الإصحَاحُ
السَّادِسُ عَشَرَ

 

فشل
إسرائيل في تمييز علامات الأزمنة

(عدد
1-4؛ مرقس 10:8-13؛ لوقا 54:12-57)

«وجاء
إليه الفريسيون والصدوقيون ليجربوه فسألوه أن يُريهم آية من السماء. فأجاب وقال
لهم إذا كان المساء قلتم صحو لأن السماء محمّرة. وفي الصباح اليوم شتاء. لأن
السماء محمرّة بعبوسة. يا مراؤون تعرفون أن تميزوا وجه السماء وأما علامات الأزمنة
فلا تستطيعون. جيل شرير فاسق يلتمس آية ولا تُعَطى له آية إلا آية يونان النبي. ثم
تركهم ومضى»

عاد
قوم من الفريسيين والصدوقيين يقصدونه ليجربوه. لقد كان الفريقان مضادين لبعضهما
بشدة من جهة معظم تعاليم الكتاب، ولكنهما اتحدا في رَفض الرب يسوع- المَلك الموعود
به. وإذ كانوا يعرفون الأنبياء عَلموا أنه توجد علامات وآيات مزمع حدوثها قبل ظهور
المسيا، فجاءوا إلى يسوع وسألوه أن يُريهم آية من السماء- أي من الآيات الدالة على
حُلول عصر المسيا، ذلك ليس لأجل معرفة الحق بل «ليجربوه». فوبخهم الرب يسوع على
عدم إيمانهم إذ كانوا قادرين على تمييز وجه السماء من جهة أحوال الجو، وأما علامات
الأزمنة فلا يستطيعون تمييزها. لو كانت عيونهم مفتوحة لرأوا أن كل معجزات المسيح
هي علامات الدهر الآتي الدالة على حضور المَلك. لقد كان المسيا في وسطهم، رب
السماء والأرض كان معهم ولكن «الظلمة لم تدركه». كانوا عميانًا فلم يستطيعوا أن
يدركوا أمجاده الأدبية والروحية. كانت أمامهم أعظم آية أعطاها الله للإنسان- شخص
ابنه الحبيب الذي تَنكسف أمامه كل الآيات، ولكن عدم الإيمان، أمام نور أبهر من
لمعان الشمس لا يزال يطلب أيضًا ضوء شمعة.

فأجابهم
الرب هذه المرة جوابًا مختصرًا جدًا ثم تركهم ومضى لأنه لماذا يصرف وقتًا أكثر
معهم وقلوبهم الغليظة قد أعمت عيونهم (إصحاح 15:13)؟ ولم يكن عنده جواب لهم سوى
قوله السابق أن الله يرد على طلبتهم ويعطيهم آية يونان النبي. وما هذه الآية سوى
آية شخص اختفى عن شعب اليهود جائزًا في رمز الموت ثم رُدَّ إليهم ثانية. فهي رمز
الموت والقيامة. وعندما تمت الآية وقام الرب يسوع من الأموات لم يقتنع أولئك
المقاومون. ولكنت الرسالة التي احتقرها اليهود أرسلها الرب إلى الأمم.

 

التحذير
من خمير الفريسيين والصدوقيين

(عدد
5-12؛ مرقس 14:8-21)

«ولما
جاء تلاميذه إلى العبر نسوا أن يأخذا خبزًا. فقال لهم يسوع، انظروا وتحرزوا من
خمير الفريسيين والصدوقيين. ففكروا في أنفسهم قائلين، أننا لم نأخذ خبزًا. فَعلِم
يسوع وقال لهم، لماذا تفكرون في أنفسكم يا قليلي الإيمان، إنكم لم تأخذون خبزًا.
أحتى الآن لا تفهمون ولا تذكرون خمس خبزات الخمسة الآلاف، وكم قفة أخذتم؟ ولا سبع
خبزات الأربعة الآلاف، وكم سلاً أخذتم؟ كيف لا تفهمون إني ليس عن الخبز قلت لكم أن
تتحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين؟ حينئذ فهموا أنه لم يقل أن يتحرزوا من خمير
الخبز بل تعليم الفريسيين والصدوقيين».

نرى
هنا حالة أفكار التلاميذ، وعدم إدراكهم الروحي. كان لهم إيمان حقيقي بشخصه. وهذا
في ذاته أساس كل شيء. ولكن معرفتهم كانت قليلة جدًا. فإن تقليد الشيوخ كان لا يزال
يؤثر فيهم. نعم. لقد تركوا غسل الأيادي. ولكن ل يُخفى علينا أن النتائج الرديئة
الناشئة من سوء التعليم لا تظل تلاحقنا زمانًا طويلاً وتُعيقنا عن النمو والتقدم
الروحي. فإن ما أتغرس فينا في صغر السن لا يُفارقنا في يوم واحد. فلامهم الرب لقلة
إيمانهم إذ كان يليق بهم أن يعرفوا مَنْ هو، وما هي قدرته، وإنه لا يفكر فيما إذا
كانوا قد أخذوا زادًا للطريق، أم لا. فإنهم لو احتاجوا، لكان في قدرته أن يبارك ما
عندهم ويُطعمهم. فلنلاحظ أيضًا أن الرب يعبر هنا عن التعليم الفاسد بالخمير. وكان
التلاميذ ملومين لأنهم لم يفهموا ذلك حالاً.

 

آراء
الأمة فيه (عدد 13، 14؛ مرقس 27:8، 28؛ لوقا 18:9، 19)

«ولما
جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فِيلُبُّسَ سأل تلاميذه قائلاً، مَنْ يقول الناس إِنّيِ
أنا ابن الإنسان؟ فقالوا، قوم يوحنا المعمدان. وآخرون إيليا. وآخرون إرميا أو واحد
من الأنبياء».

«مَنْ
يقول الناس إِنّيِ أنا؟ ». انفرد يسوع مع تلاميذه في أقاصي أرض إسرائيل ولما كانوا
وحدهم هناك سألهم عن ماهية أفكار إسرائيل من جهته. كان قد صرف زمنًا طويلاً بينهم
يصنع أعمالاً تشهد لحقيقة مَنْ هو وأرسل تلاميذه أيضًا إليهم مرة (إصحاح 1:10، 6)
أو مرتين (لوقا 1:10) ورافقهم بقوة لتأدية الشهادة له. وكان يجب أن يكون إسرائيل
قد جزموا في أنه مَسيحهم. لقد أطال الله أناته عليهم كثيرًا جدًا، ولكنه لا يقدر
أن يتأنى إلى الأبد. أشرق النور السماوي عليهم فكان يجب أن يحكموا نهائيًا أهو نور
لهم أم ظلام.

«فقالوا،
قوم ‘يوحنا المعمدان’ أي قال البعض عنه أنه يوحنا المعمدان. كان هذا القول حديثًا
وأصله من هيرودس المَلك الذي خاف من أن يكون يوحنا قد قام من الأموات (إصحاح
2:14). ولم يمكن أن يكون صحيحًا. إن الجميع عرفوا جيدًا أن يسوع كان يطوف في خدمته
العجيبة زمانًا قبل موت يوحنا. ومع ذلك جَرى هذا القول على ألسنة الناس والبعض
قبلوه. متى صمم الإنسان على أن لا يقبل الحق فإنه يقبل الكذب بكل سهولة، ويحاول أن
يُسَكن ضميره به لأنه لا يُريد أن يبحث في الأدلة التي تُثبت الحق خوفًا من أنها
تَظهر واضحة وسديدة.

«وآخرون
إيليا» أي قال آخرون أنه إيليا. توجد نبوة صريحة بخصوص مجيء إيليا النبي إلى
إسرائيل (ملاخي 5:4، 6). ولكن ليس شيء من خدمته يُطابق خدمة المسيح الجارية أمام
أعيُنهم فهؤلاء أيضًا لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في هذا الموضوع.

«وآخرون
إرميا» أي ذهب البعض الآخر إلى قول بأنه إرميا أو واحد من الأنبياء. المحتمل أن
قولهم هذا يسند إلى تقليد الشيوخ فإنه لا يوجد أدنى إشارة إليه في النبوات.

الخلاصة
أنه لم يوجد في إسرائيل إيمان به أنه المسيح وكأن تَعبه في إعلان ذاته لهم قد ضاع
فيهم سدى (إشعياء 4:49)

كانت
لهم أفكار وآراء فقط. ولكن لا إيمان. وفي الحقائق الإلهية لا ينفعنا أن نتذاكر
فيها ونذهب إلى آراء وأقاويل متنوعة. لأن الله يطلب منا أن نؤمن بها إيمانًا.
وليست الآراء من الإيمان. وهنا انكشف عدم إيمان إسرائيل بيسوع أنه مَسيحهم واتضحت
غفلتهم عنه وإهمالهم لكلمة الله. فصار الوقت مناسبًا لأن يُعلن الرب لتلاميذه
إقامته لنظام جديد.

 

إقرار
بطرس

(عدد
15-17؛ مرقس 29:8؛ لوقا 20:9؛ يوحنا 68:6، 69)

«قال
لهم وأنتم مَنْ تقولون أِنّي أنا. فأجاب سمعان بطرس وقال أنتَ هو المسيح ابن الله
الحي. فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا. أن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك
لكن أبي الذي في السماوات».

«قال
لهم وأنتم مَنْ تقولون إِنّيِ أنا؟ » هذا هو السؤال الأعظم للتلاميذ الآن بعد أن
انكشف عدم إيمان الأمة الإسرائيلية، فإن النظام الجديد العتيد أن يُقام مقامها
سَيُبنى على حقيقة شخص المسيح، لا على المواعيد والامتيازات التي أُعطيت لإبراهيم
ولنسله بحسب الجسد.

«فأجاب
سمعان بطرس وقال. أنتَ هو المسيح ابن الله الحي». فأقرّ بطرس بحقيقة شخصه.

أولاً-
أنه المسيح أي الموعود به لإسرائيل ويتعلق بذلك أنه ابن داود بن إبراهيم الذي تمت
فيه المواعيد والنبوات والذي يُبارك إسرائيل أولاً ثم جميع الأمم.

ثانيًا-
أنه ابن الله الحي. وهذا أوسع جدًا من كونه المسيح الحقيقي المُرسل إلى إسرائيل،
ويتعلق بحقيقة شخصه كابن الله. كان نثنائيل قبل هذا اعترف بأنه ابن الله (يوحنا
49:1) وكذلك الذين كانوا معه في السفينة (إصحاح 33:14) وكذلك مرثا (يوحنا 27:11)
ولكنهم لم يقولوا، ابن الله الحي. وأيضًا ليس مذكورًا أنهم أقروا إقرارهم بموجب
إعلان خصوصي من الآب. نرى في المزمور الثاني أساس إقرار نثنائيل والآخرين الذين
اعترفوا بأنه ابن الله ومَلك إسرائيل. فإن الله يُعلن أن ملوك الأرض ورؤساءها
تآمروا على الرب وعلى مَسيحه ولكنه سيقيم مُلكه على صهيون رغمًا عن مؤامراتهم، وأن
ملكه هذا هو ابنه. وأما بطرس فاعترف بأنه «ابن الله الحي» وقوله «الله الحي» معناه
أنه تعالى مصدر الحياة. فإن له تعالى حياة في ذاته وليس ذلك فقط بل يمنحها أيضًا
للآخرين. هذا هو وصف الآب ووصف الابن باعتبار أن كلاً منهما هو الله بذاته «كما أن
الآب يُقيم الأموات ويُحيي كذلك الابن أيضًا يُحيي من يشاء… لأنه كما أن الآب له
حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضًا ‘كابن الإنسان طبعًا’ أن تكون له حياة في
ذاته» (يوحنا 21:5، 26). وكان هو «ابن الله الحي» في حقيقة شخصه قبل موته ولكنه
تَبرهن كذلك بقوة في قيامته من الأموات (رومية 4:1)

«فأجاب
يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان بن يونا. أن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك، لكن أبي الذي
في السماوات» كان الآب قد عمل عملاً خاصًا في بطرس وكشف لإيمانه حقيقة شخص المسيح.

«إن
لحمًا ودمًا لم يُعلن لك» أي أن بشرًا لم يعلن لك هذا. فإن إقرار بطرس لم يَصدر
منه ولا من غيره من البشر بل من عمل الآب فيه.

 

أول
ذِكر للكنيسة (عدد 18)

«وأنا
أقول لك أيضًا، أنتَ بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي. وأبواب الجحيم لن تقوى
عليها».

كان
بطرس قد قال له «أنتَ المسيح ابن الله الحي» والمسيح أيضًا قال له «أنتَ بطرس»
وكان قد أعطاه لقب بطرس في أول مقابلة (يوحنا 42:1). ولا يُخفى أن أصل هذه اللفظة
يوناني ومعناها صخر بالنظر إلى ما كان عتيدًا أن يظهر فيه بعمل نعمة الله من ثبات
ورسوخ. فإنه بحسب الطبيعة كان سمعان بن يونا فقط وأما بنعمة الله فيتصف باسمه
«بطرس». انظر أيضًا قول الرب «وأنتَ متى رجعت ثبت اخوتك» (لوقا 32:22). نرى أن
الرب جعل ليعقوب ويوحنا اسم «بوانرجس أي ابن الرعد» (مرقس 17:3) بالنظر إلى بعض
الصفات التي كان مزمعًا أن يُعطيها لهما لخدمته.

«وعلى
هذه الصخرة أبني كنيستي» فما هي هذه الصخرة؟ لا شك عندي أنها شخص الرب الذي كان
بطرس قد اعترف به.

أولاً-
لفظة بطرس هي بصيغة المذكر في الأصل اليوناني وأما لفظة الصخرة فهي مؤنثة. ولو قصد
الرب أن يصرح أنه مزمع أن يبني كنيسته على بطرس لقال، أنتَ بطرس وعليك ابني كنيستي
ولكنه لم يقل ذلك.

ثانيًا-
الرسول بطرس نفسه لا يَدّعي في كتاباته أنه هو الصخرة التي بنيت عليها الكنيسة
(انظر بطرس الأولى 4:2-8) حيث يسمي المسيح حجرًا حيًا وحجر زاوية حجر صدمة وصخرة
عثرة. ويُضيف إلى ذلك كلامًا يعبر عن المسيح كالأساس الوحيد للمؤمنين به. ولكنه
يشير إلى المؤمنين كحجارة حية تُبنى لا على بطرس بل على المسيح. فلا يوجد مطلقًا
شيء في أقواله يثبت أنه أساس الكنيسة. ونراه أيضًا يستعمل لفظة حي كثيرًا لأن
المسيح المُقام من الأموات هو أساس تعليم بطرس كسائر الرسل. راجع قوله «مبارك الله
أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة وَلَدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع
المسيح من الأموات، لميراث لا يُفنى ولا يتدنس ولا يضمحل. محفوظ في السماوات
لأجلكم» (بطرس الأولى 3:1، 4). لا يُخفى أن الرسول بولس قد أشار إلى القديسين
كمبنين على أساس الرسل والأنبياء (انظر أفسس 20:2) وكان الأليق بالذين زعموا بأن
بطرس هو الأساس أن يقتبسوا هذه الشهادة لإثبات زعمهم ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأنه
بحسب هذه العبارة لا يظهر أدنى فضل أو تقدُّم لبطرس لأن الوحي يجمع الرسل
والأنبياء معًا فيؤول ذلك إلى خلاف مقصدهم.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كينج جيمس إنجليزى KJV عهد قديم سفر الأمثال Proverbs 21

«كنيستي»
أي جماعتي.

«أبني»
فعل مستقبل بحسب الأصل. أي «سأبني» فالمسيح نفسه هو الباني والذي هو يثبت إلى
الأبد.

«وأبواب
الجحيم لن تقوى عليها» أي أن قوات الجحيم «لن تقوى عليها» لأنها عمل يديه. فإنه
يُحيي أنفس مختاريه ويجعلهم متحدين معه بالروح القدس وهو مقام من الأموات، ومن ثم
فلابد أن يحفظهم للحياة الأبدية، إذًا فلن تقوى تلك القوات على أن تقرض جماعة الرب
من وجودها كشهادة له على الأرض حتى يأتي الرب ليخطفها إلى السماء، كما أنها لن
تقوى على أن تهلك المؤمنين به.

قد
وردت إشارات في رسائل بولس إلى نفسه وإلى غيره من خدام المسيح كَبَنَّائين (انظر
كورنثوس الأولى 5:3-17) ولكنه لا يقول عن عملهم أنه يثبت ولن تقوى عليه أبواب
الجحيم بل بالعكس يقول «فلينظر كل واحد كيف يبني عليه». كان الأساس الوحيد قد وضع
الذي هو يسوع المسيح الذي لا يستطيع أحد أن يضع غيره (انظر عدد 11 مع إشعياء
16:28) ويجب على كل خادم كبولس وبطرس وغيرهما أن ينظر كيف يبني عليه أي أن يحترز
أن لا يعلم إلا التعاليم الصافية عن المسيح لأجل بُنيان القديسين بواسطة الحق. قد
كان بطرس نفسه ملومًا مرة من جهة عدم تصرفه باستقامة حسب حق الإنجيل فقاومه بولس
مواجهة (غلاطية 11:2 الخ) ولكني لا أُشير إلى هذه الحادثة لأضع من شأن بطرس بل
لأمجد نعمة الله العظيمة. كان الرسل كسائر عبيد الله في أشخاصهم وفي خدمتهم من
أثمار نعمة الله. وإن كان أحد منهم كبولس مثلاً قد تعب أكثر من الآخرين فالفضل في
ذلك يرجع إلى نعمة الله (انظر كورنثوس الأولى 10:15) ويليق بنا نحن أن نستفيد من
خدمة كل واحد منهم ونشكر الله لأجلها.

لا
أقدر أن أُطيل الشرح هنا على ماهية الكنيسة. لأن ذلك يتعلق بما ورد في سفر الأعمال
والرسائل. ولكنه يتضح لنا من هذه العبارة:

أولاً-
أن كنيسة المسيح أو جماعته كانت مستقبلة بعد. فإنه أعلنها هنا كبناء جديد كان
مزمعًا أن يبنيه.

ثانيًا-
أن صخرة أساسها هي شخص المسيح كابن الله الحي مقامًا من الأموات.

ثالثًا-
أن البَاني هو المسيح نفسه. كما قال «وعلى هذه الصخرة أبني ‘أو سأبني’ كنيستي».

رابعًا-
أنه يُشير إلى عمله الفعال الذي يثبت رغمًا عن مقاومة العدو لا إلى العمل الظاهر
الجاري عن يد العبيد الذي يمكن أن يَفسد. هنا نرى فرقًا عظيمًا بين ملكوت السماوات
وبين الكنيسة. فإننا قد رأينا أن العدو يقوى على الملكوت مدة غياب المَلك ويتمكن
من زرع الزوان وإدخال أعمال أخرى من شأنها أن تشوش الملكوت وتعده للدينونة. وأما
الكنيسة التي يبنيها المسيح على شخصه فلن تقوى عليها الأعداء. راجع رسالة بولس إلى
أهل أفسس خصوصًا (إصحاح 24:5-27).

 

مفاتيح
الملكوت وسلطان الربط والحل(عدد 19)

«وأعطيك
مفاتيح ملكوت السماوات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات. وكل ما
تحله على الأرض يكون ملولاً في السماوات» أن موضوع فتح الملكوت المذكور هنا هو
موضوع جديد ولو أنه مقترن بموضوع بناء الكنيسة المار ذِكره.

المفاتيح
(عدد 19)

مفاتيح
ملكوت السماوات هنا عبارة عن قوة الفتح فقط. ويجب أن نُمعن الفكر في جميع ألفاظ
هذه العبارة. ليس لأنها مُبهمة وغامضة بل لسوء استعمالها من كثيرين لإثبات
أضاليلهم بها. فالحقيقة من جهة الربط والحل هي أنهما يشيران إلى التصرف السياسي أو
الإداري، أما المفاتيح فهي للفتح فقط. وكان فتح ملكوت السماوات شيئًا والسياسة
المُعَبر عنها بالربط والحل شيئًا آخر. أيضًا كان ملكوت السماوات مستقبلاً بعد
وفوض الرب فتحه إلى عبده بطرس وحده. ولا يوجد أدنى ريب في تسليم المفاتيح المذكورة
هنا ليد بطرس. فإنها كانت للرب الذي له كل السلطان في السماء والأرض. وكان إنشاء
ملكوت السماوات على الأرض من جملة الأعمال التي قصد أن يُجريها مدة غيابه. وفعلاً
فتحَ بطرس ملكوت السماوات أولاً لليهود في (أعمال الرسل 14:2-42) وثانيًا
للسامريين في (أعمال الرسل 14:8-17) وثالثًا للأمم في (أعمال الرسل 1:10 إلخ).
ولذلك لم يقل الرب لبطرس، وأُعطيك مُفتاح بل «مَفاتيح». أن الباب الواحد يفتحه
مُفتاح واحد ومرة واحدة. فلماذا إذًا «مَفاتيح»، والملكوت واحد؟ لأن الذين دخلوا
إلى الديانة المسيحية في ذلك الوقت دخلوها من ثلاث ديانات. اليهودية وهي تعبد الله
وحده (تثنية 4:6) والوثنية وهي تَعبد الوثن (يشوع 15:24) والسامرية وهي تَعبد الله
والوثن معًا (ملوك الثاني 24:17، 41) فكان لكل فريق منهم بابه الخاص الذي ينتقل به
من ديانته الخاصة إلى الديانة المسيحية ولذلك كانت لبطرس خدمته الخاصة لكل فريق
لإدخاله. ومن ثم أيضًا كان المُسَلم له مفاتيح وليس مفتاحًا. فلما استعمل المفاتيح
وأكمل مأموريته هذه صار الملكوت مفتوحًا ولا يزال هكذا للآن، والرب عند مجيئه
سيجده مفتوحًا وينقيه من المعاثر وفاعلي الإثم. فلا توجد أدنى إشارة في الإنجيل
إلى غلق ملكوت السماوات بعد فتحه بواسطة بطرس. وقد شهد هذا الرسول نفسه عن قيامه
بخدمة الفتح للأمم إذ قال «أيها الرجال الأخوة أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة
أختار الله بيننا أنه بفمي يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون الخ» (أعمال الرسل
7:15-12). ثم إذا راجعنا مواعظ بطرس لليهود وللأمم نرى أنه لم يذكر لهم شيئًا عن
الكنيسة بل أطال الكلام عن قيامة يسوع المسيح وارتفاعه إلى يمين الله وصيرورته
ربًا ومسيحًا. ونادى لليهود برجوعه ثانية لبركتهم كأمة أن كانوا يتوبون (أعمال
الرسل 3) فل ا شك عندي أن الإصحاحات الأولى من سفر الأعمال توضح غاية التوضيح خدمة
الرسول بطرس أو وكالته الخاصة التي أسندها الرب إليه إذ إنه افتتح نطاقًا إلهيًا
جديدًا. ومن الأمور المعلومة أنه ينبغي أن يُعطى توكيل خاص لخادم لكي يجوز أن ينشئ
نظامًا جديدًا. كما سبق أن أعطى الله لموسى. فلما سمع الجموع يوم الخمسين كلام
بطرس عن قيامة المسيح وارتفاعه (أعمال الرسل 22:2-36) «نُخسوا في قلوبهم» وقالوا
لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة؟ فأصبحوا في حيرة لا مزيد عليها
لأنهم كانوا قد قتلوا مسيحهم ومن ثم لم يبق سبيل لتكميل انتظارهم للبركة والراحة
تحت مُلكه على الأرض. فإذًا رجاؤهم كنسل إبراهيم انقطع. فماذا يصنعون؟ فمن من
الرسل يستطيع أن يُجاوب على سؤالهم هذا؟ «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع
المسيح لغفران الخطايا فَتقبلوا عطية الروح القدس الخ» (عدد 38-41). كان يجب عليهم
أن يتوبوا ويعترفوا بالمسيح المرفوض من أمتهم والمرتفع إلى يمين الله. هذا من جهة
خضوعهم لِمَلِكهم الجالس الآن في السماء حيث امتلك سلطانًا مطلقًا. ولكن ماذا تكون
نسبتهم للأمة الإسرائيلية المتمردة؟ قال لهم هذا الرسول أيضًا «اخلصوا من هذا
الجيل الملتوي» «فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف
نفس» وكذلك كان الأمر لما ابتدأ الله أن يعمل بين أُناس أُمميين (إصحاح 10) فإن
الرب استخدم بطرس ليذهب إلى قيصرية ليقول لهم ماذا ينبغي أن يفعلوا. وصادق الرب
على كلامه ونتيجة خدمته أنه أمر أن يعتمدوا باسم الرب. فيتضح:

أولاً-
أن الله أبدأ حينئذ نظامًا جديدًا اختلف عن النظام القديم اختلافًا عظيمًا. نعم
وعن خدمة المسيح نفسه وهو على الأرض.

ثانيًا-
إن الرسول بطرس لا غيره أستخدم لبدء هذا النظام وكان هو المتقدم في الكلام والخدمة
في أكثر الحوادث المذكورة في الفصل الأول من سفر الأعمال إلى آخر (إصحاح 12).

ولكننا
بعد ذلك نرى رسولاً آخر أي بولس متقدمًا. ولا نسمع عن بطرس إلا شيئًا قليلاً جدًا.
وأيضًا نرى أن خدمة بولس تتميز عن خدمة الآخرين في بعض أوجه، خصوصًا من جهة تعليم
الكنيسة كجسد المسيح المتحد معه في السماء بالروح القدس المرسل منه من العلاء أو
بالاختصار الكنيسة المبنية على المسيح ولن تقوى عليها أبواب الجحيم. كان بولس
يُنادي بالملكوت أيضًا كسائر الرسل والخدام ولكنه امتاز عنهم بتعليم الكنيسة كما
يتبين لمن يُطالع أسفار العهد الجديد.

فلنرجع
الآن إلى موضوعنا الرئيسي وأعني به فتح الملكوت عن يد بطرس والسياسة المتعلقة
بالملكوت بعد فتحه. وقد رأينا أن المفاتيح هنا عبارة عن الفتح فقط، إذ لم ترد قط
شهادة ولو واحدة على أن بطرس أو غيره يستعمل المفاتيح لغلق الملكوت. لأنه لا يزال
مفتوحًا، مع أنه الآن على هيئة سرية وسيظل هكذا مفتوحًا إلى وقت تنقيته على يد
المَلك الآتي (إصحاح 24:13، 25، 40-43) ولا يغلق إلى نهاية ملكوت الألف سنة.

الربط
والحل (إصحاح 19)

«فكل
ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً
في السماوات». فالبط والحل عبارة عن السياسة المتعلقة بملكوت السماوات. فلنبحث في
ماهيتها. ليلاحظ القارئ جيدًا أن المفاتيح تختلف عن الربط والحل. فإن الربط والحل
مهما كانا فلا يتمان بمفاتيح. لو قال الرب، فكل ما تغلقه على الأرض يكون مُغلقًا
في السماوات الخ، لكان هناك باب للقول بأن المعنى واحد. ولكنه لم يقل هكذا. بل أتى
بألفاظ أخرى تناسب الخدمة المُعَبر عنها بالربط والحل. فأقول:

أولاً-
أن الربط والحل قد أُسلما أولاً لبطرس ثم لإثنين أو ثلاثة مجتمعين باسم الرب يسوع
(انظر إصحاح 18:18) هذه هي أقوال الرب الصريحة التي يجب أن نخضع لها.

ثانيًا-
دائرة الربط والحل هي الأرض لا السماء. لأن ملكوت السماوات هو دائرة الاعتراف
المسيحي على الأرض، ويجب أن نلاحظ هذا القول كل الملاحظة. قد فوَّض الرب المطلق
السلطان سياسة أو وكالة إلى بطرس ثم إلى اثنين أو ثلاثة مجتمعين باسمه على الأرض.
ولكنه قد عَّين لهم الدائرة أيضًا لممارسة هذه الخدمة. لا شك إذا ربطوا أو حلوا
شيئًا على الأرض بحسب مشيئة الرب، فإنه يصادق هو في السماوات. كما أنه يمكن لمَلك
مثلاً أن يُقيم واليًا على ولاية ويلبسه سلطانًا ليمارسه في الموضع المُعين له
وبحسب القوانين الموضوعة عليه. وما دام يتصرف بأمانة يصادق مولاه في الجلوس على
عرشه وممارسة سلطانه، أو أنه يقدر أن يفعل كل ما يقدر مولاه أن يفعله. لا يُخفى أن
جميع الذين يعظمون سلطان الرسول بطرس أو بالأحرى يُعظمون أنفسهم على حسابه يدَّعون
هذا الادعاء الفاسد نفسه. وبهذه الواسطة يخوَّفون البسطاء ويستعبدون ضمائرهم كأنهم
قد امتلكوا سلطانًا مطلقًا ليفتحوا ويغلقوا السماء كما يشاءون. وليس ذلك إلا
اختلاس لحقوق الرب وخيانة شنيعة ضده. قلت أنهم يُعَظمون أنفسهم على حساب بطرس، إذ
أنهم يدَّعون إدعاءًا آخر عديم الأساس وهو أنهم خلفاء الرسول بطرس.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ب بيت عديني ي

ثالثًا-
يوجد جانب عظيم من الأفعال الإلهية يُجرى رأسًا عن يد الله ولا دخل للربط والحل
المذكورين هنا فيها مطلقًا. فإن تبرير المؤمنين تبريرًا كاملاً وأبديًا يصير دفعة
واحدة وقت إيمانهم من قِبل الله نفسه. ولا يمكن لأحد أن ينتقض من ذلك «الله هو
الذي يبرر. من هو الذي يُدين؟ » (رومية 33:8، 34). لا شك أن بطرس وبولس وسائر
الرسل وخدام المسيح نادوا بغفران الخطايا بمعنى التبرير. وجميع الذين آمنوا تبرروا
إلى الأبد. ولم يخطر على بال أحد منهم أن له يدًا في إجراء ذلك أو في نقضه. لأن
الله هو الذي يبرر المؤمنين بيسوع (رومية 22:3). ولما آمنوا انتقلوا من الموت إلى
الحياة وصاروا مقبولين في المحبوب ولا شيء من الدينونة عليهم ولا يأتون إلى دينونة
(يوحنا 24:5؛ رومية 1:8). وصار لهم اليقين التام من جهة حصولهم على كل ذلك. ونحن
عندما نتأكد ذلك لأنفسنا نستطيع أن ندرك السياسة الإلهية المُعَبر عنها بالربط
والحل التي تتعلق بالمعترفين بالمسيح كربهم ومخلصهم. فإن الله لا يترك المؤمنين
يتصرف بحسب إرادتهم بعد اعترافهم بالرب يسوع.

رابعًا-
الربط والحل يتعلقان بسياسة الله للمنتسبين إلى يسوع المسيح المرتفع إلى السماء
بالنظر لسلوكهم على الأرض. لاحظ أن الرب يذكر الربط أولاً ثم الحل. لأن هذه
السياسة تعتبر المؤمنين في حالة الحل المعتادة المعروفة. ثم إذا صار لزوم لإجراء
التأديب تُربط عليهم خطيتهم ثم بعد توبتهم يحلون منها. ويمكن لله أن يعطينا شركة
معه في ذلك كنا روحانيين، فإنه من الأعمال التي تُجرى على الأرض وليس في السماء.
لله حكم أو سياسة على جميع الناس ولا سيما على الذين قد اعترفوا باسمه. ولا يزال
يُعاملهم دائمًا من جهة سلوكهم، وخير لنا أن ننتبه ليده. ولكن ربط خطايانا علينا
في وقت ما للتأديب لا يعني شيئًا من جهة أمر خلاص نفوسنا. لا بل هذه التأديبات
نفسها مما يُبرهن أننا من أولاد الله «أن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله
كالبنين. فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟ ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه
فأنتم نغول لا بنون الخ» (عبرانيين 4:12-11) وكما أن ربط خطايانا علينا للتأديب لا
يدخل في مسألة الهلاك الأبدي كذلك حلها أو غفرانها لا يعني شيئًا من جهة التبرير
الكامل الذي صار لنا مرة واحدة كمؤمنين. وبما أن المسيحيين قد أصبحوا على وجه
العموم في شك من جهة موضوع التبرير، فلا تمييز لهم بين أفعال الله المطلقة في
خلاصنا مجانًا إكرامًا لدم المسيح وبين معاملاته التدريبية التي يُجريها لتنقيتنا
وتقويمنا. فنرى أن أتباع المذاهب التقليدية قد فقدوا تمامًا معرفة التبرير
بالإيمان. فصارت الفرصة مناسبة للاكليروس أن يزعجوا أفكار الشعب ويعظمون شأن
سلطانهم كأن حكم الله تعالى نفسه في يدهم. فيتكلمون عن الحل والربط (بحسب ما
ابتدعوه لهما من معاني) كأنهما في أيديهم. وأنهم يستطيعون أن يغلقوا السماء عينها
أو يفتحوها بحكمهم. وهذا الادعاء ظاهر البطلان. فضلاً عن ذلك فإن إدخالهم واحدًا إلى
السماء لا ينفعه كثيرًا، لأنهم يعَّلمون في الوقت نفسه بالدينونة العامة حين يُدان
جميع الأموات حسب أعمالهم. ولا يتجاسر أحد منهم على القول بأن الرب نفسه هو
الديان. وأنه سيحكم بحسب تعليمهم واحد لا من الاكليروس ولا من الشعب يعرف الآن أهو
من الذين سيفوزون بالخلاص الأبدي أم لا. وبالأجمال أقول أن جميع الأعمال التي
يعملونها من باب الربط والحل هي في حقيقتها من حيث سياسة الله أو معاملاته المؤقتة
فقط، ولا يقدرون أن يربطوا ويحلوا إلى الأبد. لأنه ليس في طاقة مخلوق أن يدخل
إنسانًا إلى السماء. لأن هذا الدخول لا يكون إلا بالولادة من الله (يوحنا 3:3-8)
وهذه لا يُجريها إلا الله عن طريق الإيمان بمحبته وكفارة ابنه (يوحنا 12:1، 13؛
14:3-17). كما أنه ليس في طاقة مخلوق أن يحرم أحدًا من دخول السماء. لأن هذا
الحرمان مبني على الدينونة. والدينونة لا يُجريها إلا المسيح لأنه ديان الجميع
(يوحنا 22:5) أما المذاهب البروتستانتية فقد حصلت على نور أكثر من أولئك من جهة
التبرير بالإيمان، والحقائق الأخرى. وقد رفضوا جانبًا عظيمًا من الخرافات
والأباطيل التقليدية. ونادوا بمبدأ صحيح إن الكتب المقدسة هي الدستور الوحيد
للإيمان والسلوك. وفي بداءة تاريخهم امتازوا بتعليمهم عن التبرير بالإيمان حتى جرى
القول كمثل بينهم في الأول: إن ثبوت الكنيسة أو سقوطها يتوقف على الإقرار بهذه
العقيدة. ولكنهم على وجه الإجمال قد ارتخوا كثيرًا جدًا من جهة هذا التعليم
الجوهري حتى صار أكثرهم إما ينكرونه أو لا يقرون به بصراحة. وبالتبعية ارتخوا
أيضًا في إجراء التأديبات الكنسية لتنقية المؤمنين في سلوكهم. ومع أنهم عملوا
حسنًا برفضهم الإدعاءات الاكليريكية المبنية على الربط والحل. لكن لم ينتبهوا كما
يجب إلى الحقيقة المقصودة بهما.

ولا
عجب لأن فينا جميعًا ميلاً شديدًا لأن نتساهل مع الشهوات العالمية وننسى أن أمرنا
هو مع الله الذي لا يغض نظره عن سيرتنا الباطنة والظاهرة ويأتينا دائمًا بالمعاملة
المناسبة لتنبيهنا وتقويمنا. فيجب أن نراعي يد الله فيما يتعلق بنا وبإخوتنا
أيضًا. أما فيما يتعلق بنا فلكي ننتبه ونخلص من التأديب وأما في ما يخص إخوتنا
فلكي ننذرهم لعلنا نستطيع أن نخلصهم أيضًا من التأديب. وفي الحالتين ينبغي أن يكون
فينا التمييز الروحي ونكون متعودين على السلوك أمام نظر الله.

كانت
معاملات الله مع عبده أيوب من نوع سياسته للأبرار أو تأديبه للمؤمنين وأما أصحابه
الثلاثة فلم يدركوا ذلك. بل أخذوا بحسب سوء الظن يؤنبونه كأنه ليس بمؤمن حقيقي وأن
الله قد غمره يتلك المصائب جزاء على نفاقه. وكان أيوب مصيبًا في أجوبته لهم إذ صرح
أنه ليس بمراء ولكنه اخطأ في كلامه عن الله إذ حسب أنه يعذبه بغير موجب. ولم يسكت
إلى أن ابتدأ أليهو يُكلمه وأوضح له أن مُعاملات الله معه من باب التأديب، لا لكي
يهلكه إلى الأبد، بل لكي يُنقيه للسلوك الحسن أمامهُ في أرض الأحياء. راجع كلامه
في (إصحاح 12:33-33) فإنه ينفعنا في كل حين. وفحواه أن الله يتكلم مع الإنسان في
الأول ليُنبههُ. ولكن الإنسان من غفلته لا يلاحظ. ثم يستعمل الله وسائط أخرى
كأحلام بالليل وتنبيهات غير اعتيادية. لأنه لا يضربنا إلا بعد أن يكون قد اتخذ
معنا كل الوسائط لإنهاضنا. ويُصادق على هذا كل مسيحي قد اختبر طرق الله معه شخصيًا
لأننا قد رأينا وتحققنا ان الله لم يأتنا مرة بالضرب الشديد إلا بعد أن أنذرنا
انذارات عديدة ولكن وأسفاه على قلوبنا الخداعة لأنه نبهنا مِرَارًا كثيرة ولم
ننتبه أو إن انتبهنا قليلاً نسينا سريعًا ثم عدنا إلى الطريق التي أحببناها حتى
اضطر إلهنا الحْنَان لأن يؤدبنا بالوجع على مضجعنا أو يُحول الشيء نفسه الذي كنا
نشتهيه إلى مرارة لنفوسنا. لأنه يقصد أن «يُحول الإنسان عن عمله ويكتم الكبرياء عن
الرجل» كان أليهو هذا مُرسلاً من قِبل الله إلى أيوب كما يقول «إن وجد عنده مُرسل،
وسيط، واحد من ألف ليُعلن للإنسان استقامته» نعم المؤمن الروحي كأنه واحد من ألف
بالمُقابلة مع الغير الروحيين. ولكن إن وُجد فله خدمة عظيمة لنا إذا اشتدت ضربة
الله علينا وصرنا مُتذللين لا نعرف ماذا نفعل. كان أيوب في حالة كهذه وصار الوقت
مُناسبًا لخدمة المُرسل. ربما لو تكلم معه من قبل لأجًابهُ أجوبة مُعاندة وأما
الآن فصمت وأصغى لكلام الله الذي أتاه في وقته ومحله ولم يكن له مناص منه. آه! كم
مرة أسمعنا الله كلامًا تنبيهًا لنا ونحن في طرق مُغيظة له وبقينا مُصممين عليها
رغمًا عن انذارات محبته. ولا يُخفى على القارئ الفطن أن الظروف نفسها التي كنا
فيها حين سمعنا كلامًا من هذا القبيل هي نبهتنا أكثر. فإنه يُحتمل أننا دخلنا إلى
اجتماع ما كأنه بالصدفة وتعجبنا من بعض الكلام الذي ظهر أنه لنا خصيصًا أو سمعنا
كلامًا من إنسان غريب أو من شخص ما كنا ننتظر منه شيئًا ولكن الذي سمعناه كان كصوت
الله لقلوبنا. هوذا كل هذه يفعلها الله مرتين وثلاثًا بالإنسان ليرُد نفسه عن
الحفرة ليستنير بنور الأحياء. ولكن إن لم ننتبه للإنذارات فلا بد أن يلحقنا بالعصا
لأنه لا يعدل عن قصده وهو أن يجعل أولاده يشتركون في قداسته.

ثم
إذا رجعنا إلى المزامير نرى كثيرًا مما يوافق هذا الموضوع. والمعلوم أن المؤمنين
المُصابين بشدائد يحسبونها تأديبًا من يد الرب يلتجئون إلى بعض الأقوال الواردة في
المزامير لعلهم يتعزون قليلاً بها. والسبب لذلك واضح. فان تأديبات الله المذكورة
في المزامير هي لشعبه. ويذكر معها أنهم يخلصون منها بعد تنقيتهم «طوبى للرجل الذي
تؤدبه يارب وتُعلمه من شريعتك. لتُريحه من أيام الشر حتى تُحفر للشرير حفرة»
(مزمور 12:94) وأيضًا «أيها الرب إلهنا أنت استجبت لهم. إلهًا غفرًا كنت لهم
ومُنتقمًا على أفعالهم» (مزمور 8:99). «تأديبًا أدبني الرب وإلى الموت لم يُسلمني»
(مزمور 18:118). كم من أولاد الله قد أقروا بهذا الإقرار الأخير وقت إقامتهم من
مضجع الوجع الشديد الذي. ظهر لهم أنه عتيد أن يكون مضجع الموت. ولكن عند رجوع
قوتهم قليلاً وتحقق الأمل في الصحة قالوا هذا القول بشكر وتواضع أيضًا.

وأما
مناسبة هذه الأقوال الواردة في المزامير لحالتنا كمؤمنين وقت التأديب فهي من حيث
أنها مُعاملات الله السياسية التي هي هي في كل زمان ومكان. لأنه قدوس وطالب
القداسة في المُنتَسبين إليه. وإن كان يترك أحدًا بلا تأديب فيكون هذا دليلاً على
أنه ليس له. وكوننا تحت النعمة في العهد الجديد لا يعفينا من حكم الآب القدوس الذي
لا يزال يحكم بغير مُحاباة حسب عمل كل واحد. فينتج من هذه الحقيقة العظيمة أننا
نسير زمان غُربتنا بخوف (انظر بطرس الأولى 15:1-17). وكلما كانت النعمة مُعلنة
أكثر كلما اقتضى الحال بيان هذا الحكم التأديبي أكثر كما هو الحاصل الآن في العهد
الجديد، عهد النعمة، الذي فيه يظهر أيضًا اشتراك المؤمنين الروحانيين مع الله في
هذا العمل التأديبي. وبما انه عظيم الأهمية لمجد الله في سلوك شعبه على الأرض فقد
أشار إليه الرب مُعبرًا عنه بالربط والحل. وقد أعطى أولاً لبطرس في صفته كرسول، ثم
لآخرين أيضًا، كما قد رأينا، وكما سنرى أيضًا بأكثر وضوح في الشرح على (إصحاح
15:18-20) إن شاء الرب.

لقد
راجعنا المبادئ العظيمة لهذه السياسة الإلهية باختصار فبقى علينا أن نبحث في كيفية
إجرائها بتفصيل واشتراك المؤمنين فيها. ولا حاجة بي هنا إلى إطالة الكلام غير أني
أذكر فقط أننا نرى الرسول بطرس مُشتركًا في ربط خطية حنانيا وامرأته عليهما
للتأديب (أعمال الرسل 1:5-11) وكذلك خطية سيمون الساحر أيضًا الذي كان قد اعترف بالمسيح
(أعمال الرسل 20:8) غير أن الحكم بالتأديب في هذه الحادثة الأخيرة إنما يستنتج من
جواب سيمون نفسه الذي ظهر له أنه لا بد من وقوع القصاص عليه طبقًا لكلام الرسول.
وأما من جهة اشتراك الرسول في إجراء الحل فلم يُرِد في الكتاب ذكر لذلك. ونرى
الرسول بولس أيضًا مُشتركًا في هذا العمل من الوجهين، أولاً الربط في (أعمال الرسل
6:13-12) حيث ربط خطية باريشوع عليه للقصاص إلى حين. وفي ذلك ما يستحق المُلاحظة
لأن المذكور لم يكن قد اعترف باسم المسيح ولكنه كان يهوديًا تحت المسئولية
الخصوصية لله فأجرى عليه الحكم التأديبي على وجه صائب. وكان أيضًا نبيًا كذابًا
يُقاوم الحق. وكان في ذلك مثالاً لأُمة اليهود على وجه الإطلاق. فإنهم رفضوا
المسيح. وصاروا أشد المُقاومين للإنجيل إلى أن أفرغوا صبر الله وطول أناته فربط
خطاياهم عليهم للقصاص. فاستخدم بولس ليُخصص لهم نبوة إشعياء بشأن ذلك (انظر أعمال
الرسل 23:28-27؛ تسالونيكي الأولى 15:2، 16). فسقوط الضباب والظلمة على بصر ذلك
المُقاوم إلى حين هو نظير الحكم بالعمى، الذي حكم به على اليهود إلى هذا اليوم.
ونرى أيضًا أن هذا الرسول قد حكم بالربط (كورنثوس الأولى 3:5-5) وبالحل (كورنثوس
الثانية 5:2-11) وبالربط أيضًا (تيموثاوس الأولى 20:1). ويتضح من هذه العبارات
المُتعلقة بإجراء الربط والحل أنهما من الأعمال التي تُجرى على الأرض مؤقتًا. ولا
دخل لهما في أمر خلاص النفس أو هلاكها. حتى ولو كان التأديب ينتهي بموت المحكوم
عليه فإننا لا نقدر بناء على ذلك أن نجزم بهلاكه.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القس أنطونيوس فكرى عهد قديم سفر حزقيال 11

لقد
ورد قول آخر في (يوحنا 23:20) إذ قال الرب لجميع تلاميذه بعد قيامته «من غفرتم
خطاياه تُغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت» ولكته لا يُطابق تمامًا موضوع الربط
والحل الذي نحن في صدده إذ أنه يُشير إلى إرسالية الرسُل الخصوصية للمناداة بغفران
الخطايا لكل من آمن بالمسيح، ودينونة كل من لا يؤمن وليس محصورًا في سياسة
المؤمنين. والغفران مذكور أولاً ثم الإمساك بخلاف ترتيب كلام الرب في الربط والحل
حيث يذكر الربط أولاً ثم الحل. وفضلاً عن ذلك أقول انه وإن أُخذت هذه العبارة
بمعنى الربط والحل فإنها لا تسند الزعم الكاذب بالسلطان الأكليريكي لسببين:

أولاً-
لأن الوكالة المذكورة فيها تتعلق بجميع الرسل كما أنها لا تختص ببطرس أكثر مما تخص
الآخرين.

ثانيًا-
انه لا يوجد أدنى إشارة إلى تسليمها لأُناس يزعمون انهم خُلفاء الرسُل.

 

المسيح
يأمر تلاميذه بالكف عن الكرازة به كمَلِك إسرائيل (عدد 20)

«حينئذ
أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد أنه يسوع المسيح». لقد أوصاهم أن لا يقولوا بعد
لأحد انه المسيح أي مسيح اليهود أو مَلِكهم. «يسوع» هو اسمه الشخصي والمسيح أحد
ألقابه الرسمية. كان قد رفض في صفته كمسيح اليهود ولم يكن من خدمة التلاميذ من الآن
فصاعدًا أن يُنادوا للأُمة المُتمردة أن مسيحهم حاضر طالبًا القبول. فإن الوقت
لذلك قد مضى.

 

المسيح
يُعلن عن موته وقيامته

(عدد
21-23؛ مرقس 31:8-33؛ لوقا 22:9)

«من
ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه انه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا
من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه
وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك يارب. لا يكون لك هذا. فالتفت وقال لبطرس اذهب عني يا
شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس».

«من
ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه الخ» يجب أن نلاحظ جيدًا أن الرب من الآن
فصاعًا ينظر إلى موته ولا يعود يعرض الملكوت على إسرائيل. لا شك أنه حضر إلى
العالم لكي يموت ذبيحة ولكن كانت لله مقاصد مختلفة بحضور ابنه في العالم ولا سيما
في وسط شعبه إسرائيل. ولم يشأ أن يُعلنها دفعة واحدة بل شيئًا فشيئًا، وكان المسيح
خادمًا كاملاً لا يقول كلمة ولا يعمل عملاً إلا بحسب مشيئة الذي أرسلهُ. وبما أنه
كان مسيح اليهود حقًا فلم يكن من الخداع أن الله قدمه لهم أولاً في صفته هذه
ليقبلوه أو يرفضوه وبذلك قد امتحنهم امتحانًا كافيًا فأظهروا رداءتهم برفضه. وعند
ذلك ابتدأ يسوع يظهر حقيقة موته لتلاميذه بكلام صريح. وكان ذلك أمرًا بعيدًا جدًا
عن أفكارهم. فإن بطرس نفسه أخذه على ناحية وابتدأ ينتهره حاسبًا انه مُخطئ في كلام
كهذا. فنرى هنا أن الجسد لا يدرك أمور الله ولا ينفع فيها سواء كان في الرسول بطرس
أو في غيره. كان الله الآب قد أنعم عليه بإعلان خاص. والابن مَيزَهُ بامتياز خاص.
ولكن وأسفاه علينا فإننا كثيرًا ما ننتقل بسرعة من حالة روحية إلى حالة جسدية
ويمكن أن نتمتع ساعة بإعلانات الله وأقواله المفرحة ثم ننحط بغتة وننطق بما يناسب
أفكارنا البشرية ووحي الشيطان. لا يُخفى أن بطرس كسائر التلاميذ واليهود أيضًا كان
مُنتظرًا إقامة الملكوت بالقوة نعم وحصولهم على الراحة والبركة تحت مَلِكهم
المُقتدر، ولم يخطر على بالهم أنه ينبغي أن يموت ويبدأ حالة جديدة بعد قيامته.
والطمع في السيادة والجلوس في الموضع الأول كان مُتسلطًا على أفكار التلاميذ
أنفسهم. وأما بطرس فمع أنه كانت له قبل ذلك بقليل كرامة وغبطة بسبب الإعلان الذي
أعطاه إياه الآب من جهة شخص المسيح فإن قلبه لم يزل يتعلق بمجد سيده الأرضي على
أسلوب بشري. ولم يقدر أن يرتقي إلى أفكار الله. ومثلهُ مثلنا من جهة إدراكنا أمور
الله وتمتعُنا بها. لأنه يمكننا أن نقتنع بالحقائق السامية ونفرح بها إلى درجة ما
بنية مُخلصة بدون أن تكون قلوبنا قد نُقيت وصارت مُطابقة للسلوك الذي يوافق
الحقائق. فنستطيع أحيانًا أن نتمتع بالحق تمتُعًا حقيقيًا ولكن تعوزنا القدرة
الروحية على مُداومة الشركة مع الله. ولا نقدر أن نحصل على الحالة الروحية الدائمة
دفعة واحدة. فإنه ينبغي أن نتدرب ونتعود على نُكران الذات وحمل الصليب حاسبين أننا
قد مُتنا مع المسيح لهذا المشهد الذي مات هو فيه. وكثيرًا ما يتعجب المسيحي
المُجتهد في النمو في الحياة الروحية من سرعة انتقاله من حالة إلى أخرى. لأنه
ساعةً يتلذذ بالصلاة ومُطالعة كلمة الله وساعةً لا. ويرى نفسه أوقاتًا مُتقدمًا في
القوة الروحية وأخرى يصبح فارغًا ضعيفًا كأنه لم يحصل على شيء قط. والفرق بين
الحالتين هو الفرق بين الروح والجسد. ففي الحالة الأولى نهتم بما لله وفي الحالة
الثانية بما للناس. على انه يمكننا بنعمة الله أن نتقدم تقدُمًا صحيحًا ونعتاد
أكثر فأكثر على العيشة مع الله. ولكنه ينبغي أن نتنشط ونُلاحظ أحوال قلوبنا
وأفكارنا ولا نطلقها وراء أباطيل العالم. فلما ظهر لبطرس أن كلام الرب عن ضرورة
موته لا يُطابق الأفكار الجسدية التي كان مُعتادًا عليها تجاسر أن يأخذ الرب على
ناحية وينتهرهُ قائلاً «حاشاك يارب. لا يكون لك هذا» فمع أنه كان تلميذًا لكنه أخذ
على نفسه أن يُعلم لا بل ويوبخ مُعَلمهُ أيضًا. صار الصليب قدام الرب الآن بالطريق
المُعينة له من قِبل الآب فجعل وجهه كالصوان لكي يطيع طاعة كاملة حتى الموت
(إشعياء 5:50-7) وأما تلميذه الغيور غيرة الجسد فأخذ يسبقه في الطريق ويصده عنها
وبذلك عمل كخصم ولَقَبهُ المسيح «بشيطان» وأمره أن يذهب وراءه وهو الموضع الحقيقي
للتلميذ. وكان قد قال للشيطان وقت التجربة اذهب عني ولكنه إنما قال لبطرس «اذهب
ورائي». وهذه هي القراءة الصحيحة بحسب الأصل لقول الرب لبطرس «اذهب عني» ربما كان
يبدو له انه غار على مجد سيده، ولكن غيرة الجسد وإن اتخذت صورة حسنة فهي مرفوضة
عند الرب رفضهُ لرداءة الجسد.

 

واجب
اتباع المصلوب

(عدد
24-26؛ مرقس 34:8-37؛ لوقا 23:9-25)

«حينئذ
لتلاميذه قال يسوع لتلاميذه إن أراد أحد أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه ويحمل صليبه
ويتبعني. فإن من أراد أن يُخلص نفسه يهلكها. ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها. لأنه
ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يُعطي الإنسان فداء عن
نفسه؟»

سبق
كلام مثل هذا في (إصحاح 24:10-42). على أن السبب الذي أوجب كلامه هناك هو شدة
مُقاومة العالم له ولكل من أراد أن يعترف به أو يخدمه. وأما هنا فالمسألة بين ما
يتعلق بالله وما يتعلق بالناس. كان السيد ذاهبًا في طريقه إلى الصليب فاقتضى الأمر
من كل من أراد خلاص نفسه الثمينة أن يتبعهُ إلى حيث ذهب هو. لقد انكشفت حقيقة
مضادة العالم له فلم يمكن بعد لأحد أن يربح العالم ويكون للمسيح أيضًا. ومن ثَمَّ
لا يخلو الأمر الآن من أحد الحالين. فإما أن يكون المسيح مُخَلصًا لنا الآن أو
دَيَانًا لنا فيما بعد.

 

مُجازاة
اتباع المصلوب (عدد 27؛ مرقس 38:8؛ لوقا 26:9)

«فإن
ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يُجازي كل واحد حسب أعماله».

يُشير
إلى مجيئه ثانية حين يظهر ليدين كابن الإنسان (قابل إصحاح 41:13)

«الحق
أقول لكم، إن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في
ملكوته» (عدد 28).

انه
في قوله هذا يُشير، بلا شك، إلى التجلي. يدل على ذلك.

أولاً-
تفسير بطرس الرسول لحادثة التجلي حيث يُسميه «قوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه» (بطرس
الثانية 16:1، 17).

ثانيًا-
نرى الرب نفسه غيّر ألفاظ كلامه لأنه لما تكلم عن مجيئه ثانية قال انه «سوف يأتي
في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يُجازي كل واحد حسب أعماله» ثم عاد ونطق بحقيقة
أخرى استثنائية لأجل تثبيت إيمان بعض تلاميذه وقال «إن من القيام ههنا قومًا لا
يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته» ولم يذكر هنا شيئًا عن مجد
أبيه وملائكته ومُجازاته كل واحد حسب أعماله فإن هذه إنما تتعلق بمجيئه فعلاً.
وسنرى بأي وجه كان التجلي صورة لإتيانه في ملكوته.

ثالثًا-
قوله إن «قومًا لا يذوقون الموت حتى الخ» أي لا يموتون (انظر لوقا 26:2) ولا يفيد
شيئًا عن طول أعمارهم بل يفيد فقط حقيقة الأمر وهي أنهم لا بد أن يروا ما أشار
إليه الرب قبل موتهم. شاء الله أن يُريهم إياه بعد ذلك بوقت وجيز ولكن ذلك لا يخل
بما قال الرب فإنه لم يقل عن وقت طويل أو قصير بل إنما صرح أن قومًا منهم لا
يموتون حتى يروا ابن الإنسان آتيًا في ملكوته.

رابعًا-
لم يُرِد ذكر حادثة أخرى يمكن أن يتم فيها قول الرب هذا سوى التجلي فقط فإنه إن
قيل أنه أشار إلى حلول الروح القدس يوم الخمسين قُلنا، أن جميع التلاميذ عدا يهوذا
كانوا موجودين أحياء. وإن قيل أنه تم بخراب أورشليم قُلنا، إنه لم يكن أحدهم حيًا
سوى الرسول يوحنا ولا يفوتنا أيضًا أن ما ذُكر في (إصحاح 17 إلخ؛ مرقس 9 إلخ؛ لوقا
27:9 إلخ) بعد وعد الرب مُباشرة هو حادث التجلي. فلم يعد مفر من التسليم بأنه هو
المقصود في وعد الرب.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي