تَفْسِير
رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ

رسالة
من السجن

بسام
مدني

خدمة
ساعة الإصلاح

 

 

المقدمة

ظهرت
منذ أوائل القرن العشرين عدة نظريات حياتية تدّعي بأنها اكتشفت الحلول النهائية
للمشكلات التي تقضّ مضجع البشرية منذ فجر التاريخ. ومجمل هذه النظريات كانت مبنية
على فلسفة مادية منكرة لله ولعالم ما فوق الطبيعة.

 

يمكننا
القول, وقد وصلنا إلى السنوات الأخيرة من هذا القرن, بأن جميع هذه الإيديولوجيات
الإلحادية قد فشلت بعد أن كانت قد بهرت أنظار الملايين من الناس والتي كانت قد
وعدتهم بالمجيء بفردوس أرضي مجيد. لا نجاح ولا فلاح في دنيانا هذه إلاّ بالعودة
إلى الله خالقنا والمعتني بنا والذي صار مخلّصنا في المسيح يسوع.

 

وإذ
نقدّم إلى القرّاء هذه المواضيع الحيوية المبنية على رسالة بولس الرسول إلى أهل
الإيمان في أفسس, ارتأينا بأن نصدر هذا الكتاب تحت عنوان: رسالة من السجن لأن بولس
أملى رسالته في سجن روماني كان قد زجّ فيه نظراً لأمانته لربّه وفاديه يسوع المسيح
ولمناداته بخير الإنجيل المفرح.

 

ومن
الجدير بالذكر أن هذه الرسالة كبقية رسائل العهد الجديد تبدأ بالقسم العقائدي الذي
يعلّمنا بأن الله هو الذي يأخذ بيد المبادرة ويأتي إلى مساعدة الإنسان الساقط في
حمأة الخطية والشرّ. فحتى قبل الخليقة كان الله قد أعدّ برنامجه الخلاصي العظيم
الذي تحقق بقدوم المسيح إلى العالم وولادته من العذراء مريم وموته على الصليب
وقيامته من بين الأموات. والإيمان بالمسيح كمخلّص وربّ ليس أقل من اختبار قيامة
روحية جبّارة تؤثر على سائر نواحي الحياة. وبعد تفسير الرسول لفحوى الإيمان
المسيحي انتقل إلى الكلام عن أهمية تطبيق هذا المعتقد في الحياة الفردية
والاجتماعية. وأنهى بولس رسالته بالكلام عن وجوب التسلّح بجميع الأسلحة الروحية
التي يمدّنا بها الله للانتصار على الشيطان, عدوّنا اللدود.

 

وإذ
نرسل هذا الكتاب إلى قرائنا الأعزاء نرفع دعاءنا إلى الله لكي يبارككم ويساعدكم
على النمو في الإيمان لمجد اسمه القدوس ولخير جميع أقراننا بني البشر.

 

 القس
بسام مدني

 27
تموز /يوليو/ 1993

 

ليجمع
كل شيء في المسيح

 يمتاز
عقد التسعينات عن العقود الماضية بأنه حصلت فيه تغيرات كبيرة في عدة أنحاء من
العالم. ولن أبحث في تفاصيل هذه الأمور بل أركّز على أمر واحد وهو أن الإنسان
المعاصر صار يقرّ بأنه لم يعد قادراً على العيش على أسس فلسفية ماديّة بحتة.
وبعبارة أخرى: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان وحياته لا تنمو ولا تترعرع بدون منظور
حياتي يعلو فوق الحياة الحاضرة.

 

 إن
سلّمنا بحاجة الإنسان القصوى إلى أكثر من نظرة حياتية محصورة بالحياة الدنيا لا
بدّ لنا من القول: على أي أساس نبني حياتنا؟

 

 لا
يكفينا الإشارة إلى مساوئ الماضي بل علينا أن نأتي بمنظور حياتي متين ومختلف
جذرياً عن النظريات التي باءت بالفشل الذريع. وما أن نصف مشكلتنا الحياتية بهذه
الطريقة حتى تظهر أمامنا نظريات متضاربة. يقول البعض بأن أساس الحياة البشرية
الناجحة هو الحرية بشتّى أبعادها. نعم ما أحلى الحرية وما أبغض الاستبداد والتسلّط
على الناس والهيمنة عليهم. لكن الحرية بحد ذاتها لا تكفي إذ كثيراً ما تحولت,
وخاصة في أيامنا هذه, إلى أنانية وإباحيّة وفوضوية أخلاقية واجتماعية. لا بد
للحرية من إطار روحي وأخلاقي يرسم لها حدودها ويشير إلى أفق حياتية تعلو وتتسامى
فوق ديانتا هذه. وبعبارة أخرى, نحتاج إلى منظور سماوي المصدر. وهذا بالفعل ما
وهبنا إياه الله في وحيه المقدّس والذي ننادي به من يوم إلى آخر.

 

 نجد
تعاليم بخصوص هذا الموضوع الهام في إحدى رسائل بولس الرسول التي كتبها من سجن
روماني والتي أرسلها إلى مدينة أفسس. وقد اشتهرت هذه المدينة في أيام ما قبل
الميلاد كمركز تجاري وديني هام. وكانت تحت سيطرة الرومان في أيام السيد المسيح
فجعلوا منها عاصمة لما كان يعرف آنئذ بإقليم آسيا الصغرى أي بلاد تركيا الحالية.
كان بولس قد جاء إلى أفسس منادياً بكلمة الإنجيل فآمن العديدون من أهلها بالمسيح
وانضموا إلى جماعة الإيمان. فتعرّض الرسول وغيره من المؤمنين الاضطهادات شديدة لأن
الإيمان بالمسيح يسوع كان يعدّ هجوماً مباشراً على الديانة الوثنية المتمركزة في
هيكل أفسس الشهير والذي كان قد شيد لعبادة أرطاميس المعروفة لدى الرومان باسم
ديانا.

 

 أرسل
بولس رسالته إلى جماعة الإيمان في أفسس لتثبيتهم في الإيمان ولتشجيعهم على المضي
في شهادتهم المسيحية وسط محيط وثني متفسّخ. وأفهمهم أن اعتناقهم لطريق المسيح كان
ضمن برنامج الله الخلاصي الذي أعدّ قبل إنشاء العالم. فانتشالهم من وهدة الصنمية
كان جزءاً من برنامج إنقاذي جبّار. ترنّم الرسول بولس في هذا الموضوع قائلاً في
فاتحة الرسالة:

 

 مبارك
الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا في المسيح بكل بركة روحية في علياء
السماوات, إذ قد اختارنا فيه قبل إنشاء العالم لنكون قدّيسين وبدون لوم أمامه.

 

 بارك
الرسول الله الآب الذي أغدق على المؤمنين والمؤمنات البركات العديدة في المسيح أي
نظراً لما قام به المسيح كبديل عنهم في آلامه وموته الكفاري وقيامته من بين
الأموات. جميع البركات الروحية والزمنية التي تنهمر على المؤمنين والمؤمنات تعود
إلى المسيح فاديهم. ولم يكتفِ بولس بالكلام عن اختبارات أهل الإيمان بل تكلّم عن
عقيدة هامة للغاية عندما ذكر بأن الله قد اختار أي اصطفى المؤمنين قبل إنشاء
العالم! يا لها من كلمات عذبة ومنعشة. فمع أن كل من يضع ثقته في المسيح يقوم بذلك
بحالة شعورية تامة إلاّ أن هذا لا يتم بمعزل عن الوجه الآخر للحقيقة أي اختبار
الله للمؤمنين. ولئلا يظن البعض أن هذا التعليم يؤول بالناس إلى إهمال الأخلاقيات
المسيحية ذكر الرسول أن مشيئة الله في اختيار المؤمنين بالمسيح هي أن يكونوا
قديسين وبدون لوم أمامه. ومعنى القداسة هو الانفصال عن الشر والمعصية والتكريس
لخدمة المسيح ولخير ومنفعة بني البشر.

 

 وتابع
الرسول كلامه عن موقف الله من المؤمنين والمؤمنات قائلاً:

 وسبق
فعيّننا في المحبة ليتبنّانا لنفسه بيسوع المسيح, حسب رضى مشيئته, لحمد نعمته
بالمجد, التي أنعم بها علينا في المحبوب, الذي فيه لنا الفداء بدمه, مغفرة الذنوب,
وذلك حسب غنى نعمته, التي أسبغها علينا بكل حكمة وفطنة, إذ عرّفنا سرّ مشيئته,
وتلك مرضاته التي قصدها فيه, تدبيراً منه في ملء الأزمنة, ليجمع كل شيء في المسيح,
ما في السماوات وما على الأرض.

 

 أتى
بولس الرسول أولاً على ذكر اختيار أو اصطفاء المؤمنين والمؤمنات من قبل الله في
المسيح وقبل إنشاء العالم. وشدّد على هذا الموضوع إذ ذكر أن الله سبق فعيّنهم في
المحبة للتبني لنفسه بيسوع المسيح. وهذا يدل على أنه ليس هناك من عبثية في موضوع
الإيمان بالمسيح والانتماء إلى جماعة الإيمان. يتم كل شيء بمقتضى برنامج الله
الأزلي. وليس هناك من مبرّر في الإنسان للحصول على هذه النعم والبركات الروحية بل
يعود الفضل بصورة مطلقة للمسيح يسوع الذي كسب لسائر المؤمنين به خلاصاً عظيماً
وفداء جباراً بدمه. وهذا يدل بصورة قاطعة على أن الرسول بولس كان ينظر إلى صليب
المسيح كحدث مركزي في سيرة المسيح ورسالته السماوية التي اؤتمن عليها من قبل الله الآب.

 

 ولئلا
يظن أهل أفسس من جماعة الإيمان بأن الله ينقذ القلائل وكمجرد أفراد منعزلين عن
بعضهم البعض أفهمهم بصورة واضحة أن لله تدبيراً ظهر بكامله في أيام المسيح. ويدعو
الرسول أيام المسيح بملء الأزمنة أي أن السيد له المجد جاء في الوقت المناسب
والمعيّن من قبل الله لتتميم برنامجه الخلاصي. كل شيء حدث وتم لإظهار كون مشيئة
الله بأن يجمع كل شيء بالمسيح. وتعني هذه العبارة الرسولية بأن الله قرر حتى قبل
إنشاء العالم وبعلمه السابق عن خليقة الإنسان ومعصيته وسقوطه في الخطية, كان الله
قد قررّ بأن يكون طريق إنقاذ البشرية بواسطة المسيح وعمله الفدائي على الصليب.

 

 تعلّمنا
كلمات الرسول هذه بأن التاريخ البشري المليء بالفواجع ذات الأبعاد الهائلة, هذا
التاريخ لا يفسّر حسب منظور بشري محض, بل له بعد سماوي مصدره الله. وكل محاولة
بشرية مهما ظهرت برّاقة وجذّابة ومنطقية, كل خطة بشرية منكرة لله ولتدبيره العجيب
للخلاص, لا بد لها من أن تبوء بالفشل الذريع. وهذا بالفعل ما اختبره القرن العشرون
الذي اشتهر أكثر من أي قرن مضى بظهور نظريات وايديولوجيات ادعت بأنها كانت ستجلب
للبشرية المعذبة الخلاص والانعتاق. ولكنها وبعد اختبارات قاسية ومريرة ظهرت خاوية
من أي مقدرة على إنقاذ الإنسان وإعطائه الفردوس الأرضي الموعود. لا يكمن خلاص
البشرية في يد الإنسان بل يوجد الخلاص في يد الله.

 

 وإذ
نتفوه بهكذا كلمات لا نكون مبتدعين لآراء جديدة بل إنما نشهد عن برنامج إلهي وضع
في أزمنة ما قبل التاريخ البشري وكشف عنه بصورة واضحة وجليّة في أيام المسيح أي
منذ نحو ألفي سنة. ننادي بما قام به الله لصالح البشرية لا بما اخترعه عقولنا من
أفكار وآراء واهية!

 

 وتابع
الرسول حمده وتسبيحه لاسم الله القدوس قائلاً: وفيه أيضاً أي في المسيح يسوع
المخلّص, تمّ اختيارنا من قبل بمقتضى قصد الذي يعمل كل شيء حسب مشورة مشيئته,
لنكون لحمد مجده, نحن الذين قد سبقنا ووضعنا رجاءنا في المسيح. وفيه أنتم أيضاً,
إذ قد سمعتم كلمة الحق, انجيل خلاصكم, وبعدما آمنتم به, ختمتم بروح الموعد القدوس,
الذي هو عربون ميراثنا, لفداء مقتناه, لحمد مجده.

 

 عاد
الرسول بولس في نشيده هذا الكلام عن اختيار المؤمنين والمؤمنات من قبل الله, ذاك
الاختيار الذي تمّ بمقتضى قصد الله الخلاصي. وقد تمّ هذا الاختيار لا لمجدنا نحن
البشر, بل لنكون لحمد مجده. ذكر الرسول في أكثر من مناسبة موضوع اختيار الله
للمؤمنين ولكنه لم يهمل بأن يذكر مسئولية المؤمنين والتي تظهر في إيمانهم بالمسيح.
وهذا يعني أن الرسول لم ينادِ بعقيدة قلبها وقالبها الحتمية أو الميكانيكية
العمياء, بل شدّد بكل وضوح على أهمية اتخاذ الإنسان في شتى عصور التاريخ موقفاً
إيجابياً وإيمانياً من المسيح يسوع. فمن سمع المناداة بالمسيح يسوع كالمخلّص
الموفد من الله لإنقاذ البشرية صار من واجبه أن يعيّن موقفه من هذه الأخبار السارة
وألا يكتفي بمجرّد سماعها أو الوقوف على محتوياتها بشكل لا شخصي!

 

 واختتم
بولس الرسول كلامه ذاكراً الدور الحيويّ والفعال الذي يقوم به الروح القدس. فما أن
يؤمن الإنسان بالمسيح يسوع حتى يختم بروح الله القدوس كعربون للميراث الضخم الذي
يرثه المؤمنون والمؤمنات في اليوم الأخير, يوم عودة المسيح إلى العالم وظهور ملء
ملكوت الله. وإذ ذاك لا يهاب المؤمنون أخطار الحياة, بشرية كانت أم شيطانية لأنهم
إذ ختموا من قبل روح الله القدوس يعلمون علم الأكيد أن مصيرهم الأبدي هو في يد
الله القدير الذي أحبهم منذ الأزل إذ اختارهم في المسيح يسوع, لينالوا الخلاص.

 

سيادة
المسيح

 عصرنا
هذا هو عصر القوة. ونحن نختبر ذلك في مختلف نواحي حياتنا. ففي حقل المواصلات,
نحتاج إلى محركات قوية لتسيير السيارات والشاحنات والباصات والطائرات. وعلى
الغالب, نلجأ للحصول على القوة الدافعة للمحركات إلى الطاقة المستخرجة من
المنتوجات البترولية. ومنذ منتصف القرن العشرين, أصبح بمقدور الإنسان أن يسخّر
الطاقة النووية للأغراض الحربية والسلمية. وما أشد وأكبر القوة المنبعثة من انقسام
الذرّة! ولا بد لنا أيضاً من ذكر القوى الهائلة المندفعة من الصواريخ التي تقذف
بمركبات الفضاء مطلقة إياها إلى الفضاء الخارجي لتسبح فيه متغلّبة على جاذبية
الأرض.

 

 عصرنا
هذا هو عصر القوّة والطاقة. لكنه يجدر بنا ونحن نتأمل في اكتشافات واختراعات
الإنسان المعاصر بألا نسمح لها بأن تخلب أنظارنا إلى هكذا درجة حتى ننسى بأننا
نعيش في عالم خاضع لله القدير. وليس هذا الخطر بموضوع نظري بحت, إذ أن حضارة القرن
العشرين أضحت ذات طابع مادّي والحاديّ وصار العديدون من معاصرينا يخالون أنهم
قادرون بأن يعيشوا في عالم تسيطر عليه القوى المستنبطة من قبل الإنسان ولم يبق فيه
مجال للإيمان بالله الخالق والمعتني بكل ما في الوجود. لكنه يجدر بنا ونحن نستفيد
من تطبيق مختلف الاختراعات الحديثة بأن نتذكر أنها أتت إلى حيّز الوجود حسب مشيئة
الله. إن نسينا الباري واعتنقنا النظريات المنكرة له تكون نهايتنا الدمار.

 

 وقد
ابتدأنا في فصلنا السابق بدراسة رسالة بولس الرسول إلى جماعة الإيمان في مدينة
أفسس ولاحظنا كيف أنه تغنّى بمحبة الله للمؤمنين مفهماً إياهم بأن إيمانهم بالمسيح
واختبارهم لعمله الفدائي ضمن قلوبهم تمّ نظراً لاختيار الله لهم قبل إنشاء العالم.
وكانت غاية الله بأن يجمع كل شيء في المسيح أي أن يجعل سيادة المسيح يسوع شاملة
لكل ما في الوجود.

 

 وبعد
أن أفهم الرسول أهل الإيمان في أفسس بأنهم لدى إيمانهم بالمسيح المخلّص ختموا بروح
الموعد القدوس, ذكر أيضاً اهتمامه الدائم بهم وبحياتهم الروحية قائلاً:

 

 لذلك
أنا أيضاً, إذ قد سمعت بإيمانكم بالرب يسوع وبمحبتكم لجميع القديسين, لا أنقطع عن
الشكر لأجلكم وعن ذكركم في صلواتي, لكي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد,
روح الحكمة والوحي في معرفته, لتستنير عيون قلوبكم فتعلموا ما هو رجاء دعوته, وما
هو غنى مجد ميراثه في القّيسين, وما هي عظمة قدرته الفائقة لنا نحن المؤمنين بحسب
عمل قدرة قوته, الذي أتمّه في المسيح إذ أقامه من بين الأموات وأجلسه عن يمينه في
علياء السماويات, فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمّى, ليس في هذا
الدهر فقط بل في الآتي أيضاً. ولقد أخضع كل شيء تحت قدميه وجعله رأساً فوق كل شيء
للكنيسة, التي هي جسده وملء الذي يملأ الكل في الكل.

 

 أفهم
الرسول جماعة الإيمان في أفسس أن الله كان قد اصطفاهم في المسيح يسوع قبل إنشاء
العالم وأنه تعالى منحهم هبة التبني ومغفرة ذنوبهم وآثامهم. ولم تكن غاية الرسول بأن
يعيش المؤمنون والمؤمنات حياة الكسل والخمول والإهمال بل ذكّرهم بأن مسيرتهم
الإيمانية تتطلب منهم أن يجنّدوا جميع قواهم للنمو في حياتهم الجديدة. سرّ بولس
لدى سماعه بإيمانهم بالمسيح يسوع وهم يعيشون في وسط وثني متعبّد للآلهة الوهمية
والكاذبة. وازداد فرحه لأن إيمانهم لم يكن إيماناً عقلياً محضاً بل ظهر في حياة
طافحة بالمحبة لجميع أخوتهم وأخواتهم في الإيمان. ولم يكتف بولس بذكر ذلك بل استمر
متكلماً عن مسئوليته تجاههم وكيف أنه يذكرهم دائماً في صلواته وأدعيته لكي يهبهم
الله بواسطة الروح القدس بأن تستنير عيون قلوبهم ليقفوا على هذه الحقائق الروحية
الهامة:

 

 1:
رجاء الدعوة الإلهية,

 2:
غنى مجد ميراث المؤمنين والمؤمنات,

 3:
عظمة قدرة قوّة الله العاملة في حياة المؤمنين والمؤمنات.

 

 فعندما
يؤمن الإنسان بيسوع المسيح كمخلّصه وفاديه من الخطية لا ينتشل من هذه الدنيا بما
فيها من متاعب ومشاكل. وإذ يعيش المؤمن ضمن مجتمعه فإنه يضطهد اضطهادات كبيرة, وقد
تخور عزيمته ويتساءل عن جدوى ما قام به عندما وضع ثقته الكلية في المسيح المخلّص.
وهكذا ذكر الرسول بولس أهمية التشبث برجاء الدعوة الإلهية. وكلمة رجاء حسب مفهومها
الكتابي تعني التطلّع إلى المستقبل, إلى يوم عودة المسيح إلى العالم وظهور ملء
ملكوت الله. ففي ذلك اليوم العظيم سيظهر نصيبه الباهر في نعيم الله مع سائر
القديسين. وإلى أن يجيء ذلك اليوم العظيم يتوجّب على أهل الإيمان بأن يتسربلوا
بلباس الرجاء.

 

 ولم
يكتف الرسول بولس بالكلام عن يوم النصر العظيم, يوم عودة المسيح وانتهاء المشاكل
التي كانت تقض مضجع المؤمنين بل تكلم عن الحياة في ملكوت الله كحياة مليئة
بالأمجاد التي يهبها الله لهم. وبعبارة أخرى, لم يصف بولس حياة الملكوت السماوي في
مرحلته الحالية كحياة خالية من المصاعب والآلام والعذابات والاضطهادات, بل ناشد
أهل الإيمان في أفسس ليتأملوا في الأمور الإيجابية الباهرة التي ستكون من نصيبهم
نظراً لما كسبه لهم فاديهم يسوع المسيح. ولا يعدّ هذا الكلام الرسولي كتهرّب من
الواقع الأليم, بل كالشهادة الصادقة عما يكنـزه الله لمصلحتنا في الدهر الآتي.

 

 ومن
البديهي أن نتساءل قائلين: ولكن كيف تتمّ هذه الأمور الباهرة؟ كيف أستطيع أنا
الإنسان الشقيّ المعذّب والضعيف, كيف أقدر بأن أركّز أفكاري على أمور مستقبلية؟
تتطلب مني حياتي الأرضية بأن أجاهد يومياً للحصول على قوتي وكسائي وسائر ضروريات
الحياة. أنا إنسان أعيش في السنين الأخيرة من القرن العشرين وأجد نفسي محاطاً
بحضارة عالمية دهرية ومادية, كيف أعلو فوق أفق هذه الحضارة وأفكر جديّاً بما يخبئه
الله لي من أمور باهرة لدى عودة المسيح إلى العالم؟ يكمن الجواب في أن الله هو
الذي يمنحنا القوة والمقدرة لنتخطى الصعوبات التي تعترض سبيلنا. وإذا ما تساءلنا:
كيف يتم هذا؟ وعلى أي أساس أبني يقيني بأنني لن أكون من الفاشلين في اليوم الأخير؟
يذكّرنا الرسول بأن الله قدير وقد أظهر قوته بكل جلاء ووضوح عندما أقام المسيح من
بين الأموات وأجلسه عن يمينه في علياء السماويات, فوق كل رئاسة وسلطان وقوّة
وسيادة وكل اسم يسمّى ليس في هذا الدهر فقط بل في الآتي أيضاً.

 

 ندعو
هذا التعليم الرسولي بعقيدة سيادة المسيح على الكون بأسره. كل ما في دنيانا خاضع
لسيادة المسيح المخلّص وهو سيد التاريخ. وكم علينا أن نكون شكورين لله لأنه أعطانا
هذا الوحي في كتابه المقدس. فلقد تعرّضنا في هذا القرن لنظريات وأيديولوجيات ألّهت
فيه المادة وجعلت التاريخ وكأنه مسيّر بمقتضى قوى حتمية تقوده نحو الهدف المنشود
ألا وهو النعيم الأرضي الخالي من أي مفهوم ديني أو فوق طبيعيّ. وعندما يعتنق الناس
هكذا آراء فلسفية الحادية يصبحون عبيداً لها ولا يمتنعون آنئذ عن التنكيل بأقرانهم
بني البشر. ومع أننا لا نستطيع أن نفهم جميع التفاصيل التاريخ القديم منه
والمعاصر, بما في ذلك المآسي ذات الأبعاد الهائلة التي حصلت في أيامنا هذه, إلا
أننا نشهد بأن المسيح هو سيد التاريخ وأن المعتدّين على شرائع الله يعاقبون لا
محالة أما في هذا الدهر أو في يوم الحساب.

 

 تابع
بولس الرسول تفسير عقيدة سيادة المسيح على كل شيء قائلاً:

 ولقد
أخضع أي الله الآب,كل شيء تحت قدميه وجعله رأساً فوق كل شيء للكنيسة, التي هي جسده
وملء الذي يملأ الكل في الكل.

 

 هذه
كلمات صريحة غير قابلة للتأويل. أخضع الله كل شيء نعم كل شيء بدون استثناء للمسيح,
وجعله رأساً فوق كل شيء. ماذا تعني عبارة: كل شيء للكنيسة التي هي جسده؟ تظهر
سيادة المسيح في هذه الحقبة من التاريخ ضمن الكنيسة أي ضمن جماعة الإيمان
المتكوّنة من مؤمنين ومؤمنات من سائر الأقاليم والشعوب. كل من آمن بالمسيح كمخلّصه
من الخطية يؤمن في نفس الوقت بسيادة المسيح على حياته وعلى مسيرة التاريخ البشري.
ولا تعني عبارة الكنيسة جسد المسيح بأن الكنيسة بمفردها أو بمعزل عن ربّها
ومخلّصها تكوّن جسداً مستقلاً عاملاً في دنيانا هذه. تكون الكنيسة جسد المسيح عندما
يكون المسيح ويبقى رأسها المدبّر.

 

 وسيادة
المسيح في العالم لا تترجم ولا تختبر وكأنها سيادة سياسية أو عسكرية, بل تنتشر
سيادة المسيح المخلّص بواسطة عمل الروح القدس في قلوب الناس وبواسطة المناداة
بكلمة الله التي هي في لبّها إنجيلاً أي خبراً مفرحاً. هذا هو العمل الرئيسي الذي
أسنده المسيح الظافر للكنيسة. ومتى تكون الكنيسة مطيعة لربها وفاديها تقوم بعملها
تلقائياً وبفرح عظيم. وحيثما ينادي بكلمة الله تنتشر سيادة المسيح في قلوب
المؤمنين به والعاملين بكلمته المحرّرة؟ إن كنت قد آمنت به كمخلّصك من الخطية
فاشكر الله واحمده على هذه النعمة العظيمة التي أسبغها عليك. ولكنك إن لم تكن قد
اتخذت هذه الخطوة الحاسمة أرجوك بألا تؤجل إلى الغد المجهول قرارك الهام. آمن
اليوم بالمسيح الفادي وأنعم بالخلاص في هذا الدهر وفي الدهر الآتي, آمين.

 

بالنعمة
مخلّصون

 لقد
تكاثرت المشاكل التي تحيق بالإنسان المعاصر وتضاربت الوصفات التي تنادي بحلول
جذرية ونافعة.

 

 يقول
البعض أن مشكلة الإنسان الأساسية هي في حقل الاقتصاد. لو أعطي الجميع حقهّم من
القوت والكساء والإسكان, لاصطلحت أحوال الدنيا. ومع أهمية هذه الأمور المعيشية إلا
أن الإنسان لا يحيا على مستوى ماديّ بحت. وقد اختبرنا في بداية التسعينات انكفاء
هكذا تصوّرات غير واقعية للحياة البشرية ومطالبة العديدين من أقراننا بني البشر
بنظم حياتية تعلو على المادية.

 

 ويذهب
آخرون إلى القول بأن مشكلة البشرية تكمن في انعدام الوئام بين الناس وأنه صار
بمقدور العلم أن يساعدنا على تخطّي هذه العقبات فيما إذا ما طبّقناه على حياتنا
الفردية والاجتماعية. وهكذا يميل البعض إلى النظر إلى مشاكل البشرية وكأنها في
صلبها مشاكل نفسية تحل بواسطة السيكولوجيا أي علم النفس. وحضارة العصر ومفرداته
تشير بشكل كبير إلى الدور الهام الذي يلعبه علماء النفس والأطباء النفسانيون في
حياة الملايين من بني البشر. ومع أننا لا ننكر قيمة هذا العلم أو تطبيقه في حقل
الطب إلا أننا لم نلاحظ زوال المشاكل البشرية وخاصة في تلك المجتمعات التي تعرف
كمجتمعات متقدمّة. على العكس لقد تزايدت المشاكل الحياتية في هذه الأجواء إلى درجة
لم تعرف في الأيام السالفة.

 

 ويميل
العديدون في أيامنا إلى الإشارة بأن أكبر المشاكل التي تجابهنا هي في البيئة. فلقد
تلوّثت الطبيعة بأسرها في جميع أنحاء الكرة الأرضية بما في ذلك الهواء والموارد
المائية والتربة. زد على ذلك بلوغ عدد سكان أرضنا في نهاية القرن إلى ستة بلايين
أو ستة مليارات نسمة. أين سنجد الموارد لإطعام وإسكان وتعليم الناس؟

 

 ومع
أهمية المواضيع التي أتينا على ذكرها, إلا أننا , فيما إذا ما بنينا تفكيرنا على
كلمة الله المحرّرة, لا بد لنا من القول أنّ مشكلة المشاكل تكمن في قلب الإنسان.
ولا يعود هذا إلى نقص أو خلل في تكوينه بل لأن الإنسان ثار على الله في فجر
التاريخ فسقط في حمأة الخطية والشر. وهكذا أضحت جميع أقنية الحياة البشرية متأثرة
بحادثة السقوط ونتائجها الوخيمة. هذا هو التعليم الهام الذي نستقيه من الفصل
الثاني من رسالة بولس الرسول إلى جماعة الإيمان في أفسس.

 

 وكنا
قد وقفنا في فصلينا السابقين على أن الله القدير اختار المؤمنين والمؤمنات في
المسيح قبل إنشاء العالم. وهكذا أراد الرسول من أهل الإيمان أن يعلموا أن موضوع
انتقالهم من سلطان إبليس إلى ملكوت الله كان من الله. وبعد أن أفهمهم الرسول بأن
مستقبلهم سيكون باهراً للغاية بعد عودة المسيح إلى الأرض وظهور ملء ومجد ملكوت
الله, انتقل للكلام عن نوعية الخلاص العظيم الذي اختبره المؤمنون:

 

 ولقد
كنتم أنتم أمواتاً بذنوبكم وخطاياكم التي سلكتم فيها قبلاً, مسلك دهر هذا العالم,
بحسب رئيس سلطان الهواء, الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية. ونحن أيضاً
جميعاً قد سلكنا من قبل بينهم في شهوات جسدنا عاملين رغبات الجسد والأفكار, وكنا
بالطبيعة أبناء الغضب كالآخرين أيضاً.

 

 نتعلم
من هذه الكلمات الرسولية بأن حالة الإنسان الروحية والأخلاقية هي مظلمة للغاية
ويمكن تلخيصها بكلمة ولحدة: الموت. هذا التشخيص الواقعي لحالة الإنسان يختلف
جذرياً عن الآراء والنظريات التي يدين بها العديدون من الناس. يذهب البعض إلى
النظر إلى الإنسان وكأنه كائن حيادي قادر من تلقاء ذاته أن يعمل الخير أو الشرّ.
ويظن آخرون أنه مع وجود نـزعة ضمن الإنسان تدفعه للابتعاد عن الطريق المستقيم إلا
أنه بمقدوره التغلّب عليها بقواه الخاصة. كل ما يلزمه هو أن يريد الشيء الصالح
ويصممّ على تنفيذه فتنبع من حياته أعمال الخير والصلاح.

 

 لم
يقبل بولس هكذا تفاسير سطحية لطبيعة المشكلة البشرية بل أفهم الذين آمنوا بالمسيح
واختبروا عمله الخلاصي المنعش في صميم حياتهم, بأنهم كانوا أمواتاً بذنوبهم
وخطاياهم التي كانوا يسلكون فيها. تعني كلمات بولس بأن حالة الناس قبل اهتدائهم
إلى نور المسيح محزنة للغاية ولم تكن مختلفة عن حالة الموت الروحي والأخلاقي.
وظهرت حالتهم الخطيرة في طراز حياتهم المليء بالشرور والآثام. وكانوا يعيشون تحت
سلطة الشيطان الذي دعاه الرسول برئيس سلطان الهواء, الروح الذي يعمل الآن في أبناء
المعصية.

هل تبحث عن  م الخلاص حتمية التجسد الإلهى 37

 

 واستطرد
الرسول قائلاً بأن الجميع من يهود وغير اليهود, كانوا تحت تأثير الخطية والعصيان.

 

 ونحن
أيضاً جميعاً قد سلكنا من قبل بينهم في شهوات جسدنا عاملين رغبات الجسد والأفكار,
وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالآخرين أيضاً.

 

 هذه
الكلمات صريحة للغاية لم يستثن منها حتى نفسه ولو كان منذ صباه إنساناً غيوراً,
متديناً ومتشدداً في ديانته. وكنا بالطبيعة أبناء الغضب, كالآخرين أيضاً. الجميع
إذن هم أموات روحياً والجميع هم أبناء الغضب أي أنه نظراً لسلوكهم المعوج يجلبون
على أنفسهم غضب الله. وكلمة جسد كما ترد في النص الكتابي لا تعني أن الجسد بعكس
الروح هو الذي يخطئ لمجرد كونه جسداً. تعني الكلمة اليونانية المترجمة جسد الطبيعة
البشرية الساقطة في الخطية والخاضعة لسلطان الشيطان.

 

 وغاية
الرسول وهو ينادي بكلمة الله هي أن يؤمن الناس بالمسيح المخلّص ليختبروا قوة
الإنجيل التحريرية في قلوبهم. فهو لم يأت على ذكر موضوع طبيعة الإنسان الخاضعة
للخطية وكأنها في حالة الموت الروحي إلا كتوطئة للمناداة بالخبر المفرح. ولذلك
استطرد الرسول قائلاً:

 

 ولكن
الله الذي هو غني في الرحمة, من أجل محبّته الكثيرة التي أحبّنا بها, حتى حين كنا
أمواتاً بالذنوب, أحياناً مع المسيح, (فبالنعمة أنتم مخلّصون) وأقامنا معه وأجلسنا
معه في علياء السماوات في المسيح يسوع, ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق
باللطف بنا, في المسيح يسوع.

 

 كان
على المؤمنين والمؤمنات أن يتأمّلوا في غنى رحمة الله وعظمة محبته لهم. فلقد
خلّصهم الله حتى عندما كانوا أمواتاً بالذنوب. لم تكن حالتهم الروحية مرضيّة لله
وهم لم يستحقوا رحمة الله. كانوا أمواتاً بالذنوب وسائرين على طريق معاد لطريق
الله المستقيم وعائشين ضمن إطار فكري مصدره الشيطان. وبالرغم من بؤس حالتهم
الروحية أحياهم الله مع المسيح. هذا الذي دفع بولس وغيره من المنادين برسالة
المسيح بأن يدعوها إنجيلاً وهي كلمة يونانية تعني خبراً ساراً ومفرحاً. ولم يكتف الرسول
بقوله أن الله أنقذ المؤمنين من الموت الروحي المريع بل أفهمهم أن هدف الله كان
بأن يرفع المؤمنين والمؤمنات إلى درجة روحية سامية. فبعد أن أحيا الله المؤمنين مع
المسيح أقامهم معه وأجلسهم معه في علياء السماوات. ما عناه الرسول هو أن هذه
الأمور الباهرة التي يختبرها المؤمنون جزئياً في الدهر الحالي, سيختبرونها بشكل
تام في اليوم الأخير.

 

وقد
يقول قائل: إن كان تذوّقها بصورة تامة وكاملة موضوعاً مستقبلياً, فما منفعة هذا
الخلاص للحياة الدنيا أي في هذه الحقبة من مسيرتنا الإيمانية؟ الجواب هو أن الله
يتطلّب من المؤمنين أن يجنّدوا كل قواهم لترجمة إيمانهم في حياة مليئة بالأعمال
الصالحة. وليذكروا أن كل شيء في حياتهم الجديدة إنما هو هبة من الله, كل شيء من
ألفه إلى يائه هو منه تعالى اسمه.

 

 فإنكم
بالنعمة مخلّصون, بواسطة الإيمان, وهذا ليس منكم, بل هو عطيّة الله, وليس هو بالأعمال
كي لا يفتخر أحد. فإننا نحن صنعه مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد أعدّها
الله من قبل لكي نسلك فيها.

 

 من
البديهي أن المؤمن كما وصفه لنا الرسول في فاتحة الفصل الثاني من رسالته إلى أهل
الإيمان في أفسس, أن المؤمن الذي كان ميتاً في الذنوب والخطايا, لم يكن بمقدوره أن
يحيي نفسه. من كان مائتاً لهو بحاجة إلى قوة إلهية المصدر لكي يبعث حيّاً, إن كان
ذلك جسدياً أو روحياً. ولئلا يخال المؤمن الذي اختبر خلاص الرب بأنه استحق ذلك أو
أن حالته السابقة لم تكن شقيّة أو تعيسة للغاية, لم يتردّد الرسول بأن يذكر أكثر
من مرة بأن المؤمن إنما يخلص بالنعمة. وكلمة نعمة كما ترد في الكتاب المقدس تشير
إلى هبة الله التي لم يستحقّها أي بشري. الخلاص مبني على عمل يسوع المسيح الفدائي
الذي تمّ على الصليب وهبة الخلاص هي من الله والواسطة هي الإيمان. وحتى الإيمان
ليس من الإنسان ولا بواسطة الإنسان, بل هو عطية الله. أعمال الإنسان غير قادرة بأن
تكسب له رضى الله وغفرانه لأنها ملوّثة بالخطية.

 ولئلا
يظن البعض بأن هكذا تعليم أي التشديد على الخلاص بالنعمة وبواسطة الإيمان قد يؤدي
إلى الإهمال أو التقاعس, شدّد الرسول بولس على أن غاية الله في إنقاذ الإنسان هي
أن تمتلئ حياة المؤمنين والمؤمنات بالأعمال الصالحة التي أعدّها الله من قبل لكي
نسلك فيها.

 

 أيها
القارئ العزيز! هل قبلت التشخيص الكتابي لحالة الإنسان الشقية والدواء الإلهي
لشفائها من دائها الوخيم؟ دعائي إلى الله القدير هو أن يمنّ عليك بهبة الإيمان
لتختبر الحياة الجديدة في المسيح يسوع, آمين.

 

المسيح
يسوع: حجر الزاوية

الإنسان
المعاصر صار يهتم بالعديد من القضايا التي يجابهها في معترك الحياة ولكنه أصبح
ميالاً إلى إهمال علاقته بالله. طابع الفلسفة المعاصرة هو الحادي ولا ديني.
والإيديولوجية المنبعثة منها تؤكد أن البحث في موضوع الله وعلاقته بالإنسان دليل
على الرجعية.

 

 ولكننا
مهما حاولنا بأن ننسى أمور الله وعلاقته بالإنسان فإننا لا ننجح لأن الحياة
البشرية لا تنمو كما يجب إلا ضمن إطار يكون فيه الله صانعاً ومسيّراً لذلك الإطار.
ويمكننا الإشارة إلى أن أهل القرن العشرين اختبروا في أكثرية عقوده طغيان الفلسفات
المادية والإلحادية. وما إن طلع علينا عقد التسعينات حتى أخذ العديدون من الناس
والذين كانوا أسرى لهكذا معتقدات, أخذوا ينظرون بكل جدّية إلى أهمية المعتقد
الديني وإلى كيفية تنظيم الحياة بشكل لا تكون فيه المادة الكل في الكل.

 

 وعلينا
أن نذكر بأننا فيما لو تركنا على شأننا كبشر ضعفاء وذوي مقدرات محدودة لما استطعنا
بأن ننقذ أنفسنا بأنفسنا. وكم نشكر الله لأنه لم يترك البشرية لتتيه في مجاهل
الظلام بل شاء بأن يكشف لنا عن ذاته وعن برنامجه الإنقاذي منذ فجر التاريخ. وفي الوقت
المعيّن من قبل الله أرسل المسيح إلى عالمنا لينقذ تدبيراً خلاصياً جبّاراً لمصلحة
البشرية المعذّبة. وبعد أن تمّ ذلك في الأرض المقدّسة, أي بعد أن مات المسيح على
الصليب وقام من بين الأموات في اليوم الثالث, أرسل رسله الأوفياء للمناداة في سائر
أنحاء العالم المتوسّطي بالأخبار السارة. هناك خلاص لبني البشر وعليهم قبول هذا
الخلاص المقدّم مجاناً من قبل المنادين به.

 

 وهكذا
اندفع رسل المسيح يبشرون بالإنجيل ويؤسسون جماعات الإيمان في بقاع مختلفة من عالم
المتوسّط والذي كان خاضعاً آنئذ للإمبراطورية الرومانية. وجاء أحد رسل المسيح
والمدعو باسم بولس جاء إلى إقليم آسيا الصغرى ونادى بإنجيل المسيح الخلاصي في
مدينة أفسس التي كانت وسطاً تجارياً ودينياً هاماً.

 

 علّمنا
الرسول في فاتحة رسالته أن الله حسب رحمته اللامتناهية اختار أو اصطفى المؤمنين
والمؤمنات في المسيح قبل إنشاء العالم. وأفهمنا الرسول بأن خلاص الناس يتمّ بواسطة
الإيمان. أعمال الإنسان لا تكوّن الأساس الذي يبنى عليه قبوله لدى الله. واستطرد
الرسول معلماً أهل أفسس بأنه من واجبهم أن يتذكروا ظلام حالتهم لكي يطفح شكرهم لله
لإنقاذهم من وهدة الهلاك وليسلكوا كما يليق بهم كأهل بيت الله. كتب بولس في القسم
الثاني من الفصل الثاني:

 

 لذلك
اذكروا (أنتم الذين كنتم قبلاً أمماً حسب الجسد, مدعوّين غلفاً ممّن يدعون ختاناً
يصنع باليد في الجسد) أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح, أجنبيين عن رعويّة
إسرائيل وغرباء عن عهود الموعد, لا رجاء لكم, وبدون إله في العالم.

 

 كان
من المهم جداً لأهل الإيمان في أفسس بأن يقفوا على تشخيص واقعي لحالتهم السابقة أي
قبل اهتدائهم إلى نور الإنجيل. لم يكفهم أن يعلموا بأنهم كانوا من عابدي الأوثان
ثم انتقلوا إلى عبادة الله الواحد الحقيقي. ذكر الرسول أولاً أنهم كانوا بدون مسيح
أي بدون مخلّص, وكذلك بعيدين عن جماعة الإيمان كما كان الله قد أسسها في أيام
إبراهيم الخليل والتي كانت في أيام ما قبل الميلاد منحصرة في أبناء إبراهيم من
اسحق ويعقوب. ولم تعنِ كلمات الرسول هذه بأنهم كانوا من غير نسل إبراهيم من
الناحية العنصرية أو الاثنيّة, هذا أمر بديهي. ما عناه الرسول هو أنهم لم يكونوا
يستفيدون من عهود الموعد الذي كان الله قد أعطاه لعبده إبراهيم عن المسيح المخلّص
الذي تتبارك به جميع أمم الأرض. وبما أنهم كانوا جاهلين لهذه الأمور ونظراً
لتعبّدهم لآلهة وهمية, كانوا عائشين بدون رجاء في هذه الدنيا نظراً لجهلهم لله
الواحد الحقيقي.

 

 ولم
تنحصر غاية الرسول بالكلام عن حالة أهل أفسس الماضية بل تكلّم عن نوعية الخلاص
العظيم الذي نالوه نظراً لمحبة الله لهم ولنعمته الفعّالة.

 

 أما
الآن ففي المسيح يسوع, أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين, قد صرتم قريبين بدم المسيح,
لأنه هو سلامنا الذي جعل الفريقين واحداً ونقض حائط الحاجز المتوسّط, أي العداوة,
إذ أبطل بجسده ناموس الوصايا المتضمّنة في فرائض لكي يخلق في نفسه من الاثنين
إنساناً واحداً جديداً ويصنع بذلك سلاماً, ولكي يصالحهما كليهما مع الله في جسد
واحد بالصليب الذي به قتل العداوة.

 

 إن
خلفية هذه الكلمات الرسولية تشير إلى الفصل التام الذي صار في أيام ما قبل الميلاد
بين اليهود وغير اليهود والذين يعرفون في تلك الأيام بالأمم. إيمان اليهود ونمط
حياتهم جعلهم مختلفين كل الاختلاف عن بقية الناس والذين كانوا من عابدي الأوثان.
ولكن جماعة الإيمان في أفسس والتي كانت متكوّنة من يهود وأمم مهتدين إلى المسيح,
صارت إنساناً واحداً جديداً. فنقض حائط الحاجز المتوسّط, أي العداوة, إذ أبطل
بجسده ناموس الوصايا المتضمّنة في فرائض. فلقد كانت الفرائض العديدة المسيّرة
لحياة اليهود تفصلهم فصلاً تاماً عن الآخرين. وعلى أي أساس تمّ ذلك؟ على أساس دم
المسيح أي دمه الزكي الذي سفك على الصليب. فأساس الصلح, الصلح مع الله والصلح بين
من كانوا أعداء, هو الصليب, أي موت المسيح الكفّاري على الصليب.

 

 تمّ
صلب المسيح من الناحية التاريخية قبل بضعة سنين من تأسيس جماعة الإيمان في أفسس.
لم يكن مؤمنو تلك المدينة شهود عيان لحادثة الصليب. كيف يستفيد الناس من الصليب؟
يستفيدون من صلب المسيح عندما يؤمنون بغاية تلك الحادثة الفريدة بعد وصول خبرها
المفرح إلى مسامعهم. كتب عن هذا الموضوع الرسول بولس في نهاية الفصل الثاني من الرسالة
قائلاً:

 

 فلقد
جاء وبشّركم بالسلام, أنتم البعيدين وبالسلام أيضاً للقريبين, لأن به لكلينا
اقتراباً من الآب بروح واحد. فلستم إذن بعد غرباء أو نـزلاء, بل أنتم مواطنون مع
القدّيسين ومن أهل بيت الله. وقد بنيتم على أساس الرسل والأنبياء, والمسيح يسوع
نفسه حجر الزاوية, الذي فيه ينسّق كل البناء معاً فيرتفع هيكلاً مقدّساً في الرب.
وفيه أنتم أيضاً مبنيّون معاً مسكناً لله في الروح.

 

 كان
الله قد اصطفى المؤمنين والمؤمنات في المسيح قبل إنشاء العالم, فجاء المسيح لتنفيذ
برنامج الله الخلاصي. عيّن الله المناداة بالإنجيل كالواسطة التي يصبح بها الخلاص
أمراً واقعاً في حياة الناس. وبعبارة أخرى لم يكن أهل أفسس ليختبروا الخلاص لو لم
يأت إليهم الرسول منادياً بخبر الإنجيل. أهمية المناداة بالإنجيل ظاهرة بكل وضوح
في كلمات الرسول, المناداة لازمة لمن كانوا بعيدين أي لعابدي الأصنام وللذين كانوا
قريبين أي لبني إسرائيل. الجميع بحاجة إلى الإنجيل لأن الجميع خطاة وأثمة ولأن
الإنجيل هو قوة الله لخلاص كل من يؤمن, بغض النظر عن أصله أو فصله. لكن أساس
الخلاص هو المسيح يسوع الذي دعاه الرسول بحجر الزاوية في صرح أو هيكل الإيمان.
وبينما كان الله يتطلّب في أيام ما قبل الميلاد العبادة في هيكل القدس الذي بني في
أيام سليمان الحكيم, صار هيكل الله في المرحلة الحالية من التاريخ مكوّناً لا من
خشب وحجر بل من مؤمنين ومؤمنات بالمسيح المخلّص.

 

 بنى
الرسول بولس الحياة الجديدة على هذا الأساس العقائدي. لقد انتشل الله المؤمنين
والمؤمنات من الموت الروحي بواسطة الروح القدس وبناء على العمل الخلاصي الذي أتمّه
المسيح يسوع بموته على الصليب. فأصبح المؤمنون وهم من مختلف الأجناس والأقوام
جسداً واحداً وهيكلاً مقدساً.

 

 وخلاصة
القول: لم يعد الناس نـزلاء أو غرباء في بيت الله, حالما يؤمنون بالمسيح المخلّص
الذي هو حجر الزاوية في هيكل الله المقدّس, يصيرون مواطنين مع القدّيسين ومن أهل
بيت الله. هذا امتياز عظيم وهو هبة مجانية من الله. وبما أنه لكل امتياز واجب وعلى
كل من استلمه مسؤولية, حثّ بولس الرسول أتباع المسيح ليس فقط في أفسس بل في كل
مكان وزمان, على العيش بطريقة متجانسة مع كونهم مواطنين في ملكوت الله. وكان لا بد
لهم بأن يتذكروا ما كانت عليه حالتهم الروحية السابقة لتنبع من باطنهم آيات الشكر
والحمد لله الذي أنقذهم من الضلال وجعلهم من أهل بيته!

 

غنى
المسيح

 تشمل
اهتمامات الإنسان المعاصر حقولاً عديدة من الحياة. وإذا ما تصفحّنا الصحف اليومية
أو المجلات الأسبوعية نقف على أخبار تختص بالمؤتمرات والندوات التي تعقد للبحث في
كيفية مواجهة تحدّيات العصر. ومن أهم ما نجابهه في عقد التسعينات هو موضوع البيئة
وكيفية الحفاظ عليها والتغلّب على مشكلة التلوّث. لم يعط الناس أية أهمية لموضوع
البيئة والتلوث في مطلع القرن العشرين. ولكننا الآن وقد تزايد عدد سكان الأرض بشكل
لم يعرف له مثيل منذ فجر التاريخ وكثرت استعمالات الطاقة في عدة نواحي الحياة
ولاسيما في المواصلات البرية والبحرية والجوية, صرنا نلاحظ تأثير التلوّث على
الأرض بأسرها.

 

 وكم
تأسّفت لدى مطالعتي لبحث ورد فيه بأن البحر المتوسط هو أكثر بحار الدنيا تلوّثاً.
ولقد قدّرت إحدى الجهات المسئولة بأن أزمة التلوّث في هذا البحر الجميل وصلت إلى
درجة لا تطاق وذلك لأن كمية المواد الملوّثة التي تلقى في المتوسط تقارب 12 مليون
طن في كل سنة!

 

 وتابعت
الأخبار عن خطر آخر يهدد جميع سكان الأرض ألا وهو وجود فجوة في غطاء الأوزون الذي
يحيط بالكرة الأرضية والذي يحمينا من الإشعاعات الضارة. وما أعنيه هو أن الغاز
المستعمل للتبريد قد سبّب الفجوة المذكورة فصارت أشعة الشمس فوق البنفسجية تخترق
جوّنا وتسبّب أمراضاً خطيرة كسرطان بشرة الجسد.

 

 ولست
أود الاسترسال في إضافة تحدّيات أخرى نواجهها في العقد الأخير من القرن بل أود
معالجة هذا الموضوع الحيوي الهام: هل البشر هم الوحيدون المهتمون بمصير أرضنا أم
هل هناك من يهتك بنا ويعمل لخيرنا؟ وإذا ما تفحصنا ما يكتبه مفكّرون وعلماء عديدون
لا بد لنا من الإقرار بأنهم ينظرون إلى عالمنا هذا كعالم خاضع للإنسان وللإنسان
فقط. وبعبارة أخرى النظرة الحياتية الشاملة التي يدين بها الكثيرون من أقراننا بني
البشر هي نظرة لا دينية بحتة لا مجال فيها لله ولا لبرنامجه الإنقاذي.

 

 وعندما
أنادي باتكالية عالمنا هذا على الله لا أكون ملغياً للدور الهام الذي يلعبه
الإنسان في تسيير أمور عالمنا. فمن جراء تأثير الفلسفات الإلحادية المتعدّدة التي
طغت على العالم الفكري, صار البعض يخالون بأن الإقرار بالله وبتيسيره لأمور العالم
يتطلّب إلغاء الإنسان. هذه التهمة باطلة من أساسها. لا يلغي الله الإنسان الذي
خلقه ومنحه السلطة بان يهيمن على العالم بطريقة رشيدة ومسؤولة. التفوه بهكذا آراء
إنما يدل على مقدار ابتعاد الإنسان عن خالقه وتوغّله في دياجير الظلام. لا يهمل
الله الإنسان بل يسعى لخيره منذ فجر التاريخ. فما أن ثار الإنسان الأول على صانعه
حتى بادر الله بالكلام عن تدبيره الخلاصي العظيم الذي كان سيظهر بكل وضوح لدى مجيء
المخلّص المسيح.

 

 وما
أن وفد المسيح عالمنا وأتمّ عمله الفدائي بموته على الصليب وقيامته من بين الأموات
حتى أرسل رسله للمناداة بالخبر السار المعروف أيضاً بالإنجيل. كان الله القدير قد
صمّم على إنقاذ دنياه من براثن الشيطان حتى قبل إنشاء العالم. موضوع الخلاص إذن
قديم ويسبق التاريخ البشري- بالنسبة لله.

 

 ذهب
بولس إلى البلاد المتوسطية ونادى بالخبر المفرح فآمن العديدون من أهل تلك البلاد
بالمسيح وانضموا إلى عضوية جماعة الإيمان التي عرفت أيضاً باسم الكنيسة. ومن هذه
الكنائس الفتية التي تأسست كانت كنيسة أفسس في إقليم آسيا الصغرى. وبعد أن ترك
بولس ذلك الإقليم وتابع مسيرته الإنجيلية تعرّض لاضطهادات شديدة أدّت به إلى
السجن. كتبت الرسالة إلى أفسس إبان سجنه من قبل السلطات الرومانية. وظن البعض من
مؤمني أفسس أن حالة بولس هذه كانت تتعارض كلياً مع كونه رسولاً للمسيح وخادماً لله
القدير. فكتب لهم بولس في فاتحة الفصل الثالث لتطمينهم على مصير الإنجيل وعن النصر
النهائي الذي كان سيتمّمه انتشار الإنجيل في سائر أنحاء المعمورة.

 

 لهذا
السبب, أنا بولس, أسير المسيح يسوع من أجلكم قد سمعتم بتدبير نعمة الله التي وهبت
لي لأجلكم. فإني بوحي أوتيت معرفة السرّ كما كتبت قبلاً بالإيجاز, ومنه إذا ما
قرأتموه تقدرون أن تدركوا فهمي لسرّ المسيح. وهذا السر لم يعلن لبني البشر في
أجيال أخرى, كما قد أعلن الآن بالروح لرسله القدّيسين وأنبيائه, أي أن الأمم
بالإنجيل من أهل الميراث وأعضاء في الجسد وشركاء الموعد في المسيح يسوع, الذي صرت
أنا خادماً له, بحسب موهبة نعمة الله التي أعطيت لي بعمل قدرته. فلقد أعطيت لي ,
أنا أصغر القديسين جميعاً, هذه النعمة أن أبشّر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا
يستقصى, وأنير الجميع فيما هو تدبير السرّ المكتوم منذ الدهور في الله خالق كل شيء
بيسوع المسيح. لكي تعلم الآن حكمة الله المتنوّعة لدى الرئاسات والسلطات في علياء
السماوات بواسطة الكنيسة, بحسب القصد الأبدي الذي أجراه في المسيح يسوع ربّنا,
الذي بإيماننا به لنا فيه جراءة وثقة في الاقتراب منه. فلذلك أطلب إليكم أن لا
تيأسوا بسبب آلامي لأجلكم التي هي مجدكم.

 

 كان
الرسول قد أتى على ذكر تدبير الله الأزلي في فاتحة الرسالة ولكنه عاد الآن للكلام
عن هذا الموضوع لتشجيع أهل الإيمان في أفسس وخاصة بعد سماعهم أن السلطات الرومانية
كانت قد زجّته في السجن بدون سبب شرعي. فمع أهمية تفاصيل الحياة الدنيا التي
يحياها المؤمنون والمؤمنات إلا أن مسيرة التاريخ ليست تحت سيطرة وهيمنة أعداء الله
من شياطين وبشر. وبالرغم من كثرة المآسي والفواجع التي ألمّت ولا تزال تلّم
بعالمنا هذا, إلا أنه يبقى تحت سلطة الله. والتاريخ بأسره سائر باتجاه ذلك اليوم
العظيم, يوم إعلان نصر الله النهائي على سائر قوى الشرّ والظلام. وإلى أن يأتي ذلك
اليوم, على سائر المؤمنين والمؤمنات, إن كانوا من أهل القرن الأول الميلادي أو من
معاصرينا في أواخر القرن العشرين, أن يتحلّوا بالصبر ويكتسوا بالرجاء المنبعث من
يقينهم بأن الله كان ولا يزال المسيطر على الموقف.

 

 وكما
ذكرنا في أكثر من مناسبة, انحصرت معرفة الله في أيام ما قبل المسيح في ذريّة
إبراهيم من اسحق ويعقوب. كان ذلك الترتيب مرحلياً مقتصراً على أيام ما قبل
الميلاد. وكان الله قد صمّم في أزمنة ما قبل التاريخ بأن يصبح شعبه من سائر
الأقوام والأجناس بعد قدوم المسيح إلى عالمنا. لم يدر بهذا الموضوع بنو البشر
ودعاه بولس سراً بمعنى أنه لم يكن أي بشري قادر على التكهّن به. أوحى الله بهذا
الموضوع لعبيده الأنبياء والرسل. وكما قال الرسول بولس:

 

 قد
أعلن الآن بالروح لرسله القديسين وأنبيائه, أي أن الأمم بالإنجيل من أهل الميراث
وأعضاء في الجسد وشركاء الموعد في المسيح يسوع.

 

 فالسرّ
الذي أوحى به الله لبولس ولغيره من الرسل والأنبياء هو أن الأمم, أي الشعوب
المختلفة والغير منبثقة من صلب إبراهيم واسحق ويعقوب, هم من أهل الميراث أي الحصول
عل تتميم مواعيد الله في حياتهم أي اختبار الخلاص العظيم الذي أتمّه المسيح يسوع.

 

 كان
هذا التعليم الرسولي هاماً للغاية لأن بني إسرائيل, كانوا ينظرون شذراً إلى بقية
الشعوب والأقوام. فكان من الضروري جداً أن يشاركهم بولس الرسول بمحتويات الوحي
الإلهي التي أظهرت بكل وضوح أن كل من آمن بالمسيح كمخلّصه من الخطية حصل على جميع
نعم الله وصار من أهل الميراث وعضواً في جسد المسيح وشريكاً في الموعد. لا يجوز
لأي إنسان أو عرق بأن يحتكر معرفة الله ولا طريقه الخلاصي.

 

 علّمنا
الرسول بأن الخلاص هو من الله وكان ضمن برنامج الله الأزلي وأن أساس الخلاص تحقّق
في ملء الزمان أي عندما وفد عالمنا المسيح المخلّص ومات على الصليب وقام من بين
الموت. ولم يلغ الرسول الدور الذي يلعبه الإنسان في هذا الموضوع الهام بل وصفه
قائلاً:

 

 ما
عناه الرسول هو أن الله شاء وأسند إلى من اصطفاهم من عباده بأن ينادوا بالإنجيل أي
أن ينشروا بشارة الأخبار السارة في كل مكان طالبين من الناس التوبة والإيمان
بالمسيح. هذه هي مشيئة الله أن ينادي بإنجيله الطاهر في سائر أنحاء الدنيا ليقف
الناس على غنى المسيح الذي لا يستقصى. فجميع ما نحتاجه نحن بني البشر هو في المسيح
الذي عيّنه الله الوسيط والشفيع الوحيد بين الله والإنسان. من آمن بالمخلّص واختبر
جدة الحياة في صميم قلبه يكتسب جراءة في صلواته وأدعيته وثقة كبيرة للاقتراب من
الله باريه وصانع خلاصه.

 

 وخلاصة
الأمر أننا عندما نقرّ بكثرة مشكلات عالمنا لا نرغب بأن نبعث اليأس في قلوب الناس.
غايتنا هي المناداة بتدبير الله الخلاصي الذي ينفّذه تعالى على مرّ العصور بقوة
روحه القدوس وبواسطة خبر إنجيله المفرح. لم ينس الله عالمه بل كان ولا يزال مهتماً
به كل الاهتمام. كفانا أن ننظر بعين الإيمان إلى المسيح المخلّص لنتأكد من محبة
الله لنا ورغبته في خلاصنا. ساعدنا القدير لكي نفلت من شباك الإلحاد المعاصر ونسير
على طريقه المستقيم.

 

محبة
المسيح

 كيف
نصف عالمنا اليوم؟ هل هو في سلام ووئام؟ وماذا سيكون مستقبل البشرية ونحن نقترب
بخطى وئيدة من نهاية القرن العشرين؟ تراودنا أفكار كثيرة ومبعثرة عندما نتأمل في
حالتنا الحاضرة وقد صرنا عاجزين عن وصف عالمنا إذ تكاثرت فيه المشاكل البشرية
وتشابكت إلى درجة لم تعرف في الماضي. وقد دبّ اليأس في قلوب الناس إذ نلاحظ هذه
الظاهرة في بعض الكتابات النثرية منها والشعرية والتي يعرب فيها أصحابها عن قنوط
تام وعن تشاؤم هائل بخصوص عالمنا.

 

 كيف
نصف عالمنا اليوم؟ يكمن جوابنا في النظرية الحياتية التي ندين بها. هل نحن كائنات
نعيش على أرض لا تتحكم فيها إلا قوى بشرية؟ أم هل هناك من يشرف على أمور دنيانا
ويسيّر دفّة التاريخ بمقتضى برنامج معيّن؟ إن كنا قد قبلنا النظرة الحياتية
السائدة في كثير من أصقاع العالم والتي تصف العامل البشري وكأنه واقع وحداني برز
إلى حيّز الوجود نظراً لقوّة عبثية, فإنه من البديهي أن يكون جوّنا الفكري ملبّداً
بالغيوم السوداء. ونكون مضطرين آنئذ إلى التكهن عن مصير البشرية بناء على
اختباراتنا في هذا القرن ولاسيما في القسم الثاني منه. وما نتعلّمه من حوادث
التاريخ المعاصر هو أن الإنسان لا يعامل قرينه الإنسان بصورة إنسانية بل صار
متفنّناً في طرق الاضطهاد والتنكيل بغيره من بني البشر.

 

 ولكننا
إذا تسلّحنا بإيماننا بالله القدير وأخذنا ننظر إلى التاريخ البشري القديم منه
والحديث والمعاصر من منظور الوحي الإلهي تحرّرنا من نظرة تشاؤمية للمستقبل وصرنا
عاملين على نشر خبر الله المفرح بأنه تعالى لم يترك عالمنا لمصير مخيف بل كان ولا
يزال يعمل لإنقاذ الناس من شرورهم وآثامهم جاعلاً منهم أكثر إنسانية في معاملاتهم
مع بعضهم البعض.

 

 وهذه
النظرة الحياتية تنبعث من الوحي الإلهي الوارد على صفحات رسالة بولس الرسول إلى
جماعة الإيمان في مدينة أفسس الكائنة في آسيا الصغرى. كان بولس الرسول قد كرّس
حياته للمناداة بالإنجيل في سائر بقاع المتوسّط. ولكن المناداة بالإنجيل وقبول
المسيح يسوع كمخلّص من الخطية وكسيّد للحياة لا يعني أن مشكلات الحياة تختفي فجأة.
من صار من أتباع المخلّص يعيش ضمن إطار حياتي من صنع الله والذي ينبئ بمجيء ذلك
اليوم الذي يكمّل فيه الله جميع مواعيده التي أعطاها للمؤمنين به. ومع أن معضلات
الحياة لا تختفي كما ذكرنا آنفاً, إلا أن المؤمن يعلم علم اليقين أن سياسة أمور
الدنيا والهيمنة على تاريخ البشرية هي تحت سلطة الله المطلقة. هذا لا يعني أننا
نكون قد ألغينا العامل البشريّ في التاريخ. ما نعنيه هو أنّ كل شيء في دنيانا يبقى
ضمن نطاق سلطة الله وإن تمرّد الإنسان وثورته على النظام الإلهي لن يمنع القدير من
تتميم برنامجه الإنقاذي والخلاصي لهذا العالم. يقوم الله بتتميم وتنفيذ برنامجه
هذا من فرط محنتّه الفائقة لنا نحن البشر. على هذا الأساس نلاحظ أن الرسول بولس
أنهى القسم الأول من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس (وهو القسم العقائدي) قائلاً:

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كينج جيمس إنجليزى KJV عهد قديم سفر يشوع Joshua 21

 

 لهذا
السبب, أجثو على ركبتيّ أمام الآب, الذي منه تسمّى كل أسرة في السماوات وعلى
الأرض, ليهب لكم بحسب غنى مجده, أن تتأيّدوا بالقوّة بروحه في الإنسان الباطن,
ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم.

 

 ضمن
عالم مليء بالمشاكل والمعضلات, نادى الرسول بولس بكلمة الإنجيل أي بالخبر المفرح
عن خلاص الله الذي أتمّه في المسيح يسوع, فآمن البعض وانضموا إلى جماعة الإيمان في
أفسس. كان ذلك بمثابة الخطوة الأولى في مسيرتهم الإيمانية. وإذ كان الرسول قد
أعلمهم عن غنى المسيح في القسم الأول من الفصل الثالث من رسالته, كان لا بد له من
أن يتجه إلى الله القدير بدعاء حارّ ليهب الله المؤمنين والمؤمنات نعمه وبركاته
التي كانت ستساعد أهل الإيمان للبلوغ إلى غايتهم. هبات الله هي مجانية ونعمه لا
تعدّ ولا تحصى. ابتهل الرسول إلى ربه خالق الكون وباري البشر, بشتى أصنافهم
وأوطانهم, ليهب المؤمنين بأن يتأيدوا بالقوّة بروحه في الإنسان الباطن ومعنى هذه
العبارة هي أن يتسلح المؤمنون بروح الله القدوس في حياتهم الداخلية أي في باطنهم
ليختبروا ما وعدهم به الله. وإذا قاموا بذلك يحلّ المسيح في قلوبهم بالإيمان. هذه
الكلمات هامة للغاية, فهي لا تعلّم حلولاً تنعدم فيه الشخصية البشرية أو تصبح بدون
إرادة خاصة بها. ذكر الرسول أن هذا الحلول يتمّ بواسطة الإيمان. أي أن حلقة الوصل
بين المؤمن ومخلّصه المسيح هي الإيمان الذي يحفظ للمؤمن بتمام شخصيته وللمسيح يسوع
بتمام أقنومه. ليس في هذا المفهوم الرسولي للحلول أي مجال لذوبان الشخصية البشرية
في المسيح المخلّص!

 

 تشير
هذه الكلمات إذن إلى بدء علاقة روحية حيوية بين المخلّص والمؤمن, علاقة بدأت
بالإيمان وتستمر بالإيمان وتكمل بالإيمان. وهذه العلاقة الروحية تنمو وتترعرع بصورة
مستمرة. وتكلّم الرسول عن غايتها قائلاً:

 

 حتى
إذا ما تأصّلتم في المحبة وتأسّستم عليها, تستطيعون أن تدركوا مع جميع القدّيسين
ما هو العرض والطول والعلّو والعمق, وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة, لكي
تمتلئوا إلى ملء الله. وللقادر أن يصنع ما يفوق جداً كل ما نطلب أو نفتكر, بحسب
القوة العاملة فينا, المجد في الكنيسة, وفي المسيح يسوع, إلى جميع أجيال أبد
الدهور, آمين.

 

 فحلول
المسيح في قلوب المؤمنين والمؤمنات وبواسطة الروح القدس له غاية معيّنة ألا وهي أن
يعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة! المحبة هي أساس ودافع الحياة, أي تلك
المحبة النابعة من معرفة واختبار محبة المسيح لنا نحن البشر تلك المحبة التي تفوق
المعرفة. فمهما حاولنا وجاهدنا لن نستطيع سبر غور المحبة اللانهائية التي بها
أحبنا يسوع المسيح. لقد أحبنا المخلّص نحن بني البشر الذين أخطأنا ضد الله وكسرنا
وصاياه وتعدّينا على شرائعه وأحكامه. فمع أننا كنا نستحق غضب الله وعقابه الأبدي,
عاملنا الله معاملة تفوق تصوّراتنا عندما أرسل ابنه الوحيد إلى عالمنا ليموت عنّا
مكفّراً عن جميع خطايانا وآثامنا ومعاصينا. يناشدنا الرسول بولس بأن نتأمل ملياً
في محبة المسيح لنا لكي نمتلئ إلى ملء الله. وهذه العبارة تشبه ما ورد سابقاً عن
حلول المسيح في قلوب وأفئدة المؤمنين والمؤمنات. لا يعني هذا الامتلاء إلى ملء
الله ما علّمه بعض الفلاسفة والمجتهدين أي ذوبان الشخصية البشرية في الذات
الإلهية. هكذا آراء بعيدة كل البعد عن تعاليم الكتاب المقدس التي تشدّد على وجود
فارق جوهري وحدّ لا يخترق بين الذات الإلهية والذات البشرية المخلوقة. فما يعنيه
الرسول هو أن تتحقق في حياة المؤمن تلك العلاقة الحيوية الإيمانية بين الله والذين
اختبروا خلاصه الجبّار الذي تمّ في المسيح يسوع والذي ينادي به في خبر الإنجيل.

 

 وبعد
أن تفوّه الرسول بولس بهذه الكلمات الباهرة أنهى القسم الأول من رسالته ممجّداً
الله الذي يمنح عباده وخائفيه فوق كل ما يحلمون به وقائلاً:

 

 وللقادر
أن يصنع ما يفوق جداً كل ما نطلب أو نفتكر, بحسب القوّة العاملة فينا, المجد في
الكنيسة وفي المسيح يسوع, إلى جميع أجيال أبد الدهور, آمين.

 

السلوك
في الإيمان

 لقد
عرفت البشرية منذ فجر التاريخ مثلاً علياً تدين بها. وليس هناك من حضارة خلت منها
وإن اختلفت في تفاصيلها بين أمة وأخرى أو شعب وأخر. ومجرّد ذكر مثل أعلى يدل على
أنه يعلو فوق مفهوم الفرد لما يجب أن يسيّر أمور حياته. وعلى الغالب تنشأ المثل
العليا بعد تجارب حياتية عديدة لجماعة من الناس ضمّهم التاريخ والجغرافيا وغير ذلك
من الروابط الاجتماعية.

 

 ومع
وجود المثل العليا في حياة بني البشر إلا أنه من المسلّم به أنّ العديدين من الناس
لا يعيشون بمقتضى هذه المثل. ما أكبر البون الشاسع الذي يفصل بين ما يدين به الناس
وسلوكهم اليومي! هذا أمر مؤسف للغاية ولكنه لدليل على وجود خلل أو علّة في جسد
البشرية جمعاء والذي يمنع الإنسان عن تكييف حياته بمقتضى مثله العليا. ونظراً لهذه
الظاهرة التي تلاحظ في حياة البشرية نجد أن الرسول بولس كان يعالج دوماً في رسائله
إلى جماعات الإيمان المنتشرة في سائر أنحاء العالم المتوسطي أموراً عملية. وهكذا
ناشد الرسول أهل الإيمان في مدينة أفسس والتي كانت تعدّ وسطاً تجارياً هاماً في
القرن الأول الميلادي ومركزاً لعبادة الآلهة أرطاميس قائلاً:

 

 فأحثّكم
إذن, أنا الأسير في الرب, أن تسلكوا كما يليق بالدعوة التي دعيتم بها, بكل تواضع
ووداعة وأناة محتملين بعضكم بعضاً في المحبة, مجتهدين أن تحفظوا وحدة الروح برباط
السلام.

 

 كان
الرسول بولس قد علّم المؤمنين والمؤمنات في أفسس عن أمور عقائدية هامة, كدعوة الله
لهم بناء على اختيارهم في المسيح يسوع قبل أجيال التاريخ والفداء المجاني الذي قام
به المسيح لصالحنا نحن الخطاة الأثمة. وشدّد على مركزيّة الإيمان للحصول على
الخلاص المجاني الذي تمّ لصالح البشرية على الصليب. ووصل الرسول إلى قمّة تعاليمه
عندما قال:

 

 وتعرفوا
محبة المسيح التي تفوق المعرفة, لكي تمتلئوا إلى ملء الله. وهذا الامتلاء لا يعني
ذوبان الشخصية البشرية ضمن الذات الإلهية كما علّم البعض, بل يتم هذا الأمر
بالإيمان. يبقى الله الإله الواحد السرمدي ويظلّ الإنسان مخلوقاً, لكيانه ولطاقاته
حدود معيّنة.

 

 لكنه
لا يكفي للمؤمن بأن يقول عن نفسه: أنا متشبّث بجميع هذه التعاليم السامية التي
نادى بها الرسول بولس. هذا أمر هام وجيّد وحسن أن يتعلّق الإنسان بمعتقداته. لكنه
ملتزم أيضاً لترجمة هذه المعتقدات إلى حياة منسجمة كل الانسجام مع ما يدين به.
وبعبارة أخرى يطلب منا بولس بأن يكون سلوكنا اليومي سلوكاً إيمانياً.

 

 وكان
بولس قد كرّس حياته بأسرها لخدمة المسيح وعمل الرسول على حمل بشارة الإنجيل إلى
سائر العالم المتوسطي ولم يسمح للاضطهادات بأن تعيق مسيرته الإيمانية. وعندما كان
يملي هذه الرسالة إلى جماعة الإيمان في أفسس, كان قد فقد حريته, وصار سجيناً
للسلطات الرومانية. وهذا ما دفعه إلى القول بأنه كان أسيراً للمسيح. فمع أن ممثل
الإمبراطورية الرومانية هو الذي كان قد أمر بسجنه إلا أن الرسول نظر إلى حالته من
منظور خدمته للمسيح وقال: أنا أسير في الرب. فلو لم يعمل بولس في حقل الإنجيل لما
كان قد تعرّض للاضطهاد أو السجن!

 

 كان
بولس يعيش على أساس إيمانه وهذا ما دفعه لمناشدة أهل الإيمان بأن يسلكوا كما يليق
بالدعوة التي دعوا بها, أي أن يعيشوا بطريقة تظهر فيها حيوية إيمانهم. وأتى الرسول
على ذكر بعض ثمار ذلك السلوك المنطبق على الإنجيل الخلاصي فقال:

 

 بكل
تواضع ووداعة وأناة, محتملين بعضكم بعضاً في المحبّة.

 

 هذه
الصفات التي كان على المؤمنين والمؤمنات أن يتحلّوا بها لم تكن صفات مقبولة لدى
معاصري الرسول في بلاد المتوسط. نظر الرومان إلى التواضع والوداعة والأناة, نظروا
إليها شذراً وكأنها دلّت على ضعف أساسي في تكوين الأخلاق. لم يقبل الرسول عادات
وأخلاقيات محيطة الوثني المتفسّخ, بل ثابر على تأكيد أهمية وضرورة العيش بمقتضى
منطق الإيمان, قائلاً:

 

 مجتهدين
أن تحفظوا وحدة الروح برباط السلام.

 

 أي
أنه فيما إذا طبّق المؤمنون معتقدهم في حياتهم اليومية يكونون عاملين على تثبيت
أواصر الوحدة أي الوحدة الإيمانية النابعة من روح الله القدوس ضمن رباط السلام
الحقيقي.

 

 ومع
أن الرسول كان قد أنهى القسم العقائدي من رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس إلا أنه
لم يكن ليبني أي تعليم عملي بدون أن يرجع أساسه إلى الإيمان. وهكذا أتى على ذكر تعليم
جوهري قائلاً:

 

 فإن
الجسد واحد والروح واحد كما أنكم قد دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد. وإن الرب
واحد, والإيمان واحد, والمعمودية واحدة, والإله والآب واحد للجميع, وهو فوق الجميع
وبالجميع وفي الجميع.

 

 لم
يكن السلوك الإيماني الذي كان الرسول يشدّد على أهميته سلوكاً فردياً محضاً, بل
كان سلوكاً إيمانياً يعاش ضمن جماعة الإيمان. الأعضاء عديدون ومتنوّعون ولكن الجسد
(أي جماعة الإيمان) واحد. والروح (أي روح الله القدوس) الموجد للكنيسة هو واحد,
والرجاء المسيحي هو واحد, والمعمودية التي يتم بواسطتها الدخول في عضوية جماعة
الإيمان واحدة. وانتقل الرسول من الكلام عمّا يختبره المؤمنون إلى الكلام عن واهب
جميع الخيرات والبركات والنعم الروحية مشدّداً على وحدانية الله: والإله والآب
واحد.

 

 يجدر
إذن بجميع المؤمنين والمؤمنات, بل يتأملوا ملياً في أساس إيمانهم الواحد ليعيشوا
حياة متجانسة مع هذا الإيمان ولكي لا تنمو فجوة كبيرة فاصلة بين المعتقد والسلوك.
هذا أمر هام للغاية نظراً لاختلاف الهبات والعطايا التي يمنحها الله للذين آمنوا
بالمخلّص المسيح. الإيمان واحد لكن الهبات مختلفة ومتباينة إذ لا يهب الله جميع
عبّاده وخائفيه نفس أو ذات الهبات. ولذلك استطرد الرسول قائلاً ومعلّماً:

 

 ولكن
قد أعطيت النعمة لكل واحد منا على مقدار هبة المسيح. لذلك يقول الكتاب: إذ صعد إلى
العلى, سبى سبياً وأعطى الناس عطايا.

 

 وهو
قد أعطى البعض أن يكونوا رسلاً, والبعض أنبياء والبعض مبشّرين, والبعض رعاة ومعلّمين,
لأجل إعداد القدّيسين إلى الخدمة, لبنيان جسد المسيح, إلى أن ننتهي جميعاً إلى
وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله, إلى إنسان كامل, إلى مقدار قامة ملء المسيح. كي لا
نكون فيما بعد أطفالاً تتقاذفنا الأمواج ونحمل بكل ريح تعليم, بخداع الناس, بمكرهم
إلى مكيدة الضلال. بل نصدق في المحبة فننمو في كل شيء نحو ذلك الذي هو الرأس, أي
المسيح, الذي منه كل الجسد, وهو متّسق ومرتبط معاً بتأييد كل مفصل على حسب العمل
المناسب لكل جزء, ينشئ لنفسه نمواً لبنيانه في المحبّة.

 

 الإيمان
واحد والمعتقد واحد ومصدره واحد أي الله, ولكن الهبات أو النعم التي يغدقها المسيح
يسوع على أفراد جماعة الإيمان, هي مختلفة. لا يجوز لهذا الأمر (أي اختلاف المواهب)
بأن يكون سبباً للمنازعات أو الانقسامات ضمن الجسد أي الكنيسة. فعندما صعد المسيح
يسوع إلى السماء أعطى عطايا مختلفة لخير وبنيان أعضاء جسده أي جماعة الإيمان.

 

 مثلاً
وهب البعض من أتباعه بأن يكونوا مؤسسي جماعات الإيمان في مختلف أنحاء العالم.
وأسند للبعض منهم بأن يكونوا أقنية للوحي الإلهي وهكذا صار ما كتبوه جزءاً لا
يتجزأ من الكتاب المقدس كرسائل بولس الرسول مثلاً. وأعطى المسيح الظافر لآخرين بأن
يكونوا أنبياء. وهذه الكلمة تشير, في حقبة العهد الجديد أي في الأيام التي تلت
مجيء المسيح إلى العالم, تشير كلمة أنبياء إلى أولئك الذين أعطاهم الله وحياً
خاصاً لخير ورفاهية الكنيسة قبل أن ينتهي جمع وترتيب أسفار الإنجيل أي العهد
الجديد. وأعطى البعض بأن يكونوا مبشّرين أي أن يتجوّلوا في أنحاء مختلفة من العالم
للمناداة بخبر الإنجيل ولدعوة المؤمنين والمؤمنات للانضمام إلى عضوية الكنيسة,
بينما وهب آخرين بأن يكونوا رعاة ومعلّمين, أي أن يهتموا بتعليم المؤمنين
وبرعايتهم روحياً وأخلاقياً في مكان معيّن وضمن جماعة الإيمان. هبات مختلفة ومتنوعة
ولكن غايتها كانت إعداد وتهيئ القدّيسين, أي المؤمنين, لحياة الخدمة والنمو في جسد
المسيح. وهكذا يصبح ما يدينون به عقلياً وقلبياً قسماً من واقع الحياة التي
يعيشونها في هذه الدنيا, واضعين نصب أعينهم الإقتداء بالمسيح المخلّص والنمو في
معرفته معرفة اختبارية وحيويّة. وعندما يقوم المؤمنون بتتميم هذا التعليم الرسولي
في معترك الحياة يكتسبون مناعة روحية تبعد عنهم إمكانية الانقياد وراء المعلّمين
الكذبة الذين كانوا قد اندسوا بين جماعات الإيمان في سائر العالم المتوسطي محاولين
بأن يبعدوهم عن ربّهم وفاديهم يسوع المسيح.

 

 وخلاصة
الأمر, يجب أن يظهر الإيمان في سلوك متجانس مع الإيمان, والسلوك المقبول لدى الله
يجب أن يكن مبنياً على الإيمان.

 

الإنسان
الجديد

 حياتنا
المعاصرة مليئة بالمشاكل والمعضلات. وبينما كنا نحلم أن المستقبل كان سيحمل في
طياته أياماً جديدة وسعيدة إلا أن جميع أحلامنا قد تلاشت وذهبت أدراج الرياح.
الحياة صعبة ومريرة وما أكثر الذين واللواتي يتسائلون في فجر كل يوم: لماذا ولدت
على هذه الأرض؟ وما فائدة العيش في عالم مكتظ بالشرور والآثام والفواجع التي أضحت
ذات أبعاد هائلة؟

 

 وما
إن نسترسل في هكذا تساؤلات حتى نتدرّج إلى القول: أين الله من كل هذه الأمور
المفجعة؟ ولماذا يسمح القدير بأن يمتلئ عالمه بأمور محزنة للغاية؟ ألا يقدر الله
بأن ينعم علينا بالسلام وبأن يغيّر قلوب الناس فيجعلها أكثر محبة وإشفاقاً مما هي
عليه الآن؟

 الجواب
هو أن الله لم يترك عالمه ليتخبّط في دياجير الشر والظلام. فلقد بادر تعالى منذ
فجر التاريخ ومنذ سقوط الإنسان الأول في حمأة الشر والمعصية, بادر الله إلى معونة
الإنسان بإعطائه وعداً صريحاً عن مجيء مرسل الله الخاص أي المسيح المخلّص الذي كان
سيجابه الشر والشيطان ويدحرهما لصالح جميع المؤمنين به.

 

 وفي
الوقت المعيّن من الله وفد المسيح عالمنا وولد من عذراء تدعى مريم في بلدة بيت لحم
بفلسطين. عاش المسيح في الأرض المقدسة وعلّم الجموع وشفى المرضى وأقام الموتى
مظهراً بذلك طبيعة رسالته السماوية والإنقاذية. وانتهت حياته على الأرض عندما مات
على صليب خشبي نصب له خارج أسوار مدينة القدس. لكن المسيح لم يبق تحت سلطان الموت
بل قام في اليوم الثالث من بين الأموات وظهر لأتباعه الأوفياء ودعا البعض منهم
للذهاب إلى سائر أنحاء المعمورة للمناداة بخبر الله المفرح: أي بالإنجيل الخلاصي.

 

 وكان
أحد رسل المسيح بولس الذي اؤتمن على الدعوة المسيحية في سائر أنحاء العالم
المتوسّطيّ. وبعد أن نادى بالإنجيل في بلاد عديدة تكللّت جهوده بالنجاح فتأسست
كنائس مسيحية في مدن عديدة. وكان من عاداته أن يوجّه رسائل خاصة إلى جماعات
الإيمان هذه لتفسير الإنجيل وتطبيقه في معترك الحياة اليومية. ومن هذه الرسائل
التي كتبها بولس كانت رسالته إلى جماعة الإيمان في أفسس. كانت هذه المدينة من أكبر
مدن آسيا الصغرى في القرن الأول الميلادي. يحثّ الرسول سائر المؤمنين والمؤمنات
بأن يترجموا خلاصهم إلى حياة متجانسة ومتلائمة مع الإيمان بالمخلّص يسوع المسيح.

 

 كتب
الرسول قائلاً: فأقول هذا وأناشدكم في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك الأمم
أيضاً ببطل أذهانكم. إذ قد أظلم فكرهم وتغرّبوا عن حياة الله من أجل الجهل الذي
فيهم بسبب قساوة قلوبهم.

 

 كانت
كلمات الرسول هذه مهمة للغاية لأن الخالصين في مدينة أفسس ظلوا يعيشون ضمن مجتمعهم
الوثني. لم يطلب الرسول منهم بأن يعتزلوا الحياة الاجتماعية ولا أن يتنسّكوا. لكنه
كان من واجبهم بألا يسلكوا كما كان يسلك الأمم وهذه العبارة كانت تشير إلى عابدي
الأوثان. كان معتقد الخالصين متمركزاً في المسيح يسوع ولذلك كانوا يعرفون في سائر
أنحاء العالم المتوسّطي بمسيحيين. وحثّهم الرسول بألا يعيشوا على طراز أهل الأمم.
ليس المؤمن كالمتعبّد للأصنام الذي أظلم فكره والذي يعيش حياة متغرّبة عن حياة
الله والذي صار قلبه قاسياً وغير قادر على العيش كما يتطلب منه كمخلوق عاقل.
واستطرد الرسول متكلّماً عن التفسّخ الأخلاقي الذي كان متفشّياً في حياة عابدي
الأوثان في أفسس:

 

 وقد
فقدوا الحس وأسلموا نفوسهم للدعارة لارتكاب كل نجاسة في نهم.

 

 ولا
تقتصر هذه الكلمات على وصف هؤلاء الذين عاشوا قبل نحو ألفي سنة من أيامنا فحسب, بل
أن الكثيرين من الناس الذين وقعوا فريسة الإلحاد المعاصر والذين لم يعودوا يعترفون
بمطاليب شريعة الله يظهرون فقدانهم للحس الإنساني وهم يتفنّنون في ارتكاب الخطايا
الجنسية بنهم وشراسة. حضارة الأيام الأخيرة من القرن العشرين صارت منغمسة في
الدعارة وارتكاب المحرّمات وكأن الله لم يعد موجوداً وكان الإنسان لا يحصد ما يزرعه
من شرور وآثام!

 

 وبعكس
الطراز الحياتي الذي يحياه عبّاد الأوثان, كان من واجب المؤمنين والمؤمنات بالمسيح
المخلّص أن يعيشوا حياة جديدة مظهرين في كل يوم بل وفي كل ساعة من حياتهم الإنسان
الجديد الذي جاء إلى حيّز الوجود عندما اختبروا الخلاص والانعتاق من الخطية. قال
الرسول بهذا الصدد:

 

 وأما
أنتم, كما أن الحق هو في يسوع, فلم تتعلّموا المسيح هكذا إن كنتم قد سمعتموه
وتعلّمتم فيه, أي أن تنـزعوا عنكم المتّصل بتصرّفكم السابق, الإنسان العتيق الفاسد
بشهوات الغرور, وأن تتجدّدوا بروح ذهنكم وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق على مثال
الله في البرّ وقداسة الحقّ.

 

 ليس
الإيمان الخلاصي, حسب تعليم الرسول بولس مجرّد معتقد ذهني يقر به الإنسان. الإيمان
هو الاتكال التام على المسيح المخلّص واختبار خلاص واقعي ليس هو أقل من لبس إنسان
جديد أو متجدّد, مخلوق على مثال الله في البرّ وقداسة الحق.

 

 ولم
يكتف بولس بالكلام عن موضوعنا هذا بصورة مبدئية بل انتقل إلى التفاصيل التي تظهر
لنا أهمية العيش بكل تجانس مع المشيئة الإلهية. وقد لخّصت لنا في وصايا الله العشر
التي أعطاها لعبده وكليمه موسى على جبل سيناء. وقد انتقى الرسول من بعض هذه
الوصايا وأشار إلى أهمية الابتعاد عن كسرها في علاقات المؤمنين والمؤمنات ضمن جسد
الكنيسة وكذلك في المجتمع البشري الأوسع فقال:

 

 فانـزعوا
عنكم إذن الكذب, وتكلّموا كل واحد مع قريبه بالصدق, لأننا أعضاء بعضنا لبعض.
اغضبوا ولا تخطئوا! لا تغرب الشمس على غيظكم ولا تعطوا إبليس مكاناً. لا يسرق
السارق فيما بعدو بل بالحري ليكدّ عاملاً بيديه ما هو صالح ليكون له ما يعطي من هو
في حاجة. لا تخرج من أفواهكم كلمة شريرة بل ما هو صالح للبنيان حسب الحاجة كي يعطي
السامعين نعمة.

 

 نتعلّم
من هذه الكلمات الرسولية بأن المؤمن هو بحاجة ماسة إلى هذه الكلمات التي تحثّ كل
خالص وخالصة بألا يهملا تطبيق الإيمان في معترك الحياة اليومية. ومع أن الكمال في
هذه الدنيا مستحيل إلا أن هذا لا يعني أن المؤمن بالمسيح المخلّص يعود إلى حياته
القديمة. ليس الإيمان بمجرّد موضوع عقلّي بحت. الإيمان الذي لا تظهر ثماره الجيدة
في حياة متلائمة مع المعتقد الصحيح, هكذا إيمان هو زائف لا قيمة له.

 

 وهكذا
يجدر بالمؤمن أن يبتعد عن الكذب ولا يتكلم إلا بالصدق لأن منبع الكذب هو الشيطان,
فلما الإقتداء بعدو الله والإنسان؟ وإذا اضطر المؤمن بأن يغضب نظراً لما يشاهده من
أمور متناقضة مع شرائع الله, لا يجوز له أن يسترسل في حالة الغضب. فمن سمح للغضب
بأن يسيطر عليه يقع في نهاية المطاف في فخ إبليس.

 

 وكذلك
يجدر بمن كان رسولاً ويعمد للسرقة لكسب حاجاته اليومية بأن يرعوي عن غيّه ويعلم
بأن الله يسرّ بمن يكسب معيشته بعمل يديه. على كل إنسان أن يكدّ ويتعب في عمله
ليكون قادراً على مساعدة الفقراء والمحتاجين والمتضررين والمهجّرين.

 

 وهناك
أيضاً الخطايا التي تصدر عن فم الإنسان. من كان مؤمناً بالمسيح لا يسمح لأيّ كلام
شرير بأن يخرج من فمه بل يستعمل هبة الكلام لتسبيح الله وتمجيده ولبنيان أقرانه
بني البشر في الإيمان القويم.

 

 ولم
يكتف بولس بالكلام عن تكييف الحياة بمقتضى وصايا الله التي تنظّم الحياة
الاجتماعية بل لفت نظر المؤمنين والمؤمنات إلى أنهم وقد آمنوا بالمسيح يسوع صاروا
يعيشون في علاقة حميمة مع روح الله القدوس. فمسيرتهم الحياتية تعني السير يومياً
في شركة مقدّسة مع روح الله القدوس الذي يضمن سلامتهم الزمنية إلى ذلك اليوم
العظيم, يوم عودة المسيح إلى العالم واختبار اكتمال الخلاص في حياتهم. قال الرسول
عن هذا الموضوع:

 

 ولا
تحزنوا روح الله القدوس الذي ختمتم به ليوم الفداء.

 

 يحيا
المؤمن في شركة مقدّسة مع روح الله القدّوس وهذا يعني أنه حالما يخطو خارج النطاق
الذي رسمه له روح الله فإنه لا يكون قد أخطأ ضد شريعة الله فقط بل يكون قد أحزن
الروح القدس. هناك إذن علاقة شخصية حيوية بين المؤمن وروح الله. وبناء على هذا
الأمر الواقع اختتم الرسول بولس هذا القسم من رسالته قائلاً:

 

 لينـزع
من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصخب وتجديف مع كل خبث, وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض,
شفوقين, متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح.

 

 خلاصة
القول: من آمن بالمسيح صار إنساناً جديداً وأضحى عائشاً في حضرة الله في جميع أمور
وأحوال حياته. ألبون شاسع بين حياته السابقة التي كانت معاشة في الظلام وحياته
الجديدة التي هي نور الله وتحت قيادة روحه القدوس, آمين.

 

استيقظ
أيها النائم!

 إذا
ما تأملنا في مشكلات اليوم وتساءلنا عن كيفية معالجتها معالجة سليمة لا بد لنا قبل
كل شيء من ذكر بعضها لنكون على بيّنة منها. نبدأ بالكلام عن موضوع الانفجار
السكاني. وقد يقول قائل: هل يشكل هذا مشكلة وأرضنا مأهولة بالناس منذ فجر التاريخ؟
والجواب هو أن أرضنا هذه لم تكن مكتظة بالناس مثلما وصلت إليه في السنين الأخيرة
من القرن العشرين. فمنذ فجر التاريخ حتى أوائل هذا القرن لم يزد عدد سكان الأرض
على أكثر من مليار نسمة. أما الآن ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين صار عدد
سكان الأرض يزيد على خمسة مليارات نسمة. أين وكيف نجد المسكن والغذاء والدواء
والتعليم والعمل لجميع أفراد البشرية؟

 

 زد
على مشكلة تكاثر السكان مشكلة قلة الموارد الطبيعية والتصحّر أي انتشار الصحاري في
أماكن عديدة من العالم وقلة الموارد المائية والتلّوث وارتفاع درجة الحرارة بشكل
مضطرد وحدوث فجوة في طبقة الأوزون المحيطة بالكرة الأرضية وهذه الطبقة تقي البشرية
من أخطار الأشعة فوق البنفسجية الآتية من الشمس والتي قد تحدث سرطان البشرة. ما
أكثر مشكلات العصر الحاضر وما أشدّها تعقيداً!

 

 ويمكننا
الكلام عن تكاثر الأمراض المستعصية كالسرطان وأمراض القلب والوباء الحديث المعروف
بالإيدز أو السيدا أي انعدام المناعة المكتسب والذي يحل بالعديدين من الناس الذين
يتعاطون المخدرات أو الذين ينغمسون في اقتراف الخطايا الجنسية. وهذا الوباء الجديد
الذي لم يكن معروفاً في الماضي صار يهدّد جميع أنحاء العالم وهو ينتشر بسرعة كبيرة
لم يعرف لها مثيل في تاريخ البشرية.

 

 مشكلات
عالمنا متكاثرة ومتزايدة والحلول التي تعرض علينا ليست بشافية وحالة أيامنا تزداد
من سيء إلى أسوأ. ما العمل؟ إلى أين نلتجئ؟ إلى من نذهب؟

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس د ديمونة 1

 

 يكمن
الجواب في رجوعنا إلى الله وإطاعة وصاياه التي سنّها لنا لتمكّننا من السير على
الطريق المستقيم, طريق الصلاح والفلاح. وقد بحث في هذا الموضوع الهام بولس الرسول
في رسالته إلى أهل الإيمان في أفسس. وفي القسم الأول من الفصل الخامس من هذه
الرسالة تكلّم الرسول عن أمور أخلاقية هامة:

 

 فكونوا
إذن متمثّلين بالله كأبناء أحباء. واسلكوا في المحبّة كما أحبنا المسيح أيضاً
وأسلم نفسه لأجلنا تقدمة وذبيحة لله, رائحة طيّبة.

 

 بنى
الرسول أخلاقيات المؤمنين على أساس عقائدي متين ألا وهو الإقتداء بالله في
معاملاته معنا نحن بني البشر. وعلينا أن نذكر نحن الذين آمنا بالمسيح يسوع أننا قد
افتدينا بدمه الزكيّ ومنحنا الصلاحية بأن ندعى أبناء لله. فمن اختبر الخلاص ينظر
إلى سيرة المسيح التي كان طابعها الأساسي المحبة. ظهرت محبة المسيح على أوجها عندما
قدّم نفسه تقدمة وذبيحة للتكفير عن خطايانا.

 

 كان
الزنى منتشراً إلى هكذا درجة في الأوساط الوثنية في أفسس وفي سائر العالم المتوسطي
في القرن الأول من الميلاد, حتى كان الناس, من مثقّفين وأميّين, منغمسين في تلك
الخطية. ولم يعودوا يفقهون أن الزنى هو من أشنع الخطايا وأنه كان على كل مؤمن
ومؤمنة بأن يبتعدا عن الزنى وكأنه الوباء الروحي المميت. ويجدر بنا أن نذكر أن
عالمنا اليوم ليس بأحسن حال من عالم القرن الأول وأن الخطايا الجنسية المتعددة
أصبحت ترتكب من قبل العديدين من الرجال والنساء والشباب والشابات بدون خجل أو وجل.
لكن الله لا يشمخ عليه وها إن الأمراض الجنسية العديدة القديمة منها والحديثة,
صارت تفتك بالناس وكأنها الطاعون. ولكن هل يرعوي الناس من غيّهم؟ كلا. يقول
العديدون من قادة الفكر للجيل الطالع أن ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج هو أمر
طبيعيّ واعتيادي كالأكل والشرب وممارسة الرياضة. وفي بعض اللغات الأجنبية لا
يتكلّمون عن خطية الزنى بل ابتدعوا مفردات جديدة بخصوص كاسري الشريعة الإلهية في
هذا المضمار وصاروا يقولون عن مرتكبي الزنى بأنهم عاملون أو منشغلون جنسياً! لكن
تغيير وتحوير المفردات لا يقلّل من فداحة هذه الخطية ولا من عواقبها الوخيمة.

 

 لا
يقبل الله هكذا أعذار واهية بل يحذّرنا بواسطة هذه الكلمات الرسولية قائلاً:

 

 وأما
الزنى وكل نجاسة أو طمع, فلا يذكرنّ اسمها فيما بينكم, كما يجدر بالقدّيسين, وكذلك
القباحة والكلام السخيف والسخرية, مما لا يليق, بل بالحري الشكر. فإنكم تعلمون هذا
يقيناً: أنّ كل زان أو نجس أو طمّاع- وهو عابد وثن- ليس له ميراث في ملكوت المسيح
والله. لا يغرّنّكم أحد بكلام باطل, فإنه من أجل هذه الأمور يحلّ غضب الله على
أبناء المعصية. فلا تكونوا إذن شركاءهم. فإنكم كنتم مرّة ظلمة, أما الآن فأنتم نور
في الرب, فاسلكوا كأبناء نور. فإن ثمر النور هو في صلاح وبرّ وحقّ. فاختبروا ما هو
مرضيّ لدى الرب. لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحريّ اكشفوها, فإنه
تقبح أيضاً ذكر الأمور التي يفعلونها سرّاً. ولكن كل ما يكشف يظهر بالنور يصبح
واضحاً لأن كل ما يتّضح فهو نور. لذلك يقال: استيقظ أيّها النائم وقم من بين
الأموات, فيضيء لك المسيح!

 

 حل
مشكلاتنا الأخلاقية لا يكمن مثلاً في إعطاء تعليمات للجيل الطالع عن تفادي الوقوع
في الأوبئة التي تصاحب الكثير من الخطايا الجنسية, بل في التحرّر من براثنها
بمعونة الله وبقوة المسيح الفدائية. يعيش الناس في ظلمة روحية دامسة وهم لا يدرون
بها ويظنون أن الظلام الذي يكتنفهم هو أمر طبيعي. لكن الله من فرط محبتّه لنا نحن
البشر ينادي كلاً منا قائلاً: استيقظ أيها النائم وقم من بين الأموات, فيضيء لك
المسيح!

 

 وكان
الرسول بولس عالماً كل العلم بأنّ الذين آمنوا بالمسيح واختبروا الخلاص في أفسس
وغيرها من مدن العالم المتوسّطي, ظلّوا يعيشون في بيئتهم التي كانت بيئة متعبّدة
للأوثان. ولذلك ناشدهم مراراً وتكراراً ليعيشوا كأبناء النور. ونلاحظ أن أسلوبه
التعليمي كان يحتوي على كلمات سلبية تحذيرية وفي نفس الوقت كان الرسول يذكر أموراً
إيجابية تشجيعية. فكتب قائلاً:

 

 انظروا
بتدقيق إذن كيف تسلكون لا كجهلاء بل كحكماء, منتهزين الفرصة لأن الأيام شريرة.
لذلك لا تكونوا أغبياء بل افهموا ما هي مشيئة الرب. ولا تسكروا بالخمر التي فيها
الخلاعة, بل امتلئوا بالروح, مكلّمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأناشيد روحية,
مترنّمين ومرتّلين بقلوبكم للربّ. شاكرين الله الآب كل حين على كل شيء باسم ربّنا
يسوع المسيح.

 

 ومن
الجدير بنا أن نتعلّم من كلمات بولس هذه أن الخلاص الذي نادى به سائر أنحاء بلاد
المتوسط والذي اختبره العديدون من معاصريه كان لا بدّ له من أن يطبّق في الحياة
اليومية المعاشة. وهكذا أفهم المؤمنين والمؤمنات أن الرجوع إلى الحياة القديمة كان
يتعارض بشكل تام مع حالتهم الجديدة أي مع كونهم خالصين. ونظراً لكثرة الشرور
والآثام المنتشرة في المحيط الوثني المتفسّخ كان من واجب الذين آمنوا بالمسيح يسوع
المخلّص أن يسلكوا في الدنيا كحكماء لا كجهلاء. وهذا يعني أن أعداء الله والمسيح
كانوا يحاولون بأن يوقعوا حديثي الإيمان في الخطايا الجنسية, طالين إياها بطلاء
يخفي شرّها وقباحتها. وبما أن عبّاد الأوثان كانوا يسكرون قبل انغماسهم في ارتكاب
المحرّمات, ناشد الرسول أهل الإيمان بألا يسكروا بالخمر.

 

 ولم
يشأ الرسول بأن تكون مجمل تعليماته مصبوغة بصبغة سلبية ولذلك طلب من المؤمنين
والمؤمنات بأن يمتلئوا بالروح أي بالروح القدس. وهذا يعني أن يخضعوا لتعاليم
ولقيادة الروح للصمود في وجه التجارب القويّة التي كانت تكتنفهم. ولم تكن هذه
التعليمات موجّهة إلى المؤمنين كمجرد أفراد منعزلين عن بعضهم البعض, بل كان عليهم
أن يساهموا في تقوية إيمانهم المشترك ضمن أخوية المعتقد المسيحي وذلك بالترنم
والتسبيح لمجد الله خالقهم وفاديهم ومحييهم إن كان ذلك في بيوتهم أو في أمكنة العبادة
التي كانت تجري في أول يوم من كل أسبوع.

 

 ذكرنا
في بادئ بحثنا هذا موضوع تكاثر مشكلات العالم وصعوبة حلّها وذلك فيما إذا اتكلنا
على حكمتنا البشرية المحدودة. ولكننا إذا ما التجأنا إلى الله القدير وعملنا
بكلمته وقبلنا خلاصه العظيم الذي أتمه لنا في شخص المسيح, نكون آنئذ قد ابتدأنا في
مسيرتنا على الطريق المستقيم المؤدي إلى حل معضلاتنا الحياتية.

 

 وخلاصة
القول إن الخلاص الذي أتمه لنا يسوع المسيح عندما مات عنا على خشبة الصليب وقام
منتصراً في اليوم الثالث, ليس عبارة عن موضوع كلامي بحت, بل إنه واقع حياتي يترجم
إلى سيرة متلائمة مع المشيئة الإلهية. ساعدنا الله جميعاً لنكي لا نكتفي فقط
بقراءة كلمته المقدّسة بل نكون من العاملين بها لخلاص نفوسنا.

 

العلاقات
الاجتماعية في ضوء الإنجيل

 من
أهم الأمور التي تجابهها البشرية اليوم هو موضوع العلاقات الاجتماعية. فمع أننا
كثيراً ما ننشغل في موضوع العلاقات بين الأمم والشعوب والبلدان وفي أمور الحرب
والسلام, إلا أنه لا يمكننا أن نتجاهل موضوع العلاقات الاجتماعية في المجتمع
البشري الواحد. نبدأ بالأسرة البشرية التي تشكّل الخلية الأساسية في المجتمع.
نلاحظ في هذا الصدد أن ضغوطاً قوية جداً برزت في أيامنا هذه وهي تؤثر بصورة كبيرة
على حياة العائلة في كل مكان. فنحن لا نعيش بمعزل عن العالم الكبير الذي يحيط بنا
فطرق المواصلات والاتصال العصرية قد ألغت المسافات التي كانت تفصل بين الناس وصار
عالمنا وكأنه مدينة كبيرة هائلة الحجم. لقد كثرت الشرور التي تهاجم صرح العائلة
ولم تعد حياة الأسرة بسيطة كما كانت في الماضي, بل صارت معقّدة لدرجة كبيرة. وهذا
بدوره أدّى إلى بروز مشاكل مستعصية لم نجابهها في الماضي.

 

 كيف
نسيّر أمور العائلة البشرية في السنين الأخيرة من القرن العشرين؟ وعلى أي أساس؟ هل
نأخذ بآراء البشر أم ننصاع إلى كلمة الله؟ وكم علينا أن نشكر الله لأنه لم يتركنا
على شأننا بل أعطانا تعليمات هامة في كتابه المقدس لتنظيم حياتنا الاجتماعية.
وهكذا نقرأ عن علاقة الزوج بزوجته والوالدين بأولادهم والأسياد بمخدوميهم. ومن
المهم جداً أن نتذكر أن الرسول بولس بنى جميع هذه التعليمات على أساس عقائدي متين
ألا وهو شخص السيد المسيح وعمله الفدائي والخلاصي الذي أتمّه لصالح البشرية على
الصليب. لم يعترف الرسول بأي نظام أخلاقي منفصل عن العقيدة الصحيحة النابعة من
الوحي الإلهي.

 

 ابتدأ
بولس كلامه قائلاً:

كونوا
خاضعين بعضكم لبعض في مخافة المسيح. أيتها النساء, اخضعن لرجالكنّ كما للرب. لأن
الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً هو رأس الكنيسة وهو مخلّص الجسد. ولكن
كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك تخضع النساء أيضاً لرجالهنّ في كل شيء. أيها الرجال,
أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها, ليقدّسها وقد
طهّرها بغسل الماء بالكلمة, ليقدّم الكنيسة لنفسه, مجيدة لا دنس فيها ولا غضن
ولاشيء من مثل ذلك بل لكي تكون مقدّسة ولا عيب فيها. فكذلك يجب على الرجال أن
يحبّوا نساءهم كأجسادهم. من يحبّ إمرأته يحبّ نفسه. فإنه لم يبغض أحد جسده قط, بل
يغذّيه ويعزّه, كما يعامل المسيح أيضاً الكنيسة, لأننا أعضاء جسده (من لحمه ومن
عظامه), من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم إمرأته, ويصير الاثنان جسداً
واحداً. إن هذا السرّ عظيم ولكنني أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة. وأما
أنتم الأفراد, فليحبّ كل واحد منكم إمرأته كنفسه, وأما المرأة فلتحترم رجلها.

 

 المبدأ
الأساسي الذي ذكره الرسول في مقدمة كلامه عن العلاقات الاجتماعية هو الخضوع
المتبادل في مخافة المسيح. وهذا بعكس ما يجري في العالم حيث نلاحظ أن الناس يسيرون
على مبدأ التسلّط والهيمنة على الآخرين. يخضع المؤمنون لبعضهم البعض في مخافة
المسيح أي في احترامهم الكلّي لمن افتداهم بدمه الزكي الذي سفك على الصليب. لم
يخلّصنا المسيح من براثن الشر والمعصية لنتحكّم بالناس ونسود عليهم ونستعبدهم.
نظهر مخافتنا واحترامنا للمسيح في علاقاتنا الاجتماعية أي في معترك الحياة
اليومية.

 

 لا
يعني هذا المبدأ الأساسي أن المسيح لم يترك لنا نظاماً معيناً وترتيباً منطقياً
لتسيير أمور حياتنا الاجتماعية. وهكذا لخّص الرسول واجب المرأة تجاه رجلها
بكلمتين: الخضوع والاحترام, وواجب الرجل تجاه زوجته بكلمة المحبّة.

 

 التعليم
الأساسي هو أن الله هو الذي وضع هذا الترتيب منذ فجر الخليقة أي أن يكون الرجل رأس
المرأة. لا يعني هذا أن الرجل يعمل ما يشاء أو كما يحلو له في علاقاته الزوجية بل
رئاسته مبنية على تنظيم إلهي المصدر. وعلاوة على النظام الوارد في خليقة الإنسان
جاء الرسول بمثال آخر لواجب خضوع أو إطاعة المرأة لزوجها: أيتها النساء, اخضعن
لرجالكنّ كما للرب, لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً هو رأس الكنيسة.

 

 وما
هو الترتيب الإلهي بخصوص موقف الرجل من زوجته؟ فإن كان ينتظر من المرأة أن تخضع
لزوجها, فما هي الصفة الأساسية التي يتّزن بها الرجل المختبر للخلاص الذي أتمّه
المسيح؟ جواب الرسول هو: أيها الرجال, أحبّوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة
وأسلم نفسه لأجلها. يا له من أمر عظيم! فكما أحب المسيح الكنيسة أي جماعة الإيمان
في كل زمان ومكان محبّة لا حدود لها, محبّة وصلت إلى ذروتها عندما مات عن الكنيسة
موتاً كفّاريّاً ونيابيّاً, هكذا ينتظر من الرجل أن يحبّ زوجته محبّة لا حدود لها
وأن يكون مستعدّاً- فيما إذا اقتضى الأمر- أن يموت عنها.

 

 أليس
من الطبيعي للرجل بأن يحبّ إمرأته كما يحبّ نفسه؟ ألا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم
إمرأته ويصيران جسداً واحداً ويكونان عائلة واحدة؟ وخلاصة الأمر أنه كما يعامل
المسيح كنيسته معاملة مبنية عل أساس المحبّة التامة هكذا على كل رجل أن يحبّ
إمرأته كنفسه وعلى المرأة أن تحترم زوجها. على هذا الأساس المتين والقويم توضع
دعائم المجتمع البشري السليم.

 

 وعندما
يبارك الله القدير زواج المؤمنين ويمنّ عليهم بالأولاد, ما هو أساس العلاقة بين
الوالدين وأولادهم؟ جواب الرسول بولس هو:

 

 أيها
الأولاد, أطيعوا والديكم في الرب, فإن هذا حقّ. "أكرم أباك وأمك" وهذه
هي أول وصيّة بالوعد, "لكي يكون لك خير ويطول عمرك على الأرض". وأنتم
أيها الآباء, لا تغيظوا أولادكم, بل ربّوهم في تأديب الرب وإنذاره.

 

 الطاعة
هي المبدأ الأساسي المنظّم لعلاقة الأولاد بوالديهم. ليس هذا من صنع البشر بل إنه
مبدأ وضعه الله في صلب الحياة البشرية ثم أعاد ذكره بطريقة هامة في الوصايا العشر
التي أعطاها لعبده وكليمه موسى النبي. فبينما نظمّت الوصايا الأربعة الأولى علاقة
المؤمن بربه وفاديه, جاءت الوصايا الستة الباقية لتنظيم العلاقات الاجتماعية.
وكانت أولاها: أكرم أباك وأمك والتي اقترنت بوعد إلهي هام: لكي يكون لك خير ويطول
عمرك على الأرض.

 

 أيها
الأولاد! يا من تقرأون هذه الكلمات, هل أنتم مطيعون لوالديكم أم هل تعصون على
أوامرهم وتعاليمهم؟ هل تظنون بأن بركة الرب ستكون من نصيبكم إن كنتم تضربون بوصية
الله عرض الحائط؟

 

 ولم
يكتف الرسول بالكلام عن موقف الأولاد من والديهم بل ناشد الوالدين بألا يغيظوا
أولادهم أي بألا يبطشوا بهم ويعاملوهم معاملة قاسية بل في تأديب الرب وإنذاره
بمعنى أن الوالدين يمثّلون الله ضمن عائلتهم وإن ما يطلبونه من أولادهم يجب أن
يكون مطابقاً للمشيئة الإلهية.

 

 وأخيراً
جاء الرسول إلى البحث في العلاقات التي كانت تسود الأسياد والذين كانوا يعملون لهم
في الحياة الاقتصادية. وهنا لا بد لنا من القول أن المحيط الذي كان يحيا فيه
الرسول كان يمارس نظام الرق أو العبودية. وهكذا واجه بولس الأمر الواقع وأعطى
تعليمات تنظّم الأمور بشكل عملي ولكن من منظور مبني على الوصيّة الإلهية.

 

 أيها
العبيد, أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة بقلوب مخلصة كما للمسيح, لا بخدمة
العين كمن يرضي الناس, بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب, خادمين بنيّة
صالحة كما للرب, ليس للناس. فأنتم تعلمون أن مهما عمل كل واحد من الخير اصنعوا لهم
هذا بعينه, تاركين التهديد, عالمين أن سيّدهم وسيّدكم هو في السماوات وليس عنده محاباة
وجوه.

 

 وكم
علينا أن نشكر الله المحب والشفوق الذي وضع حداً لنظام الرق والعبودية في عالمنا
هذا. ولا تزال تعليمات الرسول التي وجّهت أولاً للأسياد والعبيد, لا تزال هامة إلى
يومنا هذا. فمن واجب المؤمنين والذين يعملون لآخرين كمستخدمين أن يقوموا بتأدية أعمالهم
ليس وكأنهم يعملون لبني البشر فحسب, بل كعبيد للمسيح وكخدام له. يطلب الآخرون من
القطاع الخاص أو العام أن يؤدّي وظيفته بأمانة وإخلاص وألا يمتنع عن اختلاس
الأموال فحسب بل عن تبذير وقته أثناء العمل أيضاً. فمن استهان تأدية وظيفته يكون
مختلساً وسارقاً وإن لم يخفِ مالاً في جيبه!

 

 وكم
كانت هناك واجبات متبادلة بين الوالدين وأولادهم هكذا أيضاً ينتظر من المستخدمين
بأن يعملوا بجد ونشاط وكأنهم عاملون للمسيح. ويجدر بالأسياد وأرباب العمل بأن
يعاملوا مستخدميهم بكل عدل ولطف وأن يدفعوا أجوراً عادلة عالمين أن سيّد الأسياد
والمستخدمين هو واحد في السماوات وليس عنده محاباة وجوه. ساعدنا الله للسير على
الطريق الذي رسمه لنا بخصوص العلاقات الاجتماعية لنتغلّب على الكثير من مشكلات
عالمنا.

 

البسوا
سلاح الله الكامل

 بحثنا
في السابق عن المشكلات والمصاعب التي تكتنف حياتنا في السنين الأخيرة من القرن
العشرين. ذكرنا مثلاً قلة الموارد الطبيعية والانفجار السكاني والتصحّر والأوبئة
الحديثة التي ظهرت في بقاع مختلفة من العالم. وأتينا أيضاً على ذكر موضوع الحرب
والسلام والاضطهادات التي وقعت بالعديدين من أقراننا بني البشر الذين شرّدوا
وأبعدوا عن ديارهم فصاروا غرباء في شتى أنحاء العالم. ولم نقم بذلك لنشر اليأس
والوجوم في أفئدة الناس بل لرغبتنا في التشديد على موضوع العودة إلى طرق الله
والسير عليها. فما تجابهه البشرية من تحدّيات صار ذات أبعاد هائلة لا يمكن لأي
مجرّد بشريّ بأن يحلّها. يأتي حلّ مشكلاتنا من الله القدير.

 

 وما
نأتي على ذكر الله وعلاقته بدنياه هذه حتى نجابه وجهاً آخر للمعضلة. هناك عامل آخر
لا بد لنا من ذكره ألا وهو الشيطان وأعوانه الأبالسة. فوراء الكثير من المآسي
والفواجع التي حلّت بالبشرية هو الشيطان الذي ينشر تعاليمه الهدّامة في عقول وقلوب
العديدين من بني البشر والذي يصوّر لهم عالماً بدون الله, عالماً من صنع أفكاره
السوداء.

 

 وقد
ينبري البعض قائلين: ما بالك تعالج المشكلات العالمية العديدة من منظور غيبي؟ أتظن
أننا نعيش في القرون الوسطى؟ ولم الكلام عن أمور الدنيا وإدخال مواضيع ما فوق
الطبيعة في إطار بحثنا؟

 

 جوابي
على هكذا اعتراضات هو أنني مؤمن بوحي الله الذي ينبئني بأنه علاوة على وجود الله
والإنسان هناك كائنات عاقلة أي ملائكة. الإيمان بوجود الملائكة لا يعني أنني أضحيت
لا منطقياً أو رجعياً. فكما أن الله خلق الإنسان هكذا خلق أيضاً الملائكة. ينبئنا
الوحي الإلهي بأن الملائكة لم تبق على حالتها الأولى من قداسة وطهارة بل إن البعض
منهم ثاروا على الله وعصوا على أوامره فأصبحوا أعداء لله وللبشر. يدعو الوحي
الملائكة الساقطين في الخطية بالشياطين أحياناً وبالأبالسة أحياناً أخرى. وهكذا إن
رغبنا في معالجة أمور دنيانا هذه وكيفية المعيشة بطريقة ترضي الله بارينا, لا بد
لنا من أخذ موضوع الشيطان وأعوانه بعين الاعتبار.

 

 وهذه
المقدّمة لهامة جداً ونحن قد وصلنا إلى القسم النهائي من رسالة بولس الرسول إلى
أهل الإيمان في أفسس. فبعد أن كان الرسول قد علّمنا عن محبة الله لنا في المسيح
يسوع حتى قبل إنشاء العالم وعن افتدائنا بدم المخلّص الزكي, ذهب للكلام عن أمور
عملية. وكان أسلوب الرسول أن يبدأ بالكلام عن المعتقد الصحيح ومن ثم وجوب تطبيقه
في معترك الحياة اليومية. وعندما وصل الرسول بولس إلى خاتمة الرسالة وجّه أنظار
المؤمنين إلى وجوب التسلّح بسلاح الله الكامل للوصول إلى الهدف المنشود. من ابتدأ
مسيرته الإيمانية بعون الله عليه أن يتابع مسيرته هذه, لا بفضل قوّته الذاتية التي
لا وجود حقيقي لها, بل بقوّة الله. هذا لا يعني أن الله يمنح خائفيه الذين افتداهم
قوّة شبه سحرية أو أوتوماتيكية تجعلهم منتصرين في نضالهم الروحي. يصف لنا الرسول
الأسلحة الروحية التي يجب أن نتسلّح بها لنتمكّن من المثابرة على مسيرة الإيمان.
هذه هي كلمات الرسول التي أنهى بها رسالته إلى جماعة الإيمان في أفسس وهي موجهة
إلينا أيضاً في هذه الأيام العصيبة.

 

 أخيراً
أيها الأخوة, تقوّوا في الرب وفي اقتدار قوّته. البسوا سلاح الله الكامل لتقدروا
أن تثبتوا في وجه مكايد إبليس. فإننا لا نصارع دماً ولحماً بل الرئاسات, السلطات,
حكام عالم هذه الظلمة, قوات الشرّ الروحيّة في علياء السماوات. فلذلك احملوا سلاح
الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرّير, وتثبتوا بعدما تتمّمون كل
شيء.

 

 لفت
الرسول أنظار المؤمنين إلى وجوب الاعتراف بالأمر الواقع ألا وهو أنه من المستحيل
التغلّب على عدوّنا الروحي اللدود بقوانا الذاتية. تأتي القوّة اللازمة للظفر على
الشيطان من الله ومنه فقط. ومن أنكر الله أو تجاهله في معالجة مشكلات العالم
المعاصر حكم على نفسه بالفشل مهما ظنّ بأنّ برنامجه ناجح.

 

 انتقل
الرسول إلى الكلام عن وجوب التسلّح بما سماه بسلاح الله الكامل. وهذا يعني أن الله
الذي عمل لنا خلاصاً جباراً بواسطة المسيح يسوع, شاء أيضاً بأن يضع تحت تصرّفنا
إمكانات ووسائط تساعدنا على ترجمة إيماننا إلى حياة ظافرة. دعا بولس هذه الوسائط
أو الإمكانات بسلاح الله الكامل. أفهمنا الرسول بأن السلاح هو من الله لا من
الإنسان وأنه يجب التسلّح بكل هذا السلاح. ليست مجابهتنا مع بني البشر بل حربنا هي
مع إبليس ومكايده كثيرة ومتنوّعة. وليس هو بملاك ساقط وحيد بل له أعوان أي أبالسة
آخرون أو شياطين دعاهم بولس بحسب مرتباتهم الرئاسات, السلطات, حكام عالم الظلمة,
هؤلاء هم أعداؤنا. وإن لم نتسلح بسلاح الله الكامل منينا بالفشل الذريع. ونظراً
لأهمية هذا الموضوع المبدئي أعاد الرسول ذكره قائلاً: فلذلك, احملوا سلاح الله
الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير, وتثبتوا بعدما تتمّمون كل شيء. لا
يكفي لمن ابتدأ بخوض معركة روحية بأن يقاوم العدوّ لمدة ما بل عليه الثبات في
مقاومته والتغلّب على من كان قد هاجمه.

 

 نعود
إلى تعليمات الرسول. أولاً علينا أن نستمد قوّتنا من الله القدير. ثانياً علينا أن
نفقه بأن حربنا هي روحية وأن عدوّنا هو إبليس. ثالثاً, ما أن نأخذ هذه الأمور بعين
الاعتبار حتى نرى أن الخطوة الثالثة تتطلّب التسلّح بسلاح الله الكامل. وهنا قد
نتساءل قائلين: ما هو سلاح الله الكامل؟ ونلاحظ من جواب الرسول أنه يتكلّم مجازياً
آخذاً مثله من الحياة العسكرية التي كان يحياها الجندي الروماني في القرن الأول من
الميلاد.

 

 فاثبتوا
إذن ممنطقين أحقّاءكم بالحق, ولابسين درع البرّ, وحاذين أقدامكم باستعداد إنجيل
السلام, حاملين علاوة على هذه كلّها ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع
سهام الشرير الملتهبة. واتخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله, مصلّين
بكل صلاة ودعاء كل حين, في الروح, وساهرين لهذا, بكل مواظبة ودعاء لأجل جميع
القدّيسين, ولأجلي أنا أيضاً, لكي أعطي كلاماً عند افتتاح فمي, لأعرّف بجرأة سرّ
الإنجيل, الذي من أجله أنا سفير في سلاسل, لكي أنادي به بجرأة, كما يجب أن أتكلّم.

 

 يتألّف
سلاح الله الكامل, حسب تعاليم الرسول, ممّا يلي:

 1:
منطقة الحق

 2:
درع البرّ

 3:
حذاء إنجيل السلام

 4:
ترس الإيمان

 5:
خوذة الخلاص

 6:
سيف الروح الذي هو كلمة الله

 7:
الصلاة والدعاء

 

 لا
يتّسع لنا الوقت للكلام بإسهاب عن هذه المواضيع السبعة بل نكتفي بالقول أن المؤمن
المحارب للشيطان يقف وقفة جريئة على منصّة الحق الإلهي الذي أوحى به الله. نقطة
انطلاق المؤمن هي الحق. بينما نقطة انطلاق الشيطان هي الكذب. أما البرّ الذي شبّهه
الرسول بدرع الجندي, فهو تلك النعمة المجانية التي وهبها الله للمؤمن والتي تنبع
من عمل المسيح يسوع الفدائي الذي تمّ على الصليب. فمهما كان المؤمن ضعيفاً وبالرغم
من عدم كماله الروحي فإنه يقف بكل جرأة لابساً درع البرّ متأكداً من أن مصيره
النهائي باهر. ليس هناك من يستطيع أن ينـزع هذا الدرع من يد المؤمن. وكما كان
الجندي ينتعل حذاءه الخاص فإن حذاء المؤمن هو الخبر السار أي الإنجيل الذي يصالح
الإنسان مع الله باريه. وكثيراً ما يهاجم الشيطان الإنسان ويحاول زرع بذور الشك في
قلبه. شبّه الرسول هذا التكتيك الشيطاني بسهام الشرير الملتهبة. ولن يقدر المؤمن
أن يدرأ خطرها إن لم يلبس خوذة الخلاص ويستعمل بكل مهارة ترس الإيمان. فالإيمان
الذي يهبه روح الله القدوس هو إيمان ظافر يتغلّب على هجمات الشيطان مهما كانت
قوية. ما على المؤمن إلا وضع إيمانه موضع التنفيذ كما يلجأ الجندي المتمرّن إلى
استعمال خوذته وترسه.

 

 وبما
أن سلاح الجندي ليس بسلاح دفاعي محض هكذا أيضاً سلاح المؤمن. فبعد أن يكون قد
استعمل سائر الوسائط الدفاعية التي وضعها الله في متناوله, يلجأ إلى سلاح دفاعي
وهجومي ألا وهو سيف كلمة الله.

 

 ولئلا
يخال المؤمن بأنه متى قام بكل ما يتطلب منه واستعمل سلاح الله الكامل يكون النصر
حليفه بفضل مهارته, ذكّره الرسول بوجوب الاتكال على الله بصورة متواصلة وذلك برفع
أدعية وصلوات وابتهالات إلى القدير ليمّن على الجميع بنعمة الشهادة والمناداة
بجرأة بكلمة الإنجيل.

 

 وإذ
وصلنا في دراستنا إلى نهاية رسالة بولس الرسول إلى أهل الإيمان في أفسس نرفع
دعاءنا إلى الله لكي يكتبها على قلوبنا فتكون مسيرتنا الإيمانية مسيرة ظافرة,
آمين.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي