الإصحَاحُ الثَّالِثُ

 

تدعيم الكنيسة في
أورشليم

(3: 110): إجراء آية الشفاء.

(3: 1126):
الخطاب الثاني للقديس بطرس الرسول.

 

إجراء آية الشفاء

[3: 110]

 

1:3 «وصَعِدَ
بُطرُسُ وَيوحَنَّا معاً إلى الهيكلِ في ساعةِ الصلاةِ التَّاسعةِ».

«بطرس
ويوحنا»:

محسوبان أنهما معاً
يقودان جماعة الرسل، ومعروف أن القديس يوحنا والقديس يعقوب هما ابني زبدي، وأن
هؤلاء الثلاثة (بطرس ويعقوب ويوحنا) كانوا الجماعة المختارة من الرسل للسير مع
الرب في بعض الأحيان إذ كانوا ذوي صلة وثيقة به. فنجدهم مثلاً بثلاثتهم مع الرب
على جبل التجلي (مر 20:9)، وكذلك
كانوا الأقرب من
الآخرين في جثسيماني والرب يصلِّي صلاته الأخيرة (مر 33:14). كذلك اختار الرب
اثنين منهم ليعدَّا له الفصح الأخير:
» فأرسل بطرس ويوحنا
قائلاً اذهبا وأَعدَّا لنا الفصح لنأكل
«(لو 8:22)، ونجد أن بطرس ويوحنا فقط كانا عُضوَيْ البعثة التي
أرسلها الرسل لتسليم أهل السامرة الإيمان والعماد (أع 14:8). وفي أيام بولس الرسول
لمَّا ذهب إلى أورشليم بعد أربع عشرة سنة من عماده، أي في سنة 47م، أي بعد يوم
الخمسين بحوالي 17 سنة، كان الذي يترأَّس كنيسة أورشليم (بطرس ويوحنا مع يعقوب):
» فإذ علم
بالنعمة المعطاة لي يعقوب (أخو الرب) وصفا (بطرس) ويوحنا المعتبرون

أنهم
أعمدة، أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم وأمَّا هم فللختان.
«(غل 9:2)

أمَّا من جهة قربهما
بعضهما من البعض فهو أمر يحيِّر العقل حقاً، لأنهما من جهة الطبائع والسلوك نجدهما
على النقيض. فعلى مستوى الجرأة، نجد بطرس ينكر المسيح ثلاثاً أمام جارية، في حين
أن يوحنا يتبع الرب في كل مراحل المحاكمة سواء أمام رؤساء الكهنة أو هيرودس أو
بيلاطس، ويسجِّل كل المشاهد ويواجه ذات الجارية (التي أنكر أمامها بطرس سيده)
بالأمر والنهي فترضخ له (يو 18: 15و16؛ 26:19). ولكن بالرغم من ذلك نجدهما معاً
عند القبر (يو 2:20)، إلاَّ أن واحداً تعجَّب مجرد عجب إذ رأى القبر فارغاً،

بينما
يوحنا آمن بالقيامة. كذلك نجدهما معاً في الجليل بعد القيامة (يو 7:21).

«وصَعِدَ
بطرس ويوحنا»:
¢nšbainon

الصعود هنا يُذكر
تجاوزاً، لأن بناء الهيكل مرتفع قليلاً عن بقية المدينة.

«إلى
الهيكل»:
e„j tÕ ƒerÒn

وقفة قصيرة لإعطاء
القارىء فكرة مبسَّطة عن الهيكل:

في سنة 20 ق.م. بدأ
الملك هيرودس الكبير في إعادة بناء هيكل سليمان على مساحة أوسع مما كان عليها، وقد
ذُكر ذلك في إنجيل ق. يوحنا هكذا:
» فقال اليهود في ست
وأربعين سنة بُني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تُقيمه. وأمَّا هو فكان يقول عن
هيكل جسده
«(يو 2: 20و21). فلو
أضفنا على عمر المسيح آنذاك وهو 30 سنة الست عشرة سنة
التي قبل ميلاده (لأنه وُلِد سنة 4 ق.م) يكون هذا عمر الهيكل بالتقريب. ولكن حتى
في أيام المسيح لم يكن بناء الهيكل قد كَمُل بعد. وقد بُنيت في الناحية الشمالية
منه قلعة أنطونيا التي كان يقطنها عساكر الرومان مع قائدهم. ويحيط بالهيكل أسوار
عالية جداً، وبها تسعة أبواب، أربعة منها في الجنوب كانت فخمة للغاية إذ كانت
مغطَّاة كلها بالبرونز، ومن الشرق كان هناك الباب الجميل (أع 3: 2و10) الذي من
خلاله يدخل الداخل إلى رواق النساء، وكان مصفَّحاً بالذهب والفضة وله أعمدة تحصر
الجزء المخصَّص لهنَّ. وفي نفس الرواق في الاتجاه المقابل إليه كانت توجد الخزانة،
وهي صناديق التبرعات والتقدمات، وكان هذا الجزء يسمَّى الخزانة:
» وجلس يسوع
تجاه الخزانة ونظر كيف يُلقي الجمع نحاساً في الخزانة
«(مر 41:12)، وعلى الغرب من رواق النساء يوجد رواق إسرائيل ويفصلهما
فاصل. ورواق إسرائيل هو الرواق الذي يتجمهر فيه الإسرائيليون العلمانيون للعبادة
والصلاة، وخارجه مباشرة ومحجوز عنه بحاجز كان يوجد رواق الأمم وهو الذي بناه
هيرودس، ويتَّسع لأعداد ضخمة، ولكن بين الرواقين وعلى الحاجز يوجد إنذار مكتوب
باليونانية واللاتينية بعدم تعدِّي الحاجز وإلاَّ فعقوبة المخالف القتل.

ويُلاحَظ أن هذا الجزء
المخصَّص لعبادة الأمم (الغُلف)، ذكره سليمان الملك في صلاته أثناء تدشين الهيكل،
أن يسمع الله صلاة الأمم في هذا المكان (1مل 8: 41و43). وفي غرب رواق إسرائيل يوجد
رواق الكهنة، وفي الجزء الغربي منه توجد فتحة ولها باب بسلالم صاعدة أربع عشرة
درجة حيث يوجد
» الهيكل «ويسمَّى «البيت»
(naÒj) (وهو متاخم لرواق الكهنة ويخرج منه سلالم تصل للقدس ثم لقدس
الأقداس). وهو الذي تُقام فيه الطقوس والعبادة والتسبيح والخدمات الذبائحية:
» حسب عادة
الكهنوت أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب
naÒn ويبخِّر. «(لو
9:1)

«في ساعة
الصلاة التاسعة»:

كما يقول العلاَّمة
لايتفوت([1])
وكما يكرِّر داود في المزامير (مز 17:55)، فقد كان مرتَّباً ثلاثة مواعيد للصلاة:
» فلما علم
دانيال بإمضاء الكتابة ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم، فجثا على
ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وصلَّى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك
«(دا 10:6). هذه المرات الثلاث هي: الساعة الثالثة من النهار،
والساعة السادسة، والساعة التاسعة.

أمَّا الذبائح فكانت
تُقدَّم مرتين، الأُولى في الصباح الباكر والثانية الساعة التاسعة. ومع تقديم
الذبائح كانت تُقام خدمة الصلاة([2]).
وواضح أن اجتماعهم كان إمَّا في رواق إسرائيل أو في رواق سليمان.

والمُلاحَظ هنا أن
الكنيسة الأُولى وبقيادة يعقوب وبطرس ويوحنا ظلَّت محافظة على كل طقوس العبادة
اليهودية وحضور الصلوات في الهيكل في المواعيد الرسمية. والواضح أنهم أيضاً كانوا
يشتركون في تقديم الذبائح، لأن هذه كانت مشورة ق. يعقوب أخي الرب لبولس الرسول
هكذا:

+ » وفي الغد
دخل بولس معنا (لوقا يتكلَّم) إلى يعقوب وحضر مجمع المشايخ … “فافعل هذا الذي
نقول لك، عندنا أربعة رجال عليهم نذر، خذ هؤلاء وتطهَّر معهم وأنفق عليهم
ليحلقوا رؤوسهم فيعلم الجميع أن ليس شيء مما أُخبروا عنك، بل تسلك أنت أيضاً
حافظاً للناموس”.
«(أع
21: 18و23و24)

ونحن لا نستطيع أن نعيب
عليهم في شيء لأنه إن كان بولس الرسول قد أَدخل ولأول مرة مبدأ التخلِّي عن
الناموس والسبت والختان، فهذا كان بسبب دعوته الرسمية الخاصة من الله للكرازة بين
الأمم
بالإنجيل، الذي عرَّفه به الرب، والقائم على أن
الأمم شركاء في الميراث والجسد (أف 6:3)، أي أنهم مدعوون أعضاء في الكنيسة،
أي جسده، وأن لا رجعة للناموس أو أي عوايد أخرى لليهود. وهكذا كما قال ق. بولس
أيضاً:
» فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان (إنجيل الختان أي
اليهود) عمل فيَّ أيضاً للأمم (إنجيل الغرلة).
«(غل 8:2)

2:3 «وكانَ رَجُلٌ
أَعرَجُ مِنْ بطنِ أُمِّهِ يُحمَلُ، كانوا يضَعُونَهُ كلَّ يومٍ عند باب الهيكل
الذي يُقال له الجميلُ ليسأَلَ صَدَقةً مِنَ الذين يدخلونَ الهيكلَ».

على القارىء ألاَّ يأخذ
عناصر القصة ببساطة، فهي قصة منتخبة من مئات القصص التي يتحقَّق فيها كيف دعَّم
الله الكنيسة الأُولى بنفسه تدعيماً مخطَّطاً مدروساً على الأقل من جهتنا نحن، أي
يتحتَّم علينا أن نكتشف مساره والدروس المستفادة منه:

1 فعندما قال
السفر
» بطرس ويوحنا «
فهو يبين هنا أنه على يدي شاهدين تقوم صحة الشهادة.

2 وعندما ذكر
ق. بطرس بالذات فذلك لأن الوعد جاء مرادفاً لاسمه “صخر =
Petros”: » أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي «(مت 18:16). وهنا ق. بطرس يضع الأساس كبنَّاء، والقديس يوحنا
يعيِّن له حجر الزاوية لأنه مختص بمعرفة الرب من على بُعد:
» ولمَّا كان
الصبح (بعد القيامة) وقف يسوع على الشاطىء ولكن التلاميذ لم يكونوا يعلمون أنه
يسوع … فقال ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس،
هو الرب. «(يو 21: 4و7)

3 » الأعرج من بطن أمه « هنا لمسة من لمسات التعريف باستحالة الصدفة أو استخدام أي وسيلة
للتزييف أو التقليل من خطورة المعجزة وبالتالي من معناها. فهنا
عملية خِلْقة!!

4 «عند الباب
الذي يقال له الجميل»:
وهو الباب الرئيسي الذي يدخل منه جميع شعب
إسرائيل، وحتى رجال الكهنوت لاويُّون وكهنة، لأن من بعده مباشرة يوجد رواق النساء
ثم رواق إسرائيل ثم رواق الكهنة. إذاً، فكل عابر رأى هذا الأعرج، وجميع الذين
دخلوا في هذا اليوم وتلك الساعة صاروا شهوداً عياناً جهاراً، رضوا أو لم يرضوا،
فهي شهادة تؤدي إلى الإيمان فالخلاص، أو الرفض فالدينونة.

إذاً، عزيزي القارئ،
يلزم عند قراءة الإنجيل الدراسة والتحليل،

لأن
الروح القدس لا يكتب قصصاً للتسلية أو للتعزية، بل كلها شهادة وتحقيق لحساب الرب
المقام:
» روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي «(يو 26:15). هذه هي شهادة مخططة ومدبَّرة ومدروسة ومنفَّذة بدقة
لتأتي بشهادة قاطعة لحساب الرب. أمَّا بطرس ويوحنا والأعرج فهؤلاء سبق وأعدَّهم
الروح القدس قبل أن تأتي الساعة التاسعة من النهار.

3:36
«فهذا لمـَّا رأَى بُطرُسَ ويوحنا مُزمِعَين أَنْ يدخُلا الهيكلَ سأَلَ ليأخذَ
صَدَقَةً. فتفرَّسَ فيه بُطرُسُ معَ يوحنَّا وقال انظر إلينا. فلاحظهُما مُنتظِراً
أن يأخُذَ منهُما شيئاً. فقال بُطرُسُ لَيسَ لي فِضَّةٌ ولا ذهبٌ ولكن الذي لي
فإيَّاهُ أُعطيكَ، باسم يسوعَ المسيحِ النَّاصريِّ قُمْ وامشِ».

ومرَّة أخرى
يلحُّ الروح القدس على القارىء أن ينتبه من تكراره لاسم بطرس ويوحنا لثالث مرة!!
لماذا؟ لأن
هنا اثنين
وثالثهما ابن الله حقاً وبالحقيقة حسب الوعد (مت 20:18).

كان ق. بطرس وق. يوحنا
كل منهما مُحاطاً بهالة غير منظورة ذات جاذبية اكتسباها من الرب القائم وسطهما، لم
يكن منظرهما أبداً كباقي الداخلين. أمَّا الأعرج فلعلّه كان شبه نعسان، فهو من
الصباح الباكر جالسٌ جلسته المملّة، ولكن نسيماً رقيقاً منعشاً هبَّ عليه فجأة،
ففتح عينيه فانفتح قلبه ونظر إليهما بانتباه زائد وكأنه على معرفة يقينية بهما،
مما جعل بطرس ويوحنا معاً ينتبهان إليه بدورهما. هنا تلاقت العيون، بل الأرواح، بل
الأقدار، لتصنع من هذا التلاقي حصيلة لحساب الإنجيل، ولحساب كل قارىء للإنجيل منذ
ذلك اليوم وإلى اليوم الأخير. ولكن من أين لبطرس ويوحنا المال وقد وزَّعاه ولم
يبقَ في حوزتهما شيء؟ ففي الحال أعلن بطرس
وليس يوحنا
إفلاسه من
مال الدنيا ولكن كان يثق أَنه يملك وارثاً عن الرب عُملة سماوية يمكن صرفها في
الحال وبأي كمية بضمان اسم يسوع، فأراد أن يعلن عن ذلك علناً، فقال له: يا عمّي
ليس لنا ذهب ولا فضة نعطيهما ولكن الذي أخذناه وورثناه منه يمكن
أن نعطيك لعلّه ينفعك أكثر من مال وغنى. هوذا
اسم يسوع المسيح نعطيك إياه بأمر الرب.

«باسم يسوع
المسيح الناصري قُمْ وامشِ»

لم يكن ق. بطرس على
استعداد من قبل أن يصنع هذا، ولا حتى لمَّا تقابل الوجه مع الوجه، ولكن الصوت
الواضح في القلب كان قد أشار على هذا الأعرج، فانتبه ق. بطرس بالعين المكشوفة فرآه
صحيحاً يمشي ويطفر كما في رؤيا، ففهم تماماً أن الأمر قد صدر من فوق، فلم يبقَ
عليه إلاَّ التنفيذ. وفي الحال تحرَّك قلب ق. بطرس بالإيمان الحي بالاسم المبارك
القادر أن يشفي ويقيم من الموت! وصدَّق الوعد المبارك:
» إن سألتم
شيئاً باسمي فإني أفعله.
«(يو
14:14)

7:3 «وأمسكه
بيدِهِ اليُمنَى وأَقامهُ، ففي الحالِ تشدَّدَتْ رِجْلاَهُ وَكعْبَاهُ».

ليس لأن اسم
المسيح لا يكفي لكي يقيمه واقفاً على رجليه حتى أن ق. بطرس مدَّ يده وأمسكه
وأقامه، بل هي مخزون القوة التي من الأعالي التي صيَّرت من ق. بطرس مصدر قوة يمكن
أن تسري أينما أراد الروح. فاليد هنا وهي اليمني مع “اليمين” كانت مصدر سريان قوة
الله التي من الأعالي التي مُنحت للكنيسة في أشخاص هؤلاء الرسل القديسين:
» يمينك
تعضدّني.
«(مز
8:63)

والمُلاحَظ أن هذه هي
عادة بطرس الرسول أن يمد يده ويقيم فيقوم حتى الميت:

+ » وصلَّى ثم
التفت إلى الجسد وقال: يا طابيثا قومي، ففتحت عينيها ولمَّا أبصرت بطرس جلست
فناولها يده وأقامها.
«(أع
9: 40و41)

وهذا هو سر التقليد
المقدَّس الذي للكنيسة أن وضع اليد الرسولية يقدِّس ويكرِّس ويمنح الروح القدس
ويعطي الغفران من الخطايا ويُقيم الأساقفة والكهنة، يعطي سر الزيجة المقدَّس ويشفي
من أي سقم ومرض ويطرد الأرواح الشريرة. لأن في يمين الرسول قوة الله العلي تسري
وتعمل وتُقيم من الموت. وهكذا فقوة الله التي حلَّت على الرسل مع الروح القدس يوم
الخمسين لا تزال تُسلَّم من يمين إلى يمين حتى إلى المنتهى.

8:3 «فَوَثَبَ ووقفَ
وصارَ يمشي ودخلَ معهُما إلى الهيكلِ وهو يمشي ويطفُرُ ويسبِّحُ اللهَ».

فوثبَ ™xallÒmenoj، ووقفَ œsth، وصار يمشي periep£tei، ويطفر ¡llÒmenoj. كلها أفعال جديدة تدل على سرعة الحركة والانتفاضة. نعم فالقوة
التي سرت في جسده ليست قوة طبيعية، ولا هي عافية جسدية، ولا هي ردّة إلى حالته
الطبيعية. فهنا طبيعة الرجل الأعرج من بطن أُمه تعبِّر عن القوة الإلهية التي
افتقدت عجز هذه الطبيعة وقصورها لتعطيها قوة تعبِّر عن مصدرها، وهكذا وافاها
اللسان سريعاً بالتسبيح الذي يكمِّل الاعتراف بفضل الله الذي حينما يفتقد الضعيف
يكمِّله بالقوة:
» يعطي المُعيي قدرة
«(إش 29:40). هكذا رآه إشعياء بالرؤيا من وراء الدهور ووصفه كما
رأيناه وسمعناه الآن:
» حينئذ يقفز الأعرج
كالأيل (كذكر الغزال) ويترنَّم لسان الأخرس

«(إش 6:35). المنظر أمامنا مذهل للعقل، والمشاعر البشرية كلها لا
تملك إزاء هذا إلاَّ أن تصفِّق بأيديها، نعم ولكن كل هذا التصوير الحي المبدع
وكأنه بالصوت والصورة أمام أعيننا لا يقدِّمه الروح القدس ليُسرَّ مشاعرنا ولكن
يملأنا رهبة وعجباً وسروراً.

فلينتبه القارىء، لأننا
أمام تصميم أساسي من الروح القدس لتقديم شهادة لاسم الذي قتلوه وصلبوه، الروح
القدس أمعن في هذا الوصف الذي تمَّ بحذافيره أمام الكهنة، لأنه تمَّ في مواجهة
رواقهم وأمام رؤساء الكهنة والكتبة وكل طغمة الصدوقيين ومَنْ يتبعهم، وبالرغم من
هذا ستسمع كيف قبضوا على ق. بطرس واستجوبوه كأنه جدَّف على الهيكل وسَدَنَتِه (أي
خُدَّامه)!!

من هنا فليفهم القارىء
أن الروح القدس إنما يستكمل بنود القضية المرفوعة أصلاً على الذين صلبوه، ثم يكرر
عمل المصلوب الإعجازي عياناً مرة أخرى على أيدي رسله وتلاميذه، فتتكرر المأساة
نفسها وبأشنع صورة. فقد أخذوا يعقوب البار رئيس كنيسة أورشليم وقذفوا به من فوق
جناح الهيكل فوقع وتهشَّم وأسلم روحه شهادة مزدوجة. نعم
إنها قصة
تدعيم الكنيسة على الأرض وفي السماء وتكميل مأساة الصليب.
فالإنجيل
كله لا يُقرأ إلاَّ على خلفية الصليب، لأننا سنقرأ حالاً رد رؤساء الكهنة:

+ » وبينما هما
(بطرس ويوحنا) يخاطبان الشعب أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون
متضجرين من تعليمهما الشعب وندائهما في يسوع بالقيامة من الأموات، فألقوا عليهما
الأيادي ووضعوهما في حبس إلى الغد.
«(أع 4: 13)

 

9:3و10 «وأَبصرهُ
جميعُ الشعبِ وهو يَمْشِي ويُسبِّح الله،

وعَرَفُوهُ
أَنَّه هو الذي كانَ يجلسُ لأَجلِ الصَّدقةِ على بابِ الهيكلِ الجَمِيلِ فامتلأُوا
دَهشةً وحيرةً ممَّا حدثَ له».

هذا هو
منتهى قصد الروح القدس، أن ينظر الشعب ويسمع ويتحسَّس الحقيقة بعينيه ويديه. لقد
عرفوه لأن له من السنين أربعين سنة في كُساحه المولود عليه. ثم يُلاحِظ القارىء
كيف يختار الروح القدس إنساناً مثل هذا ويضعه على باب الهيكل الفخم ليراه كل داخل
وكل خارج كسيحاً يزحف على يديه صباحاً ومساءً على مدى أربعين سنة، ثم يقدِّمه لهذه
الآلاف وعشرات الآلاف من الشهود صحيحاً معافىً قائماً ماشياً طافراً مسبحاً باسم
الذي صلبوه!!

ويُلاحِظ القارىء أن
ردّ الفعل لهؤلاء الصدوقيين والكهنة عموماً هو:

«دهشة
وحيرة»:
q£mbouj kaˆ ™kst£sewj

الدهشة نعرفها جميعاً
فهي رجع صدى عجز العقل عن فهم الحاصل، أمَّا الحيرة كما جاء في الاصطلاح اليوناني
فهي انفلات النفس عن وعيها بتأثير مؤثر شديد للغاية، وهي إمَّا تكون سالبية كما هي
هنا فتعني ضياع اتزان العقل بسبب صدمة الحق مع الباطل، وإمَّا تكون إيجابية حينما
تضع الحق في تأثيره على المستوى الطبيعي الدنيوي فتطير النفس لتحلِّق في الأعالي
أي في مجال الحق.

ليست فقط الدهشة بل و«الحيرة»،
وهذا بيت القصيد. كيف، ثم كيف يقوم هذا صحيحاً باسم المصلوب الذي قتلوه بأيديهم
واطمأنت نفوسهم عندما دفنوه وأغلقوا القبر؟ هنا الصدمة العنيفة بين الحق أمامهم
والباطل في نفوسهم. فإن كان دم الإنسان البريء يتكلَّم صارخاً أمام الله في
السماء، فكم يكون دم يسوع المسيح؟ إنه يصرخ في القلوب فلا مناص ولا خلاص، وسيظل
يصرخ إلى أن يعودوا صارخين وباكين.

 

الخطاب
الثاني للقديس بطرس الرسول

[3: 1126]

 

11:3 «وبينما كانَ
الرجلُ الأَعرجُ الذي شُفِيَ متمسِّكاً ببطرُسَ ويوحنَّا تَراكضَ إليهم جميعُ
الشعبِ إلى الرواقِ الذي يُقالُ له رُوَاقُ سليمانَ وهُم مندهشُونَ».

وهكذا بلغت الحوادث إلى
ما كان ينشده الروح القدس، فقد تراكض الشعب من رواق إسرائيل وتكدَّسوا في رواق
سليمان الخارجي. معنى هذا أن كل العُبَّاد والذين يتقون الله حسب المظاهر اليهودية
قد أثارهم هذا الحادث وعزموا أن يعرفوا الحقيقة. وهذا هو المطلوب سواء من الروح
القدس أو من ق. بطرس وق. يوحنا أن يعرف الناس الحقيقة التي من أجلها تكرَّسوا
رسلاً ومبشرين. فوجد ق. بطرس أن كل شيء قد تجهَّز لإعلان حق المسيح على مسمع من
الكهنة والكتبة وكل الصدوقيين الذين يقولون إنه ليس قيامة!!

هنا وبعامل الحفاظ على
حالة شفائه، وبعامل النعمة التي جعلته يلتصق بأولياء نعمته، ثم بإيحاء الروح
القدس، ظلَّ هذا الأعرج الذي استوى على رجلي غزال متمسِّكاً بالرسولين بكل قوته،
والقصد واضح: أن تظل القرينة تشهد بشهادة الفم والوجود والكيان. فكان ق. بطرس
يتكلَّم على خلفية توضيحية، والأعرج يهتف بصدق كل ما كان ق. بطرس يتكلَّم به.

 

12:3 «فلمَّا رأى
بطرُسُ ذلكَ أَجابَ الشعبَ: أَيُّها الرجالُ الإسرائيليون، ما بالكم تتعجَّبونَ
مِنْ هذا ولماذا تَشْخَصُونَ إلينا كأننا
بقوَّتنا أو تقوَانا قد جَعَلْنَا هذا يَمشي».

إن أخطر ما يواجه أولاد
الله الذين يُظهرون عمل الله بحياتهم أو بسلوكهم أو بمواهبهم أن يخطئ الناس أو
يخطئوا هم فيحسبوهم قديسين وأن بقداستهم تتم أعمال الله!! أو يحسبون أنفسهم أن
بتقواهم عمل الله ما يعمل بواسطتهم. هنا يكون المسيح قد خُذل في موقع الشهادة،
فشهد المؤمن لنفسه عِوَضَ أن يشهد لإلهه. ولكي يزيد الواعظ أو الخادم أو مَنْ
يصلِّي على مريض أو يعطي مشورة أنه فعلاً بقداسته وتقواه تمَّ هذا، يتصنَّع
التواضع ويتمنَّع في تقبُّل التكريم والتعظيم حتى يؤكد قداسته بتواضعه ويسجِّل
المعجزة لحسابه بإنكار ذاته إنكاراً هو التعظيم بعينه.

الشـعب فعـلاً ويقيناً
يتلهف أشد اللهفة أن يعرف كيف قام هذا الأعرج الكسـيح من بطن أمـه، وهو معروف عند
الجميع، كيف قام صحيحاً وبأي قوة؟ هل قوة وتقوى هؤلاء الرجال الذين يتبعون شيعة
الناصري؟ أم أنهـا قوة الناصري نفسه، كما بدأت تتأكد الأمور من كل جانب.

القديس بطرس لاحَظ ذلك
واعتبرها باباً مفتوحاً يدخل فيه ليشهد لمَنْ له الشهادة. وظهر ق. بطرس على حقيقته
الصخرة الصلدة التي اختارها المسيح ليبني عليها كنيسته. فلو كان ق. بطرس اكتفى
بشرح الموضوع ببساطة أنه عمل المسيح المصلوب وليس عملنا، لكان في هذا فعلاً يريد أن
يحوِّل الكرامة لنفسه، إذ لماذا عمل المصلوب هذا العمل العظيم به إلاَّ لأنه (أي
لأن بطرس) عظيمٌ؟ ولكن ق. بطرس عرف الفخ المنصوب حوله وأدرك الخدعة، فألقى بنفسه
في أتون الصليب عينه وهو يرى من خلفه المسامير والحراب، إذ انقضَّ عليهم انقضاضاً
لا هوادة فيه، لا لكي يسترضيهم بعد، بل ليحمِّلهم جريمة قتل مبيَّت وعن عمد وإصرار
وعن عمى قلب وحماقة فكر وضمير. فإمَّا أن يقتلوني بأيديهم وإمَّا أُعمِّدهم أنا
بيدي!! فقد عرف وتأكد أن وراءه محامي الاتهام الذي يتكلَّم بسر الله في القلوب
وسيفه في يده، فعليه هو فقط تعرية ضمائرهم ومحاصرتهم في جريمتهم، ويترك الباقي على الذي يستطيع أن يوثقهم بوثاق النعمة
ويجرَّهم إلى الخلاص منخوسي القلوب
والضمائر.

13:3 «إنَّ
إله إِبراهيمَ وإِسحقَ ويعقوبَ إله آبائِنا مجَّدَ فتاهُ يسوعَ الذي أَسلمتمُوهُ
أَنتُم وأَنكرتُمُوهُ أمامَ وجهِ بيلاطُسَ وهو حاكمٌ بإِطلاقِهِ».

القديس بطرس يسند ظهره
على
“صخر” الدهور. إن
اسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب
([3]) هو المرجع الأول والأخير. إن كان الأمر صادراً منه فمَنْ ذا يعاند، إنه إله إسرائيل، فإن لم يخضعوا لعمله
فلمَنْ يخضعون؟ وإن كانوا هم رسـله، والمتكلمين باسمه، فقد وجب الإصغاء وانفتاح
العقل.

نعم، إن كان وهو الإله
القوي العزيز الجبار قد قام من الموت الذي أماتوه، فموته إذاً كان حتماً ظلماً بل
كان جريمة وكان تحدِّياً لكل أعماله ولكل أقواله منذ بدء الدهور إلى آخرها. إذاً
قضية قيامة المسيح من بين الأموات هي التي صارت الحَكَمَ الفصل بين التبرئة
والاتهام. فإن أنكروا القيامة التي صارت معلومة لديهم بألف برهان وبرهان، فها
أمامهم الرسل الذين شاهدوا قيامته ويشهدون لها وهم لا إثنان ولا ثلاثة بل خمسمائة
أخ دفعة واحدة!! ثم هذا الأعرج الكسيح ها هو اسم الرب، الذي قام وجلس في مجده،
دُعِيَ عليه، فقام واستقام، وها هو يجري أمام أعينهم ويسبِّح ويهتف ويشهد ويمجِّد!

فإن كان الله الكليِّ
القدرة الذي نلنا منه القدرة ودعونا باسمه، مجرد دعاء، فقام هذا الأعرج ليشهد بعمل
الله فيه، فهو الله أيضاً الذي مجَّد فتاه
([4]) يسوع
وأقامه من الموت بعد أن أسلمتموه عن وعي ومعرفة وعن ظلم صارخ صرخ به الحاكم
الروماني في وجوهكم أنه ليس فيه علة واحدة يمكن أن يحكم عليه بمقتضاها بالموت،
ولمَّا تماحكتم وأردتم أن تقيموا حُكمكم ضده الذي بيتُّم عليه حسداً وحقداً
وضغينة، كرَّر براءته ثلاثاً علناً وغسل يديه على رؤوس أشهادكم، ولكنكم أَسلمتموه
بالصراخ والضجيج والتهديد ليُصلَب مع أنه قد حكم بإطلاقه وبإصرار.

وهكذا نجح ق. بطرس ليضع
معجزة قيام الأعرج من كساحه على مستوى قيامة الرب من الموت. وبهذا حوَّل اندهاشهم
المتزايد من أعرج يقوم صحيحاً إلى ما هو أخطر وأعظم وهو أن يقوم المسيَّا من الموت
الذي
أسلموه للموت
فإن كان الأعرج باسم المسيح قام، فما بالهم
والمسيح نفسه قد أقامه الله من الموت. إذاً، فقد سجَّل ق. بطرس اندهاشهم ليُحسب
عليهم.

 

14:3و15 «ولكن
أَنتُمْ أَنكرتُم القدُّوس البارَّ وطلبتُم أَن يُوهَبَ لَكُم رجُلٌ قاتِلٌ،

ورئيسُ الحياةِ قتلتُمُوهُ
الذي أَقامه الله مِنَ الأمواتِ ونحنُ شهودٌ لذلِكَ».

كان المأزق الذي وضعهم
فيه بيلاطس
دون أن يدري خطيراً
للغاية، فبهذا العرض كشف نوايا رؤساء الكهنة والصدوقيين وبقية رؤساء الشعب بصورة
خطيرة، إذ سجَّل عليهم أنهم قيَّموا المسيح بأقل من رجل قاتل محكوم عليه بالإعدام
مما أذهل بيلاطس، حتى أنه نبَّههم مراراً: هل أصلب “ملككم”؟ لكي يستفيقوا. فبيلاطس
لم يكن يسخر منهم بل كان قد شعر وتحقَّق بعد الحديث السرِّي الخاص الذي جرى بينه
وبين المسيح: من أين أنت؟ هل أنت ملك اليهود؟ تحقَّق هذا الحاكم الذكي أنهم أسلموه
حسداً، فهو ملك حقيقي ولكنهم لا يريدون ملكاً يحاسبهم على فجورهم ويصفِّي مهنتهم
التي يرتزقون منها، لذلك صرخ: هل أصلب ملككم؟ ثم هل أصلب ملككم؟ يا لله!!! فأسلمه
إليهم ليصلبوه هم حسب ما أرادوا، وصلبوا ملكهم، وصاروا فعلاً بلا ملك ولا ملكوت!!

«أنكرتم
البار … وطلبتم القاتل»:

ثم هي معادلة بسيطة لا
يصعب على القارىء أن يحلَّها، إن كانوا صلبوا البار وأطلقوا القاتل فماذا يكون
مستوى ضمائرهم، أو حتى تفكيرهم، أو على الأقل جداً تقديرهم للبرّ؟ طبعاً لا شيء،
بل أقل من أقل كل شيء، بل أقل من مجرم وقاتل. هكذا صار مستوى البرّ والتبرير عند
رؤساء الكهنة
، عندما
بحثوا قضية “يسوع” وحكموا فيها!!

المسيح في هذا الموقف
كان يستصرخ ضمير الحق والعدالة:

+ » لو لم أكن
قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأمَّا الآن فقد رأوا
وأبغضوني أنا وأبي. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم إنهم أبغضوني بلا سبب.
«(يو 15: 24و25)

ثم قضية ثانية نحتكم
فيها للقارئ: مَنْ يُبغض البار؟ أو مَنْ الذي يكره الحق؟ أو مَنْ الذي يحسد
الأمين؟ وأخيراً مَنْ الذي يظلم العدل؟ هذا هو مستوى رؤساء الكهنة! وهل لا يوجد
لموازين الناس
، مهما عظموا
وترأسوا وتخفّوا وراء خدمة الله
، هل يوجد مَنْ يحاسب؟ وإلاَّ
فهذا صياد سمك من بحيرة الجليل وقف يحاسب الكهنة ورؤساء الكهنة بكلمات من نار
وبموازين عدل الله الصارم، فكل ما فعلوه في الظلام كشفه ذلك الصياد في وضح النهار
وعلى مستوى كل حكومات العالم وقضاة الأرض إلى يوم الدين.

«ورئيس
الحياة قتلتموه»:

«رئيس
الحياة»:

¢rchgÕn tÁj
zwÁj

لا تأتي الكلمة
باليونانية لتفيد الترؤُّس، لأن الترؤُّس على الحياة أقل من التعبير المطلوب،
فالكلمة تفيد صاحب الحياة أو مُنشئ الحياة. وتأتي في الإنجليزية بحرف كبير كابيتال
Capital لتفيد شخص الجلالة. ولا ينبغي أن يتوه عن بالنا أنه هو قال عن
نفسه:
» أنا هو القيامة والحياة
«(يو 25:11)، فهو لا ينتمي إليها بالرئاسة بل هي تنتمي إليه
بالوجود!!

القديس بطرس هنا بلغ
الذروة في وصف خَبَل رؤساء الكهنة، فهنا مقولة لا يقولها إلاَّ رجل مجنون، أو عاقل
يقولها لرجل مجنون!! أمَّا القديس بطرس فنحن نعرفه، أمَّا رؤساء الكهنة الذين
حكموا هذا الحكم فهذا هو وصفهم:
» قتلوا الحياة «! يوجد أُناس يقتلون الحياة التي فيهم فينتحرون، ويوجد أُناس
يقتلون الحياة في الآخرين وهم القتلة، أمَّا رؤساء الكهنة فقتلوا
«الحياة في
ذاتها»

أو قتلوا صاحبها ومعطيها!! وهل هذا ممكن؟ لقد تسجَّل عليهم أنهم قتلوا رئيس الحياة
حقاً وفعلاً، ولكن هل هذا ممكن؟ هنا استحالة، لذلك أقامه الله لأنه الحياة،
والحياة لابد أن تقوم وتبقى وتدوم. لقد أماتوه لأنفسهم فأماتوا حياتهم، وهو قام
ليُحيينا. لقد حُسب موته عليهم وحدهم أمَّا لنا فحياة من موت!

«الذي أقامه
الله من الأموات ونحن شهود لذلك»:

ليحذر القارئ أن يفهم
من هذا القول أن الله كان يمكن أن لا يقيمه، هذا جدّ مستحيل فهو مات على أساس أن
يقوم، بل قال إنه هو القيامة، وهو قائم أبداً، وإن مات فهذا لكي يصنع بموته قيامة
وحياة!! المسيح مات ليحوِّل موته إلى حياة أبدية، وموت المسيح لم يكن كموت الناس
بل كان موته أقوى جداً وبلا قياس من موت كل الناس، فقد داس بموته الموت وألغى
سطوته وقام لكي لا يموت الناس. فيا لمجد هذا الموت، ويا لعزّنا بهذا الموت، فقد
سمعنا به في المسيح مرّة ولن نسمعه بعد أو نراه:
» مَنْ يسمع
كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولن يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من
الموت إلى الحياة.
«(يو
24:5)

القديس بطرس يشهد
لقيامة المسيح ليس لأنه شاهدها وحسب، أو لأنه شاهد المسيح حيًّا من بعد الموت، بل
لأن المسيح قائم فيه. فهو يستمد شهادته من خبرته، من كيانه، من حياة القيامة التي
فيه. المسيح قد قام، لأننا قمنا معه، وإن شهدنا فنحن نشهد لقيامتنا فيه. أمَّا
قيامته هو على حقيقتها وفي صميم طبيعتها ومقدار فعلها وقوتها، فلو اجتمعت كل قيامة
الذين قاموا فيه فلن تعطي إلاَّ صورة قوامها خبرة الإنسان فيها وحسب، أمَّا خبرة
المسيح وملء قيامته فهو ملء السماوات والأرض والأجيال والدهور، شيء لا يحيطه فكر.

16:3 «وبالإيمانِ
باسمهِ شَدَّدَ اسمُهُ هذا الذي
تنظروُنَهُ
وتَعرِفُونَهُ والإيمانُ الذي بواسطتهِ أَعطاهُ هذه الصحَّةَ أمامَ جميعكمْ».

هدفٌ واحدٌ ركَّز عليه
ق. بطرس في دفاعه عن المسيح وإثبات برّه وقداسته وقيامته من الأموات، وذلك الهدف
هو الإيمان بالمسيح. فيقول نحن دعونا عليه
» بالاسم « فبسبب إيماننا باسم المسيح باشر المسيح قوته في إقامة هذا الأعرج
سليماً. فصحة هذا الأعرج أمام عيونكم التي تتأجج نشاطاً وحيوية وفرحاً وتهليلاً
وتمجيداً هي من صُنْع الإيمان بالمسيح.

وهنا كرر ق. بطرس «الإيمان» مرتين ليزيد
التركيز على مصدر القوة الحقيقية التي أقامت الأعرج، ثم كرر
«اسم» المسيح
مرتين ليكشف عن هويَّة صاحب
«الاسم». فـ» اسم «الله عند
اليهود يعني حضرته، يعني شخصه، يعني كل خصائصه وقوته. ولا يوجد اسم آخر له هذه
الخاصية، وذلك لسبب هام سقط بمضيِّ الدهور الأُولى، فالله المدعو عندهم
» يهوه «كان له اسم
تتكوَّن حروفه من حروف هذه الكلمة وهي: ي هـ و ه. وكان محرَّماً على أي يهودي أن
ينطقه أو يكتبه، فأعطوه اسماً آخر بديلاً عن هذا الاسم المقدَّس المرهوب فأسموه
» أدوناي «أي السيد،
وأسموه
» شداي «أي القوي والقدير. واستخدموا هذه الأسماء
للدلالة على
» يهوه «الإله المخوف، فبقيت هذه الأسماء وبدأ
الاسم يهوه ونطقه الصحيح يضمحل
، حتى اضمحل فعلاً ولم يعد أحد يعرف نطق
كلمة
» يهوه «صحيحاً حتى اليوم، فاخترعوا
لها حروفاً متحركة لتنطق
» يهوه « ولكن الاسم الأصلي ضاع. ولكي يريحوا أنفسهم من خطر النطق بهذا
الاسم، اكتفوا عند الاستشهاد بالله بذكر
«الاسم» فقط.
فيُقال كما قال ق. بطرس هنا:
«بالإيمان باسمه، شدَّد اسمه هذا»، ويقصد
المسيح، كما كان يصنع اليهود قديماً في أمر يهوه. وبهذا نفهم أن ق. بطرس تعمَّد
ذكر
«الاسم» بهذا
المعنى وهذا السلطان ليعيد لأذهان اليهود قيمة يهوه العظمى وقدرة اسمه في العمل
بمجرد ذكره، وكرر
» الاسم
«مع تكرار » الإيمان «ليُدخل في
قلوبهم أن اسم المسيح هو مصدر القوة والمعجزة التي تمَّت، وبنوع خفي يسرِّب إلى
أذهانهم الحقيقة العظمى أن يسوع المسيح هو يهوه!! وعليك أيها القارئ إعادة قراءة
هذه الآية أعلاه (16:3) مرة أخرى، ثم اسأل: ومَنْ الذي يكون الإيمان باسمه يعطي
اسمه هذه الصحة لهذا الأعرج إلاَّ الله؟ بهذا انتهى الدفاع الأول للقديس بطرس.

لقد كان ق. بطرس، في
هذا الدفاع أكثر من مُلْهَم، أكثر من نبي ومعلِّم، أكثر من محامٍ وقاضٍ. لقد كان
عند حسن ظن صاحب الاسم تماماً وكان موضع فرح الروح القدس الذي فيه!!

عملية
مداولة للتهوين من شدة الكلام ودفعاً للمصالحة:

مرة أخرى يتألَّق ق.
بطرس، لا في الاتهام ولا في الهجوم ولا في الحكم القاطع ضد قتل رئيس الحياة وهم
على علم وضغينة والحكم مبيَّت قبل الحكم، والقتل أمر انتهوا منه قبل أن يبدأوا به.
نعم وبالرغم من كل ذلك انتقل ق. بطرس من منصة القاضي الذي يحكم بشريعة موسى
التزاماً، وتغاضى عن أي اعتبار للقانون الروماني نفسه، بل وأي قانون مدني أَيـًّا
كان، فالكل يحكم ضد القاتل عمداً بلا رأفة. ولكن ق. بطرس لكي يعلن عن المسيح الذي
فيه، بدأ يدافع عن قاتليه. فهذا نص القانون الذي رسمه المسيح على الصليب، إذ نطق
عليه قبل تسليمه الروح بدقائق بالبراءة لصالح صالبيه، طالباً من الله أن لا يقيم
لهم هذه الخطية فلا يُحاكَمُوا بمقتضاها. بهذه الروح بدأ ق. بطرس يسترضي قلوبهم.

17:3 «والآن
أيـُّها الإِخوةُ أنا أَعلمُ أَنكم بجهالةٍ عَمِلتُم كما رُؤَساؤُكُم أيضاً».

طبعاً معروف
في كل قضاء أن عدم العلم بالقانون لا يبرِّئ من الإدانة. ولكن هذا

هو
القانون المسيحي الذي اختطه المسيح وهو في ذروة ألمه وعلى الصليب وغصَّة الموت في
حلقه. فلم يجعل عدم العلم عائقاً للبراءة، بل والعلم بالخطأ والإصرار عليه وتكميل
تنفيذه لا يمنع البراءة!! هذا هو قانون الرحمة الذي انبثق على الصليب بالذات كأحد
بنود بركاته:
» والرحمة تفتخر على الحكم «! (يع 13:2)

كان من المستحيل على
المسيح أن يكون وهو يتحمل العذاب والتعذيب والألم والتنكيل دفاعاً عن الخطاة، كل
الخطاة، ليحمل بتعاذيبه وآلامه ثمن كل خطايا الخطاة، كان من المستحيل أن يجعل
صليبه وهو آلة الخلاص الأُولى وعلة التبرير العظمى، سبب دينونة وهلاك صالبيه!
فمنطق الصليب الذي اختطَّه المسيح ابن الله في محاكمة الخطاة وليكون أساس حكومة
الله بين الناس، هو أنه برَّأ أول ما برَّأ صالبيه. لقد دخل ق. بطرس هو نفسه تحت
مظلة الصليب إذ نال سابقاً صفحاً، بل نال عوناً وصلاة مُسبَقة عن إنكاره لسيده ثلاثاً
وأمام شهود وبسبق إنذار، ونال تبريئاً وحباً مضاعفاً. فكيف وهو الآن في موضع
القاضي كيف لا يبرئ الصالبين مرة أخرى، فهو وإن كانت قد بدرت منه هذه
السابقة عن جرأة منقطعة النظير غير أنه لم يكن إلاَّ مُكَرِّراً لحكم المسيح:
» يا أبتاه
اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.
«(لو 24:23)

وفي الحقيقة نحن نقيِّم
إعفاء ق. بطرس للصالبين من الدينونة، ليس بالرغم من علمهم وسبق إصرارهم، بل
باعتباره «جهالة». والجهالة تتجاوز عدم العلم في أثرها المبرِّئ بل وتتجاوز
العلم نفسه وسبق الإصرار! لأنها ليست «جهالة» بأمور يمكن معرفتها بالعقل
وبأدوات المعرفة المتاحة لكل إنسان، ولكنها جهالة بسر الله الفائق للعقل ولأدوات
المعرفة التي لدى كل إنسان! التي يقابلها القاضي ليحكم بالبراءة للقاتل. إن المتهم
غير “عاقل” وفي أقل من الحدود المفروضة لوعيه. ألم يقل ق. بطرس لهم الآن
للتدليل عن خبالهم
إن «رئيس الحياة
قتلتموه»
مقولة لا يقولها عاقل، وعملٌ لو استطاع إنسان أن يعمله لقيل أنه
جُنَّ، ثم ألم يثبت المسيح أنه قد مسَّهم الجنون والجنّ وهم يسرعون بلهفة لصلبه
قائلاً لهم:
» هذه ساعتكم وسلطان الظلمة. «(لو 53:22)

18:320
«وأمَّا الله فَمَا سبقَ وأَنبَأَ بهِ بأفواهِ جميعِ أنبيائهِ أن يتألَّم
المسيحُ قد تَمَّمَهُ هكذا،

فتوبوا
وارجِعُوا لتُمحَى خطاياكُمْ لكي تأتي أَوقاتُ الفرَجِ مِنْ وجهِ الربِّ.

ويُرسِلَ
يسوعَ المسيحَ المُبَشَّرَ بهِ لكم قَبْلُ».

لم يترتَّب
على صلبكم للمسيح أي خسارة إلاَّ لكم أنتم وحدكم.

فتوبوا لكي
يأتي سريعاً ويرد لكم كل شيء.

 

بعد أن
أخرجهم ق. بطرس من تحت الحكم بعامل جهالتهم، ممهِّداً بذلك طريق إراحة ضمائرهم
ليقبلوا عنف الكلام الذي خاطبهم به، يعود الآن ويرفع عن كاهل ضمائرهم ثقل هذه
الجريمة الشنعاء بقتلهم المسيح وسفك دم بريء لرجل تعيَّن أن يكون ربًّا ومسيحاً
وديـَّاناً للأحياء والأموات. فيقول لهم إن كل مراحل تعدِّيهم الصارخ وتربُّصهم
بالمسيح وإقامة التهم الباطلة ومحاكمتهم المغشوشة الباطلة واتهاماتهم المزوَّرة
وشهودهم الكذبة، ثم قسوة
القبض عليه وتعذيب جسده
بالضرب والسياط ثم الحكم بالصلب دون أي سبب، ثم موته ودفنه، كل هذه المراحل التي
اقترفتها أيديهم وقلوبهم سبق وقالها الله جميعها وتنبأ بها الأنبياء أن لابد أن
تكون، لكي حينما يجوزها المسيح كلها راضياً مطيعاً لأمر الله ومشيئته تتم بنود
الخلاص للبشرية كلها بما فيها إسرائيل.

أي أن كل ما اقترفته أيديهم
انتهى إلى خلاص العالم وتممه المسيح كما سبق ورسمه الله، إذاً، فما من خاسر إلاَّ
هم والذين رفضوا الصليب فرفضوا الخلاص. فماذا يمنعهم عن التوبة والرب غفر
خطيتهم؟
إذاً، لم يبقَ أمامهم أي عائق يمنعهم عن التوبة، علماً بأن عدم توبتهم
(إلى الآن) حرمهم من أزمنة الخلاص التي وعد بها الرب على فم جميع الأنبياء.
كذلك فعدم توبتهم وقف عائقاً منع مجيئه ليردَّهم إليه مرة أخرى وبالتالي دخولهم في
فرح استعلان مواعيده الصادقة لهم ولأولادهم. إذاً، توبتهم أصبحت مُلحَّة من أجل
دخولهم في الخلاص الموعود لهم وفي أيام الفرج المرصودة لحسابهم، ولردِّهم إلى سابق
علائق الحب الذي امتازوا به دوناً عن جميع شعوب الأرض.

صحيح فات عليهم زمن
البشارة الأُولى بالمسيح المخصَّص لهم أولاً، ولكن لمَّا رفضوا عبر منهم إلى
الأمم. والآن إن يعودوا ويرجعوا إليه يرجع إليهم ويجدِّد لهم زمن البشارة الذي
فاتهم.

إن الاستنارة التي
يتكلَّم بها ق. بطرس هنا تبدو وكأن المسيح كشف لهذا الرسول العظيم حقاً دقائق
مشورته الأزلية، وفتح ذهنه لا ليفهم الكتب وحسب بل ليفهم خطة الخلاص بدقائقها
وصعابها وتعديلاتها مع طول أناة الله على خلاص هؤلاء القوم. هذا يُرى بوضوح من
الإلحاح وإقامة الأدلَّة الأكثر من مُقْنِعة لتوبتهم!!

حيثيّات:

مزيد من الأدلة المقنعة
على صدق دعوة اليهود للتوبة والإيمان بالاستشهاد بالكتب:

 

ولسان حال بطرس الرسول
“أنا كعبراني من العبرانيين، وكوريث معكم في كل ما جاء في الكتب وما وعد به الله
في الناموس والأنبياء، هلم نتحاجج لتعلموا أن المسيح هو لكم، فإن ارتفع عنكم لأنكم
خذلتموه وصلبتموه، فهو على ميعاد معكم للعودة إن عُدتم إلى التوبة وطلب الإيمان
به”.

 

21:3 «الذي ينبغي
أَنَّ السَّماءَ تقبَلُه إلى أَزمنةِ رَدِّ كلِّ شيءٍ التي تكلَّم عنها الله
بِفَمِ جميعِ أَنبيائِهِ القديسينَ منذُ الدهرِ».

لو رفعنا أعيننا إلى
مستوى العمل الذي عمله المسيح على الصليب باستثناء القوم الذين بجهالة خططوا
للصليب من وراء ظهر الله وبدون مشورة، لا من الروح المستودع لإيمانهم وعبادتهم
وتقواهم، ولا من روح آبائهم وأنبيائهم، بل ولا حتى عن حكمائهم نجد أن
بقية الشعب في طول البلاد وعرضها قد ظلموا بجهالة هؤلاء الرؤساء. فلو رجعنا ونظرنا
كيف كان سيكون الحال لو آمن الشعب بقيادة المعتدلين والملهمين منهم وآمنوا بالمسيح
وكيف كان يمكن لعمل الخلاص أن يشمل الأمة اليهودية بأكملها ويتم لهم الوعد
والميعاد، ثم تنطلق دعوة الخلاص للعالم كله بقوة اندفاع مواهب اليهود من إعزاز
الله وحبه وسنده ووعده لهم؟ هذا أمر خطير، فالأمة المختارة على مدى ألفَيْ سنة
صاحبة أعظم تدخلات السماء في كل مناحي حياتهم، ومبادرة الله لنجاتهم ومساعدتهم في
أعظم الأمور وأصغرها، تقف هي بكل ثقلها وبكل مواهبها لتعمل عكس ما هو منتظر منهم،
فتقاوم وتجدّف وتتحدى الله وخططه لخلاصهم هم أنفسهم، ثم تتعدى ذلك بصورة عنيفة
وبأكثر جهالة لمقاومة خلاص الأمم والشعوب حتى لا يعرفوا الله ويؤمنوا به ويؤمنوا
بالكتب المقدَّسة وبوعد الله الأكيد لهم المنصوص عنه في جميع الأسفار، منذ إبراهيم
بصورة عظمى وأُولى:
» يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض «(تك 18:22)، ومن موسى ووعده كما سيجيء في الآية القادمة، مع كل
النبوات وأكثرها ما جاء في سفر إشعياء.

حتى أن التلاميذ في يوم
الخمسين، وقبل ذلك عند وعد الرب لهم بأنهم سيُعمَّدون بالروح القدس وقوة العلي تحل
عليهم من الأعالي، وأنهم سيشهدون له في اليهودية وأُورشليم والسامرة ثم إلى أقصى
الأرض، فهموا في الحال أنه قد جاء زمن ردِّ كل شيء حسب وعده للأمة كلها فسألوه:
» هل في هذا
الوقت تردُّ الملك إلى إسرائيل
«(أع 6:1). الأمر الذي وقف عنده المسيح كعارف بكل شيء
موقف الحزن والصمت مدة ثم رد عليهم:
» ليس لكم أن تعرفوا
الأزمنة والأوقات
«(أع
7:1)، والرد هنا يرمي بكل وضوح أنها ليست سنة أو عشرةً أو عشرين

أو
ثلاثين على أكثر تقدير كما كانوا يظنون جميعاً، بل كان الرد ليس مجرد زمان
أو وقت بل أزمنة وأوقات!! ثم وفي حزن أعمق أكمل القول عن هذه
الأزمنة والأوقات أن الآب جعلها في سلطانه حتى أنها تخفى عن عَيْنَي
» يسوع «شفيع
إسرائيل الأعظم!! وهو بين شعبه، وبالأكثر عن عيون التلاميذ لئلا يذهلوا ويخوروا
وترتخي قلوبهم وأذرعهم ويصابوا بالشلل والكلل: ألفان من السنين قد مضت حتى
الآن!! ولا يزال من مزيد!! وليس ثلاثون سنة! نعم فقلب هذا الشعب غلظ والله زاد
الكيل لهم فغلّظه لهم وآذانهم تباطأت في السمع والطاعة ففاض عليهم صمماً فوق صمم
وعيونهم تغاضت عن رؤيا الحق فأرسل لهم العمى ضعفين.

ولكن نعود ليوم
الخمسين، والتلاميذ متلهفون لسماع قرب زمن ردِّ الملك، وباختصار شديد كان يود الرب
أن يقول لهم عندما يرتدُّون إليه فيرتدَّ إليهم، وعندما يردّون على افتقاده لهم
بموته وقيامته لتُمحى كل خطاياهم، التي ما استطاع الناموس أن يمحو منها خطية
واحدة، نعم عندما يردُّون على قيامته يردُّ عليهم ملكهم وعزّهم وحبه لهم وإعزازه
وكل وعوده لآبائهم.

كان الأنبياء وبالأكثر
إشعياء عظيمهم أكثرهم هماً ورجاءً وتوثباً ليوم العودة هذا، ولزمن
» ردِّ كل شيء « كما يقول عنه ق. بطرس هنا وكأنه نبي على مستواهم وأكثر. وقد
استطرد في هذا المعنى بولس الرسول بوضوح:

+ » أيها الإخوة
إن مسرَّة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هي للخلاص.
«(رو 1:10)

+ » فأقول ألعلّ
الله رفض شعبه؟ حاشا … لم يرفض الله شعبه.
«(رو 1:11و2)

+ » فأقول
ألعلّهم عثروا لكي يسقطوا (كشعب واحد)؟ حاشا…،

بل بزلتهم صار الخلاص
للأمم لإغارتهم (إغارة اليهود)، فإن كانت زلَّتهم غنى
للعالم ونقصانهم غنى للأمم فكم بالحري ملؤهم.
«(رو 11: 11و12)

+ » إن القساوة
قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل.
«(رو 11: 25و26)

إذاً، بطرس الرسول هنا
يتكلَّم من موقف رسولي معروف للرسل، لأنهم بعد أن عرفوا من الرب في يوم الخمسين أن
لا يضعوا قلوبهم وراء عودة المُلك لإسرائيل، فمن ذلك الحين ظلّوا يترجونه
ويتوقعونه بصبر ولم ييأسوا أبداً.

ولكن رجعة حزينة على
أنفسنا وعلى حالنا وكنيستنا، فلو كانت الكنيسة قد سارت بحرارة العهد الرسولي
وقيادة الروح القدس كما كُتب عنها: “إنهم كانوا يواظبون على الصلاة كل يوم في
الهيكل وكانوا يواظبون على تعاليم الرسل والشركة وكسر الخبز”، لو تمسّكنا
بالتعاليم الرسولية لفتحنا الباب أمام اليهود، لأن عظة واحدة من بطرس الرسول ضمَّت
ثلاثة آلاف نفس آمنوا واعتمدوا، وبعدها جماهير من رجال ونساء. ولكننا لم نعد قدوة
للخلاص لا لليهود ولا للعالم. لقد تباطأت الكرازة، ثم تباطأت، ثم تواطأت، ثم
تآكلت. والآن نسمع عن الارتداد في العالم أكثر آلاف المرات من الانضمام. فإن تأخر
زمان عودة الرب فلأن البشارة بالإنجيل لم تبلغ مستواها من الصليب!! والشيطان يجول
ويبتلع بأكثر مما يجول الكارزون ويضمّون.

وسؤال التلاميذ
يحيِّرنا نحن أيضاً: متى يُرد المُلك الموعود، ويتحقق وعد الملاكين للرسل:
» سيأتي هكذا
كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء
«(أع 11:1). إن هذا موضع رجاء شديد ولهفة عندنا، لأن العالم يمخض
بالإثم ويلد كل يوم أنواع خطايا جديدة لم نعرفها ولم نسمع لها مثيلاً!

«الذي ينبغي
أن السماء تقبله»:

«السماء تقبله»: dšxasqai

فلينتبه القارئ لأن
كثيرين من العلماء الكبار فهموا هذا القول باعتباره إفادة عن أن المسيح عاد إلى
موطن سُكْناه للإقامة. ولكن الكلمة
» تقبله السماء «تفيد إفادة
واضحة أنها مرحلة مؤقتة يجلس فيها عن يمين العظمة ليدير حركة كنيسته على الأرض،
ويؤازر شهداءه وقديسيه ومُتَّقيه في كل مكان ويُعدّ لهم عنده مكاناً، ثم يأتي
إلينا ليختتم زمان الكرازة بإعطاء أكاليل المجد في ذلك اليوم، ويمسح الدمع عن
العيون التي هدَّها الحزن وأضناها البكاء وليس في الأرض من يُعزِّى أو في العالم
من يَرثى. إنه يوم الانتظار الذي نصلِّي من أجله على الدوام: «منتظرين وطالبين
سرعة مجيء يوم الرب»
(2بط 12:3)، ماران أثا.

فكلمة «تقبله السماء» التي جاءت على لسان
بطرس الرسول تعطينا هذا الرجاء وتُزيدنا انتظاراً وطلباً ودعاءً:
» ألقوا
رجاءكم بالتمام على النعمة التي يُؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح
«(1بط 13:1). فالآن هو الزمان الذي يقضيه الرب في السماء، والذي
تجوزه الكنيسة على الأرض، هو زمان ما قبل الاستعلان الأخير.

ثم قوله:

«إلى أزمنة
ردّ كل شيء»:
¥cri
crÒnwn ¢pokatast£sewj p£ntwn

فردّ كل شيء ليس هو
زمان الدينونة كما أخطأ الكثيرون في فهم عمل مجيئه الثاني المنتظر المحدد بردِّ كل
شيء إلى وضعه الأمثل الذي يتناسب مع خلاصه العظيم الذي صنع. فكلمة
» كل شيء «أو “الكل”
لا تتناسب إلاَّ مع استعلان عمل إيجابي محض ليس فيه عقاب أو دينونة أو توبيخ أو
مراجعة سواء لإسرائيل أو لنا. فردُّ إسرائيل سيكون له عمل من جهتهم حتماً سيُرضي
قلبه المجروح، حيث يردّون من الإيمان والحب والاعتراف والتوبة أضعاف ما قدَّموه من
جحود. أمَّا لنا فهذا كله هو عمل الزمان الحاضر الآن بالروح القدس:
» يبكِّت
العالم على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة
«(يو 8:16). أمَّا عمله لنا ولهم فسلامي مائة بالمائة، عمل استكمال
الحب لمَنْ أعوزهم الحب، وردِّ المجد لمَنْ تعرَّوا منه ظلماً وجَوْراً وتعسُّفاً،
وردِّ اعتبار من أُهينوا وتجردوا وشربوا كأس المرارة من أعدائهم، من إخوتهم
ورؤسائهم ومضطهديهم، إعداداً للنقلة الأخيرة إلى الوطن المُعدِّ.

فإن كنا نحيا الآن بين
استعلانين
parous…a، فنحن في الحقيقة لا زلنا قائمين في «يوم الرب» الذي جمع
فيه كلُّ الأنبياء في نبواتهم بين مجيئه الأول ومجيئه الثاني دون أي تفريق زمني،
بل جمعوا فيه بين الأعمال والنتائج، وبين الأتعاب والراحة، بين الامتحان بل
الامتحانات المرة والقاسية وبين المديح ولبس الأكاليل بيد الرب، كما جمعهم ملاخي
النبي
([5]) معاً:

+ » فهوذا يأتي اليوم (يوم
الرب) المتَّقد كالتنور
(الفرن) … ولكم أيها المتَّقون
اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها.

«(مل 4: 1و2)

22:3و23 «فإنَّ
مُوسَى قالَ للآباءِ إِنَّ نبيًّا مثلي سَيُقِيمُ لَكُمُ الربُّ إِلهُكُم مِنْ
إِخوَتِكُم لهُ تسمَعُونَ في كُلِّ ما يكلِّمُكُم بهِ. ويكونُ أَنَّ كُلَّ نفسٍ لا
تسمَعُ لذلك النبيِّ تُبَادُ مِنَ الشَّعْبِ».

هذا النص كما يقول
العلاَّمة ماير في شرحه لسفر الأعمال
([6]) مختلف في
بعض ألفاظه وزائد في ألفاظ أخرى عن النص السبعيني لأنه مأخوذ من النص العبري.

أمَّا النص في
السبعينية فهو كالآتي:

+ » يقيم الرب
إلهكم نبيًّا من إخوتكم
مثلي له تسمعون
حسب كل ما طلبتم من الرب إلهكم في حوريب في يوم الاجتماع، كما قلتم نحن لا نريد أن
نسمع صوت الرب إلهك ونحن لا نريد أن نرى أيضاً هذه النار العظيمة حتى لا نموت.
والرب قال لي: قد أحسنوا في كل ما قالوه لك، أنا سأقيم لهم نبيًّا من إخوتهم مثلك،
وأنا سأضع كلماتي في فمه، وهو سيكلِّمهم كما أُوصيه. وإن
أي إنسان لا
يسمع للكلام الذي سيتكلَّم به
هذا النبي باسمي سأنتقم منه. «(تث 18: 1519)

وقد تناقلت هذه النبوة
بحذافيرها في الشرح والتعليم اليهودي وأخذ بها المعلِّمون حتى إلى عصور مجيء
المسيح وقد علَّم بها فيلو اليهودي، وأخذها المسيحيون الأوائل كنبوَّة تمَّت
بحذافيرها في المسيح ونسمع صدى ذلك بقوة في إنجيل ق. يوحنا هكذا من فم الكهنة
واللاويين حينما أرسلوا يسألون المعمدان “مَنْ أنت؟”:
» فاعترف ولم
ينكر وأَقرَّ أني لست أنا المسيح (المسيَّا الذي ينتظرونه)، فسألوه إذاً ماذا
إيليا أنت (النبي الذي يسبق مجيء المسيَّا) فقال لست أنا. أَلنَّبيُّ أنت (الذي
قال عنه موسى) فأجاب لا…
«(يو
1: 19
21)

ثم وفي إنجيل ق. يوحنا
أيضاً في حديث المسيح مع السامرية، نجد أن السامريين ينتظرونه بفارغ الصبر حتى
الخطاة والنساء من الخطاة!
» قالت المرأة أنا أعلم
أن مسيَّا الذي يُقال له المسيح يأتي فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء. قال لها يسوع
أنا الذي أُكلِّمك هو
«(يو
4: 25و26). وقبل هذا التصريح ألمحت السامرية إلى كون الذي يكلِّمها نبيـًّا:
» قالت له
المرأة يا سيد أرى أنك نبي
«(يو
19:4). وأخيراً تأكدت أنه النبي وأنه هو المسيَّا:
» فتركت
المرأة جرتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس هلمُّوا انظروا إنساناً قال لي كل ما
فعلت (نبي) ألعل هذا هو المسيح؟ فخرجوا من المدينة وأتوا إليه
«(يو 4: 38و39). وأخيراً يؤكد أهل المدينة كلها أنهم أدركوا حقيقته
من كلام المسيح نفسه:
» لأننا نحن قد سمعنا
ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلِّص العالم.

«(يو 42:4)

ونأتي إلى نخبة
التلاميذ الإسرائيليين بالحق والذين لا غش فيهم كيف تعرَّفوا عليه بعد قراءة وبحث
في الناموس والأنبياء هكذا:

+
» كان أندراوس أخو سمعان
بطرس واحداً من الاثنين اللذين سمعا يوحنا (المعمدان) وتبعاه.
هذا وجد
أولاً أخاه سمعان فقال له
قد وجدنا مسيَّا الذي تفسيره المسيح. «(يو 1: 40و41)

+ » فيلبس وجد
نثنائيل وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع…
«(يو 45:1)

+ » أجاب
نثنائيل وقال: يا معلِّم أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل.

«(يو 49:1)

ثم شهادة جموع الفلاحين
الجليليين:

+ » فلما رأى
الناس الآية التي صنعها يسوع (الخمس الخبزات والسمكتين) قالوا:
إن هذا هو
بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم.

«(يو 14:6)

ثم وفي يوم التجلي
العظيم جاء الصوت المصدِّق من السماء بنفس العبارة التي سبق أن قالها الله لليهود
في سفر التثنية كما قرأنا في الآية السالفة:

+ » أي إنسان لا يسمع
للكلام الذي سيتكلَّم به هذا النبي
باسمي أنتقم منه.
«(تث 15:18)

ويجيء صوت الله من
السماء في يوم التجلِّي هكذا:

+ » وفيما هو
يقول ذلك جاءت سحابة فظللتهم فخافوا عندما دخلوا السحابة (الحضرة الإلهية) وصار
صوت من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب
له اسمعوا ولمَّا كان
الصوت وُجد
يسوع
وحده.
«(لو
9: 34
36)

ونُلاحِظ في نقل ق.
بطرس للآية أنه لم يغيِّر فيها شيئاً إلاَّ نوع النقمة للذي لا يسمع له،
فبدل «أنتقم منه» وتعني في لغة أسفار موسى أنه يموت بلا مغفرة،

خفَّف
من ثقلها على أسماع السامعين وجعلها: «تُباد من الشعب».

وبهذه المقدمة لموسى
النبي عن نبوَّة مجيء المسيَّا، يكون ق. بطرس قد افتتح تحقيق عصر النبوات التي
بدأت من موسى، ويراها أنها انتهت بالمسيَّا. لأن نبوَّة موسى واضحة غاية الوضوح أن
إقامة نبي آخر مثل موسى يكون كلام الله في فمه وله يُسمع وحده والذي لا يسمع له
يُباد. هذا يعني تماماً أن هذا النبي سيبتدئ عصراً جديداً وناموساً جديداً سيحتاج
إليه الشعب بعد أن يكون قد استنفذ الناموس الأول صلاحيته بالنسبة للشعب. وفيه
تحذير خطير أن الذي سيتمسَّك بالكلام الأول الذي لموسى ولناموسه ولا يسمع للكلام
الجديد الذي سيضعه الله في فمه ليتكلَّم به بما يحتاجونه بالفعل، فإنه سيُباد.

ويُلاحِظ القارئ أن في
النبوَّة تفريقاً واضحاً بين مَنْ سيسمع ومَنْ لا يسمع. وهنا يستميل القديس بطرس
الشعب لكي يسمع ويستجيب لهذا النبي، ولا يلقي بالاً أو يخاف من الذين يرفضون ولا
يسمعون، قاصداً بذلك الرؤساء والمسئولين عن الناموس
وموسى،
الذين يتمسكون به ولا يسمعون للمسيح المعيَّن والمختار من الله والذي يتكلَّم
بكلام الله.

كما يُلاحِظ القارئ أن
استشهاد ق. بطرس بنبوة موسى يجيء توضيحاً وشرحاً لقوله السابق عن «أزمنة ردِّ
كل شيء»
التي ستأتي على يدي هذا النبي بدل موسى، فهنا
» رد كل شيء «تعود على ما
سيفقده الشعب من وراء تعسُّر اتّباعهم للناموس الذي وضعه موسى وإساءتهم لله. فهنا
في الحقيقة كلمة
» رد كل شيء «هي هي نفسها
التي قالها المسيح:
» ما جئت لأنقض بل لأكمِّل «(مت 17:5). إذاً، فـ» رد كل شيء «هي “تكميل
كل شيء” عند المسيح، أي تكميل الناقص والفاقد وغير المعمول به، وإصلاح ما أفسده
الشعب من كلام الله وخطة خلاصه وفدائه. وكان هذا معروفاً لدى الله مُسْبقاً، وقد
سبق وأنبأ به لموسى والكلام للشعب، الأمر الذي فسَّره بولس الرسول بقوله:

+ » لأن غاية
الناموس هي المسيح.
«(رو
4:10)

+ » الناموس
مؤدِّبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا

بعد
تحت مؤدِّب.
«(غل 3: 24و25)،

+ » هوذا الكل
قد صار جديداً.
«(2كو 17:5)

+ » وأمَّا ما
عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال.
«(عب 13:8)

ولمَّا جاء المسيح
وبدأت أزمنة الخلاص، أكمل المسيح ما وعد به وارتقى بالناموس إلى الكمال المسيحي،
وبلغ الإنسان بالمسيح إلى أرقى درجات المصالحة والحب مع الله:
» لا أعود
أُسميكم عبيداً … لكني قد سميتُكم أحباء
«(يو 15:15). ولكن واضح غاية الوضوح أن هذا الذي أكمله المسيح لا يزال ناقصاً وبشدة من جهة الذين أخطأوا في
معرفة المسيح كمسيَّا الخلاص، النبي الموعود
به، وهذا أمر لا يرضى به الله
حتى ولو رضي به هذا الشعب الفاسد الذهن والقلب. لذلك يتودد ق. بطرس إليهم أن
يتوبوا لتأتي لهم أزمنة الفرج من عند الرب ولتعمَّ عليهم وعلينا، وهي لا تأتي
إلاَّ بردِّ كل شيء إلى وضعه الصحيح، سواء لهم أو لنا، لأننا نحن الأمم الذين
أخذنا الكمال المسيحي لازلنا نحتاج إلى أن نستوعب الفرح الذي فيه، وهي أزمنة الفرج
التي يتكلَّم عنها ق. بطرس، والتي نحلم بها نحن ويتوق إليها العالم الذي بلغ ذروة
المأساة
في خطاياه وعمق الحزن الذي يعانيه.

24:3 «وجميعُ
الأَنبياءِ أَيضاً مِنْ صمُوئيلَ فما بعدهُ، جميعُ الذين تكلَّموا سَبَقُوا
وأَنبأُوا بهذه الأيَّامِ».

ق. بطرس هنا بعد أن
سجَّل قول الله على فم موسى النبي
موجَّهاً مباشرة للشعب
عن النبي
الآتي مثل موسى، انتقل مباشرة إلى صموئيل باعتباره النبي الأول بعد موسى والمعروف
في التلمود باسم عظيم الأنبياء. لأنه محسوب أوَّلهم كما عبَّر عن ذلك بولس الرسول:
» وبعد ذلك في نحو أربعمائة وخمسينَ سنةً أعطاهم قضاة حتى
صموئيل النبي.
«(أع
20:13)

أمَّا نبوَّة صموئيل «عن هذه
الأيام»

فهي عندما رسم شاول ملكاً وتنبأ عن
المملكة التي ستدوم إلى الأبد. إلاَّ أن
شاول أخطأ إلى الله فانقطع منه السلسال ليلتحم في نسل داود:
» فقال صموئيل
لشاول: قد انحمقت، لم تحفظ وصية الرب الهك التي أمرك بها، لأنه الآن كان الرب
قد ثبَّت
مملكتك على إسرائيل إلى الأبد
«(1صم
13:13). فلمَّا أخطأ شاول، انتقل هذا الوعد إلى بيت داود (1صم 28:15). واضح جداً
من هذا الكلام أن صموئيل أدرك تماماً معنى نبوَّة موسى في مَلكٍ، سيقوم من نسله
ملك يملك
إلى الأبد.

وكذلك يقول بولس
الرسول: كيف انتهت كل النبوات عندما أشار الله كيف سيعطي في المسيح
» مراحم داود
الصادقة
« » ونحن
نبشِّركم بالموعد الذي صار لآبائنا، إن الله قد أكمل هذا لنا نحن أولادهم إذ أقام
يسوع كما هو مكتوب في المزمور الثاني
أنت ابني أنا اليوم
ولدتك، إنه أقامه من الأموات
غير عتيد أن يعود أيضاً إلى فساد، فهكذا قال
إني سأعطيكم مراحم داود الصادقة.
«(أع
13: 32
34)

أمَّا بقية النبوات
التي قالها الأنبياء عن
«هذه الأيام» التي يتكلَّم عنها ق.
بطرس فهي كالآتي:

إرميا النبي (31: 3134):

+ » ها أيام
تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد الذي
قطعتُه مع آبائهم يوم أمسكتُهم بيدهم لأُخرجهم من أرض مصر (عهد موسى والناموس) حين
نقضوا عهدي فرفضتُهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد
تلك الأيام، يقول الرب، أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً
وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلِّمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين اعرفوا
الرب (انتهاء عهد الكتبة والناموسيين والفريسيين والكهنة ورؤساء الكهنة) لأنهم
سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب. لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم
بعد
«

هذا الوعد وهذه
النبوَّة تكمِّلها نبوَّة يوئيل بقوله عن حلول الروح القدس على الجميع بلا
استثناء، وهو
» روح المعرفة ومخافة الرب
«بحسب إشعياء (إش 2:11).

يقول يوئيل النبي
(2:
28و29):

+ » ويكون بعد
ذلك (أيام النقمة والبغضة والسبي والخراب) أني أسكب روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم
وبناتكم (انتهاء عصر الأنبياء) ويحلم شيوخكم أحلاماً، ويرى شبابكم رؤًى (انتهاء
عهد الرائين)، وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء (انتهاء عصر العبودية والتفريق) أسكب
روحي في تلك الأيام
«

واضح من هذا الكلام أن
الكل يكون متعلِّماً من الله (يو 45:6) بحسب قول ق. يوحنا (1يو 27:2):
» وأمَّا أنتم
فالمسحة (مسحة الروح القدس في المعمودية) التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة
بكم إلى أن يعلِّمكم أحد، بل كما تُعلِّمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء وهي حق
وليست كذباً كما علَّمتكم تثبتون فيه

«

ويقول حزقيال
النبي

عن
«هذه
الأيام»

(حز 37: 26و27):

+ » وأقطع معهم
عهد سلامٍ فيكونُ معهم عهداً مؤبداً وأُقِرُّهُم وأُكثِّرهم وأجعل مقدسي في وسطهم
إلى الأبد. ويكونُ مسكني فوقهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لي شعباً
«

وهكذا تنتهي النبوات
إلى تحقيق دقيق يصفه بولس الرسول في الرسالة إلى العبرانيين:

+ » ولكنه الآن قد حصل (المسيح) على خدمة
أفضل (من الناموس) بمقدار ما هو وسيط (المسيح) أيضاً لعهد أعظم (عهد دم ربنا يسوع
المسيح أعظم من عهد دم ثيران وعجول) قد تثبَّت على مواعيد أفضل (ملكوت الله). فلو
كان ذلك الأول بلا عيب (الناموس) لما طُلب موضع لثانٍ (النعمة). لأنه يقول لهم
لائماً هوذا أيام تأتي يقول الرب حين أُكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً
جديداً لا كالعهد الذي عملتُه مع آبائهم يوم أمسكتُ بيدهم لأُخرجهم من أرض مصر.
لأنهم لم يثبتوا في عهدي وأنا أهملتُهم يقول الرب. لأن هذا هو العهد الذي أَعهدُه
مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب. أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على
قلوبهم وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. ولا يُعلِّمون كل واحد قريبه،
وكل واحد أخاه قائلاً اعرف الرب لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم. لأني
أكون صفوحاً عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد. فإذ قال جديداً عتّق
الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال.
«(عب 8: 613)

وبهذا يتضح أمام القارئ
وحدة الرأي ووحدة المعرفة ووحدة التعليم في العصر الرسولي، وكأن الجميع يستقون من
كتاب يحمل عنوان الاستشهادات من جميع الأسفار، استقوه من تعليم الرب نفسه لتلميذي
عمواس الذي ابتدأ معهم من ناموس موسى والمزامير والأنبياء. فهذا الكتاب هو تقليد
إنجيلي من فم الرب نستطيع أن نرى في صداه هنا رصانة التعليم، ودقة الاختيار، وصدق
المعنى، ووحدة الهدف للمواعيد جميعاً، كيف تركَّزت في المسيح كما قال هو عن نفسه:
» أما كان
ينبغي أن المسيح يتألَّم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء
يُفسِّر لهما الأمور المختصَّة به في جميع الكتب.

«(لو 24: 26و27).

 

الخلاصة:

أنتم أبناء
الموعد:

25:3و26 «أَنتُم
أَبناءُ الأَنبياءِ والعهدِ الذي عاهدَ به الله آباءَنا قائلاً لإبراهيم وبنسلِكَ
تتباركُ جميعُ قبائِلِ الأَرضِ. إليكُم أَولاً إذ أَقامَ الله فتاهُ يَسُوعَ
أَرسَلَهُ يُبارِكُكُم بردِّ كلِ واحدٍ منكُم عن شرورهِ».

«أنتم
أبناء الأنبياء» – “أنتم أبناء العهد”

«إليكم
أولاً إذ أقام الله فتاه يسوع»

«ليبارككم بردِّ كل
واحد منكم عن شروره»

هكذا طاف بنا ق. بطرس
وبسامعيه في كل أجواء العهد القديم وهو يتحسَّس مواضع البركات في دعوات كافة
الأنبياء من موسى وصموئيل، وكل مَنْ ظهروا بعد صموئيل حتى يوئيل وملاخي، وهم
يشيرون بإصبع النبوة الموحَّدة على هذه الأيام التي كان يعيشها الرسل مع الشعب
اليهودي في ذلك الحين. كيف حقَّق الله كل أقوالهم التي قالوها، كلٌّ في أيامه، من
وحي الله وإملائه، حتى تبلورت جميعاً في بؤرة يوم الرب العظيم الذي ظهر فيه مسيَّا
الدهور واستُعلن بالقيامة من الأموات ابناً لله. وبهذا صار الجيل الذي كان يخاطبه
ق. بطرس أبناء كل الأنبياء بالحق، وأبناء العهد الذي استُعلن بحسب الوعد بآن واحد،
أي أبناء النبوات التي تحققت في المسيَّا لأجلهم. فهم أبناء الخلاص المرسَل لهم في
ميعاده، وكأنهم على ميعاد كأول جيل تنفتح أذناه وعيناه على رضى الله بعد صَمَمٍ
وظلام وقتام دام ألفي عام.

فالآن هذا كله تحقق،
ولكنه لم يتحقق إلاَّ لمَنْ يقبله ويستقبله عن وعي وإدراك، فهذه المواعيد تحققت
اليوم لهم، وهم أول مَنْ تحققت لهم كافتتاح لأزمنة الخلاص، وكأنهم كانوا حلم
إبراهيم الدهري الذي طال زمان تحقيقه. فهم فَرْحة إبراهيم الكبرى، ورجاء إسحق
ويعقوب الذي ترجَّوه من وراء الدهور أن يرى نسلهُم منتهى وعد الله وإشراق نوره في
ملء الزمان. القديس بطرس يتكلَّم وكأنه واقف مع الأنبياء جميعاً على رُبَى الدهور
السالفة يتطلَّع معهم ليرى ولو من بعيد بصيص نور الوعد وهو يستقر على رؤوس الجيل
الموعود له، كما رفع الله موسى على جبل الفسجة وأراه أرض الميعاد من بعيد. القديس
بطرس كان يحمل في قلبه وأحشائه لهفة الأنبياء، نبيٍّ وراء نبيٍّ، من موسى حتى
ملاخي، لقدوم هذا اليوم الذي جاء في صميم ميعاده، وكأنه يتلهف معهم أن يسقيهم
ولو أمكن هذه الفرحة
عينها بمسيَّا الأنبياء والمواعيد الذي قام من الأموات لأجلهم، ليفتتح لهم زمان
الفرح والغفران والتغاضي عن المعاصي وانسكاب رضى الله
([7]).

فإن كان قد تعثَّر هذا
الجيل
الأول في قبول
بشرى الخلاص بميلاد المخلِّص وقيامته من الأموات، فعذرهم واضح، لأن عيونهم كلَّت
من التطلُّع وآذانهم انسدَّت من تنهدات وأحزان السبي من وراء السبي والسخرة
والمذلة والتشريد في كل الأرجاء، لذنوب اقترفوها عن جهل وعبادة شياطين طغت عليهم
بطغيان معلميهم ومرشديهم:
» قد هلك شعبي من عدم
المعرفة.
«(هو
6:4)

ولكن إن كان ظلماً قد بغى
عليهم الزمان وأَضلَّهم الرؤساء والشيطان،
فمجَّاناً أيضاً فتح
لهم الله باب الخلاص وذراعيه بالأحضان. فإن كان لهم في السابق عذر في البعد عن
الله، فالآن لم يعد لهم عذر والرب يدعوهم للصلح والسلام. ولسان حال ق. بطرس
كالقديس بولس:
» كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله «(2كو 20:5). فذبيحة الصلح تمَّت وأُعدَّت الوليمة، والله يدعوهم
هلمُّوا:
» إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج
«(إش 18:1)، » مجاناً بعتُم وبلا فضة
تُفكون
«(إش
3:52)!! هلموا كلوا من فصحكم الأبدي الذي لخلاص بلا ندامة، ولحياة أبدية من بعد
موت.

وهكذا ما كاد يُنهي ق.
بطرس خطابه، إلاَّ وأرجل قائد جند الهيكل ورؤساء الكهنة حوله تؤكد له أنه لا تزال
للظلمة جحافل تعشعش في أروقة الهيكل وجنباته، مستعدَّة لخدمة الضلال وإخفاء النور
عن بقية الأجيال، إلى أن يُردَّ لهم الذي قَبِلَتْه السماء إلى حين.

ولكن بالرغم من ذلك،
ومن هذه التخويفات، سنقرأ سريعاً (4:4):
» وكثيرون من
الذين سمعوا الكلمة آمنوا وصار عدد الرجال نحو خمسة آلاف!!

«كمعجزة المسيح: ما عدا
النساء والأطفال!!

هذا الخطاب التاريخي
بشقَّيه الأول والثاني يُحسب كإحدى اللآلىء النفيسة في تراث الكنيسة.



([1]) Lightfoot
cited by D. Thomas, Acts of the Apost., ad loc.

([2]) Bruce, II, p.
83.

([3]) هذه الصيغة التي
يستخدمها ق. بطرس هنا في ذكر الله هي نفس الصيغة الليتورجية المستخدمة في صلوات
الهيكل في صلوات البيراخوت الثماني عشرة، إذ تبتدئ كل بركة بالقول: «مبارك أنت
أيها الرب إلهنا وإله آبائنا إله إبراهيم
وإسحق ويعقوب».

([4]) هذه لغة إشعياء النبي
وقد استخدمت هنا كلمة «فتاه» عوض “عبدك” بحسب التعبير اليهودي: «هوذا عبدي
يعقل ويتعالى ويرتقي ويتسامى جداً (وتُقرأ في السبعينية “هوذا عبدي … سوف
يرتفع”) … لذلك أُقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل أنه سكب
للموت نفسه» (إش 13:52، 12:53). أمَّا أن الفتى أي العبد هنا هو هو الابن
فيظهر عندما يخاطبه في المزمور: «أنت ابني أنا اليوم ولدتُك.» (مز 7:2)

ويُعتبر
نداء الله من السماء على المسيح وهو في المعمودية: «أنت ابني الحبيب الذي به
سُررت» (مر 11:1). هو أقدم وأوضح شهادة أن المسيَّا الملقَّب في نبوَّة إشعياء بالعبد
هو هنا في وضح تحقيق النبوات «الابن».

([5]) Meyer,. op.
cit.,
p. 83.

([6]) Ibid., p.
113.

([7]) يؤكد العالم ماير (Meyer, op. cit., p.
86.)
أن بطرس الرسول كان في
غاية الاقتناع أن افتتاح الخلاص على يد هذا الجيل من اليهود كان هو مفتاح دخول
الأمم بعد ذلك. ولكنه كان على اعتقاد راسخ بقي معه حتى النهاية أن مجيء الأمم
وقبولهم المواعيد سيكون من داخل الموسوية. ولا يغيب عن بال القارئ  أن ق. بطرس كان
يخطب في الهيكل وغالباً في رواق سليمان حيث ظلَّ مواظباً على العبادة والصلاة في
الهيكل حتى اختفى بعد حادثة السجن.

هل تبحث عن  بدع وهرطقات بدع حديثة شفرة دافنشى مريم المجدلية وعلاقتها بالمسيح 03

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي