
والمعمد حديثاً اعظم في هذا فقط : ان المعمدان كان مولوداً من امرأة (من مواليد النساء)،
بينما (المعمد حديثاً) "مولود من الله" كما هو مكتوب، وقد أصبح "شريكاً
للطبيعة الالهية" (2 بط 1 : 4)، اذ قد سكن فيه الروح القدس ودعي بالفعل هيكلاً
لله.

          لكنني
سأعاود الحديث مرة اخرى فيما كان ايامنا : جاء الروح ليكون في الانبياء لحاجتهم الى
التنبؤ، وهو الآن بالمسيح يسكن في المؤمنين، إذ قد بدأ يسكن فيه هو أولاً (اي في المسيح)،
حينما صار انساناً "لأنه إذ وهو الله له الروح بدون توقف، فالروح من طبيعته جوهرياً،
وهو روحه الذاتي. وقد مسح لأجلنا، وقيل انه قبل الروح كإنسان، وليس لنفسه قد أتى بالشركة
في الخيرات الالهية، بل لأجل طبيعة الانسان كما تعلمنا قبلاً. اذن حينما يقول الانجيلي
الالهي لنا "لأن الروح القدس لم يكن (قد أعطي) بعد. لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد"
(عدد 39)، فلنفهم انه يعني سكنى الروح القدس في البشر سكنى كاملة وبالتمام.

40
"فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام، قالوا هذا بالحقيقة هو النبي.

41
آخرون قالوا هذا هو المسيح حقاً ([vii])".

          أصابتهم الدهشة لثقته في
الوهيته، وإذ ادركوا ان كلماته لم تعد بعد تقاس بمقاييس انسان، راحوا يلجأون الى
تذكر الناموس، باعتباره قد أنبأ قبلاً عن المسيح، قائلاً إن (نبياً) سيقام مثل
موسى الكامل الحكمة، وهذا النبي سيفسر لإسرائيل كلمات الله، لأنه هكذا يقول الله
عنه لموسى المقدس : "أقيم لهم نبياً من وسط اخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فمه،
فيكلمهم بكل ما أوصيه به" (تث 18 : 18). فمما اتصف به كلامه اذن، ومن سمو
أقواله، يقولون انه قد اظهر لهم انه هو ذاك الذي تنبأ عنه موسى. فمن هو الذي يحق
ان يقال عنه "إن عطش أحد، فليقبل اليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري
من بطنه أنهار ماء حي" (عدد 37، 38). سوى لله بالطبيعة؟ وهذا هو
"المسيح" وحتى رغم ان اليهود كانوا يفكرون فيه باحتقار، فيدعونه مجرد
نبي، غير عارفين سمو عمانوئيل فوق الجميع، بل يضعونه كواحد مثل الباقين، فإنهم في
هذا ايضاً يضبطون وقد فكروا دون فهم على الإطلاق للأفكار التي يحويها الناموس :
لأنهم يحسبون ان "المسيح" شخص آخر خلاف "نبي" الناموس.

          ولا
عجب ان كان الناس يفتقدون الدقة في هذا الأمر، حيث ان جموع الفريسيين المتغطرسين
المقاومين لله هم انفسهم مرضى بنفس جهل الشعب. لأنهم وهم مندهشون من الطوباوي
المعمدان قالوا مرة "ما بالك تعمد ان كنت لست المسيح ولا ايليا ولا
النبي؟" (1 : 25). لأنهم إذ كانوا ينتظرون مجيء اثنين، اعني نبي الناموس، أي
المسيح، وايليا، فقد استفسروا عن ثلاثة متخيلين ان النبي شخص آخر غير يسوع. من المناسب
اذن ان يقول المرء عنهم ما قيل بالنبي حزقيال "مثل الأم بنتها، ابنة أمك
انت" (حز 16 : 44، 45) لأن الشعب سقيم بمرض من نوع مرض رؤسائهم. لكن علينا ان
نلحظ انهم كانوا قد كمل اعدادهم للايمان، واقنعتهم كلمات يسوع ان يعجبوا به، ومع
ذلك اذ لم يتوفر لهم ارشاد الرؤساء، تشتتوا بين أفكار متعددة، فالبعض يدعونه
"المسيح"، ويؤمنون انه هو، آخرون يسمونه "بالنبي"، لأن الكلمة
الملحقة "حقاً"، تؤكد على بلوغهم كمال اليقين وتدلل على قبول الايمان.

42
"وآخرون قالوا : ألعل المسيح من الجليل يأتي؟ ألم يقل الكتاب انه من نسل داود
ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها، يأتي المسيح؟".

          لم
يبحث اليهود عن المسيح بحثاً بغير اهتمام، لأنهم وجدوا وقد تعمقوا في كل فكرة، وفي
أفكار عديدة متنوعة كانوا يتلمسون ادراك الحق لأنهم اذ تعجبوا اولاً من كلماته،
وصارت لهم ثقة تامة في تعاليمه كمرشد لتفكيرهم في انه عظيم، كانوا يبحثون ايضاً في
الكتاب الالهي، ظانين انهم واجدون فيه فهماً لا يشوبه خطأ منه : لأنه هذه هي طبيعة
(الكتاب). فهو سيكون اذن من "نسل" الطوباوي جداً "داود"
وسيظهر في "بيت لحم" اليهودية، هكذا يؤمنون اذ اقنعتهم النبوات الخاصة
بهذا الأمر، لأن المرنم الحكيم يقول في موضع ما : "أقسم الرب لداود بالحق وهو
لن يرجع عنه، من ثمرة بطنك اجعل على كرسيك" (مز 132 : 11). ويقول النبي
"أما أنت يابيت لحم أفراته، وانت صغيرة ان تكوني بين الوف يهوذا، فمنك يخرج
لي الذي يكون متسلطاً على اسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (مي 5
: 2). لكن ذهن اليهود بغير سند قد ضل وفشل في إدراك المسيح لمجرد ان
"الناصرة" تقع في الجليل، حيث ان الخبر الشائع ان ربنا قد تربى هناك.
لأنه هكذا يقول احد الانجيليين القديسين، "وجاء الى الناصرة حيث كان قد
تربى" (يو 4 : 16)، لكنهم لم يعرفوا انه ولد في بيت لحم اليهودية من العذراء
القديسة التي كانت من نسل داود (لأنها كانت من سبط يهوذا بالنسب)، ولمجرد معرفتهم
ان ربنا قد تربى في الناصرة، سقطوا عن الحق واعوزهم التفكير السليم.

43
"فحدث انشقاق في الجمع لسببه".

          هم
يتشاحنون لغير هدف وقد اقسموا الى آراء متباينة، البعض يفترض انه هو النبي، وآخرون
انه المسيح. وكان سبب انشقاقهم انهم لم يعرفوا المسيح، ولا هم فهموا دقة الكتب
المقدسة : لأنهم لو آمنوا ان يسوع هو هو نبي الناموس : لما وقعوا في هذا الجدل غير
المناسب.

44
"وكان قوم منهم يريدون ان يمسكوه، ولكن لم يلق أحد عليه الأيادي".

          كان
الذين ارسلهم رؤساء الكهنة والفريسيون ليمسكوا الرب، قد جعلوا النزاع بين الجمع
ذريعة مناسبة لتجرأهم (على المسيح). لأنهم ظنوا انهم بأقل جدل يدفعون الجمع الى
القبض على السيد، اذ لم يعودوا بعد مهتمين بما سيقع عليه، بل إذ وجدوا فرصة العراك
والاضطراب، يفرحون بإهانته. "ولكن لم يلق أحد عليه الأيادي"، لا توقيراً
له، إذ لم يكونوا بعد كبحوا جماح غضبهم بلجام التقوى، بل لأن (قدرته) وحدها قد
أوقفتهم (لأنه شاء ان يتألم لأجلنا في وقت مناسب).

          وبالكاد
هدأت مكيدة اليهود، اذ اعيقت من فوق. لأنهم لم يحاولوا ان يسفكوا الدم قبل الوقت،
بل كان عليهم رغم انهم اشرار ان ينتظروا، وقت شرهم.

45
"فجاء الخدام (العسكر) الى رؤساء الكهنة والفريسيين، فقال هؤلاء لهم، لماذا
لم تأتوا به؟".

          اولئك
الذين ارسلهم (الرؤساء) ليصطادوا ربنا، اذ لم ينجحوا في تحقيق ما أمروا به، عادوا
مرة اخرى الى (الرؤساء)، الذين انزعجوا جداً لوصول "الخدام"، دون ان
يحضروا معهم ذاك الذي طلبوا ان يمسكوه. واذ ظنوا ان ما ارتابوا منه قد حدث بالفعل،
اصابهم خوف عظيم، لأنه لما كان المسيح يتعجب منه لآياته التي هي فوق الطبيعة
وكلماته التي تفوق القياس، انهكهم الحسد الذي كان توأم روحهم، ووقعوا في خوف ليس
بقليل خشية ان يقرر شعب اليهود ان يتبعوا (المسيح)، فيفلت هو من ايديهم. واذ
يفترضون ان هذا قد حدث (لأن الأمور محل الشك مهيأة بالأكثر لاعتقاد الناس فيها)
فإنهم في لهفة يستفسرون لماذا لم تأتوا به؟ (وهم يقولون) ما الذي أعاقكم عن اتمام
ما يرضي الرؤساء؟ ونحن نكون اكثر استعداداً للضغط من اجل ان نتعلم كل شيء؟ وفي بعض
الأحيان لا ندرك الأمور المحزنة، وفي لهفتنا نشتهي حتى ان نتمسك بإدراك امور
نكرهها.

46
" أجاب الخدام : لم يتكلم قد انسان هكذا".

          من
الملائم حقاً ان نقول عن مخلصنا المسيح، انه الآخذ الحكماء بمكرهم" (1كو 3 :
19) لأنه انظروا ما هو مكتوب "الذي يزيل مشورة الماكرين" (أي 5 : 13س)،
ويظهر طبيعة الأشياء كلها وقد تحولت الى النقيض، ويكشف من كل جانب فساد الرؤساء،
وشرور حياتهم الهشة المحفوفة بالمخاطر، الذين رفضوا ان يكفوا عن مقاومة الله. لأن
رؤساء الكهنة والفريسين، خشية ان يقتنع شعب اليهود بكلمات يسوع، يرسلون خداماً من
الجند ليأخذوه، ظانين ان حال كون المسيح خارجاً عنهم، سوف يجعل (الخدام) لا يولونه
أي اهتمام. لكن ما ارتابوا فيه، ان من ارسلوهم قد عادوا وهم متضايقون وقد ارتعدوا مما
سمعوا، وهذا ما علموه ضد ارادتهم، وسمعوا على غير توقع من اولئك الذين تكلموا
كلاماً يناقض ما يدور في أذهانهم، (إذ قال الخدام لهم) "لم يتكلم قط انسان
هكذا".

          لكن
حيث انهم يقولون هذه الأشياء كمبرر لعدم إحضارهم الرب، هيا نفصل ما قالوه، لنعي
معناه بكل وسيلة. (إذ يقولون) إن كنا نرضي انفسنا بتعليم الكتب المقدسة، وان كنا
نفتخر اننا تهذبنا بالنواميس الإلهية، وإن كنا نتعجب للحكمة كخير غير أرضي، لماذا
في شر نطرد (إنساناً) بهذه الحكمة، وأن نوصم بالخطأ بقدر ليس بقليل ذاك الذي لا
ينبغي علينا ان نتهمه، بينما نحن بالحري مدينون له بمحبة خاصة، أجل ونحن نخضع
لمخاطر الناموس، متعطشين ان نقتل دون سبب "بريئاً وباراً" (قابل خر 23 :
7). بمثل هذا التفكير يمكن لنا ان نفترض ان كلمات "الخدام" كانت ذاخرة
بالتعقل. لكني اعتقد انه بالنظر الى عبارة "لم يتكلم قط انسان هكذا"،
يمكن للمرء ان يقول شيئاً ما أقرب الى الموضوع. لأنهم يقولون هكذا تقريباً، ليس من
المعقول ان تلومونا نحن الذين لم نأت لكم الآن بمن تطلبونه، لأنه كيف يمكن لإنسان
ان يقاوم – حتى ولو ضد ارادته – انساناً هو بحسب كلماته اله؟ لأنه لم يتكلم
كانسان، ولا كانت كلماته كلمات انسان، بل هي بصواب تخص ذاك الذي هو الله بالطبيعة.
(وهم يقولون) فليقل أي أحد، ان كان أحد من الأنبياء القديسين يقدر ان يسمي نفسه
نهراً، او يجرؤ على القول "إن عطش أحد، فليأت الي ويشرب؟ "ومتى قال لنا
القدير موسى" من آمن بي، تخرج من بطنه أنهار ماء حي" وهذه الأمور قد
سمعنا (المسيح) يقولها. لهذا فهو بالطبيعة الله الذي يرفع نفسه في الكلمات فوق
الانسان دون خطر. لكن ان نحاول ان نقبض كما لو كان بالضرورة وقسراً على ذاك الذي
هو فوق المخلوق، كيف لا يقول المرء ان هذا أمر محفوف بالمخاطر؟ كيف لنا ان نمسكه
ضد مشيئته، الذي هو أعلى منا بما لا يقاس، كإله فوق الإنسان؟ لهذا قدم
"الخدام" كبرهان واضح، الدليل على ان الرب هو الله بالطبيعة، وذلك في
الكلمات "لم يتكلم قط انسان هكذا". وهكذا سددوا ضربة من كل جانب الى
مقاوم الله، الذي هلك دون ان يرى بواسطة نفس الشيء الذي ظن انه سيصل به الى غايته.

47
"فأجابهم الفريسيون : العلكم انتم ايضاً قد ضللتم".

          كان
الأمر يبدو ان الخدام (العسكر) كانوا أكثر يهودية بشدة، وملتصقين على الدوام
بالفريسيين يشاركونهم نفس تفكيرهم متشبعين تماماً بكلمات رؤسائهم، لهذا كانوا
مقتنعين بالتفكير بنفس طريقتهم، إذ كانوا معهم دائماً، لكنهم حين جاءوا، دون ان
يحضروا الرب، بل كانوا مصابين بدهشة فاقت توقعهم، وبلغوا الآن فقط حد التعجب من
ذاك الذي ما كان ينبغي لهم ان يكرهوه في البداية، ظنوا ان على الباقين كلهم ان
يقتنعوا بهم. (أما الفريسيون) فقالوا لهم والألم الشديد يعتصرهم، "العلكم انتم
ايضاً قد ضللتم؟". تأملوا كيف ان هذا القول هو قول مفعم بنوع من اليأس من أي
رجاء فيما يخص الشعب. لأنه بالرغم من ان باقي الجمع كان قد انخدع بالفعل، هكذا فإن
كثيرين إذ لم يكونوا ثابتين جداً، اظهروا مخاوفهم حتى أمام الخدام. لأن بقية الجمع
من عموم الشعب الذين لم يتمرسوا بقراءة الكتب المقدسة، ولم يتقووا حتى بالالتصاق
بنا (نحن الفريسيين)، فليكن من الأمور المسلم بها عندهم ان يلتصقوا به بمشاعر
متهورة، ويوافقوا بسهولة على ما قاله وعمله، لكن متى قبلتم انتم هذا الخطأ ايضاً؟
كيف انخدعتم انتم انفسكم؟ وما الذي ابعدكم عن محبتكم لنا، رغم انكم قد نشأتم في
نفس عدم الايمان معنا؟ ويبدو لي ان شيئاً مثل هذا يريد الفريسيون ان يخبرونا به.

48
"ألعل أحد من الرؤساء او من الفريسين آمن به؟".

49
"لكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون".

          لقد
سقط (الفريسيون) في تفاخرهم المعتاد، ملقين بتهمة الجهل على اولئك الذين تعجبوا من
يسوع كصانع عجائب ويعمل بأمور الهية، ومتوجين هاماتهم هم وحدهم بالحذق في الناموس
ومعرفة الكتب المقدسة. ولأنهم هم انفسهم لم يوافقوا مع اولئك الذين تعجبوا بصواب
لهذه الاشياء، فانهم يعتقدون انهم مملؤون بالفضيلة. ورغم ان الناموس يمنعهم من ان
يخطئوا بأشياء جديرة تثير الإعجاب، وهم يلقون بحكم منحرف على أمور فائقة الدهشة،
فإنهم يتباهون كثيراً بأنفسهم، وقد طاشت عقولهم، ولخفتهم الشديدة يوصمون الجميع
بالجهل هكذا بسهولة. وحين كان حري بهم ان يعترفوا بيسوع الحاضر الآن معهم، فإنهم
يقعون في الخطأ بأنفسهم، "فيثقلون ياقتهم، ليظهروا حكماء، فيصيرون
اغبياء" كما هو مكتوب (حب 2 : 6س مع رو 1 : 22). ورغم انه كان من الافضل
كثيراً ان يعترفوا بجهلهم بالناموس، بدلاً من الاعتقاد والقول بأنهم عرفوه جيداً،
فيحتقروا ذاك الذي تنبأ الناموس عنه، ويسقطون في هلاك محقق، ويطعنون انفسهم
بالويلات التي نجوا منها قديماً. (فهو يقول) "وأما ذلك العبد الذي يعلم ارادة
سيده" ولا يعملها، "يضرب كثيراً"، ولكن الذي لا يعلم (ارادة سيده)
ويفعل ما يستحق ضربات، "يضرب قليلاً (قابل لو 12 : 47، 48) لهذا فباعترافهم
انهم يعرفون الناموس، يقع عليهم اتهام كامل بعد الايمان، ويهزأون بالجموع على انهم
غير متعلمين ولذلك فهم ينبهرون بمعجزات المخلص، لهذا إذ يعجزون عن ان يثنوهم عن
الاقتناع بواسطة اعلانات من الناموس، نجدهم يهينونهم في تفاخر، داعينهم بغير
المتعلمين وهم الذين كانوا قد تهيأوا للفهم. لأن هذه هي على الدوام عادة المعلمين
الأكثر جهلاً، الذين إذ لا يكون لديهم ما يجيبون به على ما يسألون عنه، وينفرون في
غضب من تدقيق السائلين ويقولون ان الذين يؤمنون هم "ملعونون"، بينما كان
من الأصوب لهم بأن يقولوا هذا الكلام عن انفسهم. لأنه يناسب غير المؤمن اكثر من ان
يكون ملعوناً، عالماً ان الناموس يعلن بوضوح عن النبي الذي هو مخلصنا المسيح،
"ويكون ان الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به (ذلك النبي) باسمي،
تباد هذه النفس من الشعب" (تث 18 : 19 مع أع 3 : 23).

50
"قال لهم نيقوديموس، الذي جاء اليه (قبلاً ([viii]))
وهو واحد منهم.

51
"ألعل ناموسنا يدين انساناً لم يسمع منه اولاً ويعرف ماذا فعل؟".

          كان
نيقوديموس أحد الرؤساء، وكان محسوباً من بين أولئك الذين لهم سلطان، ومع هذا لم
يكن عديم الايمان تماماً ولا كان يباريهم في حماقتهم، بل قد نخس في قلبه فعلاً،
لكن حبه للمسيح لم يكن حراً بعد، ومع هذا فإنه الى حد ما كان يشعر بالخجل أمام
تأنيبات ضميره. لأنه إذ قد جاء الى المسيح ليلاً وأكد أنه يعرف حسناً أنه كان
"قد أتى من الله معلماً" (يو 3 : 2)، وان لا أحد بمقدوره ان يفعل مثل
هذه الآيات، إن لم يكن الله معه، وأنا أظن ان الجميع قد تعلموا واذ قال الانجيلي
المبارك ذلك بوضوح في البداية. لهذا فإنه إذ كان يتعجب من يسوع مع الجموع، انزعج
بعض الشيء اذ حسب "ملعوناً" معهم. لأن الضمير يسرع الى الاقتناع بألا
يبقى صامتاً حيال الأمور المضادة له. لهذا إذ قد حزن من هذا الأمر، عاد عليهم بالإهانة
نفسها ليس صراحة، بل راح يخاطبهم معترضاً بكلمات تستمد قوتها من الناموس، وليس
بشكل علني مكشوف. (لأنه قال) بينما حيكم الناموس في كل مسألة أمامهم، وأنتم سوف
"تفحصون جيداً" (قابل تث 17 : 4) في دقة ووضح، ما اذا كان الأمر هكذا،
فإنكم تحكمون بلا ترو على أولئك الذين لن يستدعوا بعد للمحاكمة، وقبل ان تسمعوا
منهم تصدرون ضدهم حكماً متسرعاً جداً. (لذلك فهو يقول) انكم انتم بالأحرى
"الملعونون" بالأكثر حقاً، اذ تحتقرون الناموس. لأنه مكتوب "ملعون
كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (غل 3 : 10 من
تث 27 : 26)، أما سخطه على الفريسيين لإدانتهم الشعب لمجرد انهم تعجبوا من يسوع،
فيتضح من اتفاقه مع اولئك الذين آمنوا. لأنه إذ لا يزال مريضاً بالخزي المؤذي، ولم
يمزج بعد غيرته بالجرأة، فإنه لم يسمح للإيمان الذي فيه ان يظهر دون حجاب، لكنه
يلقي حوله بتخف مثل عباءة قاتمة، فهو وان كان لا يزال يخفي انه في جانب المسيح،
إلا انه مريض بمرض عضال.

          لأنه
ينبغي علينا ان نؤمن دون خوف، مفتخرين بالأحرى عوض ان نخجل، ممارسين الصراحة
الشفافة، رافضين خداع العبيد، لأنه لهذا يعلن الحكيم بولس ان من يفصل كلمة الحق
باستقامة" (2 تي 2 : 15)، ينبغي ان يكون "عاملاً لا يخزي"، وهو
نفسه ايضاً اذ يظهر الفضيلة التي تسطع منه هو ذاته يقول في موضع ما "لأني لست
استحي بالإنجيل، لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن.." (رو 1 : 16).

          إذن
كان حديث نيقوديموس له صلة بالموضوع (لأني سأوجز مرة اخرى ما كنت اقوله) : لأنه
لماذا تكلم هو وحده وتحمل كلمات الفريسيين، على الرغم من ان تآمرهم الدموي كان قد
اشترك فيه آخرون كثيرون؟ لكن من الواضح لكل واحد، انه اذ كان محسوباً من اولئك
الذي اعجبوا بالمسيح، فإنه يظهر ان اولئك الذين يصبون لعنتهم على من هم أقل
استحقاقاً منهم للعنة هم الذين تحق عليهم اللعنة.

52
"أجابوا وقالوا له : العلك انت ايضاً من الجليل؟ فتش وانظر انه لم يقم نبي من
الجليل".

          إذن
كان قصد كلمات الفريسيين هو هكذا :

          حال
كونك يهودياً، ومولوداً في نفس الوطن، لماذا تتظاهر كأنك لا تعرف شيئاً عن
الجليليين، وانك للغرابة تشترك في جهلك بأمورنا مع اولئك الذين هم جهلة تماماً؟
ولأنك ضليع جداً بمعظم الكتب المقدسة، ومتعمق في فرائض الناموس، فمن اين لا تعرف
(هكذا يقول) انه ليس من الممكن ان تنتظر "نبياً" من بين الجليليين؟. لكن
علينا ان نلاحظ مرة اخرى : انهم يزدرون بالجموع على اعتبار انهم لا يعرفون الأمور
الواجب عليهم معرفتها معرفة دقيقة، ويخطئون احتياجهم الشديد للتعلم، ويشمئزون منهم
ويصفونهم في تعال بأنهم جهلة، مع انهم هم انفسهم قد اصيبوا بمرض أسوأ، ولا يختلفون
عنه في افتقارهم للخبرة. لأن أولئك اذ قبلوا المعجزات التي صنعها المسيح، وإذ
يزدادون ايماناً شيئاً فشيئاً، قالوا مرة "ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات
أكثر من هذه التي عملها هذا" (31). ومرة اخرى اذ ينحرفون عن الرأي الصحيح
يخطئون بقولهم انه من الناصرة التي في الجليل، حيث يعلن الكتاب الالهي ان الرب قد
تربى، ولهذا يقولون "ألعل المسيح من الجليل يأتي؟" ألم يقل الكتاب انه
من "نسل داود ومن بيت لحم القرية التي كان داود فيها؟ يأتي المسيح (41، 42).
لكن لسبب جهلهم الشديد، وهم يسخرون من الشعب بسبب عدم تعليمهم، ولهذا يدعونهم
"ملعونين"، بينما لم يكونوا هم افضل منهم في جهلهم. لأنهم يقولون ايضاً
"فتش وانظر، انه لم يقم نبي من الجليل".

          ولكن
قد يثور ضدهم واحد ويقول "انتم، يا من لا تصافحون احداً في جهلة انتم الذين
اخطأتم الهدف وأنتم قساة، لماذا تفتخرون في كبريائكم، واي اثر للحكمة فيكم؟ اين
فهم العالمين بالناموس؟ لأننا لا ينبغي ان نشك في مخلصنا المسيح بل ان نؤمن، ودونما
تردد بالله الآب القائل للقديس موسى عنه "أقيم لهم نبياً من وسط اخوتهم
مثلك" (تث 18 : 18). (ويقول) "من وسط اخوتهم" فكيف لا يعني ذلك
بالتأكيد انه من اليهود ومن اسرائيل؟ حتى انكم لن تحتاجوا لاعنين من خارج، فإنكم
انتم انفسكم بأنفسكم ستدانون لجهلكم؛ لأنه بينما يعلم مخلصنا المسيح ويقول علانية
"لأني قد نزلت من السماء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي ارسلني" (يو
6 : 38)، تفكرون انتم افكاراً مرة، وتمتلئون ايضاً بغضب شديد، فتقولون مرة أخرى،
"اليس هذا هو يسوع ابن يوسف، الذي نحن عارفون بأبيه وأمه؟ فكيف يقول هذا إني
نزلت من السماء" (يو 6 : 42). إذن حيث إنكم تعترفون بكلمات صريحة، انكم
تعرفون بالضبط أباه وأمه، وانتم بالتأكيد تعرفون انه من نسل اسرائيل : فكيف اذن
تدعون انه جليلي وهو الذي ولد من اليهود؟ كيف يكون الذي من اسرائيل غريباً؟ لأن
الذي لم يولد بالتأكيد في الجليل، وكان قد قضى هناك بعض الوقت، كيف يعزلون
بالتأكيد ذاك الذي من اسرائيل عن جنسه، لأن لا شيء يعوق الذي جاء من الجليليين من
ان يكون يهودياً بالجنس ان كان قد جاء الى أرض اليهود. لهذا من الباطل ان يقول
الفريسيون بطريقتهم في الخداع عن المسيح مخلصنا، "أنه لم يقم نبي من
الجليل". لأنه كان الأحرى بهم ان يستفسروا كيف وهو الذي جاء من أبوين يهوديين
ان يكون جليلياً، وان يأخذوا في الاعتبار اخيراً انه تربى في الناصرة، ولا يضلون
عن الايمان به لهذا السبب.

          لكن
علينا نحن ان نلاحظ مرة أخرى انه ما من سبيل ان يجد حكيم ما خطأ في معجزات
(المسيح)، على الرغم من انها قد أثارت عدوانيتهم الى حد بعيد، فأنكروا (الايمان
به) لمجرد معرفتهم بوطنه، حيث إنه من الجليل (حسب زعمهم)، ومن هنا ابطل شكهم، ولو
كانوا حكماء لآمنوا به دون أدنى شك.



([i]) هكذا ينسب القديس كيرلس هذه العبارة للرسول بولس
في هذا الموضع. ويبدو ان فكرة امتحان كل شيء الواردة في الآية المأخوذة عن اختبار
العملات وفرز الجيد من الرديء.

([ii]) مدينة أعيادنا.

([iii]) في سن 99.

([iv]) يبدو ان القديس كيرلس الكبير يستحضر في ذهنه اقتباسه المفضل من
اش 33 : 20، حيث الحديث عن المدينة اورشليم في النسخة السبعينية هو بلفظة (مدينة
ثرية او مزدهرة) اي غنية.

([v]) اي ليس حرفياً.

([vi]) فكم بالحري ابوكم الذي في السموات يهب خيرات goods للذين يسألونه" (قابل مت 7 : 11 مع لو 11 : 13) "فكم
بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه. من هنا يظهر – كما
ذكر القديس كيرلس أعلاه – ان "نعمة الروح القدس" مرادفة عنده لكلمة
"الخير" أو "الصلاح"
good.

([vii]) هناك مخطوطتان لإنجيل يوحنا، وردت بهما كلمة
"حقاً".

([viii]) هكذا وردت في المخطوطة التي يقرأ منها القديس
كيرلس مع بقية أسرة المخطوطات الإسكندرانية
B.L..

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس س سوح 1

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي