الإصحَاحُ الْعَاشِرُ

 

(1:1048)
المسار الثالث لانتشار الكنيسة (تابع):

نشاط القديس
بطرس وفتح باب الخدمة للأمم

ثالثاً: القديس بطرس في
قيصرية وتعميد كرنيليوس وعائلته:

(10: 9 16)
السماء تتحرَّك من الجهتين لتحاصر القديس بطرس المختار لفتح باب الأُمم

(17:1023)
المرسلون على الباب يطلبون القديس بطرس

(24:1027)
بطرس يدخل بيت رجل أممي ويبيت

(28:1033)
بطرس يتكلَّم مع كرنيليوس ومَنْ معه مفسِّراً الرؤيا التي رآها

(34:1043)
أول صفحة مِنْ بشرى الخلاص

(44:1048)
الروح ينسكب على الأُمم مباشرة صورة ليوم الخمسين.

 

المسار
الثالث لانتشار الكنيسة (تابع)

[10: 148]

 

نشاط القديس
بطرس وفتح باب الخدمة للأمم (تابع)

 

ثالثاً: القديس بطرس في
قيصرية وتعميد كرنيليوس وعائلته:

واضح لمَنْ ترسَّم خُطى
القديس لوقا في تنسيق سفر الأعمال الذي يقدمه للكنيسة أنه يتتبع اتساع رقعة
الكرازة للكنيسة من أورشليم ثم اليهودية ثم السامرة، ثم خرج عن الدائرة اليهودية
نحو الساحل إلى مدن الأمم لُدَّة ثم يافا، ولكن الخدمة كانت في دائرة أهل الختان.
أمَّا الآن فقد أمر الرب ق. بطرس أمراً وأكَّده له تأكيداً أنه آن الأوان لفتح باب
الأمم لقبول الإيمان المبارك والخلاص الذي رُسم لكافة شعوب الأرض، وأخْذ وضع يد
الرسولية وحلول الروح القدس، كما حدث لأهل الختان يوم الخمسين كذلك للأمم بالسوية
وبالمواهب المرافقة للروح، تأكيداً من السماء لرفع الحاجز المتوسط، ليجلس الاثنان
على مائدة الرب الواحدة سواء بسواء، ليشتركا معاً في ذبيحة الخلاص الواحدة لعهد
جديد يجمع كل الشعوب والأمم بلا تفريق أو تمييز: بين ختان وغرلة، أو رجل وامرأة،
أو عبد وحر. بل ويعيشان معاً (اليهود والأمم) ويختلطان معاً، بالروح الواحد في
الجسد الواحد الذي اشترك فيه كلاهما، ككنيسة واحدة وحيدة جامعة رسولية!

وكان هذا العمل الذي
دبَّره الله بعد أن أبعد ق. بطرس عن أورشليم ليتقبَّل الدعوة دون تأثير معاكس،
فرصة نادرة ليضع الله سابقة مؤيَّدة بالروح القدس يستخدمها ق. بطرس بشجاعة في مجمع
الرسل المزمع أن ينعقد بعد ذلك من أجل هذا الأمر بالذات (أع 15)، ويأخذ فيه ق.
بطرس فرصة المبادرة ويعلن إيمانه الذي تلقَّاه بتشجيع السماء، ويجرّ وراءه ق.
يعقوب المحافظ الحذر الشديد التعصُّب لليهودية. وهكذا تقول الكنيسة رأيها رسمياً
بحتمية قبول الأمم دون رجعة إلى ناموس أو ختان أو سبت أو أي عوايد يهودية
سابقة.

وكانت عين
الله على ق. بطرس، مخافة التراجع عند اللحظة الحاسمة، ففي الأصحاح (11) لاحقه في
موقفه ليجعله يشرح علناً هذا الإيمان ويدافع عنه بحماس شديد لدى الرسل والإخوة من
أهل الختان. وهكذا تسجَّل موقفه تسجيلاً عملياً قبل أن يحين موعد المجمع ليأخذ فيه
مبادرته الشجاعة ويطوّع رأي الأغلبية لصالح دخول الأمم ورفع نير الناموس عن
الكنيسة الذي ستذكره له كل الأجيال بالمدح والكرامة.

 

1:10 «وكانَ في
قيصريَّةَ رجلٌ اسمُه كرنيليُوس قائِدُ مئةٍ مِنَ الكتيبةِ التي تُدعَى
الإِيطاليةَ».

«رجلٌ اسمه
كرنيليوس قائد مائة»:

أي ضابط في الجيش
الروماني وتحت إمرته مائة جندي. وهنا يحضرنا في الحال قائد المائة أيام الرب يسوع
الذي جاء يطلب شفاء ابنه وهو على حافة الموت (مت 8: 511) صاحب

القول
الإيماني الأمثل:
» لكن قُل كلمة فقط فيبرأ غلامي « فكان ردّ المسيح عليه وعلى إيمانه: » الحق أقول
لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا، وأقول لكم: إن كثيرين سيأتون من
المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات، وأمَّا بنو
الملكوت فيُطرحون إلى ا لظلمة الخارجية …
«(مت 8: 11و12)

وها هوذا القائد الثاني
الذي سيتكئ في حضن إبراهيم!! ولكن لا ينبغي أن ننسى في هذه المناسبة قائد المائة
الآخر الذي شهد للمسيح
عند موته شهادة عظمى:

+ » وأمَّا قائد
المائة والذين معه يحرسون يسوع فلمَّا رأوا الزلزلة وما كان خافوا جداً وقالوا
حقاً كان هذا ابن الله.
«(مت 54:27)

كذلك قائد المائة الذي
كُلِّف بقيادة بولس الرسول في الأسر لتوصيله إلى روما وكيف عامله معاملة كريمة
وأنقذ حياة بولس من الموت:

+ » فكان رأي
العسكر أن يقتلوا الأسرى لئلاَّ يسبح أحد منهم فيهرب. ولكن قائد المائة إذ كان
يريد أن يخلِّص بولس منعهم من هذا الرأي.
«(أع 42:27و43)

ولكن لماذا قواد المئات
يكونون على هذا المستوى؟ يردّ على ذلك تقرير من المؤرِّخ بوليبيوس([1])
ويقول إن قواد المئات في الجيش الروماني كانوا معتبرين ملح الجيش الروماني، ويصف
أخلاقهم التي يصرّ الجيش على توفرها لتعيينهم في هذا المنصب:

[المطلوب منهم أن لا
يستخدموا الصرامة والمغامرة بل كقواد صالحين عليهم أن يكونوا ذوي عقل يقظ ومستقيم،
ذوي حكمة ورزانة، لا يميلون إلى المهاجمة أو العراك بتهوُّر بل ويكونوا قادرين على
ضبط أنفسهم إذا ضُيِّق أو ضُغِط عليهم، ويتمسَّكوا بموقفهم حتى الموت].

«من الكتيبة
الإيطالية»:
spe…rhj

وقوامها 600 جندي وتبلغ
أحياناً ألف جندي. ولكن لم تكن مثل هذه القوات الكبيرة موجودة في فلسطين حتى سنة
41 م. ولكن في أيام أغريباس الأول (أع 1:12) وجدت عدة قوات مثل هذه([2]).

2:10 «وهو تقيٌّ
وخائفُ اللهِ معَ جميعِ بيتهِ يصنَعُ حسناتٍ كثيرةً للشعبِ ويُصلِّي إلى الله في
كُلِّ حينْ».

«تقيٌّ
وخائفُ اللهِ»:
eÙseb¾j kaˆ foboÚmenoj

التقوى مع مخافة الله
صفة ظهرت في الأمميين يونانيين ورومانيين حتى ومن الجيش بسبب مخالطتهم لليهود
الخائفين الله حقاً والأتقياء. العِشرة الجيِّدة هي بحدّ ذاتها شهادة وكرازة.
علماً بأن عبادة “الله الواحد” تسلب القلب والفكر لإنسان محب للحق والحكمة. وعدم
تصوير الله بصورة وتماثيل ترفع من قيمة الله جداً في نظر العابد الصادق. كذلك
التدقيق في الأكل والامتناع عن المحرمات حينما يتحقق الإنسان من منفعتها فإنها
تُضفي على الديانة وقاراً وترغيباً.

وفي الحقيقة فإن أمثال
كرنيليوس هذا كانوا بالفعل نواة لكنيسة الأمم في كل مدينة.

3:106 «فرأى
ظاهِراً في رُؤيَا نحوَ الساعةِ التاسعةِ مِنَ النهارِ ملاكاً مِنَ اللهِ داخِلاً
إليهِ وقائلاً له يا كرنيليوس، فلمَّا شَخَصَ إليهِ ودَخَلَهُ الخوفُ قالَ ماذا يا
سيِّدُ، فقالَ لهُ، صلواتُكَ وصَدَقَاتُكَ صَعِدَتْ تذكاراً أَمامَ اللهِ. والآن
أرسِل إِلى يافا رِجَالاً واستدعِ سِمعانَ المُلقَّبَ بُطرسَ، إنه نازلٌ عندَ
سِمعان رَجُلٍ دبَّاغٍ بيتُهُ عندَ البحرِ، هو يقولُ لكَ ماذا ينبغي أن تفعلَ».

«نحو
الساعةِ التاسعةِ»:
الساعة الثالثة بعد الظهر

وهي إحدى السواعي
الهامة عند اليهود التي فيها تُرفع ذبيحة المساء.

وسواعي الصلاة عند
اليهود هي (خر 39:29 إلخ؛ لا 20:6 إلخ):

( أ ) الصباح الباكر:
وهي ساعة
ذبيحة الصباح.

(ب) الساعة التاسعة من
النهار (3 بعد الظهر): ذبيحة المساء.

( ج ) ساعة الغروب:
بدون ذبيحة.

«صلواتك
وصدقاتك صعدت»:

هنا كلمة «صعدت» ¢nšbhsan اصطلاح يُقال على صعود
دخان الذبيحة أو البخور
.

«تذكاراً
أمام الله»:
e„j
mnhmÒsunon

كلمة  «تذكاراً»
باليونانية تفيد ما يقدَّم إلى الله من “تقدمة القربان”. وتُشرح كالآتي:

+ « وإذا قرَّب أحد قربان تقدمة للرب يكون قربانه من
دقيق، ويسكب عليها زيتاً ويجعل عليها لباناً. ويأتي بها إلى بني هارون الكهنة
ويقبض منها ملء قبضته من دقيقها وزيتها مع كل لبانها ويوقد الكاهن تذكارها
على المذبح وقود رائحة سرور للرب، والباقي من التقدمة هو لهارون وبنيه قدس أقداس
من وقائد الرب.
» (لا 2: 13)

وكررها السفر بوضوح
أكثر:

+ « ويأخذ الكاهن من
التقدمة تذكارها ويوقد على المذبح وقودَ رائحة سرور للرب.» (لا 9:2)

أي أنه يوجد في تقدمة
القربان جزء خاص بالله اسمه “التذكار” يوقد رائحة سرور للرب. وتسمَّى بالعبرية:
“مينهاه =
minhah.

وبهذا يكون كلام الملاك
مملوءاً أسراراً وعجباً. فجزء من عبادته “بالصلاة” حُسب ذبيحة محرقة، والجزء الذي
هو الصدقة حُسِب تقدمة قربان تذكاراً للرب. علماً بأن كرنيليوس هو رجل ضابط أممي!!

وهذه اللغة التي تحوِّل
مفاعيل الذبيحة الدموية إلى مفاعيل روحية خالصة نسمعها بوضوح في سفر العبرانيين
13: 15و16:
» فلنُقدِّم به (بالمسيح) في كل حين لله ذبيحة التسبيح،
أي ثمر شفاه معترفة باسمه! ولكن لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح
مثل هذه يُسر الله
«

فالصلاة بالتسبيح
اعتبرها ذبائح، والصدقة اعتبرها ذبائح سرور.

وبهذا نلمح في الذبائح
الحيوانية العنصر الفعَّال روحياً الذي هو العنصر الأساسي والجوهري الذي يمكن عمله
والوصول إليه بدون ذبائح حيوانية.

هذا قد سبقنا إليه داود
النبي بالروح حينما قال: «
لتستقم
صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية (الساعة التاسعة).»
(مز
2:141)

«بيته عند
البحر»:

par¦ Q£lassan

« عند البحر » باللغة اليونانية
تفيد “
على
البحر” بمعنى
خارج المدينة وعلى البحر. لأن سمعان كانت صناعته دباغة الجلود، وهذه الصنعة تحتاج
لمزيد من المياه لنقع وغسيل الجلود، بالإضافة إلى أن ماء البحر يُعتبر مفضَّلاً في
عمليات الدباغة، وبالأكثر جداً
وهذا ما يهم ق. لوقا أن هذه
الصنعة نجسة تحتِّم على صاحبها أن لا يجاور البيوت الأخرى. ولكن ق. بطرس وجد عنده
مكاناً يحبه لأنه يذكِّره بصنعته الأُولى كصياد. ولكن ق. لوقا يغمز ضمناً أن ق.
بطرس بدأ ينفتح قليلاً خارج تحذيرات الناموس. وذلك تمهيداً لوضع اليد على رؤوس
الأمميين.

كانت استجابة صلوات
وصدقات كرنيليوس أمام الله هي بإرسال هذا الملاك الطاهر ليبشِّره بأن صلواته
وصدقاته قد قُبلت والرب استجاب، فعليه أن يستدعي ق. بطرس لينال الجزاء الذي لا
يدانيه جزاء.

7:10و8 «فلمَّا
انطلقَ الملاكُ الذي كان يُكلِّمُ كرنيليوسَ نادَى اثنينِ مِنْ خُدَّامهِ وعسكريًّا
تقيًّا مِنَ الذين كانوا يُلازِمُونَه وأخبرهُمْ بكلِّ شيءٍ وأَرسلهم إلى يافَا».

ولا نزال يا عزيزي
القارئ
وكأننا في
صميم العهد القديم، رؤى وراء رؤى وأحلام وراء أحلام، وصَدَق يوئيل النبى؛ فها
أمامنا سفر الأعمال وبعد حلول الروح القدس يوم الخمسين والرؤى والأحلام هي العنصر
المتحرِّك الذي يحرِّك المشاهد ويفتح فصولاً ويختم فصولاً، والذي يصعب على الرؤيا
يحمله الروح، والذي لا يحتمل الروح يكلِّمه ملاك.

والإنسان يتعجَّب من
المفارقات الصارخة، وكأن الإنسان وهو يقرأ هذا الكلام يراجع عينيه على الكلام مرة
ومرة، وكأننا نحن الذين نحلم وليس من نقرأ عنه وله:

ضابط
في جيش روماني يرى رؤيا ويتكلَّم مع ملاك، ثم في الحال يصدر أوامره وكأنه تلقَّى
إشارة عاجلة من رئيس عمليات، فيرسل
عسكريًّا
ومعه “مخصوص” (أي خادم خاص لهذه المهمة) ليقوم بمهمة استدعاء إنسان لا يعرفه ولم
يسمع عنه ولا يعرف أين مقرُّه إلاَّ من الرؤيا، فينفِّذ الذي رآه في
الرؤيا وكأنه حقيقة مكتوبة وموقَّعة من الرئاسة العليا. ونحن نتعجَّب أي
إيمان هذا؟ الذي يعتبر ما سمعه

في الرؤيا حقاً وأمراً يُطاع، ويتحرَّك بمقتضاه ويحرِّك عساكره على هداه؟ أي ضابط
هذا بل أي قديس؟

فإن حلَّ الروح القدس
عليه قبل أن يضع ق. بطرس يده عليه، فهذا لا يُستغرب له بتاتاً! وإن قَبِلَ الروح
القدس وامتلأ منه
قبل أن
يعتمد فهذا استثناء واجب الحدوث!

وإن
كان هو أول أممي ينال الروح وباكورة الأمم في قبول المعمودية المقدَّسة، فالباكورة
مقدَّسة حقاً.

فإن حُسب في الكنيسة
المقدَّسة للختان
ق. بطرس هو الأول فيها
عن تجاوز من طرفنا
فكرنيليوس هو أول
كنيسة الغرلة بلا نزاع. وهكذا يتلاقى الأول بالأول تحت يد المسيح الذي يجمع
الاثنين في نفسه.

 

السماء
تتحرك من الجهتين

لتحاصر ق.
بطرس المختار لفتح باب الأمم

 

9:1014 «ثمَّ
في الغدِ فيما هُم يسافِرُونَ ويقترِبُونَ إلى المدينةِ صَعِدَ بطرُس على السَّطحِ
ليُصلِّي نحو الساعةِ السادسة. فجاعَ كثيراً واشتهىَ أن يأكل، وبينما هُمْ
يهيئُونَ له وقعَتْ عليه غيبَةٌ، فرأَى السماءَ مفتوحةً وإِناءً نازِلاً عليهِ
مِثْلَ ملاءةٍ عظيمةٍ مربوطةٍ بأربعَةِ أطرافٍ ومُدلاَّةٍ على الأرضِ، وكانَ فيها
كُلُّ دوابِ الأرضِ والوحوشِ والزَّحَّافاتِ وطيورِ السماءِ. وصارَ إِليهِ صوتٌ
قُمْ يا بطرُس اذبح وكُلْ. فقالَ بطرُس كلاَّ يا ربُّ لأَنِّي لم آكُلْ قطُّ شيئاً
دنِساً أو نجساً».

كان بين مدينة يافا
وقيصرية نحو 30 ميلاً، وقد أنيط بالملاك ترتيب وقت المقابلة بالدقة. فنظر الملاك
من السماء ورأى أن المسافة يمكن أن يقطعها الخيل المدرَّب في مسافة ست ساعات
تماماً. وهكذا أعطى الملاك المشورة لكرنيليوس أن يتحرَّك الرَكْب تمام الساعة
السادسة صباحاً. وهكذا، وعند بلوغ الظهر تماماً كان الروح قد حثَّ ق. بطرس على
الصلاة ورتَّب الرؤيا والملاءة ووحوش الأرض ودوابها وجمعها في ملاءة محمولة على
الريح، ولمس عيني ق. بطرس فوقع في الغيبة ورأى ما رأى. وكان الرَكْب على الباب
يسألون عن ق. بطرس! والرب يكلِّم بطرس أن قُم عمِّدْ الأمم واقبلهم معك في شركة
المائدة، فقال حاشا يا رب. ق. بطرس أراد أن يأكل وحده كل خيرات الوعد والمواعيد
وبركات الآباء والأنبياء، ويقطن الملكوت وحده، لأنه رجل ورث الختان والسبت ونسب
الدم لإبراهيم ووصايا موسى بكل تطهيراتها، أمَّا الأمم فأنجاس بلا إله في العالم
وغرباء عن رعوية إسرائيل!

«صلاة
الساعة السادسة»:

لم تكن هناك صلاة
جماعية في الساعة السادسة، وهي ليست من سواعي الهيكل. ولكنها ساعة الأكل عموماً.

«غيبة»: œkstasij

ومعناها باليونانية
“حالة إنسان خارج عن نفسه”! والتي تُعرف بالإكستاسيس، وهي الذهول الصحي الذي يدخل
فيه الإنسان إلى عالم آخر روحي يرى ويسمع ويتكلَّم دون أن يستيقظ أو يشعر. وهي
درجة رسمية من درجات التصوُّف وتسمَّى بالإنجليزية
Trance،
على أنها حالة معروفة في الطب يمكن أن يدخلها المريض تحت تأثير عقاقير معيَّنة حتى
يمكن علاجه بدون إحساس بالألم.

«فرأى
السماء مفتوحة»:
qewre‹

هنا الرؤية ليست عينية
ولكن تسمَّى بالرؤيا المعقولة، أي رؤية الإدراك الروحي وليست رؤية الإدراك الحسي.
وفيها يرى الذي دخل في الغيبة العالم الروحي بكل أعاجيبه، رؤية حقيقية واعية صادقة
شديدة الوضوح والأثر.

الدنس
والنجس:
koinÕn
kaˆ ¢k£qarton

هي قوانين التفريق بين
ما هو طاهر يؤكل وما هو دنس أو نجس لا يؤكل.

أمَّا الدنس فهو
المحسوب أنه ليس لله سواء كان حيواناً يُقدَّم أو يُؤكَل. والدنس في الإنسان هو
إنسان في وضعه العبادي إن كان لا يعبد الله بحسب ناموس موسى، أي إذا كان يعبد آلهة
أخرى، فهو دنس، لا يُتعامل معه ولا يؤكل معه. فهنا الإسرائيلي يقف في صف الطاهر
وكل الناس عموماً في صف الدنس. لذلك هنا كلمة
» الدنس «في أصلها
اليوناني تعني “عمومي” أو “عام”.

أمَّا النجس فهو
كل ما لم يتطهَّر. فاليهودي إذا لمس ميتاً يصبح نجساً إلى المساء، فيستحم ويصير
طاهراً. والأوزة إذا لم يذبحها حاخام ذبحاً حلالاً فهي نجسة لا تؤكل، أمَّا إذا
ذُبحت بيد حاخام وصفَّى دمها فهي حلال وطاهرة تؤكل.

15:10و16 « فصارَ
إِليه أيضاً صوتٌ ثانيةً ما طهَّرهُ الله لا تُدنِّسه أنتَ. وكانَ هذا على ثلاثِ
مرَّاتٍ ثُمَّ ارتفعَ الإِناءُ أيضاً إلى السماء
».

«ما طهَّره
الله لا تدنِّسه أنت»:
§
Ð QeÕj ™kaq£risen sÝ m¾ ko…nou

هنا الوضع مقلوب، فهنا
الله طهَّر الأمم وكأنهم يهودٌ تنجَّسوا فقط، فغسلهم (بالمعمودية) وبذلك صاروا أطهاراً؛ أي كأنهم يهودٌ لمسوا
ميِّتاً أو كلباً ثم استحموا. هذا إبداع حقاً في تنازل
الله.

ولكن ق. بطرس لا يريد
أن يعتبرهم أبداً أنهم كانوا أنجاساً وتطهروا بل يريد أن يعتبرهم أدناساً يستحيل
تطهيرهم بأي حال. وهنا تظهر قوة الكلام وإبداع إحكامه إبداعاً يأخذ بالألباب.

كذلك كان المثل بتصويره
على هيئة وحوش ودبابات نجسة في عين ق. بطرس وطهّرها الله، بمعنى جعلها حيوانات
تؤكل، وهذا مستحيل في نظر ق. بطرس بأي حال من الأحوال. فهذا تصوير بديع!! ولكن
الله مُصرٌّ
على رأيه ثلاثاً، وكأنه
يقسم بذاته آباً وابناً وروحاً قدوساً أنه قد جعل الأمم الأنجاس أطهاراً
بالمعمودية وقديسين، وعلى ق. بطرس أن يلتزم بهذا الأمر، والمطلوب لا أن يأكلهم بل
يأكل معهم … ولكنه بعد أن قال “نعم” وأكل معهم، عاد وأخَّر نفسه وقام عن المائدة
لمَّا رأى قوماً من عند يعقوب داخلين عليهم … فصار ملوماً (غل 11:2).

«ارتفع
الإناء أيضاً إلى السماء»:

ما لم يَقْبَلْه بطرس
قَبِلَتْه السماء، وهكذا صارت التي ليست محبوبة عند الناس محبوبة لدى الله، والذي
ليس شعبي في عيون الشعب صار شعباً لله وفي عينيه. وهكذا أصرّ ق. بطرس أيضاً على
رأيه ولم يعرف أن  ذلك أَمرٌ صدر مِنْ قِبَلِ الرب وليس له
أن يبدي فيه
رأيه، فالرجال على الباب.

 

المُرسَلون
على الباب يطلبون القديس بطرس

 

17:1020 «وإِذ
كان بُطرُسُ يَرْتَابُ في نفسهِ ماذا عسَى أَن تكونَ الرؤيَا التي رآها إِذا
الرجالُ الذينَ أُرسِلُوا مِنْ قِبَلِ كرنيليوس، وكانوا

قد
سأَلوا عن بيتِ سِمعانَ وقد وقفُوا على البابِ ونادوا يستخبِرُونَ هل سِمعانُ
المُلقَّبُ بُطرُسَ نازِلٌ هناكَ. وبينما بُطرُسُ متفكِّرٌ في الرؤُيا قال له
الروحُ هوذا ثلاثةُ رِجالٍ يطلبُونكَ. لكن قُمْ وانزل واذهب معهُم غير مرتابٍ في
شيءٍ لأنِّي أنا قد أَرسلتُهُمْ».

واضح أن الذي يخاطب
كرنيليوس هو ملاك،
والذي يخاطب
بطرس هو الروح. وهنا يظهر تنوع وسيط تسليم الرسالة على قدر المرسَل إليهم، وبقدر
ما يتسع وعيهم الروحي من إدراك. فالممتلئ من الروح القدس يخاطبه الروح حتماً،
والذي ليس على مستوى الروح القدس فملاك. والذي يخاطبه الروح في القلب في الداخل
يخاطبه
الرب أيضاً
في العَلَن وبالسمع.

وبينما بطرس منشغل
بالرؤيا ومعناها ومحتواها، وهو مرتاب في الأمر، وفي النجس والدنس الذي يملأ
تصوُّره، وكيف يتعامل مع ما لا يحلُّ الناموس التعامل معه، وكأن الله يتعامل معه
لأنه طاهر ولأنه يتمم أوامر الناموس؛ إذ بالروح يقطع عليه ارتيابه ويعطيه أمر
اليقين أن يتحرك بغير إرادته وينزل بغير إرادته ويذهب بغير إرادته
» لأني أنا قد أرسلتُهم « وهكذا يمنطق الروح القدس قلبه وعقله وفكره ويسير به حيث لا يشاء المسير (يو 18:21)
والمُرسَلون على الباب سيقودونه كما يريد الله أن يكون وليس كما يريد.

21:1023 «فنزلَ
بُطرُسُ إلى الرِّجالِ الذين أُرسِلُوا إِليهِ مِنْ قِبَلِ كرنيليوس وقالَ ها أَنا
الذي تطلبونَهُ، ما هو السببُ الذي حضرتُمْ لأَجلِهِ. فقالوا إِنَّ كرنيليُوسَ
قائِدَ مئةٍ رَجُلاً بارًّا وخائِفَ الله ومشهوُداً له مِنْ كُلِّ أُمَّةِ اليهودِ
أُوحيَ إِليهِ بملاكٍ مُقدَّسٍ أَن يستدعيكَ إلى بيتهِ ويسمعَ مِنكَ كلاماً.
فدعاهُم إلى داخلٍ وأَضافَهُم، ثُمَّ في الغَدِ خرجَ بُطرُسُ معهُم وأُناسٌ مِنَ
الإخوةِ الذينَ مِنْ يافا رافقُوهُ».

كان بُطرس وهو في
العلية يستطيع أن يرى ويسمع الذين على الباب مباشرة، لذلك نزل إليهم بالسلّم
الخارجي الذي يربط السطح بالشارع، واستفسر منهم عن الغاية التي من أجلها جاءوا.
حينئذ انحل اللغز الذي حيَّره وفهم أنه مدعوٌّ لرسالة من الله خارج حدود يهوديته
بل خارج حدود ما هو طاهر وما هو حلال أيضاً.

وإذ رأى أن وقت النهار
يدعو للضيافة الحتمية، فقد وصلوا في ميعاد الغذاء، رأى أنه من اللائق والواجب أن
يدعوهم باسم صاحب البيت للدخول والبقاء حتى الغد لبدء الرحلة من الصباح. فدخل
الرجال الثلاثة. وضيافة مفاجئة لرجالٍ ثلاثة أمر ليس هيِّناً على المضيف، أكلاً
وشرباً ومبيتاً، ولكن هذا هو الشرق المضياف الذي يتغنَّى بإكرام الضيف حتى إلى عمل
اللامعقول([3]).

ومن واقع الكلام نفهم
أنهم صاروا في ركبٍ من عشرة رجال، لأن ستةً من يافا انضموا إلى بطرس (أع 12:11)
والثلاثة. فساروا الهُوَيْنَى لأن
الدواب لا تفي بعدد الراحلين فترجَّل معظمهم.

 

بطرس يدخل
بيت رجل أممي ويبيت

 

24:1027 «وفي
الغَدِ دخلُوا قيصريَّةَ. وأَّما كرنيليوسُ فكانَ ينتظِرُهُمْ وقد دعا أَنسِباءَهُ
وأَصدِقاءَهُ الأَقربينَ. ولمَّا دخَلَ بُطرُسُ استقبلهُ كرنيليوسُ وسجَدَ واقعاً
على
قدميهِ. قأقامَهُ
بُطرُسُ قائِلاً قُمْ أَنا أَيضاً إِنسانٌ. ثم دخلَ وهو يتكلَّمُ معهُ ووجَدَ
كثيرينَ مُجتَمِعِينَ».

حينما
يشعر الإنسان ببركات السماء تنفتح عليه، لا يطيق قط أن يكون وحده في تلقِّي مراحم
الله وإنعاماته، هذه صفة الروح في الإنسان، هذا سمعناه في
السامرية:
» هلموا
انظروا إنساناً قال لي كلَّ
ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح «(يو 29:4). ونسمعه متواتراً في بداية اختيار التلاميذ: » وهذا وجد
أولاً أخاه سمعان فقال له قد وجدنا مسيَّا …
«(يو 41:1)، » فيلبُّس وجد نثنائيل
وقال له وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع …
«(يو 45:1)، » تعال وانظر «(يو 46:1) دعوة حتمية: » الروح
والعروس يقولان تعالَ، ومَنْ يسمع فليقل تعالَ.
«(رؤ 17:22)

هذا الإحساس الروحي
المبارك يكشف عن طبيعة الروح في علاقته بالإنسان، فالروح يختار مَنْ يختار، لكي
ينادي الذي يختارُه غيره. والروح ينسكب على مَنْ ينسكب لكي من ملئه يعطي الذي يطلب
الملء. فالروح لا ينحصر في واحد. كل هذا يشهد أن الإنسان في أصله واحد، وإن تفتت
فهو ينزع إلى الاتحاد أي إلى التوحُّد، والتوحُّد أو الاتحاد لا يتم إلاَّ بالواحد
الذي منه انحدر، والذي يجعل الاثنين واحداً!! فالكنيسة وإن كان عددها بالألوف
والملايين فهي كنيسة واحدة، والإنسان بالنهاية سيصل إلى
» إنسان واحد «إلى ملء
قامة المسيح. وهذا الشعور نفسه يستقيه الإنسان بتقواه من الله، لأن الله نفسه
» يريد أن
جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون.
«(1تي 4:2)

كرنيليوس
وهو ضابط، وأقصى ما عند الضابط من تحية أن ينحني برأسه وليس أكثر وإلاَّ يهين
كرامة الجندية بل كرامة الملك الذي جُنِّد ليحمل لواء

كرامته! ولكن كرنيليوس تجنَّد حديثاً على نفقة ملك آخر موطنه السماء والأرض موطئ
قدميه؛ كرنيليوس انحنى حتى السجود إلى الأرض لذلك الملك الذي مِنْ
قِبَلهِ جاء بطرس ودخل بيته ليُعلِنه له، ولكن كرنيليوس خلط بين
السيد والعبد، فأسرع بطرس ليحمي اتضاعه ويرفع من كرامة سيِّده فأقامه من أمامه
ليسجد بالروح لله أبي الأرواح كلها إن في السموات أو على الأرض
» اسجدوا لله يا جميع ملائكته. «(مز
7:97 حسب السبعينية)

 

بطرس
يتكلَّم مع كرنيليوس ومَنْ معه مفسِّراً الرؤيا التي رآها
ليعطي
انطباعاً لدى السامعين من الأمم والشاهدين من الختان
أن الله
افتتح ببطرس عهداً جديداً يرفع فيه ومنه كلمة الدنس والنجس
عن الأمم وعن كل إنسان، توطئةً لجمع اليهود والأمم بالروح في المسيح يسوع! في كنيسة واحدة هي جسده

 

28:10و29 « فقالَ
لهُم أَنتم تعلمونَ كيفَ هو مُحرَّمٌ على رجُلٍ يهوديٍ أَن يلتَصِقَ بأحدٍ أجنبيٍ
أو يأتي إليهِ. وأمَّا أنا فقد أَراني الله أَن لا أَقُولَ عن إنسانٍ ما إنَّهُ
دَنِسٌ أَو نَجِسٌ. فلذلكَ جئتُ مِنْ دُونَ مُنَاقضَةٍ إِذ استدعيتُمُوني،
فأَستخبِرُكُم لأَيِّ سببٍ استدعيتُمُوني».

لم تكن التدقيقات التي
وضعها الناموس من جهة التعامل مع الأمم هي على سبيل ضيق العقل أو ضيق الصدر؛ وحتى
ما أضافه اليهود الربيون والمعلمون من بعدهم من إضافات تبدو سخيفة بحدِّ ذاتها،
فكل هذه لها أصول راسخة في الواقع، لأن حياة الأمم بلا استثناء كانت غارقة في الشر
سواء من جهة العبادات وما يجري فيها من ممارسات مخلّة بالشرف والآداب، أو من جهة
سلوكهم وعاداتهم وأكلهم وشربهم، فهذه كلها بعد أن تلقَّى الشعب في سيناء شريعته
الخاصة أصبحت خطرة على الشعب من كل النواحي. هذه الحقيقة نسمعها من القديس بطرس
نفسه وهو يعيِّر بها اليهود الذين تهاونوا سابقاً وعاشروا الأمم وأخذوا عنهم
مساوئهم، فهو يكتب لليهود المسيحيين في الشتات العائشين بين الأمم يذكرهم ويحذرهم،
كمن يسعى بالكمال المسيحي الذي يطلبه الله
» لكي لا نعيش
أيضاً الزمان الباقي في الجسد لشهوات الناس بل لإرادة الله. لأن زمان الحياة الذي
مضى (كيهود) يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين في الدعارة والشهوات
وإدمان الخمر والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرَّمة. الأمر الذي فيه
يستغربون أنكم (المسيحيين) لستم تركضون معهم إلى فيض هذه الخلاعة عينها مجدِّفين.
«(1بط 4: 24)

إذاً،
معنى هذا في الأسلوب الإيجابي أن الله أبقى لنفسه بواسطة اليهود والشريعة وتعاليم
الأنبياء عيِّنة من إنسان يصلح أن يصنع منها جسده وبالتالي الكنيسة، ثم سيَّج حول
هذا النموذج ليبقى وسط تقلبات العالم حافظاً لسمات يمكن أن تُبنى عليها الكنيسة.
ولمَّا حلَّ زمان الخلط تجسَّد الابن الوحيد، ليستطيع أن يصنع من جسده وبواسطته،
إنسان العهد الجديد الذي تنجمع فيه صفات الإنسان الجديد خلواً من تلوثات العصور
والأجناس والعبادات المخلّة. وما الملاءة النازلة من السماء إلاَّ الكنيسة في
صورتها الرمزية، وما الذي تحمله من النجس والطاهر والدنس والصالح من الحيوانات
إلاَّ عيِّنات رمزية من المطلوب جَمْعهُم في حضن واسع للمسيح من البشرية النازعة
للعودة إلى صورتها الأُولى، ولا قوة ولا فرصة إلاَّ بالحضن الإلهي ينزل من السماء
متجسِّداً. أمَّا الأطراف الأربعة فهي أطراف السماء التي التحمت بأطراف الأرض،
والتي كما أُنزِلَت الكنيسة في صورتها الرمزية المستعلنة بالمسيح وفيه، فهي بعينها
التي سترفعها إلى السماء لتكون مع الله كل حين في ابنه يسوع المسيح الذي جمع
القريبين والبعيدين بصليبه ووحَّدهم بجسده وقدَّمهم إلى أبيه مصالحَين وبلا لوم
مُطهَّرين.

وهوذا الدرس الأعظم قد
استوعبه بطرس الرسول أيَّما استيعاب، وحوَّله إلى منطوقه الإلهي الذي يتقطَّر حكمة
ونعمة وسلاماً: «وأمَّا أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما إنه دنس أو
نجس».
هذه هي بعينها قاعدة الكنيسة وأساسها الإلهي، الصخرة التي لا تفرق بين
يهودي وأممي بعد الآن، كمبدأ إلهي سلَّمه (القديس بطرس) ليد غيره، لأنه صعبٌ عليه
أن يحتفظ به وسط اليهود بأورشليم كما أراده الله أن يكون.

وفي تواضعٍ وروح إذعانٍ
للذي علَّمه وأراه أن يسير وراء معلِّمه السمائي كما سار معه على الأرض تابعاً
خاضعاً، يعترف بطرس الرسول أن مجيئه اليوم ودخوله بيت كرنيليوس هو يوم افتتاح
الطريق والباب لدخول الأمم بيت الله.

ثم طلب منهم أن
يُعْلِموه برؤيتهم كما أعلمهم برؤيته، حتى يسجِّل للكنيسة محضر التلاقي تحت رأي
الله وختمه، ليكون بدءاً لتاريخ الكنيسة الخالدة.

30:1033 «فقالَ
كرنيليُوس منذُ أَربعةِ أيامٍ إلى هذهِ الساعةِ كُنتُ صائماً. وفي الساعةِ
التاسعةِ كُنتُ أُصلِّي في بيتي وإِذا رَجُلٌ قد
وقفَ أمامي
بلباسٍ لامِعٍ وقالَ يا كرنيليُوس سُمِعَتْ صلاتُكَ وذُكِرَتْ صدقاتُكَ أَمامَ
الله. فأرسِلْ إلى يافا واستدعِ سِمعانَ الملقَّب بطرُس. إنـَّه نازلٌ في بيتِ
سمِعَانَ رجُلٍ دبَّاغٍ عند البحرِ، فهو متى جاءَ يُكلِّمكَ. فأرسلتُ إِليكَ
حالاً، وأنتَ فعلتَ حسناً إِذ جِئتَ. والآن
نحنُ
جمِيعاً حاضرونَ أمامَ الله لنسمعَ جميعَ ما أَمرَكَ به الله».

أول اجتماع انعقد
لكنيسة الأمم في قيصرية كان بقيادة ضابط روماني رئيس مائة مع كل بيته
وأنسبائه
وأصدقائه الأقربين، يجتمعون معاً برجاء وصول مَنْ يلقِّن الإيمان ويعمِّد لتظهر
أول كنيسة للأمم في العالم.

وهكذا يشاء الله أن
يعلن مدى عمل الروح القدس في الخفاء في هذه القلوب الصالحة والتقية فعلاً. لأن
بهذا المنظر تكون كنيسة الأمم قد اقتحمت الطريق إلى الرسل وليس الرسل هم الذين
اقتحموها. الأمم أرسلت تطلب مَنْ يُعَمِّدها من أحد الرسل الذين كانوا قد أخذوا
أمراً من المسيح للذهاب للعالم كله للكرازة والتعميد. ولكن لمَّا توانى الرسول
عنها خرجت تطلبه بإلحاح بحراسة عسكري، ولمَّا حضر شكروه وهم الذين اعتبروا مجيئه
عملاً حسناً!!

وللعجب
أنهم هم الذين طالبوه أن يقول لهم ما أمره الله به أن يقوله. إن هذه الآية تُحسب
مؤاخذة شديدة مهذَّبة من الأمم للكنيسة التي أغفلت
حقهم عند الله،
وأغفلت أمر الله
بخصوصهم.

 

أول صفحة من
بشرى الخلاص

يقرأها ق.
بطرس على الأمم عن الكنيسة وباسمها إِيذاناً بحلول الروح القدس

واشتعال نار
النعمة في معسكرهم لبدء النداء باسم الرب

 

34:10و35 «ففتحَ
بُطرسُ فاهُ وقالَ، بالحقِّ أَنا أَجِدُ أَن الله لا يقبلُ الوجُوهَ، بل في كُلِّ
أُمَّةٍ الذي يتقيه ويصنعُ البرَّ مقبُولٌ عندهُ».

القديس لوقا إنجيليٌّ
هو، كتب لنا سيرة الرب كيف كان يتكلَّم ويعلِّم، وهو هنا دون أن يشعر يتخذ نفس
أسلوبه الإنجيلي في الرواية:
» ففتح فاهُ وقال « نفس ما كان يصف به المسيح عندما كان يعلِّم.

«الله لا
يقبل الوجوه»:
proswpol»mpthj

الكلمة اليونانية تعني
حرفياً ما يقابل بالعبرانية “برفع الوجوه”
nasaponim، وهو الاصطلاح
السائد في العهد القديم الذي يجعل من “رفع الوجه” معنى“يميز أو يصنع فضلاً أو
نعمةً للإنسان”، وبذلك يكون نَفْي هذا الاصطلاح معناه أن الله لا يميِّز الأشخاص
باستحقاقهم، كما جاءت في إنجيل ق. لوقا: «فسألوه يا معلِّم نعلم أنك بالاستقامة
تتكلَّم وتعلِّم ولا تقبل الوجوه
prÒswpon

lamb£nein
بل بالحق تعلِّم طريق الله »
(لو
21:20). وهو نفس
الاصطلاح الذي أورده لوقا هنا في سفر الأعمال، بمعنى المحاباة لمجرد الوجه أو
الشخص في حدِّ ذاته. وأول ما جاءت جاءت في سفر التثنية 17:10.

وطبعاً هذا تعلَّمه ق.
بطرس جيداً من درس الملاءة المدلاَّة من السماء وانكشاف سرِّها أنه لا يدعو إنساناً
قط أنه دنس أو نجس. وبالتالي مباشرة أن لا امتياز لليهودي على اليوناني، وأن الله
لا يحابي اليهودي على حساب الأممي! وهذا قول حق أشد الحق.

وفي هذا المعنى يقول
عاموس النبي:

+ » ألستم لي كبني الكوشيِّين يا بني إسرائيل يقول الرب؟ ألم
أُصعد إسرائيل مِن أرض مصر والفلسطينيين مِن كفتور، والآراميين مِن قِير؟
«(عا 7:9)

ويسأل النبي ميخا: ما
الذي يجعل الله يَرْضَى عن الإنسان؟

+ » بِمَ
أَتقدَّمُ إلى الربِّ وأَنحني للإله العليِّ؟ هل أَتقدَّمُ بمحرقاتٍ؟ … هل
يُسرُّ الربُّ بأُلوفِ الكباشِ بربواتِ أنهارِ زيتٍ؟ … قد أَخبَرَكَ أَيها
الإنسانُ ما هو صالحٌ وماذا يطلبه منك الرب إلاَّ أن تصنع الحق وتحبَّ الرحمة
وتسلك متواضعاً …
«(مي 6: 68)

والعجيب أن ميخا هنا
يصف كرنيليوس العجيب:
» رجلٌ بارٌ وخائف الله « » وهو تقي وخائف الله مع جميع بيته يصنع حسنات
كثيرة للشعب ويصلِّي إلى الله في كل حين
« وهو أممي وضابط في جيش روماني مستعمر!! هنا قول ق. بطرس جاء
مناسباً للمقام، ومطابقاً للحال، ناطقاً بلسان الواقع، وكأنه يريد أن يقول:
» أنت أبرُّ
مني
«

ولكن لو يلاحِظ القارئ
اللبيب يرى أن القديس لوقا وهو يدقق للغاية ويطنب إطناباً من الواقع على موقف
كرنيليوس المزكَّى، ثم من الموقف المقابل للقديس بطرس في تزكيته لموقف كرنيليوس،
إنما يميل أن يرسم دخول الأمم بصورة جدّ جميلة وشهية للروح. أليس هو (لوقا) أمميًّا؟
وقد جاز النعمة بكل يقين!! ويبدو أيضاً أن دخوله إلى الإيمان كان وراءه مثل هذه
التحركات السماوية التي تقطر حبًّا، فأراد أن يبث أحاسيسه الشخصية إلينا وكأنه
يعترف بفضل الله ورحمته عليه مرسومة باسم كرنيليوس!

«يصنع
البر»:
dikaiosÚnhn

ولكن البر هنا ليس 
بمعنى “برُّ الله”؛ بل هو برٌّ مصنوعٌ؛ فهو لا يعني إلاَّ صُنْع الصدقات فيما غير
العبادة لله. وقد ذكرها القديس متى على لسان المسيح
» احترزوا من
أن تصنعوا صدقتكم
dikaiosÚnhn قدام الناس «(مت 1:6)، والتي تُنطق في العبرانية Sedaqah
أي صدقة. ومعروف أن معنى “الصدِّيق” هو الكثير الصنع للصدقات. ولكن في معنى
العبادة تأخذ كلمة “صدِّيق” معنى المحسوب أمام الله أنه بار أي خاشع بقلبه وروحه
ويخشى اللوم والملامة. ومنها يأتي المفهوم المشترك بمعنى الذي يعمل أعمالاً حسنة
كالصدقات يصير مقبولاً عند الله، أي صدِّيقاً على مستوى الأعمال وليس على مستوى
تبرير الله، الذي اقتُصر على التبرير بالإيمان بالمسيح في المسيحية.

36:10 «الكلمةُ التي
أَرسلها الله إلى بني إسرائيل يُبشِّرُ بالسَّلامِ بيسُوعَ المسيحِ، هذا هو ربُّ
الكُلِّ»

وضع الكلام باليونانية
يُقرأ أفضل بحسب العالِم بروس هكذا:
» أَرسل الكلمة إلى بني
إسرائيل ليُخْبِر ببشارة السلام (التي نطق بها الملائكة في بيت لحم) بواسطة يسوع
المسيح رب الكل
«

( أ ) وإلى هنا تكون بشرى
الملائكة
بميلاد الرب في بيت لحم اليهودية هي التي أعطى القديس لوقا صورتها
الملخَّصة جداً في إنجيل القديس لوقا
» وظهر بغتةً مع الملاك
جُمهورٌ مِنَ الجندِ السماوي مسبِّحينَ الله وقائلين: المجدُ لله في الأعالي، وعلى
الأرضِ السلامُ، وبالناسِ المسرَّة.
«(لو 2: 13و14)

37:10 «أَنتُمْ
تعلمُونَ الأَمرَ الذي صارَ في كُلِّ اليهوديَّةِ مُبتَدِئاً مِنَ الجليلِ بعدَ
المعموديَّةِ التي كَرَزَ بها
يوحنَّا».

(ب) وهنا ابتدأ ق. بطرس
يسرد قصة المسيح عندما ظهر أول ما ظهر في اليهودية وذلك بحسب إنجيل يوحنا
بصورة خاصة، الذي ابتدأ مع المعمودية مباشرة، وكرازة يوحنا بالشهادة له أنه
ابن الله بحسب إنجيل يوحنا أيضاً ثم انتقل إلى الجليل ليختار الرسل وذلك
بحسب الأناجيل الثلاثة ليبدأ عمله.

38:10 «يسوعُ الذي من الناصِرةِ كيف مسحَهُ الله بالروحِ
القدُسِ والقوَّةِ الذي جالَ يصنعُ خيراً ويشفي جميع المتسلِّطِ عليهم إِبليسُ
لأَن الله كانَ معهُ».

(
ج )
يُعطي ق. بطرس صورة خاطفة لنجَّار الناصرة وحياته قبل العماد مباشرة توطئة للمسحة.

( د ) ثم كيف مسحه
الله بالروح القدس
في المعمودية. والمعنى الواضح أنه “أعلنه المسيَّا”
مؤيَّداً بالروح والقوة. الأمر الذي أعلنه المسيح بدوره علناً عندما دخل المجمع
وأُعطِيَ السفر ليقرأ، وكان الروح القدس قد حدَّد السطر الذي يقرأه
» روح السيد الرب عليَّ لأن الرب مَسَحَني
لأُبشِّر المساكين، أرسلني لأَعصب منكسري القلبِ لأُنادي للمسبيِّين بالعتق
وللمأسورينَ بالإطلاقِ، لأُناديَ بسنةٍ مقبولةٍ للرب …
«(إش 61: 1و2)، هذه
النبوَّة التي سجَّلها القديس لوقا في إنجيله على فم المسيح مباشرة (لو 4: 18و19).
ويكمِّل:
» ثم طوى السفر وسلَّمه
إلى الخادم وجلس وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم
إنه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم.
«(لو 4: 20و21)

والملاحَظ أن سرعة
السرد والاختصار الشديد والنقلات السريعة والأسلوب هو طبق الأصل من أسلوب القديس مرقس
في إنجيله.

( هـ ) ثم أعطى ق. بطرس
صورة للمسيح وهو يجول في الشوارع والقرى والبلاد يكرز ويصنع الخير لكل مَنْ
يطلبه ويشفي المتسلِّط عليهم إبليس،
معطياً السر في ذلك بذكره مسحة الروح
القدس والقوة التي كان يعمل بها، وظهورها علانية إزاء أعمال الشيطان.

وبذلك يكون القديس بطرس
قد أعطى الجزء الأول من سيرة المسيح بدءاً من كرازة المعمدان بإعداد الطريق أمامه،
إلى المعمودية، إلى عمله في اليهودية أولاً ثم الجليل ثم سكنه في الناصرة وسِرّ
لقبه بالناصري، وأعماله التي كانت بمسحة الروح والقوة، وسلطانه على مملكة الشيطان
الذي كان يستمده من الله الآب. فأعماله كانت بالآب معمولة، وهذا هو تعليم الرسل
عامة في بدء ظهور الكنيسة الذي كان يسمَّى بالكريجما، أي الكرازة بالإنجيل
k»rugma، أي الشرح التعليمي للإنجيل في بداية العصر الرسولي.

كما يُلاحَظ في شرح
القديس بطرس هنا أنه كان مؤسساً على حقيقة أن كرنيليوس لم يكن مجرد أممي ساذج،
ولكنه كان تقيًّا خائف الله يصنع البر ومقبولاً عند الله، مما يعطي الانطباع أنه
كان عارفاً بكل ما كان يجري في إسرائيل من جهة المسيَّا وظهوره وأعماله والطريق
الجديد الذي كان يطلب الانضمام إليه. كذلك نجد شرحه للإنجيل هنا يختلف عن شرحه
لليهود يوم الخمسين ليناسب قوماً لا يعرفون الكتب وليست لهم خلفية من جهة
المسيَّا.

39:1043 «ونحنُ
شهُودٌ بكلِّ ما فعلَ في كورةِ اليهوديةِ وفي أُورشليمَ، الذي أيضاً قتلوهُ
معلِّقينَ إِيَّاهُ على خشبةٍ. هذا أَقامه الله في اليومِ الثالثِ وأَعطَى أَن
يصيرَ ظاهراً ليس لجميعِ الشعبِ بل لشهودٍ سبقَ الله فانتخبهم، لنا نحن الذين
أكلنا وشَرِبنَا معهُ بعدَ قيامتهِ مِنَ الأمواتِ، وأَوصانا أَن نكرزَ للشعبِ
ونشهدَ
بأن هذا هو
المُعيَّنُ مِنَ الله ديَّاناً للأَحياءِ والأَمواتِ. له يشهَدُ جميعُ الأَنبياءِ أَن
كُلَّ مَنْ يؤمنُ به ينالُ باسمهِ غُفرانَ الخطايا».

( و ) ويقدِّم ق. بطرس
ما يثبت صدق قصة المسيح بشهادة الرسل في كل ما عمله في اليهودية وأورشليم
والجيل.

( ز ) ولكن كل ما عمله
المسيح من الخير والشفاء للشعب لم يمنع الرؤساء من أن يحكموا عليه بالموت على
الصليب كمَنْ يحمل لعنة الناموس
الواقعة على كل مَنْ خالف الناموس، والكل
خالفوه.

( ح ) ثم يكمِّل السيرة
بالقيامة من الأموات في اليوم الثالث وظهوره علناً لكل مَنْ اختارهم
ليكونوا شهوداً له.

( ط ) ويقدِّم ق. بطرس
نفسه مع الرسل كشهود قيامة أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من الأموات.

( ي ) مؤكِّداً بذلك
صدق وحقيقة قيامته بالجسد الذي له، ليكرزوا للشعب ببشارة القيامة من الأموات.

( ك ) حتى يؤمن كل
المدعوين للخلاص بخبر البشارة، أمَّا الذين لا يؤمنون فتكون الدينونة باقية عليهم
مع حكم اللعنة والموت.

( ل ) ثم يؤيِّد بشهادة
الأنبياء جميعاً حقيقة غفران الخطايا لكل مَنْ يؤمن باسم المسيح.

وبذلك يكون ق. بطرس قد
أكمل كل العناصر الأُولى المبشَّر بها في الإنجيل، وإنما باختصار شديد وتتابع
متقن.

وهذا يُعتبر أول شرح
رسولي مفصَّل للإنجيل كعناصر أساسية مقدَّمة للأمم لقبول الخلاص. والملاحَظ على
هذا الشرح أنه يتبع نفس خطوات بشارة بولس الرسول. فالإنجيل المبشَّر به والشرح
واحد في عناصره الأساسية.

كذلك
يُلاحَظ تشديد ق. بطرس على القيامة في اليوم الثالث لا من جهة دقة وحقيقة القيامة
بحدِّ ذاتها كفعلٍ تم ومشهود له، بل يقولها ق. بطرس من جهة التوقيع النبوي على
حادثة القيامة. وهذا التعبير هو الذي أخذت به الكنيسة في قانون الإيمان: «وقام
من الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب».
هنا إضافة
» كما في الكتب «
هي لبطرس الرسول كتعبير رسولي مشهود له من الأنبياء. وهنا يتم ربط العهد القديم
بالجديد في نقطة ارتكاز عظمي وأساسية في الإيمان المسيحي وهي القيامة من الأموات.
وطبعاً النبوَّة المعتمدة هنا من الرسل هي نبوة هوشع النبي التي قالها بفم الشعب
شعب إسرائيل، لأن قيامة المسيح في اليوم الثالث هي أصلاً وبالأساس تعبير خلاصي عن
قيامة الشعب من لعنة الموت والهلاك. فالمسيح هو إسرائيل الجديد:
» هلم
نرجع إلى الرب لأنه هو
افترُس فيشفينا، ضُرب فيجبرنا، يحيينا بعد يومين، في
اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه.

«
(هو
6: 1و2)

والقارئ المدقق يرى أن
هذه النبوة هي أدق وأصدق وصف لزمن موت المسيح وقيامته، لأنه فعلاً بحساب
الساعات والأيام تم هكذا: » يحيينا بعد
يومين
في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا
أمامه
« فبين اليومين والثلاثة قام المسيح حيًّا!!
فبدل
أن نقول في قانون الإيمان هذا بالتفصيل،

نقول:
» وقام في اليوم الثالث كما في الكتب « هذا هو التقليد
الرسولي المأخوذ به منذ البدء والذي اتَّبعه بولس الرسول أيضاً:
» وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب. «(1كو 4:15)

ولم يَغِبْ عن الرسل
ولا يغيب عن بالنا نحن أيضاً الأصل النبوي من الكتب المأخوذ به هنا أيضا، باعتبار
أن المسيح هو “حبَّة الحنطة التي ماتت وقامت” كما جاء في سفر اللاويين، حيث
جاءت فيه بإحكام بديع، إذ يقول إن في غد

السبت
أي الأحد بعد الفصح تقدمون باكورة حصاد القمح، مهما كان يوم الفصح سواء الاثنين أو
الثلاثاء … إلخ أو الجمعة. ففي فصح المسيح نرى أنه جاء بالفعل يوم
الجمعة، أي قُدِّم المسيح مذبوحاً على الصليب يوم الجمعة، وبهذا يكون الأحد
الذي قام فيه المسيح هو ثالث يوم من يوم الذبح على الصليب!!

+ » كلِّم بني إسرائيل وقُلْ لهم متى جئتم إلى الأرض التي أنا
أعطيكم (الأرض الجديدة)، وحصدتم حصيدها (القيامة العامة) تأتون بحزمة أول حصيدكم
(باكورة الراقدين) إلى الكاهن فيردد الحزمة أمام الرب للرضى عنكم (المصالحة) في
غد السبت
(باكر الأحد) يرددها
الكاهن
(يتراءى المسيح أمام الآب)!
«(لا 23: 10و11)

هنا الفصح الحقيقي هو
ذبح المسيح على الصليب، والحصيد العام هو القيامة المزمعة، وحزمة الباكورة للحصيد
هي قيامة المسيح بكل يقين وترديدها أمام الله هو ترائي الرب أمام الآب:
» لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى
إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.
«(يو 17:20) “وغد
السبت هو الأحد”
وهو ثالث يوم من الفصح الواحد الوحيد الحقيقي.

«نحن الذين
أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات»:

نص
شهادي غاية في الأهمية، إذ يُعطي القناعة الحسِّية لتوثيق قيامة المسيح من الأموات
بجسده هو هو. فهنا تحقيق للقيامة كما نؤمن بها أنها قيامة حقيقية وليست خيالية،
وقيامة منظورة ومحسوسة على مستوى النظر والسمع والأكل والشرب، مما ينعكس على حقيقة
الأسرار المقدَّسة من جهة أكل الجسد وشرب الدم على مستوى الخبرة المقدَّسة. فهنا
المسيح قائم بالإيمان على أساس الإيمان بالقيامة المحققة حسيًّا من
التلاميذ. ففي القيامة التي رآها وأحسَّها وباشر وجودها الحسي كل التلاميذ آكلين
وشاربين معه، وهو الإله غير المنظور ولا المحسوس ولا المأكول ولا المشروب، فهنا في
السر نأكل جسده ونشرب دمه غير المنظور وغير المحسوس لاهوتياً، والمحسوس والمنظور
إيمانياً على مستوى الإيمان بقيامته التي باشر تحقيقها الرسل واشتركوا معها آكلين
وشاربين بكل حواسهم.

وحينما أكل التلاميذ
وشربوا معه بعد قيامته من الأموات، فالجسد الذي عاينوه وشاركوه بحواسهم
كان هو بعينه الجسد حامل الموت والدفن والقيامة،
جروحه عليه وهو في ملء الحياة. فصار إيمانهم بموت الرب وحياته أي قيامته من
الأموات فعلاً محققاً تحقيقاً إيمانياً وحسيًّا بآن واحد. وهذا ما نباشره في أكلنا
من السر المقدَّس الجسد والدم الذي نأكل فيه المسيح ميِّتاً ومقاماً بالإيمان على
مستوى التلاميذ في شركتهم مع المسيح ميتاً ومقاماً.

وبذلك نرى أن تصميم
الرسل على الشهادة بأنهم أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من الأموات، قد أَدخَل في
اللاهوت المسيحي مفهوماً خطيراً للقيامة من الأموات:

أولاً: أنها قيامة
حقيقية وليست خيالية أو فكرية.

ثانياً: أنها قيامة
بجسده وذاته وصفاته وحياته تماماً كالأُولى، بإضافة أنها دخلت في صميم الحياة
الأخرى والوجود الروحي الفائق مع الآب.

ثالثاً: يكون قد
تحقق بذلك كل ما علَّم به المسيح سابقاً من جهة موته وقيامته وبالأخص من جهة
الوجود الفعلي لحياة أخرى فائقة عن هذه الحياة الحاضرة، ولكن ليست منفصلة عنها بل
مكمِّلة لكل نقائصها.

رابعاً: إن
بالقيامة من الأموات يحتفظ الإنسان بكل ملكاته وقواته وعواطفه وتصوراته،
ولكن في غير حاجة إلى تحقيقها مادياً أو الخضوع لمتطلباتها الحسية، فهو يستطيع أن
يأكل ولكنه لا يحتاج أن يأكل لأنه يحيا بمصادر أخرى تسمو عن مصادر أعواز الجسد،
وهو يستطيع أن يفكر ويعقل ويتكلَّم ويسمع ويُقنع ويقتنع دون أي حاجة لكل هذه
الظواهر فهو يمارسها في الحياة الأخرى بطريقة أسمى وأكثر رقيًّا وروحانيةً
وامتداداً وخلوداً. يسترجع الماضي في غير اتصال أو تأثُّر به، فهو حرٌّ من كل
حياته السالفة، إذ لا يتركب ولا يترتب عليها من مناقصها وذلك للذين اجتازوا اختبار
العبور دون دينونة:
» لا شيء من الدينونة
الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.
«(رو 1:8)

خامساً: ويكونون قد
أثبتوا إمكانية الاتصال الحقيقي والمباشر مع العائشين على الأرض يعطون ولا يأخذون،
يعلِّمون ولا يتعلَّمون، يؤازرون وينبِّهون ويرشدون ويثبتون الإيمان في القلوب.

سادساً: ويكونون قد
أثبتوا أيضاً أن الحياة الأخرى لها عملها ورسالتها بالنسبة للحياة على الأرض:
» نعمًّا أيها العبد الصالح والأمين، لأنك كنت أميناً في
القليل (الأرض) فليكن لك سلطان على عشر مدن …
«(لو 17:19)

إذاً، فالحياة الأخرى
حياة مؤثرة في هذه الحياة على الأرض، تؤثر فيها ولا تتأثر بها. ترقِّيها ولا
تترقَّى بها.

إذاً، فهي نِعْمَ
الحياة ونِعْمَ الأفضل ونِعْمَ الكامل!!
» الآن أعرف
بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت.
«(1كو 12:13)

ســابعاً: وهذا ما
يهمنا للغاية أن الرب المقام من الأموات لا يزال بعد القيامة مع تلاميذه ورسله
القديسين حسب وعده تماماً:
» ها أنا معكم
كل الأيام إلى انقضاء الدهر
«(مت 20:28). وهذا هو الأساس الحي الإلهي الذي بُنيت عليه الكنيسة: » مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر
الزاوية
«(أف 20:2)، وعليه نقوم إلى قيام الساعة.
وبهذا
وعلى هذا الأساس يشهد الآن القديس بطرس

لكرنيليوس
وكل بيته كباكورة الأمم.

«ديَّاناً
للأحياء والأموات»:

إن رسالة المسيح تبلغ
غايتها في الدينونة، والدينونة تسري على الأحياء والأموات جميعاً، وهذه الدينونة
كقضاء  الله الحتمي إنما أُعطيت كلها للابن، والله لم يشأ أن تقع تحت قضاء
الملائكة أو جنس آخر بل حدَّده وحصره أن يكون كله في يد ابن الإنسان. وهكذا بحكم
الجنس والقُرْبى ووحدة الألم والمعاناة يستطيع أن يرحم ويتراءف، فهو ابن الله وابن
الإنسان بآنٍ، يحكم باسم الله بعدله وبرِّه، وكونه هو هو ابن الإنسان  الشريك في
اللحم والدم يستطيع أن يقيس القياس الحقيقي والصادق والأمين فيما يستحقه الإنسان
من قضاء ورحمة بآن واحد:

+ » لأنه فيما هو قد تألَّم مجرَّباً يقدر أن يعين المجرَّبين «(عب 18:2)

+ » وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان. «(يو 27:5)

+ » لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن (ابن
الله).
«(يو 22:5)

+ » مَنْ هو الذي يدين. المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً
الذي هو أيضاً عن يمين الله الذي أيضاً يشفع فينا.
«(رو 34:8)

لذلك يقولها المسيح
واضحة صريحة كقانون قد تحدَّد:

+ » الحق الحق أقول لكم إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي
أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة
بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.
«(يو 24:5)

«له يشهد
جميع الأنبياء أن كل مَنْ يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا»:

لقد رفع بطرس الرسول
الامتياز الذي طوَّق به نفسه هو وكل بني إسرائيل معه من جهة تخصُّص الله لهم
وتخصصهم لله بإبراهيم وإسحق وإسرائيل، وبيد مرتعشة استند على الأنبياء ليسلِّم
الأمم غفران الخطايا والإيمان بالله والمسيَّا!

وكأن الروح القدس كان
بانتظار نُطق ق. بطرس بأحقية الأمم في الخلاص عن قناعة، واستشهاده بالأنبياء لكي
ينسكب عن رضى بني يعقوب وخضوع ذوي الرقاب الصلبة. لأن غاية الروح القدس في
الانسكاب أن يجمع الشعب مع الشعوب ويجعل من الاثنين واحداً ويصنع على الأرض كنيسة
واحدة تجمع كل الشعوب معاً لتسبِّح الخالق بنفس واحدة وإيمان واحد!

فإن كان المسيح هو الذي
يدين العالم فحتماً هو الذي يغفر خطايا العالم. فهو نفسه الذي قال:
» ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر
الخطايا.
«(مر 10:2)

أمَّا خلاصة أقوال
الأنبياء في حقيقة غفران الخطايا التي كان الله مزمعاً أن يضعها في يد ابنه فقد
تنبأ عنها إشعياء النبي بمنتهى العلانية والوضوح:
» أمَّا الرب
فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه “ذبيحة إثم”، يرى نسلاً تطول أيامه
ومسرة الرب بيده تنجح، … وآثامهم هو يحملها … وهو حمل خطية كثيرين وشفع في
المذنبين.
«(إش 53: 10و11)

 

الروح
القدس ينسكب على الأمم مباشرة

صورة ليوم
الخمسين

[انظروا كيف يعالج الله
الأمور بعنايته،

لم ينتظر حتى يفرغ ق.
بطرس من كلامه،

ولا حتى انتظر أن تُجرى
المعمودية بأمر من ق. بطرس،

ولكن الله لمَّا وثق أن
قلوبهم بلغت حدّ الفطنة،

وأدركوا من التعليم أن
خطاياهم بالمعمودية ستصير مغفورة حتماً،

للوقت حلَّ الروح القدس
بفعل عظيم

قاصداً الرب أن يعطي ق.
بطرس أساساً متيناً لتبرئته …

أمَّا لسان حال ق. بطرس
فهو إني جئت لأتعلَّم.]

(القديس يوحنا ذهبي
الفم)

(العظة 24)     

 

44:10 «فبينما
بُطرُس يتكلَّمُ بهذهِ الأُمورِ حلَّ الرُّوحُ القُدسُ على جميعِ الذينَ كانوا
يسمَعُونَ الكلِمَةَ».

لقد طرح القديس بطرس
الإنجيل بأكمله مختصراً ولكن بارز المعالم، مقدِّماً المسيح لهم مصلوباً ومُقَاماً
من الموت، ديَّاناً للأحياء والأموات، وغافراً للخطايا والذنوب الذي هو محور
الإيمان الكامل بالمسيحية. القديس بطرس سلَّمهم المسيح فقبلوه، آمنوا به بل كانوا
قد آمنوا به قبل أن ينطق ق. بطرس بقواعد الإيمان الأساسية التي تؤهلهم لعمل نعمته.

لقد اغتصب كرنيليوس
ملكوت السموات بما قدَّمه من عبادة وتقوى ومخافة ثم بذل وعطاء فائق الوصف مع صلاة
وترقُّب قاده إلى الإيمان، كرنيليوس كان على ميعاد مع نعمة المسيح واتصال بلا وسيط
بروحه القدوس. ولكن تحتَّم لدى الله والمسيح أن يختم إيمانه بسماع الخبر بالكلمة
وقبولها علناً من فم الكنيسة التي أرساها المسيح على أساس الرسل
» مبنيين على
أساس الرسل
«

وإن ما حدث لكرنيليوس
وأهل بيته وحتى أنسبائه وأصدقائه المقرَّبين لهو أمرٌ عجيب بالنسبة لمسار الإيمان
والاستحقاق والمعمودية ثم انسكاب الروح القدس. كرنيليوس كان يترقب الروح ترقُباً
بالغ اللهفة، وقد أعدَّ له وعاء قلبه بأجمل الإعداد والاستعداد، لم يطق الروح
صبراً على تمهُّل بطرس الشديد ليُوفي حق الشهادة لتبرئ ذمته. ومن هذه السابقة التي
لم يحدث لها نظير أي قبول الأمم علناً ورسمياً باسم الكنيسة والمسيح
أعفاه الروح القدس من تسديد كل الأركان التي يودّ أن يتذرع بها أن الله هو الذي
اختار وعيَّن وأرسل، فحلَّ الروح القدس مباشرة على كل المجتمعين، كدأب الروح القدس
دائماً دون تفريق، وقبل أن يُجري ق. بطرس العماد أو النطق بالإيمان أو وضع اليد
للمسحة!! نعم حلَّ الروح القدس من تلقاء ذاته لأنه رأى أن إناءه الذي سيرتاح فيه
قد أُحسن إعداده بل تزيينه بكل ما يشتهي الروح أن يكون لهيكله الذي يسكن فيه.

وهكذا وبهذا العمل
الفريد أراد الروح القدس أن يحتفظ بارتفاعه فوق الإجراءات والطقوس، لأنه يرى في
نفسه أنه إنما هو الذي يسبق ويعدُّ ويسبق ويجُري كل ما ينبغي أن يُعدَّ.

وصدق الرب
المبارك اسمه حين قال:

+ » فإن كنتم
وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء
يعطي الروح القدس للذين يسألونه.
«(لو 13:11)

لقد سأل كرنيليوس
فأعطاه الله، لأنه تقدَّم إليه كعبد خائف يطلب رضاه، فقبله الله كابن، وكأب أعطاه
الروح ليحيا أمامه إلى الأبد. فالله روح ويطلب الساجدين له بالروح  ليعطيهم الروح.
لقد سأل كرنيليوس عطية الله فكيف لا يعطيه الله عطيته الحسنة. كل هذه المشاعر
المكدَّسة في قلب كرنيليوس أحسَّها الله وأجاب عليها بصورة فريدة ليعبِّر الله
أيضاً عن المشاعر المفرطة لحبه لكرنيليوس، فأرسل له الروح القدس مباشرة من السماء،
بصورة تحاكي صورة حلوله يوم الخمسين على أهل الختان. على أن حلوله على الأمم بهذه
الصورة الفريدة إنما كان امتداداً حتميًّا ليوم الخمسين وليس تفرُّداً عنه، لأن
حلول الروح القدس يوم الخمسين كان يشمل بالضرورة كل الأمم وإن كان لم يكن قد أتى
ميعادهم بعد!

والقديس بطرس هو الذي
ينبِّه ذهننا إلى العلاقة الصميمية بين حلول الروح القدس يوم الخمسين على أهل
الختان وحلوله على الأمم هكذا:

+ » فلما ابتدأت
أتكلَّم حلَّ الروح القدس عليهم كما علينا أيضاً في البداية … فإن كان الله
قد أعطاهم الموهبة كما لنا أيضاً بالسوية
مؤمنين بالرب يسوع، فمَنْ أنا؟ أقادر
أن أمنع الله.
«(أع 11: 1517)

وفي موضع آخر قال:

+ » والله
العارف القلوب شهد لهم معطياً لهم الروح القدس كما لنا أيضاً.
«(أع 8:15)

والملاحَظ هنا
وهذا عجيب حقاً أن ق. بطرس لا يقارن حلول الروح القدس وتأثيره على
الأمم مع حلوله وشروطه على الثلاثة آلاف، بل يقارنه مع حلوله على التلاميذ أنفسهم:
«كما علينا أيضاً في البداية»، «كما لنا أيضاً بالسوية».

كذلك نجد المفارقة
شديدة بين أهل الختان الذين طلبوا أن يرشدهم ق. بطرس نفسه:
» ماذا نعمل؟ «فكان رده: » توبوا
وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح
القدس
«(أع 38:2)، وبين
الأمم، حيث نجد أن الروح القدس حلَّ بدون مطالبة بتوبة ولا إجراء عماد!!

بل يزيد الله من
المقارنة إذ يجعل حلول الروح القدس على كرنيليوس وأهل بيته يصاحبه آيات ومعجزات
وتكلُّم بألسن كما حدث للتلاميذ وليس عامة الشعب.

إن كنيسة الختان لم
تقدم ما تستحق به حلول الروح القدس إلاَّ الصلاة بنفس واحدة مع الصوم والطلبة في
العلِّية، هذا تمَّمه كرنيليوس مع أهل بيته وأصدقائه، فحسن جداً في عين الله.

وهكذا يفتتح الله عهده
الجديد مع الأمم بحادثين غير عاديين: الأول: حلول الروح القدس على كرنيليوس
وأهل بيته وأصدقائه قبل إجراء العماد وقبل وضع اليد، والثاني: ظهوره لشاول
واختياره له رسولاً وإعطاؤه مؤهلات الإناء المختار الذي يحمل اسمه إلى الشعوب والملوك
وبني إسرائيل أنفسهم، كل ذلك قبل أن يعتمد بل وقبل ان يحلَّ عليه الروح القدس بوضع
اليد. هذه المعجزات التي اخترق بها الله حصار أهل الختان حول الأمم كانت لازمة،
ليس للأمم بقدر ما كانت لازمة لأهل الختان، لكي يدركوا أن دخول الأمم للإيمان
والخلاص هو من قِبَلِه رأساً وليس امتداداً لختانهم وناموسهم.

ولكن بالأولى ومن جهة
أخرى، فإن عماد شاول وحلول الروح القدس عليه مع وضع اليد عليه، ثم عماد كرنيليوس
وكل بيته وأصدقائه وقبول وضع اليد، كل ذلك بعد حلول الروح القدس وامتلائهم بشهادة
الآيات والمعجزات التي حدثت لهم، هذا وذاك يثبت ضرورة المعمودية ووضع اليد مهما
كان قد سبق ذلك الملء من الروح القدس، ومهما كانت الآيات والمعجزات وحتى رؤية
المسيح والتحدُّث معه.

أي أن حلول الروح القدس
وحدوث المعجزات، ورؤية المسيح في السماء وتقبُّل الرسولية منه، كل ذلك لا يغني عن
المعمودية ولا يغني عن حتمية وضع اليد!! وبالتالي الخضوع الكامل لتدبير الكنيسة
كما استلمته من المسيح وتدبيره.

45:10و46 «فاندهَشَ
المؤمنُونَ الذين مِنْ أهلِ الختانِ كُلُّ مَنْ جاءَ معَ بُطرُسَ لأَن موهبةَ
الرُّوحِ القُدُسِ قد انسكبت على الأُممِ أيضاً. لأنهم كانوا يسمعونَهُمْ يتكلَّمونَ
بأَلسِنَةٍ ويعُظِّمونَ الله».

لم يشأ الله أن يجعل
حلول الروح القدس بدون علامات وبرهان صادق على صحة وقوة وفاعلية حلوله. بمعنى
تقبُّل الأمم موهبة الخليقة الجديدة بالروح، أي نوال الإنسان الجديد بفاعلية قيامة
الرب يسوع من الأموات، الأمر الذي أدهش أهل الختان خاصة أنه قد أُعطي لهم أن
يتكلَّموا بألسنة: «ويعظمُّون الله»، التي هي أخص خصائص شعب الله، والذي
كان يفرِّقه عن باقي الأمم!! وكان هذا طبق الأصل مما عمل الروح القدس يوم الخمسين
مع التلاميذ. لذلك يعتبر حلول الروح القدس على الأمم ممثَّلين بكرنيليوس وأهل بيته
هو استمرار ليوم الخمسين يوم استعلان الخليقة الجديدة لا فرق بين يهودي وأممي.

وهنا يقول بطرس الرسول
أيضاً بعد ذلك:
» فتذكرت كلام الرب كيف قال إن يوحنا عمَّد بماء وأمَّا أنتم
فستُعمَّدون بالروح القدس
«(أع 16:11). وهذا القول من ق. بطرس خطير للغاية لأن الرب قال هذا
القول خاصة للتلاميذ المجتمعين في العلية. إذاً، فبطرس يعني أن الأمم هنا تعمَّدوا
بالروح القدس
قبل أن يعتمدوا بماء المعمودية بعد ذلك.

من هنا فيلفهم القارئ
من أين جاءت حيرة ق. بطرس حينما قال:
» فإن كان الله قد أعطاهم
الموهبة كما لنا أيضاً بالسوية مؤمنين بالرب يسوع المسيح فمَنْ أنا. أقادر أن أمنع
الله
«(أع 17:11)، بمعنى
أن الله تجاوز الكنيسة وتجاوز سلطان ق. بطرس وأعطاهم كل مؤهلات المسيحية التي
أعطاها لليهود قبل المعمودية وقبل وضع يد الرسولية!! وهذا أيضاً ما عبَّر عنه في
الآية القادمة هكذا:

46:10و47 «حينئذٍ
أجابَ بُطرُسُ أَتُرَى يستطيعُ أَحدٌ أَن يمنَعَ الماءَ حتى لا يعتَمِدَ هؤلاءِ
الذينَ قَبِلُوا الرُّوحَ القُدُسَ كما نحنُ أيضاً».

أي أن بطرس الرسول
حينما رأى بعينيه وسمع بأذنيه أن الروح القدس حلَّ عليهم حلولاً مُبَرْهَناً
بالتكلُّم بالألسن وبإعطاء التمجيد وتعظيم الله باللسان بلا أي سلطان رسولي، وقف
منذهلاً أمام عمل الروح القدس الذي أخذ المبادرة من الكنيسة وتجاوز عمل الرسولية
وعمّدهم بنفسه صائراً أشبيناً لهم بنفسه!! إذاً، أصبح ق. بطرس مجبراً أن يعمِّدهم
بالماء صاغراً طائعاً منذهلاً!

يُلاحِظ القارئ أن ق.
بطرس هنا يخاطب نفسه ويكلِّم أهل الختان الذين برفقته: أتُرى يستطيع أحد الآن
كان مَنْ كان أن يمنع الماء عن هؤلاء  بعد أن عمَّدهم الروح القدس
بنفسه؟

ويُلاحِظ القارئ أيضاً
أن ما عمله الروح القدس سبق ونبَّه الروح عليه: «ما طهَّره الله لا تدنٍّسه
أنتَ». 
نعم هكذا طهَّر الله الأمم، فما عاد اليهود بقادرين أن يقولوا عنهم
أنهم أنجاس أو أدناس بعد! وهذا ما آمن به ق. بطرس وأعلنه لكنيسة أُورشليم حينما
انعقد مجمع الرسل في أورشليم للتشاور في موضوع دخول الأمم، وطلب رفع الناموس عنهم:
» والله العارف القلوب شهد لهم معطياً لهم الروح القدس كما لنا
أيضاً، ولم يميِّز بيننا وبينهم بشيء إذ طهَّر بالإيمان قلوبهم.
«(أع 15: 8و9)

ولكن الحق يُقال أنه
لولا حلول الروح القدس هكذا ظاهراً وبدلائل قوية وببرهان التكلُّم بألسنة وعمل
الآيات وتمجيد الله وتعظيمه أمام أعين ق. بطرس والذين معه من أهل الختان، ما كان
ق. بطرس وبقية اليهود بقادرين أن يؤمنوا وأن يعترفوا وأن يعلنوا أن الأمم صاروا من
جهة الاختيار والتطهير والإيمان بالله والامتيازات على مستوى الرسل أنفسهم بلا أي
استثناء! «ولم يميِّز بيننا وبينهم بشيء». بل ويمعن ق. بطرس في ذكر التساوي
الحاصل بين الرسل وبين باكورة الأمم حتى وضع مستوى الخلاص واحداً متساوياً
» لكن بنعمة
الرب يسوع المسيح نؤمن أن نخلص كما أولئك أيضاً
«(أع 11:15). ولينتبه القارئ في التشبيه إذ شبَّه خلاص الرسل بخلاص
الأمم معطياً الأمم الأسبقية في التشبُّه، وهذا أيضاً يلفت النظر.

فانظر، أيها القارئ
العزيز، وتمعَّن جيداً كيف خطط الله ودبَّر لدخول الأمم الإيمان، لأن هذا يعنينا
جداً، إذ يكشف عن تصميم الله لأن يلغي الفوارق نهائياً التي كان يفتخر بها اليهود،
ويرفع من علاقة الأمم أمامه وعنده وكيفية دخولهم الإيمان إلى مستوى الرسل أنفسهم:
» هؤلاء الذين
قَبِلوا الروح القدس كما نحن أيضاً
«! إن هذا أمر يذهل العقل. ولكن هذا وإن كان يرفع من شأن الأمم في
اعتبار الله واليهود، إلاَّ أنه لا يقلِّل من شأن الرسل عنده وعند الأمم، فهم أساس
الكنيسة وأعمدتها بالدرجة الأُولى، ونحن على هذا الأساس مبنيون.

48:10 «وأَمرَ أن
يعتَمِدُوا باسمِ الربِّ. حينئذٍ سأَلوُهُ أَن يمكُثَ أياماً».

نعم. ولو لم يكن القديس
بطرس قد رأى الروح القدس والآيات شاهدة لعمله فيهم، ما جرؤ قط على تعميدهم. فالروح
القدس سبق ووضع ق. بطرس في موقف مَنْ يلتزم بالتعميد التزاماً. إن هذا هو حذق الروح
الحكيم الذي يقنع الإنسان بأولويته على كل فكر ومشورة.

ولا شك، عزيزي القارئ،
أننا منذهلون من هذه الحوادث المتتابعة التي أخذ فيها الروح القدس زمام المبادرة
والحركة والعمل بصورة طاغية منذ يوم الخمسين، وبالأكثر جداً في عملية دخول الأمم.
والذي يجعلنا نهتف لحكمة الروح ونمدح تدبيره أنه بعدما أوقع ق. بطرس في طاعته
صاغراً، عاد وأقنع ق. بطرس أن يفتخر بما عمله الروح أمامه وكأنه شريك فيما عمل،
فتسمع ق. بطرس يفتخر بقوله:
» فاجتمع الرسل والمشايخ
لينظروا في هذا الأمر. فبعدما حصلت مباحثة كثيرة (نقاش حاد، نعم ولا)، قام ق. بطرس
وقال لهم: أيها الرجال الإخوة أنتم تعلمون أنه منذ أيام قديمة اختار الله بيننا
أنه بفمي يسمع الأمم كلمة الإنجيل ويؤمنون.
«(أع 15: 6و7)

«يعتمد باسم
الرب»:

ليس هذا نقصاً في مقولة
التعميد الإيمانية:
» عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس « ولكن لم يكن قد حان بعد وقت التعريف بعمق طبيعة الله التي تحتاج
إلى استعلان خاص. فهنا اسم الرب ينوب عن الثالوث بكل تأكيد، لأن “الاسم” واحد:
» أنا هو ™gè e„mi «

وهنا لا يغيب عن بالنا
أن أحداً قط ما اقترح بلزومية الختان، فحلول الروح القدس غطَّى على كل مماحكات
الفكر معطياً ختم الإيمان النهائي على صحة الإيمان والقبول والتبعية وبالتالي
الخلاص. وهكذا قطع الروح القدس خط الرجعة على الرجعيين بحركة واحدة أتاها بحكمته
الفائقة إذ فقط قدَّم الحلول على العماد!! يا لغنى حكمة الروح وإبداع فكره
وتدبيره!

وكان من الضروري للغاية
أن يمكث ق. بطرس في قيصرية أياماً ليلقِّنهم علم معرفة الرب وحياة المسيح وأُسس
الإيمان وواجبات السلوك المسيحي، ويسلمهم ذخائر العهد القديم وشروحه على نور
الصليب؛ ويحكي عن مسيَّا اليهود الذي سرقه الأمم من أيديهم؛ وأمجاد إبراهيم وإسحق
ويعقوب التي حلَّت عليهم بحلول الروح القدس، والوعد والموعد القدوس وفصح الدهور
» والعهد
الجديد بدمي
«



([1]) Polybius, Hist.
VI. 24.

([2]) Jos., Antiq.
XIX, 9.1 f.

([3]) جاء حاتمَ الطائي ضيفٌ ولم يكن لديه من لحم إلاَّ حصانه، فذبحه.
غير أن المضياف هنا يهودي.

هل تبحث عن  بدع وهرطقات بدع قديمة الكسائية ة

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي