الإصحَاحُ
الثَّامِنُ

 

مقدمة
الأصحاح الثامن

          وفي
شرحه للإصحاح الثامن، يبرز القديس كيرلس الموضوعات الرئيسية التالية :

أولاً
– حديث المسيح عن نفسه كنور العالم (يو 12 : 8 – 20)

          يستكمل
القديس كيرلس ما سبق وتحدث به في الإصحاحات السابقة عن المسيح كنور العالم فيقول :

          إن
المسيح يبث نور الفهم في الطبيعة كلها، وهو يبذر مثل بذرة، الفهم اللائق بالإنسان في
كل من يأتي إلى الوجود.

          وأوضح
القديس كيرلس أن المسيح نور العالم كله، بمعنى أنه ليس نوراً لشعب واحد فقط، بل ينشر
نور شعاع المعرفة الإلهية على كل البشر، موضحاً أن من يتبعه يكون له نور الحياة، وأن
من يرفض أن يتبعه سيُحرم من ذلك النور الذي يهبه الحياة (أي يبقى في الموت).

          ويقول
القديس كيرلس : من هو ذاك الذي يحق له أن يقول " أنا هو نور العالم " سوى
ذلك الذي هو الإله الواحد بالطبيعة؟ ومن من الأنبياء القديسين تجاسر أن يقول كلمة كهذه؟
وأي ملاك على الإطلاق نطلق بمثل هذا القول؟

ثانياً
: الرب يسوع المسيح هو واحد

          يقول
القديس كيرلس : على الرغم من أن سامعي الرب كانوا ينظرون إليه كانسان ذي جسد، فهو لا
يقلو " النور موجود فيّ " لكنه يقول " أنا هو نور العالم. حتى يقسم
أحد المسيح إلى ابنين بعد التدبير الذي تم بتأنسه، لأنه كما يقول بولس : الرب يسوع
المسيح هو واحد (أنظر 1 كو 6 : 8) قبل الجسد ومع الجسد. الكلمة الذي من الله الأب هو
بالحقيقة ابن واحد ووحيد، وحتى حينما صار إنساناً فهو لا يحسب منفصلاً عن الهيكل المأخوذ
من إمرأة، لأن الجسد خاص به. وعموماً، فإن فصله (فصل الكلمة عن الجسد) من جهة البنوة
هو أمر لا يخلو من تجديف. ولكننا ينبغي أن نعرف أنه بالرغم من قولنا إن كلمة الله صار
جسداً، فنحن لا نقول أنه ليس مجرد جسد، ولكننا نعني بكلمة الجسد، الإنسان كلمه (أنظر
ص 21).

          ويقول
القديس كيرلس بلسان السيد المسيح : أنتم تظنون أني واحد مثلكم بسبب أنني أليس جسدكم،
ولهذا فقد انخدعتم بشدة ولم تتأملوا السر العميق الذي للتدبير بالجسد، فرغم اني أنا
هو الإله الحقيقي الذي في صورة الأب الذي ولدني، فإني وضعت نفسي آخذاً صورة عبد وصرت
إنساناً (ص 28).

ثالثاً
: الوحدة بين الإبن والآب :

          يقول
السيد المسيح : لي الأب في " كمشارك معي ومريد معي في كل الأشياء، التي تختص بكم.
لأن الآب يشترك معي في صنع العجائب ويعمل معي، لأنه لو كان الأمر يختص بالطبيعة البشرية
لما كنت فعلت شيئا. وفيما يختص بكينونتي التي من الآب فأنا هو الله بالطبيعة، وإذ الأب
في نفسي، فإني اعترف أني أستطيع أن أنجز كل الأشياء. وتشهد لي طبيعة ذلك الذي ولدني،
ولأني أملكه في نفسي بموجب وحدة الجوهر فإني أنجز كل الأشياء بلا عائق (ص 30، 31).

          ويقول
القديس كيرلس : إن ربنا يسوع المسيح له بطبيعته الألهية القوة الخالقة للكل لأنه هو
الله رغم أنه صار إنساناً. وقد شهد له الأب إذ هو عامل معه في كل الأشياء. ولكننا نعتبر
أن الأب يعمل مع الإبن، لا كمن يقدم قوة أخرى خاصة به لمن تنقصه قوة لأجل إنجاز الأعمال
المعمولة. لأننا إذا كنا نفكر هكذا، فنحن سنصل إلى أن قوة الأب وقوة الإبن كلتيهما
ناقستين بالتأكيد عن إتمام أية معجزة أخرى تجرى بواسطتهما معاً، كما لو أن واحد منهما
لا يكفي لهذا العمل. فحيث أنه توجد ألوهة واحدة في الآب والإبن، ولهما السلطان والقوة
من نفس الطبيعة وبلا اختلاف، إذن أعمال الإبن ستكون بالتأكيد هي أعمال الله الآب، وأيضاً
أعمال الله الأب هي أعمال الإبن. ويقول الإبن : لست أعمل شيئاً من نفسي، لا كأنه خادم
أو مساعد في العمل، ولا كمن هو في وضع من يتتلمذ وينتظر أن يأمره الآب، لو كمن يتدرب
لكي يتمم العجائب، بل بالحري هو يعني بكل دقة أنه إذ قد نبع من جوهر الله الآب، ومثل
نور شع بلا بحياة من عمق أعماق حضنه بطريقة تفوق التعبير وهو كائن معه أزلياً، ويُدرك
على أنه صورة ورسم أقنومه (جوهره)، فله نفس الفكر الذي للأب ونفس الطاقة على عمل كل
شئ. ولكن يعلم بوضوح أنه مشترك مع ذلك الذي وله، في الإرادة من جهة كل الأشياء، لذلك
يقول " لست أعمل شيئا من نفسي. " وكأنه قال. أنا لست متجهاً الىأية إرادة
خاصة بي ليست موجودة في الله الاب. فمهما أرادت طبيعة الأب وحكمت فهذا نفسه هو بالتأكيد
في أنا أيضاً، حيث إني أشرقت من حضنه، وأنا ثمرة جوهره الحقيقة (ص 31، 32).. فالإبن
له دائماً مشيئة واحدة مع الآب ولا يعمل شيئا يتنافر معه، ولايحتمل أن يقول شيئا مما
لم يكن مع الآب (ص 70، 71).

رابعاً
: الابن يعلن عن الآب :

          يقول
القديس كيرلس : لو كانوا عرفوا الكلمة الذي شع من الله الأب والذي صار جسدا لأجلنا
قحسب الكتاب الإلهي، لكانوا قد عرفوا أيضاً ذلك الذي ولده، لأن المعرفة الدقيقية جداً
للأب تتولد منخلال الإبن. فإذا عرفنا الإبن فاننا بواسطته نعرف ذلك الذي ولده، لأنه
من خلال كل واحد منهما نصل إلى إدراك الآخر. فحينما يُذكر الأب يأتي ذكر وليده بالتأكيد
معه.. وأيضاً مع معنى لفظ الإبن يأتي اسم ذاك الذي ولده. ولذلك فالإبن هو باب وطريق
يقود إلى معرفة الآب. إننا نحتاج أولاً أن نتعلم ماذا يكون الإبن بالطبيعة، وهكذا فمن
الضورة والرسم الدقيق جداً ندرك الأصل جيداً، لأن الأب يرى في الإبن وهو يظهر بصورة
كاملة في طبيعة وليده الذاتي كما في مرآة، لأنه يلزم للإبن الذي هو رسم جوهر الأب،
أن يكون مماثلاً له من كل وبكل طريقة (ص 34، 35).

خامساً
: الإبن يعرف الآب :

          يقول
الرب يسوع " ,اما أنا فأعرفه، وإن قلت لست أعرفه أكون مثلكم كاذباً ". والإبن
يعرف أباه ليس من نوع المعرفة التي لنا، بل معرفة تليق بالله وتعلو عن الشرح، لأنه
كما أن الإنسان يولد من إنسان، لا كأنه يتعلم من شئ آخر، بل ممن وُلد هو نفسه منه،
وهو لا يجهل طبيعة الذي ولده، هكذا الإبن أيضاً، فإنه يعرف الذي ولده ويحفظ كلمته،
أي له تعريف جوهره محفوظاً كلية في نفسه (ص 153).

سادساً
: الابن يملك كل ما للآب :

          يتساءل
القديس كيرلس : هل الابن حصل على القوة والفهم من الأب لكي يستطيع أن يعمل شيئاً وأني
تكلم بلا لوم؟ وكيف يكون بعد ذلك إلهاً بالطبيعة ذلك الذي يستعير القوة والحكمة من
آخر، كما هو الحال في الطبائع المخلوقة؟ لأن تلك الكائنات التي من عدم الوجود تحصل
على الوجود. فكل شئ يختص بها هو أيضاً يُعطي لها من الله بالتأكيد. ولكن الأمر ليس
هكذا بالنسبة للإبن، لأنه كما أن عدم الفساد وعدم الموت ينبغي بالتأكيد أن يكون إله
بالطبيعة وليس من خارجه ولا أن يضافا إليه، هكذا يكون لهخ أيضاً الكمال الكلي وعدم
النقص في كل الصالحات. ولو أن الإبن ناقص من جهة قدرته أن يعمل الأمور الإلهية وان
يتكلم بما هو صواب، وفي نفس الوقت هو قوة الأب وحكمة الأب بحسب الكتاب الإلهي. فالأب
لن يعود كاملاً فيما بعد في القوة، كما أنه لن يكون كاملاً في الحكمة.

          ويتساءل
القديس كيرلس متعجباً : كيف يهب الله قوة لقوته الذاتية، أو كيف يجعل حكمته الذاتية
أكثر حكمه؟ وكيف يُدعى الإبن بعد ذلك رب القوات (مز 24) أو كيف يُدرك بعد ذلك على أنه
الحكمة والقوة، إن كان بحسب رأيكم – ينال حكمة من آخر. فالإبن له خصائص الألوهية بدرجة
كاملة، وهو حكيم ليس بواسطة التعلم. وفي قوته التي ندركها حقا، لا نرى قوة تضاف إليه
من خارجه. إنه في كل شئ مساوٍ للذي ولجه وهو ليس أقل منه بأية طريقة وبأي حال. والذين
يحطون من قدر رسم (صورة) الله الآب، فهم لا يتهمونه هو نفسه بقدر ما يتهمون الأب الذي
الإبن هو رسم له، حيث إن الآب يكون على حسب ما يُرى في الإبن.

          وعندما
يقول الإبن : أنا لا أفعل شيئاً من نفسي، فهو هنا لا يقوم طبيعته الخاصة كأنها ضعيفة.
فلنتفرض أن هناك إنسانين لهما نفس الطبيعة، متساويين في القوة، ولهما فكر واحد أحدهما
مع الآخر، فلو قل أحدهما " أنا لا أفعل شيئا من نفسي " فهل سيوق هذا كأنه
ضعيف ولا يستطيع أن يفعل شيئا بالمرة من نفسه، ام أنه يقول هذا لأن الإنسان الآخر هو
في اتفاق معه وله فكر واحد معه ومتحد معه، فهكذا يجب أن نفهم عن الإبن، فحيث أنه هو
حكمة الله ومشورته الحية، فهو يعترف أنه لا يفعل شيئا آخر غير ما يريده الآب إذ هو
حكمته ومشورته. وكما أن الفهم الذي فينا لا يُحسب أنه شئ آخر غيرنا نحن أنفسنا، فبنفس
الطريقة، فإن حكمة الله، أي الإبن ليس مختلفا عن الآب من جهة وحدة الجوهر والتطابق
الدقيق للطبيعة، لأن الآب أب والإبن ابن في نفس الكيان (ص 76).

          وللتوضيح،
يقدم القديس كيرلس مثلاً آخر من عالم الإنسان. فمن الذي يُعلم الطفل المولود حديثاً
أن يستعمل الصوت البشري (الكلام)؟ لماذا لا يزأر كالأسد؟ لكن الطبيعة تشكل الجنين حسب
خاصة الزارع (الأب) وهكذا، بالضرورة سوف ينمو حتى يصل إلى الصوت المشترك (المفهوم)
الذي نستخدمه جميعاً. إذن فمن الممكن بدون تعلم أن يتعلم من الطبيعة التي تسكب كل خاصية
الزارع في الجنين. فهكذا يكون الحال مع الإبن أيضاً، حيث أنه إله من إله بالطبيعة،
تعلّم من الطبيعة الخاصة أن يتكلم كإله وأن يقول شيئاً إلهياً مثل : أنا هو نور العالم
(ص 77، 78).

          فعندما
يقول الإبن إنه " تعلّم من الآب " فإنه يشير إلى نوع من التعلم بدون تعلم،
للأعمال والكلمات الإلهية من الطبيعة الخاصة لذلك الذي ولده، لأنه بدون شك فإن التماثل
في الإرادة والتساوي والمشابهة في الكلمات توجد بالضرورة في أولئك الذين لهم نفس الطبيعة.
وهذا هو معنى أنه لا يفعل من نفسه شيئاً. وهو تدبيرياً يقول إن ما يعرفه كإله، فهذا
تعلمه من الأب (ص 78).

سابعاً
: الإبن مولود غير مخلوق :

          إن
الإبن هو بالطبيعة الله وهو فوق كل مشابهة للخليقة. وعندما قال إنه من فوق فقد أظهر
من أين هو وأنه كان أزلياً مع الذي ولده، فهو كائن كما أن الآب أيضاً كائن. وكيف لذلك
الذي هو كائن وأزلي مع الكائن، كيف يقال أنه كان غير موجود وأنه خُلق؟ إن مجد المسيح
هو في كونه غير مخلوق أي في كونه إلهاً من إله بالطبيعة. إن الإبن يفصل نفسه كلية عن
الأشياء المخلوقة ويقول : " أنا لست من هذا العالم " ويربط نفسه بالألوهية،
ويضع الألوهية في مواجهة العالم، ويضع نفسه مع الله الذي ولده ومع الجوهر الذي هو فوق
الكل. إن الإبن لا ينال مجداً على سبيل النعمة، ولا يُضاف إليه المجد حيث إنه من جوهر
الله الآب، فهو في العرش معه وجالس معه وله كل الأشياء تحت قدميه كإفله، وهو من الآب
ومع الآب بطريقة إليهة عالية فوق كل الخليقة (الفصل الرابع).

ثامناً
: المسيح هو طريق الخلاص الوحيد :

          يؤكد
الرب يسوع أن " الإيمان " يلزم أن يكون به هو، لأننا نتبرر بالإيمان به إنه
إله من إله وإنه المخلص والفادي وملك الكل والرب بالحق. وأوضح الرب أنا لذي هو عبد
بالطبيعة لا يكون كفواً لتحرير الآخرين ولا لتحرير نفسه على الإطلاق، لأنه كيف يمكن
لمن تعوزه الحرية أن يعطي الحرية لنفسه. وذلك الذي يستعير نعمته من آخر، كيف تكفي هذه
النعمة ليزود آخر بها، فإن ذلك الذي هو وحده بالطبيعة إله من إله، يليق به ويحق أن
ينسب له السلطان أن يحرر ولا تختص القوة على التحرير بأي أحد آخر سواء. (ص 90 وما بعدها).

تاسعاً
: صلاح المسيح بالطبيعة :

          إن
الرب يسوع هو صالح بالطبيعة، ورغم أنه صار إنساناً بسبب محبته للبشر، فقد ظل على ما
هو عليه حسب الطبيعة، أي إلهاً. ويقول القديس كيرلس :

          نحن
لا نندفع إلى افكار متهورة فنظن أن الإبن يظهر أية فضيلة كأنها صادرة عن تفضيل (شئ
عن آخر) واعتياد، بل بالحري هو ثمرة الطبيعة التي لا تعرف التحول والتي لا تحتاج إلى
عون إلهي في المشورة لكي تفعل أي شئ. لأنه بالنسبة إلى المخلوقات إذ هي يمكن أن تتحول
إلى الأسوأ، وتتغير مما هو أفضل إلى ما هو أسوأ، فإن الصلاح فيها يكون ثمرة اتجاه نحو
التقوى والفضيلة. وأما بالنسبة إلى الطبيعة الإلهية التي هي فوق الكل، فليس الأمر هكذا.
لأنه حيث إن كل تغير وتحول ليس له مكان فيها، فإن الصلاح هنا يكون ثمرة الطبيعة التي
لا تقبل التغير، وذلك مثل الحرارة بالنسبة للنار والبرودة بالنسبة للثلج. لأنه من الواضح
أن النار لها فعلها الخاص بها وهو ليس إرادياً بل طبيعياً وجوهرياً، وهي لا يمكن أن
تكون غير ذلك إلاّ إذا أبعدت عنها فعلها بأمر صانعها. لذلك فالإبن ليس مثلنا أو مثل
أي واحد من الخليقة العاقلة التي تحكمها الإرادة والحرية للسعي نحو عمل ما يرضي الله
الاب. فالإبن الوحيد لا يقول مثل هذا، ولكنه يتبع قوانين طبيعته الخاصة، ولا يفكر أو
يعمل شيئاً إلاّ بحس بمشيئة ذلك الذي ولَدَه. لأنه كيف يستطيع اللاهوت الواحد الذي
له نفس الجوهر أن يكون مختلفاً على الإطلاق معنفسه؟ أو كيف يمكن أن يعمل ما لا يريده.
وكأن هناك من له سلطان أن يحوله إلى اتجاه آخر؟ لأنه رغم أن الله الآب كائن بذاته وبنفسه،
وبالمثل أيضاً الإبن والروح، ألا أن الثالوث القدوس الواحد الواحد في الجوهر لا يتمزق
ويصير إلى انفصال كامل، بل ملء الثالوث الكلي هو في طبيعة واحدة للاهوت (ص 83،
84). وعندما قال الرب " من منكم يبكتني على خطية " فالسؤال ليس سؤال من ينتظر
التأنيب، بل بالحري هو سؤال من يستبعد وينكر تماماً أي احتمال أن الإله نفسه الذي أشرق
من الله يمكن أن يسقط في خطية، لأن المسيح لم يفعل خطية. فكل خطية إنما تنشأ من التحول
عن الأفضل إلى ما ليس كذلك، وهي تحدث في أولئك الذين من طبيعتهم أن يتحولوا وان يتقبلوا
التغيير إلى ما لا ينبغي أن يكون، لأنه كيف يمكن أن يفهم أن الذي لا يعرف أي تحول يمكن
أن يخطئ، بل بالحري هو ثابت في صلاحه المغروس فيه، وهذا الصلاح ليس من شخص آخر غيره
بل من ذاته؟

 

          فليبارك
الله في هذا العمل بصلوات القديس يوحنا الإنجيلي والقديس كيرلس الإسكندري، وصلوات قداسة
البابا شنوده الثالث، ولإلهنا القدوس الآب والإبن والروح القدس كل تسبيح وسجود الآن
والى الأبد. آمين.

 

الأصحاح
الثامن [i]

يو
12 : 8 " ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً أنا هو نور العالم "

          إن
يسوع أعطى هذا الحديث حسب ما كان مكتوباً عن العيد، حينما وقف في اليوم الأخير ونادى
قائلا : " إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب " (يو 37 : 7). وحيث أن أقوال موسى
قد اشارت إلى النبع، فهكذا الآن أيضاً يجعل شرحه مناسباً جداً وموافقاً لطبيعة الأشياء.
فحيث أنه رأى أن المعلمين كانوا شركاء الجموع في الحماقة، وأن الذين يستهزأون كانوا
مرضى بنفس المرض مثل الذين يُهزأ بهم، وكما لو كانوا غارقين جميعاً في أيل الجهالة
وهم يسعون أن يمسكوا بسر (المسيح) لكنهم لا يجدون شيئاً بالمرة، لهذا السبب فهو يبرر
سبب نقص المعرفة عندهم، صارخاً " أنا هو نور العالم ". وهو يقول أنتم تفتشون
خلال الكتاب المقدس كله وتظنون أنكم تفحصوا كل الأمور التي قيلت عني بواسطة الأنبياء
بينما أنتم بعيدون تماماً عن طريق الحياة. ولا غرابة في هذا : لأن الذي يكشف السرار
ويضئ العالم كله، وهو كالشمس التي تنير في قلوب الذين يقبلونه، ليس موجوداً فيكم. إذ
أن الذي ليس له النور الإلهي الروحاني في داخله، فبالضرورة يمشى في الظلمة ويعثر في
حماقات كثيرة.

          ولكن
كون الإبن الوحيد هو بالطبيعة " النور "، وأنه يشع من الله الآب الذي هو
بالطبيعة " النور " فهذا قد أوضحناه باستفاضة في الكتاب الأول [ii] عندما تحدثنا
عن الكلمات " كان النور الحقيقي ".

          ولكن
ينبغي اننلاحظ أيضاً أنه يقول إنه هو النور ليس فقط لشعب اسرائيل وحده بل للعالم كله.
وهو يخبرنا هذا بأمر في غاية الصدق لأنه يقول إنه هو الذي يبث نور الفهم فيالطبيعة
كلها، وهو يبذر مثل بذرة، الفهم اللائق بالإنسان في كل من يأتي إلى الوجود، بحسب ما
هو مكتوب : " كان هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان يأتي إلى العالم “. ولكني
أظن أنه يوجد شئ دقيق وعميق مختف في هذه الكلمات. لأنه لو لم يكن ما قاله مملوءً بشئ
من هذا النوع لكان قد قال ببساطة أنا هو النور، ولكن حيث إنه أضاف " العالم
" فأظن الآن أنه يريد أن يشير إلى شئ من من هذا النوع، لأن الله كان معروفاً في
اليهودية وفي اسرائيل وحدها " كان اسمه عظيماً " (أنظر مز 1 : 76)، وبقية
الأرض كلها كانت تملأها ظلمة عميقة ولم يكن احد في العالم يملك النور الإلهي والسماوي
سوى اسرائيل وحده.

          ولكن
كما كانت حينئذ كل الأمم في هذا العالم محرومة معاً من معرفة الله وكان لهم وضعهم الخاص
بهم، كان " شعب الرب هو نصيبه واسرائيل جبل ميراثه " (تث 9 : 22 س)، هكذا
أيضاً حينما انتقلت الشمس الروحانية إلى العالم كله، وأخذ النور من اسرائيل ونقل إلى
الأمم حينئذ وجد اسرائيل خارجاً عن الكل : وبينما كانوا ينتظرون النور أدركتهم الظلمة
كما هو مكتوب " تنتظر ضياءً فتصير في ظلام دامس " (إش 9 : 59). والمخلص حينما
تحدث إلى الفريسيين لم يقل باطلاً، " أنا هو نور العالم "، لأنه ينذر أنه
سيترك اسرائيل وسوف ينقل النعمة إلى العالم كله، وسينشر شعاع المعرفة الإلهية على الآخرين.

          ولكننا
ينبغي أن نلاحظ أنه على الرغم من أن سامعيه كانوا ينظرون إليه كإنسان ذي جسد، فهو لا
يقلو " النور موجود فيّ "، لكنه يقول " أنا هو النور "، حتى لا
يقسم أحد المسيح إلى إبنين بعد التدبير الذي تم بتأنسه، لأنه كما يقول بولس الرب يسوع
المسيح هو واحد (أنظر 1 كو 6 : 8)، قبل الجسد ومع الجسد، والكلمة الذي من الله الآب
هو بالحقيقة ابن واحد ووحيد، وحتى حينما صار إنساناً فهو لا يُحسب منفصلاً عن الهيكل
المأخوذ من إمرأة.

          لأن
الجسد خاص به وعموماً فإن فصله بعد التجسد (أي فصل الكلمة عن الجسد)، من جهة البنوة
هو أمر لا يخلو من تجديف. ولكننا ينبغي أن نعرف أنه بالرغم من قولنا أن كلمة الله صار
جسداً، فنحن لا نقول إنه ليس مجرد الجسد ولكننا نعني بكلمة الجسد، الإنسان كله.

“ من يتبعني
لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة "

          إنه
يحثهم أيضاً من كل ناحية، لكي يسعوا للحصول على ما هو نافع وأن يرغبوا بالحري أن ينقادوا
بوصاياه، بدلاً من أن يتبعوا جهلهم، ويحرموا أنفسهم من الحياة البدية. وهو يبيّن كم
تكون المنفعة عظيمة لأولئك الذين يطيعونه، وهم يعرفون أن الرب هو صالح بالطبيعة
" ويريد أن الجميع الناس يخلصون والى معرفة الحق يقبلون " (1تي 4 : 2). ولكن
حيث أنه إله فقد عرف أنهم سيناقضون، ولذلك فهو يصوغ حديثه على حسب صورة الأمور في القديمة
ومما كان قد أصاب أجدادهم من أحداث، فيعلن بوضوح أن الإشتياق لاتباعه سيكون نافعاً
لهم نفعاً عظيماً.

          ولقد
كُتب عن الذين هم من اسرائيل أنه كان " يقودهم بسحابة نهاراً وبنار مضيئة ليلاً
" (مز 14 : 78 س). لأنهم حينما كانوا يجتازون البرية الشاسعة مسرعين نحو أرض الموعد،
كانت هناك سحابة تظل فوقهم مثل سقف بالنهار لتمنع عنهم لهيب الشمس وبمشورة غلهية كان
هناك عمود نار يطارد الظلمة ليلاً ويكشف للمرتحلين طريقهم الصحيح ويقودهم فيه. لأنه
كما أن أولئك الذين كانوا في ذلكالوقت قد تبعوا قيادة النار السائرة أمامهم ونجوا من
الضلال وحملوا مباشرة إلى الطريق الصحيح والأرض المقدسة، غير مبالين بالليل والظلام،
هكذا أيضاً من يتبعني أي من يسير في طريق تعاليمي فلن يبق في الظلمة بأية حال، بل سينال
نور الحياة، أي كشف أسراري التي تمسك بيده وتمكنه من بلوغ الحياة الأبدية. والرب لأنه
فنان ماهر في حديثه، فهو لا يثير الفريسيين – الذين يثورون ويهذون كثيراً – على أية
حال، بل هو يخبرهم بأكثر صراحة انهم سوف يبقون في الظلمة وسيموتون في عدم غيمانهم.
فهو بأسلوب آخر يخبرهم بهذا محولاً قوة كلامه إلى ما هو أفضل، فهو إذ وعد أن من يختار
أن يتبعه سيكون له نور الحياة، وبهذا الوعد نفسه فهو يلمح بأن من يرفض أن يتبعه سيُحرم
من ذلك النور الذي يعيده إلى الحياة. اليس واضحاً للجميع وبدون أدنى شك أنه (أي من
يتبعه) ينال هذا النور؟ وأنه بالنسبة لأولئك الذين يهربون مما يسبب البهجة فبالضرورة
يصيبهم عكس ذلك. إذن فكلمة مخلصنا التي دبرها بمهارته هي صادقة ولا شك فيها.

يو
13 : 8 " فقال الفريسيون، أنت تشهد لنفسك، شهادتك ليست حقا "

          كم
هو غبي وبطئ الفهم ذلك الفريسي، وكم تصعب جداً قيادته إلى إمكانية إدراك ألوهية الرب!
إنهيضل أيضاً بسبب الجسد، ولا يستطيع أن يتصور شيئاً أكثر مما يراه، لأنه بينما يرى
الفريسي أن (الرب) يستعمل كلمات تفوق ادراك الإنسان وبينما هو يسمع أقوالاً الهية تماماً،
فمع ذلك يراه مجرد إنسان غير ناظر إلى نور اللاهوت، ولا فاتح عين ذهنه ليرى عمانوئيل،
لأن من هوذلك الذي يحق له أن يقول أنا هو نورالعالم سوى ذفك الذي هو الإله الواحد الوحيد
بالطبيعة؟ ومَن من الأنبياء القديسين تجاسر أن يقول كلمة كهذه؟ وأي ملاك على الإطلاق
نطق بمثل هذا القول؟ دعهم يقرأون كل الكتاب المُوحى به من الله ويبحثون في الكلمة المقدسة
الإلهية ويبينوا لنا هذا. ولكنهم لا يعملون حساباً لما ينتج بالضرورة، بل يعتبرون انهم
يجب أن يناقضوا ويتقدموا بحماس إلى ما يعرفونه هم وحدهم فقط، ويوجهون الإتهام بسبب
حبهم للإنتقاض. لأنهم يزدرون به كأنه ليس هو نو العالم ويناقضون مايقول مؤكدين أن شهادته
ليست حقا. لأنهم " حكماء في فعل الشر أما فعل الخير فلا يعرفونه " (إر
22 : 4 س). ويفترضون انهم يستطيعون أن يغيروا شهادته بالمخادعة محاولن أن يبطلوها بالطرق
المألوفة فقط وليس بوصايا الناموس.

          وإذن
فليخبرونا، أين يقول الناموس إن شهادة الإنسان لنفسه هي باطلة؟ لأني افترض أن شهادة
الإنسان لنفسه هي أحياناً ضعيفة وغير محتملة، وحقاً يقول كاتب الأمثال الحكيم جداً
: " ليمنحك الغريب لا فمك، الأجنبي لا شفتاك " (أم 2 : 27)، ومع ذلك فإن
ما يقوله أي إنسان عن نفسه ليس بالضرورة كذباً بشكل مطلق. لذلك فليتقدم أي واحد من
الفريسيين وليخبرنا ماذا سنفعل حينما يشهد صموئيل المبارك لنفسه بأمور عظيمة جداً،
لأننا نجده في موضع ما يدافع عن نفسه أمام بني اسرائيل قائلا : " شاهد الرب عليكم
وشاهد مسيحه اليوم. هذا انكم لم تجدوا بيدي شيئاً “ (1صم 5 : 12). ولكن لو كان الناموس
قد مانع أي إنسان من أن يشهد لنفسه (فاخبروني)، كيف يبطل صموئيل الناموس بينما الكتاب
الإلهي يقول عنه : " موسى هو قديس [iii]
وهارون بين كهنته، وصموئيل بين الذين يدعون باسمه، دعوا الرب واستجاب لهم، بعمود السحاب
كان يكلمهم. حفظوا شهادته والفراض التي أعطاهم " (مز 6 : 99، لاس). ألا ترى كيف
كان (صموئيل) مرتبطاً بموسى المغبوط على أنه مساوٍ له في الفضيلة وشهد له بالروح كمدقق
في حفظ الناموس؟ فسيقول واحد : كيف إذن يتعدى الناموس بأن يشهد لنفسه؟ لكنه لا يتعدى
الناموس لأنه شهد له كحافظ للناموس، وهو (صموئيل) يشهد لنفسه. فالناموس إذن لا يمنع
أحداً من الشهادة لنفسه. وبالإضافة إلى ذلك ماذا نقول حينما نرى المبارك داود يقول
: " يارب إلهي إن كنت قد فعلت هذا.. إن كافأت مسالمي شراً.. " (مز 7 : 3،4).
وأيضاً إرميا المبارك يقول : " ايها الرب ضابط الكل، لم أجلس في محفل المازحين
ولكني كنت محترمنا بسبب يدك (قوتك) " (إر 15 : 16 : 17). وبولس الحكيم جداً أيضاً
يقول أنه تربى حسب ناموس الآباء الأدق – كما شهد هو نفسه – فهو يصرح جهاراً "
لست أشعر بشئ في نفسي " (1كو 4 : 4).

          لذلك
فليقل الفريسي أيضاً لكل واحد من هؤلاء " أنت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقا
"، رغم أنه بالنسبة لأولئك الذين لا يستحون أن يلوموا سيد الكل نفسه، فمن السهل
أن يتصرفوا مع الباقين مثل هذا التصرف الردئ جداً. ولكننا نقول هذا مكررين ثانية ما
كنا نقوله : إن مناقضة الفريسيين ليست بالضرورة مبنية على وصايا الناموس، بل هي فقط
ناتجة مما هو سائد في العرف الشائع، ومن العادة التي لا تليق بالناس الطيبين، ومناقضتهم
غير المبنية على الناموس هي بالحري أمر ملوم، وهم يحاولون أن يقتنصوا أولئك الذين أعجبوا
به واقتنعوا أنهم ينبغي أن يؤمنوا، لأنهم يتهمونه بأنه ليس صادقاً ويحطمون الثقة فيما
قاله الآن حالاً : " إنه هو النور " بحق، فهؤلاء التعساء يجلبون هلاك التجديف
على رؤوسهم.

يو
14 : 8 " أجاب يسوع وقال لهم وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من اين
أتيت والى أين أذهب "

          إن
الفريسيين لكونهم غير مبالين بخطورة ما قاله المسيح إنه بالطبيعة وبالحق هو نور العالم
(لأنه أعلن صراحة : أنا هو نور العالم)، لذلك اعتبروا أنه يكذب. لأنهم بحماقتهم البالغة
لم يعرفوا أنه حينما يوضح البعض طبيعتهم الخاصة ويخبروا بما هو أصيل جوهرياً فيهم،
فإن كنا نفكر باستقامة فنحن لن نفترض انهم يفعلون هذا بدافع الإفتخار، ولن نقول انهم
محبون للمجد الباطل، بل بالحري نقول انهم يعلنون ما هم عليه حقيقة، كما نقول مثلاً
حينما يشير ملاك إلى طبيعته الخاصة : " أنا ملاك "، وحينما يبيّن الإنسان
ماهيته ويقول " أنا إنسان ". وأيضاً إن استطاع احد أن يُلبس الشمس صوتاً
لتخبر عن خاصية طبيعتها فتقول " أنا أسرع حول دائرة السماء وأطلق نوراً بهياً
لأولئك الذين على الأرض، عندئذ لن يفترض أحد بصواب أن الشمس كانت تشهد عن نفسه بأشياء
ليست لها بل بما هو لها حقيقة بالطبيعة. بنفس الطريقة (فإني اعتبر) هذا من جهة مخلصنا
المسيح أيضاً، فعندما يقول إنه هو النور فهو يقول الحق، ولن يكون مفتخراً كما لم يكن
الأمر هكذا بالنسبة لما هوخارج عنه، لذلك فالكثيرون الذين يعيشون في عدم معرفة، إذ
لا يفهمون عمانوئيل، يفترضون أنه محب للمجد، ويهاجمونه كأنه واحداً منا، ولا يخشون
أن يقولوا له شهادتك ليست حقا، وهو الذي لا يمكن أن يكذب إذ " لم يوجد في فمه
غش " كما هو مكتوب (1 بط 22 : 2). ولكن كان ينبغي أن يقود بيده أولئك الذين ضلوا
لأنهم سقطوا بعيداً جداً عن الحق وانحرفوا عن الفكر الصحيح، وهو يتأتى عليهم ليعرفهم
انهم ضلوا عن ما هو لائق، إذ انهم بدون أي تقوى، ينسبون له محبة الكذب وهو الذي من
فوق ومولود من الله الآب، لأنه يقول : " شهادتي حق " حتى " وإن كنت
أشهد لنفسي ". فأحياناً نرى في الناس الذين يحبون ذواتهم، أنهم يرغبون في أن ينالوا
لأنفسهم شهادات عظيمة حتى وان لم تكن " بحق " لهم (لأن طبيعتهم ميالة للشر)،
وهويقول : " أما بالنسبة لي فلا يمكن أن أتعرض لنفس أمراض الذين على الأرض لأني
أعلم من أين أنا، نور من نور وإله حق من الآب الإله الحق، إذ أملك الطبيعة التي لا
تقبل الضعف ".

          ورغم
أنه يقول، أنا صوت إنساناً بسبب محبتي للبشر، إلا أنه ليس لهذا السبب سوف أعتبر بدون
كرامة إلهية، ولكني أظل على ما أنا عليه حسب الطبيعة، أي إلهاً. والبرهان الواضح على
هذ1ا هو أني أعرف إلى أين أذهب، لأني سوف أصعد إلى السموات، إلى الآب الذي أنا منه.
هذا ما افترض أن يقوله أي واحد، ليس من جهة انسان مثلنا، بل من جهة من هو الله بالطبيعة.
رغم أنه صار إنساناً. إذن فعبارة "أعرف من أين أنا " توضح أن الإبن هو بالطبيعة
من الآب وعبارة " إلى اين أذهب " توضح السلطان الإلهي [لأنه سوف يصعد بسبب
ألوهيته، " فوق السموات "، كما يقول بولس (أنظر إف 10 : 4)]، وقوله هذا فيه
تهديد ملائم – ولو كان غير واضح تماماً – ضد كفر اليهود. وهو هنا يقول بوضوح أنه سوف
يغادر جنسهم تماماً وبصورة تامة. واذ يتركهم مقفرين من النور الإلهي. فانهم سيصيرون
في جهل وظلمة عميقة كما يظهرهم كذلك في موضع آخر بوضوح أكثر إذ يقول : " مادام
لكم النور سيروا في النور لئلا يدرككم الظلام " (يو 35 : 12).

يو
15 : 8 " أنتم حسب الجسد تدينون، أما أنا فلست أدين أحداً "

          ومرة
أخرى سوف نجد رب الكل يستعمل اللطف الجدير بالإعجاب، فإنه لا يرد على أولئك الذين يجدفون
عليه بغضب مساوٍ لغضبهم رغم أنه يعرف انهم ينبغي أن يخضعوا لعقاب مُر : ولكنه إذ يماثل
أكثر الأطباء لطفاً فإنه في هذ1ا أيضاً سيكون موضع إجابنا بحق. لأن الأطباء كثيراً،
دون أن يذكروا للمرضى سبب ضعفاتهم، يحتملونهم بصبر كثير ويستخدمون مهارتهم لمساعدتهم
فيشفونهم مما يسبب لهم الألم وما يشكون منه أحياناً، ويشرحون لهم ما هو لمنفعة الصحة
ويقنعونهم أن يجتهدوا فيما هو لخيرهم ويعرفونهم سبب مرضهم. والرب يسوع المسيح يحتمل
أولئك الذين يجدفون عليه ويشتمونه، ويصنع بهم خيراً، وهو يضمد جروح الذين يهينونه،
وهو بوضوح تام يذكر لهم أسباب عدم ايمانهم به، ومن اين أصابهم المرض، لأنه يقول :
" أنتم حسب الجسد تدينون، وبالضرورة انتم تضلون بسبب أنكم تنظرون إلى هذا الجسد
وحده، رغم انكم ينبغي بالحري أن تلتفتوا إلى عظمة الأعمال، وانتم تظنون أني واحد مثلكم
بسبب أنني ألبس جسدكم، ولهذا فقد انخدعتم بشدة ولم تتأملوا السر العميق الذي للتدبير
بالجسد، فانتم تحكمون حكماً طائشاً ضدي قائلين : إن الحق بكذب، ولكني سوف أؤجل إدانتكم
إلى وقت آخر، لأنه " لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم
“ (يو 17 : 3).

          ولذلك
فإني أظن أن المسألة التي أمامنا قد حُلت بغير حل. ولكن يمكننا عن طريق بعض الأفكار
الأخرى أيضاً أن نجعل المعنى واضحاً بقدر ما نستطيع (وهو يقول) " أنتم لا تجدون
خطأ بالمرة ولا تستطيعون أن تلوموا أعمالي العجيبة لسبب معقول، ولهذا فأنتم تقللون
من قيمتها بسبب الجسد فقط. وبسبب أنكم ترونني إنساناً مثلكم، فأنتم بسبب عدم تقولكم
تعتبرونني كلا شئ. ولكنني لا أدينكم لأجل هذا السبب فأنا لا أعتبركم كأنكم لا شئ لكونكم
بشراً بالطبيعة ولابسبب هذا (كونكم بشراً) ستعطون جواباً للديّان. أنا لا أحتقر الطبيعة،
ولا أدين خليقتي، ولا أقول إنه يوجد خطأ في الإنسان لمجرد كونه إنساناً. ومع هذا فأنتم
بسبب الجسد تعتبرونني كلا شئ، ولأجل هذا تدينونني. أما أنا فلم أعتبركم هكذا. ولكن
لأني أعرف أن الإنسان هو شئ عظيم ومكرّم على الرغم من أنه مخلوق من التراب – فرغم أني
أن هو الإله الحقيقي الذي في صورة الآب الذي ولدني، فإني وضعت نفسي آخذاً صورة عبد
وصرت إنساناً. ومن جهة هذا وحده أنتم الآن تدينونني رغم أنني لا أدين أحداً بسبب هذا."

يو
16 : 8 " وإن كنت أنا أدين فدينونتي حق (وعدل). لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي
أرسلني "

          فربنا
يقول واحد من أولئك الذين يفكرون ضد تعاليم الكنيسة : " إذن هل الإبن يعرف كيف
يدين باستقامة لهذا السبب وحده أي لأن الآب معه حين يفعل هذا؟ فإن كان الأمر هكذا فما
الذي يمنع من القول إن الإبن هو بطريقة ما مُوجه عن طريق مشيئة الآب نحو الدينونة باستقامة،
وهو لا يملك هذا بشكل كامل ولا يستطيع من نفسه أن يعمل عملاً لا يستوجب اللوم؟."

          فبماذا
إذن نرد نحن على كلماتهم؟ أيها السادة، إن فكرتكم تتعارض مع التقوى، تتلاءم تماماً
مع الحماقة اليهودية وحدها، لأن الإبن لا يتكلم هكذا كما لو كان لا يملك القوة من نفسه
أن يدين باستقامة، لأن المرنم يشهد له بالروح قائلاً : " الله قاضٍ عادل
" (مز 12 : 27). وهو نفسه يشهد أنه لا يوجد قاضٍ سواه. إذ يقول في البشائر :
"لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للإبن " (يو 22 : 5). فكيف
إذن أعطى الله الآب الدينونة لمن لا يعرف أن يدين باستقامة؟ ولكني افترض أن أي واحد
يرى أن الإبن الذي هو عدل الآب، لا يعرف أن يدين باستقامة، يكون في غاية الجنون. لأن
الآب يعرف وليده الخاص وأعطاه الدينونة، وبإعطائه إياها فإنه يشهد بوضوح لقدرته على
أن يدين باستقامة. وإذن فمن الواضح جداً أنه ليس بسبب عجزه عن أن يدين باستقامة، يقول
إن الآب يدين معه، ولكن كلامه له علاقة بما يسبقه وبما يليه.

          وسوف
نقول بوضوح ماذا يريد هو أن يبين. (فهو يقول)، أنتم يا من هم قادة اليهود ومعلميهم،
تحكمون عليّ حكماً شريراً وفي غاية الظلم، لأنكم بسبب الجسد [iv]
فقط تظنون أنكم ينبغي أن تنظروا اليّ كأني لا شئ رغم أنني بالطبيعة، أنا هو الله. أما
أنا فحينما أبدأ أن أدينكم، فإني أن أضع مثل هذا الحكم ضدكم. فليس بسبب أنكم بشر بالطبيعة
سوف افترض أنه من المناسب أن أدينكم،بل بالأحرى، فإني أدينكم باستقامة لأن ليّ الآب
يريد معي ويدين معي في كل الأشياء. ولكن لماذا (أدينكم)؟ لآنكم لم تقبلوا الآتي من
السماء. وانتم لم تكفوا عن إهانة ذلك الذي أُرسل اليكم من الآب، أنتم ازدريتم بي أنا
الذي أتيت لأجل خلاص الجميع. وبسبب الجسد فقط ترفضون الناموس الذي كان دائماً عزيزاً
لديكم. إذن فأخبروني أين يأمركم موسى أن تحكموا على أي واحد بسبب كونه إنساناً بالطبيعة؟
لذلك فانتم تدينون وتنظرون بغير عدل. لأنكم في هذا لا تتوافقون مع الناموس بل انتم
في أنفسكم تتجاسرون بشدة دون أن يكون لكم رضا المشيئة الإلهية. اما أنا فلست هكذا،
إذ أن لي الآب فيّ كمشارك ومريد معي في كل الأشياء التي تختص بكم، فإني أحكم بغاية
العدل بتسليم بلادكم كلها للخراب ودفنها في ويلات الحرب، وأن يُطرد من ملكوت السماوات
أولئك الذين ثاروا ضد من أراد أن يخلصهم والذي لأجل هذا السبب جاء في هيئة إنسان.

يو
17 : 8 " وأيضاً في ناموسكم مكتوب إن شهادة رجلين حق ".

يو
18 : 8 " أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الآب الذي أرسلني ".

          وبعد
أن قال إن الله يحكم ويدين معه أولئك الذين يجدفون عليه، فإنه يأخذ الشخصين معاً (أي
يأخذ الآب شاهداً معه) ليتحدث عن أمر آخر نافع. لأنه إذ يقول (المسيح)، لأني لا أرفض
أن أخبركم ما هي طبيعتي، لأني " أنا هو نور العالم " (يو 12 : 8). وأنا لا
أبدو مطلقاً أني محب للإفتخار، لأني لا أمجد خصائص غريبة عني بل ما هو لي جوهرياً،
ولكن إن كنت بقولي هذا أبدو لكم أني لست جديراً بنوال موافقتكم على الحق – بسبب أني
وحدي وقد شهدت لنفسي – فإني سأتخذ الله الآب لنفسي عاملاً وشاهداً معي لما لي من امتيازات.
لأنه (الآب) يشترك معي في صنع العجائب كما ترون، ويعمل معي. لأنه لو كان الأمر يختص
بالطبيعة البشرية لما كنت قد فعلت شيئاً. وفيما يختص بكينونتي التي من الآب فأنا هو
الله بالطبيعة، وإذ ليّ الآب في نفسي فإني أعترف أني استطيع أن أنجز كل الأشياء، وتشهد
لي طبيعة ذلك الذي ولدني ولأنه فيّ بموجب وحدة الجوهر، فإني أنجز كل الأشياء بلا عائق.

          إن
ربنا يسوع المسيح له بطبيعته الإلهية، القوة الخالقة للكل لأنه هو الله رغم أنه صار
إنساناً، وقد شهد له الآب – إذ هو عامل معه في كل الأشياء – كما يقول هو نفسه
" لست أعمل شيئاً من نفسي. بل الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال " (أنظر يو
10 : 14). ولكننا نعتبر أن الآب يعمل مع الإبن، لا كمن يقدم قوة أخرى خاصة به لمن تنقصه
قوة لأجل إنجاز الأعمال المعمولة. لأننا إن كنا نفكر هكذا، فنحن سنصل إلى أن قوة الآب
وقوة الإبن كتليهما ناقصتين بالتأكيد عن إتمام أية معجزة تجرى بواسطتهما معاً، كما
لو أن واحداً منهما فقط لا يكفي لهذا العمل. ولكننا إذ نفهم هذه الكلمات ونأخذها بطريقة
أكثر تقوى فسوف نقول إنه حيث إنه توجد ألوهة واحدة في الآب والإبن ولهما السلطان والقوة
من نفس الطبيعة وبلا اختلاف، إذن بأعمال الإبن ستكون بالتأكيد هي أعمال الله الآب،
أيضاً أعمال الله الآب هي أعمال الإبن.

          ولكنه
يقول " لست أعمل شيئاً من نفسي "، لا كأنه خادم أو مساعد في العمل، ولا كمن
هو في وضع من يتتلمذ وينتظر أن يأمره الآب، أو كمن يتدرب لكي يتمم العجائب : بل بالحري
هو يعني بكل دقة، أنه إذ قد نبع من جوهر الله الآب ومثل نور شع بلا بداية من عمق أعماق
حضنه بطريقة تفوق التعبير وهو كائن معه أزلياً، ويُدرك على أنه صورة ورسم أقنومه (جوهره)
[v] فله نفس الفكر
الذي للآب ونفس الطاقة على عمل كل شئ. ولكي يعلم بوضوح أنه مشترك مع ذلك الذي ولده
في الإرادة من جهة كل الأشياء، لذلك يقول " لست أعمل شيئاً من نفسي ". وكأنه
يقول أنا ليست لي إرادة خاصة بي غير موجودة في الله الآب. فمهما أرادت طبيعة الآب وحكمت
فهذا نفسه هو بالتأكيد فيّ أنا أيضاً، حيث إني أشرقت من حضنه، وأنا ثمرة جوهره الحقيقية.

          إذن،
فهذه الأمور يصعب تقسيرها، وما لا يمكن أن يدركه الفهم، يصعب التعبير عنه باللسان
: ومع ذلك إذ نأتي بمثل هذه الأمور بقدر ما يمكن أن نضعها أمام أعين الأتقياء، فإننا
سنربح لأنفسنا مجازاة سماوية، وهكذا نحتفظ بذهننا غير مجروح وغير متحرك بتقلبات جانبية
أخرى.

          ولكننا
ينبغي أن نلاحظ أن المخلص إذ يضيف صارخاً لليهود، " وفي ناموسكم مكتوب
"، فإنه يحث الفريسيين بالضرورة أن يعترفوا بشخصين [vi].
(لأنه يقول)، " أنا هو الشاهد لنفسي والآب أيضاً يشهد معي "، فهل يكون الشاهدان
اللذان يؤكدهما كتاب الناموس المكتوب بالروح مقبولين عندكم، أم أنكم مرة أخرى ستنظرون
إلى فقط بحسد، ولا تحفظون حتى الناموس الذي تفتخرون به؟

يو
19 : 8 " فقالوا له : أين هو أبوك "؟

          وفي
هذا أيضاً يمكن للمرء كما أظن أن يصرخ ضد غباء اليهود وينطق بكلمة النبي، " أيها
الشعب الغبي الذي لا قلب له " (إر 21 : 5 س). لأنه بعد أحاديث طويلة وكثيرة أجراها
معهم مخلصنا المسيح، وهو يذكر مرة تلو مرة اسم الله الآب الذي في السماء، فإن هؤلاء
التعساء يسقطون في حماقة عظيمة حتى انهم يتجاسرون أن يقولوا "أين هو أبوك
" لأنهم لا يفكرون ابدا في ذلك الذي هو الله والآب في السماء بل ينظرون حولهم
ويبحثون عن يوسف ظانين أنه أبو المسيح وليس غيره. فأنت تنظر إذن كيف انهم قد دعوا بحق
شعباً غبياً ولا قلب له، لأنهم لم يستطيعوا أن يرفعوا عين ذهنهم أعلا من الأمور الأرضية،
فبذلك يظهرون أن ما قيل عنهم هو حقيقي : " لتظلم عيونكم لكي لا يروا ولتحن ظهورهم
دائماً " (مز 23 : 68 س). لأن المخلوقات غير العاقلة ظهرها منحنٍ، إذ أن لها هذا
الشكل من الطبيعة ولا تقف باستقامة. وذهن اليهود قد صار بطريقة ما مثل الوحوش، وقد
انحنى دائماً إلى أسفل فلا يرى أبداً شيئاً من الأمور السماوية. ألسنا في الواقع إذ
قد تعلمنا هذا الأمر بطريقة سليمة، نفكر ونحكم بالصدق من جهتهم، لأنهم لو كانوا قد
فكروا في اللله الآب الذي في السماوات، فكيف يبحثون عن من لا جسد له في أي مكان؟ فاخبرني
كيف وهم يسألون بدون أي تعقل عن الله الذي يملأ كل الأشياء ويقولون " أين هو
"، ألا يحاربون بذلك الكتاب الإلهي كله؟ بينما المرنم الناطق بالوحي افلهي، يتكلم
عن الله ناسياً إليه قوة ملء كل الأشياء قائلا : : أين أذهب من روحك ومن وجهك أين اهرب؟
إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك، وإن نزلت إلى الهاوية فها أنت، إن أخذت جناحي الصبح
وذهبت إلى أقصى البحر فهناك أيضاً تهديني يدك وتمسكني يمينك " (مز 7 : 139 –
10).

          ومع
ذلك فإن الله نفسه الذي هو فوق الكل، إذ يظهر بوضوح أن طبيعته غير منحصرة في مكان،
يقول هكذا لولئك اليهود عديمي التقوى : " ألا أملأ أنا السماء والأرض يقول الرب
" (إز 24 : 23)، " وأي بيت تبنون لي، وأي هو مكان راحتي، السماء كرسي لي
والأرض موطئ قدمي " (أع 49 : 7).

          لذلك
يمكن للمرء أن يرى أن اليهود هم غير فاهمين من كل ناحية حينما يقولون للمخلص المسيح
" اين هو أبوك ". إلاّ إذا قالوا مثل هذا عن ذاك الذي يظنون أنه أبوه حسب
الجسد، وفي هذا يحمقون جداً.

          ولكن
ربما تُلمح كلمات اليهود إلى معنى آخر عميق، فحيث انهم ظنوا أن العذراء القديسة قد
ارتكبت زنا قبل الزواج، لذلك فهم يتكلمون ضد المسيح بمرارة غير عارفين حتى من أين هو،
وقائلين : " أين هو أبوك ".

يو 19
: 8 " أجاب يسوع، لستم تعرفونني أنا ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم ابي أيضاً
".

          صادقة
هي الكلمة ولا يمكن بأي حال أن تُتهم بالكذب. لأن أولئك الذين يظنون انالمسيح جاء من
يوسف أو زنا ولا يعرفون أن الكلمة شعّ من الله الآب، كيف لا يسمعون بصواب : "
لستم تعرفونني أنا ولا أبي؟ " لأنهم لو كانوا عرفوا الكلمة الذي شعّ من الله الآب
والذي صار جسداً لأجلنا بحسب الكتاب الإلهي لكانوا قد عرفوا أيضاً ذاك الذي ولده. لأن
المعرفة الدقيقة جداً للأب تتوالد من خلال الإبن في ذهن المحبين للتعلّم، كما أكد هو
أيضاً قائلاً لله الآب : " أنا أظهرت اسمك للناس " (يو 6 : 17)، وأيضاً
" معرفتك صارت عجيبة من خلالي " (مز 6 : 139 س)، لأنه حيث إننا نعرف الإبن،
فإننا بواسطته نعرف ذاك الذي ودله، لأنه من خلال كل واحد منهما نصل إلى إراك الآخر
: حفينما يُذكر الأب يأتي ذكر وليده بالتأكيد معه، وأيضاً مع معنى لفظ افبن يأتس اسم
ذاك الذي ولده. ولذلك فالإبن هو باب وطريق يقود إلى معرفة الآب. وهكذا يقول هو :
" ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي " (يو 6 : 14). لأننا نحتاج أولاً أن نتعلم
بقدر الإمكان ماذا يكون الإبن بالطبيعة، وهكذا فمن الصورة والرسم الدقيق جداً ندرك
الأصل جيداً. لأن الآب يرى في الابن، وهو يظهر بصورة كاملة في طبيعة وليده الذاتي،
كما في مرآة. ولكن إن كان هذا صحيحاً، وهو فعلاً صحيح – فليخجل الأريوسي محارب الله.
لأنه يلزم لرسم جوهره [vii]
أن يكون مماثلاً له من كل جهة وبكل طريقة، لئلا يفترض أن شيئاً آخر مغايراً لما يكونه
الآب (أي مغاير لجوهر الآب)، يشع في الإبن بصورة كاملة.

          وإن
كان يجب أن يكون الآب معروفاً في الإبن وأن يظهر من خلاله، فإن افترض أن الآب يعرف
بالتأكيد أن الإبن هو من نفس الجوهر معه أيضاً، وأنه لا يقل في شئ عن مجده الطبيعي
الذاتي. لأنه لا يمكن أن يكون الآب قد أراد أن يُعتقد في الإبن أنه في حالة أقل من
حالة الآب، بالطبيعة.

          وحيث
إنه يحب هذا الأمر وقد أراده، فكيف لا يلزم بالضرورة الآن أن نعترف أن الإبن هو مثل
الآب من كل جهة، لكي بواسطته نعرف أيضاً ذاك الذي ولده كما قد قلنا قبلاً، صاعدين من
الصورة إلى الأصل، ويصير ممكناً لنا أيضاً أن ندرك الثالوث القدوس إدراكاص صحيحاً وبلا
لوم.

          إذاً
فذلك الذي يعرف الإبن يعرب الآب أيضاً. ولكن لاحظ كيف أن الرب بعد أن قال الحق لليهود
ينسج في حديثه طريقة أخرى مغايرة أيضاً، لأنه بعد أن قال بوضوح : " لم تعرفوني
لا أنا ولا أبي "، فإنه ينبه ذهن اليهود بلطف أنهم لا ينبغي أن يفكروا فيه إنسانياً
فقط ولا أن يفترضوا أنه إبن حقيقي ليوسف، فهو قد صار في هذا الوضع بالتدبير، بل ينبغي
بالحري أن يبحثوا ويفتشوا عن من هو الكلمة المتجسد ومن هو أبوه بالطبيعة.

 

الفصل
الثالث

عن
" أن آلام المسيح على الصليب لم تكن من عمل قوة اليهود،

ولا
موت المسيح كان نتيجة طغيان أي أحد،

بل
هو نفسه بإرادته الذاتية تالم بهذا لألجنا لكي يخلص الجميع"

يو
20 : 8 " هذا الكلام قاله يسوع في الخزانة وهو يُعلم في الهيكل ولم يمكسه أحد
لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد ".

          يدافع
البشير الحكيم جداً بطريقة نافعة عن الآلام الخلاصية ويبين أن الموت على الصليب لم
يكن نتيجة إلزام بشري، ولم يعان المسيح الموت نتيجة طغيان (شخص) آخر ضد إرادته، بل
بالحري قد قدّم نفسه لأجلنا ذبيحة بلا لوم لله الآب بدافع حبه الأصيل. فحيث إنه كان
ينبغي أن يتألم (لكي يبطل ما دخل من فساد وخطية وموت)، فقد أعطى نفسه فدية عن حياة
الجميع. وما نجده في الكلمات التي أمامنا من جهة الآلام الخلاصية، ومن هدف الأفكار
التي تتمخض بها هذه الكلمات، فلتسمعه مرة أخرى. إذ يقول : إن المسيح كان يتكلم بهذه
الكلمات ليس خارج أورشليم ولا في أية مدينة من المدن المحيطة، ولا في أية بلدة أو قرية
مجهولة في اليهدوية، إذ أنه كان يقف في الخزانة، أي في وسط الهيكل نفسه كان يقدم حديثه
عن هذه الأمور. ولكن الفريسيين رغم انهم نخسوا في قلوبهم بشدة وتضايقوا جداً مما قاله
عليهم، إلا أنهم لم يلقوا عليه الأيادي، بينما كانوا يستطيعون أن يفعلوا هذا بكل سهولة،
لأنه كما قلت كان داخل شراكهم. فما الذي جعل أولئك الذين كانوا ثائرين مثل وحوش مفترسة،
يصيرون هادئين رغم إرادتهم؟ وما الذي أوقف غضبهم؟ وكيف هدأ قلب الفريسيين المتعطش للدماء.

          يقول
(النص)، " لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد " أي لم يكن وقت موته قد جاء، ولا
تحدد بواسطة شخص آخر معادي للمسيح المخلص، ولا بعامل القدر – كما تقول أساطير الإغريق
الكاذبة، ولا بمجئ الساعة بحسب ثرثرتهم، بل بالحري هو الذي حدد الوقت بحسب مسرة الله
الآب الصالحة. ولكونه هو الله بالطبيعة وبالحق ولا يمكن أن يُخطئ من جهة ما يجب أن
يكون، فقد عرف تماماً كم من الوقت ينبغي أن يحيا في الجسد مع أولئك الذين على الأرض،
ومتى يرحل مرة أخرى إلى السماء، بعد أن يكون قد حطم الموت بواسطة موت جسده الخاص. وأني
أفترض أنه واضح لذوي الحكمة أن الموت لم يأت علىذاك الذي هو بالطبيعة الحياة بواسطة
طغيان أي أحد، لأنه كيف تسود رباطات الموت على الذي هو الحياة بالطبيعة؟ والرب نفسه
يشهد في موضع ما قائلاً : " ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان
أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً " (يو 18 : 10). لأنه إن كانا لوقت الذي ينبغي
أن يموت فيه قد حدد إجبارياً بواسطة شخص آخر، فكيف يكون له السلطان الخاص أن يضع حياته؟
فلو أن آلامه لم تكن بسلطاته الخاص، فإن حياته تكون قد أخذت منه ضد إرادته. ولكن إن
كاني ضع حياته من نفسه فستكون الآلام ليست في سلطان أي أحد آخر بل بإرادته الخاصة.
لذلك إذن سمح للحماقة اليهودية أن تمضي حتى غايتها الخاصة، حينما رأى أن الوقت الملائم
لموته قد أتى.

          إذن،
فلا يفتخرن الفريس المتبكر بأعماله الجسورة، ولا ينتفخ بمشورته الرديئة جداً قائلا
: لو كان المسيح هوالله بالطبيعة فلماذا لم يكن خارجاً عن شراكي، وكيف لم يهرب بين
يدي؟ لأنه سوف يسمع الجواب من أولئك الذين يحبون الرب قائلين هكذا : ليست شراكك أيها
(الفريسي) هي التي انتصرت، لأنه لم يكن عسيراً على الله المرتفع فوق الكل أن يسحق فخافك
ويخرج من شبكة كفرك : ولكن الآلم هي خلاص العالم. والآلام هي إبطال الموت. والصليب
المقتدر هو الذي طرح الخطيئة والفساد. ولأنه كإله عرف هذا، فإنه أخضع نفسه لجسارتك
الشريرة. فاخبرني ما الذي أعاقك عن أن تطوقه حينئذ، وبالأخص حينما كنت تصر بأسناك عليه،
بينما كان هو يعلم في الخزانة؟ ولو كان الأمر متوقفاً على قدرتك بأن تتغلب على المسيح،
فلماذا لم تقيده حينئذ؟ ولكنك وقفت في حالة غضب شديد راغباً في سفك دم بشكل مكشوف،
ومع ذلك لم تفعل شيئاً من الأمور التي كنت تريدها. لأنه لم يرد بعد أن يتألم، وأنت
كنت تستحثه بحماقتك المجنونة وكأنها فكا كماشة لا يطبقان أبداً. هذه الأمور يمكن للمرء
أن يواجه بها كلام اليهود الباطل ويخجلهم حتى ضد ارادتهم لكي لا يتفاخروا بما لا ينبقي.
ويمكن للمرء أن يعجب كثيرا بالبشير القديس الذي يظهر بشكل معقول ويقول بوضوح أن المخلص
" كان يعلم بهذه الأمور في الخزانة في الهيكل ولم يمسكه أجد " : لأنه كما
لو كان يشهد لكلمات المسيح نفسها، حينما قال لليهود عندما كانوا يقبضون عليه :
" كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصى لتأخذوني. كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل
ولم تمسكوني " (مت 55 : 26). وأن كان المرء يفكر بفطنه أعلم في الهيكل ولم تمسكوني
" (مت 55 : 26). وإن كان المرء يفكر بفطنه، لما افترض أن المخلص كان يلوم اليهود
على أنهم لم يأتوا بآلامه قبل وقتها، ولم يجعلوا الوقت المناسب يفلت، وانهم كانوا يتقدمون
ببطء شديد لسفك الدم : بل بالحري كان يوبخهم لأنهم – بدون حكمة – افترضوا انهم ينبغي
أن يتغلبوا عليه ضد ارادته، وأنهم يستطيعون أن يمسكوا بالقوة، ذاك الذي لا يمكن أن
يتألم إلا بإرادته. لأن قوله : " كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني
"، لأني لم أكن أريد حينئذ، ولا تستطيعون أن تفعلوا هذا الآن إلا إذا سلمت نفسي
بارادتي إلى أيديكم. ومن هنا فيمكن للمرء أن يرى من كل ناحية، أنه لم يكن في قدرة اليهود
أن يميتوا الرب،ولكن يمكن أن ننسب المحاولة لجسارتهم الدنسة. أما مخلصنا المسيح فله
الإرادة أن يتالم لأجل الجميع لكي يحرر الكل. وإذ يشتريهم بدمه، يقدمهم لله الآب، لأن
" الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه " كما يقول بولس (2 كو 19 : 5)،
ويغفران الخطية يعيد ذلك الذي سقط عن الصداقة معه، إلى ما كان عليه في البداية.

يو
21 : 8 " قال لهم يسوع أيضاً أنا أمضي وستطلبونني وتموتون في خطبتكم ".

          ينبغي
أن نمسك بالوقت الحاضر بقدر ما يمكن للمرء أن ينال منه منفعة لنفسه، هذا ما يعلنه لنا
المسيح حسناً هنا. لأن التباطؤ فيما هو صالح والتأخر في اتخاذ المشورة لأجل ما هو نافع،
واضح أنه لا يأتي بأي ربح بل يؤدي إلى الويل الذي يناسب المهملين. لذلك فربما إذ هو
" صالح ورحيم " كما هو مكتوب (مز 5 : 86)، يحتمل أولئك الذين يزدرون به ويساعد
أولئك الذي يشتمونه، ويوجد كإله مرتفع فوق كل تهافت الإنسان. ومع ذلك فهو لأجل خيرهم
ينذرهم أنه سيرحل عنهم ويقول بوضوح " أن أمضي "، وذلك لكي يغرس فيهم عزماً
وحيداً. ومن أجل أن يفكروا أنهم ينبغي أن لا يدعوا عمل فاديهم الحاضر يتعطل، فإنه يحركهم
فيتجهوا للإيمان، ويجعلهم الآن أكثر استعداداً للطاعة. واذ صاح " أنا أمضي
" وأنذرهم بالرحيل من الأمة كلها، فإنه تحدث أيضاً تدبيرياً عن الهلاك الذي سيصيبهم
نتيجة لذلك، لأنه يقول " وتموتون في خطيتكم "، وسوف نرى طبيعة ما سوف يحدث
لهم تحقيقا لما قاله. لأن أولئك الذين لم يقبلوا بالمرة ذلك الذي أتى الينا من السماء
لكي يبرر الجميع بالإيمان، كيف لا يموتون في خطاياهم، دون أن يكون في الأمر أي مناقضة،
ولأنهم لم يقبلوا ذلك الذي يستطيع أن يطهرهم، كيف لا تكون لهم نجاسة دائمة بسبب عدم
تقواهم؟ لأنه إن كان الإنسان يموت غير مفدى ومثقلاً بالخطية فمن الذي يشك إلى أين سيقود
هذا نفس الإنسان. لأني أظن أن الهاوية العميقة سوف تستقبل مثل هذا الإنسان، وسوف يستمر
في ظلمة طويلة، وسوف يسكن في النار واللهب، وبعدل يُحسب لاتطفا وسيكونوا منظراً لكل
بشر " (إش 24 : 66 س). ولكي يجعلهم يهربون من الدينونة، فإن المسيح ظل يدعوهم
بطرق كثيرة إلى تحول سريع عن عدم إيمانهم المعتاد قائلا : إنه ليس فقط سيتركهم ويمضي،
بل أيضاً بالضرورة يضع أمامهم الشر العظيم الذي سوف يتعرضون له بسبب ذلك لأنه يقول
" : "ستموتون في خطاياكم ". ولكن حيث إنه وضع بين (العبارتين) قوله
" وستطلبونني ". وحتى الآن نحن لا نجد أن اليهود يطلبونه، لذلك فمن المعقول
أن نتجه إلى معنى آخر، لأنه يجب أن يكون صادقاً. رغم انهم الآن في الجسد ولهم تمتع
تام بملذات الجسد، وبسبب لادتهم لا يبحثون عن فاديهم. فإنه حينما يسقط التعساء في جهنم
ويسكنون في موضع العقوبات، وحينما يكونون في الشر نفسه، حينئذ سوف يطلبونه وحتى ضد
إرادتهم، لأنه يقول : " هناك البكاء وصرير الأسنان " (مت 12 : 8). ومن المحتمل
أن كل واحد من أولئك الذين هناك سوف يولول على إهماله للصالحات، ويكون قريباً مما جاء
في كتاب الأمثال : " لم أسمع لصوت مرشدي ومعلمي " (أنظر إم 13 : 5). لذلك
كما يقول بولس : " فلنخف أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يُرى أحذ منكم أنه
قد خاب منه (من الموعد) " (عب 1 : 4). لأننا يجب أن "نركض لكي ما تنال
" (1كو 24 : 9). ولا نهين بعدم إيماننا ذلك الذي ينتشلنا من العبودية المرة. بل
نخضع ذواتنا، وبأيد مرفوعة نغتصب النعمة.

يو
22 : 8 " وحيث أمضى لا تقدرون انتم أن تأتوا "

          وهو
لا يقول فقط انهم سيموتون في خطاياهم بل يعلن في وضوح انهم أن يصعدوا إلى المنازل التي
فوق، بل سيظلون خارجاً عن خيرات الملكوت. لأن أولئك الذين لم يقبلوا الذي أتى من فوق
كيف يستطيعون أن يتبعوا ذلك الذي يصعد إلى فوق؟ فإن عقوبة الذين لا يؤمنون هي مضاعفة
وخسارتهم ليست قليلة، لأنه كما أن الذين قد سقطوا في المرض الجسدي يعانون بالضرورة
ويحتملون آلام ومعاناة ويُحرمون من مباهج الصحة، هكذا فإن الذين قد مضوا إلى الهاوية،
وهناك يتعرضون لعقاب مساوٍ لخطاياهم، فانهم يحتملون حالة العقاب ويفقدون متعة رجاء
القديسين. إذن فإن ربنا يسوع المسيح – بشكل ممتاز جداً – لا يقول فقط انهم سيموتون
في خطاياهم بل أيضاً انهم لن يصعدوا إلى المنازل العلوية. لأنه إذ يربطهم كما بحبل
مزدوج فهو يسرع لكي يجتذبهم بعيدا عن مشورتهم الشريرة المتأصلة فيهم. وهو من كل ناحية
يخلص ما كان هالكاً، ويضمد المكسور، وينهض ما كان ساقطاً (لأن هذه هي وسائل الراعي
الصالح الذي يبذل نفسه لأجل خلاص الخراف)، وهو يخبر تلاميذه قائلا : " أنا أمضي
لأعد لكم مكاناً وسأتي أيضاً وأخذكم معي "، وبذلك يبين أن السماء نفسها تكون متيسرة
للقديسين، ويعلم أن المنازل التي فوق قد أعدت اللذين يحبونه، أما الذين اختاروا عدم
الإيمان به، فهو يقول لهم عن حق وبالضرورة : " حيث أمضى لا تقدرون انتم أن تأتوا
". لأن من هو الذي يمكنه أن يتبع المسيح الكلي القداسة، إن لم يكن قد أحب التطهير
الذي بالإيمان؟ أو كيف يكون من لا يزال نجساً، ولم يغتسل من قذارة شهوته، في شركة مع
ربنا الذي يحبنا؟ " فأي شركة للنور مع الظلمة " (كما يقول بولس (2 كو 14
: 6)، لأني أعتبر من يقولون للإله الكلي النقاوة " نفسي التصقت بك " (مز
6 : 62 س)،، ينبغي أن يكونوا قديسين.

          وأظن
أن هذا المعنى ليس خطأ في شرح كلمات هذه الآية التي أمامنا. ولكن إن اتجه أحد إلى راي
مختلف وقال شيئاً آخر بالإضافة إلى ذلك فنحن لن نتأخر عن أن نفعل هذا أيضاً. (وهو يقول)
" حيث أذهب أنا لا تقدرون أن تأتوا ". ولكوني إله حقيقي فانا لست غائباً
عن أي أحد، وأنا أملأ كل الأشياء. ولكوني مع الجميع فاني أسكن على الأخص في السماء،
جاعلاً سكناي بفرحٍ مع الأرواح المقدسة. وحيث إن صانع الكل محب البشر، فإني اعتبرت
ضياع خليقتي أمراً لا يُحتمل، وقد رأيت الإنسان ذاهباً إلى الدمار الكامل، رأيته يسقط
من الخطية إلى الموت، وكان يجب أن أمد له يد المعونة حيث يوجد، وينبغي بكل طريقة أن
أساعده لينتصر ويقوم من السقوط. فكيف يتحقق إذن خلاص ذلك الذي كان هالكاً؟ كان الأمر
يحتاج أن يكون الطبيب مع أولئك الذين في الخطر، كان يلزم أن تكون الحياة حاضرة مع المائتين.
كان ينبغي أن النور يسكن مع الذين في الظلمة. ولكن لم يكن ممكناً لكم لكونكم بشراً
بالطبيعة أن تصيروا إلى السماء وتسكنوا مع المخلص. لذلك فقد أتيت أنا نفسي إليكم، وقد
سمعت القديسين يصرخون كثيراً : " طاطئ سمواتك يارب وأنزل " (مز 6 : 143 س)،
لذلك طأطأت السموات ونزلت، لأنه ليس هناك طريق آخر تستطيعون به أن تتطلعوا للمجئ إلى
هناك. وإني أقبل أن أبقى معكم إن كنتم تقررون أن تمسكوا بالحياة وتطهروا أنفسكم بالإيمان،
في الوقت الذي يكون معكم ذلك الذي يعرف أن يترائف بل ويستطيع أن يتراءف بسلطان لأني
بكل تألكيد سأمضي، نعم، سأعود ثانية إلى حيث لا تستطيعون انتم أن تأتوا، ولأنكم تطلبون
معطى الخلاص في غير الوقت المناسب، لذلك فلن تجدوه : وسترون ما بعد ذلك.

          "
لأنكم ستموتون في خطاياكم "، وإذ تكونون مثقلين بتعدياتكم فستمضون باكين إلى سجن
الموت، لكي توفوا عقوبة عدم ايمانكم الممتد. فالمخلص لكونه صالحاً ومحباً للبشر جداً،
فهو يضغط على اليهود بالخوف من العقوبة الآتية، لكي يخلصوا ولو ضد إرادتهم.

يو 22
: 8 " وقال لهم، أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق "

          وربما
يسأل واحد من ذوي الأذهان المُحبة للدراسة، والذين يريدون أن يمتدحوا الأفكار الإلهية
الدقيقة جداً، ربما يسأل ما الذي جعل ربنا يسوع المسيح الذي كان يخاطب اليهود الآن
ويقول " أنا أمضي وستطلبونني " أن يضيف إلى هذا شيئاً كأنه ضروري قائلا
: " أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق "؟ لأن هذه الكلمات تبدو غير متوافقة تماماً
مع تلك الكلمات التي قبلها، ولكنها تتمخض بتدبير خفي. وحيث أنه هو الله " ولا
يحتاج أن يشهد له أحد عن الإنسان لأنه عرف ما كان في الإنسان " كما يقول الإنجيلي
الإلهي نفسه في موضوع آخر (يو 25 : 2)، لأنه " يخترق حتى إلى مفرق النفس والروح
والمفاصل والنخاع ويميز أفكار القلب ونياته " (عب 12 : 4) وهو لا تُهف عليه أوهام
اليهود الجاهلة، الذين بسبب الذهن البليد والضعيف المستأصل فيهم، فانهم حينما سمعوا
من شفتي المخلص قوله : " أنا أمضي "، فانهم ظنوا بغباوة إما أنه سيترك اليهودية
ويهرب إلى موضع ما أو أنه يقول شيئاً من هذا القبيل : آمنوا بي طالما أنا أحيا هنا
وأعيش، لئلا يأتي عليّ ّ الموت. لأن هذا ما يعنيه أيضاً قوله " أنا أمضي
" إذا أخذ بمعناه العام. وليس غريباً أن يسقط اليهود في سوء القصد هذا حتى يتصوروا
شيئاً من هذا النوع من جهة المسيح، لأنهم لم يعرفوا أنه الله بالطبيعة بل إذ قد نظروا
فقط إلى جسده الذي من الأرض، ظنوا أنه انسان كواحد منا. لذلك يلومهم المخلص قائلا
: " أنتم حسب الجسد تدينون " (يو 15 : 8). ولذلك ينقلهم من هذه الفكرة الصبيانية
الساذجة ويعلمهم أن الأمر لا يختص بميلاد واحد وفنائه عندما يفكرون في مثل هذه الأمور
بل يختص بذلك الذي هو بالحقيقة مولود من فوق من الله الآب. (فهو يقول)، لذلك فإن الموت
والهروب لا يناسبني لأني أنا من فوق أي إله من إله (لأن الله هو فوق الكل)، ولكن هذا
يناسبكم انتم بالحري، لأنكم " أنتم من أسفل "، أي من طبيعة خاضعة للموت والفناء
والخوف. فعليكم أن تصرفوا عن ذهنكم مثل هذا الضعف ولاتظنوا شيئاً من هذا النوع من جهتي،
لأن العبد ليس مساوياً للرب في الكرامة، ولا يتساو الذي من أسفل ومن الأرض مع ذلك الذي
هو من فوق ومولد من الله الآب.

          ولكن
التفكير الحكيم سوف يقنعنا بأن عبارة " من فوق " تعني ولادة الإبن من الله
الآب، لأن عبارة “ من فوق “ إذا فُهمت على المكان فإنها تعني من السماء. ولو أن الإبن
أتى فقط من السماء فلن يكون هناك فيه شئ متميز فوق الخليقة التي من أسفل والخاضعة لله،
حيث أن الجزء الأكبر من الملائكة أيضاً " مرسلون للخدمة " (عب 14 : 1) إلى
أسفل، ويقومون ببعض الأعمال على الأرض نازلين من فوق من السماء، والمخلص يشهد لنا قائلا
: " الحق الحق أقول لكم، سوف ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون
على ابن الإنسان " (يو 51 : 1). وإذا كانت الملائكة أيضاً تنزل من فوق من السماء،
فلماذا يفتخر المسيح باطلاً بشئ ما كأنه عظيم وفائق على الخليقة كلها بكونه أتى
" من فوق "؟ ولكن يمكن للمرء بدون أدنى جهد أو تعب أن يرى ذلك الذي هو بالطبيعة
الوحيد الجنس، وأيضاً يرى ما يختص بالملائكة الذين (خُلقوا) بواسطته. لذلك فعبارة
" من فوق " لا تعني بالضرورة أنه نزل من السماء. اما الإبن فقد أشع من الطبيعة
الممجدة جداً والتي هي فوق الكل. لذلك فبالنسبة للإبن الوحيد الجنس فقط. فإن عبارة
" من فوق " تعني كونه من الله ولاتعني شيئاً آخر. لأنه بينما يُقال أن كل
الأشياء تتكون وتأخذ وجودها من الله فالإبن له هذه الميزة فوق الكل، أي أن يكون من
ذات جوهر الآب بالولادة وليس الخلق كالمخلوقات.

 

 

الفصل الرابع

" إن الابن بالطبيعة هو الله، وهو فوق كل مشابهة للخليقة

من جهة الجوهر "

يو 22 : 8 " أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم
"

          لقد أظهر هنا وبكل وضوح ما هو معنى " من فوق
"، "ومن أسفل ". لأنه حيث إن الفريسيين لم يستطيعوا أن يفهموا شيئاً
وقد أخذوا ما قيل بطريقة جسمية تماماً، وفهموا " فوق " و"اسفل
" فهماً مكانياً، وهكذا يضلون في أفكار كثيرة، لذلك فإن ربنا يسوع المسيح نزع
الغموض عن كلماته – ذلك الغموض الذي كان يبدو ملتصقاً بها – وجعلها واضحة تماماً. وكشف
بوضوح أكثر في كلماته التالية ما كان قد قاله بشكل غامض. لأنه يقول " أنتم من
هذا لاعالم " أي من أسفل و " أنا لست من هذا العالم "، وهذا يعني أنه
من فوق، لأن الله فائق على كل ما هو مخلوق، وسموه وتمجيده ليس من جهة المكان (لأن من
الغباء والجهل التام أن يُفهم غير الجسدي كأنه مكاني)، ولكنه يفوق الأشياء الحادثة
بسمو طبيعته التي لا يُعبر عنها.والكلمة يقول إنه من هذا الجوهر وهو ليس خليقة (أي
مصنوعاً)، بل هو الثمرة والوليد. فعليك أن نلاحظ كيف أنه لا يقول، إني قد صرت وخُلقت
من فوق، بل بالحري " أنا من فوق "، لكي يُظهر من أين هو وأنه كان أزلياً
مع الذي ولده. فهو كائن كما أن الآب أيضاً كائن : ولكن ذلك الذي هو كائن وهو أزلي مع
الكائن، كيف كان غير موجود؟ دع حماقة أولئك الذين يفكرون [viii] بغير ذلك تجيب على هذا
السؤال.

          ولكن قد يقاومنا عدو الحق قائلا : [ليس بدون تحديد
قال المسيح : " أنا لست من العالم "، ولكن بإضافة كلمة " هذا
" فقد أظهر بدقة أن هناك عالماً آخر، هو العالم الروحي، الذي يمكن أن يكون هو
منه]. لذلك فأنت تضع الإبن بين المخلوقات (لأن هذا ما تحاول أيها السيد أن تصل إليه
بكلماتك). وهكذا يُصنف الخالق بين أولئك الذين لهم طبيعة مخلوقة، واذ تتسبب إليه بعض
الكرامة الملائكية وربما كرامة العبيد، فأنت تحسب أنك بذلك تهرب من تهمة التجديف. الآ
تعرف أنه رغم انك تنسب إليه هذا الوع العالي وهذه الحالة التي يفهم أن الملائكة القديسين
حاصلون عليها، ورغم انك تعترف أنه فوق كل رئاسة وسلطان وعروش، ومع ذلك تؤمن أنه مخلوق،
ألا تسئ إليه إساءة ليست بقليلة؟ لأنه لا يوجد مكان مهما كان عالياً (فوق مكان الآخرين)
يليق بالإبن الوحيد طالما أنه يعتبر أنه مخلوق. فإن مجده ليس في تفوقه على الآخرين،
بل في كونه غير مخلوق، أي بالحري في كونه إلهاً من إله بالطبيعة. ولكنك أنت مرة أخرى،
بتصنيفك ذلك الذي هو غله وهو نور الله لنا – مع الأشياء المخلوقة، وتحسبه جزءً من العالم،
وإن لم يكن من هذا العالم فمن عالم آخر، (لأن تصوير عوالم متميزة لم ينشئ فرقاً بالمرة
من جهة أنها جميعاً قد خُلقت) – ألاّ تحمر خجلاً بذلك إذ تضع الكلمة الذي يجلس مع الذي
ولده، تضعه مع فصيلة جنوده وأولئك الذي يقفون أمامه؟ أو ألا تسمع جبرائيل يقول لزكريا
: " أنا جبرائيل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك " (لو 19 : 1)، واشعياء
يقول " " رأيت رب الصاباؤوت جالساً على عرض عالٍ ومرتفع… والسيرافيم واقفين
حوله، (إش 1 : 6، 2س). وكم هو عجيب!، فالنبي كان يرى الإبن ودعاه رب الصاباؤوت، ويقدمه
في رتبة الملك، والقوات العلوية تقوم بحراسته ويوحنا الحكيم سوف يشهد أن الذي رآه
(أي إشعياء) بالحقيقة هو مجد الإبن الوحيد بقوله " : " قال إشعياء هذا حين
[ix]
رأى مجده وتكلم عنه " (يو 41 : 12) ولذلك فإن بولس الإلهي أيضاً، لسبب جلوس المسيح
مع الله الآب وبسبب كونه يُدعى اين بالطبيعة، فإنه يصل إلى ادراك دقيق جداً للسر ويجمع
المعرفة المختصة بهذه النظرة ويقول : " لأنه لمن من الملائكة قال (أي الله الآب)،
أنت ابني أنا اليوم ولدتك " (عب 5 : 1). لأنه بعبارة "أنا ولدتك " يوضح
أن الإبن هو بالطبيعة إله من إله، وأيضاً يقول " ولمن من الملائكة قال قط أجلس
عن يميني " (عب 13 : 1). وهو بقوله هذا لا يتهم الله الآب بأنه ميال إلى الظلم
أو بأنه يحقر طبيعة الملائكة حينما يجعلها في وضع أقل كرامة من الإبن. (فقد يقول واحد)
: حيث إن الله الآب عادل وصالح، فما الذي يعوقه عن أن يجعل طبيعة الملائكة المخلوقة
تجلس أيضاً معه، لو أن الإبن كان من بين الأشياء المخلوقة وهو شريك لها في الطبيعة
من جهة أنها مخلوقة، حتى لو كان يتفوق عليها ببعض الإمتيازات الأخرى ن كما تتفوق هي
علينا في بعض الإمتيازات. ولكن الله الآب ليس بظالم وهو الذي أمر الملائكة أن يقفوا
في حضرته وأعطى لطبيعتهم هذه الكرامة، وابنه الخاص جالس معه، حيث أنه يعرف أن ابنه
هو بالطبيعة الله، وان وليده الخاص ليس غريبا عن جوهره. فكيف يكون إذن (الإبن) مخلوقاً
وكيف يكون من عالم مخلوق وليس بالحري في الحالة الإلهية التي تفوق كل الأشياء المخلوقة
المعروفة والمعترف بوجودها في كل العالم؟

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد قديم سفر أخبار الأيام الثانى وليم ماكدونلد د

          ولكن حيث إنكم تضعون تأكيداً خاصاً على قول المسيح
" أنا لست من هذا العالم"، تضعونه كشئ عظيم لا جدال فيه. وتؤكدون أن المقصود
بكلمة " هذا " تتضمن الإشارة إلى عالم آخر، فدعونا نرى أيضاً إن كنتم أنفسكم
تستندون على مجادلات فاسدة، وأنتم تتجهون أن تتصوروا وتفكروا هكذا، فقط بسبب خفة عقلكم.
لأن كلمة " هذا " أو " من هذا مهما قلنا فهي ضمير إشارة، وليست على
أية حال أو بالضرورة تشير إلى عالم آخر. وفي الحقيقة فإن باروخ بالمبارك إذ يشير لنا
عن الإله الواحد والوحيد يقول : " هذا هو إلهنا ولا يُحسب غيره تجاهه "
(باروخ 35 : 3 س). فلو كانت كلمة " هذا " تشير بشكل مطلق إلى آخر، فكيف لا
يُحسب آخر تجاهه؟ بل إن سمعان البار أيضاً وهو يتنبأ عن سر المسيح يقول : " هذا
(الطفل) وُضع لسقوط وقيام كثيرين في اسرائيل ولعلامة تُقاوم " (لو 34 : 2)، رغم
أنه واضح أن الرجل البار لا يقول هذا كأنه يفصلنا عن أشخاص آخرين، بل هو يخبرنا أن
هذا الحاضر الآن (الطفل يسوع) والذي قد وُضع لأجل هذا، هو وحده هكذا (أي وحده المقصود
بكلمة " هذا ").

          لذلك فحينما يقول المسيح : " أنا لست من هذا العالم
"، فهو بالتأكيد لا يقوله لكونه من عالم آخر، بل إذ هو يحدد ويضع – بصورة جسمية
أكثر – مكانين : أي (المكان الأول هو) الطبيعة المخلوقة، والمكان الآخر هو ذلك الإنسان
الذي لا يُعبر عنه وهو فوق كل جوهر، فإنه يضع اليهود مع الأشياء المخلوقة قائلا :
" أنتم من هذا العالم "، ويفصل نفسه كلية عن الأشياء المخلوقة، وإذ يربط
نفسه بالمكان الآخر – وأعني به الألوهية – يقول " أنا لست من هذا العالم
". وهكذا إذ يضع الألوهية في مواجهة العالم (من جهة معرفتنا)، فهو يستعمل كلمة
" من هذا " مرتبطة بالعالم، ويضع نفسه مع الله الذي ولده، ومع الجوهر الذي
هو من فوق الكل.

          (وهو يقول) " ولكن الله الآب لا يظلم طبيعة الملائكة
عندما لا يكرّمهم بنفس كرامة الإبن، لأن التنوع في الخليقة وتوزيع المجد بالدرجة المناسبة
لكل مخلوق، لا يعني بأية حال أن الله ظالم، فكيف نعترف بأن الله عادل ونحن في نفس الوقت
أقل من الملائكة؟ إن وضعنا نحن بالنسبة للملائكة هو كوضع الملائكة أيضاً بالنسبة للإبن،
لأنهم يخضعون لمن هو في كرامة أعظم ".

          ولكن أيها السيد المبجل جداً، نحن نجيب مُخجلين ذلك
الهرطوقي الجاهل (فنقول) : إن كنا نحن بعيدين عن مجد الملائكة حيث إننا لم نصل إلى
الصلاح المتأصل فيهم، ورغم أنه يوجد تنوع واختلاف في الخليقة، وازدياد أو قلة في الكرامة
بحسب مشيئة ذلك الذي صنعهم ومع ذلك فحقيقة المخلوقية هي أمر مشترك بين الكل، وفي هذا
الأمر لا يوجد أبداً من يتفوق على الآخر أو ينقص عنه. فإن كان الملاك يفوق الإنسان
في الكرامة والمجد فهذا ليس بأمر عجيب، وكذلك أيضاً بالنسبة لتفوق رئيس الملائكة والمجد
فهذا ليس بأمر عجيب، وكذلك أيضاً بالنسبة لتفوق رئيس الملائكة على الملاك. أما قوة
الصعود إلى مجد ذلك الذي صنع كل الأشياء فهذه لا تختص بأي واحد من المخلوقات، فايٍ
من الأشياء المصنوعة لن يصبح إلهاً بالطبيعة، ولن يكون العبد متساوياً في الكرامة مع
الرب الجالس معه (مع الآب) والمالك معه. فأي قدر من الكرامة يكون للإبن، إن كان بحسب
كلامكم هو مخلوق ومن العالم الروحاني، وكيف تكون له كرامة إلهية؟ وكيف يرتفع ذلك الذي
هو مشترك مع الخليقة في الطبيعة، إلى نفس المجد مع من هو بالطبيعة الله، مع أن الله
يقول " مجدي لا أعطيه لآخر " (إش 8 : 42)؟

          (فاخبرني)، ما الذي طرد الشيطان خارج الأماكن السماوية؟
هل تعطشه إلى الكرامة التي تليق بالطبيعة المخلوقة، والتي أعطيت لها ولكن بقدر أفضل
وأعظم مما خُصص له، وهل في هذا تكمن طبيعة جرائمه؟ أم أنه تجاسر أن يقول “ سأصير مثل
العلي " (إش 14 : 14). لأن المخلوق صور لنفسه أنه يستطيع أن يترفع إلى طبيعة صانعة،
وان يجلس على العرش مع الله الذي له السلطان فوق الكل. لذلك أيضاً فقد سقط كالبرق من
السماء كما هو مكتوب (لو 18 : 10). ولكنك أنت تندفع بطياشة من جهة أمور غير مأمونة
فانك لا تعتبره امراً ذا بال أن الإبن بحسب كلامك يكون من عالم ما، وتبعاً لذلك يكون
جزءً من الخليقة. وهكذا ينبغي أن يُدعى من الله الآب على سبيل الكرامة، لكي يجلس معه
رغم أن الجوهر لا يمنحه هذا (الحق) ولا يدعوه إلى الكرامة التي تليق به والتي تحق له.
لأنه – حسب كلامك الذي تثرثر به – فهو ينال أشياء فوق الخليفة على سبيل النعمة،حاشا
لمثل هذا التجديف أيها الإنسان لأننا لن نفكر هكذا، ليت الله يبطل هذا.

          لأننا نؤمن أن الملائكة ورؤساء الملائكة وأولئك الذين
في رتبة أعلى منهم يكرمون بدرجات متفاوتة حسب سلطان الله الكلي الحكمة ومشورته، وهو
الذي يُحدد ذلك لكل واحد من المخلوقات بحكم عادل. أما بالنسبة للإبن بالطبيعة فنحن
لن نتصور أنه هكذا، لأنه لا ينال مجداً على سبيل النعمة ولا يُضاف فنحن لن نتصور أنه
هكذا، لأنه لا ينال مجداً على سبيل النعمة ولا يُضاف إليه حيث أنه من جوهر الله الآب
إله حق من الله بالطبيعة وبالحق، فهو في العرش معه وجالس معه، وله كل الأشياء تحت قدميه
كإله، وهو من الآب ومع الآب بطريقة غلهية عالية فوق كل الخليقة. لذلك، يحق له أن يسمع
القول " لأن الكل عبيدك " (مز 91 : 119). وحيث أنه من كل ناحية إله حقيقي،
(فإني افترض) أنه واضح تماماً أنه ليس من هذا العالم " أي ليس مخلوقاً. لأن كلمة
" العالم " هنا تعني طبيعة الأشياء المخلوقة إذ تجرى المقارنة من الجزء إلى
الكل أي كل ما يُدرك أنه مخلوق. وهكذا فإن الله إذ يسحب نفسه من أن يكون من نفس الطبيعة
مع الخليقة قال بالأنبياء : " لأني أنا الله لا إنسان " (هو 9 : 11) (وليس
بسبب قوله إنه ليس إنساناً مثلنا فإننا لهذا السبب نصفه مع الملائكة أو أي من المخلوقات
الأخرى بل إذ نمضي من الجزء إلى الكل فإننا سوف نعترف أن الله هو بالطبيعة غير كل الأشياء
المخلوقة)، وهكذا ينبغي أن نفهم يتقوى الأمور الصعبة التي تقابلنا " لأننا ننظر
في مرآة في لغز " كما يقول بولس (1 كو 12 : 13).

يو 24 : 8 " فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكم "

          وبكلمات قليلة حول التصورات الرديئة لأولئك الذين فهموا
هكذا وبعد أن وبخهم أيضاً بسبب كلامهم الغبي عنه، فإنه يرجع إلى هدفه الأصلي من حديثه
ويلخصه مبيناً لهم الشر العظيم الذي سيكونون فيه وما الذي سوف يسقطون فيه، إن كانوا
بعدم تعقل يرفضون أن يؤمنوا به. فهناك أمر ملائم جداً لأي معلم حكيم ووقور، لأني أظن
أن المعلم لا ينبغي أن يتصادم مع جهل سامعيه ولا أن يهمل في عنايته بهم، حتى إن لم
يتعلموا الدروس بسهولة، ولكنه يعيد مرات كثيرة، ويرجع إلى نفس الأمور ويستعمل نفس الكلمات،
(كما أن الحراث الذي يلازم الحقل ويبذل جهداً غير قليل فيه، فإنه حينما يكون قد زرع
البذار في الأثلام [x]،
فإن رأى إحدى البذار تلفت) : لأنه إذا لم يصل إلى هدفه في المرة الأولى فلن يحدث نفس
الشئ في المرة الثانية. ومثل هذه العادة كان يمارسها بولس الإلهي عندما يقول في موضع
ما : " قول هذه الأمور ليس ثقيلاً عليّ وأما لكم فهو أمن (مطمئن) " (في
1 : 3). هل ترى، كما أن المعلم يرتفع فوق الكسل، فبالنسبة للسامعين يكون الأمر عملاً
مطمئناً؟ إذن فربنا يسوع المسيح يكرر حديثه بطريقة نافعة مع اليهود ويؤكد أن عقوبة
عدم الإيمان به لن تكون بأمور عابرة : لأنه يقول إن الذين لا يؤمنون فبالتأكيد سيموتون
في خطاياهم. وأن الموت في التعديات هو حمل ثقيل لأنه سيسلم نفس الإنسان إلى اللهيب
– الذي بلا شك – سوف يبيد الكل.

" لأنكم إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم
"

          وهو يشرح بأكثر دقة ما سوف يحدث، وإذ قد جعل كيفية
الخلاص واضحة جداً فهو يبين ثانية بأي طريق سوف يصعدون إلى حياة القديسين ويبلغون إلى
المدينة التي هي فوق، أورشليم السماوية. وهو لا يقول إن الإنسان ينبغي أن يؤمن بل يؤكد
أن الإيمانيلزم أن يكون به هو. لأننا نتبرر بالإيمان به كإله من إله وكالمخلص والفادي
وملك الكل والرب بالحق. لذلك يقول إنكم ستهلكون " إن لم تؤمنوا إني أنا هو
" أما الضمير " أنا " – فيما يقول – هو ذلك الذي كُتب عنه في الأنبياء
: " استنيري، استنيري يا أورشليم لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك “ (إش
1 : 60 س). (لأنه يقول) لأني أنا الذي منذ القديم أمرت أن تُنزع أمراض النفس عنها وأنا
الذي وعدت بشفاء المحبة بالقول : " ارجعوا ارجعوا أيها البنون المرتدونو
"أنا " سأشقى عيانكم " (إر 22 : 3 س). " أنا " هو الذي أعلنت
أن الصلاح افلهي القديم والصبر الذي لا يُجارى ينبغي أن يُسكب عليكم. ولذلك صرخت عالياً
: " أنا أنا هو الماحي ذنوبك ولن أذكرها " (إش 25 : 43 س). (ويقول)
" أنا " هو الذي قال لإشعياء النبي اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شرور قلوبكم من
أمام عيني، كفوا عن فعل الشرور.. وهلم نتحاجج يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض
كالثج، وإن كانت كالدودي (الأحمر) فإن أبيضها كالصوف " (إش 16 : 1 – 18س). (ويقول)
أنا هو – الذي عنه يقول إشعياء النبي نفسه : " يا صهيون التي تأتي بالبشارة السارة،
اصعدي على جبل عالٍ يا أورشليم التي تأتي بالبشارة السارة، ارفعي صوتك بقوة، ارفعي
لا تخافي، هوذا إلهك. هوذا الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له. هوذا أجرته معه وعمله أمامه..
كراعٍ يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان ويريح المرضعات " (إش 9 : 4 – 11س). ويقول
أيضاً " حينئذ ستنفتح عيون العمى وآذان الصم سوف تسمع. حينئذ يقفز العرج كالإبل
ويترنم لسان الأخرس " (إش 5 : 35، 6 س). (ويقول) " يأتي بغتة إلى هيكله السيد
الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تُسرون به. هوذا يأتي قال رب الجنود، ومن يحتمل يوم
مجيئه ومن يثبت عند ظهوره، لأنه سيدخل مثل نار الممحص ومثل أشنان القصار " (ملا
1 : 3، 2س). (ويقول) أنا هو الذي لأجل خلاص الناس وعدت بصوت المرنم أن أقدم نفسي ذبيحة
لله الآب، وصرخت : " بذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً، بمحرقات وذبائح
للخطية لم تُسر. ثم قلت هاأنذا أجئ في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله
" (مز 6 : 39 -8س). (ويقول) أنا هو، والناموس بواسطة موسى كرزعني قائلاً هكذا
: "يقيم لك الرب إلهك نبياً من بين أخوتك مثلي له تسمعون، حسب كل ما طلبت من الرب
إلهك في حوريب يوم الإجتماع "(تث 16 : 18، 16س).

          لذلك (يقول)، سوف تهلكون وسوف توفون للديّان العقاب
العادل جداً بسبب كثرة شر أخلاقكم إذ لا تسمعون ذلك الذي سبق أن بشركم به قديسون كثيرون،
وأيضاً بشهادة الأعمال التي أعملها أنا. لأنه بالتأكيد وحسب الحق، ليست هناك مجادلة
تعفى أولئك الذين لا يؤمنون به من نوال العقاب، إذ نرى أن الكتاب الموحي به من الله
مملوء بالشهادات والأقوال عنه وهو نفسه يقدم بأعماله مجداً مطابقاً لما تم التنبؤ عنه
منذ زمن بعيد.

يو 25 : 8 " فقالوا له، من تكون؟ "

          إن كلمتهم الممزوجة بأشرس غضب تنبع من تفاخرهم. لأنهم
يسألون يتلهب ليس لكي يتعلموا ويؤمنوا، بل من جنونهم الكثير الذي يصبونه على المسيح
لأنه يقول بكلمة بسيطة " أنا هو "، ولا يضيف عبارة " إله من إله
" ولا أيضاً مجده الأصيل، بل بتواضع وبعيداً عن كل افتخار يقول فقط هذه العبارة
: " أنا هو "، تاركاً للمتعلمين حسناً أن يضيفوا ما كان ناقصاً، وأما أولئك
فإنهم يبلغون إلى أقصى الجنون الشرس وغير المنضبط، وبتعالٍ شديد، فانهم جميعا يقاطعون
كلمة المخلص قبل أن تكتمل، وكأنهم يوبخونه ويوقفونه في منتصف الطريق ويقولون :
" من تكون أنت "؟ هذا ما يتكلمون به علانية ويقولونه : " هل تتجاسر
أن تفكر في نفسك أنك أعظم مما نعرف؟ فنحن نعرف انك أنت ابن النجار، إنسان حقير وفقير
جداً وليس له ذكر عندنا وكلا شئ بالمرة. لذلك فهم يدينون الرب كأنه لا شئ ناظرين فقط
إلى نسبه حسب الجسد، أما الجلال الخاص بأعماله وما هو أكثر من ذلك أي ولادته من فوق
من الآب التي منها كان يمكن أن يعرفوا أنه هو بالطبيعة الله، كل هذه هم لا يسمحون لها
بالدخول إلى عقلهم.

          فمن هو الذي يعمل الأعمال التي تحق لله وحده؟ ألاّ
يكون ذلك بالتأكيد من هو إله بالطبيعة؟ ولكن المسيح أجرى هذه الأعمال، لذلك كان هو
الله، وهو الكائن إلهاً، حتى حينما صار جسداً لأجل خلاص الجميع وحياتهم. ولكن الذين
ينحصر اعتقادهم في مشورتهم السيئة الخاصة بهم، ولا يأخذون شيئاً بالمرة من كتابنا الإلهي
المُوحى به من الله، فانهم من جهة نفس الأمور التي كان ينبغي أن يشكروا لأجلها، نجدهم
يحطون من قدره إذ " لا يعرفون ما يقولونه ولا ما يقررونه " (1تي 7 : 1).
لذلك إذ ركز بتأكيد على كلمة " أنت "، مستبعدين ما يُعرف بالنبرة الحادة
[xi]
فهنا تؤخذ الكلمة على أنها تساؤل مع تعجب : لأنهم يقولون " أنت "، كأنهم
يقولون، أنت لا شئ بالمرة، وانت معروف عندنا أنك هكذا، أنت الوضيع والذي من أصل وضيع،
أي لا شئ لامع تستطيع أن تقوله عن نفسك، أي كلام جدير يُقال عنك؟ لأن لا شئ من مثل
هذا التجاسر هو غريب عن الجنون اليهودي.

يو 25 : 8 " فقال لهم يسوع، أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً
به "

          0يقول) " رغم أنكم تهينوني إلاّ أدعوكم إلى الحياة
الأبدية، والى غفران الخطايا، والى إبطال الموت والفساد، والى القداسة، والى البر،
والى المجد، والى الإفتخار بالتبني لله : نعم أنا هو الذي أريد أن أكلمكم بكل هذه وأنتم
تحسبونني لا شئ، وتعتبرونني لا أستحق شيئاً (ويقول) حقاً إنني أتألم لأني ابتدأت الحديث
معكم، لأني قد تكلمت بشئ يمكن أن ينفعكم وقسدت أن، أخلص أولئك الذين كانوا على حافة
الإنحدار إلى عمق الحرمان، الذين يسعون أن يردوا بانتقام مُرِّ على ذلك الذي اختار
أن يخلصهم.

          ويبدو أن هناك شيئاً آخر يوضحه لنا المسيح هنا، (وكأنه
يقول) كان من الصواب أن لا أتحدث معكم بالمرة " من البدء " بل بالحري لمنح
هذا الحديث لمن يبتهجون جداً بكلماتي، ويحنون أعناقهم بلا إبطاء لأوامر الإنجيل. ويقصد
بهؤلاء جموع الأمم. ولكن بينما نفهم عنه كأنه يقول هكذا، فإننا نحترس من كلمات المقاومين.
فربما يقول أحد أولئك الذين يريدون أن يحاربوا المسيح هكذا : " إن كان ينبغي على
الإبن أن لا يبدأ بمخاطبة اليهود بل بالحري يبدأ بالأمم فيكون قد جانبه الصواب من جهة
ما هو ملائم بفعله هذا (البدء بالأمم) بدلاً من ذلك (البدء باليهود). ولكننا نجيب ن
أن الإبن يقول هكذا، لا كأنه يتراجع عن مشيئته أو مشيئة الآب ولا هو يتعدى على ما يليق
بالتدبير (الآن الله لا يريد أن يحدث شئ لا يكون ملائماً)، ولكنه بقوله إنه ليس من
الصواب أن يكلمهم في البداية ولا أن يضع أساساً للتعليم الخلاصي في وسطكم فإنه يبين
أن كلاً من الآب وهو نفسه، هما بالطبيعة صادقان ومحبان للإنسان لأنه ها هو قد أعطى
كلمته الخلاصية بسخاء لليهود عديمي التقوى رغم أنهم لا يستحقونها، وقد وضع في المكان
الثاني جموع الأمم رغم أن هؤلاء أكثر استعداداً لأن يؤمنوا به ويطيعونه.

          إذن، فما الذي حمله يفُضل شعب اليهود الصلب الرقبة
ويكرمهم قبل الباقين؟، فقد أعطاهم الوعد بمجيئه بواسطة الأنبياء القديسين، ولهم أعطى
النعمة لأجل الآباء. لذلك أيضاً قال : " لم أرسل إلا أن خراف بيت اسرائيل الضالة
" (مت 24 : 15). وقال للمرأة السورية الفينيقية : " ليس حسناً أن يؤخذ خبز
البنين ويُطرح للكلاب " (مت 26 : 15). لذلك قد كُرّم اسرائيل ووُضع في مرتبة قبل
الأمم، رغم أن موقفه أكثر إعوجاجاً. ولكن حيث أن اسرائيل لم يعرف رب الكل ومكمل الخيرات
الموعود بها، فإن نعمة التعليم رحلت عنه أخيراً إلى الأمم، الذين كان ينبغي أن يخاطبهم
الرب أولاً ومن البدء، لا من جهة الوعد المُعطى للآباء، ولكن من جهة طاعتهم المتأصلة
فيهم.

يو 26 : 8 " إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم
"

          وإذ رأى أن اليهود يحكمون عليه بتهور، ورغم أنه ليس
هناك شئ على الإطلاق يتهمونه به، فإنهم منتفخون بسبب ميلاده الفقير حسب الجسد فقط.
ولذلك يقولون إنه لا شئ، أما هو فقد أخجلهم بوداعة إذ قال فيما سبق صراحة " أنتم
حسب الجسد تدينون أما أنا فلست أدين أحداً ". ولكن الدينونة حسب الجسد يكون لها
معنى مثل هذا : أولئك الذين يُعجبون فقط بالأمور الأرضية يعتبرون الخيرات السماوية
كلا شئ وينظرون فقط إلى الشهرة في هذه الحياة، ويُعجبون بذلك الذي يفتخر ببعض الأمجاد
شاملة، فيقولون أن الإنسان الجدير حقاً بالمحبة والإعجاب هو الذي عنده في داخله الرغبة
أن يحيا حسب مشورة ومشيئة ذاك الذي خلقه. لأن الوضع الأقل حسب الجسد لن يؤذِ نفس الإنسان
الذي اعتاد أن يعمل حسناً، ومن الجهة الأخرى فالنصيب اللامع في هذه الحياة وبهاء الثروة
لن ينفع بشئ أولئك الذين يرفضون أن يعيشوا باستقامة. لذلك فهم يدينون حسب الجسد كما
قلنا تواً، ولا ينظرون إلى القداسة، هؤلاء الذين لم يعتادوا أن يزكوا سيرتهم وسلوكهم،
بل يحوّلون ذهنهم إلى الأمور الأرضية فقط، ويعتبرون الإنسان الذي ينشأ في الثراء والترف،
هو الجدير بكل إعجاب. فأنتم إذن يا قادة اليهود العديمي الحكمة تماماً رغم نن ناموس
موسى يعلمكم التدقيق في إعطاء الحكم، فإنكم تحكمون بدون أي أساس بالمرة، وذاك الذي
يظهر لكم بواسطة أعمال عجائبية كثؤرة أنه الله، تدينونه فقط بسبب فقر وضعه الجسدي،
ولكني أنا أن أتمثل بعدم تعلّمكم ولن أحكم عليكم بمثل هذا الحكم، فالطبيعة البشرية
ليست شيئاً بالمرة. فما هو هذا الجسد الفاني والأرضي : نتانة ودود وليس شيئاً آخر.
ومع هذا فأنا لن أدينكم لهذا السبب، ولا لأنكم بشر بالطبيعة سأقرر أنه ينبغي أن يزدري
بكم : " إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم "، أي كل كلمة اتهام
لها عمل قوي ضدكم، وأنا لا أتهمكم في أمر واحد بل في أمور كثيرة.ولن أتكلم كذباً في
أي أمر منها كما تفعلون أنتم. إني أدينكم كغير مؤمنين، وكمتفاخرين، وكشتامين، وكمحاربين
لله، وكعديمي الشعور، وكغير شاكرين، وكأشرار،وبالأحرى كمحبين للذة بدلاً من أن تحبوا
الله، وكمن " يقبلون مجداً بعضهم من بعض والمجد الذي من (الإله) الواحد لستم تطلبونه
"، وكمن تشعلون النار في الكرْم الروحاني، وكمن لا تطعمون باستقامة القطيع المُسلّم
لكم من الله، وكمن لا تقودونهم بأيديكم إلى ذلك الذي كُرز به بالناموس والأنبياء، أي
" أنا ". مثل هذه الأمور سيعلنها المخلّص لليهود ولكن بإضافة : " إن
لي أشياء كثيرة لأتكلم وأحكم بها من نحوكم "، فهو يهددهم أنه يوماً ما سينظهر
كديّان لهم، وهو الذي بدا لهم كأنه لا شئ بسبب الجسد.

يو 26 : 8 " لكن الذي أرسلني هو حق، وأنا ما سمعته منه فهذا
أقوله للعالم "

          وإذ رفض جهل اليهود، وحسب كلا شئ أولئك الذين تجاسروا
بدون انضباط أن يشتموه، فهو يعود ثانية إلى ما كان يقوله في البداية، محتفظاً بالحكم
عليهم – وذلك بكل حرية، ليس للوقت الحاضر بل للوقت المناسب، جاعلاً لوقت ظهوره هدفه
الخاص. ("لأنه لم يأت ليدين العالم بل ليخلص العالم " كما يقول هو نفسه يو
47 : 12). ول1لك إذ يظل مُمسكاً بالأمور الملائمة له ويكرر الكلمة التي تدعو للخلاص
فهو يكمّل تعليمه، لأنه هنا كان من المناسب لنا أن نندهش لكثرة احتماله وعظمة حبه المتأصل
نحو الإنسان، الذي يكتب عنه بطرس أيضاً : " الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً وإذ
تالم لم يكن يهدد بل كان يسلّم لمن يقضي بعدلٍ " (1بط 23 : 2). ذلك (يقول)، فإني
سأواصل الحديث عنكم الآن بنوعٍ خاص، لا لأجل ما اعتدتم أن تفعلوا لأجل تصيد لأخطاء،
وعمل ما لا ينفع : وإذ قد احتفظت بالحكم عليكم لوقته المناسب، فإني سألتزم بما هو لمنفعتكم،
ولن أكف عن الإعتناء بكم رغم أنكم بسب بجنونكم المتأصل تشتمونني بغباوة. لقد قلت لكم
منذ قليل " أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نورالحياة
" (يو 12 : 8)، وإذ اغتظتم بشكل غير معقول من هذا القول، فقد صحتم بحدة نحوي قائلين
: " أنت تشهد لنفسك شهادتكم ليست حقاً " (يو 13 : 8)، وعلى هذا أجبت :
"وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من اين أتيت وإلى أين أذهب "
(يو 14 : 8). ولكن إن كنت أبدو مزعجاً لكم بقولي هذه الأشياء، وإن لم أكن شاهداً موثوقاً
به من جهة الكرامات التي هي لي بالطبيعة، " فإن الذي أرسلني هو حق وأنا ما سمعته
منه فهذا أقوله للعالم ". (ويقول) وإني أتكلم مثل الآب الذي أرسلني وانطق بالكلمات
التي تتطابق مع كلماته وقولي إني بالطبيعة النور. إذن فالأشياء التي سمعت الله يقولها
عني، فهذه الأشياء أقولها للعالم. إذن فإن كانت بالنسبة لكم أتكلم كذباً وشهادتي ليست
حقاً، فينبغي يقيناً أن تقولوا إن الآب تكلم كذباً قبلي. ولكنه هو حق، لذلك، فأنا لا
أتكلم كذباً، وإن لم تؤمنوا بكلامي، فوقروا (يقول) صوت ذلك الذي أرسلني. فماذا قال
عني؟ "هوذا إنسان، الفجر (الإشراق) اسمه (زك 12 : 6س). وأيضاً يقول لأولئك الذين
يوقرونه " وإليكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها "
(ملا 2 : 4)، وأنا الذي تشتمونه وأنتم تجهلون،يقول لي (الآب) " هوذا قد جعلتك
عهداً للشعب ونوراً للأمم " (إش 6 : 49). أما كوني أنا أيضاً نور فقد أخبركم به
لأنه يقول : " استنيري استنيري يا أورشليم لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك
" (إش 1 : 60س). فهذه الأشياء، سمعت الآب الذي أرسلني يقولها عني، ولذلك فأنا
أقول عن نفسي إني " أنا هو نور العالم "، ولكنكم انتقصتم من قدري لأنكم بسبب
الجسد وحده لم تحكموا باستقامة، ولذلك فأنتم تتجاسرون أن تقولوا مرراً : " أنت
تشهد لنفسك، شهادتك ليست حقاً " (يو 13 : 8).

          وإذ أنه من المناسب أن نلخص كل المعنى الذي أمامنا،
لذلك فهو يبين أن اليهود يحاربون الله، وهم يحاربون ليس كلماته فقط بل أيضاً شهادة
الآب. لأن الآب يعرف أن ابنه هو بالطبيعة نور ولذلك يدعوه الفجر، وشمس البر، ولكنهم
إذ يجذبون هلاك عدم الإيمان على رؤوسهم، يرفضون الحق إذ يقولون عن الخير إنه شر، ولذلك
فبعدل سوف يتبعهم الويل.

يو 27 : 8 " ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب
"

          ومن الطبيعي جداً أن يُصاب حامل الروح بدهشة من عدم
إحساس اليهود. فإنه لا يوجد عدم فهم أكثر من مثل هذا الذي حدث منهم، فإن هؤلاء الذين
كلمهم بأحاديث كثيرة عن الله الآب، لم يفهموا عنه شيئاً حينما سمعوا مخلصنا يقول :
" ولكن الذي أرسلني هو حق ". فما هي القضية إذن، ولأي سبب يقول الإنجيلي
المبارك إن اليهود لم يعرفوا أن المسيح كان بهذه الكلماتي قصد الله الآب، وهذا ما ينبغي
أن نقوله. وحيث أن المخلص قال لهم " لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً " (يو
19 : 8)، ولكي يكون قوله صادقاً في هذا أيضاً فإن الإنجيلي يبين أن أولئك الذين لا
يعرفون الإبن لا يعرفون الآب أيضاً. لأن الإبن هو الباب والمدخل إلى معرفة الآب كما
قال هو أيضاً " ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي " (يو 6 : 14). فالعقل الذي
ينتقل من الصورة إلى الأصل، يصور الآخر (الصورة) مما هو قبله (الأصل). وقد كان من الضروري
أن يبين أن اليهود ليس عندهم إدراك للأب حيث إنهم لم يريدوا أن يُقادوا صاعدين إلى
أعلا، من معرفة الإبن إلى معرفة الآب، لهذا يبين الإنجيلي ذلك بوضوح حينما يقول المسيح
: " الذي أرسلني هو حق، ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب ".

يو 28 : 8 " متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون إني أنا
هو "

          وإذ يتمثل بأمهر الأطباء فإنه يكشف عن مرض نفوسهم الدفين،
ويبين بوضوح ما هو الذي يعوقهم عن المضي بتصميم نحو الإيمان به ومعرفته. ولأنهم نظروا
إلى الجسد وما يتعلق به فقد تحركوا ليفكروا فيه باستخفاف. وإذ وضعوا هذا البرقع على
عيون أذهانهم لم يريدوا أن يعرفوا أنه الله. ولأنهم رأوه كإنسان، فقد كان من الضروري
أن يخاطبهم قائلا : " متى رفعتم إبن الإنسان حينئذ تفهمون إني أنا هو "،
أي، حينما تكفون عن تفكيركم الصغير والوضيع على، وحينما يكون لكم فكرٍ سام وغير أرضي
من جهتي، وتؤمنون إن أنا إله من إله، رغم إني من أجلكم صوت إنساناً مثلكم، فحينئذ ستعرفون
بوضوح إني " أنا نور العالم "، (لأني أنا هو ما أخبركم به منذ قليل). (ويقول)
لأنه ما الذي يعوق، ذاك الذي يُعترف به تماماً أنه إله حقيقي، عن أن يكون هو أيضاً،
نور العالم؟ لأنه لن يذهب أحد إلى هذا القدر من عمق الجنون والجسارة حتى أنه يجرؤ أن
يقول أيضاً : " شهادتك ليست حقاً "، لأنه لن يكذّب بأي حال ما يقوله الذي
هو الله بالطبيعة والحق.

          إذن، فواضح جداً من كلمات المخلص أيضاً، أنه إن كان
لنا فكر وضيع عنه ونعتبره مجرد إنسان وأنه خالٍ من الألوهية بالطبيعة، فإننا بالتأكيد
أن نؤمن به وأن نقبله كمخلص وقادٍ. وما هي النتيجة؟ إننا نكون قد سقطنا من رجائنا،
لأنه إن كان الخلاص هو بواسطة الإيمان، وقد تلاشى الإيمان، فما الذي يخلصنا عندئذ؟
ولكن إن كنا نؤمن ونرفع الإبن إلى ما يليق بالألوهية، رغم أنه صار إنساناً، ونتقدم
كما بريح هادئة ونسرع وسط بحر الحياة المملوء اضطراباً ن فإننا سوف نرسو بأمان في المدينة
التي هي فوق، حيث ننال هناك مكافآت الإيمان.

شرح ثانٍ لنفس النص

" متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون إني أنا هو
"

          وإذ قد هدأ غضب اليهود بكلمات كثيرة وصالحة، إلاّ أنه
رأى أن عنفهم لم ينقص شيئاً بالمرة. لأنهم لا يكفون عن التجديف وبلا أي حذر، فإنهم
ذات مرة أهملوا حديثه، وبدون تقوى دعوه كاذباً. لأن قوله : " شهادتك ليست حقاً
"، ماذا يعني غير هذا؟ وفي مرة أخرى بينما هو بمحبته يعلن الأمور المختصة بالخلاص،
ولهذا السبب يقول : " إن لم تؤمنوا إني أنا هو ستموتون في خطاياكم " (يو
24 : 8)، فانهم بدأو يقاومونه بشدة ورتبوا ضد أقوال محبته كلمات الجنون قائلين
" من أنت " (يو 25 : 8)، لذلك فبالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يتمرغون بدون
تحفظ موقفهم أكثر اعتدالاً، وأن يضعوا لجاماً على لسانهم حتى ولو ضد إرادتهم، لذلك
كان يهددهم مخبراً إياهم بكل وضوح أنهم لن ينجوا من العقا ب بسبب عدم تقواهم. ورغم
أنهم يرونه الآن مطيلاً أناته عليهم، إلا أنه حينما وصل عدم تقواهم ضده إلى نهايته
المرعبة – وأنا أعلى الصليب والموت – وهذا يؤدي إلى تعرضهم للعدالة الصارمة جداً، ونوالهم
في المقابل نصيبهم الذي لا يُحتمل – أي الحرب مع الرومان التي أصابتهم بعد صليب المخص
– من الغضب الذي من فوق من الله.

          وأشار إليهم المخلص أيضاً بكل وضوح أنهم ينبغي أن يعانوا
كل الأمور المرعبة، فقال مرة للنسوة الباكيات " يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ
بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن " (لو 28 : 23). وفي مرة أخرى قال " حينما
ترون أورشليم محاطة بجيوش (لو 20 : 21)، حينئذ تقولون للجبال غطينا وللأكام أسقطي علينا
" (لو 30 : 23). لأنه إلى هذه الدرجة تغلبت آلام الحرب على اليهود حتى أن كل نوع
من الموت كان بالنسبة لهم حلواً ويقبلونه أكثر من تجربتهم أي إجراءهم عن وطنهم، واستعباد
أولئك الذين كانوا يسكنونه وذبحهم بطريقة وحشية، والمجاعات في كل مدينة، وأكلهم للأطفال،
كل هذا يرويه يوسيفوس في تاريخه (ويقول)، إذن، حينما تسلمون ابن الإنسان بالصليب، فاحتملوا
عقابكم الجزائي، وادفعوا العقوبات المقابلة المعادلة لأعمالكم الجسورة ضدي، وهكذا إذ
ترون تعرفون أني أنا هو الكلى القدرة، أي الله. فإن كان عصفورٌ واحد لا يدخل في فخ
الصياد بدون إذن الله، فكيف تمضي أرض بأكملها، والأمة المحبوبة، إلى خراب كامل لو لم
يكن الله الضابط الكل قد أذن أن يصير هكذا؟ فكم هو شرير ومرعب جداً الإستهانة بالله،
التي تؤدي إلى قمة الأشياء غير المرغوب فيها. لذلك يوبخ الرسول البعض قائلا :
" أم تستهين بغني لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطب الله إنما يقتادك إلى
التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب؟ (رو
4 : 2،5).

شرح ثالث لنفس النص

" متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون إني أنا هو
"

          لقد صرف المسيح زمناً طويلاً وهو يقيم مع اليهود ويتحدث
في كل مجمع ويخاطبهم في كل سبت، واضعاً أمامهم مرات كثيرة وبوفرة، تعليماً نافعاً،
وكان يدعوهم باستمرار إلى الإستنارة بواسطة الروح، وحقاً يقول، إذ هو الله بالطبيعة
وبالحق " أنا هو نور العالم "، ولكنهم إذ كانوا يفكرون بحماقة شديدة، كانوا
دائماً يقاومون ذاك الذي قال هذه الأشياء، قائلين له " أنت تشهد لنفسك، شهادتك
ليست حقا" (يو 13 : 8). فجسارة اليهود لم تقف فقط عند التناقضات في الكلام، كما
أن تهورهم غير المُروض لم يبلغ بهم فقط إلى حب الإساءة، بل إذ مضوا بدون حدود وبكل
توحش، فإنهم في النهاية سلموه للصليب والموت. ولكن حيث إنه كان هو الحياة بالطبيعة
وإذ قطّع رباطات الموت، فإنه قام من الأموات تاركاً – كأمر طبيعي – النجاسة اليهودية
وأسرع مبتعداً عن اسرائيل وذلك بعدلٍ،وإذ ذهب هو نفسه إلى الأمم، فإنه دعا الكل إلى
النور وأنعم للعميان باستعادة البصر.

          وحدث أنه بعد موت مخلصنا المسيح، فإن أذهان اليهود
قد أظلمت إذ أن النور قد فارقهم، بينما قلوب الأمم قد استنارت، إذ أن النور الحقيقي
قد سطع عليهم. لذلك يقول : " متى رفعتم ابن الإنسان حينئذٍ تفهمون أني أنا هو
" بدلاً من أن يقول إني سوف أنتظر اكتمال عدم تقواكم، ولن أجلب عليكم الغضب قبل
وقته. إني سوف أقبل الآلام والموت وسأحتمل هذا أيضاً مع الباقين. ولكن حينما تسلّمون
ابن الاسنان إلى الصليب – وهو الذي تعتبرونه أنتم مجرد إنسان – حينئذ ستفهمون، حتى
ضد إرادتكم، إنني لم أقل كذباً إني " أنا هو نور العالم ". لأنكم حين ترون
أنفسكم مظلمين، وجموع بلا حصر من الأمم مستنيرين لأنهم جعلوني معهم فكيف لا توافقون
حينئذ – ولو ضد إرادتكم – إني "أنا هو بالحق نور العالم ". لأنه لا يشك أحد
أن المخلص كان مزمعاً أن يرحل من مجمع اليهود بعد قيامه من الأموات وهذا ما حدث وتحقق.

          ويمكن للمرء أن يرى هذا بوضوح من كلماته : " مادام
لكم النور سيروا في النور لئلا يدرككم الظلام " (يو 35 : 12). لأن انسحاب النور
واحتجابه ينتج ظلمة وأيضاً حضور النور يجعل الظلمة تتلاشى. لذلك تبيّن أن المسيح هو
النور حقاً، وهو الذي أظلم اليهود بمفارقته لهم وانار الأمم بحضوره فيهم : وهكذا فإن
خبرة اليهود للأمور المرعبة صارت لهم درساً مُراً.

شرح رابع لنفس النص

" متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون إني أنا هو
"

          (ويقول) : حيث إنكم تنظرون فقط إلى الجسد فأنتم تؤمنون
إني مجرد إنسان وتعتبرونني أنني واحد مثلكم، ولكن كرامة الألوهية والمجد النابع منها
لا تدخل إلى ذهنكم. وسيكون عملكم العنيف جداً، الجسور وغير الشرعي تماماً أي الصليب
وموت الجسد عليه – هو علامة واضحة جداً لكم عن كوني إلهاً من إله حق ونوراً من نور.
لأنكم حينما ترون موضوع حمقكم الجنوني وقد خاب عن هدفه، وفخ الموت قد سُحق تماماً
– (لأني بالتأكيد سوف أقوم من بين الأموات) – عندئذ سوف توافقون بالضرورة وحتى ضد إرادتكم
على ما قلته لكم وسوف تعترفون إني إله بالطبيعة، لأني سوف أكون أعلى من الموت والفساد،
ولأني أنا هو بالطبيعة الحياة فسوف أقيم هيكلي ثانية. ولكن إن كانت السيادة على الموت
والإنتصار على شراك الفساد تخص من هو الله بالطبيعة وليست لكائن آخر، فكيف لا يتضح
أني بذلك ارتفع فوق كل الأشياء باقتدار وبدون اضطراب؟

          لذلك يقول المخلص إن صليبه سوف يكون علامة لليهود وبرهاناً
واضحاً حدا عن كونه إلهاً بالطبيعة.

          وهذا ما يمكن أن تروا أنه يقوله بوضوح في موضع آخر،
فمرة، حينما أظهر معجزات كثيرة وبلا عدد، أتى إليه الفريسيون يجربونه قائلين :
" يا معلم نريد أن نرى منك آية " (مت 38 : 12). ولكن حيث إنه رأى التصورات
الموجودة فيهم، ولم يكن يجهل حالة المرارة التي في أفكارهم، فإنه قال : " جيل
شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطى له آية إلاّ آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في
بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ هكذا يكون إبن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث
ليالٍ " (مت 39 : 12، 40). واليهود للذين يسألونه آية كبرهان على أنه إله بالطبيعة
رغم انهم قالوا هذا ليجربوه، أتسمع كيف يجيبهم بأنه لن تُعط لهم آية سوى آية علامة
تليق بسلطان الله أعظم واكثر وضوحاً من أن يبطل الموت ويلاشى الفساد؟ إذ له بالسلطان
الإلهي له السيادة على الطبيعة البشرية، لأنها سمعت في آدم : " أنت تراب وإلى
التراب تعود " (تك 19 : 3). ولكن كان في سلطان المسيح الملخص أن ينهي غضبه، وببركات
يطرح الموت الذي ساد نتيجة اللعنة. وتخبرنا فعلة اليهود الأخيرة أنهم كانوا يخافون
أية القيامة لأنها قادرة على الإقناع بأن المسيح هو إله بالطبيعة، لأنهم حينما سمعوا
بقيامة المخلص وأنه لم يكن موجوداً في القبر، اضطربوا وخافوا جداً بسبب ذلك، ودبروا
أن يتخلصوا من تصريحات الجنود بمالٍ كثير. لأنهم أعطوهم فضة لكي يقولوا " إن تلاميذه
أتوا ليلاً وسقوه ونحن نيام " (مت 13 : 28). إذن، كم في عظيمة آية القايمة إذ
أنها تحوي برهاناً لا شك فيه أن يسوع هو الله. وبسبب ذلك فإن قلب اليهود القاسي والذي
لا يلين، اضطرب بشدة.

 

الفصل الخامس

" إن الإبن ليس أقل من الآب في القدرة والحكمة، بل هو بالحري

نفس حكمته وقوته "

يو 28 : 8 " ولست أفعل شيئاً من نفسي بل أتكلم بهذا كما
علمني أبي "

          هو يتكلم بطريقة بشرية أكثر، بسبب أن اليهود لم يكونوا
يستطيعون أن يفهموه بغير هذه الطريقة، ولا أن يحتملوا أن يسمعوا منه أموراً إلهية مكشوفة.
لأنهم بسبب مثل هذه الأمور نجدهم يقذفونه بالحجارة ويعتبرون كلامه تجديفاً قائلين إنه
وهو " إنسان يجعل نفسه إلهاً " (أنظر يو 33 : 10). ولذلك أخفى سمو المجد
افلهي ونزع عن لغته بريقها، وهو يتنازل بطريقة أكثر روعة إلى مستوى ضعفات السامعين،
وحيث إنه يفحص داخل ذهنهم فإنه يجد أنهم لا يعرفون أنه إله، لذلك فهو يصيغ حديثه بطريقة
بشرية لكي لا تشتعل اتجاهاتهم بالغضب ضده مرة أخرى، ويندفعون بغباء مبتعدين عن أي ارتباط
به. لذلك (يقول) : " متى رفعتم إبن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو "،
وأيضاً ستعرفون بنفس الطريقة أنني " لست أفعل شيئاً من نفسي بل أتكلم بهذا الكلام
كما علمني أبي ".

          وربما يقول أحدهم (أخبرني). ما هي الحاجة لهذه الكلمات،
وماذا يعلّمنا المسيح بها؟ لذلك سنقول بتقوى وبتمييز عادل، شارحين كلاً من الأمور التي
قيلت. (فهو يقول) : أنتم لم تكفوا أبداً عن مهاجمة أعمالي كما لو كانت قد أجريت بجنون
وبغير قداسة. أنتم اتهمتوني كثيراً بأني لا أمتنع عن التعدي وعن العمل ضد مُعطى الناموس.
فإني شفيت المشلول (المخلع) من مرضه الخطير يوم السبت، لأني أشفقت على هذا الإنسان.
(ويقول) ولكنكم أنتم الذين كان ينبغي نان تتعجبوا من الشفاء، تتقدمون هذا العمل وتنكرون
كثيراً ما يخصني، نعم بل إني الآن أشرح لكم ما يختص بالخلاص وأحثكم أن تتقدموا نحو
الإشتراك في النور، وأوضحت لكم النور الحقيقي، لأني أعلنت لكم طبيعتي الذاتية الخاصة
قائلاً : " أنا هو نور العالم ". وأنتم تصرفتم وقررتم، ثم بدون أي تروي قمتم
ضد كلماتي وتجاسرتم بدون أي خجل لتقولوا، " شهادتك ليست حقاً". لذلك حينما
ترفعون إبن الإنسان أي حينما تحتاصرونه بالموت، ثم ترونه مرتفعاً فوق رباطات الموت
(لأني سوف أقوم من الموت حيث إني أنا الله بالطبيعة).(وهو يقول) حينئذ ستفهمون
" إني لا أعمل من نفسي شيئاً بل كما علّمني أبي هكذا أتكلم "، لأنكم سوف
تتعلمون حينما ترون أن الإبن أيضاً هو إله بالطبيعة، أن أفكاري ليست من ذاتي، بل لي
مشيئة واحدة دائماً مع الله الآب وكل ما يفعله فأنا أفعله أيضاً، وكل ما أعرف أنه يتكلم
به فأنا أتكلم به أيضاً، لأني من نفس جوهر ذاك الذي ولدني. لأني شفيت المشلول يوم السبت
وأنتم قابلتم الأمر بمرارة، ولكني أريتكم أن أبي يعمل يوم السبت، لذلك قلت :
" أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل " (يو 17 : 5). ولذلك أنا لا أعمل من نفسي
شيئاً. وقلت أيضاً " أنا هو نور العالم " (يو 12 : 8). ولكنكم ظننتم أنني
كنت أقول شيئاً يتعارض مع الآب، وفي هذا أيضاً أخجلتكم مبيناً أنه قال عني :
" ها قد أقمتك لتكون عهداً للشعب ونوراً للأمم “ (إش 6 : 42 س). (وهو يقول)، لذلك
فباطلاً تتهمون ذاك الذي له دائماً مشيئة واحدة مع الآب ولا يعمل شيئاً لا يتوافق معه،
ولا يحتمل أن يقول شيئاً ما لم يكن منه (من الآب). لأني كما أظن فإن هذا هو المعنى
الذي ينبغي أن نضعه لهذه الكلمات.

          ولكن الوحش المملوء مرارة – وأعني به أريوس محارب المسيح
– ربما يقفز علينا ويصرخ في وجهنا (كما هو محتمل) ويقول : " أيها السيد، حينما
يكون الحديث صحيحاً تماماً فما الذي جعلك في إصرارك تحوّله بعيداً إلى مايرضيك فقط،
وألاّ تخجل من أنك تسرق سراً قوة الحق؟. فالإبن هنا يؤكد بوضوح أنه لا يعمل من نفسه
شيئاً بل ما يتعلمه من الله الآب. هذا أيضاً ما يقوله، وهكذا فهو (الإبن) يدرك أن أباه
في وضع أعلا من وضعه ".

(ومثل هذا يُجاب عليه بالآتي) :

          أيها السيد المبجل جداً : هل الإبن حصل على القوة والفهم
من الآب لكي يستطيع أن يعمل شيئاً وأن يتكلم بلا لوم؟ وكيف يكون إذن بعد ذلك إلهاً
بالطبيعة ذلك الذي يستعير القوة والحكمة من آخر، كما هو الحال في الطبائع المخلوقة؟
لأن تلك الكائنات التي من عدم الوجود تحصل على الوجود، فكل شئ يختص بها هو أيضاً يعطي
لها من الله بالتأكيد، ولكن الأمر ليس هكذا بالنسبة للإبن، لأن الكتاب الإلهي يعلّم
عنه ويكرز به إلهاً حقيقياً. وأنا اعتقد أنه بالنسبة لمن هو إله بالطبيعة فإن كل الأشياء
الصالحة تخصه بدرجة كاملة. وذلك الذي لا يملك الكمال في كل ما يستحق الإعجاب، كيف يمكن
أن يكون بالطبيعة إلهاً؟.

          لأنه كما أن عدم الفساد وعدم الموت ينبغي بالتأكيد
أن يخصاه بالطبيعة وليس من الخارج ولا أن يُضافا غليه، هكذا يخصه أيضاً الكمال الكلي
وعدم النقص في كل الصالحات.

          ولكن – أيها السيد – إن كان يحسب رأيك، غير المقدس
وعديم المعرفة أن الإبن ناقص من جهة قدرته أن يعمل الأمور الإلهية وأن يتكلم بما هو
صواب، وفي نفس الوقت هو قوة الآب وحكمة الآب بحسب الكتاب الإلهي، فإن مثل ذلك الإتهام
الخطير سيكون بالأحرى موجهاً ليس للإبن بل للآب. وأنتم إذ تفهمون هذه الأمور بهذه الطريقة
فإنكم ستقولون إن الله الآب
؄ن يعود كاملاً فيما بعد في القوة، كما أنه لن يكون كاملاً في
الحكمة. فترون إذن إلى أي عمق تنحدر جسارة جهلكم. وأنا أتعجب كيف فات هذا على فطنتكم
: (خبروني) كيف يهب الله قوة لقوته الذاتية، أو كيف يجعل حكمته الذاتية أكثر حكمة؟
لأنه إما أن يقول الواحد منا بالضرورة إن قوته تنمو دائماً إلى ما هو أكثر وتتقدم قليلاً
لتكون قادرة على ما هو أكثر من قوتها الموجودة (وهذا يعتبر حماقة ومستحيلاً على الإطلاق).
أو أن يفترض الإنسان – بعدم تقوى – أن (الله) يأخذ قوة من آخر. فكيف يُدعى الإبن بعد
ذلك رب القوات (أنظر مز 24 ومواضع أخرى)، أو كيف يُدرك بعد ذلك على أنه الحكمة والقوة،
إن كان – بحسب رايكم – ينال قوة وحكمة من آخر. أبعدوا هذا التجديف وسخف التفكير.

          لأنه إما أن تقولوا صراحة إن الإبن مخلوق، وعندئذٍ
فإن كل الكتاب الإلهي سوف يصرخ ضدكم، أو إن كنتم تؤمنون أنه إله بالطبيعة، فاعترفوا
انخصائص الألوهية هي له بدرجة كاملة. لأنه إن كانت خاصية كيان الله الطبيعي، أن لا
يكون عاجزاً عن أي شئ ولا أن يكون ناقصاً في الحكمة الفائقة بل بالحري يكون هو بالطبيعة
الحكمة والقوة ذاتها، وهو حكيم ليس بواسطة التعلم، وفي قوته التي ندركها حقاً لا نرى
قوة تُضاف إليه من خارجه.

          ولكن أيضاً، إذ نفحص طبيعة الأمور نفسها لكي نختبر
بأكثر دقة ما قاله المسيح، فإننا سنضيف ما يلي إلى ما سبق أن قيل. فأي عمل عظيم عمله
الإبن الوحيد المتأنس يفوق قوته الكائنة فيه؟ لأني افترض أن البعض سيقولون إنه ينتج
عن ذلك أنه كان من المناسب أن يقول " لست أفعل شيئاً من نفسي "، وكأنه استعار
القوة من الله الآب، فهو قد طرد الأرواح الشريرة وشفى المشلول من مرضه وطهر الأبرص
من معاناته، ووهب البصر للعميان، وأشبع جموعاً لا تُحصى من الناس بخمس خبزات، وهدأ
البحر الهائج بكلمة، وأقام لعازر من الموت، فهل نقول إن ما يظهر هنا هو فائق على قوته
الكائنة فيه؟

          (أخبرني) كيف ثبت السماء العظيمة " وبسطها كخيمة
للسكن " (أنظر إش 22 : 40)، كيف أسس الأرض، وكيف صار صانعاً للشمس والقمر وكل
ما في الجلد؟ كيف خلق الملائكة ورؤساء الملائكة والعروش والسيادات بل وأيضاً السيرافيم؟
فهذا الذي هو في مثل هذا الوضع العظيم والفائق للطبيعة، ولا تعوزه القدرة ولا الحكمة
من آخر، كيف يكون عاجزاً في أمور صغيرة كهذه، والذي يمجده الأنبياء القديسون على أنه
الحكمة كيف يكون محتاجاً لمن يعلمه ماذا يقول لليهود؟

          لأني أسمع واحداً يقول : " الرب الذي صنع الأرض
بقوته، الذي أسس المسكونة بحكمته وبفهمه بسط السموات " (إر 12 : 10س). ويقول دانيال
الإلهي أيضاً : " ليكن اسم الرب مباركاً إلى أبد الآبدين لأن له الحكمة والفهم
والجبروت " (دا 20 : 2س). ولكن إن كان – بحسب صوت النبي – له الجبروت والحكمة،
فمن سوف يحتمل ثرثرة غير المستقيمي الرأي الذين يقولون إن حكمة الآب وقوته (أي الإبن)
يتزود بالقوة والحكمة من آخر؟ (يقول الآخر) لو كنا نقول إنه يوجد آخر يزود الإبن بما
ينقصه من قوة، أو يعلّمه، لكان من المعقول أن تهاجمونا بالكلمات عالمين أنكم تأخذون
جانب الإبن على أنه أهين بهذا الكلام : ولكن حيث إننا نقول إن الله الآب يعطيه هذا،
فما الذي يضايقكم من هذا؟

          لذلك، فإن كنتم تظنون أنكم لا تسيئون بشئ من جهة كونه
بالطبيعة غير مماثل للذي ولده حتى لو كنتم تقولون إنه يتزود منه، فتذكر أيها الإنسان
كلماتك الأخيرة، وتعلم منها أن لا تعثر : اعترف أنه في كل شئ مساوٍ للذي ولده، وهو
ليس أقل منه بأية طريقة أو أي حال. ولكن إن كان (تفكيرك) يجذبك بعيداً عن التعاليم
المستقيمة ويحثك أن تعتبره بما هو غير قانوني، فلماذا تحاول باطلاً أن تخدعنا بمثل
هذه الكلمات النتنة، لأن الأمر لا يختلف بالمرة سواء كان الله الآب نفسه أو أي واحد
آخر يًقال عنه إنه يعطي شيئاً للإبن.

          لأنه إذ قد أُتهم بتهمة نوال شئ، فما الذي سيربحه حتى
لو كان شخص المُعطى عظيماً، (فأخبرني)، ما هو الفرق بالنسبة للشخص الذي يرفض ضربة،
أن تكون الضربة بقضيب خشب أو بقضيب ذهب؟ فليست وسيلة التألم هي التي تُعد حسنة ولكن
ما يُعد حسناً هو عدم التألم بالمرة. لذك إذ قد برهنتم أن الإبن ناقص في القوة والحكمة،
بقولكم أنه ينال شيئاً منه (أي من آخر)، فإنه بذلك يكون في موضع الإتهام الكامل. فكيف
لا يكون في منتهى الحماقة أن تؤذي سامعينا بكلمات بالية، وباختراعات خادعة للتغطية
على اتهامكم له (بالنقص)، إنه ليس أحد آخر إلاّ الآب هو الذي يعطي الإبن؟ ورغم انهم
يظنون أنهم حكماء ومتمرسون بدرجة كبيرة على عمل تمييزات دقيقة باستخدام كلمات من خارج
الموضوع، فإني متعجب كيف فاتهم ما يلي :

          إنهم يحطهم من قدر رسم (صورة) الله الآب، أي الإبن
فهم لا يتهمونه هو نفسه بقدر ما يتهمون ذك (الآب) الذي الإبن هو رسم له، حيث يلزم أن
يكون الآب هكذا كما يُرى في الإبن.

          (ويقول المعترض) " ولكن صوت الإبن سوف يجبرك ولو
ضد إرادتك أن توافق على ما لم يأنف هو نفسه أن ينطق به : أنه هو نفسه قد اعترف أنه
لا يفعل شيئاً من نفسه بل يتكلم بهذه الأشياء كما علّمه الله الآب ".

          أيها السيد، كيف تجعل الأشياء التي قيلت حسناً تبدو
أنها ليست حسنة، فنحن نعرف انك تنكر نور الحق : ولكننا نحن أيضاً سنمضي في طريقنا الخاص
وسنعتقد في الإبن الوحيد بتقوى لائقة – بحسب ما هو مألوف ومعتاد – مواجهين بهذه (المعتقدات
المألوفة) ما هو أمامنا (من أقوال المعترض). لأنه لو كان الإبن قد قال : " أنا
لا أفعل شيئاً من نفسي، بل أعمل المعجزات والعجائب بالقوة التي أنالها من الله الآب
"، لكان هذا القول معناه أنه ينبغي أن توجه إليه التهمة، ولكان مقاومنا قد بدا
أنه يعارضنا بمنطق أعظم. ولكن حيث أنه ببساطة وبشكل مطلق وبدون أية إضافة، يقول : أنا
لا أفعل شيئاً من نفسي، فنحن بالتأكيد لن نقول إنه يلوم طبيعته الخاصة كأنها ضعيفة،
بل إنه يقصد شيئاً آخر حقيقياً وغير قابل للإنتقاد. وإذ نستخدم هذا التعبير عن الإنسان
يمكننا أن نرى بالضبط ما هو الذي يقوله (المسيح) : فلنفترض أن هناك إنسانين لهما نفس
الطبيعة متساويين في القوة ولهما فكر واحد أحدهما مع الآخر. فلو قال أحدهما "
أنا لا أفعل شيئاً من نفسي "، فهل هو سيقول هذا كأنه ضعيف ولا يستطيع أن يفعل
شيئاً بالمرة من نفسه، أم أنه يقول هذا لأن الإنسان الآخر هو في اتفاق معه، وله فكر
واحد معه، ومتحد معه؟ فأرجو أن تفهموا عن الإبن هكذا أيضاً، نعم بل بالحري أكثر من
هذا جداً. فحيث أن اليهود يقومون عليه بغباوة بينما هويصنع العجائب ويتهمونه بكسر السبت،
وينسبون إليه التعدي على الناموس، لذلك أظهر لهم أن الله الآب له فكر واحد معه وفي
اتفاق معه في كل الأشياء، وبمهارة يخجل الذهن المتهور لأولئك الذين لا يؤمنون به. لأنه
بذلك، يبعد البعض الآن عن أي ميل لتوجيه اللوم له حينما قال، إنه يفعل كل الأشياء حسب
مشيئة الآب، ويشير إلى مشيئته الخاصة عندما يذكر مشيئة الآب. ففعل الإبن لكل الأشياء
بحسب مشيئة الآب يبين أنه ليس أقل من الآب وليس خادماً له، بل هو منه وفيه ومن نفس
جوهره.

          وحيث إنه هو حكمة الله ومشورته الحية، فهو يعترف أنه
لا يفعل شيئاً آخر غير مايريده الآب، إذ هو حكمته ومشورته. فنحن نعرف أيضاً أن الفهم
الذي فينا ليس منفصلاً عن نفسنا بل يحقق كل ما يبدو حسناً لنا. وهذا المثل رغم أنه
أقل جداً منالحقيقة ذاتها، ولكنه يعطي صورة غير غامضة للحق. وكما أن الفهم الذي فينا
لا يُحسب انهشئ آخر غيرنا نحن أنفسنا، فبنفس الطريقة اعتقد انحكمة الله الآب، أي الإبن،
ليس مختلفاً عن الآب من جهة وحده الجوهر والتطابق الدقيق للطبيعة : لأن الآب آب وافبن
إبن في نفس الكيان.

          ولكن لأنه يضيف إلى هذا قوله " بل أتكلم كما علمني
أبي "، فلا يظن أحد أن الإبن في احتياج للتعلّم من جهة أي شئ بالمرة (إذ كم يكون
هذا التفكير شاذاً) : ولكنه يعني بما قاله ما يلي :

          لأن اليهود الذين لم يكونوا قادرين أن يدركوا شيئاً
صالحاً لم يستاءوا فقط من العجائب التي أجريت بل أيضاً حينما نطق ببعض كلمات إلهية،
فإننا نراهم في نفس الحالة من الإستياء، وخاصة حينما يقول بحق " أنا هو نور العالم
"، فإنهم عندئذ اغتاظوا بقولبهم جداً فكروا في أفعال في منتهى الجسارة. ولكن الرب
يسوع المسيح، لكي يوبخهم على هياجهم الباطل بسبب هذا الأمر فإنه يقول إن كلماته هي
كلمات الله الآب، مستخدماً إنسانياً (بما يناسب الناسوت)، لفظة " علّم
". ومع ذلك فإننا سنجد أن معنى الكلام يتضمن نظراً باطنياً دقيقاً. وإن كان عدو
الحق لا يقبل ما هو إنسانياً، فهو يسئ كثيراً إلى خطة التدبير بالجسد، (لأن الإبن الوحيد
وضع نفسه إذ صار إنساناً ولهذا السبب كثيراً ما يتكلم كإنسان). ولكن دعه يعرف أيضاً،
أن القول : " كما علمني الآب هكذا أتكلم "، لن يجرح بأي حال الإبن من جهة
كرامته الإلهية، لأننا سنوضح أن قوله هذا أيضاً هو سليم وصائب من جميع الوجوه. ولكن
أيها المدعي على تعاليم التقوى، أجبنا نحن الذين نسأل : من الذي يعلّم الطفل المولود
ولو حديثاً أن يستعمل الصوت البشري (الكلام)؟ لماذا لا يزأر مثل أسد أو يُقلد بعض المخلوقات
الأخرى غير العاقلة؟ لكن الطبيعة إذ تشكل الجنين حسب خاصية الزارع (الآب)، وهكذا بالضرورة
سوف ينمو حتى يصل إلى الصوت المشترك (المفهوم) الذي نستخدمه جميعاً. إذن فمن الممكن
بدون تعلّم أن يتعلم من الطبيعة التي تسكب كل خاصية الزارع في الجنين.

          هكذا يؤكد الإبن الوحيد نفسه أنه يتعلم من الآب، لأن
ما تمثله الطبيعة بالنسبة لنا، فبالتأكيد تماماً يكون الله الآب بالنسبة للإبن. وحيث
إننا بشر ومن بشر، بدون تعلّم نتعلم من الطبيعة ونتكلم كما يناسب البشر، هكذا هو (الإبن)
أيضاً، حيث إنه إله من إله بالطبيعة، تعلّم من طبيعته الخاصة أن يتكلم كإله وأن يقول
شيئاً إلهياً مثل : " أنا هو نور العالم ".

          لأن ما يعرفه عن نفسه أنه هو (نور)، بسبب أنه من الآب
(أي نور من نور)، فهذا ما قال عنه إنه تعلّمه من الآب، إذ له نوع من التعلّم بدون تعلّم
للأعمال والكلمات افلهية من الطبيعة الخاصة لذلك الذي ولده، صاعداً مع الله الآب كما
بقوانين ضرورية للتماثل في كل شئ في الإرادة والكلام. لأنه بلا شك فإن التماثل في الإرادة
والتساوي والمشابهة في الكلمات توجد بالضرورة في أولئك الذين لهم نفس الطبيعة. نحن
نتكلم عن الله بصفة مطلقة وليس عن أنفسنا. فالفوارق في الأخلاق والإختلافات في المشيئات
وطغيان الشهوات يجذبنا بعيداً عن حدود ما هو لائق. أما الطبيعة الإلهية الفائقة الإدراك
إذ هي، هي نفسها على الدوام، وثابتة بدون تزعزع في صلاحها الخاص فلا يمكن أن يوجد فيها
أية اختلافات. وكيف لا تتقدم في مسارها المستقيم نحو غرضها الخاص، وتتكلم وتحقق ما
هو خاص بها. إذن فالإبن الوحيد إذ هو من نفس الجوهر مع الذي ولده
وهو يتفوق (على البشر) في كرامات اللاهوت الواحد، فإنه بالتأكيد وبالضرورة سوف
يعمل ما يعمله الآب نفسه أيضاً لأن هذا هو معنى أن لا يعمل من نفسه شيئاً. وبالتأكيد
سيتكلم بما يخص ذاك الذي ولده، لا كخادم ولا كمأمور ولا كتلميذ، بل إذ له ثمرة طبيعته
نفسها (التي للأب) فإنه يملك أن يستخدم كلمات الله الآب أيضاً. لأنه هنا يظهر بكل وضوح
وبعيداً عن كل لوم : أن ليس شيئاً مما يقوله هو من عنده.

يو 29 : 8 " والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي
"

          يبين هنا بوضوح أنه يفسر مشورة الله الآب، ولا يمكن
أن يكون له غير ما هو كائن فيه. لأنه هو نفسه في أقنومه، المشورة والمشيئة الحية لذلك
الذي ولده ([xii])،
كما هو مكتوب في كتاب المزامير بواسطة أحد القديسين : " بمشورتك تقودني
" (مز 24 : 73س)، وأيضاً : " يارب بمشيئتك تعطي جمالي قوة " (مز 7
: 29س)، لأنه في المسيح توجد كل الأشياء الصالحة لأولئك الذين يحبونه. وهو يُولّد فينا
معرفة الأمور التي هي في الله الآب. لأنه كما أن كلمتنا هذه التي ننطق بها وتتدفق بواسطة
اللسان، تجعل ما هو في عمق فكرنا يصير معروفاً، وكذلك أيضاً فإن المشيئة التي في ذهننا
من جهة أي شئ تدفع (اللسان) أن ينطق بها بطريقة معينة، هكذا أيضاً فإننا ندرك بتقوى
أن الإبن – الذي يعلو على كل تشبيه، إذ هو نفسه الله والكلمة وحكمة الله الآب – نطق
بما هو موجود فيه.

          ولكن
حيث إنه له أقنوم وليس كما هو الحال في كلمة الإنسان المنطوقة، وله أيضاً جوهر وهو
حي إذ له كيانه الخاص في الآب ومع الآب، فإنه يقول هنا إنه ليس وحده، بل يوجد معه ذاك
الذي أرسله. ولكن عندما يقول " معي " فإنه يعني أيضاً أمراً ما إلهياً وسرياً.

          لأننا
لا نظن أنه قال هذا القول بالمعنى الذي يكون الله فيه مع نبي يحرسه بقوته الخاصة ويأزره
بفضله، أو بواسطة الإستنارة بالروح بحركة للنبوة، لا نظن أن الذي ولده يكون معه على
هذا النحو.

          ولكن
هنا يضع عبارة “ معي “ بمعنى آخر : لأنه يقول “ لأن الذي أرسلني “ أي الله الآب، هو
من نفس طبيعتي ".

          وعلى
هذا النمط ستفهمون أيضاً ما يقوله إشعياء النبي : " اعرفوا أيها الشعوب وانكسروا
لأن الله معنا " (إش 9 : 8،10س). لأن حديثنا هنا سيلائم أولئك الذين وضعوا رجاء
خلاصهم عليه، وهؤلاء أيضاً يقولون " الله معنا " ليس كما يتصور أي واحد أن
الله سيكون عاملاً معنا مساعداً لنا، بل إنه سيكون معنا أي واحداً منا. لأن كلمة الله
قد صار إنساناً وفيه قد خلصنا جميعاً وحطمنا رباطات الموت وخلعنا فساد الخطيئة، حيث
أن كلمة الله وهو في صورة الله قد نزل إلينا وصار معنا.

          وكما
أننا نفهم هنا عبارة " الله معنا " بأنها تقابل أن الكلمة الذي من الله الآب
قد صار في نفس الطبيعة معنا، هكذا أيضاً إذ نحتفظ هنا بنفس التشبيه في أفكارنا حينما
يقول المسيح إن الذي أرسلني هو معي ولم يتركني وحدي، فإننا سنفهم بوضوح أنه يشير بطريقة
سرية إلى أن الله الآب (كما قلنا سابقاً) هو من نفس الطبيعة التي لي ولم يتركني وحدي،
إنه من غير الممكن بالمرة أن لا يكون الله الآب الذي منه أُولد، غير موجود معي بصورة
كاملة.

          وربما
يقول شخص ويسأل برغبة أكثر في التعلّم " لماذا يقول المخلص مثل هذه الأمور أو
ما الذي حركه ليعطي هذا الشرح؟

          ونجيب
على هذا موضحين أنه أضاف هذا أيضاً لما سبق أن قاله، لأجل المنفعة ولأجل الضرورة. فحيث
أنه قال : " أتكلم بها كما علمني أبي " (يو 28 : 8)، فيحتاج أن يوضح أن الآب
مشترك معه ومن نفس الجوهر معه، ولكي يمكن أن يُصدق أنه يتكلم بما له (أي بما للآب)،
كإله يتكلم بأمور الله، ويتحرك بالخاصية الطبيعية لذلك الذي ولده ليقول ما يليق بالله،
مثلما يكون لأبناء البشر من طبيعتهم بعض التعلّم الذي لم يتعلموه (كما قلنا سابقاً)،
فإنهم يعرفون حقاً ما يخص الطبيعة البشرية، لذلك فلا ينبغي أن نعثر حينما يقول الإبن
إنه تعلّم شيئاً من الآب، لأنه ليس لهذا السبب سيكون أقل من الآب ولا مختلفاً عنه.
وهيا بنا ننظر في هذا الأمر. فإن مسألة الجوهر لا تمتحن بمعرفة او عدم معرفة شيء ما
بل بما يكون عليه هذا الشيء بالطبيعة. فلنضرب مثلاً ببولس وسلوانس، فإن كان بولس يعرف
سر المسيح ويتقنه بشكل كامل، وان سلوانس أقل في هذه المعرفة، فهل يكونان غير متماثلين
في الطبيعة، او ان بولس سيتفوق على سلوانس من جهة الجوهر بسبب أنه يعرف عمق السر أكثر
من سلوانس؟ ولكني أفترض أنه لن يكون هناك أحد غبي الى هذه الدرجة التي فيها يفترض ان
طبيعتها قد انقسمت بسبب التفوق في المعرفة او التدني فيها.

          إذن
فحينما يتبرهن بدقة ان الامتحان لخاصية الجوهر لا يعتمد على تعلم شيء او تعليمه، فلا
يضير الابن من جهة كونه الله بالطبيعة إن قال إنه يتعلم شيئاً من أبيه الخاص.
فهو لن يبتعد عن الوحدة في الجوهر معه بسبب هذا الأمر، بل يبقى كلية على ما هو عليه
: إله من إله، نور من نور.

          ولكنكم
ربما تقولون، إن الآب أعظم في المعرفة، ولذلك يعلم الابن. ولكننا سوف نقول مرة أخرى
إننا قد أوضحنا تماماً ان حكمة الآب لا يحتاج الى تعلم ودراسة، وإذ قد جمعنا حججاً
كثيرة على هذا الأمر، فقد برهنا ان كلامهم يؤدي الى تجديف لا حدود له. ثم، إنه من الضروري
ان نخبرك بالإضافة الى ذلك، ان هدف الابن واهتمامه الخاص هو دائماً ان يقلل من كرامته
الخاصة وان لا يتكلم كثيراً بطريقة الهية، وذلك بسبب هيئة العبد والمذلة التي اتخذها
لأجلنا. فلو انه لم يقل شيئاً أقل أو غير جدير كلية بالمجد الإلهي، فإلى أين يكون قد
نزل، ومن اين يكون قد تحرك. لأنه لأجل هذه الاسباب كثيراً ما كان يتخذ وضع انه يجهل
كإنسان ما يعرفه كإله. وسوف ترون هذا بوضوح في رواية لعازر الذي من بيت عنيا، والذي
حينما كان له أربعة أيام وقد انتن، فإنه (اي المسيح) بقدرة عجائبية وبصوت الهي جعله
يعود الى الحياة. أنظر الى التدبير المُصاغ هنا. لأنه إذ عرف ان لعازر كان ميتاً، وقد
سبق ان أعلن هذا كإله لتلاميذه، فإنه بطريقة انسانية سأل قائلاً : "أين وضعتموه"
(يو 11 : 34). ما أعجب هذا الأمر؟ فهو الذي كان بعيداً جداً عن بيت عنيا ولم يكن يجهل
كإله من لعازر مات، كيف يطلب ان يعرف اين يوجد القبر؟ ولكنكم ستقولون (بصواب تام) أنه
ارتأى ان يتظاهر بالسؤال بينما هو يدبر أمراً نافعاً. لذلك لاحظوا في هذه الحالة
ايضاً انه تدبيرياً يقول إن ما يعرفه كإله، فهذا تعلمه من الآب
. وهو لا يسمح لحماقة
اليهود الجنونية ان تُستثار أكثر، وإذ يوقف غضب اولئك الذين هم أكثر جهلاً، فهو لا
يستعمل معهم لغة الهية خالصة، بالرغم من انه يليق به بالأحرى ان يفعل هكذا.

          ولكن
حيث إنهم يفكرون انه مجرد انسان، فهو إذ يمزج كرامة الألوهية بالأقوال الإنسانية فهو
يتكلم تدبيرياً خافضاً نفسه أقل مما هو عليه، قائلاً : "لأني في كل حين أعمل ما
يرضيه" (يو 8 : 29). أرجو ان تقبلوا هنا ايضاً الحل لما يبدو صعباً، وان تلاحظوا
بوضوح انه يفسر قوله "لا أعمل من نفسي شيئاً" (يو 8 : 28)، تفسيراً سليماً.
(ويقول) لأني لهذا السبب أشهد "أني لا أعمل من نفسي شيئاً"، حينما أخاطبكم
الآن، لأنها عادتي أن لا أعمل شيئاً لا يتفق مع الله الآب ولا أقدر ان اعمل اي شيء
سوى ما يرضي الذي ولدني. إذن فإنه واضح جداً انه في هذا فقط سيُفهم ان "الابن
لا يعمل من نفسه شيئاً، اي بعمله دائماً ما يرضي الله الآب، فإنه لو لم يكن قد فعل
هكذا (أي حسب ما يرضي الله)، لكان يفعل شيئاً ما من نفسه اي مضاداً لمشيئة ذاك الذي
ولده. فهو يؤكد هنا انه لا يفعل شيئاً من ذاته ليس بسبب نقص في الصلاح عن الآب، ولا
بسبب انه لا يقدر ان يفعل شيئاً بقوته الخاصة، بل بسبب ان له فكر واحد وله دائماً إرادة
واحدة في كل شيء مع الذي ولده، ولا يفكر بالمرة ان يتمم اي شيء كما لو كان منفصلاً
عنه.

          ونحن
لا نندفع الى أفكار متهورة فنظن ان الابن هنا يظهر أية فضيلة كأنها صادرة عن تفضيل
(شيء عن آخر)، واعتياد، بل بالحري هي ثمرة الطبيعة التي لا تعرف التحول، والتي لا تحتاج
الى عون الهي في المشورة لكي تفعل اي شيء. لأنه بالنسبة الى المخلوقات، إذ هي يمكن
ان تتحول الى الأسوأ، وتتغير مما هو أفضل الى ما هو أسوأ، فإن الصلاح فيها يكون ثمرة
اتجاه نحو التقوى والفضيلة، وأما بالنسبة الى الطبيعة الإلهية التي فوق الكل، فليس
الأمر هكذا. لأنه حيث ان كل تغير وتحول ليس له مكان فيها، فإن الصلاح هنا يكون ثمرة
الطبيعة التي لا تقبل التغير، وذلك مثل الحرارة بالنسبة للنار والبرودة بالنسبة للثلج.
لأنه من الواضح ان النار لها فعلها الخاص بها وهو ليس ارادياً بل طبيعياً وجوهرياً،
وهي لا يمكن ان تكون غير ذلك إلا إذا أُبعدت عن فعلها بأمر صانعها. لذلك فالابن ليس
مثلنا او مثل اي واحد من الخليقة العاقلة التي تحكمها الإرادة والحرية للسعي نحو عمل
ما يرضي الله الآب، فالابن الوحيد لا يقول مثل هذا، ولكنه يتبع قوانين طبيعته الخاصة،
ولا يفكر او يعمل شيئاً إلا بحسب مشيئة ذلك الذي ولده. لأنه كيف يستطيع اللاهوت الواحد
الذي له نفس الجوهر ان يكون مختلفاً على الإطلاق مع نفسه؟ او كيف يمكن ان يعمل ما لا
يريده، وكأن هناك من له سلطان ان يحوله الى اتجاه آخر؟ لأنه رغم ان الله كائن بذاته
وبنفسه، وبالمثل ايضاً الابن والروح، إلا ان الثالوث القدوس الواحد في الجوهر لا يتمزق
ويصير الى انفصال كامل، بل ملء (الثالوث) الكلي هو في طبيعة واحدة للاهوت.

          وبالإضافة
الى ذلك ينبغي ان نعتبر ايضاً انه لا يستطيع منطقياً، اي جدل ان يُنزل الابن من كونه
من نفس الطبيعة الواحدة مع الآب، ملاحظين انه أكد أنه "دائماً يعمل ما يرضيه"،
بل بالحري إذ هو من نفس الجوهر معه لذلك يُعترف به أنه إله من إله بالطبيعة وبالحق.
(فأخبرني) من الذي سيدرك أمور الله بطريقة الهية ودقيقة ما لم يكن هو نفسه ايضاً بالطبيعة
الهاً، او من الذي يعمل دائماً ما يرضيه ان لم يكن له طبيعة لا يلحق بها الشر، وله
شركة في الكرامة المتميزة للطبيعة الإلهية. وأنا أعني انه لا يعرف ان يخطئ. لأنه كُتب
عن المخلوق، "من يفتخر ان قلبه نقي، ومن يثق انه طاهر من الخطايا"؟ (أم
20 : 9س). وفي موضع آخر يمد الكتاب الإلهي قوله الى أقصى حد ويقول : "الكواكب
ليست طاهرة في عينيه" (أي 25 : 5). لأن الملائكة يختلفون اختلافاً كبيراً عن حالتنا
ولهم حالة أكثر ثباتاً من جهة الفضيلة ورغم هذا "لم يحفظوا رئاستهم" (يهوذا
6). لأنه بسبب ان البعض منهم قد انحدروا كلية منذ ذلك الحين وسقطوا في الخطية فإن كل
طبيعة الخليقة العقلية تصير متهمة بأنها متقبلة للخطية، وعاجزة عن عدم التغير الى الأردأ،
كما ان المخلوق العاقل الحي على الأرض المشابه لله، قد سقط في آدم الأول بعد فترة ليست
طويلة. ولذلك فإن عدم القابلية للتغيير والتحول لم تُمنح للمخلوق مطلقاً، وكذلك القدرة
على التماثل بالطبيعة، إنما كل هذه تخص الله وحده بالحقيقة. ولكن هذه كلها تظهر بوضوح
كامل في الابن، لأنه كما قال بطرس : "لم يفعل خطية ولم يوجد في فمه غش"
(1بط 2 : 22). لذلك فالابن هو الله، وهو بالطبيعة من الله الذي لا يعرف ان
&37 يخطئ، ولا يمكن ان يتجاوز مطلقاً
ما يلائم طبيعته. إذن فحينما يعترف انه "يفعل دائماً تلك الاشياء التي ترضي الآب"،
فلا ينبغي لأحد ان يعثر ولا ان يعتبر ان ذلك الذي من الآب هو في وضع أقل من الآب، بل
دعه بالحري يفكر بتقوى انه كإله من إله بالطبيعة فهو له نفس المشورة ونفس العمل مع
ch ذلك الذي ولده.

يو 8 : 30 "وبينما هو يتكلم
بهذا آمن به كثيرون".

          يتعجب الإنجيلي الحكيم
مرات كثيرة من تصغير المسيح لنفسه في كلماته من أجل ضعف سامعيه. وقد اعتاد ان يحقق
بذلك شيئاً عظيماً. لأنه بينما هو كإله كان يمكن ان يتكلم بكل شيء وان يصوغ حديثه بحرية
وبسلطان ملوكي فوق الكل، ويحتفظ بمقياس تدبيري في حديثه؛ فإنه كان يأتي بكثيرين الى
الطاعة، ويقنع كثيرين ان يصغوا اليه بأكثر غيرة. لذلك فإنه هدفه لم يكن بلا معنى، وأعني
حديثه للجموع بطريقة بشرية أكثر، لأن بعضاً من الجهلاء جداً قد اعتادوا ان يثوروا ضده
بدرجة كبيرة وكانوا على استعداد ان يتركوه، اذ كانوا ينظرون انساناً ويسمعون كلمات
الهية.

          ولكن حيث إنه كان الهاً
وانساناً في ذاتية واحدة، دون ان يعطل القدرة الخاصة بكل منهما، ويستطيع ان يتحدث بلا
عيب بأية طريقة يريدها. فإنه فعل هذا بصيغة جيدة جداً بالنظر الى خفة سامعيه، وهو يعلن
عن نفسه بطريقة مختلفة (وذلك في أغلب الأحيان) بالكلام الذي يخص الانسان، مثل قوله
: "لا أفعل من نفسي شيئاً"، وأقوال أخرى مشابهة لهذا القول. ولأنهم لم يفهموا
شيئاً بالمرة بل يهاجمون بدون فحص ما قاله، فإنهم يتجهون الى هذه الطريقة الشائعة الفظة
في فهم الكلام، وظنوا انه قال : لأني نلت قوة من الله، فأنا اصنع المعجزات، وأنه هو
معي حيث إني أفعل دائماً ما يرضيه.

          وأعداء الحق الملعونين
يتفقون في فكرهم مع اليهود غير المقدسين، وهم يناقضون تعاليم التقوى ويحبون المشاحنات
ويفكرون تفكيراً وضيعاً عن الرب، ويقتنصون الأمور التي قيلت بحسب التدبير وبشكل حسن،
لكي يهدموا بها سلطانه ومجده الجوهري، فيتوهون عن جمال الحق. (ويبدو) أنهم لم يتذكروا
بولس الذي قال : "هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله مستأسرين كل فكر
الى المسيح والى طاعته". وهم لم يعرفوا ما قيل عن الأقوال الإلهية بواسطة واحد
من الأنبياء : "من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، وفهيم حتى يعرفها؟" (هو
14 : 9). فلو لم يكن هناك غموض يحيط بها وحجاب معتم يغطيها، فهل كانت هناك حاجة للبحث
عن إنسان حكيم وفهيم لكي يحصل على معرفتها؟

          وبما ان هذا (الذي قلناه)
يكفي للوقت الحاضر، فإننا سنتحدث بالحري عن ما هو أمامنا لنقدم شيئاً نافعاً. وبينما
كان المسيح يتكلم بهذا كان يقول الإنجيلي – آمن به ليس الكل بل كثيرون. فهو اله حق
وليس هناك شيء غير مكشوف تماماً أمام عينيه (أنظر عب 4 : 13)، ويعرف جيداً وبكل دقة
انه لن يأتي بالكل الى الايمان، ومع ذلك فهو يثابر ويعطي حديثاً طويلاً لأولئك الذين
يأتون اليه، معطياً لنا أفضل مثال ومقدماً نفسه نموذجاً لمعلمي الكنيسة. لأنه حتى وإن
لم يكن الجميع قد انتفعوا بسبب رداءتهم، ومع ذلك حيث انه كان من المحتمل ان البعض سيحصدون
خيراً من ذلك، فينبغي ان لا نتباطأ في السير الى ما هو نافع، فإننا إن كنا بسكوت غير
مثمر قد دفنا الوزنة المعطاة لنا، اي النعمة التي بواسطة الروح، فإننا سنكون مثل ذلك
العبد الشرير الذي قال بدون تردد لسيده : "عرفت انك انسان قاسٍ تحصد حيث لم تزرع
وتجمع من حيث لم تبذر، فخفت ومضيت واخفيت وزنتك في الأرض. هوذا الذي لك" (مت
25 : 24، 25). أما ما هي النهاية التي وصل اليها ذلك الإنسان التعس وما هي العقوبة
التي حُكم بها عليه، فإن الإنسان المحب للدرس سوف يعرفها جيداً لأنه سيلتقى بها أكثر
من مرة في الأناجيل. لذلك فدعنا نضع هذا في قلوبنا، ونفكر باستقامة انه من واجبه (المعلم)
ان يكون خالياً من كل تراخٍ في التعليم، وانا اقصد بذلك الإنسان الذي أفرز لهذا العمل،
وان لا يتحول بأية حال الى احتقاره، حتى لو لم يقتنع الجميع بكلماته، بل بالحري فإنك
سوف تبتهج بما تربحه من تعبك. فإن من اللائق ايضاً ان نتبع بكل حكمة كل ما تكلم به
مخلصنا قائلاً : "ليس التلميذ افضل من المعلم ولا العبد أفضل من سيده، يكفي التلميذ
ان يكون كمعلمه والعبد كسيده" (مت 10 : 24، 25). لأنه إن كان الرب نفسه لم يقنع
الكل بسبب أعوجاج وقساوة قلوب السامعين، فمن الذي يلوم كلامنا الذي رغم ضعفه فإنه يحتاج
الى فهم، بحرية وليس عن اضطرار.

يو 8 : 31 "فقال يسوع للذين
آمنوا به، إنكم ان ثبتم في كلمتي فبالحقيقة تكونون تلاميذي".

          ويطلب من أولئك الذين يؤمنون،
موقفاً مؤسساً وثابتاً ومستعداً لسكني ذلك الصلاح الذي سبق ان اختاروه مرة، وهذا هو
الايمان. لأن التذبذب يدل على حماقة تامة وعدم نفع، عارفين ان : "رجل ذو رأيين
هو متقلقل في جميع طرقه" (يع 1 : 8)، ولكن السعي للأمام بثبات للإمساك بما هو
نافع هو بالحقيقة أمر حكيم ونافع جداً. أما من جهة ما يختص بالمعنى الواضح جداً، فهو
يقول هذا : إنهم ان كانوا يريدون ان يطيعوا كلماته، فإنهم بالتأكيد سيدعون تلاميذه
ايضاً. أما بخصوص المعنى الخفي فهو يشير الى هذا : لأنه يقول "ان ثبتم في كلمتي"
فهو يجتذبهم بوضوح بالتدريج وبلطف بعيداً عن التعاليم الموسوية، وينتزعهم من الالتزام
بالحرف ويحثهم ألا يلتصقوا فيما بعد بالأشياء التي قيلت ومورست كمثال، بل بالحري ان
يلتصقوا بكلمته هو، التي هي الإنجيل والكرازة الإلهية. لأنه هو الذي كان على الدوام
منذ القديم يتكلم الينا من خلال الأنبياء القديسين. أما هم فكانوا الوسطاء الذين من
خلالهم تكلم الينا. ولكن كرازة الإنجيل ستُفهم انها هي على الأخص كلمته، لأننا وجدنا
انها اتت الينا ليس بواسطة آخر سواه هو نفسه. لذلك قال وهو متأنس : "أنا الذي
أتكلم انا نفسي حاضر". وبولس ايضاً يشهد قائلاً في الرسالة الى العبرانيين :
"الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بطرقٍ وأنواع كثيرة كلمنا في هذه الأيام
الأخيرة في ابنه" (عب 1 : 1، 2)، ولأن الابن هو نفسه عامل في التعليم، فقد أتى
الينا في أواخر الدهور : ولذلك، فعلى الأخص فإن تعليم الإنجيل يُدعى، كلمته. إذن كان
من المناسب ان يُقال بكل وضوح وعلانية : أنتم الذين قبلتم الايمان بي ورغم انكم تأخرتم
إلا أنكم قد اعترفتم بذاك الذي منذ القديم يُكرز به اليكم بواسطة الناموس والأنبياء،
فلا تعودوا فيما بعد متمسكين بالمثال الذي بواسطة موسى ولا تقتنعوا بالالتصاق بظلال
الناموس، ولا تضعوها كأن قوة الخلاص متضمنة فيها كلية، بل إن قوة الخلاص متضمنة في
التعاليم الروحية وفي كرازة الإنجيل التي هي بواسطتي.

          ولكنه كان من المحتمل،
بل بالحري لم يكن أمراً مشكوكاً فيه، إن عدم قبولهم الايمان الى الآن وبصعوبة، واهتزاز
فهمهم وعدم استقراره لن يجعلهم يحتملون مثل هذه الكلمات، ولن يصمدوا بالمرة، إذ أنهم
ميالون دائماً للغضب. ولكن كما لو ان موسى الحكيم جداً قد أهين بذلك وصار كلا شيء بسبب
ان الاشياء التي اعطيت لهم منذ القديم بواسطته قد احتقرت؛ فإنهم قد انقلبوا بسهولة
الى جسارتهم المعهودة، وإذ قد وضعوا دائماً في أنفسهم ان يكونوا متفقين معه (مع موسى)،
فإنهم لم يعودوا يفكرون بعد في ان يؤمنوا بالمسيح.

          لذلك إذ هو يرتب أمور موسى
بطريقة تدبيرية وخفية في مقابل كلماته هو، اي يضع كرازة الإنجيل في مواجهة الناموس،
ويضع التعاليم الجديدة في مركزٍ سام جداً بالنسبة للتعاليم القديمة، فيقول :
"إن ثبتم في كلمتي فبالحقيقة تكونون تلاميذي"، لأن الذين هم بارزون في الايمان
الكامل ويقبلون تعليم الإنجيل في ذهنهم بدون تردد، ولا يهتمون بحفظ ظل الناموس، فهؤلاء
هم بالحقيقة تلاميذ المسيح. بينما الذين لا يفعلون هكذا، فإنهم يعبثون بأنفسهم، ولا
يستطيعون ان يكونوا تلاميذاً بالحقيقة، ولذلك يسقطون بعيداً من الخلاص. وبولس المبارك
يكتب عن حق وصراحة لأولئك الذين يريدون بحماقة ان يتبرروا بالناموس بعد ان آمنوا فيقول
: "قد تبطلتم (انقطعتم) عن المسيح ايها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة"
(غلا 5 : 4). كم هو عجيب إذن وثمين هو الإيمان الفريد والرغبة القوية في اتباع المسيح،
تلك الرغبة التي تجذب ظلال الناموس الى معرفته (المسيح)، وتحول الأشياء التي قيلت في
لغز الى تهذيب روحي. لأن سر المسيح يُكرز به بواسطة الناموس والأنبياء.

يو 8 : 32 "وتعرفون (وستعرفون)
الحق والحق يحرركم (سيحرركم)".

          هذه العبارة لا تزال غامضة
وغير واضحة تماماً، ومع ذلك فهي تحمل معنى متصل بما سبقها من كلمات. ورغم انها مُصاغة
بشكل آخر فإنها ستأتي بنا الى نفس المعنى. لأنها تحث أولئك الذين سبق ان آمنوا بفرح
ان يتركوا العبادة التي بحسب الناموس ويبتعدوا عنها، معلمة اياهم ان الظل يرشدنا الى
معرفته، وإننا إذ نترك الأمثلة والألغاز ينبغي ان نتقدم بإصرار الى الأمام، الى الحق
نفسه، اي المسيح واهب الحرية الحقيقية والفادي. (ويقول) "ستعرفون الحق إن ثبتم
في كلماتي وبمعرفتكم للحق ستجدون المنفعة الناتجة عنه. إذن لنقبل ان ربنا كأنه يقول
مثل هذا الأمر لليهود (لأني أظن أننا ينبغي ان نوسع تأملنا حول ما هو أمامنا الآن لأجل
منفعة القراء) : (فيقول لهم) أنتم احتملتم عبودية مُرة في مصر وعناءً طويلاً ارهقكم
انتم الذين قد صرتم تحت عبودية فرعون المرة، ولكنكم صرختم حينئذ الى الله وقد حركتموه
الى الرحمة نحوكم مولولين بسبب الشرور التي أتت عليكم وطلبتم فادياً من السماء : ولهذا
أنا افتقدكم حينئذ واخرجتكم من أرض غريبة محرراً إياكم من قمع شديد الوحشية جداً داعياً
اياكم الى الحرية. ولكن لكي تعرفوا من هو معينكم وفاديكم فإني كنت ارسم لكم سر نفسي
في ذبيحة الخروف، وجعلته يشير مقدماً الى الخلاص بواسطة الدم : لأنكم خلصتم بمسح انفسكم
ومسح قوائم الأبواب بدم الحمل. وإذ تخرجون عن الأمثلة، حينما تتعلمون الحق، فإنكم سوف
تصيرون أحراراً كلية وبالحقيقة. (ويقول) لا تدعوا أحداً يشك في هذا الأمر. لأنه ان
كان المثال في ذلك الوقت قد منحكم خيرات عظيمة بهذا المقدار، فكيف لا يمنحكم الحق بالحري
نعمة أكثر غنى؟

          فلا يوجد شيء يمنعنا من
ان نفترض ان يسوع كان يقول هذا لليهود ما دام حديثه يتطرق الى مجال واسع من الفكر.
ولكن من المحتمل ان يكون هناك معنى آخر ايضاً يشع من الكلمات التي أمامنا. فالناموس
وضع من خلال موسى الغسلات والرش، وأكثر من ذلك فكل من حدث له ان يُمسك وان يسقط في
حفرة الخطية، أمره (الناموس) ان يقدم ثوراً او خروفاً وهكذا يبطل اللوم على تعديات
كل واحد. ولكن لا نفع من هذه الأمور لأجل التطهير من الخطية لأنها لن تحرر المُدان
أبداً من اللوم، ولن تحرر أولئك الذين يتعدون الناموس الإلهي، من ضرورة العقاب. لأنه
ما الذي ينتفع به المتعدي من تضحية الثيران، وأي ربح سيحصل عليه من ذبح الخراف؟ لأنه
ما الذي سيسر الله من هذه (الذبائح)، وهو قد أُهين بتعدي الناموس. فاسمعه يقول :
"هل آكل لحم الثيران او أشرب دم التيوس" (مز 49 : 13س). ومع ذلك يقول لليهود
بصراحة : "ضموا محرقاتكم الى ذبائحكم وكلوا لحماً، لأني لم أتكلم الى آبائكم عن
محرقات وذبائح، ولكن هذا هو ما أمرتهم به قائلاً، احكموا حكماً عادلاً" (إر 7
: 21-23س).

          لذلك فإن الإقتراب من خلال
الدم هو عديم النفع تماماً، وهو لا يستطيع ان يغسل الوصمة التي لوثت الإنسان بالخطية.
وستحصلون ايضاً على برهان آخر حينما ترونه يقول لأورشليم ام اليهود بصوت إرميا :
"لماذا صنعت حبيبتي فظائع في بيتي، هل تنزع الصلوات واللحم المقدس شرك منك، وهل
بهذه الأشياء تهربين؟" (إر 11 : 15س). لأنه كما يقول بولس : "لأنه لا يمكن
ان دم ثيران وتيوس يرفع خطايا" (عب 10 : 4). ولكن بسبب اهتمامهم بعبادة غير مثمرة
وكانوا غيورين ان يقدسوا تقدمات بواسطة الدم او قرابين بدون غاية نافعة، لهذا السبب
فإنهم قد طُردوا من الدار الإلهية. وهذا ما يعلمه الله ايضاً بفم اشعياء قائلاً :
"لا تعودوا تدوسوا دوري، ان قدمتم تقدمة دقيق فهي باطلة، البخور مكرهة لي"
(إش 1 : 12، 13س). لذلك فلا يوجد خلاص حقيقي في هذه (وأعني فرائض الناموس)، ولن يربح
أحد الحرية المشتاق اليها جداً، وأنا أعني الحرية من الخطية، وبارتفاعنا قليلاً فوق
الأمثلة نرى جمال العبادة في الروح، ونعترف بالحق اي المسيح، فإننا نتبرر بالإيمان
به. وإذ نتبرر فإننا نعبر الى الحرية الحقيقية، ولا نُحسب فيما بعد بين العبيد كما
كنا من قبل، بل نُحسب بين أبناء الله. ويشهد يوحنا بهذا قائلاً عن المسيح وعن الذين
يؤمنون به : "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً ان يصيروا أولاد الله"
(يو 1 : 12). إذن فإن ربنا المسيح بطريقة نافعة – لا يسمح للذين يؤمنون به ان يعجبوا
بعد بظلال الناموس، (لأنه لا يوجد فيها ما ينفع او ما يمنح الحرية الحقيقية) بل يدعوهم
بالحري ان يعرفوا الحق، لأنه بواسطة الحق – كما يقول – سوف يصيرون أحراراً تماماً،
بحسب ما تدل عليه الكلمات.

يو 8 : 33 "نحن ذرية ابراهيم
ولم تستعبد لأحد قط، فكيف تقول أنت إنكم تصيرون أحراراً"؟

          إنهم يسخرون من وعد ([xiii])
مخلصنا، بل بالحري فإنهم يأخذونه بمعنى سيء كما لو كانوا قد اهينوا. (وكأنهم يقولون)
: نحن الذين لم نصر تحت العبودية بالمرة فكيف تقول عنا إننا نحتاج لواحد يدعونا الى
الحرية، ولمن يعطينا شيئاً أكثر مما نملكه في أنفسنا. ولكنهم يجهلون – رغم أنهم يتصورون
أنهم حكماء – ان جدهم ابراهيم لم يكن أباً مرموقاً بحسب العالم ولا ذا شهرة عالية بين
أولئك الذين هم موضع الإعجاب في هذه الحياة، ولكن صار مكرماً فقط بالايمان بالله. لأنه
مكتوب "فآمن ابراهيم بالله فحسب له الايمان براً ودعي خليل الله" (يع 2
: 23). فأنت ترى اذن بوضوح تام سبب شهرته العظيمة. فحيث انه دعي خليل الله الذي هو
ضابط الكل، فقد صار لهذا السبب عظيماً وشهيراً وحُسب له ايمانه براً، والبر الذي بالايمان
قد صار بالنسبة له سبب الحرية في علاقته بالله.

          لذلك، فحينما تبرر بالايمان
– اي حينما تخلص من ميلاده الوضيع الذي من الخطية – فحينئذ – ظهر لامعاً وحراً ومن
أصل نبيل. إذن فاليهود بحماقة يحتقرون النعمة التي حررت مؤسس جنسهم نفسه، ويتجهون فقط
الى الذي تحرر بواسطة هذه النعمة، ولكنهم لا يدركون من أين او الى اين يشير ما هو لامع
فيه. وهكذا يحتقرون الذي أعطاه الأشياء الممتازة التي فيه؛ وإذ يتركون ينبوع كل سمو
فإنهم يعظمون ذلك (أي ابراهيم) الذي هو آخذ من هذا الينبوع. ولكن سيُمسك بهم وهم يتباهون
باطلاً بأنهم لم يكونوا عبيداً لأي إنسان، وما يقولونه بخصوص هذا سوف يتبرهن انه كذب.
لأنهم كانوا عبيداً للمصريين مدة 430 سنة وتحرروا من بيت العبودية "ومن آتون الحديد"
كما هو مكتوب (تث 4 : 20) للتعبير عن استبداد المصريين وتم ذلك بواسطة النعمة التي
من فوق. وقد استبعدوا ايضاً للبابليين والأشوريين حينما أجلوا بلاد اليهودية كلها وأورشليم
نفسها ونقلوا كل اسرائيل الى أراضيهم. إذن فليس كلام اليهود صحيحاً من أي ناحية، لأنهم
بالإضافة لكونهم يجهلون عبوديتهم الحقيقية، أي عبوديتهم للخطية، فإنهم ينكرون تماماً
العبودية الأخرى الوضيعة، واعتادوا ان يفكروا تفكيراً متكبراً في ما لا قيمة له.

يو 8 : 34 "أجابهم يسوع الحق
الحق أقول لكم ان من يعمل الخطية هو عبد للخطية".

          وهو ينزع عنهم جهلهم المتأصل،
هؤلاء الذين هم حيوانيون وينظرون فقط الى الأمور الجسدية، وهو ينقلهم الى ما هو أكثر
روحانية ويأتي بهم الى طريقة تعليم لم تُمارس بالمرة وغير مألوفة، مبيناً لهم عبوديتهم
الخفية والتي لا يعرفونها والتي كانوا مستعبدين بها خلال عصور طويلة. وإذ يقولون كذباً
"لم نُستعبد لأحد قط"، فإنه بحكمة يتجاوز هذه الكلمات، كما أنه لم يقل لهم
بأنهم يفتخرون عبثاً بنبل جدهم، وذلك لكي لا يثيرهم الى فعل ما لا يليق – اي الغضب
– وهو ما كانوا أصلاً معرضين له وميالين اليه جداً. ولكنه يتقدم الى هذا الأمر المنتقد،
وهو ما يحتاجون حقاً ان يتعلموه، ألا وهو ان "من يفعل الخطية هو عبد للخطية"،
كأنه قال ما يلي : أيها السادة، الإنسان على الأرض تكون من نفس وجسد. عبودية الجسد
تخص الجسد، وأما عبودية النفس فأمها (مصدرها) هي الخطية الغريبة. فتحرر الإنسان من
العبودية الجسدية هذا يتممه السادة، أما التحرر من الخطية فهذا يليق ان يُقال انه خاص
بالله وحده ولا يملك احد هذا السلطان سواه.

          لذلك فهو يحثهم ان يفكروا
بتعقل وان يطلبوا الحرية الحقيقية والواقعية، وهكذا ان يطلبوا ليس شهرة الأجداد – وهذا
لا ينفعهم بأي شيء – بل بالحري ان يطلبوا الله وحده المهيمن على نواميسه الخاصة باليهود،
والتي إذا تعدوها، فإن تعديها ينشئ الخطية التي تغذي عبودية النفس. ولكن ربنا يسوع
المسيح يبدو أنه بطريقة خاصة وغير مكشوفة تماماً، يوبخهم لأنهم يفكرون باطلاً أفكاراً
عظيمة عن إنسان ويظنون ان ابراهيم المغبوط كان حراً تماماً. فهو إذ يوضح بصورة عامة
ان "من يفعل الخطية هو عبد للخطية"، يجعل ابراهيم نفسه انه كان مرة عبداً
للخطية وداخل شراكها. إذ انه تبرر لا لكونه هو نفسه باراً، بل حينما آمن بالله الذي
دعاه حينئذ الى الحرية بتبريره له.

          ونحن نقول هذا لا كأننا
ننازع بخصوص شهرة الرجل البار، بل حيث إنه لا يوجد بين الناس من لم يُجرب بسهام الخطية،
فهو ايضاً، الذي اشتهر انه عظيم كان بالتأكيد تحت نير الخطية كما هو مكتوب "ليس
بار ولا واحد.. الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو 3 : 10، 23). أما مجد الله
هذا – بالإضافة الى أمور أخرى – فهو ان يكون (الانسان) غير قابل بالمرة للسقوط في الخطية،
وهو الأمر الذي حفظ للمسيح وحده، لأنه هو وحده كان "حراً بين الأموات" (مز
87 : 6س). لأنه لم يفعل خطيئة ومع ذلك صار بين الأموات، اي انه حُسب بين البشر الذين
تسلط عليهم موت الخطية مرة.

          لذلك (لأني سألخص الغاية
مما قد قيل)، فإن الرب كان يوضح ان ابراهيم المغبوط نفسه ايضاً كان مرة مستعبداً للخطية.
وبواسطة الايمان وحده بالله صار حراً، وهو لم ينل قدرة ان ينقل الى السمو الروحي الى
الآخرين، حيث انه لا يملك السلطان على تحرير الآخرين، وهو الذي تحرر من عبودية الخطيئة
ليس بواسطة نفسه، ولا هو منح نفسه بنفسه الحرية، بل نال الحرية من آخر، اي المسيح نفسه
الذي يبرر.

يو 8 : 35 "والعبد لا يبقى في
البيت الى الأبد، أما الابن فيبقى الى الأبد".

          وإذ قد أوضح أن الذي هو
مذنب بالخطيئة فهو ليس حراً بل في عبودية مرة، فهو يقول بطريقة نافعة : ما الذي سيحدث
لمن قد أحب العبودية؟ وأيضاً ماذا سيكزن نصيبهم من الله أولئك الذين قد أختاروا أن
يحيوا حسب الناموس، ولذلك فقد حسبوا بين أبناء الله. وهو يقول أن "العبد لا يبقى
في البيت إلى الأبد"، (لأنه في الحقيقة والواقع سوف يمضي إلى الظلمة الخارجية
لكي يدفع هناك عقوبة حياته المستعبدة). اما الابن فيبقى إلى الأبد، لأن أولئك الذين
قد تمتعوا مرة بكرامة التبني سوف يبقون في حضرة الله ولن يُطرحوا من ساحة الأبكار المقدسة،
بل بالحري يقضون هناك وقتاً طويلاً وأبدية عظيمة لا ينطق بها.

          وأنتم ستفهمون بدقة ما
قيل إذا قرأتم مثل الإنجيل الذي فيه (كما يقول النص)، سوف يقيم المسيح "الجداء
عن يساره والخراف عن يمينه" (انظر مت25 : 33)، وأنه سوف يرسل الجداء بعيداً قائلاً
: "اذهبوا عني يا ملاعين إلي النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت
25 : 41). وسوف يجمع الخراف إليه ويقبلهم بابتهاج قائلاً : "تعالوا يا مباركي
أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت25 : 34). لأن المقصود بالجداء
هي المجموع غير المثمرة التي تحب الخطية، والمقصود بالخراف هم خورس الأتقياء المحملين
بثمر البر، الذي يشير إليه الصوف. لذلك فمن يحمل عار العبودية سوف يُلقى بعيداً عن
ملكوت السموات مثل آنية غير نافعة وغير كريمة، أما كل من يحب أن يحيا باستقامة فسوف
يُقبَل وسوف يسكن هناك، ولذلك يُحسَب بين أبناء الله. ويبدو محتملاً أن الرب في قوله
هذه الأمور، يشير أيضاً إليهم، أي انهم إن لم يقبلوا الحرية التي تأتي من خلال الإيمان
فبالتأكيد سوف يخرجون خارج البيت المقدس الإلهي، أي الكنيسة، كما قيل بواسطة احد الأنبياء
"وسأطردهم من بيتي" (هو 9 : 15). لأن ذلك الذي سبق الكلام عنه قد بلغ نهايته،
وطبيعة الأشياء تشهد بذلك. لأن "ابنة صهيون تُركت كمظلة في كرم، كخيمة في مقثأة"
كما هو مكتوب (اش1 : 8). فالهيكل سقط وتحطم تماماً، وهم ذهبوا خارجاً غير باقين فيه
إلى الأبد، وقد نشأت كنيسة الأمم وأقامها المسيح مكانهم، والذين قد دُعوا إلى التبني
الإلهي بالإيمان يبقون فيها إلى الأبد. لأن فخر الكنيسة لن يزول أبداً، فنفوس الأبرار
تنتقل من أمور الأرض وترسوا بأمان في المدينة التي هي فوق، أورشليم السماوية، كنيسة
الأبكار "التي هي امنا" (غلا 4 : 26) بحسب قول بولس.

          ولكن حيث إننا نفحص في
ما قيل عن العبودية ونرغب بكل طريقة ان نصل إلى الحق، فقد قلنا إن إبراهيم نفسه كان
معدوداً بين العبيد، وحتى هو نفسه لم نضعه خارج دائرة تأملاتنا لأن المسيح قال بشكل
عام : "كل من يفعل الخطيئة هو عبد للخطيئة" (يو8 : 34). فهيا بنا إذن نتتبع
كلماتنا الخاصة لكي نوضح قوة ما قيل. فاليهود كانوا يفكرون أفكاراً عظيمة ومبالغاً
فيها واضعين إبراهيم كرأس ونبع لنبل أصلهم. ولكن كون أن الحصول علي الحرية يحتاج غلى
النعمة التي من فوق، فهذا لم يقبلوه ولا حت بالفكر المجرد، إذ هم "جهال وعميان"
بحسب قول المخلص (مت 23 : 17).

          لذلك كان من الضرورى أن
يوضح المسيح أن الذي هو عبد بالطبيعة لا يكون كفواً لتحرير الآخرين، ولا(لتحرير) نفسه
على الإطلاق. لأنه كيف يمكن لمن تعوزه الحرية كطبيعة خاصة به، ان يعطي الحرية لنفسه،
وذلك الذي يستعير نعمته من آخر، كيف تكفي (هذه النعمة) ليزود آخر بها، فإن ذلك الذي
هو وحده بالطبيعة إله من إله، يليق به ويحق أن يُنسب له السلطان أن يُحرِر. لذلك فهو
يعطي برهاناً واضحاً أن كل واحد ينبغي بالضرورة أن يُعترَف بأنه عبد، وهو ذاك الذي
لا يبقى إلى الأبد، أي الذي لا يبقى دائماً على حاله. لن كل شئ مخلوق يكون بالتأكيد
أيضاً خاضعاً للفساد (الاضمحلال). والذي هو هكذا يكون عبداً لله الذي أوجده. لأنه قد
قيل له من جهة المخلوقات "لأن كل الأشاء هي مستعبدة لك" (118 : 91س). وهذا
الذي قيل هو كلام له صفة العمومية. وإبراهيم المبارك هو جزء واحد من هذا الكل، أي من
كل البشرية. ولكن "البقاء إلي الأبد" يعطي علامة واضحة أن الإله الوحيد الذي
يشرق من الله هو ملك الكل ورب الكل. لأن من هو الذي يحق له أن يكون دائماً هو هو نفسه
ويكون راسخاً في امتلاكه الأكيد للخيرات الأبدية سوى من هو بالطبيعة الله؟ وبهذه الطريقة
فإن المرنم الإلهى أيضاً، يبين لنا أن المخلوق هو عبد، وأن الله الكلمة الذي أشرق من
الله الآب هو ملك ورب.

          لأنه (المرنم) إذ يمتد
بالنظر العقلي من جزء واحد إلى الخليقة كلها، ويقول عن السموات وعن ذاك الذي هو إبن
بالطبيعة : "هي ستبيد أما أنت فتبقى، وكلها كثوب ستبلى وكرداء تغيرهن فتتغير،
ولكن أنت وسنوك لن تفنى" (مز27، 101 : 26س). ألا ترى، كيف أنه أيضاً، بهذا الاعتراف
الحسن جداً والصادق جداً، يبين أن العبد لا يبقى غلى الأبد أما الابن فيبقى، وأن عدم
البقاء هو برهان أن من يشار إليه بهذه الصفة هو العبد؟

          وعلى هذا النحو أيضاً فإن
(الصفة) الأخرى، أى البقاء إلى الأبد تكون علامة واضحة على أن الذى تقال عنه مثل هذه
العبارة هو-بصواب وبحق الرب والإله.

          يكفينا إذن أن المرنم يشهد
لما نقول، ولكن حيث إنه-كما هو مكتوب-"على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة"
(2كو12 : 1،تث19 : 15)، فهيا بنا نبين ما يفكر به أيضاً ارميا المبارك وما يقوله باتفاق.
لأنه يبين أن كل ما هو مصنوع هو عبد بسبب كونه قابلاً للفساد، ويبين أن الابن بسبب
أنه يبقى وأنه غير متغير هو بالطبيعة الله، ولذلك فهو أيضاً الرب، وهكذا يقول له :
"لأنك أنت تجلس إلى الأبد ونحن نفنى إلى الأبد" (باروخ 3 : 3). لأنه في كل
زمان، فإن المخلوق هو قابل للفساد بسبب كونه مصنوعاً رغم أنه بقوة الله-لا يفسد (لا
يتحلل). أما الله فسوف يجلس إلى الأبد. وما يدعى هنا جلوساً يشير إلى الرسوخ والثبات
غير المتغير لجوهره مع تركزه ولمعانه في الهيئة الملوكية والحقيقة الملكوية، لأن الجلوس
هو صورة لهذه الأمور.

          وإذ أعود مرة أخرى إلى
ما قلته في البداية-فإنه يبين "من عدم البقاء إلى الأبد" أن إبراهيم المبارك
كان قابلاً للموت، وأنه كان مخلوقاً لأنه قد مات وخرج بصورة ما-من بيت السيد، أي خرج
من هذا العالم. وبنفس المنطق فإنه يريدنا أن نفهم عنه (إبراهيم) أنه أيضاً عبد وهكذا
فإنه ليس كفواً لأن يمنح الحرية لآخرين. وبالقول عن الابن إنه "يبقى إلى الأبد"،
فهذا يعني بوضوح أنه إله من إله بالطبيعة، والذي يترتب عليه بالتأكيد أنه ملك ورب.
وسوف يتضح فيما يلي بالتتابع ماهو التدبير المستخلص من الاختلاف المذكور أعلاه.

          يو 8 : 36 "إن حرركم
الابن فبالحقيقة تكونوا أحراراً"

          (يقول) إن القدرة على التحرير
تختص فقط بذاك الذي هو وحده بالطبيعة ابن حر بالحقيقة، ومنفصل عن كل عبودية، ولا تختص
بأي أحد آخر سواه. فكما انه بسبب كونه بالطبيعة الحكمة والنور والقوة، فهو يجعل الذين
يتقبلون الحكمة حكماء، وينير أولئك الذين ينقصهم النور، ويقوي أولئك الذين تعوزهم القوة.
وهكذا بسبب أنه إله من إله، وهو الثمرة الأصيلة والحرة للجوهر الذي يهيمن على الكل،
فإنه يمنح الحرية لمن يشاء. لا يستطيع أحد أن يصير حراً بالحقيقة إلا عن طريق من يملك
الحرية بالطبيعة. ولكن حينما يريد الابن نفسه أن يحرر أي أحد جاعلاً صلاحه الخاص فيه،
فإنه يدعى بالحقيقة حراً بنواله الجدارة من ذاك الذي له السلطان وليس من أي أحد من
أولئك الذين قد استعاروها من آخر، وبذلك صاروا لامعين بواسطة النعم الغريبة عنهم. لذلك
فإن الشرح السابق هو ضروري جداً، وهناك نفع عظيم يترتب على هذا التمايز لفائدة الغيورين
على سماع هذا الشرح باجتهاد أكثر. لأنه من الصواب أن نفهم لماذا كان من الضروري أن
نسعى إلى السمو حسب الله، وأن نتعلم أن الابن يستطيع أن يجعلنا أحراراً. إذن، فدع أولئك
الذين يفرحون بكرامات العالم أن يعلموا أنفسهم ألا ينتفخوا بالخداعات المتكبرة، ودعهم
لا يطعنون في مجد القديسين ونعمتهم، حتى لو كانوا القديسون صغاراً ومن أصل صغير من
جهة الجسد. فعدم كون الإنسان شهيراً بين الناس لا يكفي لأن يجعله عظيماً أمام الله،
أما أن يكون الإنسان عظيماً في طريق حياة الفضيلة فهذا يجعله حراً بالحقيقة وسامياً.
"فيوسف بيع عبداً" كما هو مكتوب (مز 104 : 17س) ولكن رغم ذلك فقد كان حراً
وكله تألق في سمو النفس. وعيسو ولد من أب حر وكان في الواقع حراً، ولكن بوضاعة طرقه
أظهر ذهناً مستعبداً. لذلك فكما قلنا حالاً، فالعظماء قدام الله ليسوا هم الذين يملكون
الثروات وعندهم خيرات كثيرة ويفتخرون بالكرامات اللامعة الخاصة بالعالم، بل هم الذين
يتألقون بحياة مقدسة وسيرة لائقة قانونياً.

          يو 8 : 37 "أنا أعلم
أنكم ذرية إبراهيم، ولكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم".

          وبعد أن أوضح لهم بطرق
كثيرة أن الافتخار والغرور الناتج من كونهم أقرباء لإبراهيم هو باطل تماماً وخالٍ من
كل صلاح، فهو يقول هذا لكي يطلبوا السمو الحقيقي والذي هو محبوب عند الله. لأن الله
ينظر ليس إلى الجسد-وذلك حسب ما قاله مخلصنا المسيح نفسه : "الجسد لا يفيد شيئاً"
(يو6 63)، بل بالحري هو يقبل النفوس السامية ويحسبها مستحقة لكل مديح، ويعرف أن المتماثلين
في العمل ولهم نفس الأخلاق أى ذوي الفضيلة الواحدة، هؤلاء لهم قرابة حقيقة (معه)، وهذا
يجعلهم مكرمين بأن يكون لهم نفس الأفكار الصالحة، والعكس صحيح. لأنه كيف ندعي أقرباء
الرب الكل نحن الذين من الأرض "والمصنوعين من الطين" كما هو مكتوب (أيوب
33 : 6)، كما يقول بولس عن هذه القرابة "فإذ نحن ذرية الله"؟ (أع 17 :
29). لأننا نعترف بأننا قد جُعلنا أقرباء للرب بسبب الجسد الخاص بسر المسيح (أي سر
تجسده). ولكن بطريقة أخرى، من الممكن أن نرى هذا موجوداً حقاً. لأننا إذ نفكر بأفكاره
ونعزم-بطريقة غير سطحية-أن نعيش بتقوى، فإننا نُدعى أبناء الله الذي هو فوق، ونشكل
أذهاننا لكي تكون حسب مشيئته بقدر ما نستطيع، وهكذا فإننا بمماثلته ومشابهتنا الدقيقة
جداً نصير أقرباء الله.

          ويمكننا أن نعرف بوضوح
أن الله يعتبر المماثلة والمتشابهة الدقيقة في الأعمال أو في الطرائق، أن لها قوة القرابة،
وذلك إذا فحصنا بعمق في الأقوال المقدسة وفتشنا الكتاب المقدس. لذلك، ففي أيام ارميا
النبي كان هناك نبي كذاب يدعى شمعيا إلاميتيس (النحلامي) (انظر ار29 : 24)، "يخرج
كلاماً من قلبه وليس من فم الرب" كما هو مكتوب (إر 23 : 16). وحيث إنه كان يوجد
شهود كذبة كثيرون وأنبياء كذبة يتجولون وسط الشعب ويحاولون ان يجذبوهم بعيداً الى ما
هو غير لائق، فإن الله رب الكل غضب عليهم أخيراً عن حق. وبعد ان تحدث بكلمات كثيرة
على شمعيا وأعلن بتفصيل أكثر العقوبات التي ينبغي ان يعاقب بها بسبب عمل جسارته، يضيف
أخيراً : "وسأفتقد شمعيا وذريته حسب الجسد الذين عملوا مثل أعماله" (ار
29 : 32). أتسمع كيف يربط القرابة بالأعمال؟ لأنه كيف يمكن لذاك الذي يدين بالعدل ان
يعاقب مع شمعيا ذريته حسب الجسد الذين ليست أخلاقهم مثله في الوضاعة، وهو يقول بوضوح
بواسطة حزقيال النبي "النفس التي تخطئ هي تموت"؟ (حز 18 : 4). إذن، فلكي
لا يتخيل الواحد منا شيئاً من هذا النوع بخصوصه عندما قال "ذريته"، فقد أضاف
مباشرة "الذين أعمالهم مثله"، محدداً بأن القرابة هي في تماثل العمل.

          ولكن لكي نرى ان ما قيل
إنما يصدق على اليهود أنفسهم، دعونا نتذكر كلمات يوحنا المعمدان القديس، فإنه لكي يوضح
ان افتخارهم بالقرابة لإبراهيم هو باطل، يقول : "ولا تفتكروا ان تقولوا في أنفسكم
لنا ابراهيم أباً. لأني أقول لكم إن الله قادر ان يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم"
(مت 3 : 9). وحيث إن الله قد قال له "تكثيراً أكثر نسلك كنجوم السماء" (تك
22 : 17)، فإن شعب اليهود إذ قد استندوا على ان الذي وعد هو بالتأكيد وبالضرورة لا
يكذب فكروا بتعظم، وكانوا يتوقعون انهم لا يمكن ان يسقطوا من قرابتهم لجدهم بأية حال،
وذلك لكي يظل الوعد الإلهي محفوظاً. ولكن المعمدان المبارك، إذ يلاشي رجاءهم هذا يقول
بكل وضوح "ان الله قادر ان يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم" (مت 3
: 9). ويتفق مع هذه الكلمات بولس المبارك قائلاً : "لأن ليس جميع الذين من اسرائيل
هم اسرائيليون ولا لأنهم من نسل ابراهيم هم جميعاً أولاد" (رو 9 : 6). لذلك، اذ
يتضح الحق من كل جانب بأن الله يربط القرابة بالأخلاق والعادات، لذلك فإن الافتخار
بالأجداد القديسين والصالحين يكون باطلاً عندما يكون الإنسان بعيداً عن فضيلتهم.

          لهذا السبب يقول الرب لليهود،
"أنا أعلم أنكم ذرية ابراهيم لكنكم تطلبون ان تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم".
(كأنه يقول)، نعم فحينما أنظر الى القرابة حسب الجسد فقط وأفكر من أين اتى شعب اليهود،
حينئذ أرى أنكم ذرية ابراهيم، ولكن حينما أنظر الى جمال سيرته وتصرفه، أرى انكم غرباء
عنه ولم تعودوا أقرباء له. لأنكم "تطلبون ان تقتلوني رغم ان جدكم الذي تفكرون
عنه الآن بأفكار عظيمة، لم يكن قاتلاً، بل وما هو أرادأ ومضاد تماماً للشريعة، أنكم
تضطهدوني بدون أسباب عادلة، بل أنتم تريدون قتلي عن ظلم كامل، لأنه لهذا السبب وحده
أنتم تخططون لقتلي، "لأن كلامي لا موضع له فيكم"، رغم اني ادعوكم الى الخلاص
والحياة. "وكلامي لا موضع له فيكم"، بسبب الخطية التي تسكن فيكم، والتي لا
تسمح للنصيحة والمشورة الصالحة ان يكون لها مكان فيكم.

          لذلك، فاليهود هم قتلة
وقضاة ظالمون جداً، إذ هم يقررون انهم يجب ان يجازوا بالموت ذاك الذي لم يسيء اليهم
بشيء، بل بالحري كان مهتماً بأن يصنع معهم الخير، وهو غيور على خلاصهم. فكيف يكونون
بعد أقرباء لإبراهيم البار الصالح، هؤلاء الذين ابتعدوا جداً عن الصلاح الذي كان فيه،
وقد انحرفوا بعيداً جداً عن مماثلته في السلوك، كما ينبغي ان يعترف الإنسان انهم كانوا
بعيدين عن ذلك ابتعاد الرذيلة عن الفضيلة.

يو 8 : 38 "أنا أتكلم بما رأيت
عند أبي، وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم".

          قال (الرب)، إن كلمته ليس
لها موضع عند اليهود، واذ هو بالحري يوبخهم على رغبتهم في قتله، كان يلزم ان يضيف هذه
الكلمات ايضاً. ولماذا يضيفها؟ هذا ما سوف أشرحه. إنه كان يعلم ان بعض اليهود قد يقومون
ويناقشون كلماته، ويخرجون من جنونهم المتأصل فيهم كلمات، قائلين : ليس بدون سبب (كما
تقول) يريد البعض ان يقتلوك، فإنهم يتحركون لفعل ذلك لأسباب معقولة، فدافعهم هو التقوى
وغيرتهم بعيدة عن كل اتهام عادل : فعدم وجود مكان فيهم لكلمتك سببه انك تجعل كلمتك
غير متوافقه مع الله. أنت تعلمنا ضلالاً آخر وتجتذبنا بعيداً عن الشريعة، وتنقلنا الى
ما يرضي ذاتك وحدك؟ فاليهود اذ هم يهمسون بهذه الأمور في السر او يتخيلونها في قلوبهم،
فإن الرب يواجههم ايضاً، عارفاً بحركات خيالاتهم الداخلية (لأنه هو الإله الحقيقي)،
ولذلك يقول، "أنا أتكلم بما رأيت عند أبي". إني رأيت طبيعة أبي، رأيت كثيراً
– من نفسي وفي نفسي – ذاك الذي ولدني، وأنا أنظر تلك المشيئة التي فيه. رأيت بالمعرفة
الطبيعية الأكيدة ما هي الأعمال التي يحبها، وهذه هي التي اكلمكم بها، ولن أقول شيئاً
لا يتوافق معه، كما إني لم أقرر أي شيء سوى ما يرضيه. كنت مهتماً في دعوتي للذين يسمعونني
بهذه الأشياء (بما يرضيه)، دون أن أترك ما هو لي (لأن كل ما له هو في، وايضاً ما لي
فهو فيه). وأنا الذي هو هكذا بالطبيعة وأنا شريك في الإرادة مع الله الآب في كل الأشياء،
إن كنت أبدو لكم أني لست صادقاً وتعتبرون اني انحرف بكم بعيداً عن التعاليم الإلهية،
فانبذوا هذه التهمة واطرحوا الشك بعيداً واعملوا "ما تسمعون من الآب" فقد
كلمكم بواسطة موسى، تمموا الوصية التي سمعتموه يقولها : "لا تقتل البريء والبار"
(خر 23 : 7). فكيف إذن تطلبون ان تقتلوني وتكسرون وصية الآب؟.

          ولكننا بطريقة أخرى ايضاً
سنتناول الكلمات "اعملوا ما سمعتم من الآب". (وهو يقول) لقد تكلم اليكم بواسطة
الانبياء وانتم سمعتموه يقول ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت اورشليم، هوذا
ملكك يأتي اليك، هو عادل ومخلص، وراكب على جحش ابن أتان" (زك 9 : 9 س). وايضاً
بواسطة صوت اشعياء : "على جبل عال اصعدي يا مبشرة صهيون، ارفعي صوتك بقوة يا مبشرة
اورشليم، ارفعي لا تخافي.. هوذا الهك، هوذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له. هوذا
اجرته معه وعمله قدامه. كراعٍ يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها"
(إش 40 : 9-11س). لذلك فإذ تطيعون وصايا الآب اقبلوا ذاك الذي سبق اخباركم به. كرموا
بالايمان ذاك الذي سبقت الكرازة به. وعلى الأقل دعوا كلمات الآب ان تسود بينكم.

          ولكن ينبغي ان نعرف أنه
يقول ان الناموس هو ناموس الله الآب، رغم انه نطق به بواسطة ملائكة ولم يضع نفسه خارج
عملية اعطاء الناموس. ولكنه يوافق على اعتقادات اليهود الذين آمنوا ان الناموس أُعطى
هكذا (بواسطة ملائكة). ومن أجل التدبير لا يرفض اعتقادهم، لأنه مرات كثيرة يخجلهم لأنهم
لم يقبلوه بسبب ذكره لإسم الآب ([xiv]) أمامهم.

يو 8 : 39 "أجابوا وقالوا له،
أبونا هو ابراهيم".

          يا للجهل الشنيع والذهن
الذي ذبل وانتهى الى عدم الايمان ويفكر في التشاحن والجدال فقط. لأنه بينما يوافق مخلصنا
المسيح ويقول صراحة : "أنا أعلم انكم ذرية ابراهيم" (يو 8 : 37)، فإنهم يصممون
على نفس الشيء وكأن هناك من يرفض ويناقض ويقول انهم ليسوا من نسل ابراهيم حسب الجسد،
فهم يقولون مرة أخرى "أبونا هو ابراهيم"، ولا يخجلون ان يكرروا نفس الكلمات
ظانين انهم لا يتبعون حتى ل "فاتوس
Battus" ([xv])، بينما هم في
الحقيقة ليسوا إلا مجرد مقلدين ممتازين لثرثرة ذلك الإنسان.

          ولكن ربما يكون عندهم
دافع غير معقول بالمرة لهذا الأمر. وما هو؟ هذا هو ما سنخبر به أيضاً. لأنه حينما
يقول الرب "أنا أتكلم بما رأيت عند أبي" (يو 8 : 38)، فهم لم يتخيلوا
انه كان يقصد بهذا الله الآب، بل إنهم ظنوا أنه تكلم إما عن يوسف البار او عن شخص
آخر من الذين على الأرض، ساخرين به ومعتبرينه ومفكرين عنه بأمور وضيعة جداً. لأن
العذراء القديسة حملت بالطفل الإلهي في بطنها ليس من زواج بل "من الروح
القدس" كما هو مكتوب (مت 1 : 18). ويوسف المبارك إذ لم يكن يعرف في البداية
أسلوب التدبير، كان "يريد ان يخليها سراً"، كما يقول متى (انظر مت 1 :
19). ولكن اليهود لم يكونوا يجهلون أبداً ان العذراء القديسة حملت في بطنها
"قبل ان يجتمعا" (مت 1 : 18)، ومع ذلك لم يفهموا أنها حملت من الروح
القدس، بل ظنوا ان واحداً من الشعب قد أفسدها، ولهذا السبب لم تكن عندهم أفكار
سليمة عن المسيح. لأنهم اعتبروا انه كان طفلاً مولوداً من أب آخر وهو الذي (حسب
جنونهم) أفسد العذراء القديسة، وأنه نُسب فقط الى يوسف بينما هو مولود غير شرعي
وليس ابناً بالحق.

          إذن حينما يقول
"أنا أتكلم بما رأيت عند أبي" فهم لم يفكروا انه يتكلم عن الله بالمرة،
بل أنه قصد واحداً من الآباء الأرضيين، وظنوا أنه كان يحاول ان يحرمهم من شرف
الانتساب لجدهم، مفترضين انه كان يعطي لقريبه (الجسدي) الكرامة التي تحق لآخر.
وذلك المجد القويم جداً الخاص برئيس الآباء يواجهون به (المسيح) بطريقة مشاكسة
وعنيفة جداً قائلين "أبونا هو ابراهيم"، لأنهم كما لو كانوا يقولون :
رغم أنك، أيها السيد تمطرنا بكلمات ذكية وتضج حولنا بعجائب رائعة وتقتحمنا بشدة
بأعمال مقتدرة تفوق الوصف، فإنك لن تبعدنا عن افتخارنا القديم، ونحن لن نقر بتسجيل
اسم أبيك كرأس لجنسنا، ولن ننسب مثل هذا المجد الى آخر، ولن نتخذ اجداداً حديثين
بدلاً من أجدادنا القدامى. إنه ليس عجيباً ولا من الصعب ان نصدق ان اليهود يمكن ان
يسقطوا في مثل هذه الحماقة، إذ انهم تخيلوا انه مجرد انسان، وبطرق متنوعة نظروا
اليه كحقير وكانوا يدعونه ابن النجار (أنظر مت 13 : 55). ويحسبون ملك الكل ورب
الكل كأنه لا شيء. ولكنهم ايضاً، لم يكن لهم فكر سليم عن العذراء القديسة، كما لو
كانت تدنست، وهذا سوف تعرفه فيما يلي.

يو 8 : 39 "قال لهم يسوع لو
كنتم أولاد ابراهيم لكنتم تعملون أعمال ابراهيم".

يو 8 : 40 "ولكنكم الآن
تطلبون ان تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله
ابراهيم".

          لكي يخفف من تهور
اليهود بكل طريقة وكل كلمة، فإن المسيح يتحدث اليهم بطريقة محتجبة، ولا يتهمهم
صراحة، بل يخلط اتهامه بكلمات لطيفة، وبهدوء وبطرق متنوعة يمتص غضبهم. ولكن حيث
يرى أنهم أغبياء جداً ولا يفهمون شيئاً مما يُقال، فإنه أخيراً. يجعل حديثه حراً
من كل حجاب وعارٍ من كل غطاء. (فهو يقول) أنه ينبغي وبالضرورة، إن كنتم تؤمنون ان
اعتبار الشخص من بين ابناء ابراهيم هو أعظم كرامة، فينبغي ان تكونوا غيورين للتمثل
بأخلاقه. فيلزم انكم ينبغي ان تتبعوا فضيلة جدكم المحبوبة.

          يلزم وينبغي ان تغاروا
من طاعته وتحبوا هذه الطاعة. فهو قد سمع (الله) يقول : "اذهب من أرضك ومن
عشيرتك وتعال الى الأرض التي اريك اياها" (تك 1 : 12س). ولم يتباطأ بالمرة في
تتميم ما طُلب منه، فإنه أسرع خارجاً من أرضه، معتمداً على رحمة ذلك الذي دعاه،
فوصل الى أرض غريبة. وعندما كان قد وصل الى نهايته تقريباً، وإذ كان ابن نحو مئة
سنة، سمع (الله) يقول له : "سيكون لك نسل" (أنظر تك 15 : 4). واذ لم يشك
ابداً فإنه وثق ثقة شديدة في ذاك الذي كلمه غير مبالٍ بضعف جسده بل كان ينظر الى
قوة ذاك الذي كلمه. وسمع ايضاً انه ينبغي ان يقدم لله محبوبه (ابنه) ذبيحة، وفي
الحال بدأ يصارع ضد عواطف الطبيعة، وجعل حبه لإبنه في المرتبة التالية بالنسبة
للوصية الإلهية. أما أنتم فأجد فيكم كل ما هو عكس هذه الأمور، لأنكم تريدون ان
تقتلوني، لأني قد أخبرتكم بأمور من الله، هذا لم يعمله ابراهيم. لأنه لم يُهن بعدم
ايمانه ذاك الذي كلمه، ولم يسع الى عمل اي شيء يحزنه. فكيف إذن تكونون بعد ابناء
ابراهيم وأنتم بعيدون جداً عن تقواه كما يتضح من اختلاف اعمالكم من اعماله؟

          ولكن لاحظ كيف يخطط
حديثه : لأنه لم يقل انهم سمعوا الحق من الآب بل من الله – حيث كما قلنا تواً –
إنهم بسبب حماقتهم المتأصلة فيهم وغير المقيدة، فإنهم انحدروا الى أفكار غير
حقيقية عنه، ظانين انه كان يتكلم عن أحد الآباء الأرضيين. وإذ يصوغ حديثه عن طلبهم
قتله، بصورة حسنة جداً، فإنه يدعو نفسه انساناً، محتفظاً لنفسه بعدم الفساد كإله
بالطبيعة دون ان يفصل هيكله الخاص (اي ناسوته) عن ذاته (اي عن لاهوته)، بل إذ هو ابن
واحد – حتى حينما صار إنساناً فإنه يقول انه أخبر بالحق. لأن كلمة الله المخلص لم
تعد تعلمنا ان نمارس التقوى بأمثلة ورموز، بل تحثنا ان نحب العبادة الروحانية
والحقيقية.

          ولكن حينما يقول :
"ما سمعته من الآب"، فلا ينبغي ان نعثر بأي حال. فحيث إنه يقول إنه
إنسان فإنه يتكلم بهذا بما يلائم الإنسان : لأنه كما يُقال إنه يموت كإنسان، فدعنا
نقول ايضاً انه يسمع كإنسان. ولكن يبدو محتملاً انه يضع في كلمة "يسمع"
المعرفة الطبيعية التي له عن مشيئة الذي ولده. لأنه هكذا اعتادت الكتب الإلهية ان
تتحدث كثيراً عن الله، لأنها حينما تقول : "والرب سمع" (انظر مل 3 :
16)، فنحن لا ننسب له بأي حال حاسة خاصة ومنفصلة للسمع كما هو الحال بالنسبة لنا،
لأن الطبيعة الإلهية بسيطة وبعيدة عن كل تركيب، بل بالحري نحن نعتبر ان السمع هو
معرفة والمعرفة سمع، لأن ما هو بسيط لا يوجد فيه شيء مركب كما قد قلنا.

          ونضيف قولاً ثالثاً
الى ما سبق غير مبتعدين عن الهدف المناسب. فقد قال الله الآب لموسى المقدس جداً في
موضع ما عن المسيح : "سأقيم لهم نبياً (أي لبني اسرائيل) من وسط اخوتهم مثلك
وسأجعل كلامي في فمه وسوف يكلمهم بكل ما أوصيه به" (تث 18 : 18س). فأظن أنه
لهذا السبب قال ربنا يسوع المسيح أنه سمع الحق من الآب وكلم به اليهود، واتهمهم في
نفس الوقت بأنهم يحاربون ضد الله الآب ويظهر بوضوح انه هو نفسه الذي كان معطي
الناموس، قد سبق ووعد بأن يقيمه لهم.

يو 8 : 41 "أنتم تعملون
أعمال أبيكم…".

          وبعد ان بين ان اليهود
ذوو أخلاق مغايرة تماماً لجدهم، وبعيدون جداً عن تقواه، فإنه لسبب معقول يجردهم من
افتخارهم الجسداني الباطل. وإذ يقول صراحة إنهم لا ينبغي ان يُحسبوا فيما بعد ضمن
أولاده، فإنه ينسبهم الى أب آخر مشابه لهم. وجعل التشابه في الأعمال كنوع من رابطة
القرابة، معلماً ان الصالحين ينبغي ان يرتبطوا بالصالحين، ومقرراً أنه من المناسب
ان أولئك الذين يحيون حياة شريرة يكون لهم آباء على شاكلتهم. لأنه كما ان الذين قد
اختاروا ان يحيوا حياة ممتازة – ولذلك يدعون قديسين من الآن – يدعون الله أباً لهم
بدون مخاطرة؛ هكذا ايضاً بالنسبة للأشرار فإنهم يُنسبون بعدل الى الشرير كأب لهم،
فإن الأشرار يشكلون بأخلاقهم صورة من شره وانحرافه. والكتاب الإلهي لا يعتبر فقط
الذي يلد (آخر) من نفسه، أباً، بل ايضاً يعتبر من يكون له آخر على شاكلته في
الأخلاق، ولذلك يُقال عنه انه أب لهذا الآخر. ولهذا يكتب بولس الإلهي ايضاً للبعض
قائلاً : "لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (1كو 4 : 15).
(وكما قلنا) كما ان البعض يصيرون مشابهين لله وللآباء القديسين عن طريق المماثلة
في التصرفات والقداسة، هكذا ايضاً الذين يماثلون الشيطان في السلوك يصيرون مماثلين
له في أذهانهم، ويحدث لهم هذا بسبب فسادهم الخاص. لذلك فالقديسون يكون لهم
القديسون آباء، وكذلك ايضاً فبالنسبة للأشرار يكون الأشرار آباء مناسبين لهم.
والذين بالقداسة يتخذون طابع الصورة الإلهية منطبعاً على نفوسهم، ويكون لهم الثقة
التي تناسب الأبناء الخصوصيين، فإنهم بصواب يقولون "أبانا الذي في
السموات" (مت 6 : 9). والأشرار ايضاً سينسبون الى أبيهم، كما لو كانوا
مولودين عن طريق المماثلة معه ليكونوا في فساد مساوٍ له. لذلك فالمسيح ينسب اليهود
لأب آخر غير ابراهيم المقدس، ولم يقل بوضوح من هو هذا (الأب).

يو 8 : 41 "فقالوا له إننا
لم نولد من زنا. لنا أب واحد وهو الله".

          لقد سبق ان قلت ان
اليهود المتجاسرين جداً كانوا مصابين بأفكار مرة وغير مقدسة عن مخلصنا المسيح،
لأنهم ظنوا ان العذراء القديسة قد أُفسدت، وأنها حملت بطفل ليس من الروح القدس او
بعمل من فوق بل من أحد الذين على الأرض. ولكونهم غير مؤمنين بالمرة وبلا فهم،
فإنهم إما لم يعتبروا الكتابات النبوية، رغم انهم يسمعون علناً : "ها العذراء
تلد ابناً" (اش 7 : 14)، او ينظرون فقط الى الجسد ويتبعون ترتيب الأحداث على
حسب ما هو معتاد معنا، وغير مفكرين في الطبيعة (الإلهية) التي تعمل ما يفوق النطق،
والتي لا يصعب عليها عمل اي شيء، وكل شيء يبدو حسناً له (الله) فهو ميسور. وهم
يعتبرون انه لا يمكن لإمرأة ان تحمل في بطنها إلا بمعاشرتها لزوجها. واذ كانوا
مرضى بمثل هذا الظن، فإن هؤلاء التعساء تجاسروا ان يتقولوا كذباً على الولادة
بالروح للمولود الإلهي العجيب. وحين يضعهم خارج القرابة مع ابراهيم وينسبهم الى أب
آخر فإنهم يغضبون جداً وينفثون بلا كبح غضبهم المتأصل فيهم، ويسبون قائلين :
"إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد وهو الله". لأنهم يقولون بطريقة
غامضة شيئاً من هذا النوع : أنت لك أبوان، وانت لم تولد من زواج شريف، أما نحن
فلنا أب واحد وهو الله.

          بل دع اي انسان يرى
ويلاحظ بوضوح فظاعة مرض جنونهم في هذا الأمر ايضاً. لأن هؤلاء الذين بسبب الشر
الذي فيهم وبسبب فسادهم فإن الديان العادل لم يضعهم بين أولاد ابراهيم، وهم
يتقدمون الى جنون هذا مقداره حتى أنهم يدعون الله أباهم، ربما بسبب ما قيل في كتب
موسى : "اسرائيل ابني البكر" (خر 4 : 22)، غير معترفين في ذهنهم بما قيل
بصوت اشعياء : "ويل للبنين المتمردين يقول الرب" (اش 30 : 1).

          وقد يكون من المعقول
ان يتساءل احدهم : ما الذي حرك اليهود الآن ان لا يعودوا يقولون "أبونا هو
ابراهيم" او "لنا أب واحد، ابراهيم"، بل يتجهون مباشرة ليقولوا :
"(أب) واحد هو الله". وبالنسبة لي يبدو انهم كان عندهم فكر ما من هذا
النوع : لأنهم حينما يسددون ضربة بشتيمتهم للرب كما لو ان أمه قد أُغتصبت قبل
الزواج، فإنهم يسجلون عليه ان له أبوين. وهم يسعون ان يتخذوا اسم احدهما كسند
لفكرهم الشرير. لأنهم بينما يؤكدون ان لهم أباً هو الله، فإنهم بطريق غير مباشر
يعيرون الرب بأن له أبوين، جاعلين الواحد (في حالتهم) في مقابل اثنين (أي أبوين في
حالته). لأنهم تخيلوا انهم لو قالوا "لنا أب واحد هو ابراهيم"، فانهم
بذلك ينكرون كلية (الآباء) الباقين، أعني اسحق ويعقوب والاثنى عشر الذين أتوا منه.
ولو كانوا قد فعلوا ذلك لكانوا يبدون انهم يجردون انفسهم من اسلحتهم بانفسهم وانهم
يحاربون ارادتهم الخاصة وفخرهم، ويجعلون اسرائيل غريباً عن كرامة الآباء، وبذلك
يكونون قد توافقوا مع قول الرب.

          إذن فلكي يهربوا من
الضرر الذي بدا لهم أنه ينشأ من هذا، فإنهم لا يعودون يقولون لنا أب واحد ابراهيم،
بل بالحري ينسبون انفسهم لأب واحد هو الله. وإذ يفتنون بالتلذذ بالشتيمة وحدها،
فإنهم بذلك يسقطون في جرم أكبر من الأول، هؤلاء الصانعون لكل كفر، ومع ذلك
يتجاسرون ان يتخذوا من هو ضد كل كفر (الله)، كأب لهم.

يو 8 : 42 "قال لهم يسوع لو
كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله وأتيت".

          إن الرب بهذه الكلمات
لا يسلب من أحد السلطان الذي يجعله يُحسب بين أبناء الله، بل يوضح بالحري من هو
الذي يلائمه الفخر (بأنه ابن الله)، وان هذا الفخر موجود في القديسين؛ وهو يدين
بالحري اليهودي الشاتم بكونه احمق. (وهو يقول) لأني أنا الابن الواحد والحقيقي
بالطبيعة، مولود من الله الآب، بينما ان الجميع هم متبنون وشكلوا على صورتي، لكي
ينظروا الى فوق الى مجدي، لأن الصور تكون دائماً على حسب أصولها. (ويقول)، كيف
تستطيعون اذن ان تحسبوا بين أولاد الله وانتم الذين ليس فقط لم تهتموا بأن تحبوا
ذاك الذي اشرق من الله وهو الذي يغير شكل الذين يؤمنون به الى صورته الخاصة؛ بل
إنكم ايضاً تهينونه لا بطريقة واحدة بل بطرق كثيرة؟ وأولئك الذين لا يقبلون رسم
(صورة) الله الآب، فكيف يتشكلون بأي حال على شكله؟ (ويقول) واضافة الى ذلك، فليس
من الواجب ان اشخاصاً مهما كانوا بلا لوم، يدعون الله أباً لهم، بل فقط أولئك
الذين يبرق فيهم جمال التقوى نحوه – هؤلاء وليس غيرهم – أحسب أنهم يناسبهم (ان
يدعو الله أباً لهم).

          لقد أتيت من السماء
لأرشدكم الى الأمور الفائقة جداً وأدعوكم بكلمتي ان تتشكلوا بحسب الله. ولكن لو
كان حقاً، هدفكم واشتياقكم هو ان يكون الله لكم أباً، لكنتم بالتأكيد قد أحببتموني
أنا مرشدكم ومعلمكم في هذا الطريق، الذي يعطيكم الفرصة لمشابهة الابن الواحد
والحقيقي، والذي بواسطة الروح القدس يجعل أولئك الذين يقبلونه مشابهين لنفسه.
(ويقول) ان الذي يفتخر انه من خاصة الله، فكيف لا يحب ذلك الذي من الله. (أخبرني)
كيف يمكن ان يكرم الشجرة ذلك الذي يشمئز بحماقة من الثمرة الناتجة عنها؟ لذلك –
كما هو مكتوب – "اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيداً او اجعلوا الشجرة ردية
وثمرها ردياً" (مت 12 : 38).

          لذلك فإن كانت الشجرة
جيدة، اي الله الآب، وتعرفون كيف تجتذبوا بهاءه على رؤوسكم، فلماذا لا تحبون
الثمرة التي هي منه، مؤمنين بأنه مثله. وإذن فالعبارة التي أمامنا فيها توبيخ مر
لليهود : لأنها تظهر أنهم كاذبون، لأنهم بينما هم يدعون الله اباهم فإنهم بعيدون
جداً عن الفضيلة الخاصة بالمدعوين لهذه الدعوة (أي أن يدعو الله أباهم) بسبب أنهم
لا يحبون ذلك الذي هو من الله بالطبيعة. وكذلك أيضاً فإن هذه العبارة تذكر –
بطريقة نافعة – بولادته التي لا يعبر عنها، لكي يُمسكوا متلبسين بالكفر في هذا
الأمر ايضاً، إذ أنهم يدعونه : حقير المولد وابن زنا. لأنه إن كان القول
"خرجت من الله" يعني ولادته – التي لا يعبر عنها والتي بلا بداية – فإنه
بإضافة "وأتيت" فهو يبين مجيئه الى هذا العالم بالجسد. وبالتأكيد فلن
يقول أحد الآن إن الله الكلمة أشرق لأول مرة من الله الآب حينما صار إنساناً (فهذا
ما يراه بعض الهراطقة غير المقدسين)، بل بالحري سيأخذ هذا القول كما يليق ويفكر
فيه بتقوى. لأنه ليس بسبب ربطه للعبارتين اي خرجت وأتيت يكون خروج كلمة الآب في
نفس الزمن مع الولادة بالجسد. بل يجب ان نحفظ لكل واحد من الأمرين المشار اليهما،
المعنى المناسب له. لأننا نؤمن ان الميلاد الأول للكلمة المدرك أنه من الله، هو
بلا بداية وفوق العقل؛ لذلك فقد وضع أولاً الكلمات "خرجت من الآب"، وبعد
ذلك الثانية اي ما هو حسب الجسد "لأني لم آت من نفسي بل ذاك ارسلني" (يو
8 : 43. أنا بتجسدي صرت مثلكم اي صرت انساناً، وبمسرة الله الآب الصالحة، أتيت أنا
في هذا العالم لأعلن لكم أمور الله، ولكي أخبر أولئك الذين يجهلون، ما هي الأمور
التي ترضيه. (ويقول) ولكنكم لم تحبوا ذاك الذي أُظهر لكم من المشورة الإلهية انه
المخلص والمرشد. فإن كنتم لا تكرمون ذاك الذي هو منه فكيف تدعون بعد أولاد الله،
وكيف تقتنون نعمة كونكم من اهل بيته. وربما يشير الرب ايضاً بهذا الى شيء ما،
ويهدف بمثل هذه الكلمات ان يسكت شعب اليهود الذين يصرخون باطلاً ضده. وسوف نقول
باختصار ما هو الذي يقصده.

          كثيرون من بين اليهود
لم يكونوا يوقرون بالمرة المخافة الإلهية بل يعجبون فقط بكرامات الناس ويقبلونها،
ولأنهم انغلبوا بالربح القبيح فإنهم تجاسروا ان تنبأوا متكلمين "من قلبهم
الخاص وليس من فم الرب" (ار 23 : 16). وبحق وبخهم سيد الكل قائلاً : "لم
أرسل الأنبياء ولم أتكلم اليهم ولكنهم كانوا يتنبأون" (ار 23 : 21)، بل هدد
ان يفعل بهم أموراً مرعبة صارخاً : "ويل للذين يتنبأون من قلبهم وهم لم يروا
شيئاً بالمرة" (حز 13 : 3). وحنانيا هو واحد من هؤلاء وهو الذي عارض كلمات
ارميا بكذبه، وإذ أخذ نير الخشب وكسره قال : "هكذا يقول الرب سأكسر نير ملك
بابل" (ار 28 : 20). ولذلك فحينما يقول مخلصنا المسيح : "ولكنكم تطلبون
ان تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله" (يو 8 : 40)، فإن
اليهود بدأوا يتذمرون، وإذ لم يكونوا يعرفون من يكون هو بالحق، ويظنون انه أحد
الأنبياء الكذبة، فلذلك تقسوا بل انهم تجاسروا ان يشتموه، وبغضب شديد يريدون ان
يقتلوه، وكأنهم مصممون ان يفعلوا هذا، فإنه بطريقة نافعة ايضاً يخيفهم قائلاً انه
لم يأتِ من نفسه – كما كانت عادة أولئك الذين يتنبأون كذباً – بل انه أُرسل من
الله، لكي بهذا، اي برفضه قولهم عنه أنه نبي كذاب، وتعليمه ان الذين يهينون الذي
قد أرسل من الله الآب ويتجاسرون ايضاً ان يدبروا لقتله، يستحقون إدانة غير قليلة؛
فإنه بهذين الأمرين معاً يوقف جسارتهم المتهورة.

          هذا إذن بخصوص الكلام
الذي أمامنا. ولكن يحتمل ان الهرطوقي يجعل ما قد قيل مادة لكفره المتأصل فيه. فقد
يهاجم جوهر الابن الوحيد ويعتبره أقل من جوهر الآب بسبب قوله إنه قد أُرسل منه.
ولكن دع مثل هذا يفكر في طريقة التدبير التي يجري الحديث عنها الآن، ويتذكر بولس
وهو يصرخ عالياً عن الابن : "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة ان يكون
معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس، وإذ وجد في
الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت" (في 2 : 6-8) ولكن إن كان قد وضع
نفسه بإرادته وكان الآب موافقاً ومشاركاً معه في الإرادة، فكيف يُعقل ان تنسب له
أية تهمة، وهو يمضي في طريق التدبير حتى نهايته؟ ولكن إن كان بسبب قوله إنه قد أُرسل،
تحسبون ان الابن في وضع أقل من الآب، فاخبروني – في جهلكم – كيف ان ذلك الذي هو في
وضع أقل، يعمل بالضبط كل ما يخص الله؟ لأنه اين يظهر ما هو أقل في (أعمال) ذاك
الذي يملك بشكل كامل كل ما هو خاص بالذي ولده، ويملك سلطان الله الأكمل؟ لذلك فلن
نفكر من جهته انه أقل بسبب كونه مرسل، بل هو اله من اله بالطبيعة وبالحق. وحيث انه
هو حكمة الآب وقوته – فإنه يُرسل كما يُرسل النور من الشمس، ذلك النور الذي ينتشر
منها – وذلك لكي يجعل الذي تنقصه الحكمة حكيماً والذي كان ضعيفاً يُرفع بواسطته
ويتقوى في معرفة الله الآب ويُستعاد الى كل فضيلة. لأن كل ما هو حسن جداً، قد أضاء
على الجنس البشري من خلال المسيح وحده. لذلك فلا يوجد في المسيح اي نوع من مذلة
العبودية، بل هو خاصة فقط بهيئة الجسد : إن سلطانه إلهي وقوته على الك، رغم ان
اللغة التي تُصاغ بحسب قياس التواضع تأخذ شكلاً بشرياً.

يو 8 : 43 "لماذا لا تفهمون
كلامي؟ لأنكم لا تقدرون ان تسمعوا قولي".

          ما سبق ان قلناه
كثيراً نقوله مرة أخرى لأجل منفعة الذين نحدثهم، لأنه لا يوجد اي ضرر من تكرار
الحديث فيما هو نافع. ولقد كانت عادة مخلصنا المسيح ان لا يقبل من الذين لا يؤمنون
به، تلك الكلمات التي تنفجر بغضب من لسانهم، بل ينظر بالحري الى القلوب والكي ويرد
على الأفكار التي كانت تدور في عمق قلوبهم. لأن الإنسان إذ هو لا يعرف الأفكار
التي عند غيره، يحتاج بالضرورة الى قبول الكلمة المنطوقة، أما الله فليس هكذا؛ فإذ
هو يعرف كل الأشياء فهو يأخذ بما في القلب بدلاً من الكلام. فحينما قال الرب
لليهود إنه لم يأت من نفسه – مثلما كان يفعل أولئك الذين يتنبأون من قلبهم وليس من
الروح الإلهي – بل أنه أُرسل من الله، فإنهم تصوروا ايضاً، أو فكروا فيما بين
أنفسهم، او همسوا سراً الواحد الى الآخر، وقالوا : إن انبياء كثيرين قد تكلموا
بأمور الله وأتوا الينا بكلمات من الروح، ولكننا لا نجد عندهم مثلما نجد في كلمات
هذا الإنسان، لأنه يحملنا بعيداً تماماً عن العبادة حسب الناموس ويأتي بنا الى
نظام آخر ويأتي الينا بطريقة غريبة للحياة.

          فمن الواضح ان حديثه
لا ينسجم ولا يتوافق مع كلام القدماء. وحيث إنه لاحظ انهم يفكرون بهذه الأمور، وإذ
هو يبين انه هو الله بالطبيعة ويعرف مشورات القلوب، لذلك فهو يمسك بدفة الموقف
ويقول : "لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون ان تسمعوا قولي"
(ويقول)، أنا لا أجهل أنكم لا تستطيعون ان تفهموا كلامي، اي تعليمي؛ ولكني سأعرفكم
السبب في ذلك وسأوضح لكم ما هو العائق. "لا تقدرون ان تسمعوا قولي". فهو
يقول : "لا تقدرون"، متهماً إياهم بالعجز من جهة الصلاح الكامل، بسبب
كونهم مستعبدين مقدماً بسبب شهواتهم، لأن محبة اللذة تفقد العقل قوته، كما ان
الميل غير المنضبط نحو الشر يضعف قوة القلب ويجعله هزيلاً وبلا قوة بالمرة من جهة
قدرته على ممارسة اي فضيلة. ويقول، لأنكم سبق ان ضعفتم بميولكم نحو الرذيلة
واستعبدتم من شهواتكم، "لا تقدرون ان تسمعوا قولي". "لأن طرق الرب
مستقيمة والأبرار يسلكون فيها وأما الأشرار فيعثرون فيها" كما هو مكتوب (هو
14 : 9). وقريب من هذا سنجده ايضاً في موضع آخر حينما قال للفريسيين : "كيف
تقدرون ان تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد
لستم تطلبونه" (يو 5 : 44). والواقع بالحق، فإن عدم قدرتهم على الإيمان تبين
ضعف فكرهم او ان ذهنهم قد سبق ان انغلب من محبة المجد الباطل. ونجد انه يصدق على
اليهود، ما قاله بولس : "ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل الأمور التي لروح الله
لأنها عنده جهالة" (1كو 2 : 14). لذلك فحيث انهم كانوا طبيعيين (نفسانيين)،
فقد اعتبروا ان الذي يدعوهم لكي يخلصوا فيه جهالة، وهو الذي يعلمهم طريق السيرة
الممتازة، ويوجههم حسناً جداً الى القوة على إرضاء الله الذي يُسر بالفضيلة، الذي
له الكرامة والمجد والقوة الى أبد الآبدين آمين.

 

الكتاب السادس

يو 8 : 44 "أنتم من أب هو
ابليس وشهوات أبيكم تريدون ان تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس منذ البدء ولم يثبت في
الحق لأنه ليس فيه حق".

          بعد أن أبعدهم بصواب
عن نسبهم لإبراهيم، ووبخهم على عدم مشابهتهم له في أخلاقهم، وعن ابتعادهم الشديد
عن التقوى نحو الله، وبالإضافة الى ذلك بعد ان شرح سبب عدم قدرتهم ان يطيعوا
كلامه، فهو يوضح ايضاً من هو بالحري الذي يناسب أكثر ان يسمى أباً لهم. لذلك، يقول
: أنتم من أب هو ابليس، ويقول عنه انه كان قتالاً في البدء، وانه لم يثبت في الحق
وأنه كذاب وأبو الكذاب، وقد حدد بوضوح من هو.

          فالمعنى المتضمن في
الكلمات المختصرة التي أمامنا فيه غموض كثير، ويحتاج الى فحص دقيق. لأن الحديث عن
هذا دقيق جداً، وكما أتصور فهو ليس واضحاً بالنسبة لكثيرين، فالمعنى الذي يمكن
الحصول عليه بسهولة هو أنه لا ينسب لليهود أباً آخر سوى الشيطان الذي سقط من
السماء. ولكن يرد بعد ذلك عن أبيهم انه كذاب مثل أبيه ([xvi])
ايضاً، وهذا ما يسبب اضطراباً بل بالحري يضطرنا الى شك جديد ليس بقليل. (فإذا
فكرنا بتعقل)، من هو الذي نتخيل أنه كان أباً للشيطان، أو هل هناك آخر سقط مثله
حتى يمكن ان يقارن به في الشبه والأخلاق من أتى بعده؟ لأنه لن نجد كلاماً مثل هذا
في الكتب المقدسة الإلهية، ولا يجب ان نقبل هذا على أنه حق ما لم تخبرنا به الكتب
الموحى بها من الله. لأن كل روح يحسب بين الشياطين كابن للشيطان يُسمى شيطاناً
بحسب ما قاله مخلصنا المسيح، "إن كان الشيطان يخرج شيطاناً فقد انقسم على
نفسه" (مت 12 : 26). ومع ذلك فقد سمعنا عن واحد يفوق الباقين ويعلو عليهم،
ذلك الذي قيل عنه في موضع ما من حزقيال النبي : "أنتم خاتم المثال وتاج
الجمال. نشأت في فردوس الله، كل حجر كريم لباس لك" (حز 28 : 12، 13س). إذن،
فهل نفترض وجود رئيس آخر (قبل هذا) صيغ هذا على شاكلته وأعني أنه مماثل له في
الرذيلة؟ لأن بعض الشراح القدامى إذ يقتبسون ما هو أمامنا الآن يقولون ان ذلك الشيطان
القديم الذي يُدرك على أنه رئيس كل الشياطين الآخرين، كان مقيداً بقدرة الله وملقى
في الترتاروس (الجحيم) نفسه لكي يدفع العقوبة عن ما قد فعله بتمرده ضد الله، وأن
شيطاناً آخر ظهر بعده ولم يكن أقل من أبيه في شروره وأكدوا ان المخلص كان يتكلم عن
هذا قائلاً انه كان قتالاً من البدء وأنه كذاب مثل ابيه.

          ولكن لو لم نكن قد
فكرنا كثيراً في هذا الأمر لكنا قد قبلناه كما هو، ولكن الآن فإن تفكيرنا الكثير
فيه، هو نفسه لا يسمح لنا ان نوافق عليه بدون تروٍ. لأنه في زمن المخلص، فإن طغيان
الشيطان بدأ يسقط والأرواح الشريرة والنجسة كانت تطرد الى الهاوية. وفي الواقع،
فالشياطين كانت تأتي وتتوسل اليه صراحة : "أن لا يأمرهم بالذهاب الى
الهاوية" (لو 8 : 31). ونحن نذكر أنهم صرخوا بخصوص هذا المريض قائلين :
"ما لنا ولك يا يسوع الناصري، أنا اعرفك من أنت قدوس الله" (مر 1 : 24)،
"أجئت الى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟" (مت 8 : 29). لأن ربنا يسوع المسيح
إذ قد أتى بيننا فإنه يهلكهم، وهو يغيظهم بطرق كثيرة، وهم أنفسهم ايضاً يعرفون هذا
تماماً إذ يسمعون كلاماً كثيراً عنه بين بني اسرائيل، ولكنهم يعترضون عليه كأنه قد
جاء في غير وقته. وفي هذا ايضاً يعملون بطغيان وانحراف مهاجمين وقت مجيئه. وهم
يقولون : "قبل الوقت" كأنهم يتعذبون في وقت آخر، وهم ينظرون الى وقت
المجيء الذي فيه سيعانون بلا شك مما كانوا يتوقعونه. وإضافة الى ذلك نقول :
"إن كان بحسب تمييزهم يوجد هناك شيطان آخر خدع آدم، ولا يكف عن الجنون الذي
هو متهم به، فإن الشيطان الأول (اي القديم او الأب) سيكون غير ملوم بالمرة فيما
يخصنا نحن، وهذا سيجعله حراً من كل لوم، ولم يقتل اي واحد ولا خدع أحداً ولا كذب،
ولن يكون من العدل ان يقول له الله : "كما ان الثوب الملوث بالدم لا يكون
طاهراً، هكذا أنت لن تكون طاهراً لأنك أخربت ارضي وقتلت شعبي" (اش 14 : 20س).
لذلك، فإذا سلمنا ان ذلك الذي يقولون عنه الأول (القديم او الأب)، هو لم يشترك
بالمرة في الشرور المذكورة سابقاً، فمن هو الذي تمثل به الشيطان الثاني، او على
صورة من صيغ الشيطان الثاني الذي فاق قائده في الشر، وله طابع أكثر جرماً من
الأول.

          وأنا أفترض انه ليس من
غير المعقول عند بحثنا هذا الأمر ان نأتي الى براهين اكثر، بل نظن انه من غير
الضروري ان ننفق جهداً في أمر لا يحتاج الى ذلك. ولذلك، فسوف نأتي الى فكر آخر
ونبحث بتدقيق عن من هو الذي قال عنه المسيح أنه أبو اليهود المماثل لهم في الأخلاق
والاتجاه، حتى أن أباه يمكن ان يُحسب بشكل معقول انه روح شرير، رئيس الشر اي
الشيطان. لذلك فهو يأتي بهم الى قايين الذي هو بين جميع الناس، اول من أبغض ذاك
الذي أدبه بالتوبيخ. وقد وضع كالبداية للحسد والقتل والمكر والكذب والخداع، تالياً
لذلك الشيطان، الذي يُقال بصواب أنه ابنه، على قدر ما يقبل في نفسه الشكل الكلي
لخبث ذلك (الشيطان). لأنه كما ان الله هو أب لكل شخص قديس وبار، لكونه هو نفسه أصل
قداسة الجميع وأصل برهم، وبنفس الطريقة فإني اعتبر أنه من المعقول ان يدعى الشيطان
أباً لكل شخص شرير لكونه هو نفسه أصل كل شر. ولكن حيث إننا قلنا ان قايين جعل أباً
لليهود، والشيطان أب لقايين؛ فهيا بنا – من خلال كلماتنا – نظهر بوضوح ان الشيطان
هو أول من رفع رقبته ضد تأنيبات الله. وإذن فكلاهما خدع وكذب وأخيراً بواسطة الحسد
ارتكبا القتل. وإذ قد أوضحنا ان قايين له أخلاق واتجاه مماثل له (للشيطان) فإننا
ثالثاً نأتي لمناقشة أمر اليهود الذين لهم صورة تامة من الشر الذي فيه.

          لذلك فإذ احتقر
الشيطان رئاسته (يهوذا 6)، واشتهى بشدة ما هو أعلى من طبيعته ولم يراعِ حدود
رتبته، فإنه انحدر وسقط وبهذا وبخه الله وعلمه مقدار طبيعته الخاصة. ولكنه لم
ينتفع بشيء من هذا بسبب شر إرادته، فإنه أصيب بمرض رديء، ولم ينظر الى إصلاح اتجاه
بل قرر ان يبقى في انحراف ثابت. ولكن حينما خُلق الإنسان الأول – بحسب كتاب موسى –
وكان في الفردوس، حافظاً الوصية المعطاة له – وأعني الوصية الخاصة بالشجرة – فإن
الشيطان اشتعل بالحسد أولاً. ولأن تعديه وعصيانه صارا ملومين من اللذين خُلقا
أولاً بسبب أنهما كانا لا يزالان يحفظان الوصية المعطاة لهما، فقد كان شغوفاً ان
يجتذبهما بعيداً الى العصيان بواسطة خداعاته الكثيرة. ولأنه كان يعرف أنهما
سيموتان إن استخفا بوصايا الملك العظيم، فإنه كان يحثهما على فعل هذا – مطوقاً
بشرور فظيعة أولئك الذين لم يؤذوه بشيء. لذلك، فإن تعدى آدم والموت الذي ساد عليه،
هو بفعل خداعٍ شيطاني وحسد، وطبيعة الأمر نفسه تعلمنا هذا. وقول الحكيم جداً
سليمان يوضح هذا لنا عندما يتحدث في هذا الصدد قائلاً : "الله لم يصنع الموت،
بل بحسد ابليس دخل الموت الى العالم" (حكمة 1 : 13، 2 : 24).

          هنا اذن تتضح اموره.
فليأت الينا قايين الآن ويقف أمامنا، لأنه كان هو بكر آدم، وكانت مهنته عاملاً في
الأرض، وجاء بعده هابيل الذي كان راعياً للغنم. ولكن حيث ان الناموس الطبيعي
دعاهم ان يقدموا قرباناً لله، غارساً فيهم معرفة الخالق دون ان يتعلموها (لأن كل
الأشياء الصالحة قد زُرعت وغرست في طبيعتنا من الله)
: "فقد قدم قايين من
ثمار الأرض"، كما هو مكتوب (تك 4 : 3)، "أما هابيل فقد قدم من أبكار
غنمه ومن سمانها، فنظر الله الى هابيل وقربانه ولكن الى قايين وقربانه لم ينظر،
فاغتاظ قايين جداً وسقط وجهه، فقال الرب لقايين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك؟ إن
كنت قد قدمت ولكنك لم تقدم باستقامة، ألا تكون قد أخطأت؟ اهدأ (تك 4 : 4-7). ثم
لهابيل قال "اليك سوف يلجأ وأنت ستسود عليه". لذلك فقد وجه اللوم لقايين
لأنه لم يوزع تقدمته باستقامة، وحسب هابيل بحق أهلاً للمديح والكرامة التي صارت
سبباً لحسد قايين. لأنه ثار على التوبيخات الحكيمة، مثلما فعل الشيطان. وعندئذ إذ
امتلأ بحسد ظالم كما قلنا فإنه يذهب وراء أخيه بمكر وهو قد دبر خطة القتل الشرير.
لأنه مكتوب "وقال قايين لهابيل أخيه لنذهب الى حقل آخر أفضل من هذا" (تك
4 : 8س)، وبينما كان يدعو ذلك الذي لا يشعر (بالمؤامرة) الى التمتع والخضرة
الحسنة، فإنه قتله بوحشية، والقاه على الأرض ميتاً، ظاناً انه سينال كل اعجاب، إذ
لم يعد هناك بعد من يتفوق عليه. وعندما ذبحه، فإنه تكلم بالكذب، لأنه حينما قال
الله له : "أين هابيل أخوك فإنه يقول لا أعلم" ومن حماقته الشديدة أضاف
بحدة، أحارس أنا لأخي؟" (تك 4 : 9)، وكأنه يقول هكذا : أنت الذي توجته ظلماً،
أي خير فعلت به أنت الذي تحرسه. وهكذا ترى اذن بوضوح ان الشبه الكلي لشر الشيطان قد
اكتمل بدقة في قايين وان اخلاقه قد تشكلت على صورة مساوية ومماثلة (للشيطان).

          لذلك فلنوجه حديثنا
مباشرة نحو كفر اليهود، وإذ نحيطهم بمثال شر قايين فلنوضح انهم حاولوا ان يفعلوا
ضد المسيح تلك الأمور التي فعلها (قايين) ضد هابيل. فيليق به بحق ان يُدعى أباً
لهم. فقد كان قايين هو البكر كما قلنا، وكذلك كان اسرائيل هو البكر بالوضع بين
أولاد الله، كما قيل لموسى : "اسرائيل ابني البكر" (خر 4 : 22). وقد
أحضر من نتاج الأرض تقدمة لله "ولكن لم ينظر الى قربانه" كما هو مكتوب.
لأن عبادة اسرائيل حسب الناموس كانت أرضية جداً كما قد قيل : "بثيران وخراف
وثمار الأرض"، وهذه لم يقبلها الله فهو يقول : "لماذا يأتي لي اللبان من
شبأ وقصب الذريرة من أرض بعيدة" (ار 6 : 20). وهو يصرخ ايضاً بصوت اشعياء
قائلاً : "من طلب هذا من ايديكم" (اش 1 : 12). وجاء هابيل البار بعد
قايين ليقدم ذبيحة من الخراف، وهكذا ايضاً فإنه بعد العبادة حسب الناموس وعند
اكتمال الأنبياء أتى المسيح، البار الحقيقي، وهو لم يقدم من ثمار الأرض ذبيحة لله
الآب، بل قدم نفسه له كذبيحة بلا عيب رائحة طيبة لأجل حياة وخلاص الجميع. لأن الله
الآب إذ رفض العبادة حسب الناموس بسبب أنها أرضية جداً، فقط نظر الى ذبيحة مخلصنا
المسيح. وعبارة قد نظر تعني "سُر ب". وماذا حدث بعد ذلك؟ وبخ قايين لأنه
لم يقدم باستقامة. وحينما وجه اليه اللوم كان مريضاً بالحسد وأسرع جامحاً الى
القتل. وكان الله في ابنه يعاتب شعب اليهود طالباً منهم اشياء أفضل لأجل التقدمة؛
ويدعوهم ان يحولوا العبادة حسب الناموس الى عبادة تحمل ثماراً روحية، ويحثهم ان
يحولوا الحرف الى الحق. ولكنهم غضبوا عندما وبخوا وضربوا بحسد ابيهم قايين، وبظلم
تآمروا بالقتل ضد مخلصنا المسيح. قايين خدع هابيل، وإذ أخذه الى الحقل طرحه ميتاً.
واليهود بالمثل بطريقة خادعة خدعوا المسيح اذ ارسلوا الخائن في زي صديق، الذي إذ
جاء اليه ليخونه حياة بخداع قائلاً "السلام يا سيدي" (مت 26 : 49). وهم
أيضاً أخذوه الى الحقل، اي أنه قتلوه خارج الباب، لأن المسيح تألم بسببنا ونيابة
عنا خارج الباب. فأنت ترى اذن كيف انهم لا يشبهون ابراهيم بأي حال، ولا الذين هم
منه بالحق، بل يحملون صورة ابيهم الذي يلائمهم حقيقة. وإذ كانوا مرضى بالشر للغاية
ويشاكلونه في شره، فإنهم يسمعون بصواب : "أنتم من أب هو أبليس وشهوات أبيكم
تريدون ان تعملوا. ذاك كان قتالاً منذ البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق.
متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب" (يو 8 : 44).

يو 8 : 45 "وأما أنا فلأني
أقول الحق لستم تؤمنون بي".

          وهدف الحديث يتجه الى
أب اليهود الذي قدم وكشف، وأنا أعني قايين، ولكنه ينتشر بشكل أكثر عمومية. وهو لا
يربط معنى ما يقوله بحياة ذلك الإنسان، بل يشير به الى كل واحد مماثل له، مخصصاً
ما يُقال عن واحد بمفرده لكل من هو مثله. لأنه حينما ينطق قايين او اي كذاب آخر
مثله، بكذبة، فهو ينطقها كأنه ذات قرابة له. لأنه إذ يتعلم ما هو له من رؤسائه ومن
الذي أعطاه بداية الشر، فهو إذ يجعل الكذب ملكاً له كخاصية طبيعية فهو يقتدي
بأبيه، لأنه ينطق بكذبة. لذلك حيث إن أباه هو من يُسر بالكذب، فهذا يؤدي به حسب
الروابط الطبيعية الى خسة جده وأبيه، ويظهر في نفسه جريمتهم، وإذ يجعل فسوق أسلافه
هو الصورة الواضحة جداً لأخلاقه وطرقه فإنه بالتأكيد يتفاخر بشروره الخاصة.

          (وكأنه يقول) وحيث إن
هذا الأمر هو هكذا، وأن شر الكبار محفور في داخل المماثلين لهم في أخلاقهم، فهذا
يجعلهم يلقبون بأبنائهم، فما هو الذي يعوقكم عن ان تؤمنوا بي عندما أقول لكم
الحق"، وهو اني بالتأكيد أتيت من أب حقيقي وأني (كما قلت سابقاً) "خرجت
من الله وأتيت"؟

          لأنه إن كان شخص يتكلم
بالكذب لأن أباه كذاب وينطق بكلام كاذب كمن يتكلم مما يخصه، فكيف لا يكون بالضرورة
أني أنا أيضاً – وأنا أتكلم بالحق – ينبغي ان أفهم اني بالتأكيد قد ولدت من أب
حقيقي وليس (كما تجدفون) من أب أرضي، من زنا وارتباط غير شرعي؟

          وهكذا، فإن الرب سيكون
وكأنه قد استعمل مثل هذه الكلمات في حديثه لليهود. ولكننا ينبغي ان نعرف أنه
بالنسبة للبشر او الأرواح العاقلة، أننا نرى فيهم من جهة الأخلاق والعادات،
القرابة التي يمكن ان تكون للواحد منهم مع الآخر في علاقتهم مع ابليس أب كل شر،
وأما من جهة الابن الوحيد، فإن اعتبار علاقة الابن بالآب مجرد علاقة ادبية فقط هو
أمر غير سليم. لأنه يرسم العلاقة بدقة كاملة، لأن كونه من نفس طبيعة الآب هو أمر
طبيعي وجوهري. ولكونه منه بالحق وهو يملك كل ما هو له (للآب) بالخاصية الطبيعية
وذروة مماثلته له في كل الأمور، فإنه يُرى أنه على هيئة وصورة ورسم ذاك الذي ولده.
لذلك فحيث ان الآب هو حق، فبالتأكيد فإن المسيح الذي هو منه هو حق ايضاً.

يو 8 : 46 "من منكم يبكتني
على خطية".

          فالسؤال ليس سؤال من
ينتظر التبكيت، بل بالحري هو سؤال من يستبعد وينكر تماماً اي احتمال ان الإله نفسه
الذي أشرق من الله يمكن ان يسقط في خطية : لأن المسيح لم يفعل خطية. فكل خطية تنشأ
من التحول عن الأفضل الى ما ليس كذلك، وهي تحدث في أولئك الذين من طبيعتهم ان
يتحولوا وان يتقبلوا التغيير، الى ما لا ينبغي ان يكون، لأنه كيف يمكن ان يفهم ان
الذي لا يعرف اي تحول يمكن ان يخطئ، كما انه لا يستريح لتقبل التغيير الى ما لا
ينبغي، بل بالحري هو ثابت في صلاحه الخاص المغروس فيه، وهذا (الصلاح) ليس من شخص
آخر غيره بل من ذاته؟ إذن فالرب يطلب من اليهود ان كانوا يستطيعون بالمرة ان
يبكتوه على خطية. والكلمة (الخطية) المستعملة هنا تشمل عموماً كل تعد : ولكننا اذ
نربطها بشكل مناسب بالموقف الذي أمامنا؛ فإننا نقول؛ أنه في الوقت الحاضر، هو لا
يقصد بها الحديث عن كل خطية فهو لم يكن يخاف ان يبكتوه على أية خطية ولكننا ندرك
الأمر هكذا : حيث انه كان مهتماً ان يفضح خطية اليهود، فهو لا يقصد بسؤاله هذا لهم
ان يثيرهم ضده ليتهموه مرة أخرى بتلك الأشياء التي قالوها عنه سابقاً : "لسنا
نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف لأنك وأنت إنسان تجعل نفسك الهاً" (يو 10 :
33)، وأيضاً كان يمكنهم ان يعتبروا موضوع كسر السبت، هذا الأمر الذي أدانوه بأنه
قد تعداه كثيراً. إذن فهو يقصد بالخطية، الكذب فقط (وهو يقول) لأنه إن كنت لم
أُبكت بأني غير صادق، فلماذا أنتم تضعون في اذهانكم ان لا تصدقوني أنا الذي أتكلم
بالحق كل حين، وأنا أخبركم بيقين اني خرجت من الآب ذاته ولا أعرف الكذب. لذلك،
صدقوني بلا تردد لكي تتأكدوا اني صادق بحق حينما أقول عن نفسي أني "خرجت من
الآب وأتيت" (يو 8 : 42)، وحينما أقول عنكم ان أباكم هو ابليس، لأنكم تكذبون
وتريدون ان تقتلوا كما يفعل هو. ولكنه يبكتهم للمنفعة لأنهم يريدون ان يقتلوه،
قاطعاً الطريق على محاولاتهم. لأن الخطية حين تفضح تسبب الخطية، وبعد قليل ينسحب
صاحبها إذ لا يجد طريقاً للاستمرار ولكن إن ظن ان خطيته تبقى خفية، فإنها تزداد
أكثر باستمرار وبقوة دافعة غير مكبوحة، وتزحف الى ان تصل الى الأردأ.

يو 8 : 46 "فإن كنت أقول
الحق فلماذا لستم تؤمنون بي؟"

          ها هو يتحدث ايضاً
بنفس الكلمات حينما يرى أنهم لا يفهمون بالمرة. فإن هذا ايضاً هو أمر لائق جداً
بالمعلمين ألا ينفروا من ان يعيدوا الكلمات بطريقة أخرى، وذلك حينما يرى ان الشرح
الأول لم يُفهم، ويقصد بالتكرار ان يجعل التعليم ينغرس في نفوس السامعين. (ويقول)،
لذلك حينما يقول الكذاب، "كذبة" فهو يتكلم مما له، "لأنه كذاب مثل
ابيه" – إذن فلماذا لا تؤمنون بي رغم اني أقول الحق، إذ أنتم تفكرون وتعلمون
ليس بحسب ما أقول، متخيلون اني اتكلم بعيداً عن الحق، بينما أنا حق مثل الآب
ايضاً.

          (وإني افترض) انه من
المحتمل ان (المسيح) يوبخ اليهود بسبب كونهم عاجزين عن استيعاب كلمات الحق بسبب
أنهم ليسوا أبناء الحق.

          فهم عبثاً يدعون الله
الآب كاذبين قائلين "لنا أب واحد، هو الله" (يو 8 : 41). (فهو يقول)
ولأن الله هو الحق الكامل، فهو يفرح بالحق ويريد ان الذين يسجدون له ان
"يسجدون له بالروح والحق" (يو 4 : 24)؛ وأبناء الحق يقبلون برضا ما هو
ذا قرابة لهم، اي الحق. أما أنتم فحين أخبركم بالحق فإنكم لا تؤمنون لأنكم لستم
أبناء الحق.

          ويبدو لي ان الرب يقول
اشياء مثل هذه لليهود، كما يمكن للمرء ان يلاحظ ذلك بسهولة عندما يكيف الحديث
ليناسب شخصاً آخر (غير المسيح). فمثلاً دع شخصاً ما، يتسم بالحكمة، يقول لابن او
عبد او قريب غير منضبط : إن كنت أبدو لك متسماً بالحكمة متجنباً الزنا وجاعلاً هذا
الفكر أبعد ما يكون عني، فلماذا لا تصدقني ولا تثق بي حينما أقول إن (الزنا) فعل
شرير ودنس؟ فالمرء يفترض انه قال هذا منتظراً جواباً على سؤاله، بل هو يبين بهذا
السؤال أنه (اي الابن او العبد) غير مؤمن، ويوبخه بوضوح إذ انه بسبب سروره بالفسق
هو لا يقبل الحديث الذي يمكن ان يؤدي لإصلاحه.

          وهذا ما يمكن ان نفهمه
بالمثل فيما يخص اليهود، حين يسألهم المسيح : "إن كنت أقول الحق فلماذا لستم
تؤمنون بي"؟ لأن صيغة مثل هذه الأسئلة تتضمن في ذاتها رداً بالإيجاب مرتبطاً
بها دائماً، – او (بالحري) فإن السؤال هو في ذاته موبخهم بقوة. لأننا نوبخ أولئك
الذين نسألهم لأنهم يعانون من عدم امتلاك ما نمتلكه نحن (اي الحق).

          ولكن لاحظ كيف يقول –
ليس بطريقة مطلقة او عمومية – "لماذا أنتم لا تؤمنون بي" بل قد أكد لفظة
(أنتم) مشيراً الى أولئك الذين كانوا ميالين بشراسة الى عدم الايمان (الكفر)،
وموضحاً ايضاً انه كان هناك البعض ممن كان لهم ذهن أكثر سمواً وابتعدوا عن صورة
عناد قايين، وهم الآن يسيرون في اتجاه الانضمام الى صفوف أبناء الله. لأني أقول
إننا لا ينبغي ان نظن ان كل اليهود كانوا منغمسين تماماً في حماقة بدون اعتدال، بل
كان البعض لهم "غيرة الله، ولكن ليس حسب المعرفة" – كما يقول بولس (رو
10 : 2). ولذلك فإنهم تأخروا قليلاً في مجيئهم الى الايمان. أما أولئك الذين
يستحقون أن نلومهم، فهم الذين يميلون كثيراً الى الغضب ويشتعلون بتهور متعطشين لسفك
الدماء، وهم الكتبة والفريسيون الأشرار بنوع خاص، الذين يناسبهم أكثر القول :
"لماذا أنتم لا تؤمنون بي". وكأن المسيح ينسب اليهم كأمر خاص بهم كفراً
بغير حدود. لأنهم كانوا هم القادة الذين أقنعوا اتباعهم ان يكملوا شرهم. لذلك فبحق
يتهمون بأنهم قد "أخذوا مفتاح المعرفة" (لو 11 : 52) فلا هم أنفسهم
دخلوا كما انهم منعوا الآخرين. لذلك فلفظة "أنتم" تنطبق بشكل أخص على
القادة.

يو 8 : 47 "الذي من الله
يسمع كلام الله، لذلك أنتم لستم تسمعون، لأنكم لستم من الله".

          ينبغي هنا ان نفهم ان
البعض هم "من الله"، لا على أنهم مولودون من جوهره (لأن ذلك أمر غبي)،
ولا بحسب ما قاله بولس : "الكل من الله" (2كو 5 : 18)، فحيث إنه هو خالق
ومكون كل الأشياء وهو الذي يعطي الوجود للكل، لذلك يقول بولس الإلهي "ان كل
الأشياء هي منه ولكن لن يكون مناسباً ان نفهم عبارة "من الله" بهذا
المعنى هنا (أي في آية يوحنا) لأن كل الأشياء الشريرة والصالحة هي من الله خالق
الكل. لذلك فهو يقول (في إنجيل يوحنا) ان "الذي من الله" هو الذي ينتسب
لله بواسطة الفضيلة والسلوك القويم، ويحسب أهلاً للقرابة معه، فإن الله يكرمه بأن
يضم مثل هذا في عداد أولاده. لذلك فهو يقول : "ان الذي من الله" سوف
يقبل باستعداد كبير وسرور عظيم الكلمات الإلهية (لأن كل ما هو ذو قرابة ومن الخاصة
فهو دائماً عزيز). أما "الذي ليس من الله"، اي، ذلك الذي لا يقدر بالمرة
القرابة (مع الله) فإنه لن يفرح أبداً بسماع الكلمات الإلهية، لأن الصلاح لن يوجد
بسهولة أبداً في الأشرار كما ان الاشتياق للفضيلة لن يكون بالنسبة لهم امراً يستحق
الكفاح لأجله، حيث أن ذهنهم قد امتلأ بأشد أنواع الفسوق وينظرون فقط الى هوى ذهنهم
الخاص.

          ولكن حينما يقول
المسيح : "الذي من الله يسمع كلام الله" فلا ينبغي ان يظن أحد انه
يأمرنا ان عطي فرصة للصوت الإلهي للدخول فقط الى آذاننا الجسدية، لأن من هو ذلك
الإنسان – مهما كان شريراً – الذي لا يسمع صوت المتكلم، إلا إذا كان قد أُصيب بمرض
افقده السمع؟ ولكن كلمة "يسمع" يستعلمها هنا بدلاً من كلمة يقبل ويوافق
ويضع في قلبه، كما قيل في كتاب الأمثال : "الحكيم يقبل الوصايا في قلبه"
(أم 10 : 8س) لأنه بالنسبة لغير الحكماء او المستهزئين، فإن الكلمة التي تُقال
تكون مثل صوت بلا معنى، ومثل ضجيج يزعج عبثاً، وهكذا تغادر (الكلمة) السامعين. أما
قلب الحكماء فيكون بالنسبة لها (للكلمة) مثل تربة خصبة تغوص فيها.

          والآن فإن الرب بكل
حكمة، إذ يوبخ جنون اليهود ويوضح أنهم يجدفون بلا رادع، يقول إن كلامه هو كلام
الله. لأنه يعيد تهذيبهم لكي يفكروا عنه بلياقة أكثر، وألا يظنوا أنه جاء من يوسف
او من اي شخص آخر على الأرض، بل ان يؤمنوا انه قد ظهر إلهاً من اله، من جوهر الله
الآب. هذا الإدراك، يزعجهم في الواقع ويجعلهم يشتعلون بغضب أكثر حدة، "مضيفين
إثماً على إثمهم" كما هو مكتوب (مز 69 : 27)، تلك الأمور التي بواسطتها
يشتمونه أكثر.

يو 8 : 48 "فأجاب اليهود
وقالوا له، ألسنا نقول حسناً أنك سامري وبك شيطان".

          يليق أيضاً أن ننوح
على جنون اليهود وحماقتهم المفرطة لأنهم يؤخذون بكلامهم الخاص، مثل الحيوانات
المفترسة حينما تقفز على يد أولئك الذين يقتلونها، محركة بنفسها السيف ضد نفسها ([xvii]).
لأنهم حينما وبخوا على كذبهم الذي كان لهم كعادة يمارسونها وقد نمت معهم، فإنهم
يظهرون في الحال انهم بالحقيقة هكذا، وقد نخسوا عندما سمعوا من المخلص انهم ليسوا
من الله، ومع ذلك فإنهم يظهرون في انفسهم في الحال – بدون اي انتظار – الصورة
الدقيقة جداً لشر ابليس. فهم يتجاسرون ان يقولوا عن الذي جاء الهاً من إله انه
سامري، بل بالحري، هم أنفسهم لهم في أنفسهم شيطان المرارة والمقاوم لله : لأنه ليس
أحد "يقول يسوع أناثيما" (1كو 12 : 3) إلا بواسطة بعلزبول كما يقول
بولس. إذن فهم كذابون وشتامون ومشتكون، وقد اعتادوا ان يحاربوا ضد الله، وهكذا سوف
ينالون العقاب المناسب من الديان الذي يستطيع ان يفعل كل شيء.

          وينبغي ان نسأل هنا
ايضاً عن السبب في قولهم عنه انه سامري وبه شيطان، لأن بداية كلامهم "ألسنا
نقول حسناً"، يوضح لأي سبب يذمونه بأنه سامري، وكذلك الذم الآخر أيضاً (اي به
شيطان) الذي تجاسروا ان ينطقوا به عليه. لذلك فهم يدعونه سامرياً على اعتبار انه
لا يبالي بوصايا الناموس ولا يعطي اعتباراً لكسر السبت. لأنه لا توجد ديانة يهودية
مضبوطة بين السامريين، بل إن عبادتهم مختلطة بعبادات اجنبية وأممية. او بمعنى آخر
هم يقولون انه سامري لأنهم يعرفون أنه كان من عادة السامريين ان يشهدوا كذباً عن
انفسهم انهم اطهار ويدينون الآخرين كنجسين. وإني أفترض، بخصوص هذه الذريعة، ان "اليهود
لا يعاملون السامريين" كما هو مكتوب (يو 4 : 9)، ويرفضون ايضاً ان يختلطوا
بالآخرين، إذ يبغضون النجاسة التي تنتج عن ذلك، وهكذا فهم يعتبرون ثرثرتهم (ضد
المسيح) أنها أمر حسن. والرب إذ يحكم على ميل اليهود الردئ، اعتاد ان يدعوهم ابناء
ابليس، أما بالنسبة لنفسه فإنه يشهد أنه بلا لوم على الإطلاق من جهة الخطية
والنقاوة الكاملة قائلاً : "من منكم يبكتي على خطية؟" (يو 8 : 46). لأنه
كان له في نفسه أعظم قدر من النقاوة، بسبب أنه لم يكن ممكناً ان يسقط في خطية؛
وبتسميته اليهود أبناء الشيطان، فإنه كان يحكم عليهم بأنهم نجسون وان ذهنهم قد
امتلأ بكل نجاسة، الأمر الذي هو بالفعل حقيقي. فلهذه الأسباب يدعونه سامرياً، وكما
يقولون ايضاً ان به شيطان، لأنه كانت عادة الشياطين ان ينسبوا لأنفسهم الكرامة
الواجبة لله ويغتصبون مجد الله بتهور. وهم يفترضون ان المسيح يفعل نفس هذا الشيء
حينما يضع نفسه – وهو انسان – في موضع الله قائلاً : "الذي من الله يسمع كلام
الله" (يو 8 : 47). (فهم يقولون) أنه يعلن عن كلماته الخاصة انها كلمات الله.
وشكواهم أو بالحري تجديفهم ضده هي حجة اليهود وفرصتهم ليقولوا عنه تلك الأشياء
التي ستؤدي بهم الى النار الأبدية.

          وإني أتعجب من هذا
ايضاً. فهم غضبوا بسبب أنهم كانوا يلقبون كثيراً بأنهم أبناء ابليس وكذابون، وبهذا
يظهرون بالفعل ان هذه الاتهامات تختص بهم. فكان ينبغي عليهم بالحري ان ينزعوا عنهم
هذه الاتهامات بأن يميلوا بأنفسهم الى الفضيلة. لأن حبهم للشكوى وقولهم ان ما
يُتهم به اي واحد (من أنه ابن الشيطان وكذاب) لا يتهمون هم به، هذه الأمور لا
تناسب الذين حسبوا ضمن أولاد الله، بل الذين حسبوا ضمن أبناء ابليس. وهؤلاء
التعساء لا يشكون فقط ويكذبون ضد رأسهم – لا ان نقول ضد المسيح – ولكنهم ايضاً
يؤكدون ان ما يقولون هو "حسن"، فهم بذلك لا يحكمون على شرهم. وهذا برهان
على العمى.

يو 8 : 49 "أجاب يسوع، أنا
ليس بي شيطان، لكني أكرم ابي وانتم تهينونني".

          إنه يتكلم بلطف ومع
ذلك فكلامه حاد جداً. لأنه يؤكد بشدة على قوله "أنا ليس بي شيطان"، وإذ
يضع نفسه في تضاد معهم، يبين ان ما يتهمونه به ليس صحيحاً، بل إن هذا الاتهام يصدق
عليهم هم، لأن لو لم يكن بهم شيطان لكان من المحتمل ان يرتعدوا وهم يقولون ان به
شيطان، وهو الذي شهدت لهم أعماله انه إله. لذلك فإنه أمر رائع جداً ان يقول :
"أنا ليس بي" محولاً الكلام اليهم وناسباً إياه بالحري لهم، لأن حقيقة
الأمر هي كذلك (ولذلك يقول)، أنا ليس بي شيطان بل هو فيكم. وأنا أكرم أبي إذ أقول
أني إله وإني خرجت من الله مؤكداً أني لم أعرف خطية. لأنه كان يلزم بالضرورة ان
الذي هو من الله يكون الهاً، والذي لا يعرف خطية ينبغي ان يُنظر اليه مثلما ينظر
الى ذلك الذي هو منه. ولكن إن كنت بسبب تحاشي ان اعثركم، لم استعمل مثل هذه اللغة
العالية (بأن الله يُكرم فقط بأن يكون ابنه الهاً وليس العكس)، فإن الآب لم يكن
ليُكرم لو أنه دعي أباً لشخص يسقط في الخطيئة. إذن فعندما أشهد لنفسي بأمور عظيمة
فإني لا أجدف بأي حال كما تظنون أنتم، بل بالحري أكرم أبي. أنا أكرمه بطريقة أخرى
أيضاً، لأني أقول عنكم بحق إنكم لستم من الله، حيث إنه ليس من الصواب ان الذين
أتوا الى حفرة الشر هذه وقد اصطبغوا بكل ما هو رديء يقولون انهم من الله. لأن الذي
يكرمه الله ويحسبه ذا قرابة له، ليس الكذاب والشتام والمجدف والمتكبر والمتغطرس،
ولا ذلك الذي اعتاد ان يسعى للقتل ظلماً، بل هو يكرم اللطيف والوديع والتقى والمحب
لله والصالح. إذن فبهذه الطريقة ايضاً أنا أكرم الآب مستبعداً من القرابة معه
أولئك الذين يُدانون بسبب شرهم الكامل، وهذا ما تفعلونه أنتم ايضاً، وتهينونني
وتعترضون على التمجيد الخاص بالآب، وهكذا تضبطون وأنتم تجدفون ليس فقط ضد الابن،
بل الآن ايضاً ضده هو (أي الآب). لأنه إن كنت أشهد لنفسي بأمور حسنة جداً، وبذلك
أكرم الذي ولدني؛ فبالتأكيد، إن الذي يحوط ذاك الذي هو منه بأشد أنواع الخزي، فإنه
يهين الآب. لذلك، فإن المسيح، من جميع الجوانب متوافق مع كلماته، ويبين بوضوح انه
هو الله بالطبيعة، وهو يقول انه حينما تستبعد الجموع الشريرة من أن تكون من خاصته
فبذلك يُكرم الآب، وهو بهذا يقول ان اليهود هم من كل جهة غرباء عن الله : لأنه من
يكون أكثر شراً من هؤلاء الذين يقولون تلك الأشياء؟

يو 8 : 50 "أنا لست أطلب
مجدي، يوجد من يطلب ويدين".

          هنا نرى بوضوح ان ما
قيل بواسطة بطرس عن المخلص هو حق : "الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً. وإذ تألم
لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل" (1بط 2 : 53). فإنكم تلاحظون كيف
يسمع أشياء من أردأ وأقسى ما يكون، من أولئك الذين يثورون ضده بعدم تقوى، وهو يظل
في لطفه ولا يتحول بأي حال عن ما يليق به، وهو يعمل هذا ايضاً ليكون مثالاً، لكي
إذ نكون غيورين "لاتباع خطواته" (1بط 2 : 21)، فإننا لا نُمسك بالرد
"على الشتيمة بشتيمة، او عن الشر بشر" (1بط 3 : 9)، بل بالحري لكي
"نغلب الشر بالخير" (رو 12 : 21).

          (وهو يقول) لذلك،
"فإني لست أطلب مجدي، وهو لا يقول هذا كأنه يتيح الفرصة لأولئك الذين أرادوا
ان يشتموه كما لو كانت الشتيمة أمراً خالياً من الخطر، ولا كأنه يستثير اي واحد
لكي يمضي بسهولة في طريق عدم التقوى، بل هو بالحري يشير الى : (يقول) انا اتيت لا
لكي أجعل اكتساب المجد منكم هو عملي، ولا أرغب بالمرة في الكرامة او الشهرة. لأني
وإذ أنا في صورة الله الآب، قد وضعت نفسي، ولأجلكم صرت انساناً مثلكم. وذاك الذي
لم يأنف ان يأخذ صورة عبد، وإذ هو باقٍ في المساواة مع الله الآب، وله التمتع
الكامل بالأمور التي تفوق العقل والنطق، فكيف يعتبر انه يطلب مجداً من اي احد،
وليس بالحري انه يحتمل العار بارادته من اجل صالح الآخرين؟ وربنا هنا إما أنه يقول
هذا، او بطريقة أخرى أيضاً فإننا سنفترض انه "لا يطلب مجد نفسه". لأنه
كان في سلطانه ان يعاقب فوراً اولئك الذين يشتمونه وان يطلب تعويضاً عادلاً عن
تجديفهم، لأنهم تصرفوا بعدم تقوى ضد رب الكل ذاته : – فهو يحمل بهدوء ما هو مؤلم
ويحتمل ذلك لدرجة انه لا يرغب ان يحزن المتكبرين حتى بمجرد كلمة، ومع ذلك فلكي لا
يبدو التجديف على الله طريقاً سهلاً لأي أحد، لذلك فهو يمنعهم من ان يتقدموا في
هذا الطريق بأن يواجههم مباشرة بغضب الآب كحاجز يضعه أمامهم. لأنه رغم ان الابن
طويل الأناة ولا ينتقم مباشرة لأجل مجده الخاص، (فهو يقول) ان الآب لن يصبر عليهم
لأنه سيكون منتقماً وسيقوم ضد الشاتمين، لا كأنه يأتي لمساندة شخص آخر ولا كأنه
كان مسروراً ان يحزن نيابة عن واحد من القديسين الذين شتموا، واعتبر انه من اللائق
به ان يفعل هكذا، ولكن كأن الخطية صعدت اليه (الى الآب)، لأنه لا يوجد اي شيء
بالمرة يفصل بين الآب والابن، وأنا أعني من جهة وحدة الجوهر،
حتى رغم اننا
ندرك كل واحد منهما على أنه موجود قائماً بذاته متميزاً عن الآخر. لأنه لذلك ايضاً
يقول الرب يسوع المسيح في موضع آخر طمن لا يكرم الابن لا يكرم الآب" (يو 5 :
23). لأن الابن له طبيعياً في نفسه الآب ممجداً معه وكائناً معه، والآب ايضاً
له في نفسه الابن واحداً معه في جوهره، وهكذا ايضاً مشتركاً في مجده في كل شيء.

لذلك فإن اليهود التعساء سوف يعاقبون بسبب تجديفهم على الرب الذي هو الابن، فهم
يكفرون بالثالوث كله المساوي في الجوهر والقدوس، ويحزنون الطبيعة المالكة على
الكل، التي في الابن.

          لذلك ينبغي على كل من
يمارسون التقوى ان يتجنبوا الإساءة الى الإله الصالح. فلا ينبغي ان نكون كسولين
بسبب انه لا يسخط في الحال على أولئك الذين يسيئون اليه. فهو صالح، "ولا يسخط
في كل يوم" ومع ذلك "ان لم نرجع فسوف يحدد سيفه" كما هو مكتوب (مز
7 : 11، 12س)، "وسوف يحني قوسه ضدنا" (مز 7 : 12س) حيث توجد "آلات
الموت" (مز 7 : 13س)، اي كل نوع من الخزي والبلاء الذي لا يُطاق.

يو 8 : 51 "الحق الحق أقول
لكم، إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت الى الأبد".

          هو يوضح انه ليس من
الضروري ان يجمع أقوالاً كثيرة للرد على أولئك المغرمين بتوجيه اللوم، لأنه يشغل
ذهنه بما هو ضروري، وأنا أعني الدعوة الى الحياة الأبدية من خلال الايمان. وهو لا
يصرف عنه اولئك الذين قد احزنوه بواسطة جهلهم، بل هو يصيغ حديثه بطريقة فنية. لأنه
إذ قد قال سابقاً ان "الذي من الله يسمع كلام الله" (يو 8 : 47)، فهو
يقول مباشرة : "إن كان احد يحفظ كلامي" مبيناً بذلك انه الله بالطبيعة،
ومن ثم يعلم انه لا يبقى لليهود كفر أكثر من قولهم عن الذي يعطي الحياة الأبدية
لمن يحفظ كلامه، ان به شيطان. أفلا يكون معروفاً بهذا الكلام ايضاً انه الله
بالطبيعة؟ لأنه لمن تنسب القدرة على ان يحيي الى الأبد أولئك الذين يسمعون كلامه،
سوى لذلك الذي هو الله بالطبيعة؟

          الكلمة الإلهية تحفظ
حينما لا يتعدى الإنسان الوصية الإلهية بل يكون جاهزاً ويعمل ما يوصي به بلا
ابطاء، ولا يتهم بأي حال بالكسل في الشرائع الإلهية. ولكن لاحظوا ايضاً الدقة
الكبيرة التي تقال بها الكلمات لأنه لم يقل : إن كان احد يسمع كلامي بل يقول :
"إن كان أحد يحفظ كلامي". لأن هناك من يقبلون كلام الله في أذنهم،
وأولئك ليسوا فقط الممسوكين في الخطية بل ايضاً زمرة الشياطين الشريرة نفسها :
والشيطان في الواقع هو رئيسهم جميعاً، حينما يتجاسر ان يجرب ربنا يسوع المسيح في
البرية، وهو يرفس المناخس بسبب وحشيته الفظيعة، وقد وضع أمامه ايضاً الكلمة
الإلهية قائلاً : مكتوب أنه "يوصي ملائكته بك ليحفظوك في كل طرقك" (مز 9
: 11س، لو 4 : 10)، لذلك فكلمة الخلاص لا تكون بمجرد السماع، ولا بالتعلم فقط تكون
الحياة، بل بحفظ ما يسمعه الإنسان، وهو يضع أمامهم الكلمة الالهية كقاعدة للحياة
ومرشد لها. وهو يقول، إن الذي يحفظ كلامه بشكل تام "لن يرى الموت الى
الأبد"، وبالتأكيد هو لا يستبعد الموت بالجسد، بل كإله فهو لا يحسب الموت
موتاً، لأنه بالنسبة له ليس هناك شيء مائت لأنه يحضر الى الوجود ما ليس موجوداً
وبسهولة يحيي ما قد اضمحل. او هو يقول ان القديسين لن يروا الموت في الدهر الآتي،
ذلك الدهر الذي سوف ندرك تماماً وبملء الحق انه ليس له نهاية مثل التي لعالمنا
هذا، ويقول ان اولئك الذين حفظوا كلمته الإلهية لن يروا الموت في ذلك الدهر، لا
كأنه ينبغي ان يكون هناك موت بعد القيامة، إذ أن موت الجميع قد أبطل بموت المسيح
وقوة الفساد قد تلاشت ولكنه يطلق على العقاب الأبدي لقب الموت. ويمكن ان تتعلموا
هذا من ملاحظة ما سبق ان قاله هو نفسه أعلاه : يقول، "لأني أقول لكم من يؤمن
بالابن له حياة أبدية" والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة (أنظر يو 3 : 36).

          ومع ذلك فالجميع سوف
يقومون ثانية وسوف يسرعون ثانية الى الحياة، مؤمنين وغير مؤمنين. لأن القيامة ليست
قاصرة بأية حال على البعض فقط بل هي بالمساواة للكل، وهكذا فإن الجميع ينبغي ان
يحيوا ثانية.

          فكيف يمكن إذن ان الذي
لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، رغم ان الجميع يتوقعون ان يقوموا ثانية؟ ومن الواضح
اذن لكل البشر ان المسيح قد اعتاد ان يطلق لفظ "الحياة" على الحياة
الممتدة في البهجة والمجد والتي لا تنتهي، وهذه الحياة تُذخر بالرجاء للقديسين.
وذلك كما يقول، إن من لا يطيع الابن لن يرى حياة وإن كان الجميع يتوقعون ان يحيوا
ثانية ويقصد هنا ليس حياة الجسد، ولكنه يطلق هذا الاسم على الرجاء المعد للقديسين.
وبنفس الطريقة يقول ان الذي يحفظ كلماته الإلهية بشجاعة وقوة لن يرى الموت الى
الأبد. وبالتأكيد فهو لا يشير بهذا الى موت الجسد، بل الى العقاب المعد للخطاة.
وكما انه في الحالة الأولى يشار بلفظة "الحياة" الى الفرح، هكذا هنا
ايضاً يشار بلفظة "الموت" الى العقاب.

يو 8 : 52 "فقال له اليهود،
الآن علمنا ان بك شيطان".

          ومرة أخرى يتهمون
"الحق" الذي حينما دعاهم كاذبين استاءوا كما لو كانوا قد أهينوا. وإنهم
يشهدون بدون اختيارهم لكلمات المخلص، وبنفس كلماتهم هذه يبرهنون انه غير كاذب.
ولكن هؤلاء التعساء هم عميان ولهم قلب مملوء بجهل عظيم جداً حتى أنهم لا يفكرون
مطلقاً انه يجب عليهم ان يمحوا تلك الاتهامات التي اتهموا بها، بل انهم يسقطون في
شرور أردأ من الشرور السابقة ويمسكون في شراكهم الخاصة. فانظروا، انظروا ما هي
الاشياء ([xviii]) التي
يفكرون ان يلتمسوا بها عذراً لأنفسهم، كما لو كانوا لم يشتكوا ضده باطلاً، وبهذه
الاشياء يستحقون التوبيخ الكثير لكونهم كاذبين وهم يمسك بهم في رباطات خطاياهم
بأكثر سرعة. وهم ايضاً بأكثر حماقة يقولون هنا : "الآن علمنا"، فهم
يقولون الآن يعرفون. بينما هم الذين نبحوا كثيراً ضده وأعلنوا ان به شيطاناً وبذلك
يحكمون على انفسهم بأنهم لم يلجموا لسانهم فيما سبق. لأنهم ان كانوا "الآن
يعلمون هذا"، فهم لا يكونون قد عرفوا هذا سابقاً، فكيف إذن قالوا انه كان به
شيطان وهو الذي لم يكونوا قد أدانوه بحسب ما ظنوا هم عنه. لذلك كان شعب اليهود غير
التقي هو كاذب منذ القديم، واستخدموا لسانهم غير الملجم ليتقيئوا خبث الشيطان ضد
المسيح فهم يتصيدون ما تكلم به مخلصنا المسيح مبرهنين بذلك ان كلامهم تافه، لأنهم
بسبب شدة جنونهم (يبدو) انهم يظنون ان الحق (اي كلام المسيح) يمكن ان يساند ما هو
كذب (اي كلامهم) ثم كيف كان في امكانهم ان يتعلموا انهم في عدم تقواهم يقومون
بالتعدي، وإذ هم يشتمون معطي الحياة الأبدية فهم لا يشعرون انهم بهذه الوسائل انما
يتقدمون نحو شدة المرض. لأنهم يعتبرونه مناسباً ليس فقط ان لا يتوبوا عن تلك
الاشياء بل هم يقولون انهم مقتنعون ان ما يفعلونه هو الحق.

          ويكون النبي صادقاً
عندما يقول : "فإن طرق الرب مستقيمة والأبرار يسلكون فيها وأما المنافقون
فيعثرون فيها" (هو 14 : 9).

          ولكن ربما يُذهل المرء
من جنونهم الذي لا نظير له في هذا الأمر ايضاً. وإذ يرون جمعاً لا يُحصى من
الشياطين والأرواح الشريرة، وقد سحقهم مخلصنا بكلمة واحدة وطردهم ضد ارادتهم من
أولئك الذين كانوا يسكنون فيهم، فهم لا يرتعدون عندما يقولون ان به شيطان، رغم
انهم تأكدوا بالمجادلات اللازمة ان الشيطان لن يطرد شيطاناً. (فكما يقول المسيح)
"كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب وكل مدينة او بيت منقسم على ذاته يخرب. فإن
كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته؟" (متى 12 :
25، 26). ويمكن ان يقول المرء لسبب معقول، هوذا : "شعب جاهل وعديم الفهم، لهم
عيون ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون" (إر 5 : 21). لأنهم لا يتغيرون ويفكرون
بطريقة أفضل، لا بالكلمة والتعليم ولا بالنظر بعيني الفهم الى "الطبيعة
المالكة على الكل
". فهم ينظرون اليها باحتقار زائد كأنهم يقذفونها
بالحجارة، وكل واحد منهم يفعل هذا بنفسه.

يو 8 : 52 "قد مات ابراهيم
والأنبياء ماتوا وأنت تقول، إن كان أحد يحفظ كلامي، فلن يذوق الموت الى
الأبد".

          فحينما يقول شعب
اليهود الجسور جداً، وهم يتكلمون بالكذب ضد رأسهم الخاص، حينما يقولون للمخلص :
"بك شيطان"، فهم لا يريدون ان يشيروا الى شيء آخر سوى قولهم : أنت تجعل
نفسك الهاً، وكأنك تحيط نفسك بالكرامة والمجد اللذين يحقان للطبيعة الإلهية : لأن
هذا هو ما اعتاد عليه الشياطين كما قلنا سابقاً أيضاً. وهم لا يدركون اي شيء أبعد
مما هو منظور ولا يعترفون بالله الكلمة في جسد بشري، ولا يرفعون عقولهم ولو قليلاً
عن الأمور الجسمانية، بل هم يثبتون أفكارهم فقط على الأمور الأرضية، وينظرون فقط
الى الجزء الأدنى الخاضع للمس. ومن ثم فإن هؤلاء التعساء يعثرون ويفتضرون ان الحق،
اي المسيح، يتكلم كذباً، بل ويتخيلون انه يرفع نفسه فوق المجد الذي يليق بالله،
وهم لا يقولون فقط انه قائم في رتبة مساوية لذاك الذي يضبط كل الاشياء بل كأنه
يتطلع الى شيء اعظم، وكأنه يتوهم انه يستطيع ان يفعل، او انه يعد ان يفعل ما لم
يفعله الله الآب. وانه لأمر جدير بأن نفكر فيه ونتساءل : لماذا يثورون ويقولون ان
"ابراهيم والآباء والأنبياء ماتوا"، ولماذا يبرزون موت القديسين لكي
يقبلوا كلمات المخلص؟

          فهم يريدون ان يعبروا
عن شيء من هذا القبيل : نحن لم نتكلم كذباً بقولونا ان "بك شيطان".
والبرهان على كلامنا ليس بعيداً. فها أنت تعد بأن تتفوق على الله نفسه في عمل
المعجزات، وانك تستطيع بسهولة ان تفعل ما لم يفعله هو. لأن ابراهيم والأنبياء رغم
انهم حفظوا كلمة الله إلا أنهم لم يتكلموا ضد قوانين الطبيعة، بل انحدروا وسقطوا
في هذا الموت العالم للجسد، أما أنت فتقول ان من يحفظ كلامي فلن يذوق الموت أبداً.
فكيف اذن لا يقال ان اعمالك أعظم من اعماله. فذلك الذي يظن انه سيتفوق على الله،
كيف لا يكون مختل العقل بشكل واضح؟ لأنهم بسبب جهلهم الكبير هم يظنون ان الرب يشير
هنا الى موت الجسد فقط، ويعد الذين يطيعونه انهم سيصيرون احراراً من الموت الجسدي،
رغم ان اصحاب العقول اليقظة الذين يستطيعون ان يدركوا انه ليس هناك شيء ميت عند
الله وان مات فإن الله يقدر ان يحييه. لأنه إن كان قد جيء به من العدم الى الوجود،
فكيف ان هذا الذي سبق ان أوجد هكذا من العدم لا يكون أكثر قابلية ان يدعى الى
الوجود في المستقبل بسهولة، على الرغم من انهم يدركون انه يرقد لفترة صغيرة لأجل
التدبير. لذلك فاليهود، إذ هم لا يعرفون مجد المخلص، فهم يتصرفون بتعالٍ ضد كلامه،
ويقولون، ان به شيطان، باعتبار انه يعد بأن يعمل اموراً اعظم مما عمل الله :
ويبرهنون على اتهامهم بابراز موت ابراهيم والأنبياء القديسين. وبهذه الطريقة يظنون
انهم يتهمون المسيح بأنه يتباهى بكلمات فارغة عندما يعد انه سيعطي حياة لا نهاية
لها لمن يحفظون كلمته، وايضاً يتهمونه بأنه يبطل مجد الله بكونه يعترف بأنه
سيعطيهم أموراً أعظم.

يو 8 : 53 "ألعلك أعظم من
ابينا ابراهيم الذي مات والأنبياء ماتوا".

          ويدخل ضمن هذا كلام
اليهود وهو مشحون بمعنى خبيث : لأن ما هذا الذي يقولونه هنا – مفكرين بطريقة بشرية
– إلا أموراً مرة بحسب غرضهم الذي فيهم؟ لأنهم (يقولون)، ها هو ذا ابراهيم
والأنبياء رغم انهم حفظوا الكلمة الإلهية فإنهم قد ماتوا، ومع ذلك نسمعك انت الآن
تعد ببعض امور اعظم. لأن قولك انهم لن يموتوا ابداً فهم يكونون بكل تأكيد أعظم وفي
حالة أفضل من أولئك الذين ذكروا، وذلك بسبب عدم الموت. لأنهم يقولون أخبرنا وأجبنا
نحن الذين نسأل هذا – هل أنت أعظم من ابراهيم والأنبياء، أنت الذي تعد بأن تجعل
الآخرين أعظم من اولئك (ابراهيم والانبياء)؟ فهم قد ماتوا، فهل أنت لن تموت بل تظل
غير مائت رغم انك انسان، ولك جسد من الأرض فكيف إذن يمكنك ان تعطي للآخرين ما لا
تملكه انت نفسك، لأنك بالتأكيد سوف تموت لكونك انسان. ولكن ان لم تكن انت
"أعظم من ابراهيم والأنبياء، وستقاسي الموت مشتركاً معهم، فإنك لن تمنح
للآخرين خيراً أنت نفسك لا تمتلكه : ومثل هذا المعنى هو ما قالوه بطريق غير مباشر.

          ولا تتعجب من عدم
ادراكهم للمسيح ادراكاً أفضل من هذا : لأننا كما قد تكلمنا كثيراً وبطرق متنوعة،
فإنهم يحسبون انه مجرد انسان وواحد من أولئك الذين هم مثلنا؛ وهم يجهلون تماماً ان
الله الكلمة الوحيد الجنس، اتحد بالجسد.
(ويقولون) "من تجعل نفسك"؟
أنهم بسبب جنونهم غير المحدود يظنون انهم يصححون تعدي الرب، وكأنه لا يعرف ما هو
لائق، فهم ينصحونه ان يفكر تفكيراً متواضعاً. لأنهم (يقولون) انت لم تعرف يا هذا،
طبيعتك الخاصة، انت تنسى انك إنسان، انت لم تكتف بالمستوى المعطي من الله : لأنه
"من تجعل نفسك، انت الذي تعد بأن تعطي أموراً أفضل من تكل التي من سخائه،
وتجازف قائلاً إنك سوف تتمم أشياء تفوق قدرته؟

          لذلك هم يدينون المسيح
كأنه قد جدف، وهم ينقضون عليه كالعقارب، وهم يفترضون انه من الصواب ان يلوموا
المسيح (ظانين ان هذا أمر عادل) كأنه يحتقر القياس الواجب للإنسانية، وينطلق ويقفز
الى درجة كبيرة حتى يصل الى مجد يفوق المجد الطبيعي الذي لرب الكل، بل ويطأ كرامة
البطاركة والأنبياء القديسين : ورداً على تلك الأشياء التي يظنون انهم يثيرونه بها
ناطقين عن ضلالهم قائلين "من تجعل نفسك، فإنهم يتطلعون الآن لأن يسمعوه يصرخ
بجلاء قائلاً : أعظم من ابراهيم والأنبياء : وإذا قال الرب هذا فإنه يكون صادقاً
كلية، حيث إنه لا يوجد وجه للمقارنة بين البشر والله الذي هو فوق كل طبيعة منظورة
وروحانية.

يو 8 : 54 "أجاب يسوع إن
كنت أمجد نفسي فليس مجدي شيئاً".

          كل الغاية من الحديث
هي متجهة نحو ابراهيم القديس والأنبياء، ولكن المخلص يحول المعنى الى نفسه بطريقة
مقنعة، وهو لا يجهل ان الفريسي ميال للغضب – حتى بدون وجود سبب يدعوه الى ذلك –
وان الفريسي يجعل كل واحدة من كلماته (المسيح) سبباً إضافياً للتآمر بعنف أكثر على
قتله. لأن الحسد يجعل اصحابه محبين للخطية، ويستحثهم بحدة أكثر نحو الغيظ مما لا
ينبغي ان يغتاظوا منه. والمسيح سوف يشير الى شيء من هذا النوع ايضاً. واليهود
كانوا يندفعون ويناقضون ما يقوله هو، وهم يتكلمون دائماً وكثيراً جداً عن ابراهيم
المغبوط والأنبياء ويصرخون جهاراً : "ألعلك أعظم من ابينا ابراهيم الذي مات؟
والأنبياء ماتوا" واضافة الى ذلك، كانوا يتهمونه بأنه يقفز فوق مجد القديسين
ويرفع نفسه كثيراً جداً فوقهم، قائلين له : "من تجعل نفسك؟" فكان ينبغي
على الرب إذن ان يدافع بعبارات جلية عن هذه الأمور، ويقول بوضوح : أنا أعلى وأعظم
من ابراهيم والأنبياء. ولكن اليهودي صاحب الذهن المتعالي لم يكن ليحتمل هذا
الكلام، بل كان سيغضب على الفور بسبب ذلك ويتظاهر بأنه محب للآب (ابراهيم)، وإذ
يدعى انه يدافع عن مجد القديسين، فإنه يهاجم المسيح بأكثر حدة، وفي غيظه يبدو انه
متعطش تماماً للدماء : ولذلك فإن الرب إذ يحول الكلام عن نفسه يقول، "إن كنت
أمجد نفسي فليس مجدي شيئاً"؛ وكأنه يقول، لا ينبغي لأحد من أولئك الذين على
الأرض ان يفكر أفكار عظيمة عن نفسه؛ لأننا إن فكرنا في أنفسنا عن ما هو مجد
الإنسان، فإننا سنجد أنه لا شيء بالمرة؛ لأن كل جسد عشب وكل مجد انسان كزهر
عشب" (اش 40 : 6س). (ويقول) فليس عجيباً إذن ان ابراهيم قد مات وبعده
الأنبياء، لأن ما هو مجد الإنسان وقد استبعدت طبيعته للموت والفساد (الإنحلال)
ولذلك تشبه بالعشب الذي يذبل سريعاً؟

          ويبدو محتملاً انه
بتحويله القياس الخاص بابراهيم والأنبياء، بمهارة الى نفسه وقوله "ليس مجدي
شيئاً"، فإن الرب يدعو اليهودي الى تذكر ابراهيم الذي قال بوضوح عن نفسه :
"أنا تراب ورماد" (تك 18 : 27)، والى تذكر الأنبياء المباركين وهم
يصرخون الى الله : "اذكر اننا تراب نحن" (مز 102 : 14س) ونحن لا نقول ان
ذاك الذي يمجد القديسين هو بهذا الكلام ينقص مجدهم : بل كان ذلك من الضروري لأن
كلمة المنفعة كانت تدعوه ان يبين الفارق العظيم بين طبيعته الإلهية التي لا يعبر
عنها وبين طبيعة أولئك الخاضعين للموت والإنحلال.

يو 8 : 54 "أبي هو الذي
يمجدني".

          ولأجل الشرح الدقيق
وايضاح الفكرة عن الأشياء المشار اليها، فإني سأستخدم نفس الكلمات وأواصل نفس
الحديث. فاليهود دائماً يضعون سؤالاً وكأنه لا حل له، ويضعون مشكلة ليس من السهل
تنحيتها، ويقولون : "العلك أعظم من ابينا ابراهيم الذي مات والأنبياء ماتوا،
من تجعل نفسك؟" (يو 8 : 53)، ويفترضون انه هو نفسه ايضاً سوف يموت، ويكون
خاضعاً للموت والانحلال، وبهذا لن يكون أعظم من ابراهيم والأنبياء؛ واليهود لم يكن
لهم اي تفكير عظيم من جهته : وإذن فقد كان من الضروري ان ربنا يسوع المسيح الذي
هو من أزلية ذلك الذي ولده – ان يوضح انه أزلي،
لذلك يقول : "الآب الذي
يمجدني هو موجود"، مريداً ان عبارة "هو موجود" لا تفهم هنا
ببساطة ولا بدون فحص، بل بالحري يضعها كمؤشر على وجود أبيه، والابن المولود بطريقة
لا يعبر عنها من "الآب الموجود" يحمل معه خاصية أبيه اي
"الوجود".
اذن فهو أعلى من كل من ابراهيم والأنبياء، لأن هؤلاء قد
ماتوا لأنهم مولودون من التراب من آباء مائتين، أما هو الخارج بطريقة تفوق
الإدراك، من ذاك الذي هو كائن، فهو ممجد دائماً من أبيه الخاص، لا كأنه ينقصه
مجد
(لأنه ملك المجد مز 24 : 10)؛ بل كمن له فخر لكونه مولوداً من أب أزلي،
ولذلك يكون هو نفسه أزلياً ايضاً، لأنه يحمل جوهرياً كرامة ذلك الذي ولده.

          لذلك فالقول إن الآب
مجده لن يسئ الى الابن بأية حال، من جهة ما هو لائق بالله، ملاحظين ان الآب نفسه
ايضاً يُمجد بطريقة مماثلة من الابن لا كأنه يحتاج الى مجد، بل لأن الكائن
المعروف بأنه أب لمثل هذا المولود، هو إله،
(والمولود منه) كائن مثله ويقدر
بالمجد الذي له.
لذلك فالابن نفسه ايضاً يقول للآب : "أيها الآب مجد ابنك
ليمجدك ابنك ايضاً" (يو 17 : 1). ومن ثم فإن مجد الانسان ليس شيئاً على
الإطلاق، لأن المجد الذي من الأرض ينحدر الى الموت، وذلك فيما يخص الجسد، رغم
انه سيقوم. فالابن الوحيد يمجد من ابيه على ان له كل الصالحات التي لجوهره كخاصة
له حقاً.
فإلى أية درجة يختلف هو عن الخليقة كلها. هذا ما يشير اليه المرنم
المبارك ايضاً باختصار صارخاً بصوت عال : "السموات تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب
تبلى، كرداء تغيرهن فتتغير، أما أنت فسنوك لن تنتهي". (مز 102 : 26، 27) لأن
كل شيء مخلوق هوخاضع للانحلال بالموت حتى لو لم يكن قد انحل بعد، وهو محفوظ بالإرادة
الإلهية لكي لا يفنى، أما طبيعة الله فهى لا تقبل الاضمحلال وهي أزلية، وليست مثل
الخليقة التي تأخذ طبيعتها بإرادة آخر، بل هو موجود دائماً في صلاحاته التي هي
خاصة به.

يو 8 : 54، 55 "… الذي
تقولون أنتم إنه الهكم (وأنتم) لستم تعرفونه…".

          هو يدحض كلامهم أيضاً
لكونهم يمارسون فقط عبادة الكلمات المجردة، دون معرفة الله بحق. وهو ينطق ضدهم بما
سبق أن أعلن بواسطة النبي : "فقال السيد، لأن الشعب يقترب مني ويكرمني
بشفتيه، أما قلبه فيبتعد عني كثيراً" (اش 29 : 13س). والآن فهو بطريقة نافعة
وبما يتوافق مع النطق القديم يقول : "أنتم لستم تعرفونه" وهذا صحيح، لأن
مجرد معرفة أنه اله، فليس معنى هذا انهم حصلوا على معرفة الله (لأن كون ان الله
موجود وأنه كائن، فهذا ايضاً "ما تؤمن به الشياطين وتقشعر" كما هو
مكتوب) ولكن، بالإضافة الى معرفة انه كائن، فمن اللائق ان يكون للإنسان أفكار
مناسبة وجديرة عنه؛ وهكذا (فإني افترض) أنه لا يوجد ذهن متعقل يفحص عن ماهية الله
بالطبيعة، لأنه من المستحيل وجود إجابة على هذا. أما ما هو من خصائصه او ليس من
خصائصه فيمكن للواحد ان يعرفها بسهولة إذا كان الإنسان ملماً بالكتب المقدسة :
لأننا نعرف وقد آمنا انه القادر، ونحن نعرف انه ليس ضعيفاً. نحن نعرف أنه صالح،
ونعرف أنه ليس شريراً. نحن نعرف انه بار وأيضاً انه ليس غير عادل. نحن نعرف انه
أزلي، ونحن متفقون ونؤمن أنه ليس محدداً بالزمن وليس زائلاً مثلنا.

          واليهود قالوا
واعترفوا بوضوح، بالكلمات والصوت ان الله هو الههم، ورغم ذلك فهم يجهلونه، ومن جهة
كونه غير فان وأبدي فإننا سنجد أنهم لم يفهموا هذا، لأنهم لو كانوا قد عرفوا لما
كانوا قد انحدروا (كما أظن) إلى تلك الدرجة من الخبل حتى يفكروا ان الابن الوحيد
الجنس الذي يأتي من جوهره سوف يموت. ولما كانوا قد أشاروا الى موت ابراهيم والأنبياء،
ولما قالوا بحماقة "من تجعل نفسك"، أفلا يقول اي انسان عاقل انه كان من
الضروري ان اولئك الذين يعرفون من يكون الآب بالطبيعة، ينبغي ان يؤمنوا ان
الابن الصادر منه ايضاً كذلك؟ لأنه كما ان الينبوع يصدر منه بكل تأكيد ماء حلو،
وكما ان الأشجار التي من نوع جيد تعطي بكل تأكيد ثمراً من نوع جيد، هكذا أتصور انه
ينبغي للإنسان ان يؤمن ان ذاك الذي هو من الله بالطبيعة هو اله حقيقي وأن ذاك الذي
هو مولود من أب أزلي فهو أزلي مثل الذي ولده.
إذن فمن الملائم ان نقول هنا
ايضاً لليهود : "اجعلوا الشجرة رديئة وثمرها رديئاً او اجعلوا الشجرة جيدة
وثمرها جيداً، لأن الشجرة الجيدة لا تستطيع ان تأتي بأثمار رديئة؛ ولا الشجرة
الرديئة ان تأتي بأثمار جيدة. كيف إذن يكون ممكناً، او بالحري كيف لا يكون
مملوء بكل حماقة ان تعتبر ان ذاك الذي هو مولود من أب غير مائت مائتاً، وان نجعل
ذاك الذي لا يعرف الفناء (الفساد) معدوداً مع أولئك الذين هم تحت فساد الموت؟

يو 8 : 55 "وأما أنا
فأعرفه. وإن قلت إني لست اعرفه أكون مثلكم كاذباً..".

          (يقول)، أنا لم أتكلم
كذباً بقولي لليهود "إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت الى الأبد"
(يو 8 : 51)، لأني أستطيع ان اجعله غير مائت، إذ أني أعرف ان ذاك الذي أنا منه
هو قادر ان يفعل هذا مدركاً اني اعرف ان ابي هو بالطبيعة الحياة. لذلك فكما هو
الحياة فكذلك انا ايضاً الحياة، اي بالطبيعة (وأني) معطي الحياة. ولكن إن أنكرت
قدرتي على الإحياء أكون غير عارف بأبي، ولأني أملك خاصية جوهره، فإني قادر ان احيي
مثلما هو يحيي. وإذن، فإني أقر أن كل ما هو للآب هو لي. وأؤكد أني أنا (أكون) كما
هو (يكون). ولهذا السبب فباعترافي انني اعمل اعماله، فإني بكل تأكيد أعرفه.

وإن قلت إن خصائص الآب ليست لي فإني أكون كاذباً مثلكم وكأني لم أعرف الآب، وذلك
لأني لا أتظاهر بما ليس فيَّ. نعم، وحينما أقول إن مجد ابراهيم والأنبياء هو لا
شيء عالماً انه من الأرض، وانهم بشر بالطبيعة، والموت ليس غريباً بالنسبة اليهم
وان مجدي هو (مجد) أزلية الآب فأنا أقول هذا كعارف بالآب : وإن قلت إني سأنحدر الى
الإنحلال مثلهم وإني لست أزلياً مع الآب، سأكون متكلماً بالكذب مثلكم، وأكون غير
عارف بالآب الذي أنا منه. لأنه من المستحيل إن ذاك الذي هو (مولود) من الذي هو
كائن وباقٍ دائماً كما هو (أي الآب)، ان لا يكون هو ايضاً موجوداً وباقياً كما هو
الى الأبد، لأن المولود من الأزلي هو أزلي.

          لأنه يمكن للمرء اذا
تناول الفقرة التي أمامنا بأكثر بساطة، ان يقول انها قيلت بطريقة أخرى : (يقول)
"أنا أعرف أبي، وإذا قلت إني لا أعرفه أكون كاذباً مثلكم أنتم الذين لا
تعرفون الله، بينما تقولون إنكم تعرفونه".

          وإذ قد سبق ان قلنا
بوضوح ما هو نوع المعرفة وما هي أخطاء عدم المعرفة، فسوف لا نضيف شيئاً آخر لا
لزوم له.

يو 8 : 55 "… ولكني أعرفه
وأحفظ قوله".

          من جهة ما نلاحظه لأول
وهلة على الكلمات التي أمامنا، نقول هذا، إن المسيح يتكلم هنا ايضاً كإنسان نازلاً
بنفسه الى مستوانا، وهو لا يرفض ان يكون في هيئة العبد في الوقت المناسب. لذلك
يقول إنه يعرف الآب ويحفظ قوله. ونحن بالتأكيد لا نقول انه بالضرورة يشهد بهذه
الأشياء لنفسه، ولا إنه يعدد حساب ما يحق له، ولكن يوجد في هذا الكلام مهارة
كثيرة. لأنه بقوله إنه يعرف الآب ويحفظ قوله فهو يبين ان اليهود يفكرون ضد الأمور
التي يؤكد هو أنه يملكها، غذ أنهم لا يعرفون الله من ناحية، ولا يعتقدون انهم
ينبغي ان يحفظوا كلمته، وإلا لكانوا قد قبلوا بكل غيرة ذاك الذي قد سبق التبشير به
بواسطة موسى والأنبياء. ويوجد أيضاً في وسطنا مثل هذا النوع من الكلام
([xix]) الصالح والرائع جداً، الذي له قوة التوبيخ والذي يلمح
بلطف الى بعض الشرور التي يفعلونها ولكنه يوقف غضبهم بتوبيخه. فمثلاً، إن كان هناك
انسان حليم وصالح وهو يوبخ اللص والسكير قائلاً : أنا شخص حليم ولم أسرق ما لغيري
ولم أسكر بتاتاً. ومثل هذا الشخص هو بالتأكيد لا يشهد لنفسه بهذا الكلام، كما اننا
لا نفترض انه يتكلم هكذا، بل هو يضع على أولئك الذين يوبخهم ما هو ضد ما هو موجود
فيه. لذلك، فإن ربنا يسوع المسيح ايضاً يقول انه يعرف الآب ويحفظ كلمته، وبالعكس
فإنه يقول هنا عن اليهود غير الأتقياء إنهم لا يعرفون الله ولا يحتملون كلمته ولا
يحسبون الناموس المعطى لهم من فوق، أنه جدير بأن يُحفظ تماماً.

          ولكن إن كان يجب ايضاً
بطريقة أخرى ان نفحص ما هو أمامنا وننظر بدقة أكثر الى ما يصرح به تلميحاً، فإننا
سنضيف هذا ايضاً : الابن يعرف اباه، ليس من نوع المعرفة التي لنا، بل معرفة تليق
بالله وتعلو عن الشرح. لأنه كما ان الانسان يولد من انسان، لا كأنه يتعلم من اي
شخص آخر بل ممن ولد هو نفسه منه، وهو لا يجهل طبيعة الذي ولده، هكذا الابن ايضاً،
فإنه يعرف الذي ولده ويحفظ كلمته، اي له تعريف جوهره محفوظاً كلية في نفسه، لأن
لوغوس معناها تحديد (تعريف). لأن لوغوس اي انسان، هو تحديد جوهره، اي انه مخلوق،
حي، عاقل، مائت متقبل للفكر والمعرفة. فمثلاً لوغوس الملاك (اي الكلام عن الملاك)
يكون هو تعريف بجوهره. أما الله بالطبيعة فنحن لا نحصل على اللوغوس الخاص به، اي
تحديده، لأننا لا نعرف ما هو بحسب الطبيعة، أما الابن فيعرف أباه، وإذ هو مولود من
جوهره يعرف ما هي طبيعة الذي ولده؛ وإذ يستعمل طريقتنا المعتادة ويستخدم كلمات
بشرية (عن نفسه) يقول : إنه هو كلمة (لوغوس) الآب باعتباره تعريفاً بجوهره. لأنه
هو صورة ورسم ذاك الذي ولده، ولا يمكن بأية حال ان تُنسب اليه عدم المماثلة، بل هو
له في ذاته كل الأمور اللائقة بالله والامتيازات الإلهية الخاصة بذاك الذي ولده.

يو 8 : 56 "ابراهيم أبوكم
تهلل ان يرى يومي فرأى وفرح".

          يقصد باليوم هنا ليس
شيئاً آخر سوى وقت
مجيئه (بالجسد) الذي فيه اضاء علينا النور الحقيقي وأشرقت شمس
البر وتبددت الظلمة التي كانت تحيط بنا مثل الضباب؛ بينما كان رئيس هذا العالم لا يزال
متسلطاً وطاغياً وكأنه كان يجعل العالم كله مظلماً بضلالاته، وطارحاً العالم كله في
ضلال تعدد الآلهة مسبباً إظلاماً بطرق متنوعة لذهن كل واحد. لذلك إذ عرف المرتل الإلهي
ايضاً زمن مجيئه المشتاق اليه جداً على انه "يوم" فإنه سبق ان نطق عنه بالروح
قائلاً : "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنبتهج ونفرح فيه" (مز 117 : 24س).
ومن جهة أخرى فمن عادة الكتب المقدسة ان تدعو الوقت الخاص بكل عمل "يوماً"،
مثل : "فإن لرب الجنود يوماً على كل متكبر ومتعظم وعلى كل مرتفع فسيوضعون"
(اش 2 : 12س). وأيضاً "ماذا ستصنعون في يوم الاحتفال وفي يوم عيد الرب"
(هو 9 : 5س). نعم والمرتل يقول : "في ذلك اليوم" (مز 145 : 4س) سوف تهلك
بالتأكيد كل أفكارهم، محدداً وقت الدينونة الإلهية العتيدة بأنه "يوم"، ذلك
اليوم الذي لن ينفع خداع الأفكار البالية ذوي الشهرة في العالم، (ولن ينفعهم) الانتفاخ
الفارغ بالغنى.

          لذلك (يقول)، "ابراهيم ابوكم تهلل ان يرى
"يومي" فرأى وفرح". كيف او متى رأى ابراهيم المبارك – كما نعتقد – يوم
مخلصنا المسيح اي وقت مجيئه بالجسد؟ هذا الأمر لا يتسع للمناقشة (ولا يستطيع المرء
ان يأخذه ويتحدث عنه مجرد حديث)، ولكن إذ نعتبر جيداً (بقدر الإمكان) ما يتصل بهذا
الأمر هنا، فإننا سوف نقول إن الله كشف له سره الخاص كما لواحد من الأنبياء القديسين.
او يمكن ان نسلم انه رأى حقاً يوم ذبح الرب (الذي بسببه تحولت كل الأشياء الى سعادة
عظيمة لنا وصرنا أغنياء)، الذي كمثال له أُمر ابراهيم ان يقدم ابنه الوحيد وبكره اسحق،
ذبيحة : لأنه كان يقوم بعمل الكاهن في ذلك الوقت، وهكذا، فالمعنى الدقيق للسر صار واضحاً
كما في مثال، وذلك في ما حدث.

          ويمكن للمرء ان يقدم لأولئك الذين هم أكثر حباً للبحث
أمثلة لحوادث أخرى. فإنه رأى ثلاثة رجال عند بلوطة ممرا. بل وايضاً نار وعداً من الله
بأنه سيكون أباً لأمم كثيرة. وهذا الأمر لم يكن ممكناً ان يتحقق بأي حال إلا بدعوة
الأمم بواسطة الايمان بالمسيح، ويدرج ابراهيم اباً لهم ليجلسوا معه في ملكوت السموات،
ويشتركوا في سخاء مخلصنا في كل الخيرات. لذلك (يقول)، ابراهيم المبارك رأى، وإذ رأى
فرح بيومي، وينبغي ان نتحدث عن السبب الذي جعل المخلص يقول هذه الأمور ايضاً.

          فاليهود إذ رأوه انساناً بسبب حجاب الجسد، فإنهم
لم يدركوا عنه اي شيء لائق بالله، بل كانوا يفترضون انه هو ايضاً مائت مثلنا، وانه
أُوجد من العدم. وهم بسبب مشورتهم السيئة جداً، لا يؤمنون انه أزلي وانه من أب أزلي.
لذلك، فلكي يبين بوضوح أنه ليس حادثاً وليس مخلوقاً مثلنا، بل انه كان معروفاً ايضاً
بواسطة أقدم آبائهم بأنه أزلي، لذلك يقول هذه الأمور. وفي هذه الأمور عينها يبدو انه
يوبخهم بطريقة نافعة. وبسبب انهم يتصرفون بدون حكمة وبتفكير أحمق، فإنهم يزدرون بمن
كان سبب فرح حقيقي لمن هو أصل جنسهم (ابراهيم). لأنه (ابراهيم) رأى وفرح، ومع انه كان
في متناولهم ان يستمتعوا به (بالمسيح)، إلا أنهم يهينونه بعدم ايمانهم ويقاومون نعمته
المجيدة جداً بتبجح. وربما هو يلمح الى هذا بأنه أعظم وأفضل من ابراهيم الذي كان يبتهج
ابتهاجاً عظيماً لمجرد انه يعرف شيئاً عنه. وهو لم يكن يتكلم صراحة وبدون حجاب بسبب
غضبهم الشديد، ولكنه يوضح الأمر بطريقة أخرى.

          ولا يفترض أحد ان يسوع عندما يقول : "ابراهيم
أبوكم (مات)" انه يناقض نفسه، لأنه في موضع ما يباعد بينهم وبين ابراهيم قائلاً
: "لو كنتم ابناء ابراهيم لكنتم تعملون اعمال ابراهيم" (يو 8 : 39)، أما
الآن فهو يدعوهم ابناء ابراهيم. ولكن ينبغي ان نعرف أنه في الحالتين فهو يتجه بحديثه
الى الحق، لأنه في الحالة الأولى إذ يتحدث عن نوع السمو الروحي، فإنه يتحدث عن القرابة
بتشابه العادات أما في الحالة الثانية فهو يخصص لهم مجرد القرابة الجسدية، وبذلك يصدق
في الحالة الأولى، وفي الحالة الثانية لا يكذب.

يو 8 : 57 "فقال له اليهود ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت
ابراهيم؟"

          إن اليهود يتكلمون بدون فهم بالمرة وكلامهم مشحون
بسخف كثير. ويتعجب المرء – عن حق – كيف انهم ناقصوا الفهم الى هذه الدرجة، حتى انهم
لا يستطيعون بالمرة ان يدركوا الأمور كما ينبغي. لأنه رغم ان مخلصنا المسيح يتحدث كثيراً
ويكرر مرة بعد مرة نفس الكلمات ويتحدث فيها كثيراً عن أزليته إلا ان هؤلاء لا يفكرون
بما يزيد عن ما يرونه بعيون أجسادهم ولا حتى بذرة واحدة. ولكنهم وكأنهم مصابون بالخبل
التام، وكأن ذهنهم أصيب باضطراب شديد، فإن قلبهم لا يبلغ الى الأمور التي تليق بالله،
بل كما لو كان هو (المسيح) عندهم كواحد منا نحن البشر له بداية وجود ويحسب انه بين
الأشياء الكائنة حينما ولد. ولهذا فهم بحماقة يتهمونه بالكذب، ولا يحسبون ما سمعوه
منه صحيحاً. ولأنه قال إن ابراهيم رأى يومه، فقد حولوا معنى الكلمة الى عكسها لأنهم
قالوا "ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت ابراهيم.؟"

          لذلك، فما أتعس اليهودي الأحمق صديق الجهل المطبق،
وهو يجعل الجنون صديقه المتهور.

يو 8 : 58 "قال لهم يسوع، الحق الحق أقول لكم، قبل ان
يكون ابراهيم أنا كائن".

          ومرة أخرى يسير المسيح نحو وسيلته المعتادة والمفضلة،
لأنه في بعض الأوقات يتحدث بغموض شديد، ويحجب قصده بحجب متنوعة لكي لا يكون القصد واضحاً
او مكشوفاً. ولكن حينما يرى ان السامعين لم يفهموا اي شيء بالمرة، فعندئذ يجرد حديثه
من كل غموض ويضعه أمامهم مكشوفاً وواضحاً. وهذا ما يحاول ان يفعله في هذه المناسبة
الحاضرة. فحيث انه وجد انهم لم يفهموا شيئاً (بالرغم من حديثه الطويل، الذي كان قد
قدمه) كما أنهم لم يكونوا قادرين ان يدركوا انه ازلي لكونه من أب أزلي، وأنه أعظم من
ابراهيم بما لا يقاس لكونه إلهاً؛ لذلك فهو الآن يتحدث علناً، ويستعمل عبارة
"الحق الحق" على انها قسم لتثبيت الأمور التي تقال، ثم (يكمل) "قبل
ان يكون ابراهيم انا كائن".

          ونحن لن نفكر بأي حال ان الابن الوحيد يفتخر بكونه
قبل ابراهيم فقط، لأنه (المسيح) هو قبل كل زمان وولادته أزلية، إذ هو في الآب بلا بداية.
ولكن حيث ان مجال المقارنة بابراهيم مفتوح امامه الآن فهو يقول انه أكبر منه تماماً
مثلما يقول الرقم 100 مثلاً، أنا أكبر من رقم 10، وبالتأكيد لن يقول هذا على انه يشغل
الرقم الأعلى مباشرة من رقم 10، لكن الرقم 100 يقول هذا لأنه أكثر بكثير جداً من رقم
10. لذلك فهو لا يجري مقارنة بينه وبين زمن ابراهيم، كما انه لا يؤكد انه يسبق زمن
ابراهيم بوقت قليل، بل حيث انه فوق كل زمان ويتجاوز رقم كل عصر، فهو يقول انه قبل ابراهيم.
بهذا فهو ينطبق بالحق.

          وإذ هو يقول الحق تماماً عندما يتحدث عن ابراهيم،
قائلاً عن نفسه : "اني كائن" قبل ان يكون ابراهيم، فإنه يبين انه بالنسبة
لمن هو مخلوق من العدم فبالضرورة يصير الى الاضمحلال، أما بالنسبة لذلك الذي هو كائن
دائماً فهو بعيد تماماً عن الاضمحلال.

          إذن فهو أعظم وأعلا من ابراهيم، أعظم لأنه أزلي وأعلا
لأنه لا ينحل كما ينحل ابراهيم.

يو 8 : 59 "فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج
من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى هكذا".

          إذ هم لا يرون الحق – فإنهم في الواقع هم انفسهم
كذابون ولهم ايضاً أب كذاب كما يقول المخلص – بل هم يغضبون بدون وجود سبب للغضب. وإذ
يعتقدون انهم ينبغي ان يناضلوا لأجل مجد جدهم، كما لو كان ينبغي ان يعرفوا معنى الأمور
التي قيلت ومن هو هذا الذي يتكلم هكذا، بل بتحولهم الى جنون غير معقول ووحشي، فإنهم
يحاولون ان يلقوا عليه الحجارة، وكأنهم لم يكونوا قد أساءوا اليه بدرجة كافية قبل ذلك
بشكواهم الكثيرة، وبحماقتهم فإنهم يجلبون على انفسهم غضباً ليس بقليل. لذلك فإن
محاولة اليهود هي حمقاء جداً حادة جداً. ولكنها لا تتحول الى فعل في غير الوقت المناسب،
لأن ساعة آلامه لم تكن قد جاءت بعد.

          فالمسيح يخفي نفسه لا منسحباً وراء الجدران، ولا
واضعاً شخص آخر أمامه (ليخفيه) بل بقوة لاهوته يجعل نفسه غير منظور لأولئك الذين يطلبونه.

ولم يكن يكفي ان يختفي عن عيونهم بل هو ايضاً يخرج من الهيكل مقدماً لنا مثالاً في
الأمور الروحية. فبالنسبة لأولئك الذين يحبونه هو ظاهر دائماً كما قال هو : "طوبى
لأنقياء القلب لأنهم سيعانون الله" (مت 5 : 8). ولكنه يبتعد عن أولئك الذين
يميلون لمحاربة الله. ولا يستطيع أحد من الذين يسلكون بعدم تقوى ان يراه.
وهو لا
يحب ان يكون او يسكن مع أولئك الذين يضطهدونه، بل هو بالحري يبارح أولئك الذين يسيئون
معاملته، آخذاً معه كل فرحٍ وتاركاً اياهم عارين من انعاماته، وذلك بسبب رغبتهم ان
يفعلوا به شراً وبسبب محاولاتهم عديمة التقوى. ورغم ذلك فالمسيح يبين ان كل ما يفعلونه
من أمور فهو باطل، وبقدرته التي لا يُظن بها فإنه يبطل تماماً كل جسارة نجسة لأولئك
الذين يتعدون عليه.



[i] يبدأ القديس
كيرلس بشرح الأصحاح ابتداءً من عدد 12 .

[ii] يضم القديس
كيرلس شرحه لإنجيل يوحنا إلى عدة كتب وكل كتاب منها يقسمه إلى فصول ، وهذه الفصول ليست
هي الإصحاحات الحالية . والكتاب الأول الذي يشير إليه هذا يشمل عشرة فصول وتصل إلى
آية 28 من الأصحاح الأول . وحديثه عن " كان النور الحقيقي " المشار إليه
في يوحنا 9:1 موجود في الفصل الثامن من الكتاب الأول ص 88 من الترجمة العربية الجزء
الأول 1989 م .

[iii] القديس كيرلس
يضع كلمة قديس التي وردت في نهاية عدد 5 من مزمور 99 ، يضعها في بداية العدد 6 على
غير ما ورد في الترجمة السبعينية بسبب ترقيمها الحالي حيث جاءت في العددين 5 و 6 هكذا
" علوا الرب إلهنا وأسجدوا عند موطئ قدميه قدوس هو . موسى وهارون بين كهنته
.. "

[iv] أي بسبب الجسد
الذي اتحد به الرب .

[v]   

[vi] ، وهنا يستعمل
تعبير شخصين على أقنومي الآب والإبن .

[vii]  )كلمة "جوهر "
المستعملة هنا هي في اليونانية
ousia ويلاحظ أن ق. كيرلس يستعمل أحياناً لفظ ousia وأحيانا
لفظ
uostasi" التي تُترجم " أقنوم " بنفس المعنى ، كما
جاء في صفحة 31 .

[viii]  يقصد بهم الأريوسيين . وقد أصدر مجمع نيقيا المسكوني هذا الحرم
: إنما أولئك الذين يقولون كان هناك وقت حينما لم يكن موجوداً ، أو لم يكن قبل أن يُولد
، فهؤلاء تحرمهم الكنيسة الجامعة الرسولية ]

[ix]  وردت في بعض مخطوطات إنجيل يوحنا كلمة oti ( = لأن) بدلاً من ote ( بمعنى حين) ، ومن هذه المخطوطات مخطوطة القديس كيرلس في هذ1ا الموضع
والمخطوطات المشهورة : الفاتيكانية والإسكندرانية والسينائية .

– أنظر الأية يو 41:12 في النص اليوناني للعهد الجديد
طبعة :

Kurt
Aland, Matthew Black Bruce M. Metzger, Allen wikgren – 1966.

[x] الشقوق أو الأخاديد

[xi] يشير إلى نبرة
الأوسكيا (الصوت الصاعد) التي تُوضع على بعض الحروف اليونانية ، والموضعة على الصمير
" أنت "
su

[xii]  

( ([xiii]يقصد وعد
المسيح بأن يحرر من العبودية.

[xiv]  اي
ذكره انه ابن الله الآب وان الآب ارسله.

[xv]  هو
اسم شخص ثرثار يفأفئ كثيراً بلا توقف.

[xvi]  يفسر
البعض النص "كذاب وأبو الكذاب على انه "كذاب مثل أبيه"، كما لو ان
هناك أباً للشيطان وهذا ما يعالجه هنا القديس كيرلس.

[xvii]  يقصد
ان اليهود بشرهم يعطون الفرصة لإهلاك أنفسهم بأنفسهم.

[xviii]  هذه
الاشياء هي اتهامهم للمسيح بأنه سامري وان به شيطان كما هو وارد في الآية موضوع
الشرح (يو 8 : 52).

[xix]  اي
مثل هذا الكلام الذي بشر به موسى والأنبياء عن المسيح.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي