الإصحَاحُ السَّابعُ

 

أول خطاب للدفاع عن
المسيحية يسمعه السنهدريم واليهود بعد صلب المسيح

وهو يضع أساس الإيمان
المسيحي بحسب تعليم المسيح

 

(1:750) التاريخ
المقدَّس في مقالة!!
» فقال… «

المرحلة
الأُولى: زمن الآباء البطاركة (2:716).

المرحلة
الثانية: زمن موسى والناموس (17:743).

الفراعنة الذين عاصرهم
العبرانيون في مصر.

المرحلة
الثالثة: بين الخيمة والهيكل (44:750).

(7: 51)      الانتقال
من الدفاع إلى الهجوم.

(7: 53)     الاتهام
الأخير الذي مات به وهو على شفتيه!!

(54:760)
رجم استفانوس أول شماس بوضع اليد وأول مدافع عن الكنيسة وأول شهيد في الكنيسة.

 

الدفاع عن المسيحية

 

لم يكن في نيَّة
استفانوس على الإطلاق أن يدافع عن نفسه أو يفكر مجرد تفكير في إمكانية إقناع
السنهدريم أو استمالته لتبرئته.

لذلك وضع استفانوس في
نفسه أن يستخدم هذه الفرصة الفريدة لكي يقدِّم عرضاً منسَّقاً لكيف آل العهد
القديم بكل حوادثه العظام وآبائه وقديسيه الأماجد إلى الوضع الحتمي الذي حتَّمت به
المسيحية كما يَرَوْنَها أمام عيونهم.

لقد استخرج من رواية
العهد القديم برمَّته كل العناصر التي وُضِعَتْ في زمانها لكي تنتهي حتماً إلى ما
انتهت إليه في العبادة المسيحية كما هي أمامهم!!

لذلك يُعتبر القديس
استفانوس أبو الدفاع وواضع أُسسه عند كل الذين جاءوا من بعده ليستخلصوا حق
المسيحية في التاريخ المقدَّس ضد استمرار اليهودية.

لأن ملخص دفاع استفانوس
ينتهي إلى استحالة استمرار اليهودية بمقتضى الأُسس التي وُضِعَتْ عليها والتي
باشرها الله نفسه. وأول نتائج الدفاع التي تظهر مُجْمَلةً في خطابه تكشف في الحال
كيف حرَّفوا وزيَّفوا معظم عناصر الاتهام لكي تتناسب مع العقوبة التي وضعوها أمامهم
قبل أن يفحصوا قضيتها. ولكن من الإيجابية والاحترام الذي شهد به استفانوس سواء عن
موسى أو الآباء أو الهيكل أو الله، وضحت الاتهامات أنها مقلوبة الصورة.

ولكن لكي تظهر أمام
القارئ مدى الصعوبة التي واجهها استفانوس في الرد على الإدعاءات، يلزم أن نفرِّق
بين ما قصد أن يقوله وبين ما التقطه المتربِّصون به من أقوال ومزجوا إدعاءاتهم بين
ما هو صدق وما هو كذب. فمثلاً كذبوا حين قالوا:

+ » حينئذ دسوُّا لرجال يقولون إننا سمعناه
يتكلَّم بكلام تجديف على موسى وعلى الله.
«(أع 11:6)

هذا
كان اتهاماً كاذباً وملفَّقاً! ولكنهم قدَّموا للمجمع شهادة أخرى صادقة مائة
بالمائة وهي:

+ » لأننا
سمعناه يقول إن يسوع الناصري هذا سينقض هذا الموضع المقدَّس ويغيِّر العوائد التي
سلَّمنا إياها موسى.
«(أع
14:6)

وهكذا وقف استفانوس
ليدافع عن كذب البند الأول وصدق البند الثاني. ومعروف في المرافعات أن الاتهام
الكاذب يَسْهُل نقضه ولكن الاتهام الممزوج بالكذب والصدق معاً يصعب جداً الدفاع
ضده.

ولكن
العجيب حقاً في رؤية هذا القديس الشهيد أنه وقف وفي ضميره وقلبه وفكره بل وروحه أن
لا يدافع فقط عن صدق الأوضاع التي آلت إليها حركات التاريخ المقدَّس منذ إبراهيم
وعبر كل الآباء وموسى والأنبياء حتى استقرت في الكنيسة المسيحية كما هي، بل صمَّم
أن يتهم الذين يحاكمونه بروح مَنْ يتكلَّم باسم الله كقاضي هذه الأمة باعتباره
مندوباً فوق العادة من قِبَل الله بحكم الدم الذي سيسفك على اسمه ومن أجل أمته
كشاهد وشهيد. والقارئ ذو الأذن الروحية الحسّاسة يدرك من نبرة كلام استفانوس كيف
ينطق استفانوس بروح رئاسي وكأنه موسى يتكلَّم في التوراة! أو في الحقيقة كنبيٍّ
للعهد الجديد يراجع الأمة على تصرفاتها السابقة واللاحقة ليصب على رؤوسهم في
النهاية جريمة سفك دم المسيح. لأن مَنْ ذا يستطيع أن ينطق بهذا الاتهام في وجه
رئيس الكهنة ومعه كل مشيخة إسرائيل وعلماؤها وقضاتها:

+ » يا قساة
الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان. أنتم دائماً تقاومون الروح القدس كما كان
آباؤكم!!
«(أع 51:7)

وانتبه أيها القارئ،
فهنا يراجعهم هذا الشاهد (والشهيد) كيف ضيَّعوا على أنفسهم وأولادهم والتاريخ
اليهودي كله موهبة يوم الخمسين، أي حلول الروح القدس أقنومياً، الأمر الذي لم يحدث
على مدى تاريخ الأمة. ويتهمهم مواجهة أنهم الآن يقاومونه في أقنومه الذاتي، لأن
هذه المحاكمة هي في الحقيقة ضد الروح القدس الذي أقام الكنيسة وأقامه هو فيها ليشهد
لها ولإلهها:

+ » أي الأنبياء (الذين كانوا يتكلَّمون
بالروح القدس) لم يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البـار
(المسيح) الذي أنتم الآن صرتم مسلِّميه وقاتليه.
«(أع 52:7)

ثم عرَّج على الناموس
الذي وضعوه له في لائحة الاتهام، ليتهمهم هو بخصوصه، لا بمجرد الكلام عليه، بل
بإهانتهم له واحتقاره
» الذين أخذتم الناموس
بترتيب ملائكة ولم تحفظوه.
«(أع 53:7)

أي دفاع هذا؟ إنها
محاكمة أمَّة. أرادوا أن يحاصروه كفرد باتهام مزيَّف، فحاصرهم كأمة باتهام قاتل لا
يقوون على الإفلات منه.

ظنوا أنه قد سقط بين
أيديهم، أمَّا هو فكان يشعر أنه قد ظفر بهم، وحوَّل قضيته إلى مقاضاة علنية للأمة
كلها، وقضاتُها صيَّرهم تحت اتهام وقضاء الله. لأنه كان محمولاً على روح الله وكان
الله هو المتكلِّم في فمه! لقد ردَّ على اتهامهم ردًّا ما كان يخطر لهم على بال،
فالذي اتهموه أنه كان يتكلَّم بتجاديف على الله، كشف لهم مَنْ هو الله عنده ومَنْ
هو الله عندهم، وأسمعهم صوت الله وقضاءه قبل أن يقضوا عليه!!

والله الذي أرادوا أن
يحبسوه لأنفسهم فقط وعلى ذمّتهم داخل هيكلهم، رفعه استفانوس بعيداً عن فلسطين
برمّتها، فأول ما ظهر وأول ما تكلَّم ظهر لإبراهيم وهو بين النهرين. والناموس الذي
جعلوه مجد عبادتهم كشف أمام أعينهم كيف أنه أُعطِي للشعب وهم هائمون على وجوههم في
البرية تحت لعنة غضب الله وجثثهم ملأت سيناء، وأسْمعهم قول الله على لسان الأنبياء
أنه لا يسكن هياكل صنع الأيادي. فشعب الله هو شعبه سواء في مصر أو سيناء أو في أي
مكان، فالمكان لا يصنع شعباً ولا الهيكل يصنع إلهاً ولا الناموس أو القانون يصنع
قديساً. فخيمة الاجتماع التي كانت من جلود معزى والتي كانت تسير معهم من قفر إلى
قفر، ومن جبل إلى سهل، كان يحل الله فيها كما يشاء وعندما يشاء وليس كما كانوا
يشاءون.

وإن كانت الخيمة جاءت
إلى فلسطين، فالله لم يطلب من داود أن يبني له بيتاً، وعندما بناه سليمان قال عن
إحساس ويقين أن الله لا يسكن على الأرض:

+ » لأنه هل
يسكن الله حقاً على الأرض، هوذا السموات وسماء السموات لا تسعه فكم بالأقل هذا
البيت الذي بنيت.
«(1مل
27:8)

وكررها
لهم استفانوس على لسان إشعياء النبي:
» لكن العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي كما يقول النبي، السماءُ كرسيٌّ
لي والأرض موطئٌ لقدميَّ، أيَّ بيتٍ تبنون لي يقول الرب وأيٌّ هو مكان راحتي
«(أع
7: 48و49، إش 66: 1و2). وهكذا أوضح استفانوس أن الهيكل الذي يقدِّسونه هو في أصله
وواقعه خيمة تُطوى وتُفرد، فإن أُقيمت فيها الصلاة كما يريدها الله فهو بيته لأن
بيته «بيت الصلاة يُدعى» (مت 13:21)، وإذا توقفت الصلاة الصادقة لقوم غير
صادقين فهو ليس بيته بل بيتهم: «هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً» (مت 38:23).
فاستفانوس لم يجدِّف على الهيكل بل هم الذين جدَّفوا على الهيكل وعلى صاحب الهيكل
وقبضوا عليه فيه وحكموا عليه زوراً وقتلوه!! فكيف يبقى. فإن تنبأ استفانوس أنه سوف
يُنقض وكل ما فيه فهو تحصيل حاصل، وهو إنما فقط يعيد على مسامعهم ما قاله المسيح
لهم!

إن شموخ النظرة التي
ينظر بها القديس استفانوس للحادثة التي أحاطت به جعلته يبحث عنها في أصولها
الأُولى كيف ولماذا انتهى هذا الشعب إلى هذا الوضع الكاذب المخاتل

حيث
وقف قُضاته يحاكمون الحق بعد أن قتلوه. فابتدأ يقص على قُضاته من أين بدأت جريمتهم
وكيف وصلوا إليها، لا ليعيِّرهم بحالهم وماضيهم بل لينعي حالهم وينعي ماضيهم:

+ » يا قساة
الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائماً تقاومون الروح القدس، كما كان
آباؤكم كذلك أنتم. أيُّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا
بمجيء
البار الذي أنتم الآن صرتم مسلميه وقاتليه. «(أع 7: 51و52)

استفانوس يكشف لهم عمق
أعماق الورطة التي تورَّطوا فيها وهي ليست غريبة عليهم، فهي حلقة في مسلسل القتلة
والمضطهدين والراجمين والحاكمين بالظلم والتدليس والحقد والحسد الذي عيَّرهم به
بيلاطس!!

استفانوس الشهيد يرى
نفسه ويرى قضيته ليست غريبة عليهم ولا عليه، فهم متورطون فيها لأنهم تورطوا سابقاً
فيما هو أخطر منها. فهو غير مشغول قط بتبرئة نفسه ولكنه مشغول جداً بتسجيل جريمتهم
على جبين التاريخ كشاهد عليهم قبل أن يصير شهيداً على أيديهم!

استفانوس تسلَّق
التاريخ حتى بلغ قمته فرأى ما رأى وأعظم ما رأى رأى المسيح هو أصل التاريخ وهو
نهايته كما قال بالحرف الواحد أنا الألف والياء!! البداية والنهاية!! فهو حينما
كان يسرد التاريخ عليهم كان يتابع حركات المسيح من إبراهيم حتى انتهى به إلى
الصليب. فلمَّا قتلوه تاه عنهم تاريخهم فأصبح إبراهيم لا معنى له إلاَّ بالختان،
وموسى ليس موسى إلاَّ بالناموس، والناموس عندهم: هذا مستوجب الحكم وهذا مستوجب
الرجم.

مع أن معنى إبراهيم: هو
الإيمان بالمسيح!! وموسى:
» سيقيم لكم الرب نبياً
مثلي
«! والناموس: » مؤدبنا إلى
المسيح
«! والمسيح: هو » حجر الزاوية «في هيكله!!

على مدى حياة وقيام
مجمع السنهدريم كان يحكم بالقتل، وبغير حكم القتل لم يكن له أحكام ولا وجود ولا
لزوم. فلمَّا جاء ربُّ الحياة، حكموا عليه بالقتل، بحسب القصور الذاتي. ولمَّا
وجدوا أن الكنيسة من بعده تحكم بالحياة وليس بالموت
وتعطي الحياة، شقَّ عليهم ذلك، بالرغم من أنهم رأوا ذلك وعاينوه. وبالرغم من أنهم
لمَّا شخصوا في وجه استفانوس
» رأوا وجهه كوجه ملاك « قتلوه!

استفانوس ذكَّرهم بملاك
آخر وهو يوسف صاحب الأحلام المحبوب لأبيه، حكموا عليه بالموت أولاً فألقوه في
البئر، ثم باعوه لينتفعوا بثمنه، وركَّز على كيف أن إخوته هم الذين حكموا عليه
بالموت بالبيع لينبِّه قلوبهم غير المختونة من جهة أحكامهم الخاطئة جداً! ولكن
وبعد أن سمعوا هجموا عليه وقتلوه!

دفاع
استفانوس من وجهة نظر مسيحية:

نحن الآن في حضن
الكنيسة الفتية كنيسة الرسل التي وَجَدَت في الهيكل حضناً لها أميناً ومقرًّا.
يصلِّي الرسل فيه ومعهم كل المؤمنين من أهل الختان صلوات الباراخوت (البركات)
الثمانية عشرة في مواعيد الصلاة بحسب نظام الهيكل، يقودهم رؤساء الكهنة واللاويون!
ويشتركون في الصلوات ورفع البخور. ولا ندري هل في الذبائح أيضاً؟ وهل كانوا يأكلون
منها؟

ولكن الذي ظل قائماً
حتى لحظة القبض على بولس الرسول في الهيكل كان هكذا بالحرف الواحد:

+ » وفي الغد
دخل بولس معنا (ق. لوقا هو الذي يتكلَّم) إلى يعقوب (رئيس كنيسة أورشليم) وحضر
جميع المشايخ (اليهود المتنصرين والذين لا يزالون يمارسون مشيختهم في الهيكل) …
وقالوا له (لبولس) أنت تَرى أيها الأخ كم يوجد ربوةً (10 آلاف) من اليهود الذين
آمنوا (واعتمدوا) وهم جميعاً غيورون للناموس. وقد أُخبروا عنك أنك تعلِّم
جميع اليهود الذين بين الأمم الارتداد عن موسى قائلاً أن لا يختِنوا أولادهم ولا
يسلكوا حسب العوائد (هذه جريمة في نظر ق. يعقوب) فإذاً ماذا يكون؟ لا بد على كل حال
أن يجتمع الجمهور لأنهم سيسمعون أنك قد جِئتَ. فافعل هذا الذي نقول لك: عندنا
أربعة رجال عليهم نذر، خُذْ هؤلاء وتطهَّر معهم وأنفق عليهم ليحلقوا رؤوسهم
فيعلم الجميع أن ليس شيءٌ مما أُخبروا عنك بل تسلك أنت أيضاً حافظاً للناموس
«(أع 21: 1824)

وهذا التقرير بحسب
تاريخ الكنيسة وقع في مايو سنة 57م أي بعد قيام الكنيسة في أورشليم بسبع وعشرين
سنة!!
فانظر أيها القارئ العزيز كيف كانت الكنيسة في أورشليم غارقة في أنظمة
الهيكل وحافظة للناموس وعاملة بكل عوائد اليهود!

ومرَّة أخرى نجد القديس
الشهيد استفانوس كيف يجاهر بحتمية نقض الهيكل وتغيير العوائد التي سلَّمها موسى
لليهود:

+ » لأننا
سمعناه يقول (وهذا حق) أن يسوع الناصري هذا سينقض هذا الموضع (الهيكل) ويغيِّر
العوائد التي سلَّمنا إياها موسى.
«(أع 14:6)

إذاً، فهذا هو الفاصل
الأول الذي وضع أساسه ق. استفانوس بين كنيسة أورشليم المعروفة بكنيسة الختان وبين
كنيسة الأمم. فلا هيكل ولا ناموس ولا عوائد. وكانت هذه المناداة أول مناداة بكنيسة
المسيح التي نعيش نحن فيها الآن وفي كل مكان في العالم. هذا الدستور المسيحي
الواضح العلني سمعه شاول المدعو بولس وعليه أسَّس كل تعاليمه!

ثم انظر أيها القارئ
العزيز، ماذا سيكون أمر كنيسة المسيح لو لم يُلهم الله هذا القديس الشهيد أن يُعلن
عن أوصاف الكنيسة الحقيقية التي تقوم بدون ناموس ولا هيكل ولا موسى ولا ختان ولا
عوائد، وأنت ترى أن الكنيسة الأم الوحيدة كنيسة أورشليم كانت أسيرة الهيكل ومأسورة
تحت نفس الناموس بكل أصوله وصلواته، كما رأينا توًّا في تدبير خطة لإخفاء بولس حتى
يظهر أنه يعمل بالناموس ويصلِّي ويتطهَّر في الهيكل وهذا معناه أن
المسيحية كانت ستبقى ليس أكثر من شيعة يهودية تؤمن بالمسيح يسوع الذي مات وقام من
الأموات ويكون مآلها إلى الهزال ثم الزوال.

ومن هذا نستطيع أن
نقيِّم الدور الذي قام به القديس الشهيد استفانوس وإعلانه أُسس الإيمان المسيحي في
خطابه التاريخي الذي استلمه بولس الرسول وأسَّس به كنيسة الأمم.

والإنسان يكاد يحس أن
يسوع المسيح اختار هذا الإنسان الملائكي في آخر وأخطر وقت ليصحِّح مسيرة الكنيسة
في العالم وليكمِّل به رسالته ويؤسِّس أساس كنيسته التي سيسلمها لخلفِهِ شاول
ليحمل اسمه للشعب وإلى أمم وملوك الأرض.

وكان يتحتَّم على
الكنيسة، وبعد أن راءَى بطرس وحجز نفسه عن أن يأكل مع الأمم المتنصّرين لئلاَّ
يتنجَّس، أن تبحث لها عن رسول لينقذها من ورطة الهيكل والناموس والعوائد
والتقاليد. رسول أصلاً له مجد أهل الختان ونور قلب المسيح. وكان هذا مكتوباً في
سفر تذكرة أمام المسيح فسبق وأعدَّ لها استفانوس ليعدَّ لبولس أُسس الكرازة
بالإنجيل بلا مانع.

 

ما وراء
مساءلة رئيس الكهنة

وما وراء
ردود استفانوس

 

حينما سأل قيافا رئيس
الكهنة والسنهدريم الذي حاكم المسيح عن نفس التهمة التي

لفَّقوها
بشهود زور، تهمة نقض الهيكل لم يستطيعوا
» لأن كثيرين
شهدوا عليه (على المسيح) زوراً ولم تتفق شهادتهم. ثم قام قومٌ وشهدوا عليه زوراً
قائلين: نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلاثة أيامٍ
أبني آخر غير مصنوع بأيادٍ. ولا بهذا كانت شهادتهم تتفق. فقام رئيس الكهنة في
الوسطِ وسأل يسوع قائلاً أما تجيب بشيءٍ، ماذا يشهد به هؤلاء عليك؟ أمَّا هو فكان
ساكتاً ولم يُجب بشيءٍ!
«(مر 14: 5660)

وما لم يفوزوا به من
جواب على هذا السؤال من فم المسيح، أرادوا أن يفوزوا به من فم شهيده استفانوس
ليكون له أثر رجعي ليطال المسيح أيضاً فيعلنوا أمام الشعب أن ما عملوه بالمسيح كان
صحيحاً وواجباً وأن قتلهم لاستفانوس هو عن صحة ووجوب أيضاً دون أن يهيج الشعب.
ولكن ارتدَّ الحجر عليهم وسحقهم
» ومَنْ سقط هو (الحجر أي
المسيح) عليه يسحقه.
«(مت
44:21)

ويُلاحَظ أنه حينما
ألقى نفس رئيس الكهنة هذا السؤال على المسيح صمت المسيح ولم يرد، لا لأنه تحاشى
الرد ولكن كان من عادة المسيح أن لا يرد على أي سؤال إلاَّ بسؤال، ولأن الاتهام
نصفه صادق ونصفه مزيَّف ومحرَّف. فنصفه الأول لم يقل إني أنقض بل انقضوا أنتم، لأن
المسيح لم يأتِ لينقض بل ليبني ويكمِّل، ولأن الحقيقة أنه كان يقول عن هيكل جسده
وهكذا كان لم يبق على تحقيق نقضهم له بالصلب فعلاً إلاَّ ساعات قليلة، فتحقَّق
قوله.

ولكن حينما طرح رئيس
الكهنة السؤال على استفانوس تماشى مع أفكارهم كونهم يظنون أن الكلام على هيكل
أورشليم، ولكي يجيب على ذلك كان يلزم أن يشرح أولاً لهم عدم قيمة هذا الهيكل كمسكن
لله كما كانوا يعتقدون، أمَّا هدمه فقد قال به المسيح فعلاً في موضع آخر إذ قال
إنه لا يبقى فيه حجر على حجر.

وما قاله المسيح عن نقض
الهيكل وتسوية حجارته بالأرض، عاد استفانوس وبيَّن فلسفته من النبوات ومن فم
سليمان نفسه الذي بناه مبيناً أن هذا يحتمه تغيير العبادة من أساسها، فالله طلب
الساجدين له بالروح والحق. والذبيحة لله هي الروح المنسحق كما قال داود النبي،
والذبائح والمحرقات لا يسرّ بها الله ولكنه هيأ لابنه جسداً. أمَّا الروح القدس
فلا يقيم في هياكل حجارة بل في هيكل الإنسان المكرَّس لله. كل هذا بلغ إليه
المدافعون عن الكنيسة والعبادة المسيحية لمَّا سمعوا استفانوس يضع بدفاعه أساسها
من واقع تسلسل تاريخها وأقوال الأنبياء.

فهدم الهيكل مربوط بتغير
العبادة الهيكلية وانتهاء أو تكميل زمن الناموس وهدفه. فالهيكل والعبادة والناموس
وموسى وكل العوائد المنبثقة من الماضي هي وحدة واحدة بلغت نهايتها وكمال زمانها
ومعناها وفائدتها بمجيء المسيح ليقبل الإنسان عبادة جديدة بالروح وليس بالحرف أو
المادة وفي كلمة واحدة كاملة شاملة ارتبطت العبادة الجديدة بملكوت السموات أو
ملكوت الله، فكل ما لا يليق أو لا يتمشَّى مع طبيعة الله والسماء لا يليق بالعبادة
أو الإنسان الجديد. كل هذا المعنى مكدَّس في قول استفانوس:
» العلي لا
يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي كما يقول النبي السماء كرسيٌّ لي والأرض موطئٌ
لقدميَّ، أيَّ بيتٍ تبنون لي يقول الرب وأيٌّ هو مكان راحتي؟
«(أع 8: 48و49) وحيث الله تكون العبادة، فلا عبادة في هياكل حجرية،
فالله روح والعبادة لله يلزم أن تكون بالروح، والعبادة بالروح لا تنحصر في قوانين
جسدية أو أطعمة أو ذبائح أو أعمال يعملها الإنسان بالجسد. إذاً فلا ناموس ولا
ذبائح ولا عوائد، ففي هذه كلها “لا يستريح الله”
» أيٌّ هو
مكان راحتي
« فالله يستريح فقط
في هيكل الإنسان حينما يتقدَّس بالروح في القلب الوديع المتواضع وفي الضمير غير
المثقل بالخطايا والفكر المنشغل بالله وحده.

وطبعاً هذا المعيار
اللاهوتي أول ما ظهر ظهر بالتجسُّد حيث حلَّ ملء اللاهوت جسدياً … ثم أول ما
استعلن في أعلى وضعه المنظور وغير المنظور بالقيامة من الأموات حيث قام “هيكل
الإنسان” مقدساً تقديساً مطلقاً فيه ليس ملء اللاهوت جسدياً وحسب بل ملء رضى الله
ومسرته وراحته وأبوته! لذلك أصبح إيماننا بالقيامة من الأموات يهبنا حالة قيامة
لملء تبريرنا
» الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا. «(رو 25:4)

ويُلاحِظ القارئ أن كل
هذه التعبيرات العالية استعلنها الأنبياء بالروح وقالوها بالحرف الواحد لأنها هي
حقيقة الله وطبيعته. ولكن كان هذا القديس الشهيد أول مَنْ جمعها وقدَّمها كإيمان
يعيش به ويموت عليه.

علماً بأن الهيكل غير
المصنوع بالأيادي الذي قال عنه الرب عوض هيكل أورشليم وعوض هيكل الإنسان العتيق
المتعاهد مع هيكل الحجارة، كان هو جسد المسيح القائم من الأموات. هذا هو الهيكل

غير
المصنوع بالأيادي الذي قال به بولس الرسول:
» إنكم هيكل
الله وروح الله يسكن فيكم
«(1كو 16:3) باعتبارهم يؤمنون بالقيامة التي أخذوها في أجسادهم
وأرواحهم وصاروا بها هياكل الله الجديدة التي يرتاح فعلاً فيها لأنها به قائمة
تحيا وتمجِّد.

 

التاريخ المقدَّس في
مقالة!!

«فقال …»

[1:750]

 

إن التجاء استفانوس إلى
التاريخ ليسرده بالتتابع لم يكن ليظهر درايته بتاريخ أمته ولو أن ذلك
يجيء عفوياً ولا ليدافع به أو من خلاله عن نفسه. ولكنه يجيء بقصد
إلهي ونبوي معاً، ليواجه الحكام بمدى خروجهم عن طاعة الله منذ البدء وإساءَتِهم
لأعماله ووصاياه كميراث عصيان وزيغان ورثوه عن آبائهم. وما هذه المحاكمة في واقعها
إلاَّ نتيجة حتمية لعمى بصائرهم وتخبطهم في التعرُّف على الحق وطاعته والحكم
بمقتضاه. لأن قتلهم للمسيح الذي سبق الله وأعلن عنه بفم جميع أنبيائه وأولهم موسى
الذي تنبأ عن مجيئه وأنه سيكلِّمهم بكلام الله أو سيتكلَّم الله به، كان نتيجة
حتمية لإهمالهم وصايا الله وبعدهم عنه بالقلب والفكر والعمل … وبالتالي فإن
كانوا قد عقدوا هذا الاجتماع لمحاكمته وتبيَّتت النيَّة لقتله، فهو تكميل لمسلسل
قتل الأنبياء والمسيح ونتيجة حتمية لاستمرار مقاومتهم لأعمال الله وتدبيره.

ويمكن تقسيم السرد
التاريخي الذي قدَّمه استفانوس إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأُولى: زمن الآباء
البطاركة (7: 216).

المرحلة الثانية: زمن موسى
والناموس (7: 1743).

المرحلة الثالثة: بين الخيمة
والهيكل (7: 4450).

وعلى العموم فيما يختص
بالأمانة والدقة التاريخية، ففي اعتبار العلاَّمة الألماني ماير أنه بالنسبة
لإنسان يرتجل شفاهاً سرد هذا الكم من التاريخ بحوادثه يُعتبر على جانب كبير من
الصواب وربما الدقة أيضاً. كذلك فيما يختص الأصالة من جهة: هل ق. لوقا ينقل ما خرج
من فم القديس استفانوس؟ فإن هذا العلاَّمة المدقق وغيره أيضاً من العلماء المدققين
يشهدون بعد دراسة وفحص أن أمانة النقل تجيء في الدرجة الأُولى، ويعتقد العلاَّمة
ماير أن الكلمات المدونة خرجت بالفعل من فم القديس بحسب تقديره([1]).

المرحلة
الأُولى: زمن الآباء البطاركة (7: 2
16):

1:7و2 «فقَالَ رئيسُ
الكهنةِ أَتُرَى هذهِ الأمورُ هكذا هي؟

فقَالَ: أيُّها
الرِجالُ الإخوةُ والآباءُ اسمعوا:

ظهرَ إلهُ المجدِ
لأبينا إبراهيمَ وهو في ما بينَ النهرينِ قبلما سكنَ في حارانَ».

«أيها
الرِجال الإخوة والآباء اسمعوا»:

القديس استفانوس يخطب
في السنهدريم من مستوى الرأس بالرأس. فكل رجال السنهدريم لا يزيدون عن كونهم
» إخوة «مع أنهم
كلهم رؤساء الشعب، وبطرس الرسول لمَّا خاطبهم خاطبهم قائلاً:
» يا رؤساء
الشعب وشيوخ إسرائيل
«(أع
8:4). أمَّا رؤساء الكهنة فلقَّبهم بغير لقبهم الديني متحاشياً النطق بكهنوتهم
كونهم لا يزيدون عن مركز الآباء الذين يستمدُّون منهم وجودهم بالوراثة وليس من
الله بالاختيار.

وفي قوله » اسمعوا ¢koÚsate «وترجمتها “اسمعوا أنتم” صيغة آمرة وكأنه يتلو
عليهم قولاً من الله. هذا يوضِّح مدى
الشجاعة
الأدبية الذاتية وقوة الشخصية المتفوقة لاستفانوس
الذي يزيده
الموقف إحساساً بالمسئولية التاريخية ليلقِّن هؤلاء القوم درساً من نفحات النعمة
في العهد الجديد باحترام الحرية الشخصية وسمو البشرية الجديدة فوق العتيقة.

«ظهر إله
المجد»:
Ð QeÕj tÁj dÒxhj

هذا أروع وصف لله، قال
به داود النبي في المزمور (29:3، حسب السبعينية)
» إله المجد
أرعد
« والرعد هو الصوت المسموع
من أثر البرق، فهو تعبير عن قوة النور أو تعبير عن استعلان النور أو المجد.
ويُلاحَظ أن المسيح وصف نفسه بالبرق:
» لأنه كما أن البرق يخرج
من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان.
«(مت 27:24)

فهنا تعبير ق. استفانوس
عن الله
«بإله
المجد»

مستعيراً هذه الصفة من هذا المزمور ثم يقارنها بفعل الظهور
êfqh يكون قد عبَّر عن استعلان مجد الله لإبراهيم، ويكون بذلك قدَّم
المجد لله، والتكريم لإبراهيم بآن واحد. وهنا دحض غير مقصود للاتهام بأنه يجدِّف
على الله.

أمَّا القصد من ذكر
ظهوره لإبراهيم وهو لا يزال بين النهرين فهذا إمعان في تقرير عدم التزام الله
بالظهور في أماكن يخصصها الإنسان لله ولا في بلاد بعينها، والقصد أن لا أورشليم
ولا الهيكل يحددان ظهور الله أو وجوده أو عبادته.

3:7 «وقالَ لهُ
اخرُج مِنْ أَرضِكَ ومِنْ عشِيرَتِكَ وهلُمَّ إلى الأَرضِ التي أُرِيكَ».

لقد ارتبك العلماء في
هذا النص، إذ اعتبروا أن الله ظهر له في حاران بعد أن عبرت العائلة كلها من أور
إلى حاران. ولكن الصحيح هو أن الله ظهر لإبراهيم فعلاً قبل ما يسكن في حاران هو
وعائلته، ظهر له في أور الكلدانيين ما بين النهرين في الجنوب، ودليلنا على ذلك ما
قاله الرب لأبرآم عندما وعده بميلاد إسحق:
» وقال له أنا
الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليُعطيك هذه الأرض لترثها
«(تك 7:15). كذلك ما جاء في سفر نحميا وذلك في منتهى الوضوح: » أنت هو الرب
الإله الذي اخترت أبرآم وأخرجته من أور الكلدانيين وجعلت اسمه إبراهيم.
«(نح 7:9)

ويتفق مع ق. استفانوس
كلٌّ من فيلو الفيلسوف اليهودي ويوسيفوس المؤرِّخ اليهودي أيضاً([2]).
وتبدو القصة لنا واضحة، أن الله ظهر لأبرآم أولاً في أور فأطاع ولمَّا عزم أبرآم
على الانطلاق من أور لم يحتمل أبوه تارح أن يبقى بدونه فأخذ العائلة كلها وانطلق
أبرآم مع زوجته ولوط صوب كنعان. وهذا يتضح من النص في سفر التكوين:

+ » وأخذ تارح
أبرآم ابنه (بناء على الرؤيا) ولوط ابن هاران (بسبب موت أبيه) ابن ابنه وساراي
كنته امرأة أبرآم ابنه، فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان
(بحسب أمر الرب) فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك.
«(تك 11: 31و32)

فقوله هنا أرض كنعان
يكون هذا استجابة للرؤيا التي رآها أبرآم. فإذا أخذنا بهذا النص نجد أن تارح أبا
أبرآم يتحتَّم أن يكون سنُّه 145 عاماً لمَّا مات، مع أن النص في التوراة (تك
32:11) يقول:
» وكانت أيام تارح مئتين وخمسَ سنين « لأن أبرآم » ابن خمسٍ وسبعين سنة
لمَّا خرج من حاران
«(تك
4:12) وأبوه تارح كان أكبر منه بسبعين سنة
» وعاش تارح
سبعين سنة وولد أبرآم وناحور وهاران
«(تك 26:11). من هنا يتحتم بحسب النص في التوراة العبرية أن يكون
تارح قد مات بعد مغادرة أبرآم حاران بستين سنة وهذا خطأ بحسب نص الكتاب المقدَّس
نفسه إذ يقول أن أبرآم ترك حاران بعد موت أبيه تارح (أع 4:7)، لذلك تكون توراة
السامريين هي الأصح إذ جعلت عمر تارح 145 سنة وليس مئتين وخمس سنين([3]).

أمَّا فيما يختص بقول
الله لأبرآم:
» أخرج من أرضك ومن عشيرتك وهَلُمَّ إلى الأرض التي أريك «فهذه أول وصية لأول خطوة يتقبلها الإنسان ليتبع الله في تدبير خطة الخلاص
العظمى!

التي ابتدأت بطاعة إبراهيم الفائقة الوصف
وانتهت بطاعة المسيح الفائقة القدر لقبول الموت لفداء الخطاة.

ق. استفانوس هنا
عَيْنَاهُ على طاعة إبراهيم، لأن قلبه متَّجه ناحية عدم طاعة إسرائيل التي يمثلها
هذا المجلس برؤسائه:
» أنتم دائماً تقاومون الروح القدس!! «(أع 51:7)

4:7 «فخرجَ
حينئذٍ مِنْ أرضِ الكلدانيِّينَ وسكنَ في حَارَان، ومن هناكَ نَقَلَهُ بعدما ماتَ
أَبُوهُ إلى هذهِ الأَرضِ التي أنتُم الآنَ ساكنُونَ فيها».

واضحةٌ الدقة الشديدة
في سرد الحوادث بعد ضغطها واختصارها لتعطي الانطباع نحو أمرين: اعتناء الله الشديد
بمتابعة بدء تحرُّك خطة الخلاص على مستوى إبراهيم، وطاعة إبراهيم المذعنة دون طلب
التوضيح أو معرفة قصد الله. فكان إبراهيم كآلة طيِّعة تحت يد الله أدخلها جميع
الاختبارات العنيفة فخرجت جديرة باختيارها أن تكون وتوصف بـ«أب الإيمان» و«خليل
الله».

ويُلاحَظ هنا قول
استفانوس لمخاطبيه
» الأرض التي أنتم ساكنون فيها «دون إشارة
إلى الامتلاك، لأن الذي يملك هو الوريث ولكنهم نُحّوا عن الميراث لمَّا قتلوا ابن
صاحب الكرم الوريث الحقيقي والوحيد. وأمَّا الساكن فهو عُرضة للطرد، عندما يشتد
عود أبناء الوريث الحقيقيين.

5:7 «ولم يُعطِهِ
فيها ميراثاً ولا وطأَةَ قدمٍ ولكن وعَدَ أن يُعطيها مُلكاً لهُ ولنسلِهِ مِنْ
بعدهِ ولم يكُن له بعد وَلَدٌ».

واضح هنا أن الامتلاك
للوراثة يتعلَّق بالأساس على «وعد» والوعد ينصبّ على
» ابن « والابن يُعطى أيضاً حسب » الوعد « هنا وعد ميراث ووعد نسل وكل منهما يعتمد على الآخر. والوعد رأيناه
يتوقف على أن يجوز الاختبار وقد جازه إبراهيم مرتين، مرَّة للميراث
» بالإيمان
بالله
«ومرَّة لثبات النسل بتقديم » النسل محرقة
لله
«

واضح أن عين ق.
استفانوس واقعة على عدم إعطاء الأرض ميراثاً جزافاً بل بوعد يتم بشروط، وعدم
الالتزام بميراث النسل جزافاً بل بوعد يتم بشروط، وللحصول على تتميم الوعد يتحتم
دخول الاختبار ثم النجاح في الاختبار. وعلى القارئ أن يتأكد من ذلك في قول القديس
استفانوس:
» وعد أن يعطيها مُلْكاً له، ولنسله « أمَّا هو أي إبراهيم فملكها بالفعل حسب
الوعد
» بالإيمان « وأمَّا إعطاء المِلْك للنسل، فواضح أن الله أدخل إبراهيم في
اختبار معرِّضاً نسله للهلاك إذا لم ينجح النسل في الاختبار
وذلك حينما أمره أن يقدم إسحق مُحرقةً له، فقدَّمه. ونال نسل إبراهيم الميراث،
بإيمان إبراهيم، وطاعة الولد!!

أمَّا القصد البعيد من
هذا، فإن النسل سيبقى دائماً تحت الاختبار ليبقى وريثاً أو صالحاً للميراث:

+ » إن شئتم
وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلَّم.
«(إش 20:1)

+ » والأرض لا
تباع بتّة لأن لي الأرض وأنتم غرباء ونزلاء عندي.
«(لا 23:25)

+ » وإن سمعت
سمعاً لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم، يجعلك
الرب إلهك مستعلياً على جميع قبائل الأرض وتأتي عليك جميع هذه البركات
وتدركك إذا
سمعت لصوت الرب إلهك.
«(تث
28: 1و2)

+ » ولكن إن
لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها
اليوم تأتي عليك جميع اللعنات وتُدركك ….
«(تث 15:28)

+ «ويجعلك الرب
منهزماً أمام أعدائك … وتكون قلقاً في جميع ممالك الأرض.»
(25:28)

+ » ومتى أتت
عليك كل هذه الأمور البركة واللعنة اللتان جعلتهما قدَّامك فإن ردَدْتَ (هذا) في
قلبك (وأنت) بين جميع الأمم الذين طردَكَ الرب إلهُك إليهم ورجعت إلى الرب إلهك
وسمعت لصوته حسب كل ما أنا أوصيك به اليوم أنت وبنوك بكل قلبك وبكل نفسك …
يختِّن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نسلك لتحيا.
«(تث 30: 1و2و6)

وهنا عين استفانوس
مسلَّطة على أن الوعد بالميراث للنسل رهن العمل بشروط الوعد. وسيزيدها تأكيداً بعد
ذلك أن شرط الاستيطان في الميراث هو العبور على الغربة وتحمُّل الإساءة. والتأكيد
على الاثنين هو ختانة القلب، بمعنى محبة الله من كل القلب والنفس.

6:7 «وتكلَّمَ
اللهُ هكذا أَن يكونَ نسلُهُ مُتغرِّباً في أرضٍ غريبةٍ فيستعبِدُوهُ ويُسِيئُوا
إليهِ أَربَعَ مئَةِ سَنَةٍ».

أمَّا شرط الاستيطان
فهو تحمُّل الغربة واحتمال الإساءة وصلاحية الاستيطان كما جاءت في (تث 25:28) هي «ختانة
القلب» التي عيَّر بها ق. استفانوس السنهدريم
أنهم غير مختونين بالقلوب.
باعتبارهم أنهم أصبحوا ليسوا أهلاً للاستيطان ولا لميراث الأرض التي
» يسكنون فيها «وهم بذلك
أصبح طردهم وشيكاً.

(نحن الآن في سنة 33
وفي سنة 70م تبددوا بالفعل على وجه الأرض)

«أربع مائة
سنة»:

تختلف الآراء،

فرأي الربيين أن هذا
الرقم صحيح لأن الزمن من ميلاد إسحق حتى بدء الخروج([4])
هو 400 سنة. ولكن بحسب المسجل في التوراة (خر 4:12 حسب السبعينية) هي 430
منذ الوعد الذي أعطاه الله لإبراهيم حتى الخروج:
» وأمَّا
إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مئة وثلثين سنة
« ولكن تحديد مدة الاستعباد والإساءة حددتها التوراة أيضاً بأربعمئة
سنة فقط هكذا:
» فقال لأبرآم اعلم يقيناً أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست
لهم ويستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة
«(تك 13:15) فإذاً كانت إقامة بني إسرائيل في مصر بحسب التوراة هي
430 سنة ومدة استعبادهم والإساءة إليهم 400 سنة.

وفي تحديد آخر إنما
يقوم بحساب الأجيال يقول:
» وأمَّا أنت (أبرآم)
فتمضي إلى آبائك بسلام وتُدفن بشيبة صالحة وفي الجيل الرابع يرجعون إلى
ههنا …
«(تك 15: 15و16)

7:7 «والأُمَّةِ
التي يُستعبَدُونَ لها سأُدِينُها أنا يقُولُ الله، وبعدَ ذلك يخرجُونَ
ويعبدُونَني في هذا المكانِ».

واضح أن الإشارة هنا
إلى العشر ضربات الآتية على مصر وموت فرعون غرقاً في البحر الأحمر مع جيشه وفرسانه
وعجلاته. لأن الإشارة إلى الدينونة هنا يأتي بعدها مباشرة القول
» وبعد ذلك «يخرجون.
بمعنى أن خروجهم سيكون بعد أن تستوفي مصر دينونتها إزاء سوء استعباد بني إسرائيل([5]).

«يخرجون
ويعبدونني في هذا المكان»:

أردفها مباشرة بقوله: » ويعبدونني
في هذا المكان
« والإشارة هنا إلى
أرض كنعان حيث كان الله يكلِّم إبراهيم.

كانت هذه هي حكمة الله
في تهذيب هذا النسل لكي يؤهَّل في النهاية إلى هذه الغاية العظمى حقاً:
» يعبدونني في
هذا المكان
« فلو عدَّدنا
المنافع التي حصل عليها بنو إسرائيل في نزولهم إلى مصر وإقامتهم هناك، الإقامة
الأُولى المكرَّمة أيام يوسف السيد النبيل العظيم المحبوب ثم أيام الاستعباد، فهي
لا تعد ولا تُحصى، فقد عاشوا أربعة أجيال في وسط أعلى حضارات العالم آنذاك بل
وربما لا تدانيها حضارة اليوم، وقد اشتركوا فيها أيام يوسف وموسى اشتراكاً كاملاً،
فكان يوسف الثاني بعد الملك، وموسى محسوباً من ضمن العائلة الفرعونية، ابن ابنة
فرعون!! وهكذا درسوا العلوم والآداب والحِكَم والاقتصاد والطب والفلك والهندسة
واللغة والكتابة وصناعة ورق البردي والاختراعات وكل أسرار الدولة حتى أعماقها وكل
حكمة الحكماء. لأن يوسف كان متزوجاً ابنة كبير الكهنة([6])
صاحب أنسيكلوبيديا أسرار الموت والحياة الفوقانية وعودة الروح والحياة الأخرى
والدينونة أي محاسبة الأرواح.

ولكن اليهود هم آخر جنس
بشري يعترف بفضل الآخرين عليهم. والمعروف أنهم لمَّا خرجوا من مصر أخذوا معهم
(اللفيف)([7])
أي الدخلاء، أي المصريين الذين تهوَّدوا ومعهم ميراثهم وتراثهم في كل مناحي
الحياة.

8:7 «وأَعطاهُ عَهْدَ الختانِ وهكذا وَلَدَ إسحقَ وختَّنَهُ في
اليومِ الثامنِ وإِسحقُ وَلَدَ يعقُوبَ ويعقُوبَ وَلَدَ رؤساءَ الآباءِ الاثنَي
عَشَرَ».

واضح أن الله لم يُعطِ
إبراهيم أي عهد للحفظ أو أي وصية للعمل بمقتضاها أو أي تحذيرات يحذر منها ويحذِّر
نسله أيضاً سوى
» الختان «في لحم غرلته.

وهكذا يطوح استفانوس
بالناموس إلى ما بعد الختان بأكثر من 430 سنة، ولم يجعل مع الختان في اللحم أي
توعية أخرى، “فالسبت” لم يكن قد ظهر بعد، فكانت الأيام كلها سواء عند كل رؤساء
الأسباط وكل بنيهم معهم كل سنى حياتهم في كنعان ومصر. وهذا يعني لنا الشيء الكثير
ولكن أعظم ما يعني فإنه يعني أن علاقة الله بإبراهيم وإسحق ويعقوب وأولادهم مدى
حياتهم كانت أعلى في نظر الله ونظر هؤلاء القديسين من السبت وقوانين العبادة بكل
ألوانها وطقوسها:
» إذ حيث ليس ناموس ليس أيضاً تعدّ «(رو 15:4). لذلك حسبوا قديسين وأبراراً ومحبوبين ومكرمين جداً عند
الله. ويكفي أن دعى الله نفسه بإله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، شرف ما بعده
شرف. ولمَّا ماتوا ظل الله يتسمَّى بأسمائهم لأنهم كانوا عند الله أحياء
يُسَبِّحون!! فلا هم عبدوا الله في خيمة ولا في هيكل ولا حُسب عندهم الهيكل شيئاً
يُذكر.

«عهد
الختان»
diaq»khn peritomÁj

هو عهد علاقة حيَّة بين
الله والإنسان أقامه الله مع إبراهيم حينما كان سنَّه 99 سنة على أساس أن يعيش
الإنسان أمام الله بالكمال. والكمال هنا كان يستوحيه الإنسان من الله رأساً:

+ » ولمَّا كان
أبرآم ابن تسعة وتسعين سنة ظهر الرب لأبرآم وقال له: أنا الله القدير (شدَّاي) سر
أمامي وكُن كاملاً. فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيراً جداً … وقال الله
لإبراهيم وأمَّا أنت
فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في
أجيالهم هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختَّن منكم كل
ذكر. فتُختَنون في لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم.

«(تك 17: 111)

وهنا واضح منتهى الوضوح
في قول الله لإبراهيم «وأمَّا أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك». فهنا لا
توجد أي وصية تُحفَظ سوى وصية الختان، “لذلك سُمِّي بعهد الختان” باعتباره
الوصية الوحيدة والأساسية فيه. فالختان “علامة عهد” بين الإنسان والله.
وكما قال بولس الرسول: حيث لا ناموس ولا وصية لا تكون خطية فاعتُبروا جميعاً
قديسين بالختان حيث الختان علامة إيمان بالله وحسب!

وكما قالها ق. بولس
الرسول يكاد يقولها استفانوس: أين الافتخار إذاً، أبالناموس وأعمال الناموس؟
أبالسبت وحفظ السبت؟ أبالهيكل والعبادة في الهيكل؟ بل أين التوراة بجملتها وأين
الأنبياء وأين الكتبة والفريسيون؟

«اليوم
الثامن»:

» ابن ثمانية
أيام يُخْـتَن منكم كل ذكر في أجيالكم
«(تك 12:17) واليوم الثامن عندنا الآن هو “رمز القيامة”
حيث يكون قد انتهى الزمن الأرضي باليوم السابع حيث بعد السابع ليس زمن في عُرف أهل
الزمن. فإن كانت الختانة عهد إيمان بعلامة في اللحم، فالقيامة هي عهد القيامة

بالروح.
والأُولى حسبت بلا خطية والثانية بالأَوْلَى؛ فكانت الأُولى رمزاً محكماً للثانية،
حيث سقط الناموس من الوسط وسقطت الخطية بأحكام الموت جميعاً. فكأن إبراهيم
قَبِلَ القيامة بعلامة في الجسد برمز اليوم الثامن إلى أن يقبلها بالروح بقيامة
الأجساد في انتهاء الزمن.

«رؤساء
الآباء الاثنى عشر»:
dèdeka patri£rcaj

هنا تنصبُّ هذه التسمية
على رؤساء الأسباط الاثني عشر الذين أخذوا هذا الاسم تذكاراً أبدياً، نقرأه في سفر
الرؤيا وكأن التاريخ المقدَّس يبتدئ بالاثني عشر وينتهي به، في الأول مشخّصاً
برؤساء الأسباط وبالنهاية في الرسل. فكما كان الأوائل هم حجر الأساس لعهد الختان،
صار الرسل حجر الأساس لعهد
الإيمان في
كنيسة الله التي لها الأساسات الاثنا عشر.

ولكن في العهد الجديد
ولغة الكنيسة والآباء تنصبُّ كلمة: “
البطاركة الأوائل” على الثلاثة
رؤوس المتوَّجين بنعمة الاختيار والمجد: إبراهيم وإسحق ويعقوب أصحاب الأحضان
الأبوية التي ستجمع بني الإيمان في القديم والجديد تمهيداً لتسليمها للحضن الأعظم.

9:7 «ورؤساءُ
الآباءِ حَسَدُوا يُوسُفَ وباعوهُ إلى مِصرَ وكانَ اللهُ معهُ».

هنا الخطية بدأت ترفع
ذنبها “الحسد”. الإنسان الأَول “مات بحسد إبليس” والموت دخل إلى العالم.
يوسف رجل الأحلام المضيئة من أجل الأحلام حسده إخوته وباعوه، ومن أجل
الأحلام تلقَّاه فرعون بالكرامة ورفعه إلى مستوى مقامه لأن الله كان معه. قالها
استفانوس وهو في نفس الموقف، فها هم الرؤساء والآباء لا يجمعهم إلاَّ “الحسد” ولكن
ذلك كان من أجل أحلام، أمَّا هذا فمن أجل حياة شعب وأُمة وعالم وكرازة، إمَّا

لحياة
أبدية وإمَّا لدينونة رهيبة، ولكن التفاهة البشرية واحدة والله بالمرصاد.

فالذين سلَّموا المسيح
للموت هم حفدة الذين باعوا أخاهم للعبودية، والحسد كان هو المحرك للموت وللبيع
سواء بسواء. ومن هذا صنع الله قيامة وخلاصاً، ومن ذاك صنع الله إنقاذاً وحياة.
ولكن الذي يُدهشنا هو أن يوسف الذي باعوه عاد فاستحياهم من جوع وموت، ولكن العمى
هنا بلغ مداه لأن الذي جاء ليحييهم من الموت قتلوه! وكأنَّ الكلمة تقول على لسان
استفانوس: الله أرسلني لأعطيكم هبة للخلاص والحياة فاقبلوا الحياة، لتحيوا ولا
تحكموا بالموت لئلاَّ تموتوا.

ولكن هيهات فقد أقسموا
وتعاهدوا أن يحكموا بالموت على أنفسهم وعلى أمتهم.

فقد تمت فيهم كلمة موسى
النبي التي أخذها عنه إشعياء والأناجيل:
» ولكن لم
يعطكم الرب قلباً لتفهموا وأعيناً لتبصروا وآذاناً لتسمعوا إلى هذا اليوم.
«(تث 4:29)

10:7 «وأَنقَذَهُ
مِنْ جميعِ ضِيقاتِهِ وأَعطاهُ نعمةً وحِكمةً أَمامَ فِرعَونَ ملكِ مِصْرَ
([8])
فأَقامَهُ على مِصْرَ وعلى كُلِّ بيتهِ».

كما كان الله مع يعقوب
كان مع يوسف، فكما قال يعقوب:
» الملاك الذي خلَّصني من
كل شر
«(تك 16:18). هكذا
كان ليوسف: “فأنقذه الله من جميع ضيقاته”. وهذا هو يوسف الذي نال بركة ضعف
ما نال أبوه:
» مِنْ يديْ عزيز يعقوب (الله) مِنْ هناك من الراعي صخرِ
إسرائيل (المسيح) من إله أبيك الذي يُعِينُكَ، ومن القادر على كل شيء الذي
يُبارِكُكَ، تأتي بركات السماء من فوق وبركات الغمر الرابض تحتُ، بركات الثديين
والرَّحِمِ، بركاتُ أبيكَ
(لك) فاقت على بركاتِ أبويَّ، إلى مُنْيَةِ الآكام
الدهرية تكون على رأس يوسف وعلى قمَّة نذيرِ إخوته
«(تك 49: 2427). هذه هي بركات يعقوب ليوسف ابنه، وقد
كان فقد استقبله فرعون مصر أعظم ملك في العالم في ذلك الوقت وصاحب أعظم مدنيَّة
ظهرت على وجه الأرض في تلك العصور:

+ » فقال فرعون
لعبيده، هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله.

ثم قال فرعون ليوسف
بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك.

أنت تكون على بيتي وعلى
فمك يقبل جميع شعبي، إلاَّ أن الكرسي أكون فيه أعظم منك.

ثم قال فرعون ليوسف
انظر قد جعلتك على كل أرض مصر.

وخلع فرعون خاتمه من
يده وجعله في يد يوسف.

وألبسه ثياب بوص (كتان
نقي أبيض) ووضع طوق ذهب في عنقه.

وأركبه في مركبته
الثانية ونادوا أمامه اركعوا.

وجعله على كل أرض مصر.

وقال فرعون ليوسف: أنا
فرعون فبدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله في كل أرض مصر.

ودعا فرعون اسم يوسف
صفنات فعنيح (أي مخلِّص العالم!) وأعطاه أسنات بنت فوطي
فارع كاهن أون (عين شمس) زوجة. فخرج يوسف على أرض مصر، وكان يوسف ابن ثلاثين سنة
«(تك 41: 3845)

وهذا التعارض الشنيع
بين أن يبيع رؤساء أسباط إسرائيل الأحد عشر أخاهم عبداً في بلاد غريبة، وأن يرفع الله
يوسف في عين أعظم ملك في العالم ليُجلسه
عن يمينه
يحكم بلاد مصر كلها صاحبة أعظم مدنية آنذاك، هو الذي أراد استفانوس أن يُسمعه
للسنهدريم الذي هو بمثابة رؤساء الأسباط جميعاً، كيف حكموا على البار بالموت وهو
ابن العلي ورب الحياة، وكيف استأمنه الله عزَّ ملكه وجلَّ اسمه على العالم وكل بني
الإنسان؛ يجلس عن يمينه ويحكم بالبر ويخلِّص بني البشر. هذا الأمر الذي ركَّز عليه
في نهاية خطابه بقوله:
» كما كان آباؤكم كذلك
أنتم
«(أع 51:7). وكما
ظهر رؤساء الأسباط قديماً في قسوة قلب مُنجَّس يبيعون أخاهم بعد أن تشاوروا

ليقتلوه،
الذي أسماه فرعون صفنات فعنيح = مخلِّص العالم من الجوع، هكذا يظهر
رؤساء الأسباط ممثلين في السنهدريم ويخاطبهم استفانوس:
» يا قساة
الرقاب وغير المختونين بالقلوب
«(أع 51:7). وقد قتلوا مخلِّص العالم من الخطية والموت والهلاك.

فاستفانوس
يروي لهم من أين وكيف ولماذا قتلوا المسيح ووقفوا يحاكمون الشاهد لآلامه
وقيامته.

11:714 «ثُمَّ
أتى جوعٌ على كُلِّ أَرضِ مِصْرَ وكَنْعَانَ وضِيْقٌ عظيمٌ فكانَ آباؤُنا لا
يجدُونَ قُوتاً. ولمَّا سَمِعَ يَعقُوبُ أَنَّ في مِصْرَ قمحاً أَرسَلَ آباءَنَا
أَوَّلَ مرَّةٍ. وفي المرَّةِ الثانيةِ استعرَفَ يُوسُفُ إلى إخوتِهِ واستعلَنَتْ
عَشيرَةُ يُوسُفُ لفرعَونَ. فأرسَلَ يُوسُفُ واستدعَى أَبَاهُ يعقوبَ وجميعَ
عشيرتِهِ خمسةً وسبعِينَ نفساً».

«وضيقٌ
عظيمٌ»:

ql‹yij meg£lh

لم تنحصر الأزمة في
الجوع فقط، فغياب المطر أثَّر على الزرع بكافة المحاصيل وهذا أثَّر على المواشي
والأغنام، وتوقُّفُ الماشية عن العمل والانتاج زاد الضيق بالنسبة للإنسان فأصبح
مسئولاً عن طعامه وطعام ماشيته، ومن الجوع ذهبت العافية فلا إخصاب ولا ولادة.
وهكذا حينما يكف الله عن أن يُنزل مطره في الحين الحسن يكف الرخاء ويعظُم الضيق
والبلاء.

ولكن ألا ترى معي أيها
القارئ العزيز أن بكاء يوسف في البئر ثم طَرْحَه وتقييدَه بالحبال ورفعه مقيداً
على جملٍ، ذاهباً جنوباً، بعيداً بعيداً، عن أبيه والوطن، سمعه الرب في السماء!

ثم ألا ترى أن حسدهم له
على أحلامه جعل الله يحققها ويذلهم تحت أقدامه، فهو لا يعود إليهم بل هم الذين
ينزلون إليه جائعين معدمين صاغرين متذللين، ثم زادها الرب تحقيقاً فسجدوا له إلى
الأرض مرتعبين. أمَّا حلم يوسف عن الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً له ساجدين
فمعروف، أمَّا الحلم الذي رفع ضغينتهم إلى الغليان فكان:
» وحلم يوسف
حلماً وأخبر إخوته فازدادوا أيضاً بغضاً له. فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي
حلمت، فها نحن حازمون حزماً في الحقل وإذا حزمتي قامت وانتصبت فاحتاطت حزمكم وسجدت
لحزمتي، فقال له إخوته: ألعلك تملك علينا ملكاً أم تتسلَّط علينا تسلُّطاً،
وازدادوا أيضاً بغضاً له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه

«(تك 37: 58). أمَّا حزمهم فأفرغت
من قمحها وذرَّتها الرياح، وأمَّا حزمته فأخرجت قمحاً أشبع مصر وكنعان، وهم
استكثروا أن يملك عليهم لكنهم ذهبوا إليه صاغرين ساجدين متوسلين أن يملك عليهم!!

وهذا أمر الله للمتضعين
وقضاؤه على الحاسدين والحاقدين. ثم انظر كيف تحركت السماء وقامت بدورها لتضم الأب
المكلوم في ابنه إلى عزيز روحه ونفسه، حتى وإن تلاحقت السنين وطال الزمان. وأخيراً
رأى يعقوب
الذي من البكاء على ابنه كلَّت عيناه رأى الذي
أكله الذئب، وما كان الذئب إلاَّ أخاه! فلمَّا قابله بعد أن كلَّت عيناه رآه، ولمَّا
سمع صوته انفتحت عيناه. فالقسوة تعمي البصيرة والحب يستعيد الإبصار.

عجبي على استفانوس
الحبيب المحبوب، كيف كان يقص قصة يوسف وجحود إخوته وهو واقف وسط مجمع القضاة،
وكلهم إخوته وكلهم حقد وكلهم ذئب!

قد كان ذكياً وكان
حكيماً أميناً، فقد طابق المثيل على المثيل ولكن ذئب يوسف تاب وأناب
([9])، أمَّا
هؤلاء الذئاب فما تابوا وما أنابوا.

«وفي المرة
الثانية استعرف يوسف إلى إخوته (تعرَّفوا عليه)»:

قصة يوسف المباع قريبة
الشبه من السيد الرب الذي باعه واحد من تلاميذه. فعلى كل حال أولئك كانوا
إسرائيليين وهؤلاء هم إسرائيليون أيضاً، فلا أولئك عرفوا الرحمة ولا التلميذ الذي
باع تنازل عن القسوة. لذلك في قول ق. استفانوس أن في المرة الثانية تعرَّفوا عليه
رأى كثير من الآباء القديسين أنها جاءت في قالب النبوَّة بالنسبة لبني إسرائيل،
فإن كانوا باعوه وقتلوه معاً إمعاناً في عماهم كونهم لم يعرفوه فلهم في المرة
الثانية رجاء حينما يتعرفون عليه في مجيئه الثاني المرهوب، خاصة والرب رفع العوائق
حينما قال على صليب القسوة:
» يا أبتاه اغفر لهم
لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!
«(لو 34:23)

«فأرسل يوسف
واستدعى أباه يعقوب وجميع عشيرته خمسة وسبعين نفساً»:

بدا لكثير من المفسرين
خطأ استفانوس في هذا الرقم لأن الشواهد الآتية تخالفه:

(تك 26:46):

+ » جميع النفوس
ليعقوب التي أتت إلى مصر الخارجة من صلبه ما عدا نساء بني يعقوب النفوس ست وستون
نفساً. وابنا يوسف اللذان وُلِدا له في مصر نفسان. جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى
مصر سبعون
«

(خر 5:1):

+ » وكانت جميع
نفوس الخارجين من صلب يعقوب سبعين نفساً
«

(تث 22:10):

+ » سبعين نفساً
نزل آباؤنا إلى مصر
«

بل ويصدّق على هذا
المؤرخ يوسيفوس اليهودي.

ولكن في النهاية تتضح
دقة استفانوس ومصادره القانونية فهو يستقي معرفته من السبعينية التي في إحدى نسخها
يقول سفر التثنية([10])
إن عددهم لمَّا انضموا ليوسف بلغ 75 نفساً. وهكذا يصح كلام العلاَّمة ماير
الألماني الذي يحذر أن لا نستخف بمصادر استفانوس التي استقى منها معرفته. وقد عالج
العلاَّمة اليهودي فيلو هذا التضارب وشرحه بطريقته الخاصة([11]).

15:7و16 «فنزَلَ
يعقوبُ إلى مِصْرَ وماتَ هو وآباؤُنا ونُقِلُوا إلى شكيم ووُضعُوا في القبرِ الذي
اشتراه إبراهيمُ بثمن فِضَّةٍ من بني حَمُورَ أبي شَكيِمَ».

هنا يتجاوز استفانوس
حقيقة أن إبراهيم اشترى مغارة المكفيلة بالقرب من حبرون لدفن امرأته سارة وقد
اشتراها من عفرون الحثي (تك 23) وجعلها في شكيم من بني حمور (تك 33: 18
20) وهنا تجاوز للذي أوردته التوراة، ولكن يقول العلاَّمة بروس إن من عادة
استفانوس أن يجمع كل حقيقتين في رواية واحدة وقد فعل ذلك في مواقع كثيرة بغية
الاختصار. لأن إبراهيم اشترى في حبرون مغارة المكفيلة ويعقوب اشترى في شكيم وبعض
الآباء دُفنوا هنا وبعضهم هناك.

والمنظر أمامنا الآن
عجيب الشكل، فآباء الموعد وآباء الأسباط جميعاً ماتوا ودُفنوا في أرض الميعاد أو
الموعد التي لم يرثوا فيها ولا وطأة قدم، أي قدماً مربعاً، ولكنهم احتلُّوها
بجثثهم في القبور. وأولاد الموعد أي أبناؤهم جميعاً كانوا خارج الأرض يتربُّون
ويكبرون ويتكاثرون في بلد آخر وأرض أخرى ليست بلدهم ولا أرضهم. يرضعون من ثدي مصر
وغناها مجَّاناً، ويتكلَّمون ويتدربون على إنشاء وطن وأرض ومدنية أخرى بلغتها
الجديدة وتخطيطها وقوانينها الجديدة. هذا تخطيط لم يُسمع به قبلاً ولكنه تخطيط
القدير الذي لا أحد بقادر أن يفحص أعماق حكمته. ولكن الذي يحزّ في قلوبنا أنهم بعد
ذلك يشتمون مصر!

المرحلة
الثانية: زمن موسى والناموس (7: 17 43):

17:7 «وكما
كانَ يَقرُبُ وقتُ الموعِدِ الذي أَقسَمَ الله عليهِ لإبراهيمَ (430 سنة
=
أربعة أجيال) كانَ ينمو الشعبُ ويَكْثُرُ في مِصْرَ».

المعروف مبدئياً أن
رعاة الماشية بقوا في جاسان شرق الدلتا لأن مراعيها كانت جيدة. ومعروف أن فروع نهر
النيل كانت في هذه المنطقة متعددة جداً، فكانت الأرض كلها خضراء لتوفُّر المياه
بكثرة. أمَّا بقية شعب إسرائيل فانتشروا في مصر كلها من شمالها حتى أسوان،
واختلطوا بكل مراكز الأعمال والمهن وأتقنوا كل صنعة وشربوا أسرارها، لأن مركز يوسف
في البداية كان مرموقاً لدى فرعون، فهو الذي خطط لهم لكي يثقفهم ويرفع من قدراتهم
الفكرية والفنية والعلمية والروحية أيضاً. فمعروف أن من مصر قامت أول عبادة توحيد
لله، وظلَّت باقية بأسرارها حتى إلى ما بعد الميلاد بمدة طويلة، وكانت ذات مواهب
وأسرار.

وظهرت بوضوح نية يوسف
في الاحتفاظ بوحدة الشعب اليهودي في مصر وترابطه بهدف النزوح يوماً إلى أرض كنعان
حسب وعد أبيهم يعقوب وجدِّهم إبراهيم. لذلك أوصى بنقل عظامه معهم!!

إذاً، فيلزم أن تتضح
لنا الصورة أكثر، أن اليهود نزلوا إلى مصر لا ليتلافوا الجوع وإلاَّ لكانوا رجعوا
دون أن يسمع بهم أحد وهم لا يزالون نفراً قليلاً، ولكن أطماعهم في مصر نفسها نمت
بشدة وكثرت كُلَّما زاد عددهم، ونمت قدراتهم، وحَلَتْ خيرات مصر في أفواههم. فقدور
اللحم لم ينسوها قط، والبصل والكرات وبالأكثر الذهب والفضة التي جمعوها من المخزون
عندهم سرًّا فصنعوا بها عجلاً!! ويُلاحَظ عند خروجهم أنهم كانوا رافضين بشدة
وقاوموا موسى لأنهم رأوا مصر وطناً لهم.

ثم لا ينسى القارئ
اللبيب أنهم حاولوا الرجوع بالفعل عدة مرات! بل وتآمروا على موسى برجمه ونظَّموا
الصفوف بقيادة قواد ورتَّبوا كل شيء للعودة لولا أن صرخ موسى لدى الله فأبطل
مشورتهم (عد 14: 111).

ولو يعود القارئ المؤرخ
إلى الأسفار يجد أنه عند الضوائق رتّب الشعب نفسه مراراً كثيرة، وبقيادة

رؤساء
وملوك، للعودة إلى مصر، بل وفي النهاية نفَّذوا المشورة رغماً عن أنف إرميا النبي
بل ربطوه وأخذوه معهم إلى مصر ومات هناك مع رؤساء الجيش وقادة الشعب الذين نفَّذوا
شهوتهم المبيَّتة منذ أكثر من ألف سنة (إر 43: 17).

 

الفراعنة
الذين عاصرهم العبرانيون في مصر

 

نقدِّم هنا
أسماء الفراعنة التي ترددت أسماؤهم على ألسنة العلماء([12])
باعتبارهم عاصروا العبرانيين في مصر منذ بدء دخولهم حتى خروجهم:

1 الفرعون
أحمس
Ahmose الأول: 15801557 ق.م.

وهو الفرعون الذي طرد
الهكسوس من مصر.

2 الفرعون
تحتمس
Thatmose: 15011447 ق.م.

وقد وجدت إشارات في
النقوش التي تقص عن حروبه في فلسطين التي اكتسحها بجيوشه، وضم فلسطين وفينيقية
(لبنان الآن) وسوريا في إمبراطورية مصرية واحدة.

ووجدت أسماء “آل
يعقوب”
و “آل يوسف” منقوشة مع أخبار حروبه.

3 الفرعون
أمنحوتب الثالث: 14111375 ق.م.

حيث بلغت مصر في أيامه
أعلى وأقوى عزها.

4 الفرعون
أمنحوتب الرابع
Amenhoteb = إخناتون Ikhnaton 13751358 ق.م.

وهو صاحب أعظم حركة
لتوحيد الأديان في دين توحيدي لله. ويقول عنه العالِم برستد إنه أول رجل مثالي في
العالم.

5 رمسيس
الثاني:
12921225 ق.م.

وهو المعروف عامة بأنه
فرعون الاضطهاد للعبرانيين.

6 الفرعون
مرنبتاح
Mernoptah: 12251215 ق.م.

وهو الذي قمع ثورة بلاد
أسِيَّا حينما ثارت ضده، وقد حفر على عمود من الرخام الجرانيت المصقول أنشودة
انتصاره وذكر فيها اسم “إسرائيل” ويُعتبر هذا هو الشاهد الوحيد في العالم
خارج العهد القديم الذي ذكر فيه اسم “إسرائيل” وبحسب اتفاق العلماء كان
الخروج سنة 1220 ق.م.

والمعروف لدى العلماء
أن فرعون الاضطهاد الذي رفع حدَّة السخرة والمذلة على بني إسرائيل هو الفرعون
رمسيس الثاني، ولكن الذي تولَّى مفاوضة موسى وهرون أثناء الخروج والذي خرج خلفهم
للحرب وغرق هو وجيشه هو مِرنُبتاح. والتوراة تكشف عن ذلك بسهولة: بإعلان أن
الفرعون الذي كان يطلب نفس موسى مات وبعدها نبَّه الله موسى لبدء التحرُّك:

+ » وقال الرب
لموسى في مديان. اذهب ارجع إلى مصر لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون
نفسك.
«(خر 19:4)

18:7و19 «إلى
أَنْ قامَ ملكٌ آخرُ لم يكُنْ يَعرفُ يُوسُفَ.

فاحتالَ هذا
على جنسنا وأساءَ إلى آبائِنا حتى جَعَلُوا أَطفالَهُم منبوذِينَ لكي لا يعيشوا».

لقد أقامه الله خصيصاً
حتى يفطمهم عن فَوْهَات قدور اللحم وبقية ملذات وأطياب مصر التي كانوا قد بدأوا
ينهبون ثروتها. ولكن الله كان يُعدّ للخلاص وليس لغنى الأرض وشهوتها. وهذا الفرعون
كان غرضه الأول من التضييق على بني إسرائيل هو أن يحد من كثرتهم العددية واتساع
سلطانهم في البلاد، وهذا أمر يتعلَّق بوطنيته وأمانته وشرفه. ولكن من وجهة نظر
عبرانية يكون كما رأوه قاسياً محتالاً مسيئاً، نسى فضل يوسف وتنكَّر لضيوفه! وهذا
الفرعون هو المذكور في سفر الخروج:

+ » هوذا بنو
إسرائيل شعب أكثر (؟) وأعظم (؟) منَّا. هلمَّ نحتال لهم
لئلاَّ ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من
الأرض. فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم. فبنوا لفرعون مدينتي مخازن
فيثوم ورعمسيس
«(خر 1: 811).

ومعروف أن الذي بنى هذه
المخازن هو رمسيس الثاني. ومن البيان المقدَّم لأسماء الفراعنة نجد أن هناك
الفرعون الخاص بالاضطهاد جاء بعده فرعون الخروج.

«جعلوا
أطفالهم منبوذين»:

وكان هذا هو الأمر الذي
صدر عن الفرعون:
» ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلاً كل ابن يُولد
(للعبرانيات) تطرحونه في النهر لكن كل بنت تستحيونها.
«(خر 22:1)

20:7و21 «وفي
ذلك الوقتِ وُلِدَ موسَى وكانَ جميلاً جدًّا. فَرُبِّي هذا ثلاثةَ أَشهُرٍ في بيتِ
أَبيهِ. ولمَّا نُبِذَ اتَّخَذَتهُ ابنةُ فِرعونَ وربَّتهُ لِنفسِها ابناً».

الأصل اليوناني لا
يترجم
» جميلاً جداً «بل » جميلاً أمام
الله
« أو » بالله».
وأصله تعبير عبراني يفيد أن هيئة الولد كان فيها مسحة إلهية سرِّية جعلت
أبويه كما يقول سفر العبرانيين لا يخشيان أمر الملك:
» أخفاه أبواه
ثلاثة أشهر لأنهما رأيا الصبي جميلاً ولم يخشيا أمر الملك.
«(عب 23:11)

ويصفه المؤرخ اليهودي
يوسيفوس([13])
هكذا:

pa‹da
morfÍ te qe‹on

بمعنى
» وكان طفلاً شكله إلهياً
«

كما يصفه العلاَّمة
فيلو
([14]):

« gennhqe‹j oân Ð pa‹j
eÙqÚj Ôyin ™nšfainen ¢steiotšran À kat’
„dièthn
» = » ولمَّا وُلِدَ الصبي
للوقت ظهر بوجه أكثر جمالاً من عامة الناس

« كل هذا ينتهي عند أن جماله كان يوحي بأنه جمال روحي أخَّاذ. لأن
ليس أبواه فقط هما اللذان هالهم منظره بل وابنة فرعون وكل الذين التقطوه من الماء.
أي أن جماله كان بحد ذاته رسولاً أو رسالة تحكي شيئاً عن الله، بل ويعمل له أيضاً.
ثم أليس الله نفسه أحبَّه وكرَّمه وعامله كما يعامل الواحد صديقه؟ (عد 7:12)

«ولمَّا
نُبِذَ اتخذته ابنة فرعون وربَّته لنفسها ابناً»:

«ابنة
فرعون»:

وقع رأي بعض العلماء
المؤرخين على ابنة فرعون هذه هي حتشبسوت
Hatshepsut
بنت تحتمس
Thotmos الأول التي اعتبرها أنها ستكون خليفته في الحكم رسمياً والتي حكمت
مصر فعلاً مع ابن أخيها تحتمس الثالث من 14901468 ق.م.

ويُلاحَظ أننا لو أخذنا
بهذا التاريخ نجد أن الخروج حدث ما بين  سنة 14501440 ق.م، ولكن
المعروف أنه تأخر عن ذلك بكثير إذ يُقال أنه حدث في القرن الثالث عشر قبل الميلاد([15]).

22:7 «فتهذَّبَ
مُوسَى بكُلِّ حكمةِ المصريينَ وكان مقتدراً في الأقوالِ والأعمالِ».

هذه الآية لم ترد إلاَّ
في التقليد، فليس لها أصل في المنسوخ من التوراة. ولكنها تحصيل حاصل، ومضغوطة
ضغطاً شديداً، لأنها تشمل أربعين سنة بكاملها تعلَّم فيها موسى أولاً في صبوته تحت
معلمين ملكيين، ثم استلمه الكهنة ليسلِّموه أسرار علم الفراعنة الذي لم يستطِع
العالم بعد أن يحيط به، ولكن آياته ظاهرة للعيان. فكل صناعتهم من كل أنواع المعادن
والأحجار شيء يُبهر العقل. ولو أردنا أن نسرد فقط رؤوس المواضيع التي عبر عليها
موسى متعلِّماً مدققاً ما كفانا كتاب بجملته. ولكن علينا أن نلاحظ في الكلمات
القليلة التي أوردها استفانوس أعماقاً لا يُستهان بها، فالحكمة، والاقتدار في
الأقوال، والأعمال،
شملت كل علوم الفكر والفلسفة والدين والأدب والسياسة
والمنطق والبلاغة والفصاحة واللغة والكتابة. أمَّا الأعمال، فالمصريون كانت علومهم
عملية وأعمالهم تشهد لعلومهم.

إذاً، فهذا رئيس دولة
بلغ الكمال وصار جاهزاً مجهزاً للقيادة على مستوى أرقى مدنيات العصر، وما بقي له
إلاَّ أن يتعلَّم ليكون أكثر حِلْماً من جميع بني البشر:
» وأمَّا
الرجل موسى فكان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض
«(عد 3:12)، وبعد ذلك في مدرسة البرية أربعين سنة أخرى، ليقود شعباً
كاد الرب في غيظه أن يفنيه! ويقوده

بلا
ماء ولا غذاء في برية قفر أربعين سنة بتمامها!

وهل استفانوس، وهو يصف
جمال موسى الإلهي وحكمته واقتداره في الأقوال والأعمال، كان يجدِّف، كما ألصقوا به
التهمة أنه
» يجدِّف على موسى « والتي وقف يرد ليس عليها بل على الذين قالوها وكأنه يتحدَّاهم إن
قالوا حسناً كما قال هو فيه!!

ولنا في قول ق.
استفانوس أن موسى تهذَّب بكل حكمة المصريين المصدر الذي يُضاف إلى روح
الإلهام، لكي يليق أن يكون موسى أول كاتب لأقوال الله، فهو الذي كتب التوراة بخمسة
أسفارها النفيسة والإعجازية حقاً بالنسبة لحقيقتها التاريخية السحيقة (القرن
الثالث عشر قبل الميلاد) سواء كان في مادة الورق، أو مادة الحبر، أو لغة الكتابة،
ودقة الأوصاف والتعابير، وما تخللها من أدب اللغة البديع، والصيغ الشعرية الفائقة
الوصف، وضبط التواريخ وحساباتها، بل وحفظ الورق من التلف.

كما يؤكد علماء كثيرون
أن موسى اخترع الخط العبري بقواعده([16]). أمَّا قوته
في الأعمال فقد عُرف من مصدر حديث أن موسى قاد لحساب فرعون مصر حملة مصرية ضد
أثيوبيا وانتصر انتصاراً باهراً وعاد بالأسرى، ويُظن أنه تزوج من هناك المرأة
الحبشية التي جاء ذكرها في التوراة (عد 1:12)، بالإضافة إلى ما ظهر
في حياته بطولها من بطولات في الحرب والسلم تجعله مثلاً وأغنية بين
الأبطال.

وفوق كل هذا يأتي دور
موسى كمشرِّع، فصحيح أن روح الإلهام كان يؤازره، ولكن لا يمكن أن يُغفل حق موسى
كأكبر مشرِّع في عصر كانت الأخلاق والسلوك والأفكار والعادات في بدايتها
المتدنيَّة بالنسبة لشعب يُبْنَى من الألف أو بالحري من الصفر!

23:728
«ولمَّا كَملَتْ لَهُ مُدَّة أربعينَ سنةً خطَرَ على بالهِ أن يفتقِدَ إخوتهُ
بني إسرائيل. وإذْ رأَى واحدِاً مظلُوماً حامى عنهُ وأَنصفَ المغلُوبَ إذ قَتَلَ
المصريَّ. فظنَّ أَنَّ إخوتهُ يفهَمُونَ أَنَّ الله على يديِهِ يُعطِيهِم نجاةً.
وأمَّا هُمْ فلم يفهموا. وفي اليومِ الثاني ظَهَرَ لهم وهُمْ يتخاصَمُونَ فساقَهُم
إلى السلامةِ قائلاً أَيُّها الرجالُ أَنتُمْ إخوةٌ، لماذا تظلِموُنَ بعضكم بعضاً.
فالذي كانَ يظلِمُ قريبَهُ دَفَعَهُ قائلاً مَنْ أَقامَكَ رئيساً وقاضياً علينا،
أتُريدُ أَنْ تَقتُلَني كما قتلتَ أمسِ المصريَّ».

«أربعين
سنة»:

تذكر التوراة هذا
بالتحديد ولكن الربيين هم الذين حسبوا هذا الرقم على أساس أن حياته 120 سنة
مقسَّمة على ثلاثة مراحل: ما قبل الخروج، والخروج للهرب الأول، ثم الخروج للعودة
مع الشعب([17]).
وكل الذي عرفه الكتاب عنه هو ما استقرأه سفر العبرانيين:
» بالإيمان
موسى لمَّا كبر أبى أن يُدعى ابن ابنة فرعون
«(عب 24:11) من سفر الخروج » وحدث في تلك
الأيام لمَّا كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم … فقتل المصري …
فطلب (فرعون) أن يقتل موسى، فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان …
«(خر 2: 1115)

+ » وكان موسى
ابن ثمانين سنة وهرون ابن ثلاثٍ وثمانين سنة حين كلَّما فرعون.
«(خر 7:7)

+ » وكان موسى
ابن مِئَةٍ وعشرين سنة حين مات ولم تكل عَيْنَه ولا ذهبت نضارته.
«(تث 7:34)

«خطر على
باله أن يفتقد إخوته»:

رأى موسى مذلَّة الشعب،
إخوته، فأحسَّ في نفسه أنه قادر أن «يفتقدهم». لقد شبَّ موسى ونضج وأصبح
قادراً بالفعل أن يقود شعباً وينقذه، ولكن بمواهبه الشخصية التي اكتسبها من نفس
الشعب الذي يضطهد إخوته. وكما سبق وقلنا كانت له حكمة وقوة ومقدرة عالية في كل علم
وفن وتدبير، وبالأكثر في الناحية العسكرية. إذ يُظن كما سبق وقلنا أنه قاد حملة
ناجحة ضد أثيوبيا!! فالفكرة التي ملأت قَلْبَهُ فكرة عسكرية؛ وأمَّا من جهة
الإمكانيات فيبدو أنَّه كان يفكر في إعداد الشعب لها عسكرياً أيضاً. ولكن هل لمجرد
المقاومة ضد المصريين لتثبيت حقوق شعبه في الحياة بالقوَّة، واحتلال أرض مصر
بالسيف كغزاة، أم لاستخلاص شعبه من مصر والعودة به إلى فلسطين؟ هذا أمر لم يكن قد
بتَّ فيه نهائياً، ولكن قوله:
» يفتقد إخوته «لا بد يحمل
نوعاً من الدفاع بالقوة من نوع الذي عمله هو شخصياً كنموذج يوقظ مشاعرهم لأنه ظنَّ
أن إخوته يفهمون، فلم يفهموا.

ولكن الأمر لا يحتمل
أبداً أن يخاف موسى من فرعون ويترك إمارته فهو أمير قطعاً
وذلك لمجرد قتله لأحد المصريين كمعتدٍ في شجار مع أحد الإسرائيليين! فقول استفانوس
أنه هرب لمجرد كلمة سمعها من إسرائيلي أنه قتل المصري، أو حتى قول الكتاب:
» فخاف موسى
وقال حقاً قد عُرف الأمر، فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى
«(خر 2: 14و15). ولكن هذا لا يتناسب مع مجرد قتل شخص مُعْتدٍ. لأن
إمساك استفانوس عن التوضيح وإمساك التوراة التي كتبها موسى بنفسه عن التوضيح يُظهر
أن هناك سبباً يتناسب مع طلب فرعون قتل موسى. ونعتقد أنه كان قد بدأ بالفعل في
تنظيم عمل سرِّي، يتناسب مع فكرة افتقاد شعب مذلول مسخَّر محجور عليه. فنحن أمام
موسى، وأخطر مخطط للهروب، وأقوى قائد لعبور الأهوال وأشد بأساً من أي قائد في مصر
كلها يَقْدُمُ لقيادة عملية تحدٍّ أو مقاومة!

وغير معقول بالمرة أن
يهرب من القصر الملكي وهو فيه أمير مدلَّل لأنه قتل مصرياً في الشارع، فهذا السبب
وحده لا يتناسب حتى مع مجرد أجنبي غريب في حادثة عارضة، إذ هناك محكمة لتحكم. ومثل
هذه القصة الصغيرة أن موسى قتل مصرياً، من غير المعقول أن تصل إلى مسامع فرعون
الذي لا يُدْخَل إليه بالأخبار إلاَّ أخطرها!!

ويمكن للقارئ المحنَّك
أن يجمع أطراف ما سبق وأن قلناه من تعلُّق شعب بني إسرائيل بأرض مصر تعلُّقاً جعله
يقاوم موسى محاولاً الرجوع، بل جعله يصنع “عجل” أبيس، معبود مصر، من ذهب توفَّر
لديه من نهب المصريين ليعبد إله مصر كأهل مصر، ثم ندمه الشديد لخروجه من مصر الذي
أبداه في كل موقف وكل صعوبة وصرَّح به علنياًّ، مما يوضِّح أن نيَّات شعب بني
إسرائيل كانت إمَّا الاستيطان في مصر بالقوة أو الاستيلاء عليها. الأمر الذي وضعوه
في فم فرعون ليقوله مع أن القول قولهم
والنية
نيَّتهم:

+ » ثم قام ملك
جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف،

فقال لشعبه هوذا بنو
إسرائيل شعب أكثر وأعظم منَّا!!

هلمَّ نحتال لهم لئلاَّ
ينموا فيكون إذا حدثتْ حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض.
«(خر 1: 810)

في الحقيقة نحن لا
نخالف التوراة فيما تقول بل ننسب إليها الصحيح الذي كان لا يمكن أن
يُقال ولكن تنص عليه التوراة نصاً في مواضع كثيرة. لأن هذه كلها فكرة
شعب إسرائيل نفسه برؤسائه وقادته، وهذه هي فكرة “الحرب” بارزة في ذهنهم، و“الانضمام
إلى الأعداء”
هي فكرة مبيَّتة، «ويحاربوننا» هي حقيقة ربما بدأوا
يستعدّون لها. ولكن آخر كلمة هي أهمها: «ويصعدون من الأرض». فهنا نحن أمام
فكرتين، الفكرة الأُولى أن تكون إرادتهم ونيتهم ضد الصعود من الأرض للبقاء فيها
والاستيطان أو أخذها بالقوة لذلك هم يخشون أن يُخرجهم المصريون بالقوة. والفكرة
الثانية عكسها، أن يكونوا هم قد أضمروا الصعود من مصر وأن ظنهم في
فرعون أنه كان يخشى خروجهم ويود بقاءَهم ليخدموه. هذه الفكرة الأخيرة لا تزكِّيها
تصرفاتهم على طول المدى ولكن تزكِّيها تصرفات الفرعون معهم في الخروج.

ويلزم أن يُقرأ هذا
الفصل في التوراة قراءة واعية، لأن التصريحات التي وردت فيه على لسان موسى كان
يتحتم عليه أن يقولها هكذا باختصار وبأسلوب يُخفي الحقيقة([18])،
ذلك خوفاً على الشعب بعد أن تُقرأ التوراة وهو في ذلك مُحِقٌّ تماماً، ونحن أيضاً
على حق تماماً أن نقرأ ما بين السطور، لأن موسى نفسه هو الذي جعلها صالحة أن تُقرأ
هكذا!!

ونحن لو تنازلنا عن كل
ما قلناه، واعتبرنا أن ما كتبه موسى كان فعلاً ما قاله فرعون، وأنه بحكم مركزه سمع
ما ردَّده الفرعون وتأكد منه. فالسؤال الآن لماذا قال الفرعون هذا؟ وهل الفرعون
حينما يقول مثل هذه الحقيقة يقولها هكذا دون الأخبار السرِّية التي وافته والأبحاث
التي عملها حتى تأكد من القول تماماً فقاله؟ إذاً فما قاله الفرعون وما كتبه عنه
موسى صحيح مائة بالمائة وأنه يعبِّر تماماً عن حالة الشعب ونيَّاته واستعدادهم
للحرب والخروج عنوة. ذلك لأن السخرة اشتدت، ولكن في مقابلها اشتد عود الشعب وازداد
عدداً برجاله وأبطاله المقاتلين، وخرج لهم
من بيت
الفرعون نفسه موسى الذي يستطيع بقوته، التي أصبحت المثيل لقوة الفرعون وحكمته
وعلمه، أن يُخرِجَ
الشعب وأن يقودهم
للخلاص!

ثم وهل قول الله «أَنْزلُ
وأَفتقدهم»
مجرد فكرة لدى الله أم هي قول على عمل، وأن الافتقاد صار بالفعل
حالة يطلبها الشعب ويحسُّها ويحسّ بقوتها آتية من السماء رداً على أنينهم تحت شقاء
السخرة، وهي التي أقامت لهم قبل أن يُولدوا مَنْ
ينفذها؟ فقصة ميلاد موسى بظروفها كلها تحكي عن ما سيتم في وقته تماماً وأنها
مخطَّطة أصلاً على الخروج، والخروج قائم على الحكمة والقوة والاقتدار الذي أجذل الله عطيتها لموسى في الأقوال والأعمال وكافة
المواهب التي وُهِبت له.

«مَنْ أقامك
رئيساً وقاضياً علينا»:

نعم ونحن أيضاً مع هذا
المتبجِّح نسأل: مَنْ أقام موسى رئيساً وقاضياً؟ فالله لم يُعيِّنه بعد للاختيار،
فلماذا يسبق الحوادث قبل أن يجيء الزمان المحدد الذي ما زال يتبقَّى منه أربعون
سنة بالتمام؟ لقد كان الرد بمثابة صفعة على وجه موسى أيقظته من أحلامه وتصوراته أنه
يمكن أن ينقذ شعبه!! الله تكلَّم على فم هذا الإسرائيلي، وهكذا انضم هذا الصوت:
» مَنْ أقامك
رئيساً وقاضياً علينا
«
إلى قسوة الفرعون وتسخير المسخرين ليبعد الميعاد أربعين سنة أخرى، فالتمرين تمَّ
على مستوى الجسد، ولكن لم يبدأ ولا بخطوة واحدة في مجال الإعداد الروحي، لقيادة
تتم بروح الله على يد موسى أكثر بني زمانه حِلْماً.

«أتريد أن
تقتلني كما قتلت أمس المصري»:

هذا كلام حق، يا ويل
شعب إسرائيل لو كان موسى قد تسرَّع آنئذ وحاول قيادة الشعب للخروج بالقوة دون أن
تكون السخرة قد بلغت حدَّها والصراخ علا حتى بلغ السماء وسمعه الله، ونزل وطرح
بنفسه خطة الخروج الطويلة العجيبة. أظن لو كان حدث هذا وبدأ موسى الإعلان عن
العصيان لكان مات من الشعب كل الشعب وما بقي أمل لخروجٍ، ولا اسم لإسرائيل. شتّان
هذا الجبرؤوت الذي كان يتفجَّر في قلب موسى في أيامه الأُولى هذه وهو ربيب عز
القصور وأبَّهة الملوك والقيادات وحكمة الحكماء المتصرفين في شئون الدولة، وهو
يتفاخر بقوته التي صرع بها المصري ربما من ضربة كفّ، وبين صوته المتضع الكسير،
ونفسه التي ذاقت ذلّ البرية القفرة وعيشة الضنك وهو يخاطب الله لمَّا جاء الوقت
وحان الزمان وطلب منه الرب رسمياً النزول إلى مصر وقيادة الشعب للخروج وبقوة الله:
اسمعه يجيب:

+ » فالآن هلمَّ
فأرسلك إلى فرعون وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله:

مَنْ أنا حتى أذهب إلى
فرعون، وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر. فقال (الله) إني أكون معك …،

فقال موسى للرب: استمع
أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلَّمت عبدك، بل
أنا ثقيل الفم واللسان!

فقال له الرب مَنْ صنع
للإنسان فماً أو مَنْ يصنع أخرسَ أو أصمَّ أو بصيراً أو أعمى، أما هو أنا الرب؟

فالآن اذهب وأنا أكون
مع فمك وأُعلِّمك ما تتكلَّم به.

فقال (موسى) استمع أيها
السيد، أَرْسِلْ بيد مَنْ تُرسل.
«(خر 10:312 و10:413)

وبهذه الثقة بالنفس
التي بلغت العدم استطاع الله أن يجعل موسى يقود بني إسرائيل كأعظم أبطال التاريخ
القديم.

29:7 «فهَرَبَ موسى
بسببِ هذه الكلمةِ وصارَ غريباً في أرضِ مَدْيَانَ حيثُ وَلَدَ ابنينِ».

«وصار
غريباً في أرض مديان»:
p£roikoj

يركِّز القديس استفانوس
على “الغربة” إذ سبق وذكرها بنوع من التذكير لإبراهيم أن يكون نسله “متغرِّباً
p£roikon في أرضٍ غريبة، وها هو يذكرها مرة أخرى كيف عاش موسى عيشة
الغربة التي أثَّرت كثيراً في نفسه حتى أنه سمَّى ابنه الذي وُلِدَ له من ابنة
كاهن مديان باسم “الغربة”:

+ » فارتضى موسى
أن يسكن مع الرجل فأعطى موسى صفورة ابنته فولدَت ابناً فدعَى اسمه جرشوم لأنه قال
كنت نزيلاً في أرضٍ غريبة.
«(خر 2: 21و22)

أمَّا ابنه الثاني:

+ » واسم الآخر
أليعازر لأنه قال إله أبي كان عوني وأنقذني من سيف فرعون.
«(خر 4:18)

وللعلم فغربة موسى غربة
مضاعفة من أرض كنعان وطنه الأَول ومن أرض مصر أرض المنفى والسخرة. وصار معلقاً بين
الاثنين. ولكن هذه الغربة الأخيرة في أرض مديان مع رئيس كهنة القبائل هناك أعطته
خبرة عالية جداً بطبيعة الأرض والدروب أربعين سنة وهو يرعى في نفس المنطقة التي
أخذ فيها الناموس والشريعة، على جبل حوريب. فأرض مديان هي السهول الشرقية لجبال
سيناء والدروب الداخلية فيها:
» وأمَّا موسى فكان يرعى
غنم يثرون حميه كاهن مديان، فساق الغنم إلى
وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب
«(خر 1:3) (منطقة دير سانت كاترين الآن).

ثم لا يفوت على القارئ
أنه صار بالنهاية هناك لا نزيلاً، بل مواطناً وصاحب أرض ونسيباً للقوم بالمصاهرة.
وقد أعانه في البداية حموه هذا يثرون.

30:7 «ولمَّا
كَمِلَت أَربَعُونَ سنةً ظَهَرَ له ملاكُ الربِّ في برِّية جبلِ سيناءَ في لهيبِ
نارِ عُلَّيقَةٍ».

هنا تبدأ قصة الخروج من
أرض مصر، وموسى في أضعف حالاته كغريب هارب من وجه فرعون. ولكن أساس الخروج لا يبدأ
من موسى ولا من سيناء، بل من حاران حينما كلَّم الله أبرآم قائلاً:

+
» اذهب من أرضك ومن عشيرتك
… فأجعلك أُمة عظيمة وأباركك …
«(تك 12: 1و2)

ثم بعد ذلك يقول له
الرب (في أرض كنعان):

+ » اعلم يقيناً
أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم، ويُستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة. ثم
الأمة التي يُستعبدون لها أنا أُدينها. وبعد ذلك
يخرجون
بأملاك جزيلة.
«(تك
15: 13و14)

«ملاك
الرب»:
¥ggeloj Kur…ou

ملاك يهوه mal’akh yahweh. وهو الملاك الخاص الذي يمثل الله في كل المعاملات مع الإنسان.
ويسمَّى أيضاً ملاك حضرته أي وجهه أي وجوده
mal’akh panaw. ونجدها واضحة في (إش 9:63): » في كل ضيقهم
تضايق وملاك حضرته خلَّصهُم. بمحبته ورأفته هو فكَّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام
القديمة
« والكلام هنا عن خروجهم، كيف تضايق الله لمَّا ازدادت السخرة
عليهم، ثم كيف أرسل ملاكه مع موسى وفكَّهم من قيود العبودية، وكيف رفعهم من مصر
وحملهم في
البرية كل الأيام القديمة (40 سنة)!

والملاك هنا لمَّا كان
يتكلَّم كان يتكلَّم باسم الله كأنه الله. ولكن الاسم يتغير كثيراً، فمن
» ملاك «إلى » ملاك الرب «إلى » ملاك حضرته «إلى » الرب «مباشرة وإلى
» يهوه «أيضاً.

«في لهيب
نار علَّيقة»:
™n flogˆ
purÕj b£tou

كلها مضاف ومضاف إليه،
لهيب نار والنار لعلَّيقة. حيث تتضح الرؤيا بدقائقها: فالملاك في لهيب النار التي
كانت مشتعلة بها العلَّيقة. والعلَّيقة هي شجرة صغيرة يعلوها الشوك في كل مكان،
فهي شجرة شوك متوسطة الطول لا تزيد عن متر طولاً وعرضها لا يزيد عن ذلك أيضاً.

ومعروف بالخبرة أنها
سريعة الاحتراق جداً، حتى أن الكتاب المقدَّس نفسه يضرب بها المثل
» كنار في شوك « لذلك أصبح احتمال أن تكون ناراً عادية، هو أمر مستحيل. فوجود نار
في علَّيقة وتبقى كما هي دون أن تحترق العلَّيقة، فهذا هو الأمر المذهل للعقل
والملفت للنظر. ولكن الذي يلفت نظرنا أيضاً هو أن اسم العلَّيقة يأتي في الترجمة
السبعينية للعهد القديم بالمذكَّر، بينما القديس استفانوس يوردها بصيغة المؤنث
([19]). وهذا في
الحقيقة أمر أدهش اللغويين ولكن لا يُدهشنا. فقد جاء اسماً وتركيباً وناراً لتتفق
مع العذراء القديسة مريم وهي حاملة نار اللاهوت في أحشائها وهي هي فتاة بيت لحم.
والله أراد هذا التناقض فعلاً ليُظهر أعجوبته من ناحية، ومن ناحية أخرى ليلقي
بسرِّه الأزلي على عقل الإنسان كيف سيأتي اليوم الذي سيتحد لاهوته ببشريتنا، فلا
جسم الإنسان يحترق ولا النار تنطفئ. لذلك التقطتها الكنيسة القبطية لترى في
العلَّيقة المشتعلة سر التجسُّد مُستعلناً والعذراء بيت القصيد
العلَّيقة
التي اختارها الله ليحل فيها بلاهوته ليضيء على الإنسان من داخله بعد أن يلتهم كل
شوائبه.

وهكذا من العلَّيقة
المشتعلة بالنار يبدأ
أولاً حلول الله على أرض
الإنسان فتتقدَّس الأرض بحلوله، وتبدأ
ثانياً قصة خروج
الشعب المستعبد تحت سخرة المصريين، القصة التي ستظل تتسلسل حتى تنتهي إلى العذراء
التي تحمل في أحشائها نار اللاهوت، لتبدأ
ثالثاً قصة خلاص
الإنسان من سخرة الشيطان وعبودية الخطية، بقوة وفاعلية هذا الاتحاد الذي تمَّ بين
اللاهوت والناسوت في شخص يسوع المسيح ابن الله.

ولا يفوت على القارئ أن
استفانوس هنا يؤكد أن الله ظهر لموسى في برية سيناء وليس في أُورشليم، كما ظهر
لإبراهيم فيما بين النهرين سابقاً، وأنه قدَّس مكان وجوده على الأرض في العلَّيقة
على جبل سيناء. ولأول مرة تقدَّست أرض الإنسان بحلول الله، وليس في الهيكل ولا في
قدس أقداسه. وأن أول ذبيحة باركها الله كعهد بين الله والإنسان كانت ذبيحة إبراهيم
المُعدَّة هناك عند بلوطات ممرا، لا في هيكل ولا في قدس. كل هذا لكي لا يتعصَّب
الشعب لنفسه ولا لأرضه ولا لهيكله أو مدينته فهذه كلها تراث الإنسان الزائل وليست
أمجاد الله الباقية.

31:733 «فلمَّا رأَى
مُوسَى ذلك تعجَّبَ مِنَ المنظرِ، وفيما هو يتقدَّمُ ليتَطَلَّعَ صَارَ إِليهِ
صوتُ الرَّبِّ أَنا إِلهُ آبائِكَ إِلهُ إِبراهيمَ وإلهُ إِسحقَ وإلهُ يعقُوبَ.
فارتَعَدَ مُوسَى ولمْ يجسُرْ أَنْ يتطلَّعَ. فقالَ لهُ الرَّبُّ اخلع
نَعْلَ رِجليكَ لأنَّ الموضعَ الذي أَنتَ واقفٌ عليهِ أَرضٌ مقدَّسةٌ».

لقد حان موعد تنفيذ عهد
الله لكل مِنْ هؤلاء الآباء. صحيح أن الله أمهل ولكنه لم يُهمِل. لقد كانت أول
لحظة تعارف بين موسى والله وكانت رهيبة؛ فمن داخل العلَّيقة وخارجها نار متقدة،
ومنذ ذلك والله يتراءى وحوله النار والنور حتى اعتُقد أن طبيعته نار آكلة:
» وكان منظر
الرب كنار آكلة على رأس الجبل
«(خر 17:24). ولكن موسى قد دخل في زمرة الآباء المحبوبين لدى الله،
فقد أحبه الله جداً، فصار إله موسى بلا نزاع!

وحينما قال له أنا إله
إبراهيم يكون موسى قد ارتبط مباشرة بالوعد، وأمَّا إله إسحق وإله يعقوب فهو لزيادة
التأكيد والمتابعة. ولكن انتبه أيها القارئ، فالواقف “ملاك” والمتكلِّم
» أنا إله
إبراهيم
«!

أمَّا رعدة موسى
وإخفاقه في أن يرفع وجهه في الله، فهذا قانون الرؤى حال ظهور الله، حيث يعجز
الإنسان مهما أراد ومهما صمَّم أن يرفع عينيه ليرى وجه الرب، ولكن عبثاً يحاول، إذ
يستحيل عليه أن يرفع نظره ليتقابل مع وجه الله:
» لا تقدر أن
ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش … أسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي
فتنظر ورائي، أمَّا وجهي فلا يُرى
«(خر 33: 20و22و23). لأن الحقيقة أن كلمة «وجه =
وباليونانية تُنطق بروسبُون» تعني
» شخص « وشخص الله هو الكيان الفائق على كل كيان.

فعند كل رؤيا من ناحية
الله يرتعد الإنسان ويسقط على الأرض، وبعدها يرفع الله بقدرته الخاصة العامل
المرهب في شخصه كنوع من الإخلاء حتى يهدأ الإنسان ويعمَّه السلام لكي يسمع ويفهم
ما يُقال له.

«الموضع
الذي أنت واقف عليه أرض مقدَّسة»:

هنا ولأول مرة يُدرك
الإنسان أن الأرض يمكن أن تتقدَّس بحلول الله! فتصير أرضاً مقدَّسة بذاتها
كَوْنَها لمسته أو كَوْنَه لامَسَها بحضرته. لذلك حينما قال الله:
» السماء
كرسيٌّ
لي، والأرض موطئ لقدميَّ «فهذا يعني
أن الأرض كلها تصلح أن تكون موطئ قدميه وبالتالي تتقدَّس كلها، فلا حاجة إلى هياكل
تُقام ولكن الحاجة لأرواح تسجد، لأن
» الله روح والذين يسجدون
له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا
«(يو 24:4). وهنا حينما قال الله: » الأرض التي
أنت واقف عليها أرض مقدَّسة
« فهو يعني أنها قد صارت للسجود وليس للدَوْس. وحينما قال له «اخلع
نعل رجليك»
فليس القصد خلع النعلين وحسب، بل القصد أن يسجد موسى حيث هو واقف
لأن الله أمامه ولو لم يَرَهُ في نار العلَّيقة.

34:7 «إِني
لقد رأَيتُ مشقَّةَ شعبي الذينَ في مِصْرَ وسَمِعْتُ أَنينَهُمْ ونزَلْتُ لأُنقِذَهُم،
فهلمَّ الآن أُرسِلُكَ إلى مِصْرَ».

لقد استوفت السخرة
حقها، والمشقَّة صنعت شعباً مجاهداً خليقاً بأن يعبر البراري ويعيش سائراً على
قدميه، ويبيت متغرِّباً في العراء، متسانداً معاً إزاء
الوحوش
والأعداء إلى أن يفنى الجيل الذي عاشر الأصنام ومارس عادات الأمم. لقد ذكر الله
إبراهيم وأكرم إيمانه في نسله إذ حمله كما يحمل النسر وحيده على جناحيه ليحطَّه من
قمة إلى قمة إلى أن يستودعه عشَّه بأمان!

وهذا هو يوم التكليف
العظيم لموسى الذي وُلد
جميلاً لله ليصنع به
جميلاً لأمَّته وشعبه. هذا الذي تربَّى في أحضان مصر، هذه التي أنجبت أعظم ما أنجب
الإنسان من قامات شامخات، وأعظم مَنْ بنى على الأرض بناء يحك بأنفه السماء. وهل
يصارع الفرعون إلاَّ مَنْ كان على قامة الفرعون؟

35:7 «هذا
موسى الذي أَنكَرُوهُ قائلينَ مَنْ أَقامَكَ رئيساً وقاضياً هذا أَرسلهُ الله
رئيساً وفادياً بيدِ الملاكِ
الذي ظَهَرَ
لهُ في العلَّيقة».

هنا حطَّ استفانوس
ترحاله الطويل عبر الأجيال ليتفرَّس في قضاته الشامتين المتنمِّرين الضامرين القتل
على يد المُزوِّرين. وكأني به يقول لهم لقد أنكرتم البار وأَبيْتُم أن يكون بينكم
مسيحاً ومعلِّماً وقتلتموه عمداً وحسداً، وها هو قد صار من الله رئيساً وفادياً،
والعلَّيقة صارت صليباً يضيء على المسكونة كلها ونوره لا تطفئه السنين. وعدتم بعد
أن حاربتموه تحاربون صليبه، ولكن كما تحارب الظلمة النور، فنارُهُ سوف تحرق حتماً
كل المضادين.

36:7 «هذا
أَخرجَهُمْ صانِعاً عجائِبَ وآياتٍ في أَرضِ مِصْرَ وفي البحرِ الأَحمر وفي البرِّية أَربعين سنةً».

عودة مرة أخرى إلى
المسيح والتنبير على صنع العجائب والآيات، والخروج خارج أورشليم، والقبر،
والهاوية، والصعود في اليوم الأربعين، وسكب روح الحرية والحياة لاستيطان السماء،
وهل مَنْ صنع عجائب وآيات على الأرض كالمسيح؟ ولكن كما كافأوا موسى كافأوا المسيح.
وما كان الخروج الأول إلاَّ نموذجاً مصغَّراً يمهِّد للخروج الأعظم الذي نال به
الإنسان الدخول إلى السماء ليجد فيها وطناً ومستقرًّا وراحة أبدية!!

كانت العجائب وراء
العجائب، والآياتُ وراء الآياتِ البديلَ الوحيدَ للحرب بالسلاح والعراك بالسيف
والرمح والقتل والتشريد.

لقد أدخل الله في قلب
فرعون والمصريين الرعب حتى لا يستخدموا طرقهم المألوفة في قمع الثورات والنقمة
والانتقام. صحيح أن المداولات أخذت وقتاً طويلاً، ولكن كان الأمر برضى الله
ومعرفته فهو الذي قال:
» ولكني أعلم أن ملك مصر
لا يدعكم تمضون ولا بيد قوية. فأمدُّ يدي وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها.
وبعد ذلك يطلقكم.
«(خر
3: 19و20)

ويُلاحَظ
أن ق. استفانوس ربط “الخروج” بالعجائب والآيات حتى إلى نهاية الأربعين سنة، ذلك
لأن شعب إسرائيل ما حُسبوا أبداً أنهم خرجوا من مصر إلاَّ بعد نهاية الأربعين سنة
وهم على ضفة الأردن الشرقية والمن في أفواههم بسبب تمردهم المس
تمر وسوء نيَّتهم التي أضمروها دائماً في العودة إلى
مصر. لذلك لم يكف الله عن عمل عجائبه ليردعهم أن ينصاعوا لأوامره حتى آخر لحظة.

37:7 «هذا
هو موسى الذي قالَ لبني إِسرائيلَ نبيًّا مثلي سَيُقِيمُ لكم الربُّ إِلهُكُمْ
مِنْ إخوتِكُم، لهُ تسمَعُونَ».

نود لو ينتبه القارئ أن
هذا السنهدريم بكل هيئته وأعضائه سمع من القديس بطرس دفاعاً سابقاً، والقديس
استفانوس يُعتبر الآن أنه يزيده وضوحاً وقوة، ولكن سكت هؤلاء الربيون والرؤساء
والمعلِّمون، سكتوا إيذاناً للحجارة لتصرخ، ولينهدم هذا الهيكل على كل مَنْ فيه.

ويُلاحَظ أن ق.
استفانوس يكون بهذه الآية قد انتهى بمسلسل الكلام إلى محور القضية، فولادة موسى
وتربيته ليصير قائداً على أعلى مستوى للقيادة وعالماً على أعلى مستوى العلم، ثم
تكليفه بأكبر عملية في التاريخ وهي إجلاء شعب من وسط شعب، يُخرجه إلى الحرية من
تحت أثقل سخرة وعبودية. هذا المسلسل انتهى عند نقطة وكفَّ عن التمادي. فلم يتكلَّم
عن دخول أرض كنعان إلى آخر التاريخ، ولكن عند الخروج كفَّ ليعود ويمسك بالخيط
الأساسي ويرتكز على المحور المقصود وهو المسيح.

فهذا الذي قاله
استفانوس كله عن موسى لم يَقُلْه عن موسى لأجل موسى أو لأجل أن يُلقي درساً
تعليمياً على السنهدريم، بل ليقف عند نقطة تلاقي وانطباق موسى على المسيح.

يقول استفانوس: » هذا هو موسى « ولكن إلى هنا انتهى موسى يا حضرات القضاة، فالقصة هي عن المسيح،
لأنه لولا هذا النبي الآتي من بعد موسى ليضع لمساته الأخيرة على الخروج الصحيح
والانعتاق من العبودية الأخطر والسخرة المشئومة للشيطان، ما كان قد جاء موسى، وما
تغرَّب الشعب في مصر، وما أخذ إبراهيم وعداً بنسل، وما ظهر الله لإبراهيم. لأن
المسيح، هذا النبي الذي تكلَّم عنه موسى، هو “النسل” الموعود به لإبراهيم، والذي
ظهر في نهاية الدهور لتتبارك فيه وبه كل شعوب الأرض. فهو الغاية من البداية.

ثم معروف تماماً بمائة
برهان وبرهان، ومن صلب التوراة والأنبياء والمزامير، أن الشعب لم يسمع لموسى! ولكن
الله تجاوز هذا العصيان، بل وموسى نفسه تشفَّع حتى يتجاوز الله هذا العصيان ولا
يفنى الشعب فناءً:
» اتركني فأبيدهم وأمحو اسمهم من تحت السماء،
وأجعلك شعباً أعظم وأكثر منهم
«(تث 14:9). فانبرى موسى يتشفع أيضاً في واقعة أخرى عند رجوع
الجواسيس عندما قال الرب:
» وقال الرب لموسى حتى
متى يهينني هذا الشعب. وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم. إني
أضربهم بالوبأ وأبيدهم وأصيِّرك شعباً أكبر وأعظم منهم. فقال موسى للرب … اصفح
عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك. وكما غفرت لهذا الشعب من مصر إلى ههنا. فقال
الرب: قد صفحت حسب قولك
«(عد 14: 11و12و13و19و20). وتعتبر هذه الآيات الأخيرة وهذا القول من
فم الرب أعظم ما قرأت في حياتي عن طبيعة قلب الله!!

في هذا كله يظهر موسى
متشفعاً عن الشعب، والرب سمع، كمثال مصغَّر لِمَا صنع المسيح من أجل كل العالم!
لذلك حقَّ له وحقَّ علينا أن نسمع لصوت موسى أن
» نبيًّا مثلي
سيقيم لكم الرب إلهكم ولكن له تسمعون
«! ولكن هذه المرة يا كل قضاة الأرض اسمعوا: » ويكون أن
الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلَّم به باسمي أنا أُطالبه
«(تث 19:18) وقد جاءت في السبعينية: » سأقيم نقمتي
عليه
« وهكذا بالنهاية
أَوْقَف استفانوس قضاته تحت المطالبة أمام الله.

38:7 «هذا هو الذي
كانَ في الكنيسةِ في البريَّةِ مع الملاكِ الذي كانَ يُكلِّمه في جبل سيناءَ ومع
آبائنا، الذي قَبِلَ أَقوالاً حيَّةً ليُعطينا إِياها».

«في الكنيسة»: ™n tÍ ™kklhs…v

وردت كذلك في سفر
التثنية في السبعينية تماماً بعد الآية السالفة (37:7). ولكن الترجمة العربية لم
تعطها هذه الصيغة. وقد جاءت بالعبرية “
quahal وتعني
“الاجتماع”. واستفانوس يشير
بها إلى
الاجتماع الذي صنعه موسى بأمر الله مع جميع الشعب وآباء الأسباط في حوريب يوم ظهر
لهم الرب في حوريب وأعطاهم الناموس. وقد جاءت في سفر التثنية هكذا وموسى يكلِّم
الشعب:
» يقيم لك الرب إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون
حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع (حينما ارتعد الشعب من النار
والدخان وصوت الله وإنذاراته الشديدة فاستعفى عن السماع وطلب من موسى أن يتكلَّم
هو مع الله ويعفيهم من سماع صوت الله) قائلاً لا أعود (الشعب) أسمع صوت الرب إلهي
ولا أرى هذه النار العظيمة أيضاً لئلاَّ أموت.

«(تث 18: 15و16)

وقصد القديس استفانوس
أن هذا هو موسى الذي تقبَّل الناموس في هذا اليوم، ولكن الشعب استعفى من سماع صوت
الله،
فموسى
يرد على الشعب بعد ذلك بقوله للشعب أنتم طلبتم أن لا تسمعوا صوت الله لئلاَّ
تموتوا، ليكن لكم كما أردتم، فالله سيقيم لكم نبيًّا مثلي له تسمعون كما طلبتم،
ولكن الذي لا يسمع له سوف أصبُّ عليه نقمتي
(حسب السبعينية).
أمَّا قوله هنا
» الملاك الذي يكلِّمه …
«فهو تعبير مؤدَّب بمقتضى
الأدب العبراني
عن الله نفسه.

ولكن تعبير استفانوس عن
اجتماع موسى في حوريب لأخذ الناموس (أقوالاً حيَّة) مع الشعب
في هذا
الاجتماع التاريخي أنه كان “الكنيسة” تعبير رائع حقاً وفوق التصور. لأن الله كان
مجتمعاً مع شعبه فعلاً، فهذه هي الكنيسة الأُولى حقاً، كنيسة على جبل، وإنما بلا
عُمُدٍ ولا سقفٍ ولا جدران وأعتاب، ولا أروقة ولا هياكل، كنيسة حرَّة من كل قيد
أرضي، لا يحدُّها إلاَّ الله القائم في أعلاها. فإن كانت هذه هي الكنيسة في واقعها
الحي الأول، غريبة على أرض وغريبة من كل أرض، لا يجمعها إلاَّ الله إذا تراءى، فلا
حوريب يحسب من تخومها لأنها انسحبت من حوريب وأخذت بعد ذلك شكل خيمة تُطوى مع
الأيام وتُفرد للاجتماع أينما حلَّت الجماعة.

ومن أجمل
التعابير

التي حصل عليها موسى عن وجود الله معهم،
وهو بعينه الكنيسة نصاً: حرفاً
وروحاً، قول الله له:
» فقال وجهي (شخصي) يسير
فأريحك. فقال له إن لم يَسِرْ وجهك فلا تُصعدنا من ههنا. فإنه بماذا يعلم أني وجدت
نعمة في عينيك أنا وشعبك. أليس بمسيرك معنا. فنمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب
الذين على وجه الأرض. فقال الرب لموسى هذا الأمر أيضاً الذي تكلَّمت عنه أفعله.
لأنك وجدت نعمة في عينيَّ وعرفتك باسمك.

«(خر 33: 1417)

وهكذا سار وجه الله
معهم يتقدَّمهم
وقد صار موسى وسيطاً
بينهم وبين الله
يقف (وجه الله =
شخص الله)

فيقفون، ويسيرُ فيسيرون. هذه هي حقيقة الكنيسة وجوهرها، متغرِّبة بغربتنا وهي في
جوهرها الله معنا، وهي مصدر وجودنا وراحتنا: «وجهي يسير فأريحك».

والخلاصة أن عين
استفانوس على الكنيسة القديمة لتمثل جوهر حضور الله. أمَّا العلاقة التي بين الله
وشعب إسرائيل فهي قائمة على أسس فائقة على الأشكال والأبنية والمواضع والأرض
والمدن والهيكل.

«أقوالاً
حيَّة»:

هي بالضرورة أقوال الله
كما عبَّر عنها بولس الرسول:

+ » أمَّا أولاً
فلأنهم استؤمنوا على أقوال الله.
«(رو 2:3)

هذا هو استفانوس يعبِّر
عن الناموس أقدس تعبير كونه أقوال الله الحيَّة،
هذا الذي أوقفوا قباله شهود
الزور يقولون سمعناه يجدِّف على موسى والناموس!!

39:7 «الذي
لم يَشأ آباؤُنا أن يكونوا طائِعِينَ لهُ بل دَفَعُوهُ ورجَعُوا بِقلُوبِهِم إلى
مِصْرَ».

اسمع الصيغة الشديدة
الوقار والاحترام التي صاغ بها هذا القديس الفريد التعبير عن هؤلاء المَرَدَة
الذين عَصَوْا وتمردوا على موسى وطلب الله أن يفنيهم بالوبأ. يقول عنهم آباؤنا لم
يشاءوا أن يكونوا طائعين! وطبعاً الذي ينقصها هو: يا حضرات آبائنا! وهذه
وحدها رواية من أشنع الروايات عن عصيان شعب إسرائيل عن بكرة أبيهم ما عدا اثنين.
فقد جلسوا معاً يتسامرون وأشاعوا إشاعة موضوعها مذمَّة في حق الذين ذهبوا ليعاينوا
أو يتجسَّسوا على الأرض التي وعد بها الله أن يعطيها لهم. واختمرت الفكرة فقاموا
ونظموا صفوفهم للعودة ولكن ليس في سلام بل صمموا أن يرجموا موسى وهارون بالحجارة
لولا أن تدخَّل الله في آخر لحظة وأرعبهم:

+
» فرفعت كل الجماعة صوتها
وصرخت وبكى الشعب تلك الليلة وتذمَّر على موسى وهارون جميع بني إسرائيل وقال لهما
كل الجماعة: ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا متنا في هذا القفر. ولماذا أتى بنا
الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف. تصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة. أليس خيراً لنا أن
نرجع إلى مصر. فقال بعضهم لبعض نقيم رئيساً ونرجع إلى مصر!! … ولكن قال كل
الجماعة أن يُرْجَما (موسى وهارون) بالحجارة
« (عد 14: 1 4و10)

وما أشبه هذا القرار
الذي اتخذوه،

بالقرار الذي اتخذه
السنهدريم بقيادة قيافا:

+ » فجمع رؤساء
الكهنة والفريسيون مجمعاً وقالوا ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة إن
تركناه هكذا يؤمن الجميع به،
فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا. فقال
لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة. أنتم لستم تعرفون شيئاً
ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب (وفي هذه القصة في الخروج هو موسى)
ولا تَهلِكَ الأمة كلُّها.
«(يو 11: 4750)

أولئك أرادوا أن يرجموا
موسى وينجو الشعب ويعود إلى مصر. وهذا (قيافا) أراد أن يقتل المسيح، بل قتله،
لينجو الشعب من احتلال الرومان وهم محتلُّون!!! ومن الهلاك وقد هلكوا.

40:7 «قائلينَ
لهارونَ اعمل لنا آلهةً تتقدَّم أمامنا، لأن هذا موسى الذي أَخرَجَنَا مِنْ أرضِ
مِصْرَ لا نعلَمُ ماذا أَصابَهُ».

وما أشبه هذه العملة
السوداء بالعملة التي عملها قيافا مع رؤساء الكهنة أمام بيلاطس، إذ لمَّا رأوا
بيلاطس قد كشف الحقيقة إذ وضع يده على حسدهم للمسيح الذي قدموه للقتل. ولمَّا
سمعوا بيلاطس يقرر، بل يقضي بأن المسيح لم يفعل أمراً واحداً يستحق الموت، وأعلن
براءته ثلاث مرات، أخرجوا آلهتهم الحقيقية التي يعبدونها إذ قالوا في أنفسهم لا
نعلم ماذا أصاب إلهنا حتى تركنا هكذا لعبة في يد يسوع هذا. فجاهروا بأعلى صوتهم إن
أفرجت عنه تكون غير محب لقيصر (لإلهنا)، فراجعهم في أمر إلههم وملكهم، فأصرُّوا
على مسمع من الله، ليس لنا ملك إلاَّ قيصر! هو يتقدَّم أمامنا ويخلِّصنا من يد
يسوع هذا (المدَّعي أنه المسيا).

41:7 «فعمِلُوا
عِجلاً في تلكَ الأَيامِ وأَصعدوا ذبيحةً للصنمِ وفَرِحُوا بِأعمَالِ أيدِيهِم».

هذه هي الرجعة الحقيقية
إلى مصر، وهذا هو عجل أبيس معبود مصر المحبوب. وهذه هي ذبيحة الصنم ختم العبادة
للشيطان التي أكلوا منها ودخلوا معه في شركة ومسرة وزنا.

هؤلاء هم الآباء بحسب
قول استفانوس، وهذه هي علاقتهم الحقيقية بيهوه الإله العظيم الذي أخرجهم من مصر
بيد عزيزة وآيات ومعجزات لم يُسمع بها من قبل.

وإلى هنا يكون قد بلغ
استفانوس وصف أقصى حدود التمرُّد على الله في علاقة “آبائنا” هؤلاء كقوله. ففي
الوقت الذي تراءى هو لهم عياناً بمجده وجبرؤوته وجلاله وأعطاهم الأقوال الحية
كعلاقة مسجَّلة بين الله وشعب كأقصى غاية الافتخار لأمة في ذلك الزمان السحيق،
أعطوه القفا دون الوجه وعملوا الأصنام وعبدوها وأكلوا
ذبائحها
وزنوا روحاً وجسداً في وضح النهار وأمام عيني الله.

فرأى الرب وكتب أمامه
سفر تذكرة

ليعدَّه سنين كثيرة
آتية:

» فأنقلكم إلى
ما وراء بابل
«

42:7و43 «فرَجَعَ
اللهُ وأَسلَمَهُمْ ليعبدُوا جُنْدَ السماءِ كما هو مكتُوبٌ في كتابِ الأَنبياءِ،
هل قرَّبتُم لي ذبائِحَ وقرابينَ أَربَعينَ سنةً في البرِّيةِ يا بيتَ إِسرائيلَ.
بل حَمَلتُم خَيمَةَ موُلُوكَ ونَجْمِ إِلهِكُم رَمفَانَ التماثيلَ التي
صنعتُمُوهَا لتسجدوا لها. فأَنقلُكُمْ إلى ما ورَاءَ بَابِلَ».

هو قانون حتمي اكتشفه
بولس الرسول:
» وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى
ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق
«(رو 28:1). لأنه إمَّا أن ننشغل بالله ويكون هو مصدر معرفتنا وغاية
ما نريد أن نعرفه فينفتح ذهننا ويرتقي في معارف الله للبر والقداسة علماً وعملاً،
وإمَّا نستكثر معرفتنا على الله ونجري وراء معارف غريبة عن الله بل ولا تليق به
وحينئذ ينحط ذهننا ويتلاشى النور الذي فيه وتصير لذته فيما هو مرفوض فكراً وعملاً.

وهكذا لمَّا رفض بنو
إسرائيل الطاعة لصوت الله وقالوا بالحرف الواحد:
» لا أعود
أسمع صوت الرب إلهي
«(تث
16:18). ثم عملوا العجل الذهب وقالوا:
» هذه آلهتك يا إسرائيل
التي أصعَدَتْك من أرض مصر.
«(خر 4:32)، أسلمهم الله ليعبدوا جند السماء.

«فرجع الله
وأسلمهم ليعبدوا جند السماء»:

وفي هذا يقول هوشع
النبي:
» أفرايم موثق بالأصنام اتركوه. متى انتهت منادمتهم (بالخمر)
زنوا، زنى، أحبَّ مجانُّها أَحبُّوا الهوانَ
«(هو 4: 17و18). وتاريخ إسرائيل في جريهم وراء جميع آلهة الأمم
وأصنامهم بدأ من برية سيناء بعد خروجهم من مصر محمَّلين بالأصنام في أمتعتهم حتى
إلى بابل في السبي! لقد أكرموا الأصنام فأكرمتهم حتى أبلغتهم السبي وهوان الهوان.

واستفانوس في هذه الآية
يستشهد بما قاله عاموس النبي فيهم:

+ » هل قدَّمتم
لي ذبائح وتقدمات في البرية أربعين سنة يا بيت إسرائيل. بل حملتم خيمة ملكومكم
وتمثال أصنامكم نجم إلهكم الذي صنعتم لنفوسكم فأسبيكم إلى ما وراء دمشق قال الرب
إله الجنود اسمه.
«(عا
5: 2527)

وطبعاً معروف أن عبادة
عجل أبيس لها علاقة بعبادة الشمس المعبَّر عنها ضمن جنود السماء، واستمرت عبادة
الشمس والنجوم والأقمار حتى استشرت في إسرائيل في زمان الملوك.

والرب حذَّرهم من هذه
العبادات وهم في سيناء بعد خروجهم من مصر:

+ » لئلاَّ ترفع
عينيك إلى السماء وتنظر الشمس والقمر والنجوم كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك
لجميع الشعوب التي تحت كل السماء فتغتر وتسجد لها وتعبدها.
«(تث 19:4)

وقول استفانوس إن الرب
أسلمهم ليعبدوا جند السماء هي في حقيقتها لعنة وتخلية عن الشعب أفقدتهم محبة الله
وطمست حكمتهم.

أمَّا الأسماء الواردة
لهذه الآلهة فقد كثر القول فيها وتعددت الأسماء ومصدرها من مصر وأشور. أمَّا الفرق
بين ما وراء دمشق كما جاءت بلسان عاموس النبي، وما وراء بابل بلسان استفانوس
فعاموس النبي قال هذه النبوة والأشوريون مرابطون في الشمال، الذين نهبوا إسرائيل
في الشمال وسَبَوْها فعلاً. ولكن بعد مائة سنة أيضاً حدث نفس الشيء وسُبُوا إلى ما
وراء بابل([20]).

والقصد من هذا هو تركيز
استفانوس على خيانة “الآباء” منذ الخروج حتى السبي في عبادة الأصنام بالرغم من
وجود خيمة الاجتماع والعبادات الرسمية اليومية والموسمية، وبالرغم من وجود الهيكل
وعبادته الفخمة الرسمية ورفع البخور صباحاً ومساءً ووقت الظهر.

كل هذا الكلام موجَّه
لرؤساء الكهنة وكل المسئولين عن العبادة، الذين اجتمعوا ليحققوا في شهادات زور ضد
استفانوس الذي نسبوا إليه
» أنه يتكلَّم كلاماً
تجديفاً
«ضد موسى والناموس، بينما كانت خيانتهم لله سارية من تحت
ممارستهم للطقوس!

المرحلة
الثالثة: بين الخيمة والهيكل (7: 44
50):

44:7و45 «وأمَّا
خَيمَةُ الشهادةِ فكانت معَ آبائِنَا في البرِّيةِ كما أَمرَ الذي كلَّمَ موسَى
أَن يعملَهَا على المِثَالِ الذي كانَ قد رآهُ.

التي أدخلها
أيضاً آباؤُنا إذ تخلَّفوا عليها معَ يشوعَ في مُلْكِ الأُممِ الذين طردَهُم اللهُ
مِنْ وجهِ آبائِنَا إلى أيامِ
داوُدَ».

وبعد أن أفرغ استفانوس
خبايا عبادة الشعب وفضح ما كان سارياً تحت خيمة مولوك وصنم رمفان، بدأ يتكلَّم عن
العبادات الرسمية، خيمة إسرائيل التي كان اسمها
» خيمة
“الاجتماع”
« وطبعاً الاجتماع معاً بالله، لذلك دُعيت كنيسة البرية وكان اسمها
أيضاً
» خيمة الشهادة «لأن فيها تابوت العهد: » تابوت الله
الذي يُدعى عليه “بالاسم” اسم رب الجنود الجالس على الكاروبيم
«(2صم 2:6)، الذي يحمل التوراة وقسط المن وعصى هارون، هذه كلها تحمل
شهادات دهرية على تدليل الله لإسرائيل لمَّا أخرجها من مصر. وهو يتكلَّم عن كونها
كانت في البرية محمولة على أكتاف اللاويين من محط إلى محط ومن وادٍ إلى جبل. فكانت
الخيمة تسير شهادة على مرافقة الله لشعبه:
» إن لم
يَسِرْ وجهك فلا تُصعدنا من ههنا
«(خر 15:33)، بمعنى أن العبادة بدأت وتأسَّست عبادة لا مكانية
ولا زمانية، صالحة لكل مكان وزمان، كما كانت في سيرها تحمل معنى التقدُّم. فهي
عبادة ترقى بالشعب طالما كان يسير وراء الله طائعاً سامعاً، وهذا في عُرْفنا هام
جداً.

ويقول أيضاً عن أصل
مثالها أنها مأخوذة في رؤيا سماوية ذات معايير فائقة، ولكن موسى طبَّقها على
الواقع الأرضي وصُنْعِ اليدين، ولكن المثال أصلاً غير مصنوع بيد، سماوي لا أرضي
وهذا
أيضاً أمر جد خطير.

وهذه بعد أن أكملت
غربتها في برية التيه مع الشعب، كشاهد على عقوقه ونكوصه وأصنامه التي كان يخفيها
في أمتعته وملابسه، والتي أدخلها معه في الأرض التي امتلكها قطعة وراء قطعة وفي
بلد وراء بلد، حتى استوطنت الخيمة “كنعان” حيث استوطن الشعب. ولكنها ظلت تحمل
غربتها في جلودها وأخشابها وتاريخها الطويل عبر الأكتاف وعبر السنين والأجيال، إلى
أن استقرت في ذمة داود (التابوت فقط)، الذي فرح بأن يصير خادمها فرقص أمامها رقصاً،
وهو يزفُّها إلى مكان استقرارها في بيدر أرونة اليبوسي، الذي تبرَّع ببهائمه ذبيحة
سلامة لوصولها حتى بيدره وبخشب نَوْرَجه أقام المحرقة:
» وكان داود
يرقص بكل قوته أمام الرب وكان دواد مُتنطِّقاً بأفود من كتان. فأصعد داود وجميع
بيت إسرائيل تابوت الرب بالهتاف وبصوت البوق
«(2صم 6: 14و15). وهكذا أسكنها في مدينة داود، أي جبل صهيون.

كل هذا واستفانوس
يتكلَّم من أعمق مشاعره ليحرِّك مشاعر سامعيه، وهيهات. لأنه كان يتكلَّم شاهداً عن
خيمة الشهادة، أمَّا هم فكانت عقولهم وأفكارهم في خيمة مولوك الذي كانوا يعبدونه
ويضحُّون له بأن يجيزوا أولادهم في النار. هذا الفجور الذي أَهَّلتهم بالنهاية أن
يحكموا بالصلب على مَنْ وطأت أقدامه الأرض وعرشه قائم في السماء، أو بالرجم على
إنسان ينادي بالخلاص ويصنع الآيات والمعجزات.

هما خيمتان متلازمتان
سارتا معاً واستوطنتا معاً، ولهذه شهود ولهذه شهود، وابن الجارية يضطهد ابن
الحرّة!!

46:7و47 «الذي
وَجَدَ نعمةً أَمامَ الله والتمسَ أَن يَجِدَ مسكناً لإلهِ يعقُوبَ.

ولكن سليمان
بنى له بيتاً».

القصة تبدأ عندما بنى
داود لنفسه بيتاً:

+ » وكان داود
يتزايدُ متعظماً والربُّ إله الجنودِ معه. وأرسل حيرامُ ملك
صور رُسلاً
إلى داود وخشبَ أرزٍ ونجَّارينَ وبنَّائينَ
فبنوا
لداودَ بيتاً.
«(2صم 5: 10و11)

وبدأ ضمير داود يثقل
عليه، كيف يسكن بيتاً من أرز وتهيأ له أن الله يسكن في خيمة من جلود وشقق.
فالمسألة واضحة أنها محاولة تغطية لضميره، فلا الله قال له ابْنِ لي بيتاً ولا هو
فكَّر في هذا إلاَّ بعد أن بنى لنفسه بيتاً!!

+ » وأن الملك
قال لناثان النبي انظر، إني ساكنٌ في بيتٍ مِنْ أرزٍ وتابوت الله ساكنٌ داخل

الشُّققِ
(ألواح). فقال ناثان (النبي) للملك اذهب افعل كُلَّ ما بقلبِكَ لأن الرب معك.
«(2صم 7: 2و3)

+ » وفي تلك
الليلة كان كلام الرب إلى ناثان (النبي) قائلاً: اذهب وقُلْ لعبدي دواد هكذا قال
الرب، أأنت تبني لي بيتاً لسُكْناي، لأني لم أسكن في بيتٍ منذ يومِ أصعدتُ بني
إسرائيل مِنْ مصر
إلى هذا اليوم، بل كنتُ
أسيرُ في خيمةٍ وفي مسكنٍ … أُقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبِّت مملكته
هو يبني بيتاً لاسمي.
«(2صم 7: 46و12و13)

واضح كل الوضوح أن مبدأ
الله أنه: من غير المقبول أن يكون له بيتٌ، وكأنه يسكن في بيوت كالناس. ولكن لأن
داود وجد نعمة في عينيه لم يشأ أن يردَّه وأخبره أن ابناً له يبني هذا البيت “لاسم”
الله. حيث يجتمع الشعب ويعبد الاسم الكريم. فالهيكل صار يحمل “الاسم” للصلاة
» بيتي (الذي لاسمي) بيت الصلاة يُدعى «(مت 13:21). فهو بيت الله حقاً إن كانت فيه الصلاة حقاً وإلاَّ » هوذا بيتكم
يُترك لكم خراباً.
«(مت
38:23)

إن عين استفانوس على
حقيقة علاقة هيكل الله بالصلاة الحقَّة، وباسم الله الذي يُعبد فيه.

وسيان إن كانت خيمة
تطوى وتُحمل على الأكتاف، أو هيكل من رخام وتُحف مذهَّبة. فالعبرة الأُولى
والوحيدة هي “اسم الله” الذي يُعبد فيه بالحق فهو الذي يعطيه صفته ونسبته
لله!!

48:750
«لكِنَّ العليَّ لا يسكُنُ في هياكِلَ مصنُوعاتِ الأَيادي، كما يقولُ النبيُّ:
السماءُ كُرسيٌّ لي والأَرضُ مَوطِئٌ لقدميَّ، أيَّ
بيتٍ
تبنُونَ لي يقولُ الربُّ وأَيٌّ هوَ مكانُ راحتي، أليست يَدِي صَنَعَتْ هذهِ
الأشياءَ كُلَّها».

«لكن
العليَّ لا يسكن في هياكل»:

«لكن»: هنا تفيد
الاستثناء الحتمي، ولكن ممَّ يكون الاستثناء؟ واضح أنه من آلهة الأمم الكاذبة!
فأصنامها تسكن داخل الهياكل المشيَّدة بالرخام والمرمر والمذهَّبة بالذهب والفضة،
ذلك قبل أن يشيِّد سليمان هيكله بأزمنة كثيرة

وسحيقة.

» العلي «

لذلك يقول أيضاً » العلي «وبالعبرية Elyon = غyistoj =
The Most High. والمعنى هو العلي عن كل الآلهة الكاذبة،
كنايةً عن الله مباشرة. وأول ما جاءت
جاءت في (تك
18:14)، (تث 8:32) ثم في (دا 26:3).

وبولس الرسول يُعيد
تأكيدها ويعطيها الأسباب:
» الإله الذي خلق العالم
وكل ما فيه هذا إذ هو ربُّ السماءِ والأرضِ لا يسكن في هياكل مصنوعةٍ بالأيادي
«(أع 24:17). وهذا هو أول صدى لكلام استفانوس الذي رسخ في ذهن بولس
الرسول وتمعَّن فيه مليًّا وعاد إلى أصوله في الأسفار وكوَّن عليه لاهوته. ولاحظ
هنا قوله:
» الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه
«بمعنى أن أي شيء في
العالم حتماً هو مخلوق، ويستحيل أنَّ الخالق يسكن أو يحتويه المخلوق. ثم عاد
وأكَّد:
» هو رب السماء والأرض
« فهو حتماً لا يسكن في واحدة ويترك الأخرى، » لا يسكن في
هياكل مصنوعة بالأيادي
«
علماً بأن هذه بديهية جبرية ودرس الأولاد الصغار في مدرسة الكتبة، ولكن ق. بولس
يقوله هنا لأعظم حكماء العالم لذلك يقول:
» اختار الله
جهَّال العالم ليخزي الحكماء.
«(1كو
27:1)

فاستفانوس هنا يقول
حقائق أساسية في العقيدة والإيمان والعبادة، وينزِّه الله عن أن يكون على مستوى
الأصنام والآلهة الميتة التي تحويها الهياكل، بل ويكمِّل ق. بولس الكلام لهؤلاء
الحكماء بأن الله
» لا يُخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلى شيء إذ هو
يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء
«(أع
25:17) بمعنى أن الذي خلق الأيدي كيف يُخدَم بالأيدي؟ والذي خلق الجبال كيف يسكن
في الهياكل المبنية بالحجارة؟ وأغلى وأعز وأعظم ما يحاول الإنسان تقديمه إلى الله
الله في غِنَى عنه، لأنه هو خالقه. هنا ق. بولس يحصر عقل الحكماء في
الروح والحياة: » لأننا به
نحيا ونتحرَّك ونُوجد
«(أع
28:17). وهذا كله انبثق في قلب ق. بولس وأخذ وعيه الإلهي الكامل بعد
أن سمع خطاب ق. استفانوس.

والعجيب حقاً أن هذا
سمعه الربيون وعلماء اليهود ورؤساء الكهنة والفريسيون أيضاً فصرُّوا على أسنانهم؛
والعجيب أيضاً أنهم صاروا وكأنهم يسمعون تجديفاً، بل وسدُّوا آذانهم لئلاَّ تتلوث
باسم البار، وهكذا انقلبت الموازين،
ولكن
» إذا انقلبت الأعمدة فالصِدِّيق ماذا يفعل. «(مز 3:11)

والذي بنى الهيكل (سليمان) وأخذ منظره
الجميل بفكره وسلب لبَّه عاد ونظر إلى فوق معتذراً أن هذا لا يليق بالله بل وكأنه
عملٌ لا ينبغي أن يُعمَل، فقال لله في صلاته:

+ » لأنه هل
يسكن الله حقاً على الأرض؟ هوذا السموات وسماء السموات لا تَسَعُك فكم بالأقل هذا
البيت الذي بَنَيتُ.
«(1مل
27:8)

 ثم عاد سليمان واكتفى
من الله أن يسمع، مجرد سمع، الصلاة التي يصلِّي بها فيه لاسمه وتكون عيناه تنظران
من علٍ إلى
مَن
فيه:

+ » فالتفِتْ
إلى صلاة عبدك وإلى تضرعه أيها الرب إلهي، واسمع الصراخ والصلاة التي يصليها عبدك
أمامك اليوم. لتكن عيناك مفتوحتين على هذا البيت (بالعبري
bayth) ليلاً ونهاراً على الموضع الذي قُلتَ أن اسمي
يكون فيه … واسمع تضرُّع عبدك وشعبك إسرائيل الذين يصلُّون في هذا الموضع
واسمع أنت
في موضع سكناك في السماء.
وإذا سمعتَ فاغفر.
«(1مل 8: 2830)

أمَّا الهيكل أو البيت
أو البناء الذي يمكن أن يسكن فيه الله حقاً فهو
» لأننا نعلم
أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله غير مصنوع بيدٍ
أبديٌّ
«(2كو
1:5)،
» أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم
«(1كو 16:3) حيث تُقدَّم الذبائح العقلية!

ولكن يلزمنا أن نؤكد أن
دفاع استفانوس بالنسبة للهياكل المصنوعة بالأيادي وعدم لياقتها لسُكنى الله التي
استشهد بالأنبياء بخصوصها، فالقصد الأساسي من ذلك هو أن يلومهم على ترك العبادة
بالروح والالتفات للعبادة بالعين واليد والجسد، الأمر الذي ركز ودقق وشدَّد عليه
المسيح نفسه:
» الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا! «(يو 24:4)

ولا يضير بعد ذلك
السجود بالروح والحق أن يكون لله في خيمة أو في هيكل مشيَّد باليد. ولكن الخطر أن
يفلت ذهن الإنسان ويحسب أنه استطاع أن يحصر الله في هيكل بأن يجمِّله بالذهب
والفضة والتحف، حتى يدخل الله إلى عمل يديه حاسباً أنه عمل مكاناً لراحة الله. مع
أن الأصل والأساس هو أن الله طالب الساجدين له بالروح ليريحهم هم، لذلك يعاتب
وينفي أن يكون له مكان راحة على الأرض
» وأيٌّ هو مكان راحتي
« وهذا واضح غاية الوضوح في قول إشعياء نفسه: » لأنه هكذا
قال
العلي
المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه،
في الموضع المرتفع المقدَّس أسكن ومع
المنسحق والمتواضع الروح لأُحيي روح المتواضعين ولأُحيي قلب المنسحقين
«(إش 15:57). بمعنى أن الهياكل ليست لله ولكن للمتواضعين والمنسحقين
لينالوا الحياة من الله! فهو ساكن الأبد القدوس اسمه، ولكن لا يمانع أن يساكن
الإنسان ليريحه ويحييه!

كذلك نحذِّر القارئ من
أي فكر
يستنقص
من قيمة الطقس
الذي أملاه الله لموسى بخصوص الذبائح، فالذبائح كانت دائماً
مرفوضة ومكروهة من أيدي المستهترين الذين يكسرون نواميس الله عن عمد أو يستغلونها
لأنفسهم، لذلك امتلأت النبوات
بجحد الذبائح بالنسبة للكهنة المفسدين وللشعب
الذي يخاتل الله،
فالكهنة يسرقون الشعب ويقدمون لله الذبائح، والشعب يعبد
آلهة غريبة ويقدِّم لله الذبائح، فصارت الذبائح إهانة لله مرفوضة مائة بالمائة.
ولكن الطقس نفسه حذار أن يعيبه إنسان وهو من صنع الله وترتيبه، ولقد جانب ذهبي
الفم الصواب عندما قال إن الذبائح فرضها الله للوقاية من عبادة الأصنام
([21]).

ولكن إذا فهمنا لاهوت
الصليب عن صحة وعمق ونبوة، نجد أن الذبائح كلها وخاصة الفصح والمحرقة كانت في
طقسها ومفهومها الإلهي نبوَّة عملية على ذبح

المسيح
على الصليب. فالخاطئ كان يتقرَّب بالذبيحة إلى الله فعلاً فيُرضَى عنه، ولكن لا
تزول خطاياه إلى أن جاءت الذبيحة الحقيقية التي تجمع الرضى (السلامة) مع الغفران
الكلي والصفح. فلو رفعنا طقس الذبائح تاه عنَّا معنى الصليب وعمقه في التاريخ.

القديس استفانوس حصر
نفسه في المقارنة بين الهيكل والخيمة وبين الغُربة على الأرض والحركة والثبوت في
مكان واحد كأنه استيطان لله في المكان والزمان!! ولم يتعرَّض للذبائح قط!

واضح الآن لدى القارئ
من مجمل هذا الدفاع أنه ظلَّ يسوق الأدلة والبراهين الواحد تلو الآخر ليوقظ ضمير
الذين يحاكمونه، محوِّلاً الاتهامات التي قدمتها المحكمة إلى قضايا عامة تمس الأمة
كلها في ماضيها وحاضرها، وبالتالي تمسُّهم هم أكثر مما تمسُّه هو، بحكم مركزهم
ومسئوليتهم عن كل تاريخ عقوق الأمة.

أمَّا فيما يخص الاتهام
بقلب نظام موسى وانتهاكه الموجَّه إليه، فالأمة كلها مسئولة عن ذلك، ممثلةً في
السنهدريم الموقَّر الذي وقف أمامه ليدافع عن الاتهام الموجَّه إليه، وهو بالأساس
موجَّه للأمة ولهم على وجه الخصوص، وهذه التهمة قد أقامها جميع الأنبياء وركَّزوا
عليها وأفاضوا واستفاضوا وليس مجال لمزيد. فالأسفار المقدَّسة مليئة بالسخط على
الأمة من أيام موسى نفسه الذي قال في آخر يوم في حياته وبالحرف الواحد:

+ » أفسد له
الذين ليسوا أولاده … جيل أعوج ملتوٍ. ألربّ تكافئون بهذا يا شعباً غبياً غير
حكيم؟ … إنهم أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم … لولا أن صخرهم باعهم والرب
سلَّمهم.
«(تث
32: 5و6و28و30)

أمَّا فيما يخص التجديف
على الله على أساس أنه قال إن المسيح يقول بهدم الهيكل وكأنَّ الهيكل هو الله، فهو
لم ينكر قوله ولكنه أَرجع القصة للآباء البطاركة والأنبياء الذين أفادوا بهذا
الوضع وأفاضوا في شرحه بتوسع ووضوح، وصار هذا من أساسيات تعليم الأسفار والأنبياء
بنوع خاص من جهة مجيء المسيح وانتهاء عصر الهيكل في الأيام الأخيرة .

والخطأ ليس عند
استفانوس في ذلك، ولكن عند القضاة وكل السنهدريم الذين أخلوا ذهنهم تماماً كون هذه
القضية هي محور التعليم في الأسفار وليست أمراً مستجداً يتحدث فيه.

ولسان حال استفانوس في
دفاعه: “أنا واقف هنا لأُحاكم لا لأني أُجدِّف على ناموس موسى أو الله أو على
الهيكل، ولكن أنا أرفع هذه التهمة وأردّها إلى أصلها الذي بدأها الشعب وتمادى فيها
فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الأمة. فهذه هي روح الشعب منذ أيام موسى في مقاومة
الله ومعاندته
» طول النهار (والزمن) بسطت يديَّ إلى شعب معاند ومقاوم «(رو 31:10). ثم معاندتهم لأنبيائه ومقاومتهم واضطهادهم وقتلهم، هذه
الروح التي استلموها بالميراث من هؤلاء الآباء عينهم. فأين خطأي في هذا والخطأ خطأ
الأمة وأنتم الآن ممثلوها”.

قال استفانوس هذا بكل
هدوء في الأول وبكل عمق وتأصل وتسلسل بفكر صاحٍ وضمير مرتاح هادئ حتى خطف عقولهم
من عمقه البليغ وصدقه الهادف.

وقد بدأ بالبطاركة
الأوائل ليرفع القضية إلى بدء التاريخ، ولكنه لم يتركهم أبرياء بل حمَّلهم نفس هذه
الروح المتمردة الكارهة لله والمستهينة بكل نعمة إذ حسدوا يوسف أخاهم الموهوب من
الله وأرادوا قتله، وفعلاً باعوه وأخبروا أباهم بأنه قُتل!! ثم باعوه غريباً في
أرض غريبة. هذه بداية الروح المتمردة على الله وعلى تدبيره وأعماله ورحمته على بني
البشر. فبينما الله يخطط
لخلاصهم
خططوا هم ضدَّه.

ثم دخل استفانوس في
تاريخ موسى فانكشف
روح التذمر
والتمرد على الله بل وإهانة الله حسب تعبير الله نفسه “لقد أهانوني” لا مرة
ولا اثنتين بل على مدى الأربعين سنة في سيناء.
وبينما قد جعل الله موسى وسيطاً بينه وبين الشعب وكان أحلم بني الإنسان، إلاَّ
أنهم رفضوه ورتبوا لرجمه هو وهارون، مع أنه كان قد أعطاهم الناموس والأقوال الحية.

ثم انتقل أخيراً ونهائياً
من الهيكل من صورته الأُولى، وهي الخيمة، باعتباره أصلاً كان للتواجد مع الله
“خيمة الاجتماع” أثناء مسيرة الشعب. فالهيكل في أصله رحَّالة راحل مع الله في
رحيله إلى الأبد. فأوضح أن ما قاله الأنبياء: كونه لا يصلح أن يكون مقاماً ومقراً
لله الساكن الأبد! فإن قال المسيح بهدمه فهذا لا يضير الله بل يرفع العبادة من ضيق
الحرف والجسد والمادة الميتة إلى رحب الروح والحق والسماء.

وكان استفانوس في كل
نقلة من نقلات التاريخ يكشف هذه الروح المعاندة والمقاومة لله وللروح، وكان يزداد
حرارة وانفعالاً وهو يسرد التاريخ من البدء نازلاً نزولاً سريعاً في هذا المنحدر
الأخلاقي التجديفي، من الفَعَلَة الأصليين إلى مَنْ جاءوا بعدهم حتى بلغ إلى
الجالسين حوله، يجترُّون نفس الروح العصيَّة ونفس الداء في مقاومة روح الله، حتى
انفجر فيهم باعتبارهم وحدهم المسئولين الآن عن تطبيق هذه الروح نفسها في قتل
المسيح. فاستمد من روح الله روح قضاء، وروح نقمة ليصبها كنبي على رؤوسهم قبل أن
يُسلم الروح لله.

ثم عجبي على أعاظم
علماء الغرب المحدثين الذين استهانوا بهذا الدفاع وقالوا عنه دون رويَّة أنه خارج
عن موضوع التهمة. مع أنه
وللحق، هو كما قال “بنجل Bengel
أحد العلماء القدامى
إنه “وثيقة روحية
ثمينة

documentum spiritus preciosum([22]).

 

الانتقال من
الدفاع إلى الهجوم

[51:7]

استفانوس
يكشف أن السنهدريم الذي حكم على المسيح بالصلب

يحمل نفس
روح التمرُّد التي كانت في الشعب منذ خروجه من مصر

 

51:7 «يا قُساةَ الرِّقابِ وغَيرَ المختونينَ بالقلوبِ والآذانِ
أَنتُم دائماً تُقاومونَ الروحَ القُدسَ، كما كان آباؤُكُمْ كذلِكَ أنتُمْ».

لقد أيَّده الله بروح
نبي، والروح القدس يتكلَّم في فمه بلغة العهد القديم لأنه يخاطب قوماً يعيشون في
القديم بل في الظلام، تمسكوا بالظلمة فعميت عيونهم ولعنوا الشمس، فارتدت اللعنة
عليهم ظلاماً لن تشرق عليه شمس.

«يا قُساةَ
الرقاب»:
sklhrotr£chloi

+ »
وقال
الرب لموسى رأيت هذا الشعب وإذا هو شعبٌ صُلبُ الرقبة فالآن اتركني ليحمَى
غضبي عليهم
وأُفنيهم.
«(خر 32: 9و10)

+ »
فإني
لا أصعد في وسطك لأنك شعبٌ صُلبُ الرقبة لئلاَّ أُفنيك في الطريق.

«
(خر 3:33)

+ »
وكان
الرب قد قال لموسى: قُل لبني إسرائيل أنتم شعبٌ صُلبُ الرقبة، إن صعدت لحظة
واحدة في وسطكم أَفْنيتُكم.
«(خر 5:33)

+ »
فأسرع
موسى وخرَّ إلى الأرض وسجد. وقال إن وجدتُ نعمة في عينيك أيها السيد فَلْيَسِرْ
السيد في وسطنا فإنه شعب صُلبُ الرقبة واغفر إثمنا وخطيتنا واتخذنا ملكاً.

«
(خر 34: 8و9)

+ » فاعلم أنه ليس
لأجل برِّك يُعطيك الرب إلهُك
هذه الأرض الجيدة لتمتلكها لأنك شعبٌ صُلبُ الرقبة. «(تث
6:9)

والمفهوم من وصف صُلبُ
الرقبة أنه شعب غير مطيع لأن الطاعة يُكْنى عنها بإحناء الرأس أو إحناء الرقبة تحت
النعم والأمين. والعكس صحيح فالصُلب
الرقبة لا يحني رأسه
للحق أو رقبته للطاعة وحمل نير الله، وكأنها قُدَّت من حديد أو عصيان ونمت على
الكبرياء والتمرُّد وتقلَّصت من غياب النعمة ومن المقاومة والعناد. وعلاجها عند
الرب معروف. ويُلاحِظ القارئ أن الكلمة اليونانية التي تعبِّر عن ذلك تتكون من
جزئين: “سْكِلروزُس” وهو مرض التصلُّب (مثل الذي يصيب الشرايين فتصبح مهددة بفقدان
الحياة)، والثانية “تراخيلوس” ومعناه رقبة.

«وغير
المختونين بالقلوب
¢per…tmhtoi
kard…aij
والآذان kaˆ
to‹j çs…n
»:

+ » وإني أيضاً
سلكت معهم بالخلاف وأتيت بهم إلى أرض
أعدائهم
إِلاَّ أن تخضعَ حينئذٍ قلوبهم الغُلفْ (غير المختونة) ويستوفوا حينئذٍ عن
ذنوبهم.
«(لا 41:26)

+ » فاختنوا
غرلة قلوبكم ولا تصلِّبوا رقابكم
بعد. «(تث 16:10)

+ » اختتنوا
للرب وانزعوا غُرلَ قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم لئلاَّ يخرج كنار
غيظي فيُحرِقُ وليس مَنْ يُطفئُ بسبب شر أعمالكم.
«(إر 4:4)

+ » لأن كل
الأمم غُلف، وكل بيت إسرائيل غُلفُ القلوب.
«(إر 26:9)

المعنى واضح من الآية
الأخيرة التي لإرميا النبي هنا، فإن كانت الأمم غُلْفاً بالجسد، فإسرائيل غُلف
القلوب. والمعنى أن إسرائيل فقد الطاعة ونقض العهد مع الله من داخل قلبه، لأن
غُلْف الأمم معناه أنهم لم يدخلوا في عهد مع الله، أمَّا إسرائيل فعن إبراهيم
أبيهم أخذوا الختان علامة إيمان لعهد مع الله فغُلْفة القلوب أسوأ ما يمكن أن
يُنعتَ به إسرائيلي، لأن الإسرائيلي هو إسرائيلي بالختانة فقط، فإن كان قد
فقد قيمتها بالقلب لا يكون إسرائيليـًّا بعد، بل هو كالأممي بالنسبة لله، بل ألعن،
لأن الأممي لا يزال باب محبة الله مفتوحاً أمامه لكي يُدخله عهده، ولكن إسرائيل
بعد أن دخلت العهد وخانته فقد حلَّ عليها غضب الله.

فإذا وضعنا صلابة
الرقبة مع غلافة القلب كصفة لإسرائيل، فالمعنى أنهم لمَّا فقدوا الطاعة لوصايا
الله تنجَّست قلوبهم وراء آلهة غريبة وسجدوا لها. هنا المعنى أن إسرائيل أخذ
موقفاً عدائيـًّا للناموس (وصايا الله) بعدم الطاعة، وموقفاً عدائيـًّا تجاه الله
نفسه. وعبدوا آلهة غريبة ففقدوا العهد.

» والآذان «+ » مَنْ أُكلِّمهم وأُنذرهم فيسمعوا؟
ها
إن أُذُنهم غلفاءُ فلا يقدِرونَ أن يصغوا، ها إن كلمة الرب صارت لهم عاراً، لا
يُسرُّونَ بها.
«(إر 10:6)

وحتى الأُذن!! وهي آخر
أمل للإنسان لكي يسمع بها إنذارات الرب فيرجع ويتوب. هكذا يراها الله بفم إرميا
النبي، فإذا تنجَّست الأُذن بسماع أغاني ومدائح الآلهة الغريبة وسرَّت بأناشيدها
وأوصافها وزاغت وراء معارف شيطانية، فيكون الإنسان قد قفل على نفسه باب الرجاء.
فإن تقسَّت الرقبة بعدم الطاعة فربما ختانة القلب تردُّها بالأمانة للعهد
والتمسُّك به، وإن تقسَّت بعدم الطاعة، وتنجَّس القلب بفقدان الأمانة للعهد بقيت
الأُذن تسمع إنذارات الله وكلامه فيضيق الإنسان ويعود. ولكن إن صارت الأُذن إلى
غلفتها بالصمم تجاه كلام الله وصار لها ثقيلاً وكأنه “عار” ولا سرور فيه، فهذا هو
شعب إسرائيل الذي صلب إلهه!! واستفانوس يخاطب السنهدريم هذا الذي صلب إلهه!! فهل
تجنَّى استفانوس أو خرج عن حدود حكم الله العادل؟ لقد أسمعهم صوت الله الآب نفسه!!

يقول العلماء إنه بهذا
فقد قضيته، ولكن هل كل الذي قاله يخص قضيته، إنها قضية الله والمسيح، وهم الذين
أوقفوه موقف المدعي العام عليهم وعلى الأمة كلها لما قدَّموه للمحاكمة باتهام هم
متلبِّسون فيه أبـًّا عن جد. وهو كان يحامي عن نفسه، نعم ومائة بالمائة، لأنه كان
يحامي عن قول الله وقضائه. والدليل القاطع على ذلك أنهم قتلوه تماماً كما قتلوا
ابن الله. فقضية استفانوس متخلِّفة عن قضية المسيح ومبنية عليها، فإذا كان الحكم
واحداً كان دفاع استفانوس على مستوى المسيح والله حقاً!!!

إن دفاع استفانوس هو
بالحق دفاع الكنيسة الجديدة ودستورها الذي انتهجته بعد استفانوس.

«أنتم
دائماً تقاومون الروح القدس»:

+ » في كل ضيقهم
تضايق وملاكُ حضرَتِهِ خلَّصَهُم، بمحبته ورأفته هو فكَّهم ورفعَهُم وحَمَلهُم كل
الأيام القديمة ولكنهم تمرَّدوا وأحزنوا روح قدسه، فتحوَّل لهم عدواً
وهو حاربهم.
«(إش 63:
9و10)

الأمر الجديد فعلاً على
السنهدريم الذي سمعه من استفانوس من جهة تاريخ آبائهم الذين يحملونه رضوا بذلك أم
لم يرضوا، هو أن عدم طاعة آبائهم لله ومقاومتهم لوصاياه وإنحرافهم بالعبادة نحو
آلهة أخرى وعدم سماعهم لإنذاراته المتوالية لم يكن واضحاً لهم أنه مقاومة صريحة
لله!! ولكنهم كانوا كأنهم يجرِّبون الله ظانين أنه لا يُحسب عليهم:

+ » إن جميع
الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية وجرَّبوني الآن
عشر مراتٍ،
ولم يسمعوا لقولي، لن يروا الأرض التي حلفتُ لآبائهم، وجميع
الذين أهانوني لا يرونها.
«(عد 14: 22و23)

هنا استطاع إشعياء
النبي بروحه النبوية التي ما أسهل عليها أن تخترق الأزمنة والقلوب لتكشف ما خبأه
الزمن وما انطوت عليه القلوب، استطاع أن يرى ويُدرك أنهم كانوا قد أحزنوا روح الله
القدوس بالفعل، وكانوا يقاومون الروح القدس كما قالها استفانوس صراحة. ومعروف أن
الخطية ضد الروح القدس لا تُغفر لأنه الوحيد الذي يقدمنا للغفران كمحامي البشرية،
لذلك تقول آية إشعياء النبي:
» وهو حاربهم « علماً بأن الشعب نشروا إشعياء النبي بمنشار الخشب نصفين!! أيام
مَنسَّى الملك.

أمَّا قوله » دائماً « فالمقاومة هنا شملت كل الذين كان فيهم روح الله، أي الأنبياء
والقديسين الذين كانوا يتكلَّمون بروح الله. فعداوة رؤساء الشعب وقادته وحكامه
وكهنته للأنبياء عموماً بلا استثناء كانت لا تطاق، أمَّا العداوة للأنبياء فهي
عداوة لروح الله الذي يتكلَّم به النبي والذي لم يكونوا يطيقون سماعه
وهو ينتقد خيانتهم لله وللوصايا وللأمانة في العبادة والسلوك ومعاملة
الشعب والاستهتار بقيم الله والناموس.

كان يتحتم لاستفانوس أن
يسترسل في اقتفاء هذه الروح عينها التي انتهت بهم إلى قتل المسيح، فإن كانوا قد
قتلوا الذين أنبأوا بمجيئه لأنهم لم يكونوا يطيقون أن يكون الآتي في خصومة علنية
معهم وضد سلوكهم، فلمَّا أتى قالوا:
» هلمُّوا نقتله فيكون
لنا الميراث.
«(مر 7:12)

لذلك عاد وأوضح هذا بعد
ذلك بقوله:
» أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم “وأنتم أكملتم الكيل” وقتلتم
البار
«!! قتلوه بعد أن
قاوموا الروح الذي كان يتكلَّم به ويقنع ويعمل الآيات والقوات والمعجزات ويقيم
الأموات ولكن بلغت المقاومة أقصاها بصلبه ووقفوا شامتين!!

52:7 «أَيُّ
الأَنبياءِ لم يضطهِدهُ آباؤكُمْ وقد قتلُوا الذينَ سَبَقُوا فأَنبأُوا بمجيءِ
البارِّ الذي أنتم الآنَ صِرتُمْ مُسلِّميهِ وقاتليهِ».

لا يوجد تعليق على هذه
الحقيقة لنوضِّحها ونثبِّتها ونؤكِّدها أكثر من قول المسيح نفسه لهم مواجهة:

+ » ويلٌ لكم
أيها الكتبةُ والفريسيُّونَ المراؤُونَ لأنكم تبنونَ قبور الأنبياءِ وتزينون مدافن
الصديقين، وتقولون لو كنَّا في أيامِ آبائِنا لَمَا شاركناهم في دمِ الأنبياءِ.
فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناءُ قَتَلَةِ الأنبياءِ. فاملأوا أنتم مكيال
آبائكم. أيها الحيَّات أولاد الأفاعي، كيف تهربون من دينونة جهنم. لذلك ها أنا
أُرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلِبُون ومنهم تجلدون في مجامعكم
وتطردون من مدينةٍ إلى مدينةٍ.
«(مت
23: 2934)

هنا نتعجَّب حقاً،
فالروح واحد والكلمات النارية الصريحة الجريئة بالمواجهة واحدة. والعجب أن
المخاطبين أيضاً هم بأنفسهم: فالذين سمعوا اتهام المسيح بآذانهم سمعوه بآذانهم من
استفانوس فجاء قول استفانوس على قول المسيح مثيلاً على مثيل، وبرز استفانوس واحداً
من الحكماء الذين أرسلهم المسيح لهم ليقتلوه.

لم يخشَ استفانوس كونهم
سيقتلونه لا محالة، ولكن هذا حسبه تكريماً فائقاً أن يُعامَل من هؤلاء كما عاملوا
المسيح. فهذه وثيقة مجد تؤهله للقيامة، ولكنه كان يخشى أن يَرجِمُوه قبل أن يشهد
للمسيح ويصب عقوق الأجيال السالفة كلها على رؤوسهم، وبنفس روح المسيح:
» املأوا أنتم
مكيال آبائكم
«!

 

الاتهام
الأخير الذي مات به وهو على شفتيه!!

[53:7]

 

53:7 «الذينَ
أخذتُم الناموسَ بترتيبِ ملائكةٍ ولم تحفظُوهُ».

لم يرد في العهد القديم
وخاصة في سفر الخروج أن الناموس أُعطي أو ترتَّب بواسطة ملائكة، لكن هذا التقليد
ظهر في أواخر العهد القديم وأوائل الجديد، وذلك لتجنُّب وضع الله كمتكلِّم ومُوصٍ،
وقد أُخذ هذا التقليد من إشارة واضحة تفيد ذلك وردت على لسان الله لموسى:
» ها أنا
مُرسل ملاكاً أمام وجهِكَ ليحفظَكَ في الطريق وليجيئَ بِكَ إلى المكان الذي
أعددتُهُ. احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرَّد عليه لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن
اسمي فيه. ولكن إن سَمِعتَ لصوته وفَعَلتَ كل ما أتكلَّم به، أُعادي أعداءك
وأُضايق مضايقيكَ. فإن ملاكي يسير أمامكَ …
«(خر 23: 2023)

واضح هنا أن هذا «الملاك»
له اسم الله وسلطان الله:
» لا يصفح عن ذنوبكم «و» اسمي فيه « ثم أن “الله هو المتكلِّم فيه”. من هذا نفهم أنه هو الذي سبق
وتكلَّم بكلام الله على جبل حوريب، وهو الذي أعطى الناموس، وهو الذي تكلَّم في نار
العليقة. كذلك نقرأ تلميحاً عن ذلك في سفر التثنية ولكن عن السبعينية يُترجم هكذا:

+ » وهذه هي
البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من
سيناء وأشرق لنا من سعير وتلأَلأَ سريعاً من جبل فاران مع عشرة ربوات قديسين عن
يمينه وكانت ملائكته معه … واستلم الشعب من كلماته الناموس الذي سلمنا
ميراثاً لجماعة يعقوب.
«(تث 33: 14)

ويبدو أن هذا التقليد
جاء تحاشياً كي لا يظهر الله في هيئة ملموسة أو بصوت مسموع، ولم يعلن ذلك الله في
البداية حتى لا يقلل هذا من هيبة الله، ولكن قليلاً قليلاً كان من اللائق أن
يتعلَّم الإنسان أكثر فأكثر أموراً أدق عن اللاهوت. لذلك نجد أن هذا أصبح تقليد
العهد الجديد: فبولس الرسول يقول ذلك:

+ » فلماذا
الناموس؟ قد زيد بسببِ التعديات إلى أن يأتي النسل الذي قد وُعِدَ له مرتَّباً
بملائكةٍ
في يَدِ وسيطٍ.
«(غل 19:3)

ووضع الناموس هنا في
نظر بولس الرسول أنه إضافة على العهد الذي أبرمه الله مع إبراهيم، كذلك:

+ » لأنه إن
كانت الكلمة التي تكلَّم بها ملائكة قد صارت ثابتة وكل تعدٍّ ومعصية نال
مجازاة عادلة.
«(عب 2:2)

كذلك لكي ندرك أيضاً أن
هذا التقليد استلمته الكنيسة من الربيين في العهد القديم نجده مذكوراً في كتابات
يوسيفوس المؤرخ اليهودي([23])
المعاصر للرسل وفيلو الفيلسوف اليهودي([24]) المعاصر لبولس
الرسول، وكتاب عهد البطاركة الاثني عشر([25]) وهو أبوكريفا
عهد قديم، وكتاب اليوبيل([26])
وهو أيضاً أبوكريفا عهد قديم.

أمَّا موقع هذه الآية
بعد أن ذكر كيف أنهم أسلموا البار وقتلوه، فلكي يوضِّح السر في عمى قلوبهم كيف لم
يتعرَّفوا على المسيح وهو المسيَّا الموعود الذي أُعطي أن يكمِّل كل شيء وبالأخص
الناموس نفسه كما أوصى موسى بفم الله أن نبيًّا مثلي يقيم لكم الرب إلهكم من
إخوتكم واسمي فيه وله تسمعون. فلو كانوا قد حفظوا الناموس باستقامة قلب وطاعة لصوت
الله وطهارة سيرة، فكان حتماً سيُستعلن لهم المسيح. وبهذا يكون استفانوس قد وضع
السبب في عثرتهم في المسيح، بمعنى أنه رفع عنهم أيضاً أي عذر في قتلهم للمسيح.

وبهذا يكون أيضاً
قد
أكمل هذه الوثيقة الروحية التاريخية التي صارت إلهاماً للكنيسة ولكل المدافعين عن
المسيحية ضد تهجُّم اليهود.

 

رجم
استفانوس

أول شماس
بوضع اليد وأول مدافع عن المسيحية وأول شهيد في الكنيسة

[54:760]

 

كان استفانوس وهو يلقي
خطابه أمام السنهدريم في حالة روحية فائقة ووجهه كان كوجه ملاك. وخطابه كان على
أعلى وعي بتاريخ الآباء والظروف الحقيقية التي عاشها الشعب أثناء وبعد الخروج
وحياة العصيان التي عاشها مع الله فرُفِضَ منه أول جيل بأكمله. وكان حديثه عن ظروف
استلام الناموس والعبادة وخيمة الاجتماع ثم تحولها إلى هيكل سليمان. هذا كله كان
في عُرف الفريسيين والناموسيين والكهنة بكل طبقاتهم كشفاً فاضحاً وتعرية للروح
التي تقوم عليها العبادة اليهودية بأكملها. فكلامه منذ البداية
عن بيع يوسف وتعرية أخلاق وسلوك آباء الأسباط حُسب كلامهُ هنا هجوماً على اليهودية
كلها. ولكن ما أن جاء إلى الهيكل حاسباً إياه وريث خيمة تُطوى، وأنه لا يليق بسكنى
يهوه الإله العظيم، حتى مسَّت المهاجمة كل الشعب المنتمي للهيكل والمتمسِّك به
كأعظم فخر للأمة كلها. وهنا تحولت الأسماع والأبصار عنه فعميت عيونهم عن وجهه
الملائكي أو بالحري شخصه الملائكي، والآذان سدُّوها عمداً بأصابعهم حتى لا تدخل
كلمة واحدة أخرى في مسامعهم. والمعنى: انتهى الوقت لسماع القضية وعدم قبول الدفاع،
فوجب الرجم. ولم تجد المحكمة وقتاً للنطق بالحكم، فالكل اندفعوا للتنفيذ، ويبدو أن
الشعب أيضاً وضع على أهبة الاستعداد، فانقضُّوا عليه وخطفوه. واليهود أمهر شعوب
العالم في اختطاف المطلوب القضاء عليهم حتى لو كانوا في آخر الدنيا.

54:7 «فلمَّا
سَمِعُوا هذا حَنِقُوا بقلوبِهِم وصرُّوا بأَسنانِهِم عليهِ».

«هذا»: يُقصد به
الجزء الأخير من الدفاع الذي يشمل عدم لياقة الهيكل لسكنى العلي، واتهامهم بقتل
الأنبياء والمسيح.

«حنقوا
بقلوبهم»:

بمعنى بدأت النقمة عليه
خفيّة من الداخل ولكن لم يستطيعوا كتمها، فتحوَّلت فيهم إلى الضغط على أسنانهم،
تعبيراً عن أنهم لو طالوه لقضموه بأسنانهم وهم ناظرون إليه وقد طار صوابهم.

55:7 «وأمَّا
هو فشَخَصَ إلى السماءِ وهو ممتلئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدسِ فرأَى مَجْدَ الله
ويسوعَ قائِماً عن يمينِ اللهِ».

يقول العالِم باريت إن
الإنسان المسيحي الشهيد أُعطي أن يرى المسيح آتياً إليه عند انتقاله([27]).
ولهذا يسمَّى شهيداً، أي صار شاهداً لله عياناً، بجوار الشهادة له.

56:7 «فقالَ ها أَنا
أَنظُرُ السَّمواتِ مفتوحةً وابنَ الإنسانِ قائِماً عن يمينِ اللهِ».

استفانوس لمَّا سلَّم
وديعة الإيمان الصادق للذين أرسلهم الله في هذا الاجتماع الخطير الهام، واطمئن أنه
قد انتهى عمله على الأرض تماماً، رفع عينيه نحو السماء بشخوص ثابت، حيث رأوا وجهه
قد تثبَّت وعينيه تثبتتا في التحديق في اتجاه واحد وحالته فائقة عن الطبيعة في
الهدوء والسلام، والوجه الملائكي يشع نوراً سماوياً، فعرفوا أن مجد الله قد انعكس
على وجهه. والأتقياء من الناظرين رأوا معه يسوع قائماً عن يمين الله. فحسبها
استفانوس فرصة آخر العمر أن يشهد بقيامة المسيح من الأموات وصعوده إلى السموات
وجلوسه عن يمين العظمة في السموات. فكانت الشهادة بأعلى صوته، لا كمن يؤمن وحسب،
ولكن كمَنْ يرى ويشهد بما يرى، فكانت هذه الشهادة ختام هذا الدفاع المسيحي
الإيماني المنقطع النظير الذي ساهم به هذا “الشماس” في خزانة إيمان الكنيسة ولاهوتها
ليبقى ذخيرة إيمان واعٍ راءٍ لكل من أعوزه الإيمان والوعي والرؤيا.

وبهذا يكون القديس
الشهيد استفانوس أول مَنْ نطق بقانون الإيمان برؤيا عن واقع منظور مبرهناً بتاريخ
يبدأ من إبراهيم عابراً بكافة مراحل الإيمان والعبادة والانتقال الهادئ الجميل من
عهد الناموس والختان لعهد الصليب والملء من الروح
القدس!! إلى
مجيء المسيح من السموات.

«ابن
الإنسان قائماً عن يمين الله»:

كان ذكر استفانوس
للمسيح بأنه
» ابن الإنسان «هو آخر مرة في العهد
الجديد يُذكر هذا اللقب، والمرة الوحيدة التي ذُكر فيها هذا اللقب خارج الأناجيل([28]).
وتُنطق بالعبرية كما نطقها المسيح هكذا
bar nasha ونطقها دانيال بالأرامي k. bar’nash الذي رآه هكذا: » كنت أرى في رؤى الليل
وإذا مع سُحب السماء مثل “ابن إنسان” أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه قدامه.
فأُعطِيَ سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه
سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض
«(دا 7: 13و14) (سنة 553 539 ق.م أيام حكم بلشاصر).

وهذا الذي رآه دانيال
القديس الطاهر المفتوح العينين بالنبوَّة، رآه أيضاً هذا القديس الطاهر المفتوح
العينين أيضاً على الواقع الحي المنظور. وبين الاثنين أكثر من خمسمائة عام.

ومن هذا تصبح شهادة
ومشاهدة استفانوس ونطقه العلني بأن المسيح هو ابن الإنسان القائم عن يمين الله،
تحقيقاً ما بعده تحقيق للعهد الماسياني،
الذي من أخص
خصائصه أن المسيح جلس على عرشه في السماء ليحكم ويسود في مُلْكه أو ملكوته الأبدي،
كقول دانيال، لا على إسرائيل وحسب، بل على كل الشعوب والأمم والألسنة‍!!

استفانوس بهذا افتتح
العهد الماسياني، لا كما كان ينتظره المتحمسون والغيورون لوطنهم إسرائيل، بل بنظرة
مسكونية كبرى كواقع نبوة دانيال. مسيَّا كل الشعوب، مسيَّا العالم بأسره.

ذلك في الوقت الذي كان
فيه الرسل بنوع خاص وجميع اليهود الذين آمنوا بالمسيح واعتمدوا لا يزالون تحت فكر
وعقيدة وممارسة الماسيانية من داخل الهيكل باعتبار أن المسيح لا يزال منحصراً في
أُمة اليهود.

فذهاب الرسل للصلاة في
الهيكل وفي كل مواسمه طلباً لوجه الله، كان معناه أنهم كانوا ما يزالون  يعتقدون
أن الله لا يزال منحصراً في الهيكل ويُطلب من هناك، وأن المسيح يُطلب من داخل
الهيكل. هذا المبدأ وهذه العقيدة كانت كفيلة بأن تطمس معالم العصر الماسياني الذي
بزغ وأنار على المسكونة آنئذ، ولو لم يعلم الرسل، والذي لمَّا علموه أخذوه باحتراس
شديد
» ولمَّا صعد بطرس إلى أورشليم، خاصمه الذين من أهل الختان
(المسيحيون) قائلين إنك دخلت إلى رجال ذوي غلفة وأكلت معهم. فابتدأ بطرس يشرح …
فلمَّا سمعوا ذلك سكتوا (مستغربين) وكانوا يمجدون الله قائلين إذاً أعطى الله
الأمم أيضاً التوبة للحياة
«(أع 11: 2و3و18). فرق شاسع بل هوة سحيقة تفصل بين أن يُطلب المسيح
في هيكل سليمان من داخل طقوس اليهود، وأن يُطلب ويُدخل إليه بلا عائق في عرشه في
السماء مع الله بالروح في القلب.

وعلى القارئ أن يتفحَّص
ويتعمَّق الكلام، فإن قول نبوَّة دانيال أنه بمجرد أن قدموا ابن الإنسان أمام عتيق
الأيام أُعطي في الحال سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب، يعني أن
هذه هي القيامة وهذا هو الصعود، وهذا هو الجلوس عن يمين الله.

هنا لا يوجد أي فاصل
زمني لعبادة وسيطة على الإطلاق بين الهيكل والعرش السمائي. فالرب شدَّد على
التلاميذ أن لا يبرحوا من أورشليم للخدمة والبشارة إلى
أن ينالوا قوة متى حلَّ الروح القدس عليهم ليبدأوا الخدمة، لا في الهيكل ولا من
الهيكل، بل من أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض. هنا شهادة استفانوس
تفيد أن ابن الإنسان نال كل سلطان، الأمر الذي صرَّح به المسيح نفسه بعد ظهوره بعد
القيامة
» دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا
جميع الأمم …
«(مت 28: 18و19).
استفانوس أعلن حالة تسلُّم المسيح سلطانه وملكوته الأبدي.

«قائماً عن
يمين الله»:

كثيرون راودتهم أفكار،
كيف رآه استفانوس قائماً وبينما الرب نفسه يقول إنه يكون جالساً. فمنهم مَنْ قال
إنه كان في الأول قائماً ثم بعد ذلك جلس، وهذا فكر بشري متحرِّك مع الزمن،
والسماويات تخلو من الحركة الزمانية والتغيير. وآخرون فكروا أنه ربما قام لتحية
أول شاهد شهيد له، وهذا أيضاً يخلو من رزانة اللاهوت. والحقيقة أن يكون جالساً لا
يعني أبداً الجلوس على الكرسي بل المساواة في الكرامة، فـ
» جلس عن يمين « تعني أنه ذو كرامة مساوية، لأن الجلوس لدى العظماء معناه الكرامة
والتكريم، والوقوف أو الجلوس عن اليمين معناه التساوي في الكرامة. فالجلوس هو حالة
قائمة بالروح وليست حالة قائمة بالجسد وبذلك يكون الوقوف كالجلوس([29]).

وحينما انفتح بصر
استفانوس الروحي على المسيح في مجده ابتُلع استفانوس بالرؤيا واختُطف عقله من واقع
الرؤيا التي أعطته وجوداً حقيقياً في الحضرة الإلهية. وهكذا انتهى من فكره ومن
نظره أمر حقد الحاقدين وعداوة القضاة ونية الرجم التي بيَّتوها قبل أن يبحثوا عن
شهود زور. وبهذا دخل القديس الشهيد استفانوس في الحالة الخاصة بالمستشهدين وهي
مشاهدة واقعية لله تنزع عن الشهيد كل إحساس بالعالم والجسد والأحقاد البشرية. ودخل
استفانوس في حالة ملائكية وهي التي كانت قد بدأت تحل عليه منذ بدء المحاكمة.

ويمدنا القديس هجسيبوس Hegesippos (القرن الثاني) وهو مؤرِّخ كنسي قديس، في كتابه المسمَّى “ذكريات Øpomn»mata” وهو ضد الغنوسيين (شيعة العارفين)، أخباراً عن القديس يعقوب
البار لمَّا حاكموه وقتلوه، أنه قال ما قاله ق. استفانوس، ولكن ليس عن رؤيا، وذلك
وقت استشهاده هو الآخر. وقد حَفِظَ لنا كتابه يوسابيوس القيصري في كتابه عن
التاريخ الكنسي
([30]).

وهنا ينبغي جداً أن
نستعيد ذكرى واقعة مبدعة حدثت مع نفس رئيس الكهنة المخادع قيافا ومع المسيح نفسه
بخصوص
» ابن الإنسان «وتسير القصة كالآتي:

» فسأله رئيس
الكهنة (قيافا) أيضاً وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع أنا هو!!
«ثم شرحها
المسيح شرحاً نبوياً جديراً بالاهتمام بقوله:
» وسوف تبصرون
ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء
«(مر 14: 61و62). وهنا يكون المسيح قد شرح نبوَّة دانيال مُعلناً
وكاشفاً لأول مرة أنه هو هو “ابن الإنسان” في نبوة دانيال، ثم زادها وضوحاً
أنه شرحها بمقولة رئيس الكهنة أنه هو «ابن المبارك». إذاً “فـ“ابن
الإنسان” هو “ابن المبارك”.
وهو أيضاً كما قال دانيال
» أعطوه
سلطاناً ومجداً وملكوتاً
«بقوله: «جالساً عن
يمين “القوة”»
أي له نفس قوة وسيادة وسلطان الله!! والمسيح نفسه سبق في حديثه
وحواره مع الفريسيين أن صرَّح بطريق غير مباشر أنه هو الرب. فالمعروف في
النبوات أن المسيح هو ابن داود وكانوا في ذات الوقت يخاطبونه بهذا اللقب.
فسألهم:
كيف إذاً يقول داود عن المسيح وهو ابنه
» قال الرب
لربي
« إن كان ابنه فكيف
يكون ربَّه إلاَّ أن يكون ابن داود هو الرب المساوي للرب يهوه؟ والجميل حقاً أنه
بمجرد أن قال المسيح ذلك لرئيس الكهنة المنافق مزَّق ملابسه الرسمية علامة
على حدوث تجديف علني في وجوده كشهادة تكفي للقتل!! ولأنه كان رئيس كهنة في هذا
الوقت فإن هذا التصرُّف (تمزيق ملابسه الكهنوتية) تُحسب له نبوَّة، لأن المسيح
بجلوسه عن يمين القوة، يكون قد
صار رئيس الكهنة الأعظم
الخادم للأقداس السماوية، فينبغي أن تمزّق أثواب رؤساء الكهنة جميعاً وتنتهي
خدمتهم على الأرض.

ثم إن رئيس الكهنة الذي
مزَّق ملابسه شهادة على تجديف المسيح لمَّا قال عن نفسه إنه ابن الإنسان، أصبح
مجبراً أن يحكم على استفانوس بنفس الحكم، لأنه أعلن شاهداً نفس إعلان المسيح،
وإلاَّ يكون قد أوقع نفسه في مناقضة قانونية لا يفلت منها. لذلك أيضاً ستكون له
دينونة مضاعفة.

57:7و58 «فصاحُوا
بصوتٍ عظيمٍ وسدُّوا آذانَهُم وهجمُوا عليهِ بنفسٍ واحدةٍ، وأَخرجوهُ خارجَ
المدينةِ ورجمُوهُ. والشهُودُ خَلَعُوا ثيابَهُم عندَ رجلَي شابٍّ يُقَالُ لهُ
شاوُل».

واضح أنه لم يَصْدر
حكم.

وواضح أن قانون الحكم
بالرجم بسبب التجديف يَسري حينما ينطق المجدِّف “بالاسم” أي باسم المسيح. فلا هذا
ولا ذاك حدث.

إذاً، فالنظام القضائي
في السنهدريم قد يواجه أحوال هياج مثل هذه يساير فيها رأي الجماهير. لأن الشعب في
حكم الرجم لابد أن يكون حاضراً وله كلمة، وهو الذي يقوم مع القضاة بالرجم. ولكن
يبدو هنا أن هياج السنهدريم أولاً على استفانوس بسبب عنف اتهاماته لهم، ثم أخيراً
بسبب إعلانه عن المسيح أنه صار بالفعل عن يمين الله بالتحقيق، أحرجهم أشد إحراج
وجعلهم يكفُّون عن أن يكونوا محكَّمين بل صاروا منفذين للحكم دون إدانة رسمية،
ولكي يُحْكِموا هذه التمثيلية سدوا آذانهم لكي لا يسمعوا بقية شهادته، وبهذا أعطوا
إشارة للجمهور ليسرع بالتنفيذ.

أين بيلاطس؟ » لا يجوز لنا
أن نقتل أحداً
«(أمر الحكومة
الرومانية) (يو 31:8)

معروف أن رئيس الكهنة
حنَّان انتهز فرصة خلوِّ مركز الحاكم بسبب الفترة بين ذهاب حاكم ومجيء آخر

وذلك
سنة (61 62)، وقبض على يعقوب البار أخي الرب وقتله. فلمَّا جاء الحاكم
خلع رئيس الكهنة بسبب تعدِّيه على أوامر الحكومة الرومانية([31]).

يُقال إن بيلاطس كان في
غيبة عن البلاد وقت محاكمة استفانوس انتهزها السنهدريم ربما سنة 36 أو 37م، ولكن
يُقال إن استفانوس استشهد مبكراً عن هذا التاريخ. ويُقال إنه كان على اتفاق مع
قيافا مكَّن السنهدريم أن ينفِّذ أحكامه في غيابه وهو في قيصرية.

ويقول العلماء بقضاء
اليهود إن هذه القضية يستحيل أن يحكم فيها الفريسيون بالإدانة على الإطلاق بالرجم،
ولكن أقصى حكم يمكن أن يسمحوا به هو الجلد 39 جلدة لأن التهمة بمثابة جنحة وليست
جريمة، وتعتبر عندهم “إهانة” للسنهدريم وليس تجديفاً على الله([32]).

«وأخرجوه
خارج المدينة»:

+ » فكلَّم الرب
موسى قائلاً: أخرج الذي سبَّ (الاسم)
إلى خارج
المحلَّة
فيضع
جميع السامعين أيديهم على رأسه
ويرجمه كل الجماعة. «(لا 24: 13و14)

+ » مَنْ جدَّف
على اسم الرب فإنه يُقتل. يرجمه كل الجماعة رجماً. الغريب كالوطني. عندما يجدِّف
على الاسم يُقتل.
«(لا
16:24)

«ورجموه»:

+ » على فم
شاهدين أو ثلاثة شهود يُقتل. لا يُقتل على فم شاهد واحد، أيدي الشهود تكون عليه
أولاً لقتله ثم أيدي جميع الشعب أخيراً، فتنزع الشر من وسطك.
«(تث 17: 6و7)

ولكي يثبتوا أنهم
مسئولون عن أول رجم بالحجر يخلعون ثيابهم ويضعونها تحت أرجل شهود. وكان بترتيب
الله الفائق الحكمة والتدبير أن ساق روح الله شاول المدعو بولس أحد المتحمسين
الغيورين على الهيكل والناموس و“الاسم” أن يسمع الدفاع ويشهد مع الشهود!! وشاول
كان له مع استفانوس جولات وجولات وتحديات أحرجت هذا العاتي وأخرجته عن صوابه. فقد
كان أحد أعضاء مجمع الكيليكيين الذي دخله استفانوس عشرات المرات ليحاجج اليهود
هناك. فشاول المدعو بولس كان أقدر مَنْ يعرف ما كان يدافع به استفانوس، لأنه كان
دائم الحوار معه. وربما كان أقصى ما يتمناه شاول أن يختفي استفانوس ويزيحه من
الوجود بأي ثمن لأنه أفحم الكثيرين، بل ونصَّر الكثيرين، بل وتحدَّى أقوى
الفريسيين، فكان قرار شاول هو الذي حرَّك هذه المحاكمة حسب قول
كونبير([33]).
ولكنه قتله ليحمل عوضه نقل رسالته عشرات الأضعاف!! ولقسوة شاول في هذه العملية
التي حطَّمت جسد هذا الشاهد الأمين ومزّقت الكنيسة، تأوه المسيح في السماء مخاطباً
شاول بعد ذلك:
» لماذا تضطهدني « وقرر المسيح أن يذيقه الآلام التي
حمَّلها لاستفانوس
» سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي «(أع 6:9). فأذاقه من الموت أشكالاً وألواناً ومن الاضطهاد طول
حياته!!

وظلَّ شاول حزيناً على
ما اقترفت يداه فيما صنعه باستفانوس. وصورة وجهه الملائكي وهو يدافع، وهو يموت لم
تفارق ذهنه، وكل كلمات دفاعه تحولت إلى مناهج لاهوت. اسمعه وهو يتأسف لله:

+ » وحين سفك دم
استفانوس شهيدك، كنت أنا واقفاً وراضياً بقتله وحافظاً ثياب الذين قتلوه.
«(أع 20:22)

وكلمة “راضياً” تعني
شريكاً في الحكم عليه ومسروراً لكل ما حدث.

59:7و60 «فكانوا
يرجِمُونَ استفانوس وهو يَدْعو ويقولُ أَيُّها الربُّ يسوع اقبل روحي. ثم جَثَا
على ركبتيهِ وصَرَخَ بصوتٍ عظيمٍ يا ربُّ لا تُقِمْ لهُم هذه الخطيةَ. وإذ قال هذا
رقد».

«أيها الرب
يسوع اقبل روحي»:

هنا يقدم لنا القديس
استفانوس دون أن يقصد شهادة مبكرة على لاهوت المسيح، أو على أن المسيح والله واحد.
لذلك يتضح لنا إذا وضعنا هذا النداء لإنسان يواجه الموت رافعاً قلبه وحياته لله
حين يكون إيمانه أصدق إيمان يقول من أعماق أعماقه في المقارنة مع ما
قاله المسيح في نفس الموضع حيث كان المسيح يخاطب الله الآب:

+ » ونادى يسوع
بصوت عظيم وقال: يا أبتاه في يديك أستودع روحي.
«(لو 46:23)

وبهذا
يقدم استفانوس البرهان العملي الهادئ والذي لا يحتاج إلى شرح أن المسيح هو والله
واحد.

أمَّا لماذا الرب،
ولماذا استفانوس، كل منهما كان يتكلَّم «بصوت عظيم» وهو يلفظ الروح، فهذا
إعلان من الله أن الناطق هنا هو نُطق بالروح حين كان الجسد لا يقوى على النطق!!

ولا يفوت على القارئ أن
هذا القول
» في يديك أستودع روحي «هو دعاء
مأخوذ من مزامير داود:
» أخرجني من الشبكة التي خبأوها لي لأنك
أنت حصني. في يدك أستودع روحي.
«(مز 5:31)

«ثم جثا على
ركبتيه وصرخ بصوت عظيم يا رب لا تُقِمْ لهم هذه الخطية»:

لقد ألهمه الروح أن
يستقبل الموت وهو في حالة ركوع وصلاة وكانت صلاته، لغفران خطية أعدائه، مكمِّلاً
الوصية في آخر لحظة من حياته وهو يكاد لا يتحرك:
» اغفروا
يُغفر لكم
«(لو 37:6). قدَّمها
للمسيح حتى لا يحسبها عليهم خطية ويحسبها له محبة للأعداء، تمثُّلاً بالمسيح في
حبه لكل الناس. لأن الذي يشهد للمسيح إن لم يشهد لمحبته للأعداء فهو لم يشهد بعد.

وبهذه الصلاة الأخيرة
يكون استفانوس قد أكمل شهادته للمسيح متشبِّهاً به، وهكذا شهد استفانوس للمسيح في
حياته وفي موته.

«ولما قال
هذا رقد»:

هذا هو الاسم الحقيقي
الجديد للموت عند المسيح:
» لعازر حبيبنا قد نام،
لكني أذهب لأوقظه
«(يو
11:11). نعم لقد استيقظ استفانوس من ليل العالم المزعج إلى نور نهار الله ومُسحت
كل دموعه ودخل إلى فرح سيده وعلى رأسه ابتهاج أبدي.



([1])
Meyer. op. cit., p. B 5-138

([2]) Philo, on Abraham. 1. 41, Josep. Antiq.
i. 4.

([3]) Bruce. II. 146. Rackham op. cit., p
99.

([4]) Bruce I. p. 163.

([5]) ولكن يبقى عليهم أن يدفعوا لنا ثمن أكلهم وشربهم وإيوائهم 430 سنة
لعدد تزايد حتى بلغ ستمائة ألف رجل ما عدا النساء والأطفال بالإضافة إلى ما
استلفوه من ذهب وفضة أستعاروها من المصريين ولم يردوها حتى الآن، وثمن تعليم موسى
في القصر الملكي.

([6]) «ودعا فرعون اسم يوسف صفنات فعنيح (مخلِّص العالم) وأعطاه أسنات
بنت فوطي فارع كاهن أون زوجة له.» (تك 45:41)

([7]) «وصعد معهم لفيف كثير أيضاً من غنم وبقر ومواشي وافرة جداً.» (خر
38:12)

([8]) يرى المؤرخون أنه الفرعون تحتمس الثالث (15011404 ق.م)
وأنهم عاشوا خلال الأسرة 18و19 في مصر.

The
Abingdon Bible Com.
p. 109.

([9]) أناب الشخص إلى الله:  رجع إليه نادماً.

([10]) Rackham. p. 100.

([11]) Philo, on Abraham
Migration,
199f.

([12]) The Abingd. Bible Comm. p. 109.

([13]) Joseph. Antiq. II. 9.7.

([14]) Philo, Vit. Moys. i. 9.

([15]) Bruce. I. p. 167.

([16]) Bruce. II. p. 150 n. 45.

([17]) Bruce. I. p. 168.

([18]) هذه الحقيقة كانت مبيَّتَة ومُضْمَرة في القلب، وهي الحرب
والفرار.

([19]) Bruce. I. p. 171.

([20]) Burce. II. pp. 155,156.

([21]) Chrysost. Homilies against The Jews IV.
6. cited by Bruce, II, p. 160. n. 78.

([22]) Meyer. op. cit. p. 140.

([23]) Jos. Antiq.
XV. 5.3.

([24]) Philo.  De Somniis 1. 141. ff.

([25]) Test. Pan.
VI, 2.

([26]) Jubilees. 1.
29.

([27]) R.K. Barett, Stephen & the Son of Man.

([28]) Bruce, I. p. 179.

([29]) C.H. Dodd, Accord. to the Script.
p. 35.

([30]) Eccles. Hist.
ii. 23.

([31]) Rackham, op. cit. p. 108.

([32]) Klausner, cited by Bruce, II p. 169.

([33]) F.C. Conybeare, cited by Bruce, II. p.
172. N.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ الأردن عبر الأردن ن

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي