الإصحَاحُ
الثَّانِي

 

مجد
الرأس والجسد

في
نهاية الأصحاح الماضي, رأينا المسيح مَلكاً مُقاماً مرفوعاً, ممجداً, متسلطاً على
كل القوات الملائكية وغير الملائكية, في السماويات, مالئاً كنيسته بحياته وشخصه,
منفّذاً بها مشيئته, ومعلناً بواسطتها جلال مجد نعمته, ومالئاً كلّ الكون بجلال
حضرته, وسلطان قوته. فهو مركز الدائرة في الكون بأسره "حامل كل الأشياء بكلمة
قدرته". هو علة "كل ما هو حق, وجليل, وعادل, وطاهر, ومسر" في
الكون. هو حياة الكل وكل الحياة!

 

 على
أن رسول الأمم, لم يكتفي بتبيان المجد الذي ناله المسيح رأسنا ورئيسنا الأعلى, بل
أظهر أن المجد الذي تكلل به "الرأس" هو عين المجد الذي صار من نصيب
"الجسد"-والقياس مع الفارق. لأن الجسد يشاطر الرأس آلامه وآماله. وما
جسد المسيح إلا جماعة المؤمنين المفديين في كل أُُُمة, وفي كل جيل. فكما أُقيم
المسيحُ بعد أن مات عن الخطية, كذلك أقمنا نحن أيضاً معه بعد أن كنا أمواتاً
بالذنوب والخطايا, وكما أُُُُجلس المسيح على عرش المجد, كذلك أُُُجلسنا نحن أيضاً
معه في السماوات. فعمل شدة قوة الله الذي عمله في المسيح, قد عمله أيضاً, في
المؤمنين به من اليهود-وبولس الرسول واحد منهم-ومن الأمم, هؤلاء هم المعنيُّون
بقوله: "…وأنتم". هذه هي عظمة قدرة الله الفائقة التي يريدهم الرسول
أن يعرفوها (1: 19).

 

فلنستقبل
هذا الفصل الجديد بروح الخشوع والتعبد. لأن الرسول لم يكتب هذه الحقائق بقلم جاف,
كما لو كان محاضراً, بل كتبها بمحلول من ذوب قلبه, لأنه في كتابته كان متعبداً,
ومخبراً بحقائق جليلة سامية, تمس المؤمن في تاريخه الماضي, وحالته الحاضرة, وحياته
العتيدة.

 

 في
الأصحاح الأول تكلم الرسول عن دعوة الله العليا التي قصدها بالكنيسة, وعن الأمجاد
العلوية التي رُفع إليها رأس الكنيسة-فكان بذلك متكلماً عن عمل شدة قوة الله في
علوه. وفي هذا الأصحاح الثاني رغب الرسول إلى المؤمنين أن يلقوا نظرةً إلى
"النقرة" التي منها أخذوا, بل إلى المقبرة التي منها أُقيموا
ورفعوا-فكان بهذا متكلماً عن عمل شدة قوة الله في عمقه. لذا وجه الخطاب أولاً إلى
الأمم بقوله: "إذ كنتم أمواتاً". ولئلا يلتبس الأمر على الأمم فيظنوا
أنهم هم الموتى دون سواهم, أزال الرسول عنهم هذا اللبس, فقرر أن اليهود, بلا
استثناء-بما فيهم الرسول نفسه- يشاطرون الأمم هذا الماضي المظلم, فقال في بدء
العدد الثالث… نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا… وكنا بالطبيعة
أبناء الغضب كالباقين" -أي الأمم- "أيضاً". إن هذا الاستدراك شبيه
بذاك الذي مررنا به في العدد الثالث عشر من الأصحاح الأول. ولكنهما يختلفان في
هذا: في الأصحاح الأول تكلم الرسول عما نال اليهود من بركات في المسيح (1: 11).
ولئلا يظن الأمم أن اليهود هم وحدهم أصحاب هذه المزايا, أزاح عنهم هذا الظن بقوله:
"الذي فيه أنتم أيضاً" -أيها الأمم- "…إذ آمنتم ختمتم بروح
الموعد القدوس". لكنه في الأصحاح الثاني تكلم عن "المقبرة" المظلمة
التي أُقيم منها الأمم, ولئلا يتوهموا أن الرسول أراد أن يذكرهم دون سواهم بماضيهم
المظلم, أزال عنهم هذا الوهم بقوله في العدد الثالث: "الذين نحن أيضاً جميعاً
تصرفنا قبلاً بينهم" –أي لستم أنتم وحدكم أصحاب الماضي التعيس الغير المشرّف,
بل نحن أيضاً "كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين".

 

 ومن
الملاحظ أن الرسول – من فرط المعلنات المسلمة له – كثيراً ما عرّج في سياق كلامه
على بعض العبارات ليزيد المعنى إيضاحاً.

 

 وما
قصد بولس بتوجيه التفات الأمم واليهود معاً, إلى حالتهم الطبيعية الساقطة, إلا
ليرفع أنظارهم إلى أمجاد الحالة الراقية التي رفعتهم إليها النعمة الإلهية. فيحق
لنا أن نلقب هذا الفصل ب "معجزة النعمة" -أو "من الطبيعة إلى
النعمة"- أو "ما كنا عليه بالطبيعة, وما صرنا عليه بالنعمة" وعلة
العلل في هذا الفارق العظيم ما بين ماضينا ومستقبلنا – "الله"! (2: 4)
أما قصده في كل هذا, فهو إظهار "غنى نعمته الفائقة باللطف علينا في المسيح
يسوع" (2: 7). هذا ملتقى الأصحاح الأول, بالأصحاح الثاني من هذه الرسالة: في
العدد السادس من الأصحاح الأول, نجد القول: "لمدح مجد نعمته التي أنعم بها
علينا في المحبوب". وفي العدد السابع من الأصحاح الثاني, نجد القول:
"ليظهر غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع". وكل قول منهما
مواز للآخر ومكمل له, ومفسر.

 

 هذا
الأصحاح يماشي الأصحاح الأول من سفر التكوين –هذا يتكلم عن الخليقة الثانية وذاك
عن الخليقة الأولى.

 

معجزة
النعمة  (2: 1 –10)

أولاً:
ما كنا عليه بالطبيعة – 2: 1- 3

(1) ماضينا
–2: 1- الأمم وحدهم

(2) مسلكنا
–2: 2-3 (أ)- اليهود والأمم معاً

(3) استحقاقنا
الطبيعي –2: 3 (ب)- اليهود وحدهم

 

ثانياً:
ما صرنا إليه بالنعمة 2: 4- 10

(1) أساس
عمل إله النعمة –2: 4و 5 (ب)

-أ-غنى
رحمة الله- 2: 4 (أ)

-ب-عظمة
محبة الله- 2: 4 (ب)

-ج-مجانية
نعمة الله- 2: 5 (ب)

(2) ماهية
عمل إله النعمة- 2: 5 ( أ) "أحيانا"

(3) قوة
عمل إله النعمة 2: 6

 -أ-أقامنا-
2: 6 (أ)

-ب-أجلسنا-
2: 6 (ب)

(4) غرض
إله النعمة من عمل نعمته- 2: 7

-أ-وقت
إظهار غرضه- 2: 7 (أ)

-ب-حقيقة
غرضه- 2: 7 (ب)

(5) أسلوب
عمل إله النعمة- 2: 8- 10

-أ-علة
خلاصنا "النعمة" 2: 8 (أ)

-ب-وسيلة
خلاصنا "الإيمان" 2: 8 (ب)

-ج-غاية
خلاصنا-تمجيد الله وحده- 2: 9

-د-ثمر
خلاصنا-أعمال صالحة معدة- 2: 10

 

هذه
تسبحة النعمة, أنشأها رسول النعمة –مطلعها: "أنتم" (عدد 1), وقلبها
النابض: "الله" (عدد 4), وقرارها المتكرر: "بالنعمة أنتم
مخلصون" (عدد 5و 8) وختامها: "لأعمال صالحة… نسلك فيها". فلنترنم
بها, ونحن على ركبنا جاثون, لأننا إن ارتكبنا شراً فلا عُذر, وإن أتينا خيراً فلا
فخر.

 

أولاً:
ما كنا عليه بالطبيعة 2: 1- 3

عدد
1:

1وَأَنْتُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا،

 

(1) ماضينا
– (2: 1). "وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا". هذا تعبير مجمل,
يصف الغير المؤمنين في:

 

-أ-حالتهم
الطبيعية: "أمواتاً" : إن الموت المقصود هنا هو الموت الروحي, الذي هو
بعد النفس عن الله. وكما أن الموت الجسدي ينشأ عن انقطاع كل صلة بين الجسد وبين
أسباب الحياة الطبيعية المحيطة به –كالهواء وما إليه, كذلك يقع الموت الروحي عند
انقطاع الصلة بين النفس وبين الإله الحي الذي هو مصدر حياتنا, وعلة كيانها. يؤيد
هذا, وصف آخر وصف به الرسول الغير مؤمنين: "إذ هم مظلموا الفكر ومتجنبون عن
حياة الله"- هذه هي البيئة الروحية, فمتى انقطعت كل صلة تربطهم بها, أمسوا
أمواتاً فعلاً وحقاً.

 

-ب-علة
موتهم: "بالذنوب والخطايا". هذا هو الداء الدفين الذي تغلغل في البشرية,
فأبعدها عن الله الذي هو مصدر الحياة والنور فماتت البشرية بهذا الداء العياء.
وإذا كانت الخطية علة موت الإنسان, فهي أيضاً المقبرة التي يُطوى فيها, ولذلك فهو
أيضاً ميت في "الذنوب والخطايا". قد يجوز أن نميز بين الذنوب والخطايا,
فنقول: إن الذنوب هي الاعتداء على شريعة أو هي كسر حاجز والاصطدام به, والخطايا هي
القصور أو التقصير في عدم إصابة المرمى. ويقول بعضهم: إن الأولى تشير إلى خطايا
الترك, وأن الثانية تعني خطايا الفعل. ويقول البعض الآخر: إن الأولى تشير إلى
الخطايا الفعلية التي يرتكبها الإنسان متعمداً مختاراً, وأن الثانية تعني الخطايا
الأصلية الموروثة من آدم الأول. ويعتقد سواهم: أن الذنوب هي ما يُرتكب ضد الإنسان.
وأن الخطايا هي ما يُرتكب ضد الله تعالى. ويقول آخرون: إن الذنوب تشير إلى الفعال
الظاهرة, الخطايا تتناول النيات الخفية التي في القلب. ومع ميلنا إلى الأخذ بالرأي
السابق للأخير, إلا أنه ليس من السهل أن نحكم بأفضلية أحدها.

 

عدد 2
:

 2الَّتِي
سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ
سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ
الْمَعْصِيَةِ،

(2)
مسلكنا –(2: 2- 3 (أ)). "التي سلكتم" هذه حالة شاذة غريبة, لأننا لم نكن
بالطبيعة أمواتاً جامدين بغير حركة, مثلما يكون عادة موتى الأجساد, بل كنا أمواتاً
متحركين: "سالكين". فليست "الذنوب والخطايا" مجرد مقبرة
يتوارى فيها موتى النفوس والأرواح, وإنما هي "بيئة" حية, أدبية,
"فيها يوجد الخطاة, ويحيون, ويتحركون", ويسلكون. إن مسألة السلوك غاية
في الأهمية, وهي ذات اعتبار خاص لدى أحبار اليهود الذين سبقوا بولس والذين عاصروه.
فقد استُهل سفر المزامير بالكلام عن السلوك: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في
مشورة الأشرار".

 

العدو
المثلث للإنسان ولليهود سفر جليل مختص بآداب السلوك يُعرف ب "كتاب
الهالخا" وجاء فيه:

"قبل
سقوط الإنسان, كان الله علة حياة نفوس البشر, ومشتهى أرواحهم, وغاية آمالهم. لكن
بعد السقوط, أضحت الخطايا أمنية نفوسهم, ومطمح أرواحهم, ومنتهى آمالهم".

 

إن
كلمة "قبلاً" تصف المكتوب إليهم في حالتهم قبل إيمانهم بالمسيح
و"السلوك في الذنوب والخطايا" –يعني: سلباً: سير الإنسان في هذه الحياة,
بعيداً عن مصدر الإرشاد الإلهي, وهو غير شاعر بالحب الإلهي وغير مُلب للنداء
السماوي. وإيجاباً: هو السير حسب اتجاهات روح العالم وإيحاآت الشيطان ومشيئات
الجسد. هذا هو العدو المثلث الذي يستأسر بأفكار الإنسان الغير المتجدد, ويستهويه
لذاته, ويخضعه لنفوذه وسلطته: العالم, والشيطان, والجسد –هذا هو مثلث الشر,
والفساد والدمار. فالعالم حوالينا, والشيطان علينا, والجسد داخلنا. العالم عصر,
والشيطان روح, والجسد مبدأ.

 

-أ-
"العالم"-(كوزموس)- لا يراد به هذا الكون المنظور, بما فيه من أفلاك,
وجبال ووديان, وبحار وأنهار –فكلها من صنع الإله الحكيم, وهي تحدثنا دوماً بمجده
وجلاله (مز 19: 1- 6) ولا الناس الذين في العالم. لأن هؤلاء "أحبهم
الله" (يوحنا 3: 16). ولا يُقصد به الوظائف, والصنائع, والحرف, التي يحترفها
الناس في العالم, لأن المسيح نفسه كان نجاراً. وإنما يراد ب"العالم"
–مظاهر الحياة الجذابة الخلابة, التي تسلب اللب, وتستهوي القلب: "شهوة الجسد,
وشهوة العيون, وتعظم المعيشة, ليس من الآب بل من العالم" (1يو 2: 16).

 

"دهر
هذا العالم" –هذا نموذج من غنى أسلوب الرسول. فربما كانت إحدى هاتين الكلمتين
كافية للإفصاح عما في فكره, لكنه أضاف كلمة إلى أخرى ليجعل غنى المبنى متمشياً مع
غنى المعنى. ويستفاد مما جاء في بعض أسفار الرابيين, أن كلمة "دهر هذا
العالم" تعني العصر الحاضر السابق لمجيء مسيّا, تقابلها كلمة "الدهر
الآتي" أو "العالم الآتي", التي تشير إلى العصر اللاحق لمجيء
مسيّا, ومما جاء في كتاب الرابيين من هذا القبيل: "أن الإله العلي قد أعطى
"العالم الحاضر" لكثيرين, وأما العالم العتيد فلقليلين" (قابل
اسداراس 8: 1و 6: 9 مع متى 12: 32). فالدهر هو روح العصر الذي يلهي الإنسان
بالساعة الحاضرة البائدة عن الحياة الأبدية الخالدة. ويصرفه بالمنظور عن غير
المنظور. ويبيعه مجد بركة باقية, بلذة أكلة ذاهبة (عب 12: 16). هذا ما أراده بولس
بقوله: "لأن هيئة هذا العالم تزول" (1كو 7: 31), "ديماس قد تركني
إذ أحب العالم الحاضر" (2تي 4: 10). بل هذا ما قصده يوحنا بالقول
"والعالم يمضي وشهوته" (1يو 2: 17). هذا هو "الدهر" الذي يطلب
إلينا الرسول "أن لا نشاكله, بل أن نتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا, لنختبر ما
هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" (رؤ 12: 2).

 

الكلمة
اليونانية التي ترجمت إلى "الدهر" يجوز أن تُترجم أيضاً إلى
"أسلوب" أو "نمط" أو "مسلك", فتُقرأ العبارة كلها
هكذا: "التي سلكتم فيها قبلاً حسب مسلك هذا العالم". هذا هو المسلك الذي
ينافي إرادة الله, ويكون غالباً مقاوماً لها (أطلب يوحنا 8: 23و 9: 39و 12: 25و
31و 13: 1و 16: 11و 18: 36, 1كو 1: 20و 3: 19و 7: 31و 1يو 2: 17). غير أن موقف
المؤمن الحقيقي إزاء العالم, واضح في قوله: "قد صُلب العالم لي وأنا
للعالم" (غلا 6: 14).

 

إن
كلمة "سلوك" هي إحدى الكلمات الاستعارية المميّزة لأسلوب بولس الرسول.
وهو يشير بها هنا إلى الحياة التي يكون حب الذات قائدها, وروح الشيطان مرشدها,
وأسلوب العالم الملتوي رائدها, بدلاً من أن يكون الله هاديها وعضدها. وقد استعمل
الرسول هذه الاستعارة سبع مرات في هذه الرسالة (2: 2و 10و 4: 1و 17و 5: 2و 8و 15).
وليس بغريب أن يكثر الرسول من ترديد هذه الكلمة فهو الذي يعتبر الديانة
"طريقاً" سواء أكانت يهودية أم مسيحية (أعمال 24: 14). ولعل لوقا
استعارها منه للتعبير عن فكرته في الديانة المسيحية.

 

-ب-الشيطان:
"حسب رئيس سلطان الهواء, الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية". ذُكرت
هاتان العبارتان وصفاً للشيطان –

 

(1)أولاهما
تصفه في مقامه, ومكانه: "رئيس سلطان الهواء". هذا مكان أعلى من
"العالم" حيث يعيش الإنسان (عدد 2), وأدنى من "السماويات" حيث
"أُجلس المسيح, وأُجلس معه المؤمنون" (عدد 6) ولعله تعبير عبريّ استعاره
بولس من مصادر يهودية. والظاهر أن العالم بعد السقوط, صار هدفاً لهجمات إبليس.
ولكن لما جاء المسيح ليفتدي المؤمنين من هذا العالم الشرير "رأى الشيطان
نازلاً مثل البرق من السماء" (لوقا 10: 18).

 

إن
"سلطان الهواء" هو نفسه "سلطان الظلمة" المقاوم والمضاد
لملكوت المسيح –ملكوت النور, والحق, والمحبة. في هذا يقول بولس في رسالة أخرى
"شاكرين الآب… الذي أنقذنا من سلطان الظلمة, ونقلنا إلى ملكوت ابن
محبته" (كولوسي 1: 13). هذا يؤيد قول المسيح للمتآمرين عليه: "هذه
ساعتكم وسلطان الظلمة" (لوقا 21: 53).

 

"رئيس
سلطان الهواء" أو "أمير سلطنة الهواء". هذا دليل على أن الشيطان
ليس مجرد تأثير أو قوة, بل هو ذات وشخصية. إلا أنها شخصية ساقطة شقية –على خلاف
جبرائيل "الواقف أمام الله", فإنه شخصية صالحة تقية. ومع أننا لا نعلم
الشيء الكثير عن حقيقة شخصية الشيطان, إلا أننا نفهم من الكتاب المقدس, أنه محدود
في كيانه, ومقيد في سلطانه. فلا يمكنه أن يجرب إنساناً إلا بسماح من الله تعالى
(أيوب 1: 11و 2: 5), كما أنه لا يجرب شخصاً إلا بالقدر الذي يسمح به الله (أيوب 1:
12و 2: 6). ولكنه رئيس, فمن الضروري أن يكون تحت إمرته جنود يأتمرون بأمره,
ويخضعون لنصحه, وينفذون تعليماته. ومع أن "سلطان" الهواء, الذي يرأسه
الشيطان, ليس بسلطان مشروع بل جائر, تعسفي, اعتباطيّ, عدوانيّ, إلا أنه موجود
بسماح من الله –ولكن إلى حين- حتى تخضع جميع الأعادي لسلطان المسيح الحق, ويسجد
الكل ضد موطئ قدميه. ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بإعلان كلمة البشارة وإعلانها حتى
تعمَّ المسكونة كما تغطي المياه أرض البحر.

 

"رئيس
سلطان الهواء" –هذا يذكرنا بقول المسيح في مثل الزارع: "…وفيما هو
يزرع سقط بعض على الطريق فانداس وأكلته طيور السماء" –في الأصل- "طيور
الجوّ أو الهواء". وفي تفسير هذا المثل قال المخلّص: "والذين على الطريق
هم الذين يسمعون ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم" (لوقا 8: 5و 12). وقد
لاحظ بعض المفسرين أن هذا التعبير: "رئيس سلطان الهواء" ورد مراراً في
كتابات المعاصرين لبولس من كتّاب اليهود والإغريق, ولكن هذا لا يدل بالضرورة على
أن بولس اقتبسه من أحدهم (راجع أعمال 26: 18, متى 12: 16, أفسس 6: 12).

 

(2)العبارة
الثانية: "الروح الذب يعمل الآن في أبناء المعصية" –هذه تصف الشيطان في
سلطته- أي أن الشيطان هو رئيس "الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية".
وقد استعملت كلمة "روح" اسماً لنوعٍ, كقولنا: "حديد",
و"شوك" –فهي لا تعني المفرد لكنها اسم جمع تركَّزت فيه كل الوحدات, فهي
تصف طبيعة سلطان الهواء –إنه "روح غير منظور" لا "جسد هيولي"
–وهي بالتالي تصف طبيعة الشيطان الذي هو رئيس سلطان الهواء, ورئيس هذا الروح.

 

إذا
كان الروح النجس الشرير, يعمل الآن في أبناء المعصية, فلا نفشل, لأن الرسول صرح في
الأصحاح الأول مرتين (1: 11و 20) بأن روح الله القدوس يعمل أيضاً, بل قد عمل حقاً,
وأظهر عمله في المسيح, وسيظهر عمله على توالي الأيام في أبناء الله العتيدين أن
يرثوا الخلاص, فليست النصرة النهائية للظلام, بل للنور, ولا هي للباطل بل للحق,
ولا هي لأبناء المعصية بل لابن محبته.

 

إن
قوله: "أبناء المعصية", تعبير عبريّ, ورد أيضاً في العدد السادس من
الأصحاح الخامس في هذه الرسالة: "يأتي غضب الله على أبناء المعصية".
ويقابله قول الرسول: "أبناء نور" و"أبناء نهار" (1تس 5: 5)
ويماثله قول المسيح: "أبناء هذا الدهر" (لوقا 16: 8و 20: 34). إن
"أبناء المعصية" هم الأشخاص المسومون بعصيان الله ومقاومة إرادته لدرجة
يُحسب فيها العصيان ميزةً خاصةً لهم, وطابعاً لاصقاً بهم, وشيمةً لاحقة بهم, وداءً
متغلغلاً في دمهم –كل هذا بسبب حالتهم الطبيعية من جهة, وبفعل روح العصيان فيهم من
الجهة الأخرى. لأن الشيطان هو"المعاند" –كما يدل على ذلك معنى الأصل
العبريّ: "شَطسَنَ". فعمله متفق وطبيعته, ومشتق من صفاته, لأن العصيان
من أظهر هذه الصفات. وسواء أكان العصيان كامناً بين ضلوعهم, أم ظاهراً في أعمالهم
وتصرفاتهم, فهو سيماؤهم المميزة لهم. إن علة هذا العصيان هي اكتفاء الإنسان
بإرادته النفسانية الشريرة, ورفضه إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. وأساس هذا
الرضى هو عدم الإيمان,وأساس عدم الإيمان هو البعد عن الله أو الارتداد عنه –كما
قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم
قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي" (عب 3: 12).

 

ويقول
الدكتور كندلش –إن قول الرسول: "أبناء المعصية" هو تعبير مركز يصف قوماً
في قبضة المعصية, بل في مخالبها حتى أضحوا ملكاً لها وأبناء بجدتها.

 

عدد
3:

3الَّذِينَ
نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ
جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا
بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضاً،

 

اليهود
يشاطرون الأمم مسلكهم وماضيهم

-ج-العدوّ
الثالث: "الجسد". "الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في
شهوات جسدنا". تكلم بولس في العدد السابق عن ماضي الأمم ومسلكهم. ولئلا يظن
الأمم أن الرسول قصد أن يخصهم بذلك الماضي التعيس, وهذا المسلك الشائن, عرّج على
اليهود, فادمجهم مع الأمم في مسلكهم وماضيهم. ولأن الرسول بولس يهودي, أورد عبارته
في صيغة المتكلم, فقال: "الذين نحن أيضاً" ولئلا يتوهم أن الرسول يقصد
فريقاً معيناً دون آخر, أجمل الكل, فقال: "…نحن جميعاً", ولئلا يتطرق
إلى ذهن الأمم أي خاطر من جهة فضل أسبقية اليهود عليهم في المجد والكرامة, أبان
لهم الكاتب أن لليهود أيضاً ميزة الأسبقية عليهم في العصيان والتمرد, فقال:
"تصرّفنا قبلاً". فما أحكم الرسول وما أعدله!! أليس هو القائل في رسالة
أخرى: "أما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم فسخط,
وغضب. شدة, وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر –اليهودي أولاً ثم اليوناني.ومجدٌ,
وكرامةٌ, وسلامٌ لكلّ من يفعل الصلاح- اليهودي أولاً ثم اليوناني"؟ (رومية 2:
9- 11).

 

فلا
يعادل ضياء النور الساطع, إلا قتام ظله. ولا يوازي عظمة الامتيازات, قدر ثقل
مسئولياتها. فاليهودي شريك الأممي في:

 

-أ-التصرف
السابق في شهوات الجسد –ب-إطاعة مشيئات الجسد والأفكار -ج-كونه ابن الغضب
بالطبيعة. وكل هذه الثلاثة الأوصاف منصبة على الجسد الذي هو عدونا الثالث.

 

-أ-إن
"شهوات الجسد" بحصر اللفظ, تعني الخطايا الحيوانية المنحطة.

 

-ب-و"مشيئات..الأفكار"
تعني الخطايا الفكرية الناشئة عن الكبرياء العقلية نظير الانتفاخ العلمي, وحب
السلطة, وطلب الجاه والشهرة, اللواتي هن بعض أخوات محبة الذات.

 

ومن
الملاحظ, أن الرسول بولس, حين كان يتكلم عن نفسه بالذات في هذا العدد الثالث وصف
الخطية في منابعها الداخلية, لكنه لم يتكلم عن خطايا الآخرين (عدد 2) وصف الخطية
في مظاهرها الخارجية التي تبدو في الحياة بالتصرف والسلوك.

 

-ج-"أبناء
الغضب" –لئلا يتبقى في قلب اليهود أثر من الفخر بحسبهم على اعتبار أنهم
"أولاد إبراهيم", انتزع الرسول من قلوبهم كل أسباب الافتخار بميلادهم
الطبيعي, لأنهم بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين- أي أنهم في ميلادهم الطبيعي يستوون
والغير المؤمنين من الوثنيين. فليست العلة في البيئة المحيطة بهم, ولا في مرافقهم
وظروفهم الخارجية, ولا في الزمان العائشين فيه, بل فيهم هم, لأنهم بالطبيعة أبناء
الغضب. نعم أن الله يبنى الأمة الإسرائيلية, ولكن على أساس الإيمان, لا على أساس
حياتهم الطبيعية, ولا بناء على استحقاقهم, كورثة جسديين لإبراهيم. لأن بولس نفسه
يقول في رسالة أخرى: "كما آمن إبراهيم فَحُسِب له (الإيمان) براً. فاعلموا
إذاً أن الذين هم من الإيمان, أولئك هم بنو إبراهيم" (غلاطية 3: 6و 7). فإذا
كان بعض اليهود يظنون أنهم يمتازون عن الأمم بكونهم أبناء إبراهيم بميلادهم
الطبيعي, فقد هدم بولس صرح تفاخرهم هذا, وأبان لهم أن لا وجه لفخرهم لأنهم بحكم
ميلادهم الطبيعي, هم "أبناء الغضب" كسائر الناس, فإن لم يولدوا ثانية
ميلاداً روحياً من الأعالي, فلا سبيل إلى تمتعهم برضى الله.

 

أبناء
الغضب بالطبيعة

"وكنا
بالطبيعة أبناء الغضب" – تنطوي هذه العبارة على إشارة ضمنية إلى الخطية
الأصلية التي يولد بها كل إنسان غير متجدد, وبسببها يدخل في عداد أبناء الغضب.
وليس من الضروري أن تبرز خطية الإنسان إلى حيز الفعل, حتى تُوجب عليه غضب الله. إذ
يكفي بقاؤها كامنة في طبيعته لإثارة غضب الإله الذي "عيناه أطهر من أن تنظرا
الشر" (حبقوق 1: 13). فالأسد الرابض في قفص من حديد, ليس حَملاً لكنه أسد
عاجز عن إيقاع الأذى. وكذلك الخطية الكامنة في طبيعتنا إنما هي خطية حقيقية حتى في
الأوقات التي لا تجد فيها مجالاً للظهور. فالخطية الأصلية هي خطية عامة. يولد فيها
كل إنسان, لا على سبيل المصادفة, ولا من قبيل الحظ العاثر, بل بحكم ناموس عام لا
يتخطاه زرع بشر ولا يتحداه. وبحكم هذا الناموس العام المشترك أضحت الخطية طبيعة
أصلية في الإنسان, وأضحت طبيعته البشرية خطية أصلية فيه. فكل ما يصدر عن هذه
الطبيعة ليس سوى خطأ في خطأ. وأن أقدس أعمالها فساد في فساد- حتى الصلاة التي
نرفعها تحسب مكرهة لدى الله. فبحكمها وبموجب نواميسها وأنظمتها تصبح كل أعمال
الإنسان الطبيعية التي تصدر عنه عفواً, خاطئة, بل خطية متمثلة في صورة أعمال,
وتصبح الخطية حالة طبيعية, أصيلة فيه. بهذه الطبيعة الخاطئة, وهذه الخطية الطبيعية
الأصلية, يولد الإنسان, وفيها ينمو, وفيها يسلك, فيستعذب مرارتها, وبها يصير له
المر حلواً والحلو مراً؛ ما لم تتداركه النعمة الإلهية فتخلق منه إنساناً جديد.

 

يقول
الدكتور ارمتاج روبنسون- إن كلمة: "بالطبيعة" تصف البشر كما هم في ذاتهم
وفي حالتهم الأصلية من غير أن تتداخل في أمرهم قوة خارجة عنهم أو تتداركهم نعمة
أرفع منهم. مثال ذلك قول بولس: "لأن الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا
بالطبيعة –أي بدون إعلان إلهي خارج عنهم- ما هو في الناموس. فهؤلاء إذ ليس لهم
الناموس, هم ناموس لأنفسهم" (رو 2: 14).

 

أما
قول الرسول: "أبناء الغضب" فهو على مثال قوله في عدد سابق "أبناء
المعصية" وهو يصف الواقعين تحت الغضب طبعاً واستحقاقاً فأبناء المعصية لا
يمكن إلا أن يكونوا "أبناء الغضب" كما قال الرسول نفسه: "…بسبب
هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية فلا تكونوا شركاءهم لأنكم كنتّم ظلمة.
وأما الآن فنور في الرب".

 

فالغضب
المقصود هنا هو غضب الله في الحال وفي يوم الدين. و"أبناء الغضب" هم
موضوع هذا الغضب ومقضي عليهم به, وإياه يستحقون سواء أكانوا يهوداً أم أمميين,
"لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم… وأما الذين من
أهل التحزب, ولا يطاوعون للحق, بل يطاوعون للإثم, فسخط وغضب… على كل نفس إنسان
يعمل الشر, اليهودي أولاً ثم اليوناني" (رومية 1: 18و 2: 5و 8).

 

هذا
ما بينه الرسول, إن الأمم واليهود, على السواء, هم أبناء الغضب بالطبيعة إذا ما
تركوا على حالهم الطبيعية التي فيها ولدوا ونشأوا, ونموا ما لم تنتشلهم النعمة
الإلهية المخلصة.

 

عمل
النعمة

 3:
4- 10

عدد 4
و5:

4اَللهُ
الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ
الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، 5وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ
الْمَسِيحِ – بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ

من
السحب المتكاثفة التي تلبدت في جو الأعداد الماضية المفصحة بالكلام عن خطايا
اليهود والأمم, انتقل بنا الرسول إلى جو صاف تضيء فيه أنوار النعمة الإلهية, وتشرق
وتشع فيه أشعة شمس إله النعمة. فما أحلى هذه الكلمة العظيمة التي يستهل بها هذا
العدد الرابع: "الله"! ما أشبه هذا الاستهلال بمطلع الرسالة إلى
العبرانيين: "الله…!!". وهل من كلمة يمتلئ بها الفم المعبر عن سرور
القلب وبهجته, مثيل هذه الكلمة الجليلة الممتازة: "الله"!؟

 

 كما
تشرق الشمس بأشعتها النورانية فتشق كبد اليوم إلى ليل حالك ونهار مشرق, كذلك تدخل
الله بنعمته في تاريخ المؤمنين ففصل بين ماض مليء بالسيئات والمعاصي, وبين حاضر
غمرته النعمة المجانية. تأمل هذه القائمة السوداء:

 

"أمواتاً
بالذنوب والخطايا"… "دهر هذا العالم"… "رئيس سلطان
الهواء"… "أبناء المعصية"…"أبناء الغضب"… وكأن نفس
الرسول شعرت بانقباض إذ أطالت التحليق في هذا الجو الخانق, وسرعان ما شعرت بحرية
مجيدة وتنفست الصعداء حالما انتقل بولس إلى هذا العدد الرابع فتنسمت نفسه نسيم
الحرية والمجد, وطربت لدى سمعها عذب نغم هذه الكلمات:

 

"الله"…
"غني في الرحمة"… "محبته الكثيرة"… "أحيانا"…
"المسيح" , "النعمة", "مخلصون", "أقامنا"…
"أجلسنا"… "السماويات". ولا شك أن السرور أخذ من نفس الرسول
كل مأخذ عندما وصل إلى هذه العبارة المركزية التي تصلح قراراً لأنشودته الجميلة:
"غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح" !!

 

-أ-غنى
رحمة الله (2: 4 (أ)). هذه صفحة مجيدة في سفر الخليقة الجديدة. فيها يتجلى البون
الشاسع بين حالين: حال طبيعية كان عليها المؤمنون قبل إيمانهم, وحال أخرى أوصلتهم
إليها النعمة الإلهية. ما أشبهها بأول صفحة يُستهل بها كتاب الخليقة الأولى في غرة
سفر التكوين: "كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة" –هذا هو
جانبها المظلم "… وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان
نور.. وفصل الله بين النور والظلمة"- هذا جانبها المنير. فما أقرب الشبه بين
الصفحتين –صفحة الكون المخلوق بكلمة الله المقولة, وصفحة الإنسان الجديد المخلوق
في المسيح كلمة الله المتجسد.

 

وفي
هذا العدد الرابع وما بعده, عاد الرسول إلى إتمام العبارة التي استهل بها هذا
الأصحاح: "وأنتم إذ كنتم أمواتاً… الله الذي هو غني في الرحمة… أحيانا مع
المسيح". وإذا كان الرسول قد أظهر في الأعداد السابقة سواد الخطية وفسادها,
فما ذلك إلا ليظهر في الأعداد اللاحقة جمال النعمة وأمجادها ومثلما كثرت الخطية,
ازدادت النعمة جداً. وأي وصف يعبر عن وفرة النعمة أبلغ من قول الرسول: "الله
الذي هو غني في الرحمة" من أجل "محبته الكثيرة"… "ليظهر في
الدهور الآتية غنى نعمته".

 

هذه
تعبيرات جليلة متجّمع بعضُها على بعض كما تتجمع أمواج البحر الخضم فوق بعضها
البعض: "غنى الرحمة" "كثرة المحبة", "غنى النعمة".
لو اقتصر الرسول على استعمال إحدى هذه الثلاث الكلمات وحدها, لكان فيها الكفاية
للتعبير عن جلال النعمة وجمالها. لكنه نظم حبات هذا العقد الثلاثي الثمين, بعد أن
أحاط كلاً منها بإطار مرصع ليزيدها جمالاً على جمال, فأرانا الرحمة في غناها بل في
غنى الله, والمحبة في كثرتها ووفرتها, والنعم في فيضها, فقال: "غني في
الرحمة, من أجل محبته الكثيرة", ليظهر "غنى نعمته". فالرحمة وحدها
كافية. والمحبة وحدها مقتدرة. والنعمة وحدها فعالة. فما بالك إذا اجتمعت ثلاثتها
معاً كما اجتمع الثلاثة الملائكة قديماً في ضيافة إبراهيم عند بلوطات ممرا (تكوين
18: 2)؟ فكم بالحري إذا اجتمعت لها ثلاثة أوصاف جامعة؟. في ختام الأصحاح الثالث
عشر من الرسالة الأولى إلى كورنثوس ذكر الرسول ثلاث فضائل: "الإيمان,
والرجاء, والمحبة" ثم وازن بين بعضها البعض فرجحت لديه كفة الأخيرة, فقال:
"وأعظمهن المحبة" لكنه لو أراد أن يوازن بين هذه الثلاث الفضائل التي
نحن بصددها: "الرحمة" و"المحبة" و"النعمة", أترى
كان يجد سبيلاً إلى المفاضلة بينها؟! وهل من مفاضلة بين أشعة الشمس الواحدة؟ أليست
كلها منبعثة من نبع واحد هو المحبة؟ فالرحمة هي المحبة مترفقة, والنعمة هي المحبة
متدفقة.

 

-ب-عظمة
محبة الله (2: 4 (ب)): غنى رحمته, ووفرة محبته, وغنى نعمته- لقد تجلت هذه كلها
بصورة واضحة في سفر الفداء. فإذا رأينا قدرة الإله المبدع منقوشة على لوحات سفر
الخلق, بحروف صخرية حجرية, وإذا تبينا حكمة الله مرتسمة على صفحات سفر العناية,
بحروف من نور ونار, فإننا نلمس رحمته تعالى مطبوعة على سفر الفداء بحروف من دم.
نعم قد يُتاح لبعض الناس أن يروا آثار خطوات الله موجودة في سفر الخلق, وأن
يتبينوا آيات يديه مطبوعة على سفر العناية, إلا أنهم يحسون بنبضات قلبه المحب متى
تصفحوا سفر الفداء. إن لغة محبته سهلة المأخذ لدى الأطفال, بل هي سر غامض لا يفهمه
إلا الأطفال! ألم يقل فادينا المجيد: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض,
لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال"؟

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ش شيخ زناد د

 

"الله
الذي هو غني في الرحمة". أن إلهنا غني في القدرة, والعظمة, والجلال, والحكمة.
فهو غير محدود في ذاته وفي صفاته, لكن الرسول يحدثنا بنوع خاص عن غنى الله في
الرحمة, فأيد بذلك قول إشعياء: "ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره, وليتب
إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران" (إشعياء 55: 7), وقول مرنم
إسرائيل الحلو: "الرب رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة" (مزمور 102:
8).

 

"الله
الذي هو غني في الرحمة" –في الأصحاح الأول, عرَّفنا الرسول إن علة اختيارنا
للتبني هي مسرة مشيئة الله, لكنه في هذا الأصحاح الثاني أظهر أن علة خلاصنا هي
"محبة الله المتفاضلة". على أنها علة ثانوية. لكن العلة الأساسية هي
الله نفسه, بدليل قول الرسول: "الله الذي هو غني في الرحمة" فنحن مدينون
كثيراً لرحمة الله, ومحبته, ونعمته. لكن ديننا لإله الرحمة, والمحبة, والنعمة,
أجلّ وأكبر. فالرحمة لم تخلصنا, لكن الله الذي هو غني في الرحمة, هو الذي خلصنا,
وأحيانا بعد أن كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا. فوراء التبني, الاختيار. ووراء
الاختيار, مسرة المشيئة الإلهية. وراء المشيئة الإلهية, النعمة المجانية. ووراء
النعمة المجانية, المحبة الإلهية. ووراء المحبة الإلهية, الله المحب.

 

إن
محبة الله الموصوفة هنا, ليست محبته العامة لجميع الناس المعبّر عنها بإحسانه
ولطفه (تيطس 3: 4), وإنما هي عاطفته القلبية التي اختص بها أبناءه المؤمنين به,
الذين هم اسرايئله الروحي المختار "إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً
أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونهم أكثر من سائر الشعوب التصق
الرب بكم واختاركم لأنكم أقلّ من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم
الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك
مصر" (تث 7: 6- 8). لقد أحبنا لأنه أراد, وأراد لأنه أحب. فهو لا يعرف علة
خارجة عن نفسه, ولا محركاً سوى ذاته, فهو الكائن بذاته, الذي يكون بذاته. وبهذا الاسم
عُرف لإسرائيل قديماً:

 

هذا
هو المثلث الرئيسي الذي يقوم عليه صرح التعاليم الإنجيلية –ضلعه الأول: رحمة الله
الواسعة. والثاني: محبته المتفاضلة. والثالث: نعمته المجانية. وكلها تشير إلى
حقيقة واحدة أساسية- هي أن الله يسرّ بالعطاء. لأن الإحسان من طبعه, وهو لا ينتظر
من البشر إلا أن يقبلوا عطاياه بروح الشكر. وهو يسر بالعطاء أضعاف سرورنا نحن
بالأخذ. فالإحسان من صفاته, والبذل من ميزاته. (تكلم الرسول عن إحدى نواحي غنى
الله في 1: 18, فاطلب تفسيرها على صفحة 92).

 

عدد
5:

5وَنَحْنُ
أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ – بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ
مُخَلَّصُونَ

 -ج-ماهية
عمل نعمة الله: "ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح". عبر الرسول عن
الحجر الأساسي في بناء عمل النعمة بكلمتين متماثلتين –إحداهما:
"الحياة", والثانية: "الخلاص". وقد استعملت كل منهما في مناسبة
خاصة فأولاهما: "الحياة" استُعملت على اعتبار أننا كنا أمواتاً.
والثانية: "الخلاص" استُعملت على اعتبار أننا كنا قبل إيماننا بالمسيح
هالكين. وقد أبان الرسول في هذا العدد ثلاث حقائق –الأولى خاصة بالعامل الأولى في
خلاصنا: "ونحن أموات بالخطايا أحيانا…", والثانية خاصة بالقياس الأعلى
لخلاصنا: "… مع المسيح" والثالثة تتعلق بالعلة الثانوية في خلاصنا:
"بالنعمة أنتم مخلصون" في نور الحقيقة الأولى نعلم أن الخلاص من عمل
الله أولاً وآخراً لأننا نحن البشر لم نفكر في هذا الخلاص, ولم نطلبه, ولم نسع إليه,
لأن "الله خلصنا ونحن أموات بالذنوب والخطايا". والحقيقة الثانية ترينا
أن قياس خلاصنا هو التمتع بالحياة الجديدة مع المسيح "… أحيانا مع
المسيح". والحقيقة الثالثة تظهر لنا أن هذا الخلاص مجاني لأننا نلناه بالنعمة
لا على سبيل الأجرة: "بالنعمة مخلصون" وجدير بالملاحظة أن كلمة "مخلصون"
قد وردت في خاتمة هذا العدد بالصيغة الحالية التي تفيد الاستمرار المتجدد, على
اعتبار أن الخلاص عملية مستمرة تتم على خطوات متتابعة, ولو أنها تبدأ في لحظة (1كو
15: 2, 2كو 2: 15). هذا هو الخلاص الذي يعتبر في بدايته تبريراً, وفي مجراه
تقديساً, وفي كماله تمجيداً. فنحن إذاً متبررون بالنعمة, ومقدسون بالنعمة, وممجدون
بالنعمة: إن دَيننا للنعمة التي أوصلتنا إلى منطقة الخلاص لا يزيد عن دَيننا
للنعمة التي تحفظنا الآن لتوصلنا إلى ديار المجد.

 

عجيبة
حقاً هذه المحبة السامية التي وجهها الله إلينا. وبها أحيانا ونحن أموات بسبب
خطايانا. وأعجب منها. أن هذه المحبة لم تقف بنا عند حد الحياة المجردة, لكنها
رفعتنا وسمت بنا إلى الحياة في أسمى مراتبها, وأرفع درجاتها إلى حياة المسيح نفسه
"أحيانا مع المسيح". إنه لشرف عظيم لنا, أن يحيينا الله بواسطة المسيح,
أو في المسيح, ولكن أن يحيينا مع المسيح –هذه نعمة ممتازة تشتهي الملائكة أن تتطلع
عليها!!

 

هذا
اختبار يحصل عليه المؤمن عند الولادة الجديدة التي هي انتقال من الموت إلى الحياة
ومع أن المؤمن يكون في هذه الحياة عائشاً على هذه الأرض إلا أنه يكون شرعاً وحقاً,
حياً مع المسيح في السماء: "لأنكم قدمتم وحياتكم مستترة مع المسيح في
الله". على أن كمال هذه الحال,لا يتحقق إلا عند التمجيد: "ومتى أظهر
المسيح حياتنا, فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد". في هذا تُعتبر
قيامة المسيح من الأموات أساساً, ورمزاً, وقياساً, لقيامتنا الروحية: "إن
كنتم قد قمتم مع المسيح" (كو 3: 1- 3, 2: 11- 15).

 

 فإذا
كان موت المسيح قد أعتقنا من الموت الذي هو أجرة الخطية, فإن قيامة المسيح قد
أدخلتنا إلى جدة الحياة التي يسودها الفرح, والرجاء والنصرة. إذاً لم تكن حياتنا
الأولى التي كنا نحياها قبل إيماننا بالمسيح, سوى الموت بعينه (رومية 6: 4- 11,
متى 16: 24- 26, يوحنا 12: 23- 26).

 

 إن
كلمة: "مع" تعني اتحادنا الحي بالمسيح, باعتبار كوننا أعضاء في جسده
الروحي, وهي تعينّ صلتنا الشرعية باعتبار كونه ضامن عهدنا وولينا. فبموته قد متنا
معه, وبقيامته قمنا معه. هذا يؤيد قول المسيح لتلاميذه في خطابه الوداعي:
"إني أنا حي فأنتم ستحيون" (يوحنا 14: 19).

 

 استعمل
الرسول كلمة "مخلَّصون" بصيغة الفعل التام المتواصل لتفيد الاستمرار
المتجدد لا بالصيغة الحاليَّة (كما في 1كو 1: 18, 15: 2, 2كو 2: !15, أعمال 2: 47)
:"الذين يخلصون", ولا بصيغة الماضي التام كما لو كان الخلاص فعلاً تم من
جانب الله وحده دفعة واحدة كما في رومية 8: 4- "خلَصنا".

 

 الخلاص
عملية كملت لكنها تتم على درجات متتابعة حتى تكمل في المجد. كصورة تمَّ التقاطها
في لحظة لكنها تستغرق وقتاً حتى يظهر جمالها. هذا هو الخلاص الذي يعتبر عند
التبرير بذرة, وفي التقديس شجرة, وفي التمجيد ثمرة ناضجة (1بطرس 1: 5, رومية 13:
11).

 

 أما
الواسطة الثانوية لهذا الخلاص فهي النعمة. أوضحنا معنى هذه الكلمة في تفسير العدد
الثاني من الأصحاح الأول. وجدير بالملاحظة, أن الله ما كان يريد أن يخلصنا بالنعمة
لو كان في الإمكان أن نخلّص أنفسنا بقوتنا أو مجهودنا الذاتيّ. أما عجزنا عن تخليص
أنفسنا, فظاهر من حالنا التي كنا عليها: "أمواتاً بالذنوب والخطايا",
ومن الحال التي صرنا إليها: "أحيانا مع المسيح". فلا حياة أصلية فينا,
لكنها مستمدة من نبع "حياة المسيح".

 

 "بالنعمة
أنتم مخلصون" –مرتين كرر الرسول هذه العبارة العذبة المرة الأولى في هذا
العدد, والثانية في العدد الثامن, بعد أن أضاف إليها كلمة: "بالإيمان"
ليبين أن الإيمان ليس عملاً نأتيه من جانبنا فنصير به مستحقين الخلاص كأجرة, وإنما
هو بمثابة اليد المفتوحة التي تقبل عطايا الله. وأنَّى لميت أن يفتح يده! فإذاً
نحن مدينون للنعمة الإلهية بالإيمان الذي هو اليد المفتوحة التي تقبل من المسيح
هبة الخلاص. ولعل بولس كرر هذه العبارة ليجعل منها قراراً عذباً لأنشودة الخلاص
المجاني. هذه هي الأنشودة التي مطلعها: "لستُ مستحقاً", وختامها:
"مستحق أنت… أن تأخذ الغنى والمجد والكرامة والقدرة", وقلبها النابض
"ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد"!

 

 وهل
من فضل لمتسوّل يمد يده ليقبل نعمة مقدمة إليه من مُحسنٍ كريم؟!

 

عدد
6:

6وَأَقَامَنَا
مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ،

(3)
قوة عمل إله النعمة (2: 6)

 

(أ‌) "أقامنا"..
(ب) "أجلسنا"

 

إن
الحياة التي وهبنا الله إياها بالنعمة ليست مجرد حياة هزيلة ضعيفة نقضيها على هذه
الدنيا, لكنها حياة نتمتع بها مع المسيح يسوع في السماويات. فهي معه وإليه.إنه
لجلي واضح أن كلمة: "أقامنا" ترجع بنا إلى قيامة المسيح من الأموات.
وكلمة: "وأجلسنا معه" ترفع أفكارنا إلى صعود المسيح. فنحن إذاً شركاؤه
في القيامة والصعود باعتبار كونه رأسنا, ورئيسنا, وفادينا, وولينا, ونائبنا.
ولأجلنا مات وقام وعاش, وفيه متنا نحن وقمنا ونعيش, فأرواحنا عائشة معه في السماويات
ظافرة منتصرة, وأجسادنا تتمشى على وجه هذه الدنيا, الملطخ بالدماء والدموع.

 

في
العدد الثاني رأينا المؤمن في ماضيه سالكاً "حسب دهر هذا العالم" والآن
نراه جالساً متربعاً على عرش المسيح في الأعالي.

 

هذه
حالة, وإن تكن مستقبلة في تمامها, إلا أنها حاضرة في فعلها فهي تعيّن موقف المؤمن كظافر
منتصر فوق رئيس سلطان هواء, الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.

 

إن
قوله "في المسيح" يبين أن قيامة المسيح وصعوده وتمجيده, لها صلة حية
بكنيسته على الأرض, إذ هي عربون! وحجة, وضمان, وأساس قيامة الكنيسة, صعودها,
وتمجيدها.

 

(قابل
هذا بما جاء في لوقا 10: 18و 19).

 

لقد
أوضحنا معنى كلمة: "في السماويات" في سياق تفسير العدد الثالث من
الأصحاح الأول فاطلبها في موضعها.

 

قصد
الله

عدد
7:

7لِيُظْهِرَ
فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي
الْمَسِيحِ يَسُوعَ.

قصد
الله من عمل نعمته, ووقت إعلان هذا القصد, "ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته
الفائق".

 

(أ)
قصد الله من عمل نعمته: "ليظهر… غنى نعمته الفائق". لقد أحيانا الله
وقدسنا, لا لأننا نستحق شيئاً من هذا, ولا لأننا قمنا من جانبنا بمجهود في هذا
السبيل, بل لإظهار غنى نعمته المجانية. وكما أبان الرسول في الأصحاح الأول, أن
الله اختارنا "لمدح مجد نعمته" (1: 6), أظهر أيضاً في الأصحاح الثاني,
أن الله خلّصنا وأحيانا "ليظهر غنى نعمته الفائق باللطف علينا".

 

(ب)وقت
إعلان هذا القصد: "في الدهور الآتية". يراد ب"الدهور الآتية"
العصور والحقب المتعاقبة التي تشهد تقدم ملكوت المسيح ورفع لوائه لا في هذا الدهر
فقط بل في الأجيال العتيدة: "الآن وإلى كل الدهور". وليس من شك في أن
"ملك الدهور وحده" هو العليم بما تتضمنه هذه العبارة من معان دفينة,
يستتر جلها وراء حجب المستقبل الكثيفة. فمع أن الباعث لإله النعمة على عمل نعمته,
هو لطفه علينا, إلا أن عمل نعمته ليس مقصوراً علينا. لكنه ذات صلة وثيقة بملائكة,
ورؤساء في الدهور الآتية. وليس هو وقفاً على عصر معين لكنه يمتد إلى الدهور
الآتية. هذا دليل على أنه عمل حيّ, فعَّال, دائم. وهل نستحق نحن البشر الساقطين أن
نكون موضوع إعجاب الملائكة وتعجبهم "عند استعلان أبناء الله" (رومية 8:
19)؟

 

حقاً
إن السموات تحدّث بمجد الله,والفلك يخبر بعمل يديه, وأن "أمور الله غير
المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" لكن
جلال نعمته الفائقة, لا يُرى ظاهراً جلياً إلا في أشخاص المفديين الذين كانوا
عمياناً فاستنيروا, وظلاماً فأناروا. هذه هي "اللوحة الحية" المتحركة
التي يُستعرض عليها جلال نعمة الله الفائقة باللطف علينا. بقدر ما تعتبر هذه
الحقيقة معظمة لله, ومظهرة جلال نعمته, نراها في الوقت نفسه, مظهرة ضعة الإنسان
وحقارته, ومذكرة إياه على الدوام "بالنُّقرة" التي منها أخذ, والصخرة
التي منها اقتُطع. وكأن الله يقول باستمرار للبشر "ليس من أجلكم وحدكم قد
عملت هذا بل من أجل اسمي الذي دعي عليكم ولأجل مجدي"…"وكرامتي لا
أعطيها لآخر".

 

(ج) صلة
هذا القصد بالإنسان: "باللطف علينا". الكلمة الأصلية المترجمة
"لطف" تعني حرفياً "التأهب لإغاثة الملهوف". وقد استعملت
وصفاً لنعمة الله المترفقة بنا نحن الجهال, السريعة الخطى إلى المغفرة والصفح.
وردت في لوقا 6: 35 وصفاً لجودة الله "المنعم على غير الشاكرين
والأشرار" وجاءت في رومية 2: 4 مقترنة "بإمهال الله وطول أناته",
وفي رومية 11: 22 مضادة لشدة الله وصرامته. وفي تيطس 3: 4 مرتبطة بإحسان الله
ولطفه.

 

يراد
بقوله: "في المسيح يسوع" أن المسيح كان بحياته, وأعماله, وكلماته,
ومماته, خير مترجم لنا عن لطف الله نحونا. هذا فضل شهدت به الأعداد: "هذا
يقبل خطاة ويأكل معهم" (لوقا 15: 1), "انظروا كيف كان يحبه" (يوحنا
11: 36). نعم إن لطف الله نحو البشر ظهر في الطبيعة, وما أعده الله فيها للإنسان
من أسباب التمتع, إلا أن الطبيعة مشوبة بشيء غير قليل من الأمور القاسية التي لا
نفهم لها قصداً خيرّاً –كالزلازل والبراكين. وظهر لطف الله أيضاً على لوحة العناية
الإلهية التي تُلمَّ بكل شاردة وواردة في حياة الإنسان, لكننا كثيراً ما نرى على
لوحة العناية أعمالاً نقف دونها حيارى –كآلام الطفولة البريئة, والمجاعات. لكننا
نرى في حياة المسيح وموته عنا لطفاً لا تشوبه قسوة, ومحبة لا يتطرق إليها ظل من
الفتور أو التغاضي, وتفانياً لا يعرف الوهن إليه باباً.

 

أسلوب
عمل إله النعمة

 (2:
8- 10)

عدد
8:

8لأَنَّكُمْ
بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ
عَطِيَّةُ اللهِ.

-أ-علة
خلاصنا- النعمة: "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان. وذلك ليس منكم هو عطية
الله". هذا تقرير وتوكيد وتوضيح لما ذكره الرسول عرضاً في العدد الخامس.
فأوضح هنا عقيدة الخلاص بالنعمة إيضاحاً ليس بعده من مزيد. ولئن كان قد سبق فكتب
عن هذه الحقيقة بجلاء في رسالتي رومية وفيلبي (رومية 3: 27و 4: 25, في 3: 2- 9)
إلا أن كتابته عنها في هذا العدد, أجلى وأوضح. فقد أبان بجلاء لا يأتيه الشك من
إحدى نواحيه, إن عملية الخلاص كلها من عمل النعمة وحدها. فهي تبدأ بالنعمة, وتسير
بالنعمة, وتُتوّج بالنعمة.فقد شاءت المسرة الإلهية أن لا تترك مجالاً للإنسان في
عملية الفداء, لكي يعود كل المجد على الله وحده, كيلا يفتخر أمامه جسد ما. هذه
الحقيقة قررها المسيح حين قال على الصليب: "قد أكمل", فالوليمة السماوية
أعدت من جانب الله, وما على الإنسان إلا أن يقبل الدعوة, ويتمتع بأفخر أطايب
الوليمة –هذا القبول يعبّر عنه بالإيمان. لذلك يقول الرسول: "بالنعمة أنتم
مخلصون بالإيمان". فالنعمة هي العامل الأساسي, والإيمان هو العامل الثانوي.

 

-ب-وسيلة
قبولنا الخلاص: الإيمان. لئلا يخطر ببال أحد أن للإنسان فضلاً في إيمانه, فيتخذ
منه أداة للفخر ويبني على أساسه صرحاً للبر الذاتي, عمل الرسول على هدم هذا الصرح
من أساسه فقال. "وذلك –أي الإيمان- ليس منكم. هو عطية الله". وهل من فضل
لمتسول يمد يده ليقبل العطية التي يجود بها عليه محسن كريم؟ ومع ذلك, فإذا جاز
للمتسول أن يفخر بيده الممدودة لتناول الإحسان, فلا يجوز قطعاً لإنسان مفتدى بالدم
الكريم, أن يفتخر بإيمانه, لأن "الإيمان ليس منه. هو عطية الله".
ويمكننا أن نتحقق ذلك جيداً, متى ذكرنا أن الخلاص مقدم للإنسان وهو ميت بالذنوب
والخطايا, وأنىّ لميت أن يحرك يداً أو أن يظهر استعداداً وقابلية؟! على إتمام
إرادته الصالحة: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا…من أجل المسرة"
(اطلب 2كو 4: 13, فيلبي 2: 13). ولعل الإيمان عنصر من العناصر المكملة للتوبة
الحقيقية التي تقوم بتغيير فكر الإنسان فيرفض إرادته الذاتية ويعتنق إرادة الله من
جهته (أعمال 5: 31, 2تي 2: 25).

 

يعتقد
بعض المفسرين –وبينهم كلفن- أن كلمة: "وذلك" تعود على كل الجملة التي
بها يبدأ هذا العدد: "لأنكم بالنعمة مخلَّصون", لا على كلمة:
"الإيمان" وحدها. والظاهر أن وضع العبارة في اللغة الأصلية يجيز لنا أن
نحسبها وصفاً للإيمان أو للخلاص. وعلى كلٍ, فجوهر المعنى في كلا الحالين واحد (قارن
هذا بما جاء في رومية 3: 27و 28, 4: 14- 16).

 

عدد
9:

9لَيْسَ
مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.

-ج-غاية
خلاصنا- تمجيد الله وحده "ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد". هذا صدى الصوت
القوي الذي رفعه بولس عالياً في العدد السابق, وهو قرار الأنشودة التي تغنى بها
الرسول في رسالتي رومية (ص 4) وغلاطية (ص 3), فأبان الرسول في هذا العدد, أن
الإيمان الخلاصي, أو الخلاص بما فيه الإيمان, ليس ثمرة مجهود بشري, ولا هو أجرة
على عمل أتاه الإنسان أو سيأتيه, وإلا كان سبباً للفخر, وداعياً للارتكان على عكاز
الاستحقاق الذاتي –بذلك تبطل النعمة, لأن الإنسان لم يعد بعد في حاجة إليها,
فتنعكس الآية ويتمجد الإنسان, وينسى إله النعم والخيرات. من أجل ذلك أراد الرسول
أن ينتزع هذا الوهم انتزاعاً, فبين حقيقة الحال, إذ قال: "ليس من أعمال كيلا
يفتخر أحد" (قابل هذا بما جاء في رومية 3: 27, 1كو1: 29, 74, غلاطية 6: 14
وفيلبي 3: 3). وفي هذه الأمور مجتمعة معاً, تتجلى لنا غيرة الرسول المتقدة على مجد
الله, وجلال نعمته, كيلا يرتفع رأس في حضرة الله, ولكي تكون أنشودة كل إنسان مكونة
من مقطعين –أحدهما "لست مستحقاً" وثانيهما: "مستحق أنت".

 

ثمر
الخلاص

عدد
10:

 10لأَنَّنَا
نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ
سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.

-د-ثمر
خلاصنا أو القصيدة الإلهية المجيدة:

 

"لأننا
نحن عمله…. لأعمال صالحة معدّة"

 

"لأننا
نحن عمله" –وفي اللغة الأصلية "قصيدته"- "مخلوقين في المسيح
يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها".

 

هذه
حجة قوية, قصد الرسول أن يدعم بها حقيقة الخلاص بالنعمة, مبيناً بها أن لا فضل
للإنسان في الأعمال الصالحة التي تصدر عنه, لأن الإنسان مدين لله بكيانه الروحي
المطلق. وما دام أصل الشجرة ديناً, فكل ثمارها ديون مركبة. فالإله المنعم قد خلقنا
خليقة جديدة, وأهلنا بحكمة وقوة لكي نعرف إرادته الصالحة وننفذها في حياتنا, وفق
برنامج معين قصده الله بنا. فإذا ما أتممنا برنامجاً مرسوماً لنا, فلا فضل لنا ولا
فخر, لأننا لم نرسمه لأنفسنا, لكنه مخلوق لنا ونحن له مخلوقون, ولولا حرصنا على ما
للإنسان من حرية إرادة لقلنا أننا لم نرده لأنفسنا لكن الله أراده لنا وأرادنا له,
قبل أن يكون لنا كيان أو إرادة. هذه هي الأعمال الصالحة التي سبق الله فأعدها لكي
يسلك فيها, إذاً لم تكن لنا يد في إعداد هذا الطريق ولا في تعبيده, ولا فخر لنا في
هذه الأعمال الصالحة, لأنها تصدر عن طبيعتنا المتجددة عفواً واختياراً, لا قهراً
واضطراراً. فكما أن التنفس عمل طبيعي تأتيه الرئتان السليمتان, وكما أن الهضم عمل
طبيعي تقوم به المعدة السليمة, كذلك تعتبر هذه الأعمال الصالحة من مستلزمات
الطبيعة المتجددة "المخلوقة في الله حسب البر وقداسة الحق". فإذا كنا
نحسب يوماً أننا أتينا هذه الأعمال لله, فإننا قد أتيناها أيضاً بالله ومن الله.
فإذا ذكرنا "أعمالنا" فلا ننسَ "عمله" الذي هو "نحن
وأعمالنا".

 

ويهمنا
أن نذكر أننا وإن كنا لم نخلص بسبب هذه الأعمال الصالحة, إلا أننا قد خلصنا لها,
فهي ليست علة خلاصنا, لكنها ثمرة خلاصنا.

 

وجميل
بنا أن نلاحظ أن الكلمة التي تُرجمت من الأصل اليوناني إلى: "عمله" قد
تترجم حرفياً إلى: "قصيدته" –شعره. هذه حقيقة ممتازة تدعو إلى شكر الله
وحمده. لأنها تعلمنا ضمناً, إننا تعبير جميل عن إرادته الصالحة, وأفكاره الجميلة,
وتصوراته القدسية –لأننا "قصيدته". فإذا كانت ملائكة السماء قد ترنمت
وقت الخليقة الأولى, فإن الله نفسه قد فرح مترنماً عندما خلقنا الخليقة الجديدة
"فيالعمق غنى الله, وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن
الاستقصاء لأنه من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً. أو من سبق فأعطاه ليكافأ لأن
منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد. آمين".

 

هذه
ثالث مرة وردت فيها العبارة: "في المسيح يسوع" في خلال الخمسة الأعداد
الفائتة. فالله قد أقامنا وأحيانا "في المسيح يسوع", ليظهر غنى نعمته الفائق
باللطف علينا "في المسيح يسوع", لأننا نحن عمله مخلوقين "في المسيح
يسوع".

 

بين
عهدين: أو دخول الأمم إلى ملكوت النعمة

(3:
11- 12)

جدير
بنا, وقد قطعنا مرحلةً كهذه في ميدان هذه الرسالة, أن نستوقف أنفسنا قليلاً لنُلقي
نظرةً عاجلةً على ما مرَّ بنا, لنتبين الخيط المنطقي الدقيق الذي يربط ما مضى منها
بما يأتي.

 

في
منتصف الأصحاح الأول, رأينا بولس الرسول ساجداً مصلياً لأجل المكتوب إليهم, كي
يعطيهم الله "روح الحكمة والإعلان في معرفته. ليعلموا ما هو رجاء دعوته وما
هو غنى مجد ميراثه في القديسين. وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن
المؤمنين" –تلك القدرة التي تجلت في إقامة المسيح من الأموات وفي إقامة
المؤمنين معه, ورفعهم, وإجلاسهم معه في السماويات. لأن قيامة الرأس عربون وضمان,
وحجة لقيامة الجسد, إذ لا يمكن فصل الجسد عن رأسه الحيّ.

 

وكان
من نتائج هذه الرفعة وهذا السمو, أن الرسول أماط اللثام عن أمجاد المؤمنين,فأرانا
إياهم في غرة الأصحاح الثاني مرتفعين فوق " دهر هذا العالم", متحرّرين
من سلطة "رئيس سلطان الهواء", متسلطين على "مشيئات الجسد
والأفكار". لأنهم "في السماويات" مقيمون. ولو أن أجسادهم تتمشى على
هذه الأرض الدنيا. وفوق ذلك, فقد أصبحوا جميعاً متمتعين بوحدانية مقدسة أزالت ما
بينهم من فوارق.

 

غير
أن الرسول أراد أن يذكر المكتوب إليهم بحالهم الأولى الوضيعة, كي يجعل نصب أعينهم
مجد الله الذي تجلى في نعمته المجانية التي أغدقها بكل حكمة وفطنة على اليهود
والأمم على السواء.

 

ومع
أن المفاضلة غير جائزة في باب النعمة, لأن النعمة شملت اليهوديّ والأمميّ, وكلاهما
ميت بالذنوب والخطايا –ولا مفاضلة بين درجات الموت- إلا أن اليهوديّ قد خص بمزايا
اجتماعية ودينية كان الأمميّ محروماً منها. فمن هذه الوجهة يعتبر دين النعمة على
الأمميّ أثقل منه على اليهودي. لذلك قصد الرسول: أولاً –أن يذكر الأمميين بمعدنهم
الأصلي الذي أخذوا منه, وبالصخرة الأولى التي منها نقروا- في ماضيهم (2: 11و 12).
ثانياً –أن يحيطهم علماً بالسلام الذي هم فيه مقيمون- في حاضرهم (2: 13- 18).
ثالثاً –أن يجعل نصب أعينهم الغاية المجيدة التي أعدهم الله لها- في مستقبلهم (2:
19- 22). فماضيهم, ظاهر في قوله: "قبلاً". وحاضرهم, بيّن في كلمة.
"الآن". ومستقبلهم, واضح في كلمة. "ينمو".

 

عدد
11و 12 :

11لِذَلِكَ
اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ
غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ،
12أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ
رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ
لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ.

 

أولاً:
الرسول يذكر الأمم بمعدنهم الأصلي الذي منه جُبلوا –في الماضي (2: 11و 12)

 

"لذلك
اذكروا أنكم أنتم الأمم قبلاً… والآن"!! من ذكر ماضيه المظلم, شكر الله على
حاضره النيّر. هذا هو الدرس الذي أراد الرسول أن يطبعه على قلوب قارئيه من الأمم.
فمن المحقق أن ضياء صفحة النعمة اللامع, يزداد تألقاً ولمعاناً إذا ما انعكس على
سواد صفحة الذنوب والمعاصي. وبضدها تتبيّن الأشياء.

 

ومن
المسلّم به, أننا نحن الأمميين العائشين في القرن العشرين, لا نستطيع أن نقدّر
الحرمان العظيم الذي كان واقعاً على الأمم قديماً, فقد كانوا في نظر اليهود من سقط
المتاع, المزدري والغير الموجود. فما كان اليهوديّ ليأكل طعامه إذا وقع عليه ظل
إنسان أممي. وقد ذكر بولس نفسه –وهو رسول الأمم- أن اليهود كانوا متمتعين بمزايا
جمة لا يستهان بها:

 

"…
لهم التبني, والمجد, والعهود, والاشتراع, والعبادة, والمواعيد. ولهم الآباء ومنهم
المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين". لكن هذه
المعركة الحامية التي ظلت نيرانها مستعرة بين اليهود والأمم بسبب الامتيازات
المتمتع بها الأولون والمحروم منها الآخرون, قد خمدت نيرانها. لأن كل هذه القرون
المتعاقبة قد كسرت حدة الخلافات الكثيرة التي كانت قائمة بين اليهود والأمم.ولقد
كانت حرب المفاضلة بين اليهود والأمم على أشدها في منتصف القرن الأول للميلاد,
فيها كانت كفة اليهود راجحة لدرجة جُبن أمامها بطرس الرسول, الذي كان متصفاً
بالشجاعة والإقدام, فاضطر بولس الرسول "أن يقاومه مواجهة لأنه كان ملوماً.
لأنه قبلما أتى قوم من عند يعقوب كان بطرس يأكل مع الأمم. ولكن لما أتوا كان يؤخر
ويفرز نفسه خائفاً من الذين هم من الختان. وراءى معه باقي اليهود أيضاً حتى أن
برنابا أيضاً انقاد إلى ريائهم" (غلاطية 1: 10- 13). فلا غرابة إذا كان
الأمميون يحسبون مساواتهم باليهود نعمة ممتازة, يذكرونها فيشكرون الله عليها. وكان
بولس الرسول يعلم ذلك حق العلم سيما وأن الأمم كانوا قد ظفروا بهذه المزايا
حديثاً, لذلك أراد أن يذكرهم بماضيهم القريب, فقال لهم: "اذكروا… ".
وقد ذكر الرسول في هذين العددين (11و 12) بضع مزايا كان الأمميون محرومين منها
–واحدة جسدية- ميزة الختان (عدد 11). وواحدة اجتماعية ظاهرة, في قوله "بدون
مسيح". "أجنبيين عن رعوية إسرائيل" وأربعاً روحية ظاهرة, في قوله:
"غرباء عن عهود الموعد". "لا رجاء لهم". "وبلا إله. في
العالم".

 

إن
ذكر الماضي الوضيع, يرفع الإنسان إلى حصن الشكر المنيع. حسناً قال إرميا قديماً:
"أردّد هذا في قلبي. من أجل ذلك أرجو. أنه من إحسانات الرب أننا لم نفن لأن
مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك. نصيبي هو الرب قالت نفسي. من
أجل ذلك أرجو" حسناً قيل عن أحد كبار أهل الغرب العصاميين أنه بعد أن رفعه
مليكه إلى مرتبة الأشراف, كان يحتفظ في غرفة استقباله, أيام عزه وغناه. بتلك
المنطقة التي كان يتمنطق بها في أيام بؤسه وبلواه.

فالذكرى
تنفع من يريد أن ينتفع, وهي أيضاً ترفع من يبغي أن يسمو بها ويرتفع.

 

عدد
11 :

11لِذَلِكَ
اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ
غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ،

 

-أ-الميزة
الأولى- الميزة الجسدية- التي كان الأمميون محرومين منها, وكان اليهود يفتخرون بها
عليهم-الختان.يلوح لنا أن الرسول –وقد أضحى الآن رسول الأمم- لا يعتقد أن في هذه
العلامة الجسدية ما يميز جماعة عن جماعة أخرى في ملكوت النعمة. لذلك استعمل لهجة
تهكمية لاذعة إذ قال: "المدعوين غرلة من المدعو ختاناً, مصنوعاً باليد في
الجسد" –فهي إذاً ميزة عرضية, جسدية, اسمية, لا هي جوهرية, ولا روحية, ولا
حقيقية بدليل تكرار كلمة "في الجسد" مرتين في هذا العدد. هذا مؤيد لكلام
الرسول في رومية 2: 28و 29 "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان
الذي هو في اللحم ختاناً. بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي, وختان القلب بالروح لا
بالكتاب هو الختان الذي مدحه" –وفي الأصل "يهوديته"- "ليس من
الناس بل من الله". فالميزة الحقيقية هي الميلاد الثاني الذي تبدعه يد الله
في القلب, بخلاف الختان الذي تجريه يد إنسان في الجسد. فالختان إذاً ليس سوى ميزة
في عُرف اليهودي لا في عُرف الحقيقة والواقع: "المدعوين غرلة من المدعو
ختاناً" –يؤيد هذا قول التلمود. إن الفريسيين كانوا يلقبون أنفسهم
"بالختان" والأمميين ب"الغرلة".

 

عدد
12:

12أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ
إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ
إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ.

 

خلاصة
المزايا الحقيقية التي نالها الأمميون. "إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون
مسيح" بعد أن فرغ الرسول من الكلام عن الختان الذي كان يحسبه اليهود ميزة
عظمى يتفاخرون بها على الأمم –ولم يكن الرسول نفسه يشاطرهم هذا الرأي اعتقاداً منه
أن الختان علامة جسدية ليست ذات بال ولا خطر في ملكوت الله الروحي- انتقل إلى
الكلام عن المزايا الحقيقية التي كان الأمميون محرومين منها قبل إتيانهم إلى
المسيح. وقد أجمل هذه المزايا في كلمتين: "بدون مسيح". فأجاد الرسول كل
الإجادة إذ جمع كل المزايا الاجتماعية والروحية التي كان الأمميون محرومين منها,
في هذه العبارة الموجزة, الجامعة, المانعة: "بدون مسيح". هذا بحر خضم من
المزايا مركزة في قطرة. بل قصيدة خالدة مجملة في شطرة.

 

"بدون
مسيح" – وماذا يتبقى بعد هذا؟! قد يعيش إنسان بغير عينين,وقد يسلك الأعمى
بغير عكاز, وقد يحيا الجسد بغير قلب- أما أن يكون إنسان "بدون مسيح",
فهذا جحيم مقيم! قد تعيش أمة بغير حكام, وقد يحكم حكام بغير برلمان, وقد ينعقد
برلمان بغير دستور –أما أن تكون أمة "بدون مسيح", فهذا فناء وإعدام! قد
يسافر مسافر في قلب الصحراء بغير جرة, وقد يحمل جرة على ظهره بغير ماء, أما أن
يكون الإنسان مسافراً في برية هذا الوجود "بدون مسيح" فهذا انتحار محقق!
قد يستغني سكان الغبراء عن نور الشمس في النهار. وقد لا يحتاجون إلى ضوء القمر في
الليل, وقد يعيشون طوال أعوامهم من غير أن يروا ربيعاً في الحياة فيجمدوا في
الشتاء, ويذوبوا في الصيف, ويفنوا في الخريف, لكن أن يكون الإنسان "بدون
مسيح" فهذا هو الموت الزؤام!

هل تبحث عن  الكتاب المقدس تشكيل فاندايك وسميث عهد قديم سفر حكمة سليمان 11

 

"بدون
مسيح" –هذه خلاصة المزايا الحقيقية التي كان الأمميون محرومين منها- ومنها
تتفرع سائر المزايا- اجتماعية كانت أم روحية: فالمسيح هو منبع كل المزايا
الاجتماعية, ومصدر كل البركات الروحية.

 

(ب)المزية
الاجتماعية: "أجنبيين عن رعوية إسرائيل" –الكلمة المترجمة "أجنبيين"
يجوز أن تترجم حرفياً إلى "مُبعَدين", وهي ذات الكلمة المترجمة
"متجنبون" في 4: 18. إن قوله: "عن رعوية إسرائيل" يرسم أمامنا
صورة جماعة منتظمة تحت لواء ملك عظيم قد منحهم حقوقاً اجتماعية ومزايا مدنية
باعتبار كونهم رعاياه. كذلك كانت الأمة الإسرائيلية قديماً حين كان الرب إلهاً لها
وملكاً ومشيراً وحامياً. ولعل الرسول نظر إلى الأمة الإسرائيلية باعتبار كونها
رعية "لمسيّا", بدليل قوله: "أجنبيين عن رعوية إسرائيل",
كتعقيب, وشرح, ونتيجة لقوله: "بدون مسيح".

 

إننا
مدينون للوقا الطبيب كاتب سفر الأعمال بحوار دار بين بولس وأمير, يلقي ضوءاً على
كلمة: "رعوية" –فجاء الأمير وقال له قل لي. أنت روماني. فقال : نعم.
فأجاب الأمير: أما أنا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعوية. فقال بولس:أما أنا فقد
وُلِدت فيها" (أعمال 22: 27و 28). فالأمميون كانوا أجنبيين عن رعوية إسرائيل
لأنهم لم يولدوا فيها ولم يكن لهم سبيل إلى اقتنائها وهم أمميون. ولعل أقرب كلمة
إليها في عصرنا الحاضر, هي: "حرية المدينة" أو "تقدير الوطن".

 

(ج)أولى
المزايا الروحية: "وغرباء في عهود الموعد". الموعد واحد لكن عهوده
كثيرة. هو وعد الله لإبراهيم: "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تكوين 12:
3, 22: 18). لكن العهود التي قطعها الله مع شعبه بمناسبة هذا الموعد, كثيرة العدد.
فمنها: عهده مع إبراهيم, وموسى, ولاوي, وداود, ويشوع. وجدير بالملاحظة, أن
"الموعد" لم يكن مقصوراً على الأمة الإسرائيلية, لكنه تناول "جميع
قبائل الأرض". وما كان بنوا إسرائيل سوى أداة إيصال بركة الله إلى "جميع
قبائل الأرض". لذلك حُسب الأمم في نظر الرسول "مبعَدين عن رعوية
إسرائيل", "وغرباء عن عهود الموعد" على اعتبار أنهم كانوا أصحاب حق
طبيعي فيه –حسب الموعد. لكنهم أُبعدوا عنه لكونهم "بدون مسيح". وفي هذا
يقول الرسول: "فإن كنتم للمسيح, فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد
ورثة" (غلاطية 3: 29). فهو موعد الخلاص, والتبرير, والتبني, بالإيمان بالمسيح
يسوع –هذه أولى المزايا الروحية التي كان الأمميون محرومين منها, بسبب بعدهم عن
المسيح.

 

(د)المزية
الروحية الثانية: "لا رجاء لكم" –إن خير مفسر لهذه العبارة هو ما قاله
الرسول نفسه في 1تس 4: 13 "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين
لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم". فالرجاء المقصود هنا, هو رجاء
الخلود. نعم عند الأمم تصورات وانتظارات في الخلود, قد تكون أوهاماً وقد تكون آمالاً
لأنها ليست مبنية على أساس يقيني ثابت, بخلاف الرجاء الوطيد الذي أبدعته حياة
المسيح, وموته, وقيامته, في قلوب المؤمنين به. وأن من تتاح له فرصة الإطلاع على
مؤلفات الرومان واليونان, في العصور الأولى, يتحقق جلياً مقدار الغموض والإبهام
اللذين كانا مستوليين على عقولهم من جهة حقيقة الخلود. ويقول المؤرخون أنه في
أبَّان حكم إسكندر الأكبر, كان هذا القول مأثوراً ومتداولاً على ألسنة حكماء
اليونان, والسواد الأعظم فيهم: "الخير الأعظم: أن لا يولد الإنسان قط, والخير
الذي يليه: أن يموت حالاً".

 

قد
تكون كلمة: "لا رجاء لهم" غير مقصورة على رجاء الخلود, بل تتناول الحياة
كلها وتصف نظرة الإنسان إلى الحياة بأسرها. لأن انعدام الرجاء في ما بعد الموت,
ينعدم معه كل رجاء في الحياة. يتبين لنا ذلك, متى ذكرنا أن أقوال شعراء الرومان
واليونان, وفلاسفتهم, في أيام بولس الرسول, كانت منصبة على أمجاد الماضي ومنسحبة
على عظمة القرون السالفة. فكانوا يحسبون أن عصرهم الذهبي قد مضى وانقضى. لذلك ملوا
الحاضر وأصبحوا بغير رجاء من جهة المستقبل. لأنه كان مظلماً أمام عقولهم المظلمة.
بخلاف كتابات شعراء اليهود وأنبيائهم فإنها كانت منصرفة كلها إلى التغني بالأمجاد
العتيدة, وتوقع استعلان أبناء الله, وانتظار المدينة التي لها الأساسات التي
صانعها وبارئها الله, والاشتياق إلى مجيء "مسيّا" بمجده ظافراً منصوراً.

 

(ه)المزية
الروحية الثالثة: "بلا إله". لقد عبد الوثنيون آلهة كثيرة وخضعوا لأرباب
عديدين, لكنهم كانوا يجهلون الإله الواحد الحي الحقيقي الذي يطلب تخصيص القلب كله
له. وإلا فهو بعيد عن القلب كلية. إن إله اليهود هو إله الأمم (رومية 3: 29). لكن
هذه الحقيقة لم تكن قد أعلنت للأمم بعد: لأنهم كانوا بغير مسيح. فكانوا بغير
إنجيل. فمع أن "معرفة الله كانت ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم" (رومية
1: 19), إلا أنهم "لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم" (رومية 1:
28). ولعل العلة الرئيسية في كونهم "بلا إله", هي أنهم لم يكونوا قد
عرفوا بعد –من الإنجيل-أن إله اليهود هو هو إله الأمم.

 

ولكونهم
"بلا إله" يسيطر على عقولهم, ويتسلط على قلوبهم, صارت مرتعاً للأفكار
الدنسة, وأمست قلوبهم بؤرة لكل شر وفساد. "ففعلوا ما لا يليق مملوئين من كل
إثم وزنا وشر وطمع وخبث, مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً. نمامين
مفترين, مبغضين لله, ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين.
بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة".

 

الكلمة
الأصلية المترجمة "إله" وردت هنا نكرة, وهي المرة الوحيدة التي وردت
فيها بهذه الصيغة في العهد الجديد, ومنها اشتقت الكلمة الشائعة التي تعني
"ملحد" أو "كافر". ومن الغريب أن المسيحيين الأولين كانوا
يضطهدون من الوثنيين بحجة كونهم ملحدين وكفرة. مع أنهم هم الكفرة. فكأنما الإنسان
يتبرع لغيره بالتهمة اللاصقة به هو دون سواه!!

 

كان
الأمميون محرومين من كل هذه المزايا لأنهم كانوا "بدون مسيح" فحرمانهم
من المسيح يترتب عليه حرمانهم من كل ميزة, وصلاح, ونعمة.

لأنهم
"بدون مسيح", أصبحوا "أجنبيين عن الرعوية الملكية"

ولأنهم
"بدون مسيح", أضحوا "غرباء عن عهود الموعد"

ولأنهم
"بدون مسيح", أمسوا "بلا رجاء"

ولأنهم
كانوا "بدون مسيح", باتوا "بلا إله" ([1])

ولأنهم
كانوا "بدون مسيح", تركوا "في العالم"

فالمسيح
هو مصدر الحياة الوطنية الصحيحة, وهو مصدر الحياة الروحية الراقية, وهو منبع
الرجاء الوطيد, وهو معلن لنا حقيقة الله, لأنه هو "الطريق والحق والحياة. فما
من أحد يأتي إلى الآب إلا به".

 

ختام
المأساة: "في العالم". إن هذه العبارة, وإن كانت غير قائمة بذاتها بل
مرتبطة بسابقاتها, إلا أنها تعبير إيجابي مركز اختتمت به كل العبارات السلبية
السابقة. فإذا كانت كلمة: "بدون مسيح" أساساً لكل الحرمان الذي أصاب
الأمم, فإن كلمة "في العالم" قياس لكل نواحي حياتهم. فرعويتهم… في
العالم… ورجاؤهم… في العالم, وإلههم… في العالم. ومعبودهم… في العالم. وهل
تعلو المياه عن المستوى الذي منه تنحدر؟ هم من العالم –وفي العالم- فإلى العالم!!

 

"في
العالم" –على عكس قوله: "في المسيح". من الطبيعي إن من كان بدون
مسيح, يصبح مطروداً من العالم و"بلا إله". لأن هذا "العالم"
قد وُضع في الشرير, وكل ما فيه مضاد للمسيح, لأن إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير
المؤمنين بحجاب المادة الكثيف.

 

عدد
13 :

13وَلَكِنِ
الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ
صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ.

 

 ثانياً:
الرسول ينبه الأمم إلى السلام الذي هم فيه مقيمون في حاضرهم (2: 13- 18).

 جميل
بالمرء أن يذكر ماضيه فلا تبرح عن باله الصخرة التي منها قطع: لكن انصراف الفكر
إلى الماضي وحده, يجعل المرء منقطعاً عن مستقبله وحاضره, متحسراً على ما فات إن
كان جميلاً مقبولاً, فزعاً منه إن كان قبيحاً مرذولاً, فليس من الحكمة أن يقضي
الإنسان أعزَّ أوقات حاضره ليذرف الدموع السخية على الماء المهراق بالأمس. لأن ما
مضى قد انقضى وفات. وأمام الإنسان حاضره, وما هو آتٍ آت. لذلك بعد أن فرغ الرسول
من تذكير الأمم بماضيهم التعس, وجَّه أبصارهم وبصائرهم إلى حاضرهم المقدس فقال:
". ولكن الآن". وكما أن شقاوتهم الغابرة حلت بهم لكونهم "بدون
مسيح", كذلك سعادتهم الحاضرة أحاطت بهم لكونهم "في المسيح" فالبون
العظيم الكائن بين الهاوية والسماء يعيّنه موقف الإنسان من المسيح –أهو "بدون
مسيح" أم "في المسيح". "لذلك اذكروا أنكم كنتم في ذلك الوقت
بدون مسيح أجنبيين.. في العالم… لكن الآن في المسيح… صرتم قريبين".

 

 يعتبر
هذا العدد خير مفسر لما جاء في إشعياء 57: 19 "…سلام سلام للبعيد (الأممي),
وللقريب (اليهودي) قال الرب وسأشفيه". وفيه أجمل الرسول حقيقة السلام الذي
صنعه المسيح بين الأممي واليهودي, ثمّ بينهما معاً وبين الله تعالى. وفي الأعداد
التالية (2: 14- 18) فصّل الرسول ما أجمله في هذا العدد. فكأن هذا العدد هو المحور
الذي عليه يدور هذا الفصل, وهو بمثابة مقدمة له. وفيه أبان الرسول ثلاثة أمور.

 

 -أ-الامتياز
الحالي الذي يتمتع به الأمم: "ولكن الآن… صرتم قريبين"- هذا هو السلام
الذي تم بينهم وبين اليهود, ثم بينهم واليهود معاً وبين الله كان الأمميون بعيدين
عن المزايا اليهودية حساً ومعنى –تفصلهم عن بعضهم البعض فوارق وفواصل عدة, بعضها:
جغرافي –لأن اليهود كانوا يركّزون كل شيء في اليهودية, ويركزون كل اليهودية في
أورشليم وكان الأمميون –إلى عصر الرسول- بعيدين جغرافياً عن أورشليم. وبعض تلك
الفواصل معنوي, روحي. فالأمميون كانوا يختلفون عن اليهود في تفكيرهم, وفي طقوس
عبادتهم, وفي نظرتهم إلى الحياة بوجه عام سواء أكان في جانبها الشخصي أم الاجتماعي
أم الديني وفوق ذلك, كان الأمميون أجنبيين عن الله في حقيقة حالهم, وفي خطاياهم
التي أقاموها فاصلاً بينهم وبين إلههم وفي أفكارهم الحمقاء وقلوبهم الغبية (رومية
1: 21), فحقّ إذاً لبولس أن يقول لهم: "ولكن الآن أنتم الذين كنتم قبلاً
بعيدين". لأنهم كانوا بعيدين عن اليهود, بعيدين عن أنفسهم الحقيقية الشريفة
(لوقا 15: 17), بعيدين عن الله.

 

 -ب-مقامهم
الحالي: "الآن في المسيح يسوع". أما مقامهم السابق فقد بيّنه الرسول في
عبارتين سالفتين تبعد كلتاهما عن هذه بُعد الهاوية عن السماء. وقد وردت إحداهما في
غرة العدد السابق: "بدون مسيح" وثانيهما في خاتمته: "في
العالم". فالعامل الأساسي في هذا المقام الممتاز هو المسيح نفسه الذي أجرى
سلاماً بين اليهود والأمم, ثم بينهما كليهما وبين الله. هذا مقام حي, بل صلة
حيوية, كتلك التي بين الشجرة وأغصانها, وهي صلة نامية. لأن كل حي نام, فهي بالتالي
صلة باقية. هذه صلتهم الجديدة بعد أن كانوا زيتونة برية, فطعموا في الكرمة
الحقيقية, فصاروا رعية تحمل لواء "مسيّا" الملك الحقيقي.

 

 -ج-أساس
مقامهم الحالي: "بدم المسيح". إذا كان المسيح هو العامل الأساسي في
توحيد الأمم واليهود معاً, وفي مصالحتهما كليهما مع الله, فإن الدم هو الوسيلة
التي بها أجرى المسيح هذه المصالحة بجانبيها. ويقول بعض العارفين بدخائل اللغة
الأصلية: إن كلمة "بدم المسيح" يجوز أن تترجم إلى "في دم
المسيح". في دم المسيح تمحى الفوارق التي تفصل بين الناس وبين بعضهم البعض.
وفي دم المسيح تغسل الخطايا التي تقف حائلاً بين الله والناس.

 

 منذ
العصور الأولى التي نشأت فيها البشرية على الأرض, كانت معاهدات الصلح تعقد وتختم
بالدم. فالدم كان ختماً لكل محالفة تتم بين إنسان وإنسان, وأساساً لكل مصالحة تجرى
بين الله والناس "هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به.. والمسكن أيضاً وجميع
آنية الخدمة رشها كذلك بالدم وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم, وبدون سفك
دم لا تحصل مغفرة". فهذه المصالحة بين الله والناس هو عهد دم. وعهد التحالف
بين فرد وفرد أو بين أمة وأمة هو عهد دم. قديماً كان هذا دم حملان وكباش, ولكن في
ملء الزمان, جاء المسيح وقدم نفسه ذبيحة عنا نحن الخطاة, فأدخلنا بدمه إلى عهد
جديد. من ثم قال لتلاميذه وقت العشاء الأخير: "هذه الكأس هي العهد الجديد
بدمي". ومع أن موته كان يُحسب في حينه علامة ضعف من جانب المسيح المصلوب, إلا
أن قيامته قد بددّت كل شيء في نصرته, فأراقت نوراً خالداً على صليبه, وجعلت من
صليبه أرفع أريكة لأرفع مليك, فصار دمُ الصليب دم المصالحة. فكأن المسيح إذ مد
ذراعيه على الصليب, صالح أقاصي الأرض بأقاصيها, وضم سكان الأرض إلى قلب رب الأرض
والسماء. فكأن جسد المسيح المصلوب صار تلك "السلم" التي ربطت الأرض
بالسماء.

 

 هذا
هو العهد الجديد الذي لم ينسخ العهد القديم بل أيده ووسع أفقه وجعله يضم القريبين
والبعيدين معاً, بهذا اكتسب اليهود كثيراً من غير أن يخسروا شيئاً, إذ اكتسبوا
أخوة آخرين وضموا إلى حظيرتهم رعية أخرى لم تكن أصلاً في حظيرتهم, وفي المسيح صارت
لهم الأمم ميراثاً وأقاصي الأرض ملكاً. بهذا أيضاً اكتسب الأمم الشيء الكثير من
غير أن يخسروا شيئاً إذ أصبحوا ضمن العائلة الواحدة المقدسة, وأضحوا في عداد بني
الله وباتوا أحجاراً في الهيكل الإلهي الواحد, وأمسوا مطعمين في الكرمة الحقيقية
بعد أن كانوا زيتونة برية, وصار لهم حق الدخول إلى الأقداس المجيدة ليتمتعوا بالشركة
القدسية مع الله.

——-

[1] يقول
يوستنيان "الشهيد" إن المسيحيين الأولين كانوا يضطهدون بحجة كونهم
كافرين بالآلهة المتعددة فكان هو يذكر المضطهدين بأن سقراط أعدم بحجة كونه كافراً
بالله الحي. وفي مناسبة تاريخية مشهورة, ارتدت سهام هذه التهمة إلى صدور الذين
تبرعوا بها لسواهم, ذلك أنه لما حانت ساعة إعدام الشهيد وليكاربوس ناشده الحاكم
بهذه الكلمات المأثورة: "أقسم بعظمة الإمبراطور وتب. وقل: مالي والملحدين
(يعني المسيحيين) فليسقطوا!!" أما بوليكاربوس فقد أجابه إلى ما طلب بمعنى غير
الذي قصد. لأنه التفت إلى جماعة الوثنيين –لا المسيحيين- ثم رفع يديه نحوهم وهتف
بلهجة قاطعة: "مالي والملحدين (يعني الوثنيين) فليسقطوا"!! ولقد أصاب
بوليكاربوس كبد الحقيقة لأن الملحدين حقاً هم الوثنيين الذين بلا إله".

 

سلامنا
والمسيح

 (2:
14- 18)

 في
هذا الفصل فصّل الرسول ما أجمله في العدد السابق في ثلاث حقائق:

 الحقيقة
الأولى: السلام كعملية أجراها المسيح (2: 14 أ)

 

"لأنه
هو سلامنا". النبرة في هذه العبارة واقعة على الكلمة الوسطى: "هو"
ويجوز أن تترجم حرفياً إلى: "هو بنفسه" أو هو "هو لا
سواه".قديماً تنبأ عنه إشعياء فلقبه ب"رئيس السلام" (إشعياء 9:
15). وفي يوم ميلاده هبطت على الأرض بشرى السلام: "المجد لله في الأعالي وعلى
الأرض السلام وبالناس المسرة". وقبيل صلبه رأينا فيه واهب السلام ومعطيه
لتلاميذه ومريديه: سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم". لكن بولس يحدثنا عنه في
هذا العدد أنه "هو سلامنا". فشخصيته, وذاته, وطبيعته كلها سلام, وهو
بنفسه رابطة السلام بين الناس والناس, وبين الله والناس, وشخصه الحي المجيد هو
ضمان سلامنا, بل جوهر سلامنا, فالسلام مشتق منه ومنبعث, مثلما تنبعث أشعة الشمس من
كلف الشمس انبعاثا طبيعياً. وهو أيضاً "سلامنا" لأننا لا نتمتع بالسلام,
إلا إذا كنا فيه.

 

 إن
كلمة: "سلامنا" تشير على الوئام والانسجام بين العنصرين الرئيسيين
اللذين تتألف منهما كنيسة المسيح: "حيث ليس يهودي ولا يوناني…"
(غلاطية 3: 28, كولوسي 3: 11), ثم إلى السلام الشامل الذي تم بين رب السماء وساكني
الأرض: لكن المعنى الأول هو المقصود على كلمة "الاثنين" في هذا العدد.

 

 الحقيقة
الثانية: المسيح صانع سلامنا (2: 14ب- 16)

 

تتألف
هذه الحقيقة الثانية من عنصرين رئيسيين: العنصر الأول: ماهية السلام الذي أجراه
المسيح –وهذه عبر عنها الرسول بكلمتين رئيسيتين, وبكلمة تفصيلية. أما الكلمتان
الرئيسيتان فقد وردتا بصيغة الماضي: "جعل" و"نقض" –أولاهما
تفيد البناء, والثانية تفيد الهدم. فكل بناء حقيقي لا يخلو من هدم, وكل هدم حقيقي
هو خطوة إلى البناء. وأما الكلمة التفصيلية والعنصر الثاني: غاية السلام الذي
أجراه المسيح: "لكي يخلق… صانعاً ويصالح… قاتلاً"

 

14لأَنَّهُ
هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ
السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ

 

 العنصر
الأول: ماهية السلام الذي أجراه المسيح معبّر عنها بعاملين:

 

(أ)عامل
البناء في عملية السلام: "الذي جعل الاثنين واحداً". يراد ب"الاثنين"
اليهود والأمم اللذين جعلهما المسيح "واحداً": فهو لم يجعل اليهودي
أممياً ولا الأممي يهودياً, بل أنسى اليهودي يهوديته, وأنسى الأممي أمميته, وصار
الاثنان يذكران أنهما مسيحيان قبل كل شيء, وفوق كل شيء, ويقول العارفون بأصول
اللغة الأصلية: إن كلمتي: "الاثنين" "واحداً" وردتا بصيغة, لا
مذكرة ولا مؤنثة, ويعتقد الدكتور مونود أنهما تعنيان نظامين أو هيئتين باعتبار أن
المسيح جعل من هاتين الهيئتين المختلفتين –اليهود والأمم- هيئة واحدة, واتحاداً
واحداً, ونظاماً واحداً وكتلة واحدة, وكلمة: "واحداً" تعني أيضاً
"جوهراً واحداً" لأنها هي ذات الكلمة التي استعملها المسيح في قوله:
"أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30).

 

 لسنا
ندري هل وجدت بين العوامل الطبيعية مادة تصهر معدنين متباينين فتصيغ منهما معدناً
واحداً. لكننا نعلم علم اليقين أن المسيح قد استطاع بدمه الثمين أن يصوغ من اليهود
والأمم –اللذين لا يقبلان نماذجاً بطبيعتهما- معدناً واحداً صافياً, إذ أمعنت
النظر فيه ألفيته عنصراً واحداً.

 

 (ب)عامل
الهدم في عملية السلام: "ونقض حائط السياج المتوسط". لكي نفهم المراد من
هذه العبارة, يجب أن نرجع بأفكارنا على الحالة التي كان عليها الهيكل وقت كتابة
هذه الرسالة. فمن المسلم به, أن هيرودس الأكبر أضاف إلى الهيكل قطعة فسيحة من
الأرض كانت مؤلفة من دار متداخلة في دار, حتى تصل إلى القدس, ومنه إلى قدس
الأقداس. وكانت كل دار تزيد في درجة "القدسية" عن الدار الخارجة عنها,
حتى تنتهي إلى قدس الأقداس –الذي لا يُسمح بدخوله إلا لرئيس الكهنة وحده, مرة
واحدة في السنة. وأما القدس فكان يسمح للكاهن بدخوله يومياً ليحرق البخور على مذبح
المحرقة وقت تقديم ذبيحتي الصباح والمساء. وكانت تُقدم هاتان الذبيحتان في دار
الكهنة على مذبح المحرقة. وخارج هذه الدار, داران أخريان: إحداهما –وهي الملاصقة
لدار الكهنة مباشرة- تسمى "دار بني إسرائيل", والثانية –وهي خارج الأولى
شرقاً- تسمى "دار النساء"

 

 كل
هذه الأمكنة –قدس الأقداس, والقدس, ودار الكهنة, ودار بني إسرائيل, ودار النساء
–كانت مقامة على مستوى عال حساً ومعنى- ينتهي في عدة مواضع منه إلى خمس درجات تؤدي
إلى أبواب مفتوحة في جدار مرتفع, تتصل به منصة ضيقة تشرف على دار خارجية فسيحة.
وهذه الدار الخارجية كانت مخصصة للأمميين الذين يريدون أن يجتلوا محاسن أمجاد هيكل
اليهود,أو أن يقدموا ذبائح وتقدمات لإله إسرائيل –ولكن لم يكن مسموحاً لهم بحال,
أن يتخطوا هذا الحائط الذي كان يفصل هذه الدار عن الهيكل. وكل من تحدثه نفسه
باقتحام ذلك الحائط يقع تحت طائلة الإعدام. ومبالغة في التحوط, لمنع الأمم من أن
يمسوا الجدار المرتفع ذات الأبواب, أقام اليهود حائط سياج منحوتاً من حجر, مطوّفاً
أبنية الهيكل, يبلغ ارتفاعه نحو خمسة أقدام. هذا هو الحد الفاصل الذي كان قائماً
بين الأمم واليهود, كما حدثنا عنه يوسيفوس في "سفر الآثار" هذا هو حائط
السياج المتوسط الذي قصده بولس في هذا العدد. ويقول علماء الآثار إن جماعة من
المستكشفين في فلسطين, رفعوا الردم أخيراً عن أحد الأعمدة, وقد كان مقاماً فوق ذلك
السياج المتوسط –وهو محفوظ الآن في الأستانة- منقوشة عليه هذه الكلمات باللغة
اليونانية:

 

"لا
يجوز لإنسان ما, من أمة أجنبية, أن يتخطى هذا السياج ويجتاز منه إلى الهيكل. وكل
من يجسر على اقتراف هذا الذنب, ويُقبض عليه, يكون هو الجاني على نفسه".

 

ويقول
كاتب سفر "الأعمال" إن يهود أورشليم ثارت ثائرتهم على بولس الرسول لأنهم
ظنوه أخذ تروفيموس الأفسسي وأدخله إلى الهيكل مجتازاً به حائط السياج المتوسط
(أعمال 21: 28- 30).

 

إن
"حائط السياج المتوسط" لم يكن موجوداً في الهيكل فقط, بل كان قائماً في
قلوب اليهود, فمنع دخول الأمم إليها –هذا هو الحائط المعنوي الذي يفوق في سمكه ذلك
الحائط الحجري. وكم من مرة يكون فيه اللحم أقسى من الحجر!!

 

ومع
أن "حائط السياج المتوسط" هذا, كان لم يزل بعد قائماً بأعمدته المنقوشة,
حتى كتابة هذه الرسالة, إلا أن المعنى الذي يرمز إليه, كان قد زال مذ أن انشق حجاب
الهيكل, والمسيح معلق على الصليب. فمع أن الحجارة المادية كانت قائمة وقتئذٍ, إلا
أن معناها الجوهري كان قد زال. وبعد كتابة هذه الرسالة بقليل, تهدَّم الجدار
فعلاً, ولم يبقَ فيه حجر على حجر. فزال الرمز والمرموز إليه كلاهما.

 

أما
المعنى المراد من "نقض حائط السياج المتوسط" فقد زاده بولس وضوحاً وجلاء
في العدد التالي –الذي يعتبر جملة تفسيرية لهذا العدد ولسابقه.

 

عدد
15 :

15أَيِ
الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ
يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً
سَلاَماً،

جملة
تفسيرية: (2: 15 أ) "أي العداوة. مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض".
يحدثنا الرسول في هذه العبارة عن أمرين:

 

أولهما:
ما أبطله المسيح: "ناموس الوصايا"

 

ثانيهما:
أداة إبطاله: "بجسده"

 

-أ-ما
أبطله المسيح: "ناموس الوصايا". إن المسيح, إذ نقض حائط السياج المتوسط
بين الأمم واليهود, استأصل العداوة التي كانت متأصلة بينهما. ولقد أبطل المسيح هذه
العداوة إذ أبطل العلة الأساسية لها, لأنه إنما يعالج الداء من أساسه, وينتزع
الأشواك من جذعها. فالعلة الدفينة لهذا الداء هي: "ناموس الوصايا في
فرائض". فلكي يزيل المسيح تلك العداوة المتأصلة, أبطل علتها المستعصية:
"مبطلاً ناموس الوصايا في فرائض"

 

فما
هو الناموس الذي أبطله المسيح؟ أهو الناموس الطقسي؟ أم هو الناموس الأدبي؟ أم هو
كلاهما معاً؟

 

يلوح
لي أن الناموس المقصود أكثر من سواه في هذه القرينة, هو الناموس الطقسي. لأن
وصاياه مفرغة في قالب أوامر ونواهٍ مفروضة فرضاً: "لا تمس ولا تذق ولا تجس
التي هي جميعها للفناء في الاستعمال" (كولوسي 2: 21و 22). هذه هي الفرائض
التي أقام منها اليهود سوراً رفيعاً, كانوا يشرفون من قمته على الأمم, فينظرون
إليهم نظرة كلها زراية واحتقار فاليهود كانوا يتورّعون عن أن يمسوا شيئاً في
الأسواق العامة, متى علموا أن يداً أممية مسته قبلهم, لئلا يتنجسوا. وكانوا يأنفون
من أن يأكلوا على مائدة واحدة مع شخص أممي, لئلا يتلوثوا. فجعلوا من هذه الفرائض
الطقسية حصناً منيعاً تحصنوا وراءه ضد الأمم. وما الفواصل القائمة في عصرنا لحاضر
بين البرهميين والهندوكيين سوى بعض الفواصل التي أقامها اليهود من هذه الفرائض,
حائلاً بينهم وبين الأمم. ومن الغريب أن تلك الفرائض وضعت قديماً على اليهود
لتقيهم شر الاختلاط بالأمم, فأقام اليهود منها تمثالاً عبدوه!

 

غير
أن "ناموس الوصايا" قد يعني أيضاً الناموس الأدبي إذا نُظر إليه كواسطة
لنوال الخلاص أو كشرط أساسي للتمتع بالسلام مع الله. هذا يؤيد قول الرسول في رسالة
رومية (7: 1- 6, 8: 2- 4) "… لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد
أعتقني من ناموس الخطية والموت. لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً
بالجسد, فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد
لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح". فالمسيح
أبطل الناموس الطقسي برفعه أثقاله عن الإنسان وتحريره إياه من كل مطاليبه. وقد
أبطل الناموس الأدبي بتغييره موقف المؤمن بالنسبة إليه, إذ غير موقف المؤمن
بالنسبة إلى الله. فبدل أن كان المؤمن مطالباً بإطاعة الناموس والخضوع له لكي
يتمتع برضوان الله وغفرانه وسلامه, أضحى متمتعاً بسلام الله الذي اشتراه له المسيح
بدماه, فأصبح ينظر إلى الناموس لا كأنه أداة خلاصه, بل مظهر من مظاهر إرادة الله
المعلنة للبشر. قبلاً كان الإنسان مطالباً بالعمل بموجب الناموس ليتمتع بسلام
الله, والآن اصبح متمتعاً بسلام الله, فهو لذلك يحترم الناموس, لأنه مجلي فكر الله
الذي أحبه وافتداه. قبلاً كان يعمل بالناموس ليخلص, واليوم يعمل وفق الناموس لأنه
نال الخلاص. قبلاً كان الناموس عليه سيداً جباراً عتياً. واليوم صار له خادماً
وفياً. قبلاً كان يخضع لناموس الوصايا, واليوم صار يعمل بناموس المحبة.

 

"ما
جاء المسيح لينقض بل ليكمل". لكنه إذ أكمل الناموس ألغاه. قل زوالاً إذا ما
قيل تمّ.

 

-ب-أداة
إبطاله: "بجسده". هذا تعبير آخر لقوله: "جسم بشريته" (كولوسي
1: 22) أو "شبه جسد الخطية" (رومية 8: 3) وكلها تشير إلى تجسد المسيح,
وموته الذي قاساه في جسده على الصليب. فلولا تجسد المسيح لما أتيح لرب الحياة أن
يموت عن البشر. فجسد المسيح هو أداة تجسده, واتضاعه, وافتقاره,وموته عنا على
الصليب. فهو "جسم" الفداء الذي به صنع لنا سلاماً مع الله, هو السلم
التي ربطت الأرض بالسماء, هو أداة البناء وهو أداة الهدم التي بها أبطل ناموس
الوصايا في فرائض. فالمسيح بصليبه صنع سلاماً, وبصليبه ألغى أحكام الناموس,
"لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد, فالله إذ أرسل
ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس
فينا" هذا يوافق قول الرسول في كولوسي 1: 19- 22 "لأنه فيه سُرَّ أن يحل
كل الملء وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته… وأنتم الذين
كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن في جسم
بشريته بالموت" فالمسيح بجسده أوجد أداة اتصال بين اليهود والأمم, وبدم صليبه
مزجهما معاً, وصالحهما مع السماء.

 

العنصر
الثاني: غاية السلام الذي أجره المسيح: "لكي يخلق صانعاً… ويصالح
قاتلاً". عبر الرسول عن هذه الغاية بفعلين –كل منهما متبوع باسم فاعل موضح له
ومفسر: فالفعل الأول "يخلق" متبوع باسم الفاعل: "صانعاً".
والفعل الثاني: "يصالح" متبوع باسم الفاعل: "قاتلاً" أولهما:
"يخلق" يرينا أن المسيح بموته قد اتحد في نفسه اليهود والأمم وكوّن
منهما إنساناً واحداً جديداً –هذه خطوة أولية ابتدائية تمهيدية للخطوة الثانية
المبينة في الفعل الثاني: "يصالح" بعد لأن خلق المسيح من اليهود والأمم
إنساناً واحداً جديداً, صالح هذا الإنسان الجديد مع الله. فالخطوة الأولى هي إجراء
السلام بين طرفي الأرض المتباعدين –اليهود والأمم. والخطوة الثانية هي إجراء
السلام بين سكان الأرض باعتبارهم إنساناً واحداً, وبين الله. هذه هي المصالحة
المزدوجة التي أجراها المسيح بدم صليبه- فهو خلق من اليهود والأمم إنساناً واحداً,
قد صنع سلاماً. وإذ صالح الاثنين في جسد واحد مع الله, قد قتل العداوة بالصليب.

 

في
مصالحة اليهود مع الأمم قد خلق المسيح "إنساناً واحداً جديداً" هذه هي
الإنسانية الجديدة الموحدة المكونة من وحدات حية متحدة هي الإنسان الجديد المخلوق
بحسب الله في البر وقداسة الحق, لا مجال فيها للخلاف الذي توجده الجنسية, ولا
للعداء الذي يسببه اللون, ولا للمشاحنة التي يولدها المذهب, لكنها إنسانية واحدة
حية جديدة –كجسد واحد كل عضو فيه للآخر نصير. لأنه يحيا ويتحرك معه بالروح الواحد.

 

في
رسالته الثانية إلى كورنثوس. ذكر الرسول أن المؤمن الفرد هو خليقة جديدة في المسيح
(1كو 5: 17). وفي هذا العدد أبان أن جماعة المؤمنين المتصالحين والمتحدين معاً في
المسيح, هم أيضاً خليقة جديدة باعتبار كونهم إنساناً واحداً جديداً في المسيح.

 

ورد
هذا التعبير "إنساناً واحداً جديداً" مرة واحدة غير هذه في هذه الرسالة
(4: 24).

 

كما
أننا بالجسد إنسان واحد عتيق في آدم, كذلك نحن بالروح إنسان واحد جديد في المسيح.

 

عدد
16 :

16وَيُصَالِحَ
الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ
بِهِ.

 

 الغاية
الثانية: "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة
به". هذه هي الغاية الثانية والقصوى في برنامج الفداء –مصالحة الأرض بالسماء.
وبها تمّ استرداد هذه البقعة السوداء المسماة بالأرض التي استلبها الشيطان من
التاج السماوي, فرُدت إلى مركزها في تاج السماء.

 

 الكلمة
الأصلية المترجمة: "يصالح" وردت كما هي, مرة واحدة في غير هذا الموضع:
"وأن يصالح به الكل لنفسه" (كولوسي 1: 20و 21). لكن صيغة مجانسة لها
وردت في عدة مواضع (رومية 5: 10, 1كو7: 11و 2كو5: 18و 19و 20). والفكرة الرئيسية
المطوية عليها هذه الكلمة, هي أن شخصاً سامياً رفيعاً ضحى أكبر تضحية في سبيل رده
جماعة متمردة عليه, لتكون فدية لهذه المصالحة (2كو 5: 19). والمسيح صالحنا مع الله
إذ قدم ذاته فدية لهذه المصالحة, لأن لا مصالحة بغير فدية "وبدون سفك دم لا
تحصل مغفرة"

 

 أنبأنا
الرسول في هذا العدد عن أربعة أمور:

هل تبحث عن  هوت طقسى طقس الأعياد السيدية 16

 

 (1)معنى
المصالحة: "ويصالح…". إن المصالحة التي أجراها المسيح بين الأرض
والسماء تتضمن التفكير والتبرير. لأن عدالة السماء تطالب بمعاقبة الأرض على
سيئاتها التي اقترفتها في الماضي –وهذا تمّ بالتكفير. وهي أيضاً تنتظر من الأرض أن
تكون في حالة بارة تؤهلها للشركة مع السماء- وهذا تمّ بالتبرير. على أنه لا يُفهم
من هذا أن الله جلَّ جلاله, كان حاقداً على البشر, معادياً لهم, متحفزاً للانتقام
منهم, لكن المراد بهذا أن الله غير راضٍ عن البشر, ما داموا عائشين في خطاياهم ,
وأنه حاجب وجهه عنهم ما داموا راضين بآثامهم. فإن كثروا الصلاة لا يسمع, وإن عرضوا
عليه طلباتهم, أعرض هو عنها وعنهم. لكن قلبه من جهتهم لم يتغير لأنه هو الذي دبر
الفداء: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد".

 

 (2)الفريقان
اللذان تمت بينهما المصالحة: "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله".
فالفريق الأول بيّن في قوله: "الاثنين" أي اليهود والأمم معاً, بعد أن
صارا متحدين معاً ومكوّنين إنساناً واحداً جديداً فبعد أن كان اليهود والأمم
فريقين متنازعين, أصبحا واحداً في المسيح. غير أن اتحادهما هذا ليس غاية نهائية,
وإنما هو وسيلة لغاية –أن يتصالح كلاهما مع الله. فبعد أن وفق المسيح بينهما
أدمجهما معاً في "جسد واحد" فجعلهما شخصاً واحداً وصالحهما مع السماء إن
قوله "جسد واحد" يقابل قوله "روح واحد" في عدد 18-ومعناه:
"هيئة واحدة". ولعله أراد كنيسة المسيح المجيدة. ويقول بعضهم إنه أراد
جسد المسيح الذي صُلب فيه.

 

 (3)أداة
المصالحة: "… بالصليب". هذه هي المرة الوحيدة التي ذكرت فيها كلمة
"صليب" بحصر اللفظ في هذه الرسالة والمراد ب"الصليب" تقديم
المسيح نفسه ذبيحة كفارة لإجراء المصالحة بين الأرض والسماء. إن ما قاساه المسيح
على الصليب من آلام لا توصف, وتعييرات لا تنسى, وموت مهين, يدل على أن المصالحة
ليست من الهنات الهيّنات, لكنها من أدق المهام وأشقها, لأنه يتحتم على المصالح أن
يقوم بكل ما تتطلبه المصالحة من نفقة. وما أعظم تكاليف نفقة هذه المصالحة العظمى
التي هي أعظم المصالحات! "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فالذبائح كانت
منذ القديم ثمناً للمصالحة "أجمعوا إلى أتقيائي القاطعين عهدي على
ذبيحة".

 

 قد
يجد الإنسان الطبيعي صعوبة في الاعتقاد بأن الصليب أداة المصالحة فيقول مثلاً: وما
الداعي لكل هذه التضحية الكريمة, متى كان في الإمكان أن يجري الله هذه المصالحة
بغير هذه الآلام المبرّحة التي تحملها المسيح؟ أما كانت تكفي كلمة واحدة من فم
الله صاحب الشأن الأعلى, وبهذه الكلمة تتم المصالحة! وجواباً على هذا القول: لو
كانت كلمة واحدة أو كلمات عدة تكفي لإجراء المصالحة, لما أقدم الله على تضحية ابن
محبته. لأن الله مدبر حكيم, لا يسمح بالإسراف والتبذير في تدبير الفداء.

 

 من
السهل على الإنسان الغارق في بحر الخطايا والآثام أن يتكلم باستخفاف عن الخطية
وغفرانها. مثله مثل والد مستبيح, يرى ابنه يرتكب الشر والموبقات فلا يبالي. لكن
الوالد المقدس السريرة, النقي السيرة, لا يسمع بخطايا ابنه إلا وعينه دامعة وقلبه
دامٍ. لأن خطية ابنه تكون له بمثابة صليب يقاسي عليه مُرّ العذاب. فكم بالحري يكون
موقف الله الكلي القداسة, تجاه البشر, وهو لهم بمثابة الأب الذي يتألم لخطايا
أولاده! فكيف به إذا كان عليهم قاضياً عادلاً مكلفاً بتنفيذ أحكام شريعته القائلة:
"إن النفس التي تخطئ هي تموت"؟!

 

 فالصليب
–بل المصلوب- هو أداة المصالحة بين الأرض والسماء. أليس من عوامل شكرنا لله أن
نكون نحن المخطئين, فيقوم هو بواجب التكفير؟ أن يكون لنا الغنم, وأن يمون عليه
الغرم؟ فأين القلوب الشاكرة, وأين الألسن التي تكف عن الاعتراض والاستجواب وتنصرف
إلى الحمد والشكر والتمجيد؟!!

 

 (4)أساس
المصالحة: "قاتلاً العداوة به" إن عمل المصالحة يفترض وجود عداء بين
الفريقين اللذين تمت بينهما المصالحة. وما لم يُقتل هذا العداء لا تصلح المصالحة
ولا تقوم لها قائمة. إن مثل من يحاول أن يجري مصالحة من غير قتل العداء, كمثل من
يحاول أن يعالج مريضاً من غير أن يصل إلى علة الداء, أو كمن يريد أن يقيم بيتاً
على غير أساس, أو على أساس واهٍ.

 

 إن
"العداوة " المقصودة هنا هي تلك التي تحدّث عنها الرسول في العدد الخامس
عشر. وهي ذات سهمين –أولهما له اتجاه أفقي- بين اليهود والأمم والثاني له اتجاه
علوي –بين الله والناس (رومية 5: 10, كولوسي 2: 14)

 

 ولعل
الرسول استعمل كلمة: "قاتلاً" بدلاً من كلمة: "ماحياً" أو
"مزيلاً" أو "رافعاً", لأن أداة المصالحة هي الصليب, وفي
الصليب قتل وإعدام. فالذي قُتل فعلاً على الصليب ليس المسيح, بل الخطية والعداوة.
كأن زعيم الخطاة عندما أراد أن يقتل المسيح بالصليب, قتل نفسه وهو لا يدري. فالسهم
الذي أرشه في صدر المسيح قد انخلع منه وارتد إلى قلبه, فأصاب منه مقتلاً, وبذلك
أضحى القتيل قاتلاً, والقاتل قتيلاً!!

 

 فكلمة
"به" تشير إلى الصليب, أو بالحري إلى الصلب الذي به تم فداؤنا بموت المسيح
الكفاري عنا.

 

 وهنا
نقرر بكل وضوح أن لا مكان للعداء في قلب الله من جهة البشر, لأن الله محب, بل الله
محبة, ولكن هذا العداء متمكن من أفكار البشر من جهة الله بسبب خطاياهم وجهالتهم
"وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة"
(كولوسي 1: 21) فالجهل ينشئ عداوة, والاعتداء يولد عداء.

 

 أما
شعور الله من جهة الخطاة, فيجوز أن نعبّر عنه بكلمة: "عدم رضاه عنهم" أو
"تحويل وجهه عنهم", ماداموا مصرين على التمادي في المعاصي.

 

المصالحة
مع الله

 ثمرتان
شهيتان جادت بهما المصالحة: (2: 17و 18)

 -أ-أولاهما:
بشرى السلام (2: 17)

 -ب-والثانية:
فتح طريق تقدمنا إلى الله (2: 18)

 

عدد
17 :

17فَجَاءَ
وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ.

 

 -أ-الثمرة
الأولى: بشرى السلام: "فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين". في
هذا العدد, جمع بولس بين نبوتين وردتا ضمن نبوات إشعياء, وحاك منهما نسيجاً واحداً
لخيمة السلام –ألم يكن هو في صناعته خياميا.ً النبوة الأولى وردت في إشعياء 57: 19
"خالقاً ثمر الشفتين. سلام سلام للبعيد وللقريب. قال الرب وسأشفيه".
ووردت الثانية في إشعياء 52: 7 "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر
بالسلام المبشر بالخير, المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك". والظاهر
أن الرسول استقى كلمة "بشركم" من كلمات النبوة الأولى –حسبما وردت في
الترجمة السبعينية.

 

 (1)حامل
البشرى: "فجاء". المسيح –"وبشركم". إن مجيء المسيح للبشرى, لا
يشير إلى مجيئه عند التجسد, ولا إلى مدة كرازته على الأرض قبل الصلب, بل يشير إلى
بشرى المسيح المقام, والمرفوع, والممجد, التي قام بها بشخصه (يو 20: 19و 20)
وبواسطة روحه الأقدس العامل في رسله وأتباعه (2كو 5: 20, أعمال 10: 36, أعمال 3:
36).

 

 (2)موضوع
البشرى: "السلام" :وهو يعني هنا, الوئام الداخلي الذي أقيم بين عنصري
كنيسته الأولى –اليهود والأمم, وهو يشير أيضاً إلى المصالحة التي تمت بين الله
والبشر بدم المصلوب.

 

 (3)أصحاب
البشرى: "أنتم البعيدين والقريبين" أما "القريبون" فهم
"الإسرائيليون الذين لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد
ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد" (رو 9: 4و 5). أما "البعيدون"
فهم "الأمميون الذين كانوا قبلاً أجنبيين عن رعوية إسرائيل" (أفسس 2:
12و 13). وقد ابتدأ الرسول "بالبعيدين" لأن المكتوب إليهم أمميون.

 

عدد
18 :

18لأَنَّ
بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ.

 

-ب-الثمرة
الثانية: فتح طريق تقدمنا إلى الله "لأن به لنا كلينا قدوماً في روح
واحد". ترتسم أمامنا في هذا العدد, صورة شخصين كانا قاصدين قصراً ملكياً, ثم
ضرب عدو الخير بينهما بسهم من العداوة والشقاق, فتناحرا, وتنابذا, حتى أوصد دونهما
باب القصر الملكي. وإذا بسيد كريم, لقيهما فألفاهما على هذه الحال, فتحنن عليهما,
وضحى بأعز ما عنده في سبيل مصالحتهما, فسار وإياهما إلى ذلك القصر الملكي, وإذ وجد
الباب موصداً دونهما بسبب عدم استحقاقهما, مسّ ذلك الباب بيده المغموسة بدم
تضحيته, فانفتح الباب من تلقاء ذاته, فأدخلهما –واضعاً يد كل منهما في يد أخيه-
إلى حضرة الملك العظيم, فقبلهما وجعلهما من أبناء ذلك القصر.

 

(1)فريقا
المصالحة: "كلينا…الآب" –هما اليهود والأمم. وقد تمثلهما الرسول في
شخصين, فقال "كلينا". إن ذلك النزاع القديم الذي كان قائماً بين اليهود
والأمم, قد مُحى بالصليب فأمحت كل آثاره. في البداية كان اليهودي والأممي أخوين,
ثم فرّق بينهما عدو الخير والسلام فجعلهما عدوين, وأخيراً جاء رب السلام فألف بين
قلبهما وجعلهما أخوين كما كانا بل أفضل, إذ خلق منهما "جسداً واحداً, وإنساناً
واحداً"

 

هذا
من جانب. ومن الجانب الآخر, نرى اليهود والأمم مكوّنين معاً فريقاً واحداً
متعادياً مع الله. فكان باب التقدم إلى الله موصداً دون وجوه اليهود والأمم على
السواء: "لأن الجميع زاغوا وفسدوا معاً". "فأغلق الكتاب على الكل
تحت الخطية".

 

قبل
المصالحة كان اليهودي عدو الأممي, وكان كلاهما عدواً لله ولكن بعد أن تمّت
المصالحة, وضع اليهودي يده في يد الأممي, وأصبح كلاهما في عداد بني الله, أيدخل
إلى حضرة أبيه بغير استئذان. هذا حق مجيد لا يتمتع به اليهود والأمم ككتلة بل
كأفراد. هذه هي حرية امتياز أولاد الله, وامتياز حريتهم: "أنا هو الباب إن
دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى" (يوحنا 10: 9). هذا هو التقدم الذي
ذكره الرسول في قوله: "لأن به لنا كلينا قدوماً… إلى الآب".

 

(2)فاعلية
المصالحة: "قدوماً" –يستفاد من هذه الكلمة, كما وردت في الأصل, أن
المؤمنين –من الأمم واليهود- لم يتمتعوا بحرية التقدم إلى الله إلا بواسطة شفيع
كريم, قدمهم إلى الآب, وأن هذه الحرية لا تقوم إلا بدوام فعل وساطة هذا الشفيع
العظيم "الذي هو حي في كل حين ليشفع فينا".

 

وقد
وردت هذه الكلمة عينها: "قدوماً" –في الأصل- مرتين أخريين في العهد الجديد
(أفسس 3: 12, رومية 5: 2).

 

(3)وسيط
المصالحة: "به… في روح واحد". إن ضمير الهاء "الغائب" في
"به" يشير إلى المسيح "الحاضر" في كل مكان وكل زمان, الذي به
تمت مصالحة اليهود بالأمم, وأقيم السلام بين اليهود والأمم من جانب, والله من
الجانب الآخر. ولقد أتم المسيح هذه المصالحة بصليبه. وبعد صعوده أرسل روحه القدوس
إلى كنيسته ليستقر فيها ويبشر بهذا السلام بواسطة رسله القديسين. هذا هو الروح
القدس المقصود بقول الرسول: "في روح واحد" ومن الملاحظ, أن العبارة:
"في روح واحد" جاءت مقابلة لقول الرسول: "في جسد واحد" (عدد
16). فهذا الجسد الواحد الذي هو كنيسة المسيح الواحدة مفعم حياة بالروح الواحد,
لأن المسيح وجدنا كلنا عظاماً مبعثرة كتلك التي رآها حزقيال, فنفخ فينا من روحه.
فلبس الروح عظامنا فتقاربنا من بعضنا البعض, وصرنا كلنا جسداً روحياً واحداً (2كو
13: 14, 1بط 1: 2, يهوذا 20و 21). وقد جاءت كلمة "واحد" بعد
"روح" مقابلة لكلمة "كلينا". فإذاً قد صار الفريقان ذاتاً
واحدة, وإنساناً واحداً.

 

(4)مآل
المصالحة: "إلى الآب". مع أن لتقريب اليهودي من الأممي مكاناً ممتازاً
في برنامج الفداء, إلا أن تقارب اليهودي من الأممي يعتبر عملاً ابتدائياً بالقياس
إلى تقرّب الناس من الله –هذا هو المآل النهائي للمصالحة: "إلى الآب".

 

إن
هذه الكلمة القدسية الجليلة "الآب" تصف صلة الله, الأقنوم الأول في
اللاهوت, بالمسيح الابن- الأقنوم الثاني في اللاهوت. لاحظ أن الثالوث الأقدس ذُكر
في هذا العدد: -"به"- الأقنوم الثاني. روح "واحد" –الأقنوم
الثالث. "الآب" الأقنوم الأول.

 

فما
أجل هذه الصلة القدسية وما أعمقها. فقد تاهت عنها كل تخيلات أساطير الأقدمين,
وقصرت عنها حكمة المتقدمين والمتأخرين. إذ كانوا ينظرون إلى الله نظرة المتهم
المجرم إلى قاض عادل. واقف له بالمرصاد وعلى فمه النطق بالإعدام. أو كمهندس عظيم
خلق آلة الكون, ثم تركها واستوى على عرشه ليراقب سيرها عن كثب.إلى أن جاء المسيح,
فكشف لنا نحن الأطفال عن هذا السر الدفين الذي ظل مخفي عن الحكماء والفهماء نعم عرف
اليهود قديماً شيئاً عن هذه النسبة الجليلة في كتابات الزابوري إلا أنهم عرفوا
الله أباً للأمة كمجموع. ولكن المسيح وحده هو الذي أعلمني أنا الإنسان الترابي
الساقط إني ابن لهذا الإله الأعظم.

 

غير
أن بنوة المسيح لله غير بنوة البشر له تعالى, بدليل قوله: "أبي وأبيكم"
(يو 20: 17), وكان في إمكانه أن يقول "أبينا", لو كانت هذه البنوة
واحدة. فهي تختلف عنها في النوع وفي الرتبة.

 

ولكن
مالنا من نصيب في هذه النسبة الجليلة, يكفينا ويفضل عنا, ويزيد!!

 

التآلف
بين اليهود والأمم (2: 19- 22)

عدد
19 :

19فَلَسْتُمْ
إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ
بَيْتِ اللهِ

 

-أ-ما
كانوا عليه بالطبيعة: "فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاً" عاد الرسول على
استعارته المدنية, فاستعمل تعبيراً مفهوماً لدى عقلية اليونان المستوطنين أفسس
وغيرها من سائر البلدان اليونانية "فالغرباء" هم الأجانب عموماً الذين
يحلّون بالديار ويقطنونها ويتمتعون ببعض "امتيازاتها" لكنهم يظلون
مطبوعين بطابع الاغتراب. "والنزُلُ" هم الغرباء الرحّل المؤقتون الذين
يتنقلون بين هنا وهنالك من حين إلى حين. فالغرباء والنزُل كانوا يتمتعون ببعض
المزايا الوطنية –ولكن على سبيل "السماح والنعمة", لا بحسبان أنها حق.فالسكن
كان ممنوحاً لهم, لكن حق الرعوية كان ممنوعاً عنهم, فكانوا منه محرومين.

 

هذا
هو الموقف الطبيعي الذي كان يجب أن يكون عليه الأمميون –ومنهم الأفسسيون- الذين
اعتنقوا المسيحية,إذ كانوا بالنسبة لليهود غرباء ونزلاً, لكن النعمة خوّلتهم حق
امتياز الرعوية فأصبحوا متمتعين بكامل حقوق الرعوية المسيحية مع كونهم غرباء,
وأضحوا من أهل البيت على رغم كونهم نزلاً, وأمسوا من أصل الكرمة حال كونهم أغصاناً
غريبة طُعمّت فيها.

 

-ب-ما
صاروا إليه بالنعمة: "بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله". إن كلمة
"قدّيسين" تصف شعب الله القديم الذي أفرزه الله وخصصه لذاته وعبادته.
ولما أسست المسيحية احتلت المكانة التي كانت للشعب اليهودي في برنامج الفداء. وعلى
هذا الاعتبار –كما يقول الأسقف ليتَفوت- قد آلت إليها كل الحقوق والامتيازات
الروحية التي كانت من حق الشعب اليهودي. لأن الكنيسة المسيحية –كما يصفها بطرس
الرسول- "جنس مختار", وكهنوت ملوكي, أمة مقدسة, شعب اقتناء" (1بطرس
2: 9). فكل الذين دخلوا الكنيسة في عهد النعمة أضحوا "قدّيسين" بالدعوة,
والتكريس, والتقديس, فالأمميون الذين انضموا إلى زمرة اليهود المنتصرين, أصبحوا مع
القديسين في كل شيء لأنهم لا ينقصون عنهم في شيء. وقد خلع عليهم الرسول –في هذا
العدد وفي الأعداد التي تليه- خمسة أوصاف تعبّر عن متانة اتحادهم مع المؤمنين
الذين سبقوهم من أصل يهودي:

 

(1)رعية
واحدة: "رعية مع القديسين". (2)عائلة واحدة: "أهل بيت الله"
(عدد 19). (3)بناء واحد: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه
حجر الزاوية" (عدد 20). (4)هيكل واحد: "الذي فيه كل البناء مركباً معاً
ينمو هيكلاً مقدساً للرب" (عدد 21). (5)مسكن واحد: " مبنيون معاً مسكناً
لله في الروح" (عدد 21).

 

غير
خافٍ, أن الثالوث الأقدس ذُكر بوضوح وجلاء في هذه الأوصاف التي هي استعارات
ومجازات متجمعة ومتراكمة فوق بعضها البعض, مما ينمّ عن بصيرة الرسول النيرة, وروحه
المحلقة في سماء الوحي, وعقله الخصيب الذي تتزاحم فيه المعاني فيلبسها من
الاستعارات والكنايات أجمل الحلل وأبهاها. فالأقنوم الأول: الله الآب –ذُكر في عدد
19: "وأهل بيت الله". والأقنوم الثاني: الله الابن –ذُكر في عدد 20-
"ويسوع المسيح نفسه". والأقنوم الثالث: الروح القدس –ذُكر في عدد 22-
"مسكناً لله في الروح".

 

إن
كلام الرسول في هذا الفصل الموجز (2: 19- 22) مرتبط بعضه ببعض ارتباط الحلقات
المكينة, في سلسلة متينة. فعباراته كدرجات متصاعدة في سلم واحدة. فالكلام في عدد
19 تناول "فكرة" البيت المعنوي. وطبيعي أن الكلام عن البيت, يرجع بالفكر
إلى الكلام عن "بناء" البيت –هذا ما عالجه الرسول في عدد 20. وطبيعي
أيضاً أن الكلام عن البيت المبني, يؤدي إلى الكلام عن "الهيكل" الذي هو
أقدس بيت- هذا ما أوضحه الرسول في عدد 21. ومنطقي أن الكلام عن الهيكل, ينتقل
بالفكر إلى "المسكن" الذي هو "قدس" الهيكل –هذا ما بينه
الرسول في عدد 22.

 

(1)الوصف
الأول- رعية واحدة: "رعية مع القديسين".

 

من
الملاحظ أن بولس الرسول استعمل التشبيهات سالفة الذكر, بحسب الصور المختلفة التي
ارتسمت في ذهنه عن حقيقة كنيسة المسيح. وبحسب وصف الكنيسة, يكون وصف المؤمنين
الداخلين إلى أحضانها. فقال عن المؤمنين أنهم "رعية واحدة", باعتبار كون
الكنيسة ملكوتاً روحياً, والمسيح ملكه. وقال عنهم أنهم "أهل بيت واحد"
باعتبار كون الكنيسة عائلة واحدة, والمسيح ربها. وقال أنهم "بناء واحد"
على اعتبار أن الكنيسة بيت مبني, والمسيح نفسه حجر الزاوية. وقال إنهم "مسكن
واحد" باعتبار كون الكنيسة هيكل الله الحي, والمسيح كاهنه الأعلى وربه.

 

(2)الوصف
الثاني-عائلة واحدة: "أهل بيت الله".

 

إنه
لمشجع حقاً أن الأممي الذي كان غريباً ونزيلاً حسب الطبيعة مستحقاً الطرد في أي
وقت, والحرمان من كل الحقوق, يصبح ابناً في بيت الله. متمتعاً بكامل حقوق البنوة,
هانئاً, ناعم البال.

 

عدد
20:

20مَبْنِيِّينَ
عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ
الزَّاوِيَةِ،

 

 (3)الوصف
الثالث-بناء واحد: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر
الزاوية".

 

 إن
كلام الرسول في العدد السابق عن "البيت" يرجع بالفكر إلى بناء هذا
البيت. فالعدد السابق يتناول الكلام عن أهل البيت, وهذا العدد يتناول الكلام عن
البيت ذاته. فقال الرسول عن الأمم أنهم مبنيون على الرسل والأنبياء ويسوع المسيح
نفسه حجر الزاوية. فأبان لنا في هذا العدد ثلاث حقائق:

 

 -أ-أحجار
البناء: "مبنيين" –أعني المؤمنين من الأمم, ومن اليهود الذين سبقوهم إلى
الإيمان المسيحي. هؤلاء هم الأحجار الحية في هذا البناء. إن كلمة.
"مبنيين" تعين حالة استقرت وتمت في الماضي يوماً ما, بيد الفادي المجيد.
على أن الرسول أوضح أن المؤمنين من الأمم واليهود ليسوا أول أحجار في البناء,
لكنهم مبنيون على أساس قائم.

 

 -ب-أساس
البناء: "على أساس الرسل والأنبياء". إن الرسل والأنبياء المعنيين هنا,
هم رسل العهد الجديد وأنبياؤه. أما "الرسل" فهم الاثنا عشر المعروفون.
وأما "الأنبياء" فهم الذين وإن كانوا لم يشاطروا الرسل وظيفتهم الفريدة
إلا أنهم استنيروا وأُلهموا بطريق مباشر فأنبأوا بالمستقبل حيناً (أعمال 11: 28),
ونادوا بحقائق روحية راسخة (أعمال 3: 5, 1كو 14), لأنهم كانوا مكلفين بإبلاغ
الحقائق التي أُودعوا إياها –أمثال يهوذا وسيلا (أعمال 15: 32).

 

 ويجدر
بنا أن نلاحظ أن "الرسل والأنبياء" معتبرين أساس البناء لا في أشخاصهم
بل بالنظر إلى التعاليم والمبادئ التي وضعوها بإلهام الروح, وبها صار للأمم حق
الدخول إلى ملكوت النعمة, والتمتع بالنعم والمزايا التي يتمتع بها اليهود.

 

 في
رسالة سابقة, استعمل الرسول استعارة البناء والأساس, حيث قال: "فإنه لا
يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح" (1كو 3:
11) ولكن كلام الرسول في رسالة كورنثوس الأولى يختلف عنه في رسالة أفسس. في
أولاهما تكلم عن الرسل باعتبار كونهم بنائين, لكنه تكلم عنهم في أفسس باعتبار
كونهم أحجاراً حية في أساس البناء. في أولاهما –المسيح حجر الزاوية, وفي الثانية
–المسيح أساس البناء.

 

 -ج-حجر
الزاوية: "ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية".

 

 إذ
اعتبرنا الكنيسة جسداً حياً, فإن المسيح هو رأس هذا الجسد وبالتالي هو العنصر
الرئيسي في الجسد, لأن الرأس متمم للجسد. وإذ اعتبرنا الكنيسة بناء حياً, فإن
المسيح هو حجر الزاوية في هذا البناء, وهو بالتالي الركن الركين في هذا البناء. ولعل
بولس عندما استعمل هذه الاستعارة, كان يردد في ذهنه الكلمات الواردة في إشعياء 28:
16 "لذلك هكذا يقول السيد الرب: هأنذا أؤسس في صهيون حجراً –حجر امتحان حجر
زاوية, كريماً أساساً مؤسساً" هذا يذكرنا بكلام المسيح لبطرس: "وأنا
أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (متى 16: 18).

 

 الكلمة
المترجمة هنا "حجر الزاوية", هي في الأصل كلمة واحدة. وهي تعني الحجر
الرئيسي الذي يُوضع فوق الأساس ليربط جدارين معاً في بناء واحد. أليس لنا أن
نستنتج من هذا, أن المسيح باعتبار كونه حجر الزاوية في بناء الكنيسة, قد ربط اليهود
والأمم معاً في هذا البناء المعنوي, فحفظ البناء كله من التفكك والانهيار؟

 

 وجدير
بالملاحظة: أن وضع حجر الزاوية في البناء لم يكن مألوفاً لدى اليونان بقدر ما كان
معروفاً ومألوفاً لدى الشرقيين سيما العبرانيين. وقد اكتشف السر هنري ليارد في
حفريات نينوى بعض أحجار ضخمة, منحوتة على شكل زوايا قائمة, كانت مستعملة قديماً
لربط جدارين متجاورين في بناء واحد, مما دلَّ على أن أهل نينوى كانوا يضعون
"أحجار زاوية" في أبنيتهم.

 

إن
كلمة "نفسه" الواردة بعد اسم المخلص المجيد, تنمّ عما لفادينا العظيم من
مجد وجلال ممتازين. لا يشاطره إياهما الرسل والأنبياء. فإذا كانت مهمة الأنبياء,
إذاعة الحق الإلهي, فإن المسيح هو أساس هذا الحق بل هو الحق نفسه.

 

عدد
21:

21الَّذِي
فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي
الرَّبِّ.

 

 (4)الوصف
الرابع –هيكل واحد: "الذي في كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في
الرب".

 

 يحدثنا
الرسول في هذا العدد عن أربعة أمور: أولاً: تعاون عناصر البناء في النمو: "كل
البناء مركباً معاً". ثانياً: عنصر النمو في هذا التعاون: "ينمو"
ثالثاً: الغاية التي يبلغها هذا النمو: "ينمو هيكلاً مقدساً" رابعاً:
العامل الحي في هذا النمو: "في الرب".

 

 أولاً:
تعاون عناصر البناء في النمو: "الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو".
مما لا جدال فيه, أن بولس الرسول, وهو يكتب هذا العدد, كان واضعاَ نصب عينيه هيكل
أرطاميس الذي كان مفخرة أفسس في هاتيك العصور. أفلا يجوز لنا أن نعتقد أن الرسول
أراد أن يوجد مقارنة بين هيكل أرطاميس –الذي هو مفخرة, حسب الظاهر, ومعرّة في
الواقع- وبين الهيكل العظيم الذي أقامه المسيح على الأرض بنشره ملكوته في المعمور؟
فكلاهما هيكل, وكلاهما هيكل ذو بناء, وكلاهما هيكل عظيم. إلى هنا تنتهي أوجه الشبه
بين الهيكلين, وتبتدئ أوجه الخلاف. فلئن اقترب الهيكلان حيناً إلا أنهما يتباعدان
إلى الأبد تباعد الظلام عن النور, والجحيم عن النعيم. فهيكل أرطاميس بناء مادي,
لكن هيكل المسيح بناء روحي. هيكل أرطاميس بناء ميت لأنه مقام من أحجار جامدة ميتة,
لكن هيكل المسيح بناء حي نامٍ لأنه مُقام من أحجار حية معنوية. هيكل أرطاميس هيكل
نجس كانت تُرتكب فيه الموبقات باسم العبادة, لكن هيكل المسيح مقدس تسمو فيه النفس
فوق الدنايا. هيكل أرطاميس كان مكرساً ل"ديانا" آلهة الصيد لكن هيكل
المسيح مكرس للفادي المجيد.

 

 ثانياً:
عنصر النمو في هذا التعاون: هذا التعاون عملية نامية: "ينمو". غير خافٍ
أن بولس, اليهودي الأصل والثقافة, لا يمكن أن يخط كلمة عن هيكل ما, من غير أن يحضر
في ذهنه هيكل سليمان. والمستفاد من قوله: "كل البناء مركباً معاً ينمو
هيكلاً", إن الرسول –وقت كتابة هذه العبارة- كان متفكراً بالأروقة الكثيرة
المنوعة, التي تركّب منها هيكل سليمان, فقد كان كل رواق منها متوَّجاً بقبة, وكانت
كل القباب متصلة معاً ومتماسكة, لتكوّن هيكلاً واحداً رئيسياً. فالأبنية كثيرة
ومنوّعة, لكنها متعاونة كلها ومتساندة في تأليف هيكل واحد. وبما أن هيكل سليمان لم
يكن بناء ساعته بل كان مرتباً ومنظماً وفق تصميم خاص, لدرجة لم يُسمع فيها صوت وقت
بنائه, لذلك كان من السهل على من يراقب بناء الهيكل, أن يرى كل بنائه نامياً يوماً
فيوماً, ومتقارباً عند سقفه نحو سائر الأبنية, لتكوّن كلها مجتمعاً واحداً رئيسياً
ينتهي إلى قبة الهيكل الرئيسية التي كانت مفخرة فن البناء في تلك العصور.

 

 إن
تآلف الأروقة الكثيرة المتضمنة في الهيكل لتكوّن هيكلاً واحداً, لهو رمز إلى تآلف
الأجناس المختلفة التي تتألف منها كنيسة المسيح –لا فرق بين بربري وسكيني, عبد
وحر, يهودي ويوناني, بل الجميع يؤلفون هيئة واحدة.

 

 هذا
رأي بعض المفسرين في معنى قول الرسول: "كل البناء" –أي كل العناصر أو
الأروقة التي يتألف منها الهيكل. ويرى البعض الآخر –وبينهم الدكتور ارمتاج
روبنسون- أن بولس الرسول نظر إلى البناء نظرته إلى جسم حي نامٍ مدة عملية بنائه,
وإن كل حجر فيه يقوم بقسط من هذا النمو. ونميل نحن على ترجيح الرأي الثاني كما
يتبين من معنى كلمة "هيكل" فيما يلي:

 

 ثالثاً:
الغاية التي يبلغها هذا النمو: "ينمو هيكلاً مقدساً". في اللغة
اليونانية كلمتان تعنيان "هيكلاً" –الأولى: "ناؤس". والثانية:
"هيرون".فالكلمة الأولى: "ناؤس" –المستعملة في هذا العدد-
تعني, بحصر اللفظ, ذلك البناء المقدس المكوّن من "القدس وقدس الأقداس"
والكلمة الثانية: "هيرون" تعني الهيكل بكل أروقته الخارجية التي اجتمع
فيها كل الشعب للعبادة. ويلاحظ هذا الفرق في المعنى المراد من الكلمتين في كتابات
يوسيفوس المؤرخ اليهودي, وفي رسائل كتبة العهد الجديد. فالهيكل –كما تدل عليه
الكلمة الثانية- هو المكان الذي وقف فيه الفريسي والعشار مُصلين, وهو المكان الذي
طالما علم فيه ربنا وفادينا, ومنه طرد التجار. لكن الهيكل –كما تدل الكلمة الأولى-
هو المكان الذي ظهر فيه الملاك لزكريا الكاهن, وهو المسكن الذي انشق حجابه وقت
الصلب. وبين هذا المكان وبين المذبح, قتل زكريا بن برخيا.

 

 رابعاً:
العامل الحي في هذا النمو: "في الرب". هذه أول مرة استعمل فيها الرسول
هذه العبارة الجليلة في هذه الرسالة. ومن الملاحظ أن بولس –حينما يريد وصف الصلة
العلوية الفائقة الكائنة بين المسيح والمؤمنين- التي على أساسها يقبلون أمام الله-
يعبر عنها بقوله: "في المسيح". ولكنه عندما يريد أن يصف نتائج هذه الصلة
التي تظهر في الحياة العملية, يعبر عنها بقوله: "في الرب". قارن بين
قوله: "مخلوقين في المسيح يسوع" (أفسس 2: 10) وقوله: "تقوّوا في
الرب" (أفسس 6: 10). "في المسيح" –نحن في السماء- من حيث المركز
والمقام. "في الرب" –نحن في هذه الحياة- من حيث التصرف والسلوك.

 

 أورد
بولس هذه العبارة القدسية "في الرب", ليبين لنا أن الرب هو العامل الحي
الفعال في هذه الوحدانية. وأنه هو سر النمو والتقديس.

 

عدد
22 :

22الَّذِي
فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلَّهِ فِي الرُّوحِ.

 

(5)الوصف
الخامس-مسكن واحد: "الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في
الروح".

 في
هذا العدد ذُكر الثالوث الأقدس بجلاء ووضوح: "فيه" –في المسيح الأقنوم
الثاني. "الله" –الأقنوم الأول. "في الروح" –الأقنوم الثالث.

 

 -أ-أساس
البناء وروحه: "الذي فيه" –في المسيح- "أنتم أيضاً" -أيها
الأمم باعتبار كونكم شركاء اليهود في تدبير الفداء وفي عهد النعمة- فأصبحتم وإياهم
رعية واحدة.

 

 -ب-التآلف
بين عناصر البناء: "مبنيون معاً". هذه العبارة تنمّ عن عملية حالية
مستمرة, ومتجددة في كل آونةٍ يُقبل فيها أعضاء أحياء إلى كنيسة المسيح. لأن قبولهم
يكون بمثابة إضافة أحجار إلى البناء النامي القائم. وكلمة "معاً" تشير
إلى التعاون المتبادل, والتساند الكائن بين عناصر البناء الواحد.

 

 -ج-غاية
البناء المتآلفة عناصره: "مسكناً لله". الكلمة اليونانية المترجمة:
"مسكن" لم ترد في العهد الجديد سوى مرة أخرى (رؤيا 18: 2). وهي تعني
بالذات "البناء الدائم المقيم". فالإشارة فيها منصرفة إلى اعتبار
الكنيسة مسكن الله الدائم. ولا شك أن هذه الفكرة ستتم كمالياً في الكنيسة الممجدة
بعد أن تتحقق جزئياً في الكنيسة المجاهدة على الأرض. وغاية الغايات من هذا البناء,
أن ينمو مسكناً "لله", الذي إليه مآب الجميع, ليكون "هو الكل في
الكل" (1كو 15: 28).

 

 -د-واسطة
تآلف عناصر هذا البناء: "في الروح". إن الروح القدس هو العامل في إحياء
عناصر البناء, وفي إبلاغ كل غايته المثلى التي وُضع لها, ووضعت هي له. هذه إشارة
أخرى واضحة إلى عمل الروح القدس في الكنيسة.

 

 بمراجعة
الأعداد القليلة, التي مرت بنا, يتضح لنا أن عناصر البناء مؤسسة على المسيح, تنمو
هيكلاً مقدساً لله, بواسطة الروح القدس.

 

 إن
قوله: "في الروح", الذي به يختتم هذا الأصحاح, يعتبر عبارة وصفية للهيكل
الجديد المقدس. فليس هو بالهيكل المادي المبني من لبنٍ, وأحجار, ورمال. لكنه هيكل
روحي, قوامه "أحجار" حية من نساء ورجال (1بطرس 2: 5). ولعل هذه العبارة
تنطوي على إشارة ضمنية إلى نبوة المسيح, التي تخطت عقول من وقعت على مسمعهم لأول
مرة: "انقضوا هذا الهيكل, وفي ثلاثة أيام أقيمه". فلئن فسرها أعداؤه
وحسبوها منصبة على الهيكل المادي الذهبي الذاهب, إلا أن تلاميذه الروحيين يفهمون
مغزاها الحقيقي. فهيكل سليمان عبثت بسه عوامل الهدم والفناء, لكن هذا الهيكل
الروحي باقٍ ما بقي رب الأرض والسماء.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي