الإصحَاحُ
الثَّالِثُ عَشَرَ

 

" لتخضع كل نفس للسلاطين
الفائقة" (رو1:13).

1 ـ لقد تحدث (القديس بولس) كثيرًا عن
هذا الأمر في رسائل أخرى، إذ يطلب من المواطنين أن يخضعوا للرؤساء، تمامًا مثلما
يخضع الخدام للأسياد. وهو يوصي بذلك لكي يظهر أن المسيح لم يضع قوانينه للتحريض
على القيام بالانقلاب على الدولة، بل من أجل إصلاح أفضل لها، ولكي يُعلّم بألاّ
نشن حروباً مدمرة وبلا داعي. لأن الدسائس التي تُحاك ضدنا بسبب أظهار عن الحقيقة،
هى كافية ولا ينبغي أن تُضاف تجارب لا داعي لها ولا تفيد شيئاً. لكن انتبه كيف أنه
في اللحظة المناسبة حوّل كلمته إلى هذه الأمور. إذًا بعدما طلب السلوك بتلك الحكمة
العظيمة أو تلك الفلسفة العظيمة (أى مواجهة الإساءة بالإحسان) وجعل الجميع يتآلفوا
مع الأصدقاء والأعداء في حالة تآلف جعلهم نافعين لمن هم في سعادة، وللذين هم في
حالة أسى وحزن، وللمحتاجين، وبشكل عام تجاه الجميع. وأسس المدينة التي تليق
بالملائكة، لقد عالج غضبهم ووبخ افتخارهم، وفي كل شئ جعل نفوسهم رقيقة، حينها قدم
النصيحة من جهة هذه الأمور. لأنه إن كان أولئك الذين يظلموننا يجب أن يُكافأوا
بصورة عكسية، فبالأولى جدًا يليق بنا أن نخضع لأولئك الذين يُحسنون إلينا.

          إلاّ أنه أوصي بذلك في نهاية
النصيحة، ولم يشر إلى هذه الأفكار التي قالها في البداية، بل أشار إلى الأفكار
التي تحث على فعل هذا كدين عليهم. ولكي يُبيّن أن هذه الوصية موجهة للجميع، للكهنة
وللرهبان أيضًا، وليس للعلمانيين فقط، لقد جعل هذا الأمر واضحًا منذ البداية،
قائلاً: " لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة "، سواء كان رسولاً، أم كان
مبشرًا، أم نبيًا، أو كان أى شيئًا آخر، لأن هذا الخضوع لا يؤثر في التقوى. ولم
يقل "لتطيع" بل قال "لتخضع". وأول تقييم لهذا التشريع، وهذا
الفكر الذي يليق بالمؤمنين، هو أنهم قد أُمروا به من الله. " لأنه ليس سلطان
إلاّ من الله ". ماذا تقول؟ هل كل حاكم هو مرسوم من الله؟ يُجيب بأنني لا
أقصد هذا، ولا كلامي الآن هو موجه للحكام بشكل منفصل، لكنه يختص بالسلطان. لأنه أن
يوجد سلاطين فهذا يعني أن هناك بالطبع من يَحكم، وهناك من يُحكم، ويجب عليهم ألا
يسلكوا في كل شئ بلا هدف وبلا ضابط، وأنه يجب على الشعوب ألا تتأرجح هنا وهناك مثل
الأمواج، فهذا السلطان هو عمل حكمة الله.

          لهذا لم يقل، إذًا ليس حاكم
إلاّ من الله، لكن يتكلم بشكل عام عن هذا الأمر (أى السلطان)، ويقول " لأنه
ليس سلطان إلاّ من الله. والسلاطين الكائنة هى محددة من الله ". هكذا قال
الحكيم " الزوجة المتعقلة فمن عند الرب "[1]،
هذا ما يقصده، أى أن الله صنع الزواج، وليس أن ذاك يوّحد أي أحد يقيم في علاقة
جسدية مع امرأة. خاصةً ونحن نرى أن كثيرين قد ارتبطوا فيما بينهم بالشر، وبزواج
غير شرعي، ولا يمكن أن نعتبر ذلك من الله. لكن ذاك الذي قال: "الذي خلق من
البدء خلقهما ذكرًا وأنثى وقال: "من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق
بإمرأته ويكونان الاثنان جسدًا واحدًا"[2]،
نفس الأمر قاله ذلك الحكيم حين فسّره. إذًا نظراً لأن المساواة في الكرامة، تدفع
في مرات كثيرة للتصادم، فقد أوجد الله سلاطين وأنواع كثيرة ومتنوعة من الخضوع على
سبيل المثال، الخضوع بين الرجل والمرأة، الابن والأب، الشيخ والشاب، العبد والحر،
الحاكم والمواطن، المعلّم والتلميذ. ولماذا تتحير لأنه تحدث عن الخضوع بين البشر،
مع أنه فعل هكذا أيضاً بالنسبة

لنفس الشيء في الجسد؟ إن الله لم يخلق
الجسد بأعضائه المتساوية في الكرامة، بل خلق عضواً أصغر، والعضو الآخر أسمى، وجعل
بعض الأعضاء تسود، وبعضها يُساد عليها. بل وفي الحيوانات يستطيع المرء أن يرى نفس
الشيء، كما في النحل، وفي طيور الكركر، وفي قطيع الخراف المتوحشة. ولا البحر أيضًا
حُرم من هذا النظام الحسن، بل هناك أيضًا كثير من الأجناس البحرية، توضع تحت سلطان
بعض الأسماك، وهى تُساق أو تُدار هكذا عندما توشك القيام برحلاتها البعيدة. خاصةً
وأن الفوضى في أي موضع هى أمر سيء، وتسبب للاضطرابات.

 

2 ـ إذًا بعدما تكلّم عن السلاطين ومن
أين تأتي، أضاف:

"حتى أن من يقاوم السلطان يُقاوم
ترتيب الله" (رو2:13).

          أرأيت إلى أين يقود هذا الأمر،
وممن قد أخافهم، وكيف أنه بيّن، أن هذا قد صار كدين عليهم؟ إذًا لكي لا يقول
المؤمنون أنه يُهيننا، ويجعلنا مُحتقرين، مُخضعًا الذين سيتمتعون بملكوت السموات
للحُكام، يُظهر أنه لا يُخضعهم للحكام، بل هو يُخضع لله أيضًا، وهذا يتم حين
يخضعوا للحكام. لأن كل من يخضع للسلاطين، يطيع الله. لكنه لم يقل هذا، أى أن من
يُطيع الله، هو من يخضع للسلاطين، لكنه يُخيفهم من الوجهة العكسية، ويُدلل على هذا
بدقة كبيرة، قائلاً أن من لا يخضع للحاكم يُقاوم الله الذي رتب هذه الأمور. وقد
حرص على إظهار هذه الحقيقة في كل موضع، أننا لا نمنح هؤلاء الطاعة، بل نحن مدينين
بها. وهكذا سيُمكنه أن يجذب الحكام غير المؤمنين للتقوى، والمؤمنين للطاعة.

          لقد كثر الكلام في هذا الشأن
في كل مكان، وانتشرت النميمة على الرسل حول موقفهم من التجديد أو التحدث، وتردد أن
هدف كل ما قالوه وفعلوه، يكون تغيير القوانين العامة. وحين اتضح أن إلهنا يؤكد على
هذا الأمر لكل أخصائه، فعليك عندئذٍ أن كسرة أفواه الذين وشوا بالرسل كمتمردين،
وتتكلم بجرأة كبيرة عن المبادئ الحقيقية. إذًا لا تخجل من مثل هذا الخضوع خاصةً
وأن الله هو الذي أمر به، وهو يعاقب بشدة عندما تحتقر ما يوصي به. لأنه لن يعاقبك
بعقوبة بسيطة عندما لا تخضع لهذه الأمور، بل بعقوبة كبيرة جدًا، ولن تفلت من
العقاب، عندما تقاوم، بل ستنال من البشر عقوبة مُخيفة للغاية، ولن يحميك أحد،
وسيغضب منك الله بدرجة كبيرة جدًا. كل هذا ما يعنيه تحديداً عندما يقول:
"والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة".

ولكي يُبيّن بعد ذلك فوائد الخضوع فبعدما
أخافهم، يحاول أن يقنع بالمنطق، قائلاً:

 

"فإن الحكام ليسوا خوفًا للأعمال
الصالحة بل الشريرة" (رو3:13). إذًا لأنه واجهتهم ضربة قوية وأخافتهم، عاد
وظهر شيئاً من المرونة وكطبيب حكيم أعطاهم دواء مناسباً، وأخذ يعزيهم قائلاً: ماذا
تخشى؟ لماذا ترتعب عندما تعمل أعمالاً حسنة؟ هل يُقلل هذا من شأنك هل اهتمامك
بالفضيلة يقلل من شأنك؟ أمر مخيف؟ ولهذا أضاف: " أفتريد أن لا تخاف السلطان؟
افعل الصلاح فيكون لك مدح منه ". أرأيت كيف أنه صالح ذاك مع الحاكم، بعدما
أظهر أنه يمتدحه؟ أرأيت كيف أنه فرّغ الغضب؟

 

"لأن الحاكم هو خادم الله
للصلاح" (رو4:13).

          بعيد كل البعد عن إخافتك، لأنه
يمتدحك أيضًا، ويبتعد تماماً عن أن يُعيقك، طالما أنه يعينك أيضًا. إذًا حين يكون
لديك هذا المادح وهذا المعين، فلماذا لا تخضع؟ خاصةً وأنه يجعل الفضيلة بطريقة
أخرى أكثر سهولة بالنسبة لك، أي بمعاقبة الأشرار، ويحسن ويكرم الأبرار، وهكذا يكون
السلطان متفقًا مع إرادة الله عندما يفعل ذلك دعاه بولس الرسول خادم الله. لكن
انتبه، فإني أنصح بالتعقل، والحاكم أيضًا ينصحنا بنفس الشيء من خلال تطبيق
القوانين، فهو يحثنا على أنه ينبغي علينا ألا نكون طامعين، ولا خاطفين، ولذلك فهو
يجلس ويحاكم، حتى أنه بهذا المسلك يكون عاملاً معنا ومعينًا لنا، ومُرسلاً من الله
من أجل ذلك. إذًا فهو من الوجهتين محل تقدير، لأنه مُرسل من الله، ولأنه مُرسل من
أجل تحقيق هذا الأمر. " ولكن إن فعلت الشر فخف ". وبناء على ذلك فإن
الحاكم لا يبث الخوف، بل أن مصدر الخوف هو ارتكابنا الشرور. "لأنه لا يحمل
السيف عبثًا". أرأيت كيف أقامه بعدما سلّحه جيدًا، مثل الجندي الذي يثير
الخوف لدى الذين يخطئون؟ " إذ هو خادم الله منتقم بالغضب من الذي يفعل الشر
" إذًا وحتى لا تتمرد حين تسمع أيضًا عن إدانة، وعقوبة، وسيف، يقول مرة أخرى،
أنه يُتمم ناموس الله. وما هى الأهمية، إن كان ذاك لا يعرف؟ إن الله عيّنه ليتمم
ذلك.

          إذًا إن كان يعاقب، يكرم بصفته
خادم، وينتقم من أجل أن تسود الفضيلة، مُبعدًا الشر، الأمر الذي يريده الله، فلأي
سبب تقاومه طالما أنه يحمل كل هذه الخيرات، ويُمهد الطريق من أجلك؟ لأنه يوجد
بالحقيقة كثيرون بعدما سلكوا بالفضيلة خوفاً من الحكم أولاً قد سعوا إليها فيما
بعد بمخافة الله. وبالنسبة للضعفاء روحيًا لا تُخيفهم الأمور المستقبلية، بقدر ما
تخيفهم الأمور الحاضرة. إذًا فذاك الذي بواسطة الخوف والتكريم يُعد أنفس الكثيرين
لكي لتقبل التعليم يكون تعيينه خادم الله أمرًا مُبررًا.

 

3 ـ "لذلك يلزم أن يُخضع له ليس
بسبب الغضب فقط. بل أيضًا بسبب الضمير" (رو5:13).

          ما معنى ليس بسبب الغضب فقط؟
يقول أنه يجب عليك أن تخضع ليس فقط لأنك تقاوم ترتيب الله إن لم تخضع وليس لأنك
تُسبب لنفسك أضرار كبيرة من قِبل الله ومن قِبل الحكام أيضًا، بل لأنه صار مُحسنًا
لك في الخيرات الوفيرة، طالما أنه باعث على السلام وعلى التدبير السياسي. خاصةً
وأنه بواسطة هؤلاء السلاطين تتحقق خيرات لا حصر لها في المدن. وإن أبطلت سلطة
هؤلاء فإن كل شئ سينتهي، ولن يكون هناك وجود لمدينة ولا لقرية، ولا لبيت ولا لسوق
ولا يمكن لأي شئ أن يثبت على حالة بل ستقلب كل الأشياء، إذ أن من هم أكثر قوة
سيبتلعوا الضعفاء. وبناء على ذلك فحتى إن لم يصيبك غضب بسبب تمردك، فإنه هكذا
أيضًا كان ينبغي أن تخضع، حتى لا تبدو وكأنك بلا ضمير وناكرًا لجميل من أحسن إليك.

 

"فإنكم لأجل هذا توفون الجزية
أيضًا. إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه " (رو6:13).

          بعدما تجنب الكلام بشكل منفصل
عن الإنجازات التي يحققها الحكام في المدن مثل الإدارة الحسنة، ونشر السلام،
وتقديم الخدمات الأخرى للجنود، ولأولئك الذين يهتمون بالأمور العامة، وأوضح أن
الخدمة الواحدة من هذه الأمور، تبين حجم الخدمات التي تُقدم للكل. إذًا فإنك إن
تثبت رضاك ومساندتك للحاكم عندما تدفع الجزية.

          لاحظ حكمة وتعقل المطوب بولس.
لأن ما كان يبدو مُزعجًا ومُحزنًا أى المطالب (التي طلبها)، هذا يجعله دليل اهتمام
وعناية نحو هؤلاء. إذًا لماذا يطلب أن نعطي الجزية للملك؟ ألا يجب علينا أن ندفع
أجر الوكالة (أى وكالته عنا في إدارة الدولة)، لأنه يعتني بنا، ولأنه يحمينا؟ إلاّ
أننا نرفض ذلك إن لم نعرف من البداية أننا نستفيد كثيراً من هذا السلطان. ولهذا فق
أقر الجميع من البداية أننا يجب أن نساهم في توفير معيشة الحكام لا يبالون بأنفسهم
من أجل الاهتمام بالصالح العام، حتى أنهم ينشغوا بذلك حتى في فترات إجازتهم لكي
يتمموا كل ما يخصنا، وبعدما تكلّم عن تلك الأمور التي تأتي من الخارج، يعود مرة
أخرى بحديثه إلى الأمور السابقة (لأنه هكذا كان ممكنًا بالأكثر أن يُحرك المؤمن)،
ويُظهر مرة أخرى أن هذا يبدو أمرًا حسناً أمام الله، وفي هذا يختم النصيحة،
قائلاً: "ولكي يبين ما يبذلونه من جهد وتعب، أضاف: " مواظبون على هذا
بعينه". إذًا هذه هى حياتهم، هذا هو اهتمامهم، أى كيف تتمتع أنت بالسلام.
ولهذا في رسالة أخرى، لا يأمر فقط بأن نخضع، بل وأن نُصلي من أجل هؤلاء (أى
الحكام). ومبينًا في تلك الرسالة أن الربح الفائدة عامة، أضاف: "لكي نقضي
حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار"[3].

          لأنه بالنسبة لنا ليس هو
بالأمر القليل ما يقدموه لنا من منافع في الحياة الحاضرة، إذ هم يأخذون السلاح
ويحاربون، يُبعدون الأعداء، يمنعون أولئك الذين يثورون على المدن، يقدمون حلولاً
للمشاكل في كل شئ، إذًا لا تحدثني عن إذا كان يوجد من يُسيء استخدام السلطة، بل
عليك أن تلاحظ لياقة هذا الترتيب، وسترى عظمة حكمة الذي قنن هذه الأمور منذ
البداية.

 

" فاعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن
له الجزية الجباية لمن له الجباية. والخوف لمن له الخوف والإكرام لمن له الإكرام.
لا تكونوا مديونين لأحد بشئ إلاّ بأن يحب بعضكم بعضًا " (رو7:13ـ8).

          ولازال يقيّم نفس الأمور،
طالبًا من هؤلاء ليس فقط أن يدفعوا أموالاً، بل وأن يقدموا كرامة واحتراماً. وكيف
يقول من قبل "أفتريد ألا تخاف السلطان افعل الصلاح " وهنا يقول "
الخوف لمن له الخوف " يقول هذا وهو يقصد الكرامة الفائقة، وليس الخوف الذي
يأتي من الضمير الشرير، الذي أشار إليه سابقًا. ولم يقل
(δώστε) أى امنحوا بل (αποδώστε) أى اعطوا، وأضاف "حقوقهم". وبالطبع فإنك لا تصنع خدمة،
حين تفعل هذا الأمر. لأنه حق، وإن لم تفعله، ستُدان كناكر للمعروف أو كغير معترف
للجميل.

هل تبحث عن  م الخلاص حتمية التجسد الإلهى 53

          إذًا لا تتصور أنك تُحتقر،
وتُضار، فيما يختص بقيم إيمانك، إذا وقفت احترامًا، حين يعبر الحاكم من أمامك، أو
إذا خلعت قبعتك عن رأسك. لأنه إن كان قد حدد هذا الأمر في ذلك الحين الذي كان فيه
الأمم حكامًا فبالأولى كثيرًا الآن ينبغي أن يسري هذا على المؤمنين. ولكن إذا كنت
تزعم أنه استأمنك على الأمور الأعظم، فلتعلم أن الآن ليس هو وقتك، لأنك غريب
ووجودك مؤقت. سيأتي الوقت الذي سيظهر فيه "لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ
وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ مَتَى اظْهِرَ الْمَسِيحُ
حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أنْتُمْ أيْضاً مَعَهُ فِي الْمَجْدِ"[4]. إذًا يجب
ألا تطلب المكافأة في هذه الحياة الحاضرة، بل إن احتاج الأمر، ولتشعر بهيبة ووقار
الحاكم عندما تمثل أمامه، لا يتلائم مع أصلك النبيل. لأنه هكذا يريد الله، حتى أن
الحاكم الذي أُعطى من الله، تكون له قوته. لأنه حين يقف ذاك الذي لم يقترف أى شر
بخوف أمام القاضي، فبالأولى يخاف من يقترف الشر. لكنك هكذا ستصير أكثر بهاءً، لأن
الخضوع لا يأتي من الكرامة، بل من الإهانة، والحاكم أيضًا سيكرمك إلى أقصى درجة،
وسيمجدك إلهك لهذا السبب، حتى إن كنت غير مؤمن.

" لا تكونوا مديونين لأحد إلاّ بأن
يُحب بعضكم بعضًا " (رو8ك13).

          يلجأ مرة أخرى إلى منبع
الصالحات (أى المحبة)، إلى تلك التي ما تُعلّم ما سبق الإشارة إليه، والتي تنشئ كل
الفضيلة، ويقول كيف أنها نافعة، لكن ليست مثل الضريبة، والجزية، بل بصفة دائمة.
لأنه لا يريد مطلقًا بهذه المحبة تُسترجع، أو من الأفضل أن نقول دومًا هو يريد أن
تُرد، لا أن تُعوض، فهي فافعة على الدوام. لأن هذا هو الدين، أننا نظل نُعطي،
ونبقى مديونين على الدوام. إذًا بعدما قال كيف أنه ينبغي علينا أن نحب، يُظهر
فائدة ذلك، قائلاً: "لأن مَن أحب غيره فقد أكمل الناموس". إذًا لا تعتبر
هذا العمل أنه معروفاً، خاصةً أنه دين. لأنك مدين لأخيك بالمحبة بسبب القرابة
الروحية. وليس فقط لهذا السبب، بل ولأننا نحن أعضاء بعضًا لبعض. وإن مُحيت منا هذه
أي المحبة، فإن كل شئ سيفنى. إذًا فلتحب أخاك. لأنه إن كان بمحبته ستربح الكثير،
فحتى تتمم كل الناموس، فإنك مدين له بالمحبة، بعدما تنعم بالإحسان منه.

 

"
لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وإن كانت وصية أخرى هى مجموعة
في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك " (رو9:13).

          لم
يقل، تُتّمم، بل قال "مجموعة "، أى موجزة وفي كلمات قليلة، يكتمل كل عمل
الوصايا. لأن بداية ونهاية الفضيلة، هى المحبة. لأن هذه المحبة لها جذور، هذه هى
الأساس، والقمة. إذًا فإن كانت المحبة هى البداية والنهاية، فهل يوجد ما هو مساوٍ
لها؟ لكنه لا يطلب فقط محبة، بل محبة فائقة. لأنه لم يقل فقط " تحب قريبك
" بل قال تحبه "كنفسك". ولهذا قال المسيح عنها، أن بها يتعلق
الناموس والأنبياء[5].
وبعدما أشار المسيح إلى نوعين من المحبة، لاحظ إلى أين قد سما بها. لأنه بعدما قال
إن الوصية الأولى هى أن "تحب الرب إلهك" أضاف الثانية، قائلاً: "
والثانية مثلها. تُحب قريبك كنفسك "[6].

          هل
هناك ما يتساوى مع محبة الله للبشر؟ هل هناك ما يتساوى مع هذا الصلاح؟ فبرغم
الفارق الشاسع بيننا وبين جعل محبتنا بعضنا لبعض مساوية لمحبتنا له ويقول إن محبة
الرب إلهك هى مثل محبة القريب. لهذا تحديدًا حدد معايير متساوية تقريبًا في الحالتين،
فمن حيث محبتنا لله، قال "من كل قلبك. من كل نفسك"، أما بالنسبة لمحبة
القريب قال: "كنفسك". والقديس بولس، أشار إلى أنه عندما لا توجد لدينا
محبة للقريب، فإننا لن ننتفع من محبتنا لله. تمامًا فكما يحدث معنا، عندما نحب
شخصاً، نقول: إن أحببت ذاك، فإنك تحبنا نحن، هكذا المسيح أيضًا، لكي يُعلن عن هذا،
قال " والثانية مثلها". هكذا قال أيضًا لبطرس " أتحبني .. ارع
غنمي"[7].
إذًا:

 

"المحبة
لا تصنع شرًا للقريب. فالمحبة هى تكميل الناموس" (رو10:13).

          أرأيت
كيف أنه يحمل الفضيلتين، أولاً الابتعاد عن الشرور، لأنه يقول " لا تصنع
الشر"، ثانياً ممارسة الصلاح، لأنه يقول " فالمحبة هى تكميل
الناموس"، دون أن يهمل الاستفاضة في شرح التعليم الخاص بالفضائل ينبغي أن
نفعلها، بل جعل ممارستها أسهل. لأنه لم يهتم فقط بكيف سنتعلم الأمور التي تعود
بالفائدة علينا، الأمر الذي هو عمل الناموس، بل أن يساعدنا أيضاً على ممارستها
أيضًا سيساعدنا جدًا، طالما أنه يجعلنا نتمكن من ممارسة ليس فقط من جزء واحد من
الوصايا، بل من كل الفضيلة.

          4
ـ إذًا فليحب الواحد الآخر، لكي نحب بهذه الطريقة أيضًا الله الذي أحبنا. إن ما
يحدث بين البشر هو أنك إذا أحببت من هو موضع محبة، فإن الذي يُحبه سيقاومك، أما
هنا فإنه يعتبرك مستحقًا أن تصير شريكًا له في المحبة، وحين ترفض أن تصير شريكًا،
فإنه يُبغضك. لأن العشق الإنساني مملوء بالبغضة والحسد، بينما المحبة الإلهية
متحررة من كل معاناة عاطفية، ولهذا فإنها تطلب شريكًا للمحبة. إذًا فلتحب
بالاشتراك معي، هكذا يقول، وحينها سأحبك بالأكثر. أرأيت عاشقاً يتكلم بهذه القوة؟
فكأنه يقول: إن كنت تحب الذين أحبهم أنا فحينئذٍ أتصور أنني أنا ذاتي، أكون
محبوبًا بشكل فائق منك. خاصةً وأنه يشتهي خلاصنا جدًا، وقد أظهر ذلك منذ البداية.
اسمع ماذا يقول حين خلق الإنسان: " نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا "[8]، وأيضًا:
" ليس جيدًا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينًا نظيره "[9].
وحين وبّخه، عندما خالف الوصية، لاحظ كيف وبّخه بكل حنو. لأنه لم يقل له أيها
الدنس والملوث، برغم من أنك قد نلت إحسانات كثيرة، فإنك آمنت بالشيطان، بعد كل هذه
الإحسانات، وهجرت من أحسن إليك، وكرست ذاتك للشيطان الخبيث، بل ماذا قال: "من
أعلمك أنك عريان. هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها "[10]. إن ذلك
يشبه أباً أوصى أبنه بألاّ يمسك بالسيف فرفض الابن سماع النصيحة فمسك بالسيف وأصيب
بجراح. وعندما أصيب أخذ يصرخ قائلاً عن سبب إصابته. فأجابه الأب قائلاًَ: أنك جرحت
يا أبني بسبب عدم طاعتك لي ولأنك لم تسمعني.

          أرأيت
أن الكلام هو من صديق أكثر منه رب؟ لصديق قد احتقر، لكنه برغم ذلك لم يبتعد. إذًا
فلنتشبه به حتى عندما نُوبخ أيضًا، ولنتبع هذه الرأفة. كذلك المرأة أيضًا (أي
حواء) وبّخت بنفس الرقة. أو من الأفضل أن نقول، إن ما حدث لا يُعد توبيخاً بل كان
نصيحة، وتصحيح (للمسيرة)، وتأمين للمستقبل. ولهذا تحديدًا لم يقل شيئًا للحية،
لأنها كانت هي المخططة للشرور، ولم تستطع أن تنقل السبب إلى شخص آخر، ولذلك فقد
عاقبها بشدة، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل جعل الأرض مشتركة في اللعنة. وإذ أن الله
قد طرد آدم من الفردوس، وحكم عليه بالعمل الشاق، ولذلك يجب أن نسجد له ونُمجده.
لأن الشهوة قادت إلى الخمول والإهمال في تنفيذ الوصية، وحاصرت الفرح، وساد الحزن
الناتج عن عدم اللامبالاة، وهذا ما يدفعنا إلى الرجوع إلى محبته.

          ماذا
حدث أيضًا في حالة قايين؟ ألم يستخدم معه نفس أسلوب الرأفة؟ كذلك برغم من أنه
أُهين منه، لم يرد الإهانة، لكنه تجدث معه برجاء وقال: "لماذا سقط وجهك"[11]. وإن كان ما
حدث خال بالطبع من أية مقدرة على صفح، وقد برهن الأخ الأصغر على ذلك. لكن ولا هكذا
وبّخ، ماذا قال: " إن أحسنت أفلا ترفع. وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة
وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها "[12]،
ويعني بذلك أخاه. إذًا وإن كنت تخاف، هكذا يقول، ربما بسبب ذبح هابيل سأنزع عنك
سلطة البكر، فلتتشجع (أى لا تخف). فكل سلطته سأضعها في يدك. فقط أريد أن تصير
أفضل، وأن تحب الذي لم يظلمك أبدًا. خاصةً وإني أعتني بكما معاً، على أن ما يفرحني
هو ألا تتشاجروا فيما بينكما. ومثلما تفعل الأم الحنون، هكذا يفعل الله، كل شئ
يصنعه ويبدعه، حتى لا ينفصل أحد عن الآخر.

          لكن
لكي تعلم ما أقوله جيدًا، سأذكر لك مثالاً: غليك أن تتذكر رفقة التي أصابها القلق
وركضت في كل مكان، عندما حارب ابنها الأكبر، الابن الأصغر. لأنه برغم من أنها كانت
تحب يعقوب، إلاّ أنها لم تُبغض عيسو. ولهذا قالت: " لماذا أعدم أثنيكما في
يوم واحد "[13].
ولهذا تحديدًا قال الله آنذاك لقايين: "عند الباب خطية رابضة وإليك
اشتياقها"، لكي يجنبه القتل لأنه كان يطلب سلام الاثنين. وحتى عندما ذبحه دون
حزن أو أسى، لم تتوقف عنايته لذاك لقايين، بل برأفة، يسأل قاتل أخيه قائلاً:
" أين هابيل أخوك "[14].
لكي بهذه الطريقة على الأقل يقدم توبة. لكن ذاك جادل في الأمور السابقة، جاعلاً
السفاهات أكبر وأفظع. ولا هذا أيضاً جعل الله يبتعد عنه بل حدّثه أيضًا بكلام يليق
بمن يحب بقوة، على الرغم من أنه أُهين واُحتقر، فيقول "صوت دم أخيك صارخ إليّ
"[15].
وأيضًا لعن الأرض مع قاتل أخيه، تاركًا غضبه للأرض، قائلاً: " ملعون أنت من
الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك "[16]،
وقد فعل مثلما يفعل أولئك الذين يدعون شخصاً للرجوع.

          هذا
ما صنعه داود، عندما سقط شاول. خاصةً وأن ذاك (أى داود) لعن الجبال التي حدث عليها
جريمة القتل الذبح (أى ذبح شاول)، قائلاً: " يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر
عليكن .. لأنه هناك طُرح مجن الجبابرة "[17].
هكذا فإن الله كمن رنم بصوت فردي، يقول: " صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض.
فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك ". وقال هذا
لكي يضبط غضبه الذي كان محتداً، ولكي يُقنعه على الأقل بأن يحبه حتى وإن لم يكن
حيًا. هكذا يقول لقد محوت حياته، فلماذا لم تمحو البغضة؟ لكن ماذا يفعل؟ إنه يُحب
هذا وذاك، لأنه خلق الاثنين. ماذا إذًا؟ هل سيترك قاتل أخيه بلا عقاب. لكنه في هذه
الحالة سيصير أسوأ؟ فهل سيعاقبه؟ إلاّ أنه أكثر حنو من أى أب. لاحظ إذًا كيف أنه
يُعاقب ويُظهر رحمة لنفس الشخص، أو من الأفضل أن نقول، لا يُعاقب بل يُصحح فقط.
لأنه لم يُميته، بل قيده بالرعب، حتى يطرد العار منه، ليعود على الأقل إلى حنوه
وعطفه، لكي يُقيم عهداً على الأقل مع ذاك الذي مات، لأنه لم يُرد لقايين أن يرحل
من هناك وهو لازال عدواً، لهابيل الذي قتله.

          إن
الذين يحبون يكون مثل هؤلاء. فعندما يصنعون إحسانات، لا يكونون موضع محبة، يصيرون
قساة، ويهددون، بالطبع دون أن يريدوا ذلك بل ينقادوا بالمحبة إلى هذه القسوة لكي
يجذبوا، على الأقل بهذه الطريقة، أولئك الذين يحتقرونهم. وإن كانت مثل هذه المحبة،
تصير نتيجة الحاجة، لكن هذا أيضًا يُعزيهم بسبب محبتهم الفائقة. وبناء عليه فإن
العقاب أيضًا يصير بالمحبة. لأن أولئك الذين لا يتضايقوا حين يُبغضوا، لا يفضلوا
أن يعاقبوا. ولك أن تلحظ ما يقوله القديس بولس، في هذا الأمر لأهل كورنثوس:
"لأنه إن كنت أحزنكم أنا فمن هو الذي يُفرحني إلاّ الذي أحزنته "[18]. وبناء على
ذلك، فعندما يزيد حجم العقوبة جدًا، عندئذٍ يُظهر المحبة الفائقة. هكذا فإن زوجة
فوطيفار المصرية عاقبت يوسف بقسوة بسبب المحبة الفائقة. لكنها بالطبع عاقبته بدافع
أمر سيء، خاصةً وأن المحبة كانت قد أخذت شكل الفجور ولكن الله يعاقب من أجل أمر
حسن، لأن محبته أيضًا كانت بالقدر الذي يستحق الذي أحب. ولهذا لم يتجنب أيضًا أن
يستخدم كلاماً ثقيلاً، وأن يقدم كلمات الميول الإنسانية، وأن يدعو نفسه، غيور
" لأني أنا الرب إلهك إله غيوراً"[19]،
يقول هذا لكي تعلم مدى قدر المحبة.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أوبولمس س

          إذًا
فلنحب الله كما يريد هو، لأنه يعتبر هذا الأمر، هاماً جدًا. وإن تحولنا عنه، فيظل
يدعو، وإن لم نُرد أن نعود، يُعاقب بمحبة، وليس لأنه يريد العقاب. لاحظ إذًا ماذا
يقول في سفر حزقيال، عن المدينة التي أحبها، وأهانته " هاأنذا أهيج عليك
عشاقك وأسلمك إلى أيديهم وسيرجمونك وسيحطمونك. وسأنزع غيرتي عنك. وسأستريح ولن
أهتم بعد بك "[20].
هل هناك قسوة أكثر قسوة من ذلك، يمكن لعاشق أن يقوله يظهرها عندما يُحتقر من
معشوقته، وحين يحترق بالنار لأجلها، بعد كل هذا؟ إن الله يصنع كل شئ، لكي يصير محبوباً
لنا، ولهذا لم يُشفق على ابنه. لكننا قساة ومتوحشون. ويجب علينا أن نصير ودعاء،
ولنحب الله، كما ينبغي أن نحبه، لكي نتمتع بالفضيلة، بفرح، لأنه إن كان أحد يحب أو
يعشق امرأة، لا يشعر بأى أمر من الأمور اليومية المحزنة، فكّر في كم السعادة التي
سيتمتع بها ذاك الذي يشتهي جدًا، هذا العشق الإلهي النقي.

          إن
هذا العشق الإلهي لأمر عظيم جداً هو ملكوت السموات، هو تمتع بالخيرات، هذه هى
المسرة، هذا هو الابتهاج، هو الفرح، هو السعادة. أو من الأفضل أن نقول، أنه مهما
تكلمت فلن أستطيع أن أعرض شيئاً يستحق أن يعادله، لكنني بالخبرة أعرف مدى عظمة هذا
العشق الإلهي.

          ولهذا
قال النبي " ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب "[21].
لنخضع إذًا ولنتمتع بمحبته. لأنه هكذا (من هذه المحبة)، سنرى ملكوت السموات،
وسنحيا حياة ملائكية، وعلى الرغم من أننا نحيا على الأرض، إلا أننا ننقص شيئاً عن
أولئك الذين يسكنون السماء، وبعد انتقالنا من هنا، سنمثل أمام عرش المسيح أكثر
بهاءً من الجميع وسنتمتع بمجده الذي لا يعبر عنه، والذي ليتنا نناله جميعًا
بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد إلى أبد الدهور
أمين.

 

"
هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم " (رو11:13).

          1
ـ بعدما أوصى بكل ما ينبغي فعله، يحثهم مرة أخرى أن يتمموا الأمور الصالحة على وجه
السرعة. لأن وقت الدينونة هو قريب جدًا، تمامًا كما كتب إلى أهل كورنثوس، قائلاً:
" الوقت منذ الآن مُقصر "[22].
وأيضًا كتب إلى العبرانيين " لأنه بعد قليل جدًا سيأتي الآتي ولا يُبطئ
"[23].
لكنه في هاتين الرسالتين قال هذا لكي يُشدد الذين تعبوا، ولكي يُعزيهم لأجل
المتاعب، والتجارب المتوالية، بينما هنا (أى في رومية)، قال هذا لكي يوقظ أولئك
الذين ناموا (أى المتغافلين). كذلك فإن هذا الكلام نافع للاثنين أيضًا. لكن ما
معنى قوله: " أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم "؟ يعني أن القيامة
قريبة، أن الدينونة الرهيبة قريبة، أن اليوم الذي يحرق مثل كمين النار هو قريب،
ويجب بالأكثر أن نتخلص من اللامبالاة. لأن " خلاصنا الآن أقرب مما كان حين
آمنا ".

          أرأيت
كيف أنه يقدم الآن موضوع القيامة لهؤلاء؟ لأنه بينما يمر الزمن، يُنفق وقت الحياة
الحاضرة، ويأتي زمن الحياة الأبدية قريب جدًا. إذًا لو أنك مستعد وتتمم كل ما أوصى
به، يصير اليوم يوم خلاص، لك، أما إذا حدث العكس، فإن اليوم لن يكون بعد يوم خلاص.

          لكنه
لم يعظ في البداية عن الأمور المحزنة، بل عن النافعة، لكي يُخلّصهم بذلك من شهوة
الأشياء الحاضرة. لكنه تحدث عن ما هو محزن بعد ذلك، لأنه كان من الطبيعي أن
يُظهروا استعداد أكثر في البداية، طالما كانت رغبتهم شديدة. إلاّ أن الرغبة تتلاشي
تماماً مع مرور الزمن، وهنا يبدأ يوصيهم بأنهم لا

لكن
مع مرور الزمن، تبدأ تنمحي تمامًا كل غيرة، فيقول

يجب
أن يفعلوا العكس، فلا يتراخوا كلما عبر الزمن، بل بالأكثر يكثفوا من محاولاتهم.
لأنه كلما أقترب موعد الملك، كلما زاد الاستعداد وكلما أقترب موعد المكافئة، بقدر
ما ينبغي بالأكثر أن نُزيد استعدادنا للجهاد. لأن هذا ما يفعله العدائون، حين
يصلون بالقرب من نهاية الطريق واستلام الجائزة، فهم يشددون بالأكثر من بذل جهد قوي
ولهذا قال " خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا ".

 

2 ـ
" قد تناهى الليل وتقارب النهار " (رو12:13).

          إذًا
إن كان الليل ينتهي، فالنهار يقترب. فلنصنع بالأولى تلك الأعمال (أى أعمال النور)،
وليست هذه الأعمال (أى أعمال الظلمة). خاصةً وأن هذا هو ما يحدث في الأمور
الحياتية. حين نرى أن الليل يركض نحو السحر، ونسمع شدو العصفور، فإن كل واحد يوقظ
قريبه، وإن كان بالطبع مازال ليل. ونظراً لأن الليل يرحل بالفعل فنحن نتصرف في
عجالة ونتمم كل شيء تلو الأخر فالنهار قد طلع عندئذٍ ونصنع كل ما يليق بالنهار، أى
نرتدي ملابسنا، نفيق من الأحلام، ونودع النوم، لكي يجدنا اليوم مستعدين، حتى لا
نبدأ وقت أن نستيقظ مباشرة بل ونشدد أنفسنا حين تشرق الشمس. إذًا ما نصنعه في
حياتنا اليومية، فلنصنعه هنا أيضًا. فلنتجاوز الخيال، ولنتخلص من أحلام الحياة
الحاضرة، ولنترك النوم العميق، ولنلبس الفضيلة بدلاً من الملابس. لكي يعلن عن كل
هذا، قال " فلنخلع أعمال الظلمة. ولنلبس أسلحة النور ". خاصةً وأن يومنا
يدعو للإصطفاف والمعركة.

          لكن
لا نخاف حين نسمع إصطفاف ومعركة. لأن التسلح بالأسلحة المادية، يُعتبر أمراً
ثقيلاً وغير مرغوب فيه، بينما هنا هو أمر مرغوب فيه ويستحق أن نطلبه، لأن الأسلحة
هى أسلحة النور. ولهذا فإنها تظهر لك أكثر بهاءً من أشعة الشمس، لأنها تشع نوراً
كثيراً، وتؤمّنك، وتجعلك تشرق بشكل فائق، لأنها أسلحة النور. ماذا إذًا؟ هل هناك
حاجة لنحارب؟ نعم بالطبع لا ولكن لنجهد أنفسنا، وأن نتعب، لأن هذه ليست حرب حرباً،
بل فرحاً واحتفالاً. هذه هي طبيعة هذه الأسلحة (أسلحة النور)، وهذه هى قوة القائد.
وتمامًا مثل العريس الذي يتزين ويخرج من غرفة العرس، هكذا أيضًا ذاك الذي هو
مُدَعَم بهذه الأسلحة (أسلحة النور). خاصةً وأن كل من الجندي والعريس، يتزين بها
في مسيرته. لكن فبعدما قال إن النهار اقترب، لم يتركه يقترب، بل يقدمه على الفور،
لأنه يقول:

 

"
لنسلك بلياقة كما في النهار " (رو13:13).

          إذًا
الآن بلغ النهار. عن وأخذ يجذب هؤلاء طريق الأمور التي يُنصح بها الكثيرين، يجذب
هؤلاء، أى اللياقة. لأن الكثيرين تحدثوا مع هؤلاء كثيرًا عن المجد. ولم يقل
"أن نسلك"، بل قال "لنسلك"، لكي يجعل النصح بلا ضجر، ولتخفف
من التوبيخ.

          "
لا بالبطر والسكر"، لا أن يمنع المرء عن أن يشرب، بل يوصيه بألا يشرب بشكل
مبالغ فيه، ولا يمنعه من أن يستمتع بالخمر، بل يمنعه أن يستمتع بفجور، تمامًا مثل
الكلام اللاحق أيضًا، إذ يُشير إليه بنفس المعيار قائلاً: " لا بالمضاجع
والعهر ". وبالطبع هو هنا لا يبطل الإتحاد الجسدي بالنساء، لكنه يرفض الزنا.
" لا بالخصام والحسد". أي يحرم الأشياء القاتلة من الأهواء، والشهوة
والغضب. ولهذا تحديدًا لا يبطل هذه الأمور فقط، بل ويُبطل مصادرها أيضًا. لأنه لا
يوجد شئ يُشعل الشهوة بهذا القدر الكبير، ويجعل الغضب أمراً لا مفر منه، سوى السكر
والفجور. ولذلك بعدما قال أولاً "لا بالبطر والسكر"، أضاف لا بالمضاجع
والعهر. لا بالخصام والحسد". ولم يتوقف عن هذا الحد، بل بعدما نزع عنا
الملابس المدنسة، اسمع كيف يزيّننا فيما بعد قائلاً: " بل البسوا الرب يسوع
المسيح ". لم يشر بعد إلى الأعمال، بل حثهم (عليها) إلى أقصى درجة. لأنه حين
كلمهم عن الشر، أشار للأعمال، بينما حين تكلم عن الفضيلة، لم يشر بعد للأعمال بل
للأسلحة، مظهرًا أن الفضيلة تقود من يقتنيها إلى الأمان وإلى كل بهاء. ولا هنا
أيضًا توقف، بل استمر بالحديث إلى ما هو أعظم، والذي هو أمر مُرعب جدًا، يُقدم لنا
الرب نفسه كملبس، الملك ذاته يقدمه كملبس. لأن ذاك الذي هو لابس الرب، يملك كل
الفضيلة.

          لكن
عندما يقول "البسوا" يأمر أن نلبسه من كل جانب، تمامًا كما يقول في موضع
آخر " إن كان المسيح فيكم "[24]،
وأيضًا " ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم "[25].
كذلك يريد أن نكون أنفسنا مسكنًا للمسيح، ونلبسه كملبس، لكي يكون لنا كل شئ من
الداخل ومن الخارج. لأنه هو كما لنا، إذ هو " ملء الذي يملأ الكل في الكل
"[26].
وهو طريق، وزوج، وعريس، لأنه يقول " خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة
للمسيح "[27]،
وهو الأصل أو الجذر، والماء وطعام الحياة " أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ
"[28]،
وهو رسول، ورئيس كهنة، ومعلّم، وأب، وأخ، ووارث، وشريك في قبرنا وصليبنا "
فدفنا معه .. للموت .. صرنا متحدين معه بشبه موته "[29]،
متوسل " نسعى كسفراء عن المسيح "[30]،
وشفيع عنا أمام الآب " بالحرى يشفع فينا "[31]،
وهو المسكن والساكن " يثبت فيّ وأنا فيه "[32]،
وهو مُحب " أنتم أحبائي "[33]،
وهو الأساس وحجر الزاوية، ونحن أعضائه، ونحن الحقل، والبناء، والأغصان، ونحن
عاملون معه.

          ومن
هو الذي لا يريد أن يصير منا، لكي يربط فيما بيننا ويوحدنا معًا بكل طريقة؟ الأمر
الذي هو سمة ذاك الذي يُحب بشكل فائق. إذًا لتخضع، وبعدما تستيقظ من النوم، فلتلبس
المسيح، وبعدما تلبسه، أن تهب جسدك له بالطاعة. لأن هذا هو ما أشار له قائلاً:

"ولا
تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات" (رو14:13).

          فكما
أنه لم يمنع شرب الخمر، بل منع السكر، ولم يمنع الزواج، بل منع الفجور، هكذا لم
يحرم الاعتناء بالجسد، بل أنه قد حزر من إشباع شهوات الجسد، أى الشعور بالاحتياج
المبالغ فيه. فمن حيث أنه يأمر بالاهتمام بالجسد، اسمع ماذا يقول لتيموثاوس "
استعمل خمرًا قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة "[34].
هكذا هنا أيضًا، فهو يوصي بالاهتمام بالجسد، ولكن من اجل سلامة الصحة، وليس من أجل
الفجور. إن تتوفر الظروف التي تساعد على إشعال النار بشكل مخيف لا يمكن اعتباره
رعاية أو اهتمام ولكي تعلموا جيدًا، ماذا يعني، على أية حال، أن يعتني المرء
بالجسد بالنسبة لإشباع شهواته، ولتدركوا كيف يمكن تجنب الأهتمام الخاطئ عليكم أن
تتذكروا السكارى، والذين هم عبيد لبطونهم، والذين يفتخرون بملابسهم، والفاسقين،
وأولئك الذين يحيون حياة اللذة، حياة مملوءة بالمتع، وستعرفوا معنى ما قيل.

          لأن
أولئك الذين يفعلون كل شئ، هم يفعلون ذلك، لا من أجل أن يصيروا أكثر صحة، بل لكي
يشعروا بالمتعة، لكي يشعلوا الشهوة. لكن أنت يا من تلبس المسيح، عندما تنقض كل
هذا، لتطلب شيئًا واحدًا فقط، كيف يكون لك جسدًا صحيحاً. وتعتني به إلى هذا الحد
فقط، وليس أكثر من ذلك، بل أن تخصص كل رغبتك لاقتناء الصلاح الروحي أو الخيرات
الروحية. إذًا هكذا سيمكنك أن تستيقظ من هذا النوم، دون أن تشعر بثقل من هذه
الشهوات المتنوعة. كذلك فإن الحياة الحاضرة، هى نوم، وكل ما يحدث في هذه الحياة،
لا يختلف أبدًا عما يحدث في الأحلام. وتمامًا مثل هؤلاء الذين ينامون، ويهذون،
ومرات كثيرة لا يرون شيئًا صحيحًا، هكذا نحن أيضًا، وربما تكون أسوأ بكثير. من
يرتكب أفعالاً فادحة أثناء الحلم فهو لا يُعاقب عليها عندما يسقط بل يتخلص منها.
أما بالنسبة لما يحدث بالفعل فإن عقابه لا ينتهي وهكذا الخجل الذي يتبعه هذه
الأفعال. أيضًا كل من صار غني في الحلم، عندما يشرق النهار، يُوبخون، لأنهم اغتنوا
مصادفةً، بينما هنا قبل أن يطلع النهار، فإنهم يلقوا أكثر من التوبيخ، وقبل أن ننتقل
إلى هناك، تكون هذه الأحلام قد تبددتْ.

          3
ـ إذًا فلنتخلص من هذا النوم الخبيث. لأنه إن كان يومنا قد كرّس للنوم، فسيتبعه
موت أبدي. بل أننا قبل ذلك اليوم، سنكون ضعفاء أمام كل الأعداء، الذين يأتون من
هنا (من النوم أو الكسل) وأمام الناس، وأمام الشياطين، وإن أرادوا أن يهلكونا، فلن
يوجد يمنعهم من ذلك. لأنه إن كان الساهرون (أي اليقظون) هم كثيرين فإن الخطر لن
يكون كبيراً بهذا القدر، لأن واحد، وربما اثنين، أشعل سراجاً وظل ساهراً، بينما
ينام الآخرون، تمامًا مثلما يحدث في منتصف الليل، ولذلك يُفرض علينا الكثير من اليقظة
والكثير من الأمان، حتى لا نُصاب بشرور لا تُصحح. ألا يبدو لنا الآن كيف أن النهار
مشرق؟ ألا نعتقد جميعنا، أننا استيقظنا وأننا هادؤن؟ لكننا جميعاً (ربما تسخرون من
الكلام، لكنني سأقوله)، نشبه أولئك الذين يغطون في نوم عميق ويشخرون. وإن كانت
هناك إمكانية أن نرى كائناً جوهراً غير جسداني، فيكون معنى ذلك أن الأكثرية تغط في
نوم عميق، بينما الشيطان يثقب الأسوار ويفترس كل النائمين، وسلب كل ما يوجد في
الداخل، صانعًا كل هذا بكل اطمئنان كمن يعمل في ظلام دامس. أو من الأفضل أن نقول،
أن الشيطان يعرف أنه يستحيل على أحد أن يراه، إلا أننا نراه عن طريق الكلام الرديء
ولنفكر في كم هم الذين يحاربون بالرغبات الشريرة، والذين سيطر عليهم المخدر المخيف
الناتج عن الفجور، وكم عدد الذين يطفئون نور الروح تمامًا. ولهذا إذًا يرون، أن
الإنسان عندما يكون مستغرقاً في حلم يري ويسمع ولكن ليس بطريقة واقعية، ولذلك فهو
لا يصغي إذا ما تكلم أحد مستيقظ.

هل تبحث عن  شخصيات الكتاب المقدس عهد جديد الرسل السبعين أوربانوس س

لكن
إن كنت أنا أكذب عندما أتحدث عن هذه الأمور، وإذ كنت أنت يقظًا، أخبرني، ماذا حدث
اليوم هنا، إن لم قد حدث كما لو كان في حلم؟ وأنا أعرف بالطبع أن البعض سيقولوا
لماذا لم أتحدث عن هذه الموضوعات في مواجهة الجميع. لكن أنت يا من أنت مُذنب فيما
يختص بالأمور السالفة، والذي دخلت هنا بلا فائدة، تكلم، أى نبي، وأى رسول حدّثنا
اليوم، وعن أى الأشياء تحدث. أنت لا تستطع أن تقول، لأنك تكلمت عن أمور كثيرة هنا،
كما في حلم، دون أن تستمع للأمور الحقيقية. لكن لنتكلم عن هذه الأمور بالنسبة
للنساء، خاصةً وأن النوم عندهن كثير، وليته وهو نوم لأن من ينام لا يتكلم بالشر،
ولا بالصلاح، بينما اليقظ مثلكم يتكلم كثيراً عن شره، يعد الفوائد، ويحسب الأرباح
ويعد لحسابات القروض يحمل في ذاكرته خمراً (سكراً) فاسداً، يزرع شوكاً كثيفاً في
نفسه، لا يترك البذرة قليلاً حتى تثمر عليك أن تستيقظ تمامًا، وانزع هذا الشوك من
الجذور، وتحرر من السكر، لأن من هنا يأتي النوم. لكنني لا أقصد بالسكر، سكر الخمر
فقط، بل الاهتمامات الحياتية أيضًا، ومع سكر هذه الاهتمامات، يأتي السكر من الخمر
أيضًا.

          وأنا
لا أنصح الأغنياء فقط بهذه الأمور، بل والفقراء أيضًا، وبخاصةً أولئك الذين يصنعون
موائد الأغابي. لأن هذا لا يُمثل متعة، ولا تجلب راحة، بل جزاءاً وعقوبة. لأن
المتعة ليست أن نتكلم كلاماً وقاحاً، بل أن نتكلم بوقار، أن نشبع، لا أن نتشاحن.
أما إن اعتقدت أن في هذا لذة، فاظهر لي في المساء هذه اللذة. أنك لا تستطيع أن
تظهرها. وأنا لم أتكلم بعد عن الأضرار التي تأتي من هنا (أى من السكر)، بل أكلمك
أولاً عن اللذة التي تذبل على الفور. لأنه في لحظة واحدة تنفض المائدة ويختفي
الفرح. لكن عندما أشير إلى القيء، وأوجاع الرأس، والأمراض التي لا تُعد، وأسر
النفس، ماذا ستقول في كل هذه الأمور؟ فهل لأننا فقراء، يجب أن نسلك بلا وقار؟ أنني
أتكلم عن هذه الأمور، لا لكي أمنعكم أن تعدوا موائد مشتركة، ولا لكي أمنعكم عن أن
تقيموا طعام مشترك، بل لكي أمنعكم أن تسلكوا بلا وقار، ولأنني أريد للمتعة أن تكون
متعة حقيقية، وألا تكون جزاء وعقاباً، وسكراً، وتسلية. ولعلم الأمم، أن المسيحيين
يعرفوا على أية حال كيف يستمتعوا ويتمتعوا، وأن يتمتعوا بوقار. يقول المرنم
"افرحوا في الرب بخوف"[35].
وكيف يكون ممكنًا أن نفرح؟ نفرح ونحن نقول التسابيح، ونرفع الصلوات، ولتحل
المزامير محل تلك الأناشيد السفيهة.

          وهكذا
فإن المسيح سيوجد بجوارنا على المائدة، وسيمتلئ بالبركة الطعام والشراب، عندما
تصلي، وعندما ترنم روحيًا، وعندما تدعو فقراء إلى الشركة في الطعام المقدم، وعندما
تفرض طاعة كبيرة ووقاراً على المائدة. هكذا أيضًا ستصنع الكنيسة الطعام والشراب،
ويسبح الجميع الرب، ويحل هذا التسبيح مكان الصياح والمديح غير اللائق. ولا تقل لي،
إنه قد ساد ناموس آخر، بل عليك أن تصحح الأوضاع الشريرة التي تصاحب السلوكيات هكذا
يقول: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا فافعلوا كل شئ لمجد الله"[36]. خاصةً وأن
الرغبات الشريرة تتولد من هذه الموائد ومنها يأتي الفجور، ومن هنا (أى من هذه
الموائد) تُحتقر نساءكم، بينما تُكرَّم العاهرات، من هنا يأتي انحلال أو تفكك
العائلات، وتأتي شرور لا حصر لها، وتعم الفوضى كل شيء، وبعدما تركتم النبع النقي،
ركضتم إلى مجرى الوحل. ومن حيث أن جسد الزانية هو وحل، فإنني لا أسأل أحداً في هذا
الأمر، بل أسألك أنت يا من تتمرغ في الوحل، إن لم تخجل من نفسك، إن لم تتصور كيف
أنك دنس بعد الخطية.

          4
ـ ولهذا أتوسل إليكم أن تتجنبوا الزنا، ومصدره الذي هو السكر. لماذا تغرس حيث لا
يمكن أن تحصد، أو ربما حتى وإن حصدت بعد، فإن الثمر يحمل لك كثيراً من الخجل؟
لأنه، حتى وإن وُلد ولد من هذه العلاقة الآثمة، فإن هذا يخجلك، ويكون (الولد) قد
ظُلم بسببك، طالما أنه يعتبر أبناً شرعي، ومن أصل سيء. حتى وإن كنت بعد تترك له
أموالاً طائلة، فهو يصير محتقراً في البيت، ومحتقر في المدينة، ومحتقر في القضاء.

          هذا
هو المولود من زانية، هذا هو المولود من سفاح أو خداع، بل وأنت أيضًا تكون،
مُحتقراً حين تعيش، وحين تموت. لأنه حتى وإن مت بعد، تظل ذكريات أعمالك المشينة
باقية. لماذا إذًًا تُخجل كل شئ؟ لماذا تبذر، حيث تحاول الأرض أن تبيد الثمر؟ تبذر
حيث الأجزاء المجدبة أو القاحلة كثيرة؟ حيث قبل الولادة يوجد قتل أو اغتيال؟ خاصةً
وأن الزانية لا تتركها تبقى زانية فقط، بل تجعلها قاتلة أيضًا. أرأيت، كيف أن
العهر يأتي من السكر، والزنا يأتي من العهر والقتل من الزنا؟ بل وربما شئ أسوأ من
القتل، لأنني لا أستطيع أن أسمى هذا الأمر. لأنه لا يقتله بعدما يولد، بل ويمنعه أن
يولد. إذًا لماذا تحتقر عطية الله، وتحارب نواميسه، وهذا الذي يُعد لعنة، تسعى أنت
نحوه كبركة، ومستودع الولادة، تجعله مستودع قتل، والمرأة التي أُعطيت لك لولادة
الأبناء، تعدها للقتل؟ كما أنك لا ترفض أن هذه المرأة مبهجة ومرغوباً فيها لدى
العشاق، وتجمع أموال أكثر، فتجمع بسبب هذا ناراً حارقة فوق رأسك. لأنه على الرغم
من أن الإباحية تُنسب لها، لكن السبب يرجع إليك.

          من
هنا تأتي عبادة الأوثان. لأن كثيرات، لكي يصرن جذابات يبتدعن تمتمات (صلوات)،
وأحجبة، وطرقاً أو وسائل سحرية جنسية وأشياء أخرى لا تُعد. لكن بعد هذا القُبح
الكبير وبعد حالات قتل كثيرة، وبعد عبادة أوثان، فقد بدى الأمر للكثيرين أنه لا
يستحق الاهتمام، على الرغم من ان الكثيرين لديهم نساء. وهنا يظهر بالأكثر حجم
الشرور لأنهم يلجأون إلى الشعوذة، ليس في بطن الزانية بل لدى المرأة المظلومة،
وإلى آلاف المكائد، وستدعون الشياطين، ويتصلون بالموتى (عن طريق العرافة)، ويشنوا
حروباً يومية، ومعارك وحشية، ونزاعات يومية. ولذلك فإن القديس بولس، بعدما قال
" لا بالمضاجع والعهر" أضاف " لا بالخصام والحسد"، لأنه يعرف الحروب
التي تأتي تنشب عن طريق هذه الأمور، وتفكك العائلات، والظلم الذي ينال من الأولاد
المهذبين، والشرور التي لا حصر لها. ولكي نتجنب إذًا كل ذلك، فلنلبس المسيح، ولنكن
دومًا معه. وألا نتركه أبدًا، فإن معنى كلمة "لبس" هو أن يظهر المسيح من
داخلنا من كل الجوانب من خلال قداستنا، من خلال صلاحنا. هكذا نقول لأصدقائنا أن
فلاناً قد لبس فلاناً، قاصدين المحبة الكبيرة، والعشرة المستمرة. لأن من لبس، يبدو
هو ذاك الذي لُبس.

          إذًا
ليظهر المسيح من داخلنا من كل جانب. وكيف سيظهر؟ إن فعلت ما يفعله. وماذا فعل هو؟
" أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه "[37].
هذا ما يجب أن تتشبه به أنت أيضًا. كان يجب أن يحيا متمتعًا بالطعام، فأكل خبز
الشعير. كان يحتاج للسفر فلم يجد خيولاً، ودواباً، فمشى مسافات طويلة جدًا، حتى
أنه تعب أيضًا. كان يحتاج أن ينام، لكنه تمدد (نام) وجعل من مقدمة السفينة وسادة
لرأسه. احتاج أن يُجلسهم للطعام، وأمر أن يجلسوا فوق العشب. بل وملابسه أيضًا كانت
زهيدة، وفي حالات عديدة بقى وحده، دون أن يُحضر أحد معه، وطالما أنك تعرف كل ما
حدث في الصليب، والإهانات، وكل شئ بشكل عام، فلتفعل كل هذا، وتكون قد لبست المسيح،
إن لم تهتم بإشباع شهوات الجسد. لأن هذا الأمر لا يحمل أى فرح. خاصةً وأن هذه
الشهوات تلد أيضًا أشياء أخرى مؤلمة، ولن تشبع أبدًا. إن الذي يعيش في الشهوات
يعطش دائماً يشبه من يظل عطشاناً، وحتى وإذا وجدت بالقرب منه آبار مياه لا حصر
لها، فإنه لن يربح شيئاً من ذلك، طالما أنه لا يستطيع أن يطفئ شهوته، هكذا ذاك
الذي يعيش دومًا بالشهوات.

          أما
إذا تدرب الجسد على الحرمان، فلن يصاب مطلقًا بهذه الحمى (أى حمى الشهوات)، بل
سيفارقك السكر، والعهر. إذ عليك أن تأكل بقدر ما توقف الجوع، وتلبس، بقدر ما تتغطى
فقط، ويجب ألا تزين الجسد بالملابس لكي لا تهلكه. خاصةً وأنك بهذا تجعله أكثر
ضعفًا، وتضر بالصحة، بعدما تضعفه بكثير من الحماقة. لكي يكون لك إذًا عربة حسنة
للنفس، لكي يجلس القائد بأمان أمام عجلة القيادة، ولكي يستخدم الجندي الأسلحة
بسهولة، فعليك ممارسة كل ذلك كما ينبغي. لأن ما يجعلنا لا نقبل الهزيمة، ليس هو أن
نمتلك الكثير، بل هو أن نحتاج للقليل. لأن ذاك (أى الذي يمتلك الكثير)، حتى وإن لم
يُظلم بعد، يخاف، بينما ذاك (الذي لا يحتاج إلاّ للقليل)، حتى وإن ظُلم بعد، سيكون
في حالة أفضل من أولئك الذين لم يُظلموا بعد، ولهذا سيوجد في بهجة أكثر. إذًا يجب
ألا نطلب هذا (أى الكثير)، أى يجب ألا يصيبنا أحد بالضرر، بل وحتى إذا كان يريد
بعد أن يؤذينا، فإنه لن يستطع. وهذا لن يحدث بأي حال على الإطلاق، حين نحتمل
الحرمان، ولا نشتهي المزيد. لأنه هكذا إنطلاقًا من هذا السلوك، سنستطيع أن نحيا
حياة مملوءة بالمتعة، وسننال خيرات الدهر الآتي، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي
لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى دهر الدهور آمين.



[1] أم14:19.

[2] مت4:19ـ5.

[3] 1تيمو2:2.

[4] كو3:3ـ4.

[5] مت40:22.

[6] مت38:22ـ39.

[7] يو16:21.

[8] تك26:1.

[9] تك18:2.

[10] تك11:3.

[11] تك6:4.

[12] تك7:4.

[13] تك45:27.

[14] تك9:4.

[15] تك10:4.

[16] تك11:4.

[17] 2صم21:1.

[18] 2كو2:2.

[19] خر5:20.

[20] خر22:23 (س).

[21] مز8:34.

[22] 1كو29:7.

[23] عب37:10.

[24] رو10:8.

[25] أف17:3.

[26] أف23:1.

[27] 2كو2:11.

[28] غلا20:2.

[29] رو4:6ـ5.

[30] 2كو20:5.

[31] رو34:8.

[32] يو56:6.

[33] يو14:15.

[34] 1تيمو23:5.

[35] مز11:2 (س).

[36] 1كو31:10.

[37] لو58:9.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي