رِسَالَةُ بُولُسَ
الرَّسُولِ الثَّانِيةُ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ

 

رِسالَةُ
بُولُس الثانِيَة إلى أهلِ كُورنثُوس الفَصلُ التاسِع

 

أوراقُ
إعتِمادِ الخادِم

(2كُورنثُوس
1-6)

كتبَ
بُولُس رسالتَهُ الأُولى إلى أهلِ كُورنثُوس من أفسُس، وأرسَلَها لهُم بِيَدِ
تيطُس. فأخذَ تيطُس الرِّسالَةَ إلى الكُورنثُوسيِّين وبقِيَ معَهُم ليشرَحَ لهُم
مُحتَوى الرِّسالة ويُدافِعَ عنها أمامَ أُولئكَ الذين كانُوا مُتورِّطِينَ في
المشاكل التي عالجتها الرسالة. في هذه الفترة، لَزِمَ على بُولس أن يختُمَ
إقامتَهُ في أفسُس والتي إستَمرَّت ثلاث سنين ونِصف، بسبب قِيام ثَورَة ضدَّ خدمة
بُولُس في تِلكَ المدينة (أعمال 19). فإنتَقَلَ بُولُس إلى ترواس، ومن ثَمَّ إلى
فيلبِّي، حيثُ إنتظَرَ تيطُس ليرجِعَ حامِلاً معَهُ أخباراً من كُورنثُوس عن
كيفيَّة تجاوُبِ الكُورنثِيِّينَ معَ رسالتِهِ الأُولى لهُم.

 

كانَ
مُعظَمُ الأخبارِ جيِّداً. ولقد عامَلَ الكُورنثِيُّونَ تيطُس بمحبَّةٍ وعطف،
وكُلّ ما حضَّهُم عليهِ بُولُس في رسالتِهِ الأُولى ليعمَلُوهُ، أطاعُوهُ. ولكنَّ
بعضَ الأخبار لم تكُن سارَّة. فبعضُ الأشخاص في الكنيسة بدأُوا يُهاجِمُونَ
رسُوليَّةَ بُولُس، وآخَرُونَ إنتَقَدُوا قُدُرَاتِهِ على الكلامِ والوعظ،
وآخَرُونَ ظَنُّوا أنَّهُ كانَ غيرَ مُختَلِّ التوازُن عقليَّاً، أو أنَّهُ خارِج
محورَ ذاتِهِ. (2كُورنثُوس 5: 13) وفوقَ ذلكَ، كثيرونَ منهُم شعَرُوا بالإهانَة
أنَّهُ لم يأتِ هُوَ شخصيَّاً لزِيارتِهم. ولكنَّ هذه الإنتقادات لم تَنقُضْ
أيَّةَ نُقطَةٍ من النُّقاط التي شدَّدَ عليها بُولُس في رسالتِهِ، لأنَّ منطِقَهُ
كانَ غيرَ قابِلٍ للرَّفض. وبدَلَ ذلكَ هاجَمُوا بُولُس نفسَهُ. وعندما سَمِعَ
بُولُس بهذه الأُمُور، كتبَ لهُم رسالتَهُ الثانِيَة.

 

الإصحاحاتُ
الستَّةُ الأُولى من كُورنثُوس الثانِيَة تُعرِّفُ مُؤهِّلاتِ الخادِم أو أوراق
إعتِمادِه، بما أنَّ هذا المَوضُوع كان الإتِّهام الرئيسيّ الذي تمسَّكَ بهِ
أعداءُ بُولُس ضِدَّهُ. لقد ظَنُّوا أنَّهُ غَيرُ أَهلٍ لدَورِ الرسُول، ولهذا
غيرُ أهلِ لتصحيحِ أخطائِهم. فكتبَ بُولُس هذه الرِّسالة لكَي يُدافِعَ عن
رسُوليَّتِهِ ودَورِهِ كخادِمٍ للإنجيل. لِهذا يُمكِنُنا أن نجمَعَ مبادِئَ
هامَّةً عن مُؤهِّلاتِ الخادِم من كَلِماتِ بُولُس الرسُول.

 

فأُولئكَ
المدعُوُّونَ للخدمَةِ الرَّعَويَّةِ اليوم يُعتَبَرُونَ خُدَّاماً للإنجيل. ولكن،
عندما إستخدَمَ بُولُس كلمة خادِم، لم يَكُنَ يُشيرُ إلى رَجُلِ الدين، بل إلى
الخدمة التي إليها دُعِيَ كُلُّ تلميذٍ حقيقيٍّ ليَسُوع المسيح.

 

يُعلِّمُنا
الإصحاحُ الرابِعُ من رسالَةِ بُولس الرسُول إلى أهلِ أفسُس أنَّ أُولئكَ
المَدعُوِّينَ كمُبَشِّرينَ ورُعاةٍ ومُعلِّمين، أُعطُوا هذه المواهِب
"لتكميلِ القدِّيسين لعَمَلِ الخدمة." (أفسُس 4: 12) (فعندما كانَ
المُؤمِنُونَ يتقدَّسُونَ، أو يتخصَّصُونَ لإتِّباعِ المسيح، دعاهُم بُولُس
بالقِدِّيسين.) بِكلماتٍ أُخرى، إنَّ وصفَ عملَ الرَّاعي/المُعلِّم هي لتأهيلِ من
يُدعَونَ "بالعِلمانِيِّين" لعملِ الخدمة. إنَّ عملَ الخِدمَة ليسَ
حصراً على المُحتَرفينَ فقط، مثل الخُدَّام الرَّعَويِّين، ولكنَّهُ لكُلِّ أعضاءِ
الكنيسَةِ المحلِّيَّة. بمعنىً ما، كُلُّ أعضاءِ الكنيسة هُم خُدَّامٌ في
كَنيستِهم.

 

تَدريبُ
الخادِم

وَصَفَ
بُولُس كيفَ يُدرِّبُنا اللهُ لنكُونَ خُدَّامَهُ. إحدَى الطُّرُق التي
يستَخدِمُها لهذا الغرض، هِي من خِلالِ تعليمِنا كيفَ نُعزِّي الآخرين الذين
يتألَّمُون. وهُوَ يفعَلُ هذا عندما يسمَحُ بأن نتألَّمَ نحنُ أوَّلاً:
"مُبارَكٌ اللهُ أبُو رَبِّنا يسُوع المسيح أبُو الرَّأفَة وإلهُ كُلِّ
تَعزِيَة. الذي يُعزِّينا في كُلِّ ضيقَتِنا حتَّى نستطيعَ أن نُعَزِّيَ الذين هُم
في كُلِّ ضِيقَة بالتَّعزِيَة التي نتعزَّى نحنُ بها من الله." (2كُورنثُوس
1: 3- 4)

 

فعندما
نتألَّمُ، نقتَرِبُ من الله ونكتَشِفُ أنَّهُ هُوَ بنفسِهِ مصدَرُ تعزِيَتنا التي
نحتاجُها في أزمِنَةِ ضِيقاتِنا. وبأخذِنا التعزِيَة من المُعزِّي الحقيقيّ،
نتأهَّلُ لنُعزِّيَ الآخرينَ في آلامِهم. وهكذا نُصبِحُ من خِلالِ ألَمِنا
وإكتشافِنا خُدَّاماً مُؤهَّلِينَ للتعزِيَة، وشُهوداً مُوثُوقاً بنا للتعزِيَةِ
التي إكتَشفناها عندما كُنَّا مُتألِّمين. فالمُبَشِّرُ هُوَ مُتَسوِّلٌ يُخبِرُ
باقي المُتَسوِّلينَ عن مكانِ وُجُودِ الخُبز. فخادِمُ التعزِيَة، كما يُعرِّفُهُ
بُولُس، هُوَ قَلبٌ مُتَألِّمٌ يُخبِرُ القُلوبَ الأُخرى المُتألِّمَة عن مكانِ
وُجُودِ التعزِيَة.

 

بعدَ
أن وصفَ بُولُس مُؤهِّلات الخادِم الذي يستخدِمُهُ الله، دافَعَ عن مِصداقِيَّةِ
خدمتِهِ بإخبارِهِ الكُورنثِيِّينَ عن آلامِهِ في لِسترة، حيثُ رُجِمَ بقَسْوَةٍ
حتَّى قارَبَ الموت:

 

"فإنَّنا
لا نُريدُ أن تَجهَلُوا أيُّها الإخوة من جِهَةِ ضيقَتِنا التي أصابَتنا في أسيَّا
أنَّنا تثقَّلنا جِدَّاً فوقَ الطاقَة حتَّى أيِسنا من الحياةِ أيضاً. لكن كانَ
لنا في أنفُسِنا حُكمُ المَوت لِكَي لا نكُونَ مُتَّكِلينَ على أنفُسِنا، بَل على
الله الذي يُقيمُ الأَموات. الذي نجَّانا من مَوتٍ مثل هذا وهُوَ يُنجِّي. الذي
لنا رَجاءٌ فيهِ أنَّهُ سيُنَجِّي أيضاً فيما بَعدُ." (2كُور 1: 8-10)

 

كانَ
بُولُس يُبرهِنُ مِصداقِيَّتَهُ كخادِمٍ للإيمان. إفتَتَحَ رسالتَهُ بِشرحِ كيفَ
يَقُودُنا الألَمُ إلى الله ويُؤهِّلُنا لنكُونَ خُدَّامَ تعزِيَة، وأظهَرَ لنا
كيفَ كانَ مُؤهَّلاً ليكُونَ خادِماً بهذهِ الطريقة. ففي لٍِسترة، سمحَ اللهُ
لبُولُس بأن يتألَّمَ إلى ما بعدَ درجة الإحتِمال –حتَّى يئِسَ من الحياة- لكي
يتعلَّمَ أن يثِقَ باللهِ وليسَ بنفسِهِ. وسُرعانَ ما تعلَّمَ أن لا يَثِقَ
بنفسِهِ، حتَّى تعلَّمَ أيضاً أنَّ اللهَ وحدَهُ يستطيعُ أن يُقيمَ الأموات، وأن
يُنقِذَهُ من هذا الإختِبار الذي لا بُدَّ أنَّهُ كانَ مَهُوباً. يعتَقِدُ البعضُ
أنَّ بُولُس يُخبِرُنا هُنا أنَّهُ إختَبَرَ الموتَ والقِيامة عندما رُجِمَ في
لِسترى. وآخَرُونَ يعتَقِدُونَ أنَّهُ يستَخدِمُ لُغَةً مجاِزيَّةً تصويريَّةً في
هذه الأعداد.

 

عَمَلُ
الخادِم

ما
هُوَ عملَ الخادِم؟ أجابَ بُولُس على هذا السُّؤال قائِلاً: "ولكن شُكراً لله
الذي يَقُودُنا في مَوكِبِ نُصرَتِهِ في المسيحِ كُلَّ حِينٍ ويُظهِرُ بِنا
رائِحَةَ مَعرِفَتِهِ في كُلِّ مكانٍ. لأنَّنا رائِحَةُ المسيحِ الذَّكِيَّة للهِ
في الذين يخلُصُونَ وفي الذين يهلِكُون. لِهَؤُلاء رائِحةُ موتٍ لِمَوت ولأولئكَ
رائِحَةُ حياةٍ لِحَياة." (2كُورنثُوس 2: 14- 16)

 

بحَسَبِ
بُولُس، كخُدَّامٍ للإنجيل، نحنُ نُشبِهُ الأزهار التي تنضَحُ برائِحَةِ المسيحِ
الزَّكِيَّة حيثُما نذهَبُ. هذه الرائِحة، إمَّا تُقرِّبُ الآخرينَ للخلاص
والحياةِ الأبديَّة، أو تُبعِدُهُم عنها بِإتِّجاهِ المَوت. إذ رَفَضُوا رائحتَنا،
فإنَّهُم بذلكَ يرفُضُونَ المسيح، وسوفَ تقُودُهم طريقُهم إلى الموت. ولكن إذا
جُذِبُوا للمسيحِ من خِلالِ رائِحَةِ المسيح التي هي نحنُ، سيجِدُونَ خلاصَ المسيح
والحياة الأبديَّة.

 

إنَّ
ثِقلَ هكذا مسؤولِيَّة دفعَ بُولُس ليسألَ، "ومن هُوَ كُفؤٌ لهذه
الأُمور؟" (16) فنحن لسنا كُفؤاً لنصنعَ الفرقَ بينَ الحياةِ الأبديَّة
والمَوتِ الأبديّ للناسِ الذين نلتَقي بهم في حياتِنا، ولكنَّ اللهَ هُوَ الكُفؤ:
"ليسَ أنَّنا كُفاةٌ من أنفُسِنا أن نفتَكِرَ شيئاً كأنَّهُ من أنفُسِنا، بل
كِفايتُنا من الله." (3: 5) فحياةُ الناسِ تتغَيَّرُ من خِلالِ الرُّوحِ
القُدُس. ونحنُ لسنا سِوى قَنواتٍ يُمرِّرُ اللهُ من خِلالها الرائحَةَ التي
تفَوحُ من المسيحِ الذي تغيَّرَ وغيَّرَ حياتَنا.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ل لهج ج

 

ما
الذي يُحرِّكُ المُحَرِّك؟ (2كُورنثُوس 5: 13- 6: 1، 2)

عندما
دافَعَ بُولُس عن نفسِهِ ضدَّ الإتِّهامِ بأنَّهُ كانَ مُختَلَّ العقل، أو أنَّ
ذاتَهُ لم تعُد مِحوَرَ حياتِه، عندها علَّمَ بُولُس عن عملٍ آخر للخادم. في
اللُّغَةِ اليُونانِيَّة، يعني الإتِّهامُ المُوجَّهُ ضِدَّ بُولُس أنَّهُ كانَ
غَريبَ الأطوار. وكانُوا يتَّهِمُونَ بُولُس بأنَّهُ كانَ يتصرَّفُ من مُنطَلَقِ
مِحوَرِ حياةٍ يختَلِفُ عن مِحوَرِ حياتهم. وبما أنَّ هؤُلاء الكُورنثِيِّينَ
كانُوا يتمحوَرُونَ حولَ ذواتِهم، وافَقَ بُولُس معَهُم على إتِّهامِهم لهُ بأنَّ
ذاتَهُ لم تَعُد مِحوَرَ حياتِه. بل كانَ يعمَلُ من مُنطَلَقِ مِحوَرٍ يختَلِفُ
تماماً عن مِحوَرِهم. لقد أصبَحَ المسيحُ هُوَ المِحوَر الذي تتمحوَرُ حولَهُ
حياةُ بُولُس الرسُول. هذا ما قصدَهُ عندما كتبَ قائِلاً: "لأنَّنا إن صِرنا
مُختَلِّين (لا نتمحوَرُ حولَ ذواتِنا) فَلِلَّهِ." (2كُورنثُوس 5: 13)

 

إنَّ
دِفاعَ بُولُس عن "إختِلالِهِ" كانَ أنَّ محبَّةَ المسيح ودعوتَهُ
لخدمتِهِ هُما المحوَر الذي تتمحوَرُ حياتُهُ حولَهُ: "لأنَّ محبَّةَ المسيح
تحصُرُنا. إذ نحنُ نَحسِبُ هذا أنَّهُ إن كانَ واحِدٌ قد ماتَ لأجلِ الجميع
فالجَميعُ إذاً ماتُوا. وهُوَ ماتَ لأجلِ الجميع كَيْ يعيشَ الأحياءُ فيما بعد لا
لأنفُسِهم بَل للَّذِي ماتَ لأجلِهم وقام… إذاً نسعى كسُفراء عنِ المَسيح كأنَّ
اللهَ يَعِظُ بنا. نطلُبُ عنِ المسيح تصالَحُوا معَ الله." (5: 14- 15، 20أ)

 

مُطَلَقاتُ
بُولُس الثلاث

بنى
بُولُس أعمالَهُ على ثلاثَةِ مُطلَقَاتٍ: أنَّ المسيحَ ماتَ عنِ الجَميع، أنَّ
الجميعَ هالِكُون، وأنَّهُ على الجميع أن يسمَعُوا رسالةَ الإنجيل. وإذ أصبَحَ
المسيحُ وهذه المُطلَقاتُ الثلاث مِحوَرَ حياةِ بُولُس، عاشَ كرَجُلٍ مُختَلّ
التوازُنِ والمِحوَرِ بِحَقّ. (5: 18)

 

مُستَوياتُ
العلاقات

في
هذا المقطَع، بالإضافَةِ إلى نافِذَةٍ إلى قَلبِ دافِعِ بُولُس الرَّسُول، لدينا
وصفٌ لثلاثَةِ مُستَوياتٍ للنُّضجِ الرُّوحِيّ. هذه المُستَوياتُ الثلاث تَصِفُ
علاقتَنا معَ المسيح بثلاثِ طُرُقٍ: بالمسيح، في المسيح، وللمسيح. بالمسيح: تُشيرُ
إلى كُلِّ ما لدينا في طريقِ الخلاص والبركاتِ الرُّوحِيَّةِ بالمسيح. في المسيح:
تُشيرُ إلى إتِّحادِنا فيهِ، كمنبَعِ كُلِّ ما نحتاجُهُ لنتبَعَ المسيح. هاتَان
الكَلِمتان تُشيرَانِ أيضاً إلى إستِسلامِنا المُطلَق لكُلِّ ما هُوَ على قَلبِ
المسيح، مثل جميع الهالِكين والذين ينبَغي أن يسمَعُوا رِسالَةَ إنجيلِ الخلاص.
لِلمسيح: تُشيرُ إلى دافِعِنا لنحيا حياتَنا بالمسيح وفي المسيح.

 

الفصلُ
العاشِر شفَافِيَّةُ الخادِم

 إنَّ
رِسالَةَ بُولُس الرسُول الثَّانِيَة إلى أهلِ كُورنثُوس تتكلَّمُ بمُجمَلِها عن
الخدمة التي يُريدُ اللهُ لكُلِّ مُؤمِنٍ أن يختَبِرَها. قالَ بُولُس
للأفسُسِيِّين أنَّهُم "مخلُوقونَ في المسيحِ يسُوع لأعمالٍ صالِحةٍ،"
وأنَّ اللهَ سبقَ فأعدَّ هذه الأعمال الصالِحة لنا قبلَ أن عرَفنا الخلاص (أفسُس
2: 10). لقد خلُصنا بالنِّعمَة، ولكنَّنا خُلِقنا لأعمالٍ صالِحة. فاللهُ لديهِ
خدمَةٌ لكُلٍّ منَّا، وهذه الخدمة هي أحد الأسباب التي من أجلِها أتَى بنا إلى
الخلاص وإلى نفسِهِ. رُغمَ أنَّ هذه الأعمال لا تُخلِّصنا، ولكنَّها هدَفُ خلاصِنا
في مجالِ هذه الحياة.

 

لقد
سبقَ وتعلَّمنا من هذه الدِّراسَة أنَّ كُلَّ المُؤمنين هُم خدَّامُ الإنجيل،
مخلُوقِينَ باللهِ لأعمالٍ صالِحَةٍ، وأنَّ القصدَ من خِدمَتِنا هُوَ أن نُصالِحَ
كُلَّ البَشر معَ الله. ولكن لكي نأتي بالنَّاسِ إلى الله، فإنَّ حياتَنا ينبَغي
أن تمتازَ بالشفافِيَّةِ الصادِقة. ينبَغي أن يكُونَ واضِحاً للجميع، أنَّ كُلَّ
شَيءٍ صالِحٍ في حياتِنا هُوَ المسيح الذي خلَّصَنا ويحيا فينا.

 

كيفَ
ننظُرُ إلى حياتِنا؟

 

إنَّ
شفافِيَّةَ الخادِم تبدَأُ معَ الطريقَة التي بها ينظُرُ إلى حَياتِه. فهوَ يرى
نفسَهُ كمُجرَّدِ إناءٍ يستخدِمُهُ الله: "ولكن لنا هذا الكَنز في أَوانٍ
خَزَفِيَّة لِيَكُونَ فضلُ القُوَّةِ للهِ لا مِنَّا… حامِلينَ في الجَسَد كُلَّ
حينٍ إماتَةَ الرَّبِّ يسُوع لِكَي تظهَرَ حياةُ يسُوع أيضاً في جَسَدِنا."
(2كُورنثُوس 4: 7، 10).

 

فنحنُ
مُجرَّدُ آنِيَةٍ خزَفِيَّةٍ صغيرة، ولكنَّنا نحمِلُ في هذه الآنِيَة الخزَفِيَّة
الصغيرة كنزَ يسُوع المسيح الذي لا يُقدَّرُ بِثَمَن. إنَّ شفافِيَّتَنا تجعَلُ من
هذا الكنز معرُوفاً للآخرين. حتَّى الكُسُور والشقُوق في إِنائِنا الخَزَفِيّ هي
جزءٌ من شَفَافِيَّتِنا، لأنَّ كَنزَنا هُوَ مثلُ نُورٍ يَشعُّ من خلالِ هذه
الشقُوق، أو البُرهانُ الواضِحُ عن إنسانِيَّتِنا المُتصدِّعَة.

 

ولكَي
نُتَمِّمَ هذا العمَل، يسمَحُ الرَّبُّ بالضُّغُوطاتِ على إِنائِنا الخَزَفِيّ.
هذه الضغُوطات هي المصاعِب التي نُعانِي منها من أجلِ الإنجيل. غالِباً ما يُشيرُ
بُولُس إلى مصاعِبِهِ الشخصيَّة في هذه الرسالة، لكَي يُبرهِنَ كيفَ كانت جزءاً من
تدريبِهِ كخادِمٍ للإنجيل. فالمسيحُ يُعلِنُ نفسَهُ في مَصَاعِبِنا، لأنَّ
قُوَّتَهُ تُمكِّنُنا من إحتِمالها: "مُكَتئِبينَ في كُلِّ شَيءٍ لكن غيرَ
مُتَضايِقين. مُتَحَيِّرينَ لكِن غير يائِسين. مُضطَّهَدِينَ لكن غَير مَترُوكين.
مطرُوحينَ لكن غير هالِكين." (2كُورنثُوس 4: 8- 9). عندما تأتي علينا
النوائِبُ والمصاعب، ونتمكَّنُ من إحتِمالِها، يتساءَلُ الآخرونَ عمَّا يُمكِّنُنا
من إحتمالِها. عندها سيكُونُ بإمكانِنا أن نُشارِكَ معَهُم كنزَ المسيح الذي لا
يُقدَّرُ بِثَمن.

 

مَدرَسَةُ
الألم

كتبَ
بُولُس يقُولُ أنَّهُ بإمكانِنا أن نُبَرهِنَ جدارَتنا كخُدَّامِ اللهِ من خِلالِ
مُعاناتِنا: "في شدائِد في ضَروراتٍ في ضيقاتٍ. في ضَرباتٍ في سُجونٍ في
إضطراباتٍ في أتعابٍ في أسهَارٍ في أصوام." (6: 4- 5).

 

أنا
أُسمِّي هذه الصُّعوبات ب"العواصِف." فلِكَي يُعلِنَ اللهُ نفسَهُ،
يسمَحُ أن تُواجِهَ العواصِفُ خدَّامَهُ. ويسمَحُ لا بَل يُوجِّهُ أحياناً هذه
الضُّغُوطات لتأتي على خُدَّامِهِ.

 

اللهُ
لديهِ طريقَةٌ خاصَّةٌ يُريدُ أن يتجاوبَ بها خُدَّامُهُ معَ هذه العاصِفة:
"في طَهَارَةٍ في عِلمٍ في أناةٍ في لُطفٍ" (6) ولكن كيفَ نفعَلُ هذا؟
من خلالِ المصادِر الرُّوحِيَّة التي يُوفِّرُها لنا: "في الرُّوحِ القُدُس
في مَحَبَّةٍ بِلا رِياء. في كلامِ الحقِّ في قُوَّةِ الله بِسلاحِ البِرِّ
لليَمينِ ولليَسارِ." (6- 7). من خِلالِ هذه الضُّغوطات، وتجاوُبِنا
بِقُوَّةِ الرُّوحِ معَها، نُظهِرُ المسيحَ للعالَم كخُدَّامِهِ الحقيقيِّين.

 

في
الفَصلِ الخامِس، أعطانا بُولُس نافِذَةً تُدخِلُنا إلى دوافِعِه. في الإصحاحِ
الحادِي عشر، يُعطينا نافِذَةً من سيرَةٍ حياتِهِ تُدخِلُنا إلى مدرستهِ
اللاهُوتِيَّة للألم: "في الأتعابِ أكثَر. في الضربَاتِ أوفَر. في السُّجُونِ
أكثَر. في المِيتاتِ مِراراً كثيرَةً. منَ اليَهُودِ خَمسَ مرَّاتٍ قَبِلتُ
أربَعينَ جَلدَةً إلا واحِدة. ثلاثَ مرَّاتٍ ضُرِبتُ بالعِصِيّ. مرَّةً رُجِمتُ.
ثلاثَ مرَّاتٍ إنكَسَرَت بي السفينَةُ. ليلاً ونهاراً قَضَّيتُ في العُمق. بأسفارٍ
مراراً كثيرَةً. بأخطارِ سُيُولٍ. بأخطارِ لُصُوصٍ. بأخطارٍ من جِنسي. بأخطارٍ من
الأُمَم. بأخطارٍ في المَدينة. بأخطارٍ في البَرِّيَّة. بأخطارٍ في البَحر.
بأخطارٍِ من إخوَةٍ كذَبَة. في تَعَبٍ وكَدٍّ. في أسهارٍ مِراراً كثيرَةً. في
جُوعٍ وعَطَِشٍ. في أصوامٍ مِراراً كثيرَةً. في بَردٍ وعُرِي." (2كُورنثُوس
11: 23ب- 27). من خِلالِ هذه الضِّيقات، وتجاوُبِه معها، كانَ بُولُس قادِراً أن
يُبرهِنَ جدارَتَهُ كخادِمٍ للإنجيل.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ح حدشي ي

 

فكيفَ
يعرِفُ الآخرونَ أنَّكَ خادِمٌ للإنجيل؟ يرغَبُ الناسُ أن يرَوا كيفَ تختَلِفُ
الحياةُ في المسيح عن الحياة بدونِهِ. فهل يَرَونَ الكنز الساكِن في إنائِكَ
الخَزَفِيّ؟ إنَّ خدمةَ الإنجيل ليست عمَّا دَعاهُ بُولُس، "ولا غاشِّينَ
كَلِمَةَ الله." (2كُورنثُوس 4: 2). إنَّ الخدمةَ الحَقيقيَّةَ هي عن
الشهادَةَ الشفَّافَة لحياتِنا – أن نتألَّمَ من أجلِ الإنجيل، ولكنَّنا قادرِونَ
أن نحتَمِلَ هذه الضِّيقات من خلالِ القُوَّة التي يمنَحُنا إيَّها الرُّوح
القُدُس. إنَّ حياةَ الخادِم ينبَغي أن تُقدِّمَ بُرهاناً عن المسيح لأولئكَ الذين
يبحَثُونَ عنِ المُخَلِّص.

 

الفصلُ
الحادِي عشَر ترفُّع الخادِم

إختِبارُ
طريقِ دِمشق

من
المُستَحيلِ أن نفهَمَ حياةَ الرسُول بُولُس بمَعزَلٍ عن كلمة
"إختِبار." كانَ لبُولُس عددٌ من الإختِبارات غير الإعتِيادِيَّة خلالَ
حياتِهِ على الأرض. فقبلَ تجدُّدِهِ ومجيئِهِ للإيمانِ المسيحيّ، إضطَّهدَ الكنيسة
بِلا هَوادة. كانَ كشاوُل الطرسُوسيّ، يُركِّزُ بِما نُسمِّيهِ "الرُّؤيا من
خلالِ نفق" على شيءٍ واحِد، مُلتَزِماً بتدميرِ الجيل الأوَّل من كنيسةِ
يسُوع المسيح. ولكن فيما بعد، كان لديهِ إختِبارٌ معَ المسيح على طريقِ دمشق، حيثُ
تكلَّمَ المسيحُ مُباشَرةً معَهُ وأعمى عينيهِ عن البَصَر ببريقِ نُورٍ شديد
(أعمال 9). لقد غيَّرَ إختِبارُ طريقِ دِمشق حياةَ شاوُل الطرسُوسِي للأبد.

 

إختِبارُ
صحراء العَرَبِيَّة

قبلَ
أن يبدَأَ بُولُس خدمتَهُ العَلَنيَّة، ذهبَ إلى صحراءِ العَرَبِيَّة، وهُناكَ
كانَ لهُ إختِبارٌ آخر. في العَرَبِيَّة، تعلَّمَ كُلَّ ما يحتاجُهُ للخدمة، بعدَ
أن إختارَ أن لا يستَشيرَ لحماً ولا دَماً كالرُّسُلِ مثلاً، بل أن يتعلَّمَ
مُباشَرَةً من المسيح المُقام نفسه. (غلاطية 1، 2). لا يتَّفِقُ عُلماءُ الكتاب
المقدَّس حَولَ طُولِ المُدِّة التي يقُولُ بُولُس أنَّهُ قضاها معَ المسيح
المُقام في البَرِّيَّة. يقُولُ البَعضُ أنَّهُ قضى ثلاثَ سنوات، ويعتَقِدُ آخرونَ
أنَّهُ قضى فترةً أطولَ من ذلكَ بكثير. لقد قضى الرُّسُلُ ثلاثَ سنوات معَ يسُوع
كمُعَلِّمِهم، ويقُولُ بُولُس أنَّهُ هُوَ أيضاً كانت لهُ سنواتُهُ معَ يسُوع الذي
علَّمَهُ في بَرِّيَِّةِ صحراء العَربِيَّة. إنَّ إختِبارَ الصحراء العربِيَّةِ
هذا حضَّرَهُ ليكتُبَ نِصفَ العهدِ الجديد، ولينشُرُ الإنجيل لكُلِّ العالمِ
المعرُوفِ في زمانِهِ.

 

إختِبارٌ
سَماوِيّ

تكلَّمَ
بُولُس عن إختِبارٍ ثالِث في 2كُورنثُوس 12، حيثُ يُخبِرُنا أنَّهُ كانَ إختُطِفَ
إلى السماء الثالِثة. لم يُعطِ تفاصِيلَ كثيرَ عن إختِبارِهِ هذا، ولكنَّهُ ذكرَ
أنَّهُ "سَمِعَ كَلِماتٍ لا يُنطَقُ بها ولا يسُوغُ لإنسانٍ أن يتكلَّمَ
بِها." (12: 4) شارَكَ بُولُس إختِبارَهُ السماوِيّ هذا معَ
الكُورنثُوسيِّين، لكي يُبرهِنَ لهُم جدارَتَهُ كَخادِمٍ للإنجيل. لقد أقنَعَ هذا
الإختِبارُ بُولُسَ أنَّهُ من المُمكِن أن نَعيشَ في المجالِ السماوِيّ، بينَما
نحنُ لا نزالُ نعيشُ على الأرض. فالخادِمُ الذي يعيشُ ويتحرَّكُ كيانُهُ في
المجالِ السماوِي، هُوَ ما أقصدُ بهِ "ترفُّع الخادم."

 

وُجهَةُ
نظَرٍ سَمَاوِيَّة

إنَّ
إختِبارَ بُولُس في السماءِ الثالِثة تركَ سَمَةً دائِمًة على حياتهِ. ومنذُ ذلكَ
الحين، أصبَحَ بُولُس وكأنَّ إحدَى قدميهِ في السماء والأُخرى على الأرض. لهذا نراهُ
يتكلَّمُ غالِباً عن شوقِهِ لمُغادَرَةِ الأرضِ ليكُونَ معَ المسيح، حاسِباً
حياتَهُ على الأرض أقَلّ قيمَةً من مجدِ حُضُورِهِ معَ المسيح في السماء (فيلبِّي
1: 21- 24).

 

لقد
أثَّرَ هذا الإختِبارُ على نظرَةِ بُولُس للحياة، التي شارَكها معَ الآخرين. عندما
كتب للأفسُسِيِّين، من الواضِح أنَّهُ أرادَهُم أن يُبقُوا السماءَ في مُقدِّمَةِ
أذهانِهم، فكتبَ يقُول، "مُبارَكٌ اللهُ أبُو رَبِّنا يسُوع المسيح الذي
بارَكَنا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ في السماوِيَّات في المسيح." (أفسُس 1:
3) وكتبَ أيضاً للكُورنثُوسيِّين "إن كانَ لنا في هذه الحياةِ فقط رجاءٌ في
المسيح، فإنَّنا أشقَى جميعِ النَّاس." (1كُورنثُوس 15: 19)

 

وُجهَة
نَظَر مُتَواضِعة

في
الإصحاحِ الثانِي عشر من هذه الرسالة، أعطانا بُولُس نافِذَةً أُخرى على سيرَةِ
حياتِه. أخبَرَ الكُورنثِيِّين أنَّهُ "أُعطِيَ شَوكَةً في الجَسد" التي
كانت "ملاك الشيطان ليلطِمَنِي لِئلا أرتَفِع." (2كُورنثُوس 12: 7).
يختَلِفُ مُفسِّرُو الكتابِ المقدَّس حوَل ماهِيَّة هذه الشوكة في الجسد. كتبَ
يقُولُ للغَلاطِيِّينَ أنَّ عينيهِ كانتا بَشِعَتَينِ لدرجَةِ أنَّ نظَرَ عينيهِ
جعلَ الغلاطِيِّين يشعُرُونَ بالإشمئزاز، وأنَّهُم لو إستطاعُوا لأعطَوهُ عيُونَهم
(غلا 4: 15).

 

يتكلَّمُ
بُولُس في رسالتَيهِ للكُورنثِيِّين عن تعبِهِ المُزمِن. يُخبِرُهم أنَّهُم
إعتَبَرُوا حُضُورَهُ في الجسد ضعيفاً، وذكَّرَهُم أنَّهُ كانَ بينَهُم في ضَعفٍ
شديد (2كُورنثُوس 10: 10؛ 1كُورنثُوس 2: 3). وبما أنَّهُ كتبَ نِصفَ العهدِ الجديد
تقريباً، وأنَّهُ أسَّسَ كنائِس في كُلِّ العالَمِ المعرُوف في زمانِهِ تقريباً،
وكانت له عدَّةُ إختِباراتٍ معَ المسيح المُقام، يُخبِرُنا أنَّ اللهَ ظنَّ أنَّهُ
قد يكُونُ مُتَكَبِّراً. وبِحَسَبِ بُولُس، سَمَحَ اللهُ لشوكتِهِ في الجسد أن
تُبقِيَهُ مُتواضِعاً.

 

هَل
أعطاكَ اللهُ شَوكَةً في الجَسَد؟ وهل تُواجِهُ محدُودِيَّاتٍ تجعَلُكَ تُفكِّرُ
أنَّ اللهَ لا يُمكِنهُ أن يستخدِمَكَ؟ إجعَل من إختِبارِ بُولُس تشجيعاً لكَ.
فاللهُ يُحِبُّ أن يستخدِمَ ضعفاتِنا، كواجِهَةِ عرضٍ يستعرِضُ فيها قُوَّتَهُ.
إنَّهُ يُحِبُّ أن يستخدِمَ عجزَنا كواجِهَةٍ عَرضٍ يَعرِضُ فيها قُدرَتَهُ.
فاللهُ يُحِبُّ أن يُبرهِنَ أهلِيَّتَهُ في واجِهَةِ عدم أهلِيَّتِنا. لهذا
يستَخدِمُ اللهُ محدُودِيَّاتِكَ ليُظهِرَ لكَ وللآخرينَ أنَّ القَضِيَّة ليست من
أو ما نحنُ، بل المُهِم هُوَ من وما هُوَ. إنَّ خدمَةَ الله ليست ما نستطيعُ نحنُ
أن نعمَلَهُ، بَل ما يستَطيعُ هُوَ أن يعمَلَهُ. أشكُرُهُ على كونِهِ قَويَّاً
رُغمَ ضعفِكَ. وإسمَحْ لهُ أن يُظهِرَ في حياتِكَ هذه القُوَّة التي لم تختَبِرها
قبلاً.

 

الفَصلُ
الثاني عشَر نِعمَةُ العطاء

هُناكَ
تعليمٌ آخر لبُولُس في هذه الرسالة الثانِيَة إلى أهلِ كُورنثُوس، والذي ينبَغي أن
نُركِّزَ عليهِ بينما نختِمُ دراستنا لهذه الرسالة العميقة. قبلَ أن يتجدَّدَ
بُولُس ويقبَلَ الإيمان المسيحيّ، كانَ فرِّيسيَّاً غيُوراً مُكَرَّساً للمُحافَظة
على الإيمان اليَهُودِيّ المُستَقيم. بما أنَّهُ كانَ يرفُضُ المسيح وكانَ يرى في
أتباعِ المسيح مصدَرَ تهديد للإيمانِ اليَهُودِيّ، فأضطهَدَ بِقَسوَة جميعَ اليهود
الذي أصبحَوا تلاميذَ ليسُوع المسيح. وبعدَ توبَتِهِ وإيمانِهِ بالمسيح، سبَّبتُ لهُ
ذاكِرتُهُ للعديدِ من المُؤمنين أمثال إستفانُوس، الذي ساقَهم إلى السجنِ والموت،
سبَّبَت لهُ الكثيرَ من الشعُورِ بالذنب. إنَّ تلاميذَ يسُوع اليَهُود أنفُسَهم،
في أُورشَليم واليَهُودِيَّة، كانُوا يُعانُونَ من الإضطِّهادِ والجُوعِ
الشدِيدَين. وكما تعلَّمنا من الإصحاحِ الأخير من رسالتِهِ الأُولى إلى أهلِ
كُورنثُوس، إمتَلأَ بُولُس بالعطفِ على هُؤلاء اليهود الذين آمنُوا بالمسيح، وكانَ
يجمَعُ لهُم تقدِماتِ ومُساعداتِ محبَّةٍ من كنائِسهِ الأُمَمِيَّة لمُساعدَةِ
المُؤمنينَ من أصلٍ يهُودِي. إن مُجرَّدَ قِيامِ هذا المُضطَّهِد السابِق لليهودِ
الذي آمنُوا بالمسيح، إنَّ مُجرَّدَ قيامِهِ بجمِع التبرُّعاتٍ بعطفٍ لمُساعدَةِ
هؤلاء المُؤمنينَ من أصلٍ يهُودِيّ، هُوَ شهادَةٌ على مُعجزَةِ نعمَةِ اللهِ في
تغييرِ القُلُوب.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أرسترخس 1

 

كتبَ
بُولُس للكُورنثُوسيِّين عن تقدِمَةِ المحبَّةِ هذه في 2كُورنثُوس 8- 9، طالِباً
منهُم أن يُساهِمُوا في هذه التقدمة، إنطِلاقاً من محبَّةٍ قَلبِيَّة لإخوتِهِم
المُضطَّهَدِين. وأخبَرَهم عن مُمارَسَةِ الفِيلبِّيِّين للعطاء، من حيثُ كانَ
يكتُبُ هذه الرسالة للكُورنثِيِّين، لأنَّهم كانُوا مِثالاً رائعاً عن الكرمِ والأمانَةِ
في الوكالة. إنَّ رحلات بُولُس الإرسالِيَّة كانت مدعُومَةً من المُؤمنينَ في
فِيلبِّي، الذين كانُوا ناضِجينَ بشكلٍ كافٍ، جعلَ بُولُس يعرِفُ أنَّهُم يُعطُونَ
بدوافعَ مُستَقيمة، وأنَّهُم كانُوا يفهَمُونَ ماذا تعني الأمانَةُ في الوَكالة.
لقد أعطى الفِيلبِّيُّونَ أيضاً مالاً لدعمِ آلامِ القِدِّيسين في أُورشليم، كما
كتبَ بُولُس في هذه الرسالة للكُورنثِيِّين:

 

"ثُمَّ
نُعرِّفُكُم أيُّها الإخوة نِعمَةَ الله المُعطاة في كَنائس مكدُونِيَّة. أنَّهُ
في إختِبارِ ضيقةٍ شديدة فاضَ وُفُورُ فَرَحِهم وفقرِهم العميق لِغِنَى سخائِهم.
لأنَّهُم أعطَوا حسبَ الطاقَة أنا أشهَدُ وفوقَ الطاقَة من تِلقاءِ أنفُسِهم.
مُلتَمِسينَ منَّا بِطِلبَةٍ كَثيرَة أن نقبَلَ النِّعمة وشَرِكة الخدمة التي
للقِدِّيسين. وليسَ كما رَجونا بل أعطَوا أنفُسَهم أوَّلاً للرَّبِّ ولنا
بِمَشيئَةِ الله. حتَّى إنَّنا طَلَبنا من تِيطُس أنَّهُ كما سبقَ فابتدَأَ كذلكَ
يُتَمِّمُ لكُم هذه النِّعمَة أيضاً.

 

"لكن
كما تزدادُونَ في كُلِّ شَيءٍ في الإيمانِ والكَلامِ والعِلم وكُلِّ إجتِهادٍ
ومحبَّتكم لنا ليتَكُم تزدادُونَ في هذه النِّعمَة أيضاً." (2كُورنثُوس 8: 1-
7)

 

لقد
أبرَز بُولُس أمانَةَ الفِيلبِّيِّين في الوكالَة كنمُوذَجٍ للكُورنثِيِّين. كانَ
الفِيلبِّيُّونَ الكنيسةَ المُفضَّلَةَ عند بُولُس، وكانت كنيسةُ كُورنثُوس
الكنيسة الأصعَب لديه. وإذ يُبرِزُ بُولُس وكالَةَ الفِيلبِّيين الأمينة أمامَ
الكُورنثُوسيِّين، يُعطينا تُحفَةً فنِّيَّةً لاهُوتِيَّة حولَ موضُوع الوكالَة
الأمينة. هُنا نَجِدُ تلخيصاً مُوجَزاً عن نماذِجِ وكالَةِ كنيسةِ فيلبِّي، التي
جعلَ منها بُولُس نمُوذَجاً لوكالَةِ العَطاء الأمينة في رسالتِهِ الثانِيَة إلى
أهلِ كُورنثُوس.

 

نَوعِيَّةُ
وَكالَةِ العطاء الأمِينة

قالَ
بُولُس أنَّ الفيلبِّيِّين "أعطُوا أنفُسَهُم أوَّلاً للرَّبِّ ولنا بمشيئَةِ
الله." (2كُورنثُوس 8: 5) فبُولُس لم يكُن يقبَل أيَّةَ تقدِمَةٍ من أيٍّ كان
إلا إذا إنطَبقَ عليهم هذا الشرط. كانَ عليهم أن يُعطُوا أنفُسَهُم أوَّلاً لله،
قبلَ أن يُعطُوا أيَّ جزءٍ من أنفُسِم للبَشَر. لقد أعطى الفِيلبِّيُّونَ أنفُسَهم
لبُولُس، فقط بعدَ أن أكَّدَ اللهُ أنَّهُم سيستطيعُونَ ذلكَ بمشيئتِه.

 

وفوقَ
ذلكَ، لقد أعطى الفِيلبِّيُّونَ من إرادتِهم، مُدافِعينَ عن إمتِيازِ شراكَتِهم في
هذه الخدمة معَ تلاميذ يسُوع المُتألِّمينَ من أصلٍ يهُودِيّ. هذا وجهٌ آخر
مُهِمٌّ من نوعِيَّةِ عطائِنا. فبُولُس لم يكُن ليُلزِمَ أو يُحرِّضَ أحداً على
المُشارَكة في هذه التقدِمة، لأنَّهُ أرادَ أن يُعطِيَ المُؤمنونَ من تِلقاءِ
أنفُسِهم. وهكذا كتبَ يقُولُ في الإصحاحِ التالي: "كُلُّ واحِدٍ كما ينوِي
بقَلبِهِ ليسَ عن حُزنٍ أوِ اضطرار. لأنَّ المُعطِي المَسرُور يُحِبُّهُ
الله." (2كُو 9: 7)

 

الأهليَّة
الواجِبة لوكالة العطاء الأمينة

قالَ
بُولُس أنَّ الفِيلبِّيَّنَ أعطُوا بسخاء، "حسبَ الطاقَة، وفوقَ
الطاقَة." (8: 3) نعرِفُ أنَّهُم لم يكُونُوا أغنِياء، لأنَّ بُولُس كتبَ
أيضاً يتكلَّمُ عن "فقرهِم العَميق." (2) عندما يُعطي أحدُهُم بِسخاء،
عادَةً نفتَرِضُ أنَّهُ غَنِيٌّ جداً. يبدُو أنَّهُ من الأسهِلِ للشخصِ الغَنِي أن
يُعطِيَ من فضلتِهِ. ولكن لم تكُنْ هذه حالَةُ الفِيلبِّيِّين. كانُوا يُعطُونَ في
وقتِ فقرٍ مُدقِع وضيقاتٍ شديدة – وكانُوا يُعطُونَ فوقَ طاقتِهم.

 

كيفَ
يُمكِنُ للمُؤمِن أن يُعطي فوقَ طاقتِهِ للعَطاء؟ بسماحِهِ لنعمَةِ اللهِ أن
تُضيفَ على تقدِمَتِهِ. فعندما نُقرِّرُ كم نستطيعُ أن نُعطِيَ لِعَمَلِ الرَّبّ،
ولكن نسأل الله أن يُضيفَ نِعمَتَهُ على تقدِمتِنا، سيكُونُ بإمكانِنا أن نرى
اللهَ يعمَلُ من خِلالِ إيمانِنا. فهُوَ قادِرٌ بنعمتِهِ، أن يُضاعِفَ ما
نُقدِّمُهُ بالإيمان.

 

لقد
قدَّمَ الفيلبِّيُّونَ من فقرِهم تقدِمَةً صغيرَةً لله، وشاهَدوا هذه العَطيَّة
تنمُو، بينما كانت نعمَةُ اللهِ تُحوِّلُ عطيَّتَهُم إلى ما يفُوقُ قُدرتَهُم على
العَطاء. هذا ما قصدَهُ بُولُس عندما قالَ، "ثُمَّ نُعرِّفُكُم أيُّها الإخوة
نعمَ الله المُعطاة في كنائِس مكدُونِيَّة." (2كُور 8: 1) الكَلمة
اليُونانِيَّة المُستَخدَمة هُنا للنَّعمَة هي "خارِيس، أو كاريزما"، التي
تعني قُوَّة وبَرَكَة الله علىحياةِ الإنسان. إنَّها نِعمَةُ الله التي تُمكِّنُنا
من العطاءِ فوقَ الطاقَةِ البَشَريَّة. هذا هُوَ المقصود بنعمَةِ العطاءِ هذه.

 

مُساواةُ
وكالة العطاء بأمانَة

عِندَما
دعا بُولُس الكُورنثُوسيِّينَ ليُساهِمُوا في تقدِمَةِ المحبَّة التي كانَ يجمَعُها
للمُؤمنينَ المُتألِّمينَ في أُورشَليم واليَهُوديَّة، كتبَ يقُول: "فإنَّهُ
ليسَ لكَي يكُونَ للآخرينَ راحَةٌ ولكُم ضِيقٌ. بَلْ بِحَسَبِ المُساواة. لِكَي
تكُونَ في هذا الوقت فُضَالتُكُم لإعوازِهم كي تصيرَ فُضالتُهم لإعوازِكُم حتَّى
تحصُلَ المُساواة. كما هُوَ مكتُوبٌ الذي جمَعَ كثيراً لم يُفْضِلْ والذي جمعَ
قليلاً لم يُنقِصْ." (2كُورنثُوس 8: 13- 15).

 

فالعَطاءُ
يَنبَغي أن يكُونَ بالنِّسبَةِ إلى ما يملِكُهُ المُؤمن، وليسَ بالنسبَةِ إلى ما
لا يملكهُ. فاللهُ يستطيعُ أن يستخدِمَ عطيَّةً مُباشَرَةً بالنسبَةِ إلى التضحِيَّة
اللازِمة لتقديمِ هذه العطيَّة. فعندما نُعطي ما لدينا بإيمانٍ، حتَّى ولو كانَ
هذا صَعباً، وإن لم يكُنْ لدينا الكثيرُ لِنُعطِيَهُ، فاللهُ قادِرٌ أن يُضاعِفَهُ
بطريقَةٍ عَجِيبَة ليتساوى معَ عَطِيَّةٍ ضخمَةٍ يُقدِّمُها شخصٌ غَنِيٍّ
إنطِلاقاً من تضحِيَةٍ قليلة. إنَّ ثمرَ العَطِيَّة لا يتعلَّقُ بمقدارِ العطيَّة
بل بمقدارِ التضحية والإيمان اللازِمَينِ لتقديهما.

 

هذا
ما قصدَهُ يسُوعُ عندما قالَ أنَّ الأرمَلَةَ الفقيرَةَ التي أعطَت عطيَّةً
صغيرَةً جداً، بالواقِع أعطَت أكثَرَ من كُلِّ أولئكَ الذين كانُوا قادِرينَ أن
يُعطُوا بِسخاء، لأنَّها أعطَت من إعوازِها، وممَّا كانت بأمسِّ الحاجَةِ إليهِ
للبَقاءِ على قيدِ الحياة. (لُوقا 21: 1-49)

 

ماذا
عنكَ؟ هل تُدرِكُ أنَّ كُلَّ ما لكَ هُوَ للهِ، وأنَّهُ يُطالِبُكَ أن تكُونَ
وكيلاً أميناً عليهِ؟ وهل تُعطي بسُرُورٍ لعملِ الله؟ وهل تُعطي بتَضحِيَة؟ كُنْ
أميناً في ما لكَ، واللهُ سيتستخدِمُ عطاءَكَ لبركةِ ملكوتِ الله – هذا هُوَ
وعدُهُ.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي