الإصحَاحُ
الْخَامِسُ

 

” فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع
الله بربنا يسوع المسيح ” (رو1:5).

1- ماذا تعنى عبارة " لنا
سلام"؟ يقول البعض إن " لنا سلام" تتعلق بالالتزام بأعمال الناموس،
إلاّ أنه يبدو لى وكما هو واضح من الكلام، أنه يتحدث عن كيفية السلوك. لأنه قد
تكلم كثيرًا عن الإيمان والبر بالأعمال، لذلك نجده هنا يبدأ بالكلام عن السلام.
ولكى لا يظن أحد أن هذا الكلام ليس له أهمية، يقول: " لنا سلام"
وهذا يعنى أنه لا ينبغى أن
نُخطئ بعد، ولا أن نعود للأمور السابقة، لأننا إن فعلنا هذا نكون مقاومين لمشيئة
الله. وكيف نستطيع ألاّ نخطئ أبدًا؟ أُجيب، ألم نحصل على السلام من قبل؟!! لأنه
وإن كُنا مسئولين عن هذا القدر الكبير من الخطايا، إلاّ أننا قد تخلّصنا منها كلها
بالمسيح، ولهذا بالأولى جدًا الآن سيمكننا بالمسيح أن نبقى في ذلك الوضع (أى حالة
البر) التي كانت لنا في الماضى.

          لأن اكتساب السلام الذي لم يكن
موجودًا والاحتفاظ بالسلام الذي أُعطى لنا لا يعتبرا شيئًا واحدًا، لأنه من المؤكد
أن اكتسابه هو أكثر صعوبة من الاحتفاظ به. بيد أن ما هو أكثر صعوبة، صار سهلاً وقد
تحقق. وبناء على ذلك فإن الأكثر سهولة، سيكون سهلاً أكثر فأكثر بالنسبة لنا لو
أننا تبعنا ذاك الذي حقق لنا البر والسلام. لكن يبدو لى هنا أنه لا يقصد فقط الأمر
الأسهل، بل أيضًا الأمر المنطقى أو الصحيح. لأنه إن كان المسيح قد صالحنا ونحن بعد
أعداء، فمن المنطقى أن نحافظ الآن على استمرارية هذا الصلح، وأيضًا أن ننسب الفضل
فيما تم للمسيح، حتى لا يبدو أن أولئك الذين صالحهم مع الآب لازالوا قساة وجاحدين.

 

” قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه
النعمة التي نحن فيها مقيمون” (رو2:5).

إذًا إن كنا ونحن بعيدين قد جعلنا
قريبين، فبالأكثر جدًا سيُثّبتنا فيه، إن بقينا بالقرب منه.

2- لكن لاحظ ـ من فضلك ـ كيف أن الرسول
بولس يُشير في كل موضع إلى الأمرين، إلى الأمور الخاصة بالله وتلك الأمور الخاصة
بنا. بيد أنه من المؤكد أن الأمور الخاصة بالله هى متنوعة وكثيرة، لأنه مات لأجلنا
وصالحنا، وجعلنا قريبين منه ووهبنا نعمة لا يُعبر عنها، هذا ما قدّمه هو لنا أما
ما قدمناه نحن هو الإيمان فقط. ولهذا قال " بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن
فيها مقيمون". أخبرنى، عن أى نعمة يتحدث؟ إنه يتحدث عن نعمة أن نكون مستحقين
لمعرفة الله وأن نُنقذ من الخداع وأن نعرف الحقيقة جيدًا وأن نحصل على كل الخيرات
بواسطة المعمودية. لقد قادنا نحو البر لكى نحصل على كل هذه العطايا. ومن المؤكد
بالطبع أن كل هذا لم يصر لمجرد الغفران والتخلص من الخطايا فقط، بل لكى نتمتع
بامتيازات لا تُحصى. ولم يتوقف عند الوعد بهذه الخيرات، لكنه وعد بخيرات أخرى غير
مُعلنة وهى التي تفوق كل فكر وكل لغة والتي لا يُعبر عنها. ولهذا عينه أشار إلى
الاثنين. لأنه عندما يتحدث عن "النعمة" فهو يقصد الخيرات الحاضرة التي
حصلنا عليها، ولكن عندما يقول: " ونفتخر على رجاء مجد الله" فإنه يكشف
عن غنى خيرات الدهر الآتى. وحسنًا قال " التي نحن فيها مقيمون". لأن
هكذا تكون نعمة الله، لا نهاية لها، ولا تعرف التوقف عند حد معين، لكنها تقود
دومًا نحو الأمور الأسمى، الأمر الذي هو خارج قدرات البشر. بمعنى أنه يمكن أن
يكتسب شخص ما مبادئ معينة ومجدًا وسلطة، إلاّ أنه لا يستطيع أن يُقيم فيها على
الدوام، لأنه سيفقدها سريعًا، حتى لو لم ينزعها منه إنسان، لأن الموت عندما يأتى
سينزعها منه على كل حال، بيد أن الخيرات الإلهية لا تخضع لمثل هذه التحولات. لأنه
لا الإنسان ولا الزمن ولا الظروف العارضة ولا الشيطان نفسه ولا الموت عندما يأتى
سيستطيع أن يُبعدنا عن هذه الخيرات، بل عندما ننتقل من هذا العالم سنملك المزيد من
هذه الخيرات وسنتمتع بها أكثر.

          وبناء على ذلك ينبغي ألاّ
ينتابك أى شك من جهة خيرات الدهر الآتي لأنها استعلنت بالفعل في الخيرات التي
نلناها في هذه الحياة الحاضرة. لهذا قال: " ونفتخر على رجاء مجد الله".
هذا لكي تعرف ماهية الحالة الروحية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن. لأننا تأكدنا
ليس فقط من جهة الخيرات التي أُعطيت لنا بل أيضًا من جهة الخيرات التي ستُعطى لنا
في الدهر الآتى كما لو كانت قد أُعطيت بالفعل، لأن الإنسان يفتخر بتلك التي أُعطيت
بالفعل. إذًا طالما أن الرجاء في خيرات الدهر الآتى هو أمر مؤكد وواضح، تمامًا
مثلما تحقق الرجاء في الخيرات التي أُعطيت لنا في الحياة الحاضرة، فلذلك يجب أن
نفتخر بهذا الرجاء (أى المتعلق بخيرات الدهر الآتى) بطريقة مشابهة، ولهذا فإنه
أطلق كلمة مجد على هذه الخيرات. لأنه إن كانت هذه الخيرات تُساهم في اعلان مجد
الله، فإنه من المؤكد أنها ستتحقق، وإن لم يكن لأجلنا فقط بل لحساب مجد الله
أيضًا. ماذا أقول، هل أن خيرات الدهر الآتى هى فقط التي تستحق الافتخار؟ بالطبع
لا، بل أن الضيقات الحاضرة قادرة أيضًا على أن تجعلنا نفتخر بها ونزهو بسببها.
ولهذا فقد أضاف: " وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا في الضيقات". تأمل إذًا
كم ستكون خيرات الدهر الآتى عظيمة ومهمة، وذلك عندما نفتخر بتلك الأمور التي تبدو
أنها محزنة لأن عطية الله هى عظيمة ولا يوجد فيها أى شئ مُحزن. لأن الجهاد فيما
يختص بأمور هذا العالم الحاضر، يحمل مشقة وألم وتعب، لكن فيما يختص بالأمور الروحية،
لا يحدث نفس الشئ بل إن الجهاد بالنسبة لنا، ليس أقل بهجة من المكافآت. فالتجارب
آنذاك كانت كثيرة، ومع هذا فقد تجلى الملكوت بالرجاء الذي فينا، وكان يُنظر
للخيرات على رجاء تحقيقها في الدهر الآتي، مع أن الضيقات أيضًا كانت حقيقة واقعة،
وهذا ما جعل الضعفاء يتشددون. هكذا يُقدم الرسول بولس فعليًا المكافآت قبل
التتويج، بقوله: " إنه ينبغي أن نفتخر في الضيقات ". ومن الملاحظ أنه لم
يقل إنه يجب أن تفتخروا، لكنه قال "نفتخر"، مقدمًا النصح لشخصه أيضًا.
ثم بعد ذلك لأن الكلام يبدو أنه غير مُعتاد وغريب على الآذان ـ إذ أنه يجب أن
يفتخر كل مَن يُصارع الجوع والمقيد والذي يُعذب وأيضًا مَن يُحتقر ويُستهزئ به ـ
ولذلك فهو يقدم شرحًا لهذا المفهوم فيما بعد. والأمر المهم هنا هو أن ما يستحق
الافتخار ليس هو فقط خيرات الدهر الآتى التي تنتظرنا، بل وخيرات الحياة الحاضرة
أيضًا. فالضيقات نفسها هى أمرًا صالح. ولماذا تعتبر أمر صالح؟ لأنها تُنشئ صبرًا.
ولهذا تحديدًا، فبعدما قال " نفتخر في الضيقات"، أضاف السبب (الذي من
أجله، نفتخر في الضيقات)، قائلاً:

 

” عالمين أن الضيق يُنشئ صبرًا ”
(رو3:5).

          انظر إلى إصرار الرسول بولس،
فإنه يحول كلمته مرة أخرى في الاتجاه الآخر. لأن الضيقات جعلت هؤلاء يتعبون، فعلى
الرغم من أنهم كانوا يترجون خيرات الدهر الآتى إلاّ أنها قادتهم لليأس، فيقول لهم
إنه يجب من جهة هذه الضيقات أن نتحلى بالشجاعة ولا نيأس لأن خيرات الدهر الآتى هى
أمر مؤكد:

 

” لأن الضيق يُنشئ صبرًا والصبر تزكية
والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى” (رو4:5ـ5).

          فالضيقات إذًا لا تستطيع أن
تمحى هذا الرجاء بل على العكس فإنها تُزيده. لأنه من المؤكد أن الضيق له ثمر عظيم
حتى قبل الحصول على خيرات الدهر الآتى، هذا الثمر هو الصبر الذي يجعل مَن يتذوقه
إنسانًا كاملاً، بل ويُساهم أيضًا في التطلع نحو خيرات الدهر الآتى، طالما أنه
يجعل الرجاء يزدهر داخلنا. لأنه لا يوجد شيئًا يجعلنا نترجى خيرات الدهر الآتى
أكثر من الضمير الصالح.

3- ولا يوجد أحد ممن عاشوا في حياة
مستقيمة يمكن أن يشك في خيرات الدهر الآتى، تمامًا كما أن هؤلاء الذين أهملوا
وتهاونوا كثيرًا في حياتهم إذ قد صاروا مأسورين من جهة ضميرهم الشرير، فإنهم لا
يريدون أن تكون هناك دينونة ولا مجازاة. إذًا ماذا يحدث؟ هل ما ننتظره من خيرات
يتحقق بالرجاء؟ من المؤكد أنه يتحقق بالرجاء، لكن ليس في الرجاء الإنسانى، لأنه
رجاء كاذب. وكثيرًا ما تخيب آمال مَن وضع رجائه في إنسان، فقد يحدث أن يفارق
الحياة ذاك الذي كان يُنتظر منه تحقيق هذا الرجاء، أو قد يغير رأيه وهو لا يزال
على قيد الحياة. إلاّ أن الخيرات التي تنتظرنا ليست هكذا، إذ الرجاء فيها مؤكد
وثابت. لأن ذاك الذي وعد هو حى على الدوام، أما من جهتنا نحن الذين سنتمتع بهذه
الخيرات، حتى وإن متنا، إلاّ أننا سنقوم مرة أخرى. وبشكل عام لا يوجد شئ يمكن أن
يُخزينا، كما لو أننا قد تباهينا بلا داعٍ في أمور لا طائل منها.

إذًا بعدما أزال الرسول بولس كل شك فيما
يتعلق بالخيرات الإلهية كما أوضح في كلامه السابق، فإنه لم يكتفِ بالحديث عن خيرات
الحياة الحاضرة بل أخذ يتكلّم مرة أخرى عن خيرات الدهر الآتى، لأنه يعرف أن
الضعفاء في الإيمان يطلبون أمور الحياة الحاضرة، لكنهم لا يكتفوا بها. ولذلك يؤكد
على تحقيق خيرات الدهر الآتى من خلال الخيرات التي أُعطيت في هذه الحياة بالفعل.
ولكى لا يقول أحد، ماذا لو أن الله لم يُرد أن يمنحنا هذه الخيرات؟ لأنه من حيث
إنه يستطيع وإنه باقٍ، وأنه حى (إلى الأبد)، فهذا نعرفه جميعًا، لكن ما الذي
يجعلنا مُتيقنين من أنه يريد (أن يهبنا هذه الخيرات)؟ نستطيع أن نتيقن من هذا من
خلال الخيرات التي أُستعلنت لنا بالفعل وأين أُستعلنت؟ أُستعلنت في المحبة التي
أظهرها لنا. وهل ما يقوله يفعله؟ بالطبع لأن هذا ظاهر من خلال وعده بعطية الروح
القدس. ولهذا فبعد أن قال: " والرجاء لا يُخزى" أضاف الدليل على هذا
بقوله: " لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا".
ولم يقل أُعطيت، لكن " انسكبت في قلوبنا"، لكى يُظهر فيض هذه المحبة.
لأن تلك العطية العظمى التي وهبها ليست هى السماء والأرض والبحر، بل هى أكثر غنى
من كل هذه الأمور، إذ جعل من البشر ملائكة وأولادًا لله وإخوة للمسيح. وما هى هذه
العطية؟ هى عطية الروح القدس. لأنه إن كان لا يشاء أن يهبنا تيجانًا مُنيرة بعد كل
الأتعاب، لما كان قد أعطانا خيرات وفيرة قبل هذه الأتعاب. والآن هو يظهر دفء محبته
في الحياة الحاضرة لأنه لم يكرمنا رويدًا رويدًا وقليلاً قليلاً، لكنه سكب كل مصدر
الخيرات التي صارت لنا قبل أن نجتاز في الجهادات.

          وبناء على ذلك حتى وإن كنت غير
مستحق لا تيأس لأن لديك مُدافعًا عظيمًا، التي هى محبة الديان. ولهذا بعدما قال:
" الرجاء لا يخزى"، نسب كل شئ لمحبة الله وليس لإمكانيات خاصة بنا. لكنه
بعدما أشار إلى هبة الروح القدس، ينتقل مرة أخرى إلى الكلام عن الصليب قائلاً
الآتى:

 

” لأن المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في
الوقت المعين لأجل الفجار. فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بار. ربما لأجل الصالح يجسر
أحد أيضًا أن يموت لكن الله بيّن محبته لنا ” (رو6:5ـ7).

إن ما يقوله يعنى إن كان من أجل إنسان
صالح لا يُفضل أحد أن يموت على الفور، فانظر إلى محبة الرب الذي صُلب لا من أجل
أتقياء، بل من أجل خطاة وأعداء. وبعد هذا قال:

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ن نوجة ة

 

” لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا.
فبالأولى كثيرًا ونحن متبررون الآن نخلص به من الغضب. لأنه إن كنا ونحن أعداء قد
صولحنا مع الله بموت ابنه. فبالأولى كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته” (رو8:5ـ10).

          إن هذا الكلام يبدو كأنه نفس
الكلام السابق، إلاّ أنه يبدو مختلفًا بالنسبة للشخص المدقق الذي يفحص المعنى
بعناية. انتبه، فهو أولاً يريد أن يؤكد لهم على الخيرات التي تنتظرهم في الدهر
الآتى. ويوضح كيف كان إبراهيم البار ينظر إلى إمكانية حصوله على تلك الخيرات،
قائلاً إنه " تيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا"[1]،وهذه
الخيرات قد تحققت بعد ذلك من خلال النعمة التي أُعطيت لنا، ثم من خلال الضيقات
لأنها تقودنا إلى الرجاء، وأيضًا من خلال عمل الروح القدس الذي أخذناه. لكنه
يُبرهن فيما بعد على هذا الأمر من خلال الحديث عن الموت الذي ملك علينا وخطايانا
السالفة. الواضح ـ وهو الأمر الذي أشرت إليه سابقًا ـ أن الكلام يحمل بُعدًا
واحدًا ولكنه في الحقيقة يحمل أبعاد ثانية وثالثة وأكثر من ذلك. أولاً أنه مات.
ثانيًا أنه مات لأجل الخطاة. ثالثًا أنه صالحنا وخلصنا وبررنا وجعلنا أبناءً
وورثة.

          الواضح أننا لن نكون أقوياءً
فقط في مواجهة الموت، بل نحن أقوياء بواسطة هذا الذي أُعطى لنا بالموت. وإن كان من
المؤكد أنه ونحن بعد خطاة قد مات المسيح لأجلنا، فهذا في حد ذاته يعد دليلاً على
محبة الله التي لا توصف، أما من حيث أنه مات ونحن بعد خطاة وأعطى عطايا لا يُعبّر
عنها، فإن هذه العطايا تفوق كل امتياز وتقود إلى الإيمان حتى بالنسبة لمَن فقد
الحس تمامًا. لأنه ليس آخر هذا الذي خلّصنا، لكنه هو ذاك الذي أحبنا بشكل فائق،
على الرغم من أننا كنا خطاة، حتى أنه قدّم نفسه للموت لأجلنا. أرأيت كم يُساهم هذا
الكلام المشار إليه في التطلع نحو خيرات الدهر الآتى؟ لأنه قبل أن يتحقق هذا كان
هناك أمران يتسمان بالصعوبة يعوقان نوالنا الخلاص، لقد كنا خطاة وكان ينبغى أن
يموت الرب عنا لكى نخلص، وهذا يعنى أن الخلاص كان يستحيل إتمامه بالفعل قبل (موت
الرب). وأن الخلاص كان يحتاج لمحبة غامرة، فإن كان كل هذا قد تحقق فما يتبقى يكون
سهل التحقيق، فلن يسود علينا الموت فيما بعد، لأننا صرنا محبوبين جدًا.

          إذًا فذاك الذي قهر الأعداء
وأذلهم، ألا يُقدم لنا العون؟ الآن وقد صرنا محبوبين وحيث لا توجد حاجة بعد لأن
يُسلّم ابنه للموت ثانية، فنحن نرى أن المرء لا يُقدم على إنقاذ الآخر لاعتبارات
كثيرة، إما لأنه لا يريد أو لأنه لا يستطيع حتى ولو أراد، وهى أمور لا نستطيع
بالطبع أن ننسبها لله لأنه قد سلم ابنه (للموت). فمن حيث إنه يستطيع، فهذا ما
أظهره لأنه قد برّرنا ونحن بعد خطاة. إذًا هل هناك عائق يمكن أن يمنعنا بعد ذلك أن
نتمتع بخيرات الدهر الآتى؟ لا يوجد.

ثم بعد ذلك أيضًا، ولكى لا تشعر بالخجل
في المستقبل، إذ أنك قد سمعت كلمات مثل خطاة وأعداء وضعفاء وجاحدين، فاسمع ما
يقول:

 

”وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا بالله
بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة ” (رو11:5).

          ماذا يعنى بعبارة "وليس
ذلك فقط"؟ يعنى أننا لم ننل فقط الخلاص، بل أننا نفتخر أيضًا بهذا الخلاص،
وتحديدًا بالخلاص الذي قد يتخيله البعض، أننا نخجل منه. لأننا عندما نخلص، بينما
كنا نحيا في الشرور فهذا دليل قوى جدًا على أن ذاك الذي خلّصنا قد أحبنا بشكل يفوق
الوصف (وهذا ما يدعو للافتخار). لأنه لم يخلّصنا بملائكة أو رؤساء ملائكة، بل
بابنه وحيد الجنس[2].
وليس هذا فقط بل أنه قد ضفر لنا تيجان افتخار كثيرة جدًا بدم ابنه. لأنه لا يوجد
شيئًا يعادل ـ إذا ما تحدثنا عن سبب المجد والافتخار ـ حقيقة محبة الله لنا
ومحبتنا نحن لذاك الذي أحبنا. هذا (الحب) جعل الملائكة والرئاسات والقوات في بهاء،
وهذا الحب هو أعظم من مجرد التمتع بالملكوت. ولهذا فإن الرسول بولس قد وضعه قبل
الملكوت. ومن أجل ذلك فإنى أطوّب القوات غير المرئية لأنهم يُحبون الله ويخضعون له
في كل شئ. ولهذا السبب أيضًا فإن النبى قد أُعجب بهم، قائلاً: " باركوا الرب
يا ملائكته المقتدرين قوة الفاعلين أمره"[3].
ولهذا السبب فإن إشعياء قد امتدح خدمة السيرافيم[4]،
مشيرًا إلى فضيلتهم العظيمة من حيث إنهم يقفون بالقرب من العرش الإلهى، الأمر الذي
يُعد دليلاً على المحبة الكبيرة.

4- إذًا فلنتبع نحن أيضًا القوات
السمائية ولنهتم ليس فقط بأن نقف بالقرب من العرش، بل لأن نحمل داخلنا ذاك الذي
يجلس فوق العرش، لأنه أحب حتى الذين أبغضوه ومازال يُحبهم إذ أنه: " يشرق
شمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار الظالمين"[5].
إلاّ أنه ينبغى عليك أنت أن تحبه، على الأقل طالما أنه أحبك. لكن كيف يستطيع ذاك
الذي يحب أن يُهدد بجهنم والجحيم والعقاب؟ يهدد بهذا من أجل المحبة ذاتها. لأنه
يريد أن يجتث خطيتك بالترهيب الذي يستخدمه كلجام يضبط به اندفاعك نحو الأمور
الأكثر سوءًا، وهو يصنع كل شئ لكى يضبط سلوكك ويوجهك نحو الطريق المستقيم، سواء عن
طريق الوعد بالخيرات أو بالتحذير من الانحدار إلى الأمور المحزنة، فيعود بك إلى
الطريق المؤدى إليه مُبعدًا إياك عن كل الشرور التي هى أكثر فزعًا من الجحيم ذاته.

          لكن لو أنك تسخر مما أقوله
وتريد أن تحيا في الخطية على الدوام اعتمادًا على مجرد إدانتك لنفسك يومًا واحدًا،
فهذا لا يُعد أمرًا غريبًا على الإطلاق. هذا هو بالحقيقة دليل على إرادة تفتقر
للكمال وعلى غياب الوعى وعلى مرض غير قابل للشفاء. لأن الأطفال الصغار عندما يرون
الطبيب وهو يكوى جرحًا[6]،
أو يقوم بإجراء عملية، فإنهم يهربون مبتعدين عن المكان وهم يصرخون صرخات قوية
مُفضلين بالأكثر أن يعانوا باستمرار من تلك الآلام التي ألمت بجسدهم على تدخل
الطبيب حتى وإن أدى تدخله إلى الشفاء والتمتع بصحة جيدة، طالما أنهم قادرون على
احتمال الألم مؤقتًا. لكن أولئك الذين لديهم إدراك يعرفون جيدًا أن المرض هو أكثر
رعبًا من الجراحة، تمامًا كما أن الخطية هى أكثر سوءًا من العقوبة. إذًا فأحد
الأمرين يعنى الشفاء والصحة، بينما الآخر يعنى البلية والمرض المستمر.

          أما من حيث إن الصحة هى أفضل
من المرض، فهذا أمر واضح للجميع. كما أنه يحق لنا أن نُرثي اللصوص، لا عندما
يمزقون جيوبهم، بل عندما ينقبون الحوائط ويقتلون. فإن كانت النفس هى أفضل من الجسد
وهى هكذا بالفعل، فإذا ما فسدت يكون أمرًا مبررًا أن نتنهد ونحزن عليها، لكن لو
أنها لم تشعر بأنها فسدت، فإنه لهذا السبب بالتحديد يجب أن نحزن عليها بالأكثر.
لأنه ينبغى حقًا أن نحزن بالأكثر على أولئك الذين يرغبون في ممارسة الفجور والفسق
وأولئك الذين يسكرون. وقد يتساءل المرء لماذا نفضل هذه الأمور (الفسق والفجور)،
إذا كانت هى الأكثر فزعًا؟ لأنه وفقًا للنموذج الشائع فإن بعض الناس يُعجبون بالأمور
المشينة ويفضلونها ويحتقرون الأمور الصالحة ويُرذلونها. هذا الأمر من الممكن أن
نراه في كل شئ، في المأكولات وفي المدن وفي محاكاة أساليب حياة معينة وفي
الاستمتاع بالشهوة وعند النساء وفي البيوت وعند المقيدين وفي الحقول وفي كل الأمور
الأخرى.

أخبرنى، أيهما أكثر سعادة، هل هى العلاقة
الجنسية مع نساء أم مع رجال؟ وأيهما أفضل أن تكون العلاقة مع نساء أم مع حيوانات؟
لكننا نجد أن الكثيرين يحتقرون النساء ويأتون في علاقات جسدية مع حيوانات ومع رجال
مثلهم، مع أنه من المؤكد أن العلاقات الطبيعية هى أكثر سعادة من العلاقات الشاذة.
لكن يوجد كثيرون يسعون نحو هذه الأمور المدانة والمنفّرة والمثيرة للسخرية كما لو
كانت تجلب سعادة أكثر وهم بذلك يجلبون على أنفسهم العقاب. فهذه الأمور الفاضحة
تبدو لهؤلاء على أنها مُفرحة، من أجل هذا تحديدًا هم تعساء، لأنهم يعتقدون أن
الأمور التي ليست بالمفرحة، هى مُفرحة. هكذا يعتبرون أن الدينونة هى أشر من
الخطية. والأمر ليس كذلك بل هو على العكس تمامًا، إذ أن الخطية هى أكثر فزعًا من
أى عقوبة. لأنه إن كان العقاب شرًا لأولئك الذين يخطئون، فلن يضيف الله شرًا على
شرورهم (بواسطة عقابه) ولن يجعلهم أكثر شرًا. لأن ذاك الذي فعل كل شئ لكى يمحو
الشر، لا يمكن أن يكون سببًا في زيادته. وبناء عليه فإن العقوبة ليست شرًا لذاك
الذي يخطئ، بيد أن الشر هو ألاّ يُعاقب الخاطئ في الحالة التي يوجد فيها، لأن هذا
يشبه تلك الحالة التي فيها نوصى بألاّ يُشفى المريض من مرضه.

          إذًا لا يوجد أشر من الشهوة
الفاسدة. وعندما أقول الفاسدة أقصد شهوة اللذة وشهوة المجد الباطل وشهوة السلطة
وبشكل عام شهوة كل الأمور غير الهامة وغير الضرورية. لأن مثل هذا الإنسان الذي
يحيا في اللذة أو حب الشهوة وفي حياة الرخاوة يعتقد أنه أكثر سعادة من الجميع،
إلاّ أنه في الحقيقة هو أكثر تعاسة من الجميع وقد جعل نفسه مُثقّلة بآلام مخيفة.
ولهذا فإن الله جعل هذه الحياة الحاضرة صعبة لكى يُخلّصنا من تلك العبودية (عبودية
الشهوة) ويقودنا إلى الحرية الكاملة. ولذلك فقد هدّد بالعقاب وربط حياتنا بالأتعاب
لكى يقضى على خمولنا وتوانينا. هكذا فإن اليهود عندما كانوا مُخصصين لصناعة
الأوانى الفخارية والأرميد وقد كانوا أبرارًا كانوا يُصلّون إلى الله بشكل مستمر،
ولكن عندما نالوا الحرية تذمروا وأغضبوا الله وأصابوا أنفسهم بشرور كثيرة.

إذًا بماذا تصف هؤلاء الذين يُغيرون
آرائهم مرات كثيرة بسبب الضيقات؟ نقول إن التغيير ليس بسبب الآلام، لكن بسبب ضعف
أو مرض فيهم. لأنه إن كان هناك مرضًا ما أصاب معدة شخص ورفض أن يتناول دواءًا مر
المذاق كان من الممكن أن يشفيه، فتدهورت حالته، فإننا لن نتهم الدواء بل المرض
الذي أصاب العضو المريض، وهذا ينطبق أيضًا على إلقاء اللوم على سذاجة الفكر. فإن
مَن يغيّر رأيه بسهولة بسبب الضيقات، سيعانى الضيقات بصورة أكثر سهولة حتى في حالة
الراحة والرخاء، إذ أنه يسقط مُقيدًا أى بالخطية (هذا هو الضيق)، وبالأكثر جدًا
سيسقط صريعًا لو أنه وهو في حالة الضيق قد غير رأيه، لأنه سيُغير رؤيته بالأكثر
عندما يكون في حالة رخاوة وكسل. وقد يقول المرء كيف يمكننى أن أثبت على رأيي عندما
أكون في حالة ضيق؟ يمكنك أن تكون ثابت الرأى لو أدركت أنك ستعانى الضيق أو الآلام
سواء أردت أم لم تُرد، فلو أنك تجوز الآلام بشكر ستربح الكثير، ولكن لو كنت تعانى
هذه الآلام بيأس وانزعاج وتجديف، فلن تجعل الضيقة أو النكبة أقل، بل ستغرق أكثر في
الضيقات والمتاعب.

          فلنفكر إذًا في كل هذه الأمور
ونجعل الذي يأتى نتيجة اضطرار يأتى نتيجة إختيار. وما أقصده هو الآتي: قد يفقد شخص
ما ابنه وآخر يخسر كل ثروته فنقول لمثل هؤلاء: إن كنت تدرك استحالة تصحيح ما حدث
إلاّ أنك من الممكن أن تربح شيئًا من وراء هذه النكبة التي لا شفاء منها، بأن
تحتمل هذه الكارثة بشجاعة وبدلاً من كلام التجديف، تُعطى المجد لله عندئذٍ فإن
الضيقات التي ألمت بك ستصير سبب عزاء عندما تقبلها بالشكر. أرأيت أن ابنك مات وهو
صغير السن؟ لتقل: " الرب أعطى الرب أخذ"[7].
ورأيت كيف فُقدت ثروتك؟ لتقل " عريانًا خرجت من بطن أمى وعريانًا أعود إلى
هناك"[8].
إن رأيت كيف أن الأشرار ينعمون بينما الأبرار يتألمون ويعانون ضيقات لا حصر لها
ولا تعرف كيف تجد سببًا لكل ما يحدث؟ لتقل " صرت كبهيم عندك ولكن دائمًا
معك"[9].

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ت ترافيم 2

          ولكن إذا كنت تبحث عن السبب،
فكّر في أن الله قد عيّن يومًا فيه يدين كل المسكونة وسينزع كل شك، لأنه في ذلك
الوقت سينال كل أحد ما يستحقه (عن أعماله التي عملها) تمامًا مثل لعازر والغنى.
تذكّر الرسل لأنهم بينما جُلدوا وطُردوا وجازوا ضيقات وآلام لا حصر لها، إلاّ أنهم
كانوا فرحين لأنهم حُسبوا مستحقين أن يهانوا من أجل اسم المسيح. وأنت أيضًا لو أنك
مرضت فليكن قبولك للألم برضى وشجاعة، ولتشكر الله على كل حال وهكذا ستأخذ نفس
المكافأة مع أولئك الذين تألموا من أجل اسمه. لكن كيف يحدث بينما أنت مريض وتعانى،
يمكنك أن تشكر الله؟ يمكنك أن تفعل ذلك لو أنك تحبه بالحقيقة. إن الثلاثة فتية
أُلقوا في أتون النار وآخرون عانوا آلامًا كثيرة داخل السجون ومع هذا لم يتوقفوا
عن شكرهم لله، فبالأولى كثيرًا أولئك الذين يعانون من أمراض شديدة ينبغى أن يشكروا
الله.

          لأن رغبة الإنسان القوية
تستطيع أن تنتصر على كل شئ. فالشوق الإلهى عندما يلتهب فى داخلنا فإنه يتفوق على
كل شئ، ولن يعوق هذه الرغبة أى شئ، لا نار ولا قيود ولا فقر ولا مرض ولا موت.
وطالما أن الإنسان يحتقر كل شئ فسيرتفع إلى السماء ولن يكون أقل من الساكنين هناك
ولن ينظر لأى شئ آخر، لا سماء ولا أرض ولا بحر لأن نظره يكون معُلّقًا بأمر واحد
فقط الذي هو جمال المجد السمائى. إن الأمور المحزنة أيضًا لا يمكنها أن تُثبّط من
عزيمة الإنسان وهو يسلك في هذه الحياة الحاضرة، ولا الأمور المادية ستجعله يتباهى
ويفتخر. إذًا فليكن لدينا شوق لهذا العشق الإلهى (لأن لا شئ يساويه) من خيرات هذه
الحياة أو الخيرات المستقبلية، من الأفضل أن نقول قبل كل هذا إنه لا يوجد شئ يعادل
طبيعة هذا العشق الإلهى. لأننا (بهذا العشق الإلهي) سننجو من عقوبات الحياة
الحاضرة وعقوبات الدهر الآتى وسنتمتع بملكوت الله. وقبل ذلك نقول إن لا الخلاص من
جهنم ولا التمتع بالملكوت يعتبر أمرًا ذى قيمة كبيرة إذا ما قورن بذاك الذي سنراه
في الدهر الآتى. لأن الأعظم من كل هذا هو محبة المرء للمسيح وتمتعه بمحبة المسيح.
لو ساد هذا على حياة البشر فهو أسمى من كل اعتبار. وعندما يتحقق هذا فأى حديث وأى
فكر يمكن أن يُعبّر عن طوباوية هذه النفس؟ لا يوجد شئ آخر، سوى اختبار تذوق هذه
السعادة.

          ومادمنا قد هجرنا كل شئ لا
يُرضى صلاح الله سنصل إلى إدراك مذاقه هذا الفرح الروحى والحياة الطوباوية وكنز
الخيرات التي لا تُحصى، إذًا فلنكرس أنفسنا للسلوك بمحبة من أجل سعادتنا وإعلان
مجد الله الذي نشتهيه، لأنه يليق به المجد والقوة مع ابنه وحيد الجنس والروح القدس
الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

 

” من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت
الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ
الجميع ” (رو12:5).

1- تمامًا كما يصنع الأطباء الأكفاء
الذين يفحصون دومًا وبعمق جذور المرض ويَصلون إلى السبب المباشر لظهوره هكذا يصنع
الطوباوى بولس. فعندما قال إننا تبررنا، وبعدما أظهر أن هذا البر استعلن في إيمان
إبراهيم بالروح القدس وبموت المسيح لأنه مات لكى يبررنا، يبرهن بعد ذلك وبأسلوب
آخر على تلك الأمور التي سبق وأظهرها بدلائل كثيرة من خلال الموت والخطية. وقد
حاول أن يشرح كيف وبأى طريقة دخل الموت إلى العالم وساد عليه، ويقول إن هذا حدث
بخطية الإنسان الواحد (أى آدم). وماذا يعنى وفي شخصه اجتاز الموت إلى جميع الناس؟
لقد اجتاز الموت إلى الجميع لأنه (أى آدم) سقط في الخطية وأولئك الذين لم يأكلوا
من الشجرة جميعهم صاروا في شخصه مائتين.

 

” فإنه حتى الناموس كانت الخطية في
العالم على أن الخطية لا تحسب إن لم يكن ناموس ” (رو13:5).

          تصوّر البعض أن عبارة "
فإنه حتى الناموس" (أى حتى أُعطى الناموس)، تعني ذلك الزمن الذي يسبق إعطاء
الناموس أى زمن هابيل وزمن نوح وزمن إبراهيم والزمن حتى ولادة موسى. غير أنه لابد
وأن نسأل ما هى الخطية التي وجدت في ذلك الزمان؟ يقول البعض إن الرسول بولس يُشير
إلى الخطية التي حدثت في الفردوس، طالما أنها لم تكن قد بطلت بعد، بل أن ثمرها قد
أينع. حيث أن هذه الخطية قد حملت الموت للجميع وقد ساد الموت واستبد. لكن لأى سبب
أضاف " على أن الخطية لا تحسب إن لم يكن ناموس" أضاف ذلك لمواجهة
اليهود، ما يقوله يعني أنه إذا لم تكن هناك خطية عندما لم يكن هناك ناموس، فكيف
ساد الموت على جميع الذين عاشوا قبل الناموس؟ ويبدو لى أن هذه العبارة لها علاقة
بالأكثر بما كان في فكر الرسول بولس وما كان يريد قوله. وما هو هذا الذي كان يريد
أن يقوله؟ أراد أن يقول إن الخطية وُجدت في العالم حتى ذلك الحين الذي أُعطى فيه
الناموس، من الواضح أن هذا هو ما يقصده، فبعدما أُعطى الناموس، سادت الخطية التي
أتت من العصيان. لأنه يقول إن "الخطية لا تُحسب إن لم يكن ناموس". فلو
أن هذه الخطية قد جلبت الموت بسبب مخالفة الناموس فكيف مات كل الذين عاشوا قبل
الناموس؟ لأنه إن كان الموت يأتى من الخطية، وإذا كانت الخطية لا تُحسب إن لم يكن
ناموس، فكيف ساد الموت قبل إعطاء الناموس؟

          وبناء عليه يكون من الواضح أن
الخطية لم تأتى بسبب مخالفة الناموس، لكن بسبب عصيان آدم وهذه الخطية هى التي
حطّمت كل شئ. وما هو الدليل على هذا؟ الدليل أن الجميع ماتوا قبل الناموس، لأنه
يقول:

 

” قد ملك الموت من آدم إلى موسى وذلك على
الذين لم يخطئوا ” (رو14:5).

وكيف ملك الموت؟ "على شبه تعدى
آدم". ولهذا فإن آدم هو مثال للمسيح. وكيف يقول إنه مثال المسيح؟ لأنه كما أن
أولئك الذين أتوا من آدم على الرغم من أنهم لم يأكلوا من الشجرة، إلاّ أن الموت قد
ملك عليهم، وهكذا صار آدم سببًا للموت الذي دخل إلى العالم بسبب الأكل من الشجرة،
وهكذا أيضًا فإن أولئك الذين انحدروا من المسيح على الرغم من أنهم لم يعملوا
أعمالاً بارة، إلاّ أن المسيح صار سببًا للبر الذي منحه للجميع بواسطة صليبه.

          ولهذا فقد اهتم الرسول بولس
بالتركيز على عبارة "بالواحد"، وهذا ما يُشير إليه باستمرار قائلاً:
" كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم " وأيضًا " لأنه إن
كان بخطية واحد مات الكثيرون" و" ليس كما بواحد قد أخطأ هكذا
العطية" وأيضًا " لأن الحكم من واحد للدينونة" و" إن كان
بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد".

 

” فإن كان بخطية واحد… كما بمعصية
الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة ” (رو15:5ـ19).

          وفي كل هذا لم يبتعد القديس
بولس عن استخدام عبارة "الواحد"، حتى أنه عندما يسألك يهودى كيف أنه ببر
واحد أى بر المسيح، قد خلصت البشرية؟ سيُمكنك أن تُجيب وكيف أُدينت البشرية كلها
بينما من خالف الوصية هو واحد؟ مع الوضع في الاعتبار وهذا أمرًا مؤكدًا، أن الخطية
ليست مثل الهبة وأن الموت ليس كالحياة وأيضًا من المستحيل أن يوضع الشيطان في
مقارنة مع الله، لأن الفروق غير محدودة ولا تُحصى.

          إذًا بالنظر إلى قدرة ذاك الذي
فعل كل هذه الأشياء ووفقًا لخطة الله من جهة خلاص البشرية (لأن ما يليق بالله
بالأكثر هو أن يُخلّص لا أن يُعاقب)، وهنا مكمن التميّز والانتصار، أخبرنى أى
مُبرر يمكن أن تتذرع به لعدم الإيمان؟ لأن المؤكد أن هذا الذي حدث يتفق مع المنطق
وقد برهن عليه الرسول بولس بقوله:

 

” ولكن ليس كالخطية هكذا أيضًا الهبة.
لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيرًا نعمة الله والعطية بالنعمة
التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين ” (رو15:5).

1- وما يقوله يعنى ما يلي: فلو أن الخطية
قد استطاعت أن تصنع كل هذا (أن يجتاز الموت لجميع الناس) وبالطبع من خلال خطية
إنسان واحد، فكيف لا تستطيع نعمة الله وليس فقط نعمة الله الآب بل والابن أيضًا أن
تحقق الكثير (أى خلاص الجميع)؟ وهذا يُعد أكثر تمشيًا مع المنطق. لأنه أن يُدان
احد بسبب خطية آخر، فمن الواضح أن هذا ليس له مبررًا كافيًا (بحسب المنطق
الإنساني)، بيد أن يخلص أحد بسبب عطية الآخر، فهذا أكثر قبولاً وأكثر تمشيًا مع
المنطق. فلو أن البشرية قد أُضيرت بالخطية، فبالأولى كثيرًا ستنال فيض النعمة
وعطية البر.

2- إذًا فالطبيعى والأكثر تمشيًا مع
العقل والمنطق، قد برهن عليه الرسول بولس كما سبق وأشرنا. فطالما أنه قد قبلت فكرة
أن بخطية الواحد قد اجتاز الموت إلى الجميع، سيصير من السهل قبول أنه بعطية الواحد
سيخلُص الجميع. وكون أن هذا الخلاص هو ضرورة حتمية، فقد دلل عليه في الآيات
الآتية. وكيف دلل على ذلك؟ بقوله:

 

” وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا
العطية لأن الحكم من واحد للدينونة وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير ”
(رو16:5).

 ماذا يعنى هذا الكلام؟ يعنى أن الموت
والدينونة يمكن أن تسببهما خطية واحدة، بينما نجد أن النعمة قادرة على أن تمحو ليس
فقط خطية واحدة بل وتلك الخطايا التي ظهرت بعد الخطية الأولى. ولكى لا تكون عبارات
مثل (كما) و(هكذا) توازى بين الخير والشر في المستوى ولكى لا تعتقد عندما تسمع اسم
آدم أن ما مُحى هو فقط الخطية الأولى التي اقترفها آدم، فإن الرسول بولس يقول إنه
قد مُحيت خطايا كثيرة. وما الذي يوضح ذلك؟ الذي يوضحه هو أنه بعد الخطايا الكثيرة
التي اقتُرفت فيما بعد أى بعد الخطية الأولى التي سقط فيها آدم في الفردوس، انتهى
الأمر إلى قبول عطية التبرير. وحيث يوجد بر فحتمًا ستتبعه حياة وخيرات لا تُحصى،
تمامًا كما يحدث في حالة الخطية فحيثما توجد خطية يتبعها موت. لأن البر هو شئ أكثر
من الحياة لأنه هو جذر أو أصل الحياة.

          إذًا من حيث إن هناك هبات
كثيرة قد مُنحت بعطية البر وأن الخطية الأولى ليست هى فقط التي مُحيت بل وكل
الخطايا الأخرى، فهذا قد برهن عليه الرسول بولس بقوله: " وأما الهبة من جرى
خطايا كثيرة للتبرير". وبذلك يكون قد برهن بالضرورة على أن الموت قد قُضى
عليه نهائيًا. ولأنه قال بعد ذلك إن الثانى (أى آدم الثانى) أعظم من الأول (أى آدم
الأول)، فهناك احتياج أن يبرهن على هذا مرة أخرى. فطالما أن بخطية إنسان واحد
اُقتيد الجميع إلى الموت، كما سبق وأشار إلى ذلك، فبالأولى كثيرًا ستستطيع نعمة
الواحد (أى نعمة المسيح) أن تُخلّص الكثيرين. ثم دلل على أنه ليست الخطية الأولى
فقط هى التي مُحيّت بواسطة النعمة بل جميع الخطايا الأخرى. ولم تُمحى الخطايا فقط
بل أُعطى البر أيضًا. وعلى قدر ما تسبب آدم في الأضرار على قدر ما كانت عطايا
المسيح وفيرة ولا تحصى. ومع أنه أشار إلى كل هذه الأمور، إلاّ أنه يحتاج هنا أيضًا
لتقديم برهان أوضح. كيف أوضح هذا البرهان؟ بقوله:

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد جديد إنجيل متى 03

 

” إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت
بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة
بالواحد يسوع المسيح” (رو17:5).

ما يقوله يعنى الآتى: بماذا تسلّح الموت
ضد البشرية؟ تسلّح بأن إنسانًا واحد فقط أكل من الشجرة. فإذا صارت للموت هذه
السيادة الكبيرة بسبب خطية واحدة، فكيف يصبح من الممكن أن يكون هناك أناس تحت حكم
الموت وقد حصلوا على نعمة وبر أعظم بكثير من الخطية الأولى الأمر الذي جعله لا
يقول "نعمة"، بل "فيض النعمة"؟ لأننا لم نحصل على قدر بسيط من
النعمة يكفى فقط لمحو الخطية، بل حصلنا على فيض النعمة. لأنه بالحقيقة قد أُنقذنا
من الجحيم وابتعدنا عن الشر وولدنا مرة أخرى من الله. وقد قمنا، مادام أن إنساننا
القديم قد دُفن، وخُلصنا وتبررنا وصرنا أبناءً وتقدّسنا وصرنا اخوة للابن الوحيد
الجنس وورثة معه واتحدنا معه في جسد واحد، وإلى هذا الجسد نحن ننتمى. وكما أن
الجسد متحد بالرأس هكذا اتحدنا نحن أيضًا به (أى بالابن).

          كل هذا دعاه الرسول بولس
" فيض النعمة " مُظهرًا هكذا أننا لم نحصل فقط على ما يُضمد الجرح، لكن
حصلنا على شفاء وجمال وكرامة وعلى رُتب تفوق كثيرًا طبيعتنا الفانية. وكل أمر على
حدة من هذه الأمور كان كافيًا أن يُبطل الموت، إلاّ أنه عندما يتضح أن كل هذه
الأمور قد ساعدت معًا في إبطاله، فلن يكون له أثر بعد ذلك ولن يكون ممكنًا أن يخيم
بظلاله حولنا طالما أنه قد انتهى كلية. تمامًا كما لو أن شخصًا قد وضع آخر في
السجن لأنه مديون له بعشرة فلسات وليس هذا فقط بل ووضع في السجن أيضًا زوجته
وأولاده وخدامه بسبب هذا الدين، ثم أتى شخص آخر ودفع ليس فقط عشرة فلسات بل ومنح
آلاف العملات الذهبية وقاد السجين إلى الحاشية الملكية وإلى عرش السلطة العليا
وجعله شريكًا في الكرامة السامية وفي الأمور الأخرى المشرقة، فيصير من غير الممكن
أن يتذكر بعد ذلك الفلسات التي اقترضها. هذا ما حدث لنا، لأن المسيح دفع أكثر جدًا
من قيمة الدين الذي كان علينا. وما دفعه كان عظيمًا جدًا، بقدر اتساع البحر إذا ما
قُورن بنقطة ماء صغيرة
. إذًا ينبغى عليك أيها الإنسان ألا تشك في شئ عندما ترى
كل هذا الغنى الوفير من الخيرات ولا تفحص كيف انطفأت شرارة الموت والخطية، عندما
غمر هذا البحر الكبير من الهبات الوفيرة هذه الشرارة المتقدة. وهذا ما أشار إليه
القديس بولس قائلاً: " الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في
الحياة".

3- ولأنه قد برهن على هذا بكل وضوح (أى
أن أولئك الذين ينالون فيض النعمة سيملكون في الحياة)، فإنه يُقدم نفس الرؤية
السابقة مرة أخرى مؤكدًا عليها من خلال التكرار بقوله إن كان بخطية واحد قد أُدين
الكثيرون، فقد تبرروا للحياة بالواحد. ولهذا يقول:

 

” فإذًا كما بخطية واحد صار الحكم إلى
جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة ”
(رو18:5).

          ويستمر في محاولته هذه للتأكيد
على هذه الرؤية مرة أخرى، فيقول:

 

” لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل
الكثيرون خطاة هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا ” (رو19:5).

          إن ما يقوله القديس بولس هنا ـ
بحسب الظاهر ـ يخلق مشكلة كبيرة، إلاّ أنه إذا انتبه المرء بدقة لما يقوله، فإن
هذه المشكلة ستُحل بسهولة. وما هى هذه المشكلة؟ هى أنه قال " بمعصية الإنسان
الواحد جُعل الكثيرون خطاة ". لأنه أن يكون ذاك (أى آدم) قد أخطأ وصار فانيًا
وأن كل مَن انحدر منه قد أخطأوا وصاروا فانيين فهذا لا يُعد أمرًا غير طبيعى على
الإطلاق ولكن أن يصير آخر (المسيح) خطية بسبب معصية ذاك (آدم)، فأى علاقة طبيعية
يمكن أن تقوم هنا؟ لأن هكذا سيُعتبر هذا الإنسان خاطئًا، دون أن يكون مسئولاً عن
الحكم، طالما أنه لم يصر من ذاته خاطئًا.

          إذًا ماذا تعنى هنا كلمة
"خطاة"؟ من ناحيتى يبدو لى أنهم تحت حكم الدينونة ومحكوم عليهم بالموت.
ومن حيث أن بموت آدم قد صرنا جميعًا فانيين فهذا قد بيّنه الرسول بولس بوضوح وبطرق
كثيرة، لكن السؤال المطروح: هو لأى سبب صار هذا (أى أن الموت صار إلى جميع الناس)؟
وهنا نجد أن القديس بولس لم يشر إليه بعد، لأن هذا لم يكن ليعينه في مسعاه، لأن
المعركة كانت ضد اليهودى الذي كان تنتابه الشكوك وكان يسخر من موضوع البر بالواحد.
ولهذا بعدما أظهر كيف أن بخطية الواحد قد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، لم
يقل لأى سبب صار هذا، لم يتكلم عنه بعد، لأنه كان يتجنب الأمور غير الجوهرية ويهتم
فقط بالأمور الضرورية. لأن ناموس الأعمال كان يُلزم اليهودى بالأكثر أن يتكلم عن
(البر بالأعمال)، على أن يتكلم عن بر المسيح. ولهذا تحديدًا فقد ترك المشكلة
بلا حل. لكن لو أن أحدكم طلب أن يعرف السبب فسنتكلم عن هذا. بمعنى أننا لم نُضار
مطلقًا من أن الموت قد ملك على الجميع، بل إننا قد ربحنا بكوننا قد صرنا فانيين،
أولاً لأنه لو كان لنا جسدًا غير قابل للموت فإن هذا سيكون دافع للاستمرار في
ارتكاب الخطية، ثانيًا لكى تكون لدينا دوافع غير محدودة في جهادنا لتحقيق التقوى.

          لأنه بالحقيقة عندما يكون
الموت حاضرًا وعندما ننتظره فإنه يُقنعنا أن نكون متواضعين ومُتعقلين وبسطاء وأن
نتخلص من كل شر. ومع هذا فمن الأفضل أن نقول أولاً أننا ربحنا بالموت خيرات أخرى
وفيرة. لأنه من هنا أُستعلنت أكاليل الشهداء ومكافآت الرسل. هكذا تبرر هابيل وهكذا
تبرّر إبراهيم الذي قدّم ابنه ذبيحة وهكذا أيضًا تبرّر يوحنا الذي مات لأجل المسيح
وأيضًا الثلاثة فتية، كما تبرّر دانيال
. لأنه لو أردنا (البر) فلن يستطيع الموت
ولا الشيطان نفسه أن يُسبب لنا ضررًا أو أذى. وفوق كل هذا فإننا نستطيع القول بأن
الأبدية تنتظرنا، وطالما أننا قد نلنا تعليمًا أو إرشادًا لزمن قصير، سنتمتع
بخيرات الدهر الآتى بدون خوف كما لو أنه قد تم إعدادنا في مدرسة الحياة الحاضرة،
من خلال المرض والضيقات والتجارب والآلام ومن خلال الأمور الأخرى التي تُعد مُحزنة
ومؤسفة، لكى نكون مستعدين ولائقين لاستقبال خيرات الدهر الآتى.

 

4- ”وأما الناموس فدخل لكى تكثر الخطية ”
(رو20:5).

          بعدما بيّن كيف أنه بخطية آدم
صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، بينما بعطية المسيح صارت الهبة لجميع الناس
لتبرير الحياة وأن جميع الناس قد خلصوا وأُنقذوا من الدينونة، نجده ينشغل فيما بعد
بموضوع الناموس مُقللاً مرة أخرى من وقع تأثيره. إذ أن الناموس لم ينفع ولم يعين
الإنسان في خلاصه، بل وجدنا أنه عندما أُعطى الناموس ازداد الضعف. وهنا فإن تعبير
"لكى" (gia
na)
، لا
يعنى السبب، لكن يعنى النتيجة. بمعنى أن الناموس لم يُعط لكى تزداد الخطية لكن لكى
تقل وتُمحى، لكن العكس قد حدث، لا بسبب طبيعة الناموس بل بسبب لا مبالاة أولئك
الذين أخذوا الناموس. ولكن لماذا لم يقل في الآية أن الناموس أُعطى لكنه قال "
أما الناموس فدخل"؟ ذلك لكى يظهر أن الاحتياج له هو أمر مؤقت وليس أمرًا
أساسى أو هام
، وهذا ما نجده في رسالته إلى أهل غلاطية عندما أعلن عن نفس الشئ
ولكن بأسلوب آخر بقوله: " لكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس
مُغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن "[10].

          وبناء على ذلك فإن إهتمامه
بحفظ الرعية لم يكن لأجل ذاته بل لأجل الآخرين. لأن بعض اليهود كانوا بلا حس، صغار
النفوس وبلا رجاء من جهة نفس العطايا، ولهذا السبب أُعطى الناموس لكى يشهد على
هؤلاء بالأكثر، ولكى يُعلّمهم بكل وضوح في أى حالة هم يحيون ويوسع من مساحة
الإدانة (أى أن الخطية ازدادت بسبب لا مبالاة اليهود)، حتى يجعلهم أكثر إدراكًا. ولكن
لا تخف، لأن هذا لم يحدث بهدف أن تصير العقوبة أكبر، بل لكى تظهر النعمة أكثر.
ولهذا أضاف: " ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا ". ولم يقل
ازدادت النعمة فقط، لكن " ازدادت النعمة جدًا ". لأنه لم يخلّصنا من
الجحيم فقط، لكن ومن الخطايا أيضًا ووهبنا الحياة وتلك الأمور الأخرى التي تكلمنا
عنها مرات عديدة. تمامًا كما لو أن شخصًا كان مريضًا بارتفاع في درجة الحرارة وأتى
آخر ولم يخلصه فقط من المرض لكن جعله في وضع بهى وقوى ومُمجد، وأيضًا لو كان شخص
جائعًا ثم أشبعه آخر وليس هذا فقط بل جعله مالكًا لأموال كثيرة ثم قاده إلى سلطة
كبيرة.

          وكيف يقول كثرت الخطية؟ قال
هذا لأن الناموس أعطى وصايا غير محدودة ولأنهم خالفوها كلها، فقد كثرت الخطية.
أرأيت مدى التباعد بين النعمة والناموس؟ لأن الناموس صار سببًا للوم والإدانة،
بينما النعمة صارت سببًا لهبات وفيرة جدًا.

          وبعدما تكلم عن السخاء في
العطايا التي لا يُعبّر عنها، تكلّم مرة أخرى عن النعمة، عن سبب الموت وعن الحياة.
إذًا ما هو سبب الموت؟ سبب الموت هو الخطية. ولهذا قال:

 

” حتى كما ملكت الخطية في الموت هكذا
تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا ” (رو21:5).

          قال
هذا لكى يقدّم الخطية كما لو كانت ملكًا والموت مثل جندى يخضع لأوامره ويأخذ
مؤونته منه. وبناء على ذلك فلو أن الخطية قدمت مؤونة للموت فمن الواضح جدًا أن
البر الذي لاشى الخطية والذي أتى بالنعمة لم يجرد الموت فقط من أسلحته بل وقضى
عليه أيضًا وأنهى على كل مملكة الخطية تمامًا، وذلك على قدر عظمة البر مقارنة
بالخطية وهذا البر قد أتى لا بمساعدة إنسان أو شيطان، لكنه أتى من خلال معونة الله
ونعمته حتى يقود حياتنا إلى الوضع الأسمى وإلى خيرات لا تُحصى، خاصةً وأن حياة
الدهر الآتى هى بلا نهاية، لكى تعرف من الآن امتياز هذه الحياة. لأن الخطية
انتزعتنا خارج الحياة الحاضرة، لكن عندما أتت النعمة لم تهبنا فقط الحياة الحاضرة،
لكنها قد وهبتنا أيضًا الحياة الأبدية. كل هذا قد منحنا إياه المسيح. إذًا لا تشك
في الحياة الأبدية، طالما أنك تبررت، لأن البر هو أسمى من الحياة، طالما أنه هو
الذي يلد الحياة الحقيقية.



[1] رو21:4.

2 هذا ما
يُصليه الأب الكاهن في صلاة الصُلح قائلاً: " لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا
رئيس آباء ولا نبي إئتمنتهم على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست ..
" (القداس الغريغوري).

[3] مز20:103.

[4] إش1:6ـ7.

[5] مت45:5.

[6] كان هذا من
الإجراءات الطبية المألوفة في ذلك الوقت (القرن الرابع).

[7] أي21:1.

[8] أي21:1.

[9] مز22:73.

[10] غل23:3.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي