الإصحَاحُ
الْخَامِسُ

 

1فَكُونُوا
مُتَمَثِّلِينَ بِٱللّٰهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، 2وَٱسْلُكُوا
فِي ٱلْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ
نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلّٰهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.

في
الأصحاح السابق، ناشد الرسول الأفسسيين أن يخلعوا الإنسان العتيق، ويقلعوا عن
أعماله. وختم بصب كلامه على الخطايا التي تثير البغضاء بين الناس. وحض المؤمنين
على ممارسة الفضائل التي تعزز وحدانتيهم ودعوتهم المقدسة التي هي محور هذه
الرسالة.

(1)
إن المحبة التي أحبنا بها الآب السماوي، وعبر عنها في شخص يسوع ابنه الذي صلب
ليخلصنا من خطايانا. وأقيم لأجل تبريرنا. هي أقوى حافز لنا على قداسة حياتنا،
القداسة التي كانت موضوعاً لاهتمام ربنا ومخلصنا. وقد عبر عن اهتمامه بها بصلاته
الشفاعية حين قال: «أيها الآب… قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ» (يوحنا 17: 17).

«كونوا
متمثلين بالله» تعتبر هذه العبارة حلقة اتصال بين هاتمة الأصحاح السابق وهلة هذا
الأصحاح. ويا لها من دعوة! إنها ترفع من يلبيها عن الدنايا. وتدفعه صعداً إلى
الفضائل العليا.

فكون
المؤمنين أولاد الله يستلزم أن يكونوا مثل أبيهم السماوي. الذي هو نفسه محبة
(يوحنا 4: 8) والذي لم يشفق على ابنه، بل بذله من أجلنا أجمعين (رومية 8: 32).

وبتعبير
آخر أن التمثل بالله في محبته المتسامحة المضحية، هو الطابع الواجب أن تتميز به
حياة أولاد الله. فيحيوا حياة تحاكي، على نوع ما حياة الله المتجلية في دائرة
النعمة.

(2)
«واسلكوا في المحبة» هذه الكلمة تجعلنا مكلفين أن نمارس هذه الفضيلة في كل سلوكنا.
بمعنى أننا كأولاد أحباء ملأت المحبة قلوبهم، يجب أن نسلك بروح البنين، ودالة
البنين، وحرية البنين.

«كما
أحبنا السميح وأسلم نفسه لأجلنا…» هذا قياس محبتنا، محبة المسيح لنا. ولعل الرسول
حين كتب هذه العبارات، كان يتردد في خاطره صدى كلمات المسيح في خطابه الوداعي
لتلاميذه: «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ
بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ
بَعْضاً» (يوحنا 13: 34) «هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ
بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا
أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15: 12 و13).

«وأسلم
نفسه» إن كلمة أسلم، تفيد التسليم التطوعي بروح منتدب، لكأن المسيح مقدم على عمل
هو في غاية الشوق إلى القيام به. فهو أحبنا لأنه أراد أن يحبنا. وبالمحبة قدم نفسه
للصلب، إتماماً لبرنامج الفداء العديب الذي دبرته المشورة الإلهية قبل كون العالم.
وكلمة «لأجلنا» تفيد أن محبة المسيح لنا محبة فدائية، لأنه مات بديلاً عنا ليحيينا.
ولكي ندرك مدى التضحية في عمل الميسح، يجب أن نذكر ما للمسيح من سمو وقداسة وما
نحن عليه من انحطاط ونجاسة. هذا ما أشار غليه الرسول بقوله: «لأَنَّ
ٱلْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي ٱلْوَقْتِ
ٱلْمُعَيَّنِ لأَجْلِ ٱلْفُجَّارِ. فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ
يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ
أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ
مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ
لأَجْلِنَا» (رومية 5: 6-8).

هذه
هي محبة المسيح الفدائية، وقد جعلها الرسول قياساً للمحبة، التي بها ينبغي أن نحب
بعضنا بعضاً. حتى الموت أحبنا مقدماً لنا أشرف باعث لهذه المحبة، إذ قدم نفسه
ذبيحة للتكفير عن خطايانا.

الصلاة:
يا الله سيدنا وإلهنا، نشكرك لمحبتك الفائقة التي أحببتنا بها. نقر أمامك بضعف
محبتنا، ونسألك الغفران عن فتور محبتنا لك وللغريب. نسألك باسم فادينا المحب أن
تضرم نار المحبة في قلوبنا. آمين.

3وَأَمَّا
ٱلزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا
يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ، 4وَلاَ ٱلْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ
ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ
بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ. 5فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هٰذَا أَنَّ
كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ
لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ.

في
القسم الأول من هذا الفصل، أرانا الرسول كيف نسلك طبقاً للحق الذي في المسيح يسوع،
وكيف نتعلم فيه. وفي هذا القسم يحضنا على أن نسلك كأولاد نور. وهنا نلاحظ أن الروح
القدس يرفع غطاء الاحترام عن المسيحيين الاسميين، لكي يشهر بالفساد الأدبي المستتر
وراء ممارساتهم الدينية الخارجية، والذي يعمل لتقويض أركان حضارتنا. كان هناك خطر
انتشار العدوى بين الشعب، ولهذا وجه الرسول تحذيره الصارم الذي ختمه بكلمة حازمة
«فلا يسم بينكم».

وفي
الفصل السابق نهى الرسول عن الخطايا التي يرتكبها الإنسان على أخيه، ونلاحظ أنه لم
يكتف بالنهي عن الزنى، بل نهى عن كل ما يشاكله ويؤدي إليه، حتى ذكره، لكأنه ينجس
شفتي المتكلم به وآذان سامعيه. وفي نطري أن الرسول قصد بتحذيره، ليس فقط أن نمتنع
عن الشر، بل أيضاً أن نتجنب ذكره.

قرن
بولس الطمع بالنجاسة، لأن الوثنيين كانوا يمارسون الخطايا المنافية للعفاف بلا
ضابط، سوى ميولهم النهمة التي لم تكن تعرف حداً للشبع. وغير خاف أن رذيلتي النجاسة
والطمع لهما معنى واحد عدم الاكتفاء. وهو وليد حب الذات.

إن
هذا المثلث الفاسد: الزنى النجاسة الطمع، الذي استشرى في جيلنا، يجب أن يثير فينا
ليس فقط القرف والاشمئزاز، بل أيضاً الشفقة على ضحاياه. لذلك وضعت علينا الضرورة
لنكافح ضد هذه الآفة شاهرين سيف الحق الذي هو كملة الله.

كما
يليق بقديسين هذه العبارة يجب أن تستوقفنا طويلاً. لأنها تذكرنا باختيار الله لنا
للقداسة، وختمه إيانا بالروح القدس. وهذا يستلزمنا أن نلاحظ سيرتنا، فلا تكون لنا
أدنى مشاركة في تلك الخطايا الدنسة.

(4)
في نظرته إلى تصرفات البشر، وضع الرسول الخطايا الكلامية في مستوى واحد مع الخطايا
الفعلية، لأنه نوع من الفساد الأدبي، ولأن الكلام يسوق إلى الفعل. لذلك يجب في هذا
المجال أن يكون كلامنا لائقاً بدعوتنا المقدسة.

القباحة
– كلمة تصف كل دنيء ومكروه قولاً وفعلاً. وقد درج الناس على أن يصفوا المناظر
بالحسن والقبيح، وطبقوا هذه القاعدة على السجايا، فدعوا الفضائل حسنة والرذائل
قبيحة.

السفاهة
– تعني التكلم عن الشر بلسان الجاهل المستخف بخطاياه وخطايا الغير. وقد حذر
المؤمنين من معبتها لأنها كثيراً ما تكون سبباً للعثرات.

الهزل
– يعني المزاح والسخرية، التي اعتاد البعض ممارستها لإدخال السرور على نفوسهم
ونفوس سامعيهم. وهي لا تليق بقديسين، لأنها تشغل الوقت بالأباطيل. ولعل الرسول وضع
الهزل في هذا الإطار الأسود، لأن الأفسسيين اشتهروا به، حتى ضرب بهم المثل في
المزاح. ويقول العارفون أن الأفسسيين كغيرهم من سكان آسيا الصغرى، كانوا متأثرين
بفكرة الفيلسوف أريسطو الذي كان يحسب المجون ضرباً من الفنون الجميلة.

ويبدو
أن الفوضى الأدبية كانت منتشرة في كنيسة كورنثوس. لذلك كان لا بد للرسول المغبوط
من أن يتخذ موقفاً حازماً حيال الأعضاء العابثين بالفضيلة، والذين يدعون أنفسهم
أخوة. فقال: كتبت إليكم في الرسالة أن لا تخالطوا الزناة. وليس مطلقاً زناة هذا
العالم، أو الطماعين أو الخاطفين أو عبدة الأوثان. وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من
العالم، وأما الآن فكتبت إليكم إن كان احد مدعواً أخاً زانياً أو طماعاً أو عابد
وثن أو شتاماً أو سكيراً أو خاطفاً، أن لا تخالطوا ولا تواكلوا مثل هذا… فاعزلوا
الخبث من بينكم (1 كورنثوس 5: 9-13).

الصلاة:
أيها الآب القدوس، قلوبنا تشكرك لأنك لأجل غفران خطايانا وتقديسنا بذلت ابنك
الوحيد، أرسل روحك وحقك إلى قلوبنا لكي تحفظنا في البر وقداسة الحق. آمين.

6لاَ
يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هٰذِهِ
ٱلأُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ ٱللّٰهِ عَلَى أَبْنَاءِ
ٱلْمَعْصِيَةِ. 7فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.

(6)
يبدو أن كثيرين من الأفسسيين استخفوا بأعمال الظلمة التي وبخها الرسول. لأن
الفلاسفة الوثنيين حسبوا تلك الخطايا الشهوية من الأمور الطبيعية. وأن بعض
المسيحيين السطحيين، وافقوهم، قائلين أنها أمور جسدية، ولا يمكن أن تدنس النفس.
فحذر بولس المؤمنين من أن ينقادوا بغرور الفلسفات الباطلة. وأكد بسلطانه الرسولي،
أنه بسببها «يأتي غضب الله على أبناء المعصية» وإننا لنرى من خلال لهجة الرسول، أن
خطراً كبيراً كان يهدد المؤمنين، وهو الانجذاب في تيار الأشرار. لذلك وجد أن
لزاماً عليه أن يشهر بهذه المعاصي، ويحذر من ارتكابها.

يقول
المؤرخون أن أفسس في زمن كتابة هذه الرسالة، كانت مرتعاً لشتى الآراء الفلسفية،
وبؤرة للنزعات الدينية المتباينة. وبينها شيعة الغنوسيين، التي كانت تزيع تعاليم
مضلة مفادها أن يحق للإنسان أن يتصرف جسدياً كما يحلو له، من غير أن يؤثر تصرفه في
حالته الروحية. فيشاطر أهل الظلام ممارساتهم، ويشاطر أبناء النور ممارساتهم. لكأنه
من أبناء الله في النهار، ومن أبناء بليعال في الليل. هذا هو الكلام الباطل وقد
شجبه الرسول الكريم بقوله: «لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ
ٱلْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْمِ؟
وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ ٱتِّفَاقٍ
لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ
ٱلْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ ٱللّٰهِ مَعَ
ٱلأَوْثَانِ؟» (2 كورنثوس 6: 14-16).

إن
الباعث على هذا الموقف الواجب أن يتخذه المؤمنون، هو وقوع غضب الله بسبب هذه
الشرور على المرتكبين المصرين على العصيان. بمعنى أن هذه الكبائر لا يمكن أن تعفى
من عقاب الله، كما توهم المضلون من فلاسفة وغنوسيين. لأنه إن كان غضب الناس في حد
ذاته مخيفاً، مع أنه محدود، فكلم بالحري يكون غضب الله مخيفاً؟ (عبرانيين 10: 31)
ولا ريب أن غضب الله على أبناء المعصية يبدأ بالحال. فإن الله يرفع روحه عنهم بسبب
تماديهم في الشر بالرغم من الانذارات، وفقاً لقوله له المجد «لاَ يَدِينُ رُوحِي
فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ» (تكوين 6: 3) وهذا ما
أشار إليه الرسول، إذ قال: «وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا
ٱللّٰهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ إِلَى
ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ» (رومية 1: 28) هذه هي مغبة العناد
في مقاومة الحق، الوقوع في قبضة الذهن المرفوض الخالي من كل إحساس، ومن القدرة على
تمييز الأشياء المتخالفة. فانظر إلى أين تقود الخطية، وإلى أية هاوية يطرح الخاطي
الذي يزدري بروح النعمة ويرفض خلاص الله.

في
اعتقادي أنه عندما يتوافق الضمير والخطية يصبح الإنسان في طريقه إلى جهنم. أنه
يفعل ما لايليق بكرامة الإنسان، ويناقض حتى ناموس الطبيعة، وهذا ما عبر عنه الرسول
بإهانة الجسد (رومية 1: 24) فالإنسان الذي يرفض معرفة الله خالقه يتدهور أدبياً
ويصبح أحط من البهائم التي تباد (مزمور 49: 20). وهكذا يسمح الله أن تكون إحدى
السقطات قصاصاً للأخرى.

(7)
لا تكونوا شركاء أي لا تكونوا شركاء أبناء الظلمة المستبيحين في التصرف، لئلا
تصيروا شركاءهم في القصاص المعد لأبناء المعصية غير التائبين، الذين من أجل
قساوتهم وقلبهم غير التائب يذخرون لأنفسهم غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة
الله العادلة (رومية 2: 5) والواقع أن الذين يسلكون في طريق المعصية يكدسون
لأنفسهم غضباً. لأن كل خطية ترتكب عن عمد تضيف المكيال وتضاعف المحاسبة. إن خزانة
الغضب هي قلب الله، الذي عيناه لا تستطيعان أن تريا الشر.

هل تبحث عن  م الأباء أثنياغوروس الدفاع عن المسيحيين 02

وحين
نتأمل في كلمة الرسول بعمق، نرى فيها تذكيراً لطيفاً لمؤمني أفسس بسلوكهم السالف
قبل أن يعرفوا المسيح مخلصاً، حيث كانت لهم شركة مع أبناء المعصية. وفي الكلمة
أيضاً حض لهم على الاحتفاظ بالنقاوة التي صارت إليهم بكلام المسيح.

الصلاة:
كم نشكرك يا إلهنا الصالح، لأجل كلمتك التي بها تنقي قلوبنا. أعنا لكي تسكن كلمتك
فينا بغنى لكي تحفظنا من السقوط في الجهالات بعد ما عرفنا الحق في المسيح، وصارت
لنا حرية أولاد النور. آمين.

8لأَنَّكُمْ
كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا ٱلآنَ فَنُورٌ فِي ٱلرَّبِّ.
ٱسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ. 9لأَنَّ ثَمَرَ ٱلرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ
صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ. 10مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ
ٱلرَّبِّ.

(8-9)
لقد دل الاختبار على أن الذي يسلك كابن نور، لا يمكن أن يرتد، أو يشترك في أعمال
الظلمة، لأنه صار نوراً في الرب. ولأن الانفصال بين فريق الظلمة وفريق النور قد
حصل تماماً، وإنما على ا بن النور أن يشدد السهر لكيلا ينجذب بأي كلام باطل يمكنه
أن يعكر صفاء الرؤيا المجيدة التي الحت لبصيرته. قال ربنا المبارك: «لَيْسَ أَحَدٌ
يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خُفْيَةٍ، وَلاَ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ
عَلَى ٱلْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ ٱلدَّاخِلُونَ ٱلنُّورَ.
سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ
بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَمَتَى كَانَتْ شِرِّيرَةً
فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلِماً. اُنْظُرْ إِذاً لِئَلاَّ يَكُونَ ٱلنُّورُ
ٱلَّذِي فِيكَ ظُلْمَةً. فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيِّراً لَيْسَ
فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيِّراً كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ
ٱلسِّرَاجُ بِلَمَعَانِهِ» (لوقا 11: 33-36).

لاحظ
دقة الكلام، فقد حرص لوقا الطبيب أن لا تفلت منه أية عبارة من هذه الفقرة الرائعة.
أما كتبة الوحي الآخرن فلم يدونوا لنا هذه العبارة «فإن كان جسدك كله نيراً، ليس
فيه جزء مظلم» هذا شرح إلهي رائع لقول الرسول: «لا يغركم أحد بكلام باطل» لأنه كم
من المسيحيين يعيشون في حال شلل روحي، لأن جزءاً واحداً من حياتهم بقي في الظلمة.

والسبب
في ذلك، أن هذا الجزء من حياتهم لم يخضع لطاعة المسيح.

قبل
أن يعين بولس رسولاً، قال يسوع لسامعيه في الهيكل: «ٱلنُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً
قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ ٱلنُّورُ لِئَلاَّ
يُدْرِكَكُمُ ٱلظَّلاَمُ. وَٱلَّذِي يَسِيرُ فِي ٱلظَّلاَمِ لاَ
يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ ٱلنُّورُ آمِنُوا
بِٱلنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ ٱلنُّورِ» (يوحنا 12: 35 و36). وقال
أيضاً: «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى ٱلْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ
يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي ٱلظُّلْمَةِ» (يوحنا 12: 46).

فليتك
تؤمن به وتسير في نوره كل أيام حياتك كابن نور، ليثمر روحه فيك صلاحاً وبراً
وحقاً. هذه هي العناصر التي أنت في مسيس الحاجة إليها لحفظ شريعة الله.

(10)
أن ما ذكر في الآية التاسعة، هو كلام معترض. أما كلام هذه الآية فمتمم لقوله في
الآية الثامنة. فكأنه يقول: اسلكوا كأولا نور، مختبرين ما هي إرادة الله. إن أبناء
هذا الدهر يهتمون بما يرضي أنفسهم أولاً، ثم من حولهم. أما أولاد الرب الذين
«نَظَرُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَنَارُوا وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ» (مزمور 34:
5) فيجعلون رضى الله هدفاً ومقياساً لكل ما يأتون به، أو يمتنعون عنه.

ورب
سائل: كيف يمكننا أن نميز، ما هو مرضي وما هو غير مرضي عند الرب؟ نجد الجواب عند
بولس نفسه، حيث يقول: «وَلاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ
تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ
إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ
ٱلْكَامِلَةُ» (رومية 12: 2).

لاحظ
هنا، أن المطلوب ليس تغيير جوهر النفس، بل تغيير صفاتها بتجديد الذهن، المعبر عنه
أحياناً بكلمة «قلب» وتجديد الذهني يعني استنارة الذهن، واستنارة الضمير والفكر.
وهكذا يصبح الإنسان غير ما كان. لأن الذهن هو الجزء المسيطر فينا. لذلك فإن تجديده
يعني تجديد كياننا كله، لأن منه مخارج الحياة.

الصلاة:
أجل يا رب فادينا ومخلصنا، انه بدون عملك نكون ظلمة ولكن نشكرك لأجل برك الذي
وهبته لنا، حتى يستطيع كل من يؤمن بك أن يصير نوراً في الرب. ساعدنا لكي نسلك
كأولاد نور ولك في خلاصنا المجد. آمين.

11وَلاَ
تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ
بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا. 12لأَنَّ ٱلأُمُورَ ٱلْحَادِثَةَ
مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ. 13وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ
إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِٱلنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ
نُورٌ. 14لِذٰلِكَ يَقُولُ: «ٱسْتَيْقِظْ أَيُّهَا ٱلنَّائِمُ
وَقُمْ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ».

(11-12)
في الآيات السابقة، أبان الرسول أن كون المؤمنين أولاد الله، يستلزمهم أن يلاحظوا
دعوتهم من جهتين: الأولى الجهة السلبية، وهي عدم اشتراكهم في أعمال الظلمة
العقيمة. والثانية إيجابية، وهي توبيخ تصرفات أبناء الظلام. لأن ممارساتهم عبادة
وثنية شيطانية. وقد قال الرسول جازماً: لا أريد أن تكونوا شركاء الشياطين (1
كورنثوس 10: 20). ولعل أجمل الأمثلة في هذا الموضوع، ما حدث مع النحات المشهور
ثورو وولدش، الذي صنع تمثالاً ليسوع المسيح، يعتبر أروع التماثيل التي صنعت له.
فقد طلب إليه أن يصنع تمثالاً للآلهة فينوس، ليوضع في قصر اللوفر. ومع أن الأجر
الذي عرض عليه كان مغرياً جداً، إلا أنه رفض العرض، قائلاً: إن اليد التي نحتت شكل
المسيح، لا يمكن أن تنحت شكل آلهة وثنية. هذا هو المبدأ الواجب أن يلتزم به
المؤمن. فالذي لمس بإيمانه الرب يسوع، يجب أن يحفظ نفسه من التلوث بأعمال الظلمة،
التي تدنس الحياة.

«بل
بالحري وبخوها» لأن واجب المسيحي ليس مقصوراً على تلقي نور المسيح لحياته والتمتع
به، بل عليه أن يعكس نور الحق الذي تلقاه على أعمال الظلمة، لكي يرى كل إنسان
دنسها وفظاعتها. ولكن ليحرص على أن يؤدي التوبيخ بلطف، لكي لا يستفز المشاعر.
وتبعاً لذلك يسكر باب التوبة أمام المرتكب.

(13)
من المعروف بالبداهة أن النور يبدد الظلام، وهذا يعني أن تلك الخطايا غير متعذرة
الشفاء، إذا ما توبخت بالنور. صحيح أن المسيح قال لنيقوديموس حين زاره ليلاً:
«لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ يُبْغِضُ ٱلنُّورَ، وَلاَ
يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ». ولكن المسيح هو
الحق، ومن يقبله يقبل الحق ويفعل الحق، ومن يفعل الحق «فَيُقْبِلُ إِلَى
ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ
مَعْمُولَةٌ» (يوحنا 3: 20 و21).

«كل
ما أظهر فهو نور» أي أن قوة الحق الإلهي التي تشرق من الإنجيل، ومن خلال شهادة
أولاد الله، تفعل فعل النور فتنير القلب وتقدسه. ومن الواضح أن تلك القوة المنيرة،
تصدر من المسيح الذي قال: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ
يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا
8: 12).

(14)
أمام نقل خطر الفتور الروحي السائد، وتعشب الآراء البشرية، التي تتداول في الأوساط
حول هذه المواضيع، وتزرع التشويش هنا وهناك، رن نداء الرسول كبوق قائلاً: استيقظ
أيها النائم وثم من الأموات فيضيء لك المسيح. هذا النداء أرسله إشعياء قديماً في
شعبه، إذ قال: «قُومِي ٱسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ
ٱلرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ» (إشعياء 60: 1).

يقول
ثقات المفسرين أن بولس اقتبس هذه الآية من ترنيمة قديمة كانت معروفة بين المسيحيين
الأوائل، وكانوا يرنمونها في أثناء العماد. ولعلها نظم لقول المسيح: «اَلْحَقَّ
ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ،
حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ» (يوحنا
5: 25).

تطلع
حولك بعينين مفتوحتين، فترى أن ثبات نوم الموت يخيم على الجميع، بما فيهم أولئك
الذين لهم «صورة التقوى وهم منكرون قوتها» فإن كنت يا أخي لا تساهم في تقويم
الأوضاع بالسهر والصلاة فأنت نائم، بينما العالم حولك في حالة روحية سيئة جداً.

الصلاة:
أيها السيد الرب إلهي، اغفر لي فتور محبتي وضعف إيماني. أيقظني من نوم التكاسل
والتراخي، واسكب عليّ روح الصلاة، لكي أقرع باب نعمتك وأستصرخ مراحمك على جميع
إخواني بني البشر. آمين.

15فَٱنْظُرُوا
كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِٱلتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ،
16مُفْتَدِينَ ٱلْوَقْتَ لأَنَّ ٱلأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ. 17مِنْ أَجْلِ
ذٰلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ
ٱلرَّبِّ.

يتحدث
الرسول إلينا هنا عن حكمة السماء والفهم المستنير بالله، الذي يحكم على الأشياء
والناس، كما يفعل الرب. إنها ثمرة الشركة الحبية مع يسوع نفسه، التي بها نستطيع أن
نفهم أفكاره، ويكون لنا نفس الرأي معه.

إن
المؤمن الذي افتدي بدم المسيح من سوق العبيد الخاصة بإله هذا العالم، قد حصل على
الحرية من روح هذا الزمان الحاضر. وحين ينمو في المسيح، يحصل على حكمة افتداء
الوقت، فيعلم أن الأيام شريرة. وفي يقظته ونظرته إلى خطورة الأوقات، يفتدي كل
هنيهة، ويحولها إلى خدمة ربه وفاديه. فيا له من مثال رائع، يقدمه لنا الرسول في
هذه الناحية!

(15)
هذه الآية متعلقة بالآيتين العاشرة والحادية عشر. فالمؤمنون لكونهم أولاد نور، وجب
عليهم أن يسلكوا بتدقيق، لكي لا يميلوا عن سنن القداسة والطاعة لوصايا الله.
مبتعدين عن جهالات هذا الدهر، وملتمسين الحكمة من الله، الذي يعطي كل من يطلب منه
بسخاء ولا يعير. ولعل وصية الرسول مأخوذة من مثل العذارى الحكيمات اللائي انتهزن
الفرصة وكوفئن بخلاف العذاري الجاهلات، اللائي تكاسلن واستغرقن في النوم، فضاعت
عليهن الفرصة.

(16)
لا توجد وسلية يظهر فيها الحكماء حكمتهم مثل اغتنام كل سانحة، تمكنهم من أن يصنعوا
الخير مفتدين الوقت من الإتلاف وسوء الاستعمال. هذه النقطة كانت موضوعاً لاهتمام
رجل الله موسى، إذ قال في صلاته: «إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هٰكَذَا عَلِّمْنَا
فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ» (مزمور 90: 12).

إن
أحصاء الأيام وافتداء الوقت، يعنيان وجوب صرف الأيام في عمل أشياء مفيدة جليلة.
والباعث على ذلك هو أن الله وهبنا أياما لغايات ثمنية وشريفة، بحيث لا يجوز لنا
إتلافها في أمور تافهة، لا تعود علينا بنفع. وهناك باعث آخر للسلوك بالحكمة، وهو
أن الأيام تكثر فيها التجارب. وفي معظم الأحيان، تنجم عنها الشرور. فالذي على
الإنسان أن يفعله يجب أن يفعله بحكمة وبدون إضاعة وقته في التفاهات.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القس أنطونيوس فكرى عهد جديد إنجيل متى 08

(17)
يؤكد الاختبار أن المستنيرين بنور الله، قد أعطوا حكمة لتمييز الأمور المتخالفة
والابتعاد عنها. فهم قد تجددوا بروح ذهنهم، وأعطوا النعمة لاختبار إرادة الله
الصالحة المرضية الكاملة. فصارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر
(عبرانيين 5: 14).

إن
غرض روح الله، هو أن نكون دائماً في نمو مطرد وتقدم دائم في معرفة المسيح معرفة
علمية. وبدون ذلك لا يمكننا أن نفهم مشيئة الله، لنجعلها دستوراً لسيرة حياتنا.
ألم يقل المسيح، «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ
وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا
14: 6).

كم
أتمنى من كل قلبي أن تعرف المسيح، ليس فقط المعرفة الخلاصية. بل أيضاً أن تنمو في
معرفته لدرجة تجعل من السهل عليك أن تعرّف الآخرين بشخصه المبارك. بمعنى أن تصير
إليك غيرة رسله في القديم، الذين قالوا: «نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ
نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا» (أعمال 4: 20) فمحبة الحق تجبر صاحبها
على المناداة به.

الصلاة:
أيها الآب القدوس، ملكي وإلهي. إنني أعترف قدامك بجهالتي، التي حملتني كثيراً على
استهلاك الأوقات في أمور لا تمجد اسمك. وإذ أستغفرك عما سلف، أرجوك أن تضع في قلبي
حكمة افتداء الوقت، لأصرف ما تبقى من أيام غربتي في عمل ما يرضيك بربنا يسوع
المسيح. آمين.

18وَلاَ
تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ
ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ، 19مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ
وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ.

رأينا
في ما تقدم، أن الكلام كان كله موجهاً إلى أولاد النور. أما في الآيات التالية،
فإن الرسول يضع أمامنا المسيحي المستيقظ والممتلئ بالروح القدس، والمرتل في قلبه
للرب، والذي يحذره الرسول من نجاسة الخمر التي فيها الخلاعة.

(18)
أن شرور الأيام ومصائبها والمضايقات في طياتها، كثيراً ما تقود الجهلاء إلى ما
يسمونه إغراق الهموم في كأس الخمر. ولكن الكأس سرعان ما تبتلع، ليس فقط الأموال
والصحة، بل أيضاً الكرامة العزيزة، وفي الأخير تقتل النفس التي مات المسيح لأجلها.
ولذلك أقول أن هذه أسوأ وسيلة للتغلب على الصعوبات والأوصاب، التي تأتي بها
الأيام.

لعل
الرسول خلال إقامته في مقاطعة أفسس، لاحظ عادة السكر التي كانت مستشرية بين
السكان، فكتب وصيته هذه: «لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة». لأن السكر بالخمر
يؤدي إلى إخضاع النفس للأهواء الجسدية.

ولكن
قبل الرسول الكريم ودد من نيهي عن السكر وهو سليمان الحكيم. فقد كتب هذه الرجل
العظيم بإلهان الروح القدس، محذراً من شرب الخمر: «لاَ تَكُنْ بَيْنَ شِرِّيبِي
ٱلْخَمْرِ، بَيْنَ ٱلْمُتْلِفِينَ أَجْسَادَهُمْ، لأَنَّ
ٱلسِّكِّيرَ وَٱلْمُسْرِفَ يَفْتَقِرَانِ… لِمَنِ ٱلْوَيْلُ؟
لِمَنِ ٱلشَّقَاوَةُ؟ لِمَنِ ٱلْمُخَاصَمَاتُ؟ لِمَنِ
ٱلْكَرْبُ، لِمَنِ ٱلْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ؟ لِمَنِ
ٱزْمِهْرَارُ ٱلْعَيْنَيْنِ؟ لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ ٱلْخَمْرَ،
ٱلَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي طَلَبِ ٱلشَّرَابِ ٱلْمَمْزُوجِ. لاَ
تَنْظُرْ إِلَى ٱلْخَمْرِ إِذَا ٱحْمَرَّتْ حِينَ تُظْهِرُ حِبَابَهَا
فِي ٱلْكَأْسِ وَسَاغَتْ مُرَقْرِقَةً. فِي ٱلآخِرِ تَلْسَعُ
كَٱلْحَيَّةِ وَتَلْدَغُ كَٱلأُفْعُوانِ. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ
ٱلأَجْنَبِيَّاتِ وَقَلْبُكَ يَنْطِقُ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ. وَتَكُونُ
كَمُضْطَجِعٍ فِي قَلْبِ ٱلْبَحْرِ، أَوْ كَمُضْطَجِعٍ عَلَى رَأْسِ
سَارِيَةٍ. يَقُولُ: «ضَرَبُونِي وَلَمْ أَتَوَجَّعْ. لَقَدْ لَكَأُونِي وَلَمْ
أَعْرِفْ. مَتَى أَسْتَيْقِظُ أَعُودُ أَطْلُبُهَا بَعْدُ!» (أمثال 23: 20 و21
و29-35).

إن
هذه اللوحة التي رسمها الحكيم للسكير، تصف لنا العطش المفترس الذي يسيطر على أي
يقع في براثن هذه العادة السيئة، ويجعله عبداً ممسوخاً للشهوات الدنسة. أما
الامتلاء بالروح القدس فيعني أن كل كيان المؤمن، هو تحت ضبط الروح المبارك، الأمر
الذي يتيح له أن يظهر بسلوكه، غنى المسيح الذي لا يستقصى، والذي صيرته النعمة
وريثاً مع هذا الفادي.

إن
خير ما تفعله لنفسك هو أن تدع الروح القدس يسوس أفكارك، ويقدس نواياك فيعطيك
القدرة على الخلاص من همومك بعيداً عن المسكرات التي تتلف الجسد. ويطهر نواياك وكل
رغائبك فتنجو من الفوضى المسيطرة على العالم.

(19)
يشير الرسول بهذه الآية إلى جو الاجتماعات الروحية، التي كان يعقدها المؤمنون
برعاية الروح القدس، الذي من ثماره الفرح. لأن الترنيم يعبر عن الفرح بالرب. ولا
شيء يماثل الفرح في الرب، فإنه يساعد المؤمن على اجتياز الأزمات.

«مترنمين
في قلوبكم للرب» فما أروعها من عادة كريمة! يتناوب فيها الإخوة قراءة المزامير
والتسابيح، وترانيم العبادة. إنها في الواقع تشكل قوة عظيمة ضد قوات الشر.

شعر
مارتين لوثر ذات يوم، بأن الشيطان يهاجمه. ففتح نافذة غرفته. وحدق ببصره في الفضاء
المتألق بالنجوم فوقه. ثم ألقى نظرة على الأحراش الكثيفة الظلال من حوله. وأخيراً
اتجه بقلبه إلى الله وقال مترنماً يا إلهي إني أرى السموات ثابتة، وهي ليست قائمة
على أعمدة. بل هي قائمة بقوتك الضابطة الكل. ثم أغلق النافذة وقال: إن الشيطان
متجهم الوجه، لأنه يكره الموسيقى التي يحبها الله، لأن الموسيقى نور والشيطان ظلام.

الصلاة:
يا إلهي الحي، يا مصدر القوة الحقيقية. اعترف أمامك بضعفي أمام التجارب والمغريات،
وأسألك أن تقلدني قوة الأعالي، لكي أغالب أفكار هذا العالم وأتغلب عليها وأحيا
بحسب مشيئتك. آمين.

20شَاكِرِينَ
كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ
ٱلْمَسِيحِ، لِلّٰهِ وَٱلآبِ. 21خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ.

(20)
الترنم والشكر صنوان لا يفترقان. فإن كان الترنيم ينم عن فرحنا في الرب، فالشكر
يدل على إيماننا الوثيق بالرب، واعترافنا بأفضاله. وقد عرف بالبداهة أن الذي لا
يشكر الله. إنما هو إنسان لم يستحسن أن يبقى الله في معرفته، مع أن الله عن كل
واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد (أعمال 17: 28).

يقول
بعض العارفين أن الأمم البدائية لم تكن في مفرداتها اللغوية كلمة شكر. وبقيت هكذا
إلى أن جاءت المسيحية، وبشرتها بذبيحة المسيح الكفارية، التي يدين لها كل طالب
الله بالحياة الأبدية. وقد عرفنا أن خدمة العشاء الرباني التي رسمها المسيح رمزاً
لهذه الذبيحة، سميت «أفخارستيا» أي شكر، لأن المسيح لما رسمها شكر.

والشكر
طابع تميزت به حياة الرب يسوع، ورافق خدمته وعجائبه. فقبل أن يقيم لعازر من القبر
شكر، وقبل أن يرتفع على الصليب شكر. فلنتمثل بالفادي ولنكن شاكرين.

حين
نتأمل بعمق في معاني هذه الآية المجيدة تبرز لنا عدة حقائق جديرة بالاهتمام:

1.
وقت الشكر – قال الرسول «كل حين» ومعنى هذا أن الشكر واجب في كل وقت وفي كل ظرف،
في نور النهار، كما في ظلمة الليل، في وقت الضيق كما في وقت الفرج.

2.
موجب الشكر – على كل شيء، على الفقر، والغنى، على المرض والصحة، على العوز
والبحبوحة، على دمعة اليأس كما على ابتسامة الرجاء، على مضايقات الناس، كما على
ترحيبهم بنا. وفوق كل شكر يجب أن نشكر الله على عطيته التي لا يعبر عنها، يسوع
المسيح الذي صار لنا من الله حكمة وبراً وفداء.

لنشكر
على كل شيء ننائه، لأن أقل خير نناله منه هو فوق استحقاقنا الطبيعي. استحقاقنا هو
موت الهلاك بسبب خطايانا. ولكن الله المحب أعطانا حياة أبدية.

3.
وسيط الشكر – «يسوع المسيح ربنا» أنه وسيط صلحنا مع الآب. وهو شفيعنا لدى الأب.
وهو وسيط شكرنا، لأننا نرفع شكرنا في اسمه. والآب يقبل شكرنا، ويتنسم منه رائحة
الرضى، لأننا بالمسيح متحدون، ونحن فيه ثابتون.

«في
اسم ربنا يسوع المسيح» بهذا الاسم المبارك، كرز الرسل للخلاص. وبهذا الاسم المجيد،
صنعوا قوات، وبهذا الاسم العزيز، أمرنا أن نصلي وأن نشكر على كل شيء لله والآب. أي
لله الذي هو أبونا بمقتضى عهد الفداء، الذي صار لنا قدوم كبنين، تبناهم الله في
المسيح.

(21)
تعد هذه الآية حلقة اتصال بين الفصل الذي تكلم فيه عن السلوك الأدبي، وبين الفصل
الذي كرسه للعائلة المسيحية. فقبل أن ينتقل إلى الموضوع الجديد يضع الرسول أمام
أعيننا قانوناً عاماً للخضوع المتبادل إذ قال «خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله» هذا
كقوله: «مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي ٱلْكَرَامَةِ» (رومية 12: 10)
وكقوله حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم.

هذه
هي المسيحية الحقة، أن نسارع في اكتشاف مواهب وسجايا إخوتنا وأعمالهم الصالحة.
فنقدرها تقديراً طيباً. ونسر بأن نسمع الناس يمدحونهم، أكثر مما نسر بأن يمدحونا.
وباختصار أن نسارع لا في طلب الكرامة، بل بإعطاء الكرامة. هذه هي المسيحية المجملة
بالحكمة التي وصفها الرسول يعقوب بأنها «طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ،
مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُّوَةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً،
عَدِيمَةُ ٱلرَّيْبِ وَٱلرِّيَاءِ» (يعقوب 3: 17).

الصلاة:
أيها الرب إلهنا الصالح، لك شكرنا وحمدنا من كل القلب، لأنك تضع في قلوبنا عواطف
الشكر. ونشكرك بنوع خاص لأجل عطيتك العظمى الرب يسوع المسيح، الذي هو وسيط صلحنا
معك ووسيط شكرنا الذي نقدمه لجلالتك. اقبل شكر قلوبنا منعماً. آمين.

22أَيُّهَا
ٱلنِّسَاءُ ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، 23لأَنَّ
ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ
أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ ٱلْجَسَدِ.
24وَلٰكِنْ كَمَا تَخْضَعُ ٱلْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذٰلِكَ
ٱلنِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

بعد
أن تكلم الرسول عن المواهب الروحية في الكنيسة، وأهاب بالمؤمنين أن يتعاملوا فيما
بينهم على أسس المودة الأخوية، مقدمين بعضهم بعضاً في الكرامة، انتقل بنا إلى
موضوع بالغ الأهمية وهو بناء البيت المسيحي في الرب. ناظراً إلى الزواج من ناحية
كونه سنة رسمها الخالق من أجل خير البشر. وفي نظرته إلى هذه الشرعة الإلهية، شبه
ارتباط الرجل بالمرأة بالاتحاد القائم بين المسيح والكنيسة. وبذلك وضع الزواج في
أعلى مستوى.

(22)
«أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب» في االآية 21 تكلم الرسول عن مبدأ الخضوع
العالم المتبادل بين المؤمنين، الذي يتضمن هذا الخضوع من قبل النساء لرجالهن. إلا
أن هذا الخضوع، لا يجوز أن يأخذ شكل السيطرة من قبل الرجل، بل هو خضوع المحبة من
أجل الرب. وذلك لإشاعة روح الانسجام في العائلة.

وقد
عرفت بالاختبار أن قوام البيت السعيد هو المرأة الفاضلة، التي تستطيع بلطفها
وخضوعها كما يليق في الرب، أن تجعل من بيتها فردوساً حقيقياً (كولوسي 3: 18) وحسناً
قال فيها سليمان الحكيم: «اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا
يَفُوقُ ٱللآلِئَ. بِهَا يَثِقُ قَلْبُ زَوْجِهَا فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى
غَنِيمَةٍ. تَصْنَعُ لَهُ خَيْراً لاَ شَرّاً كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهَا» (أمثال
31: 10-12).

البيت
المسيحي هو نور في الظلمات، لأن العائلة المسيحية تأسست وفقاً لنموذج العهد
الجديد. وهي شهادة حية للمسيح، بأنه جاء لكي تكون لهم حياة ويكون لهم أفضل.
فالزوجان اللذان قرنهما الرب في المسيح، يتحملان مسؤوليتهما المشتركة بمحبة الله
وصبر المسيح. وبهذا يكونان مشعلاً في وسط الظلمة، وشهادة حية في وسط الفساد الذي
في العالم.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد قديم سفر حكمة سليمان الأنبا مكاريوس أسقف عام 14

(23-24)
في هذه الآية أوضح الرسول أن علة خضوع المرأة هو أن الحكمة الإلهية جعلت الرجل
رأساً للمرأة، وقد حباه الله قوى ومؤهلات تجعله الأصلح لترؤس العائلة. وفي رسالة
سابقة، أوضح الرسول هذا الباعث بكلمات مماصلة لهذه إذ قال: «وَلٰكِنْ
أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ.
وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ فَهُوَ ٱلرَّجُلُ» (1 كورنثوس 11: 3)
ومعنى هذا ان السلطان الذي للرجل على المرأة يرتب خضوعاً من جانب الرجل للمسيح. وعلى
أي حال فالكلمة المترجمة «تخضع» تحمل ضمناً معنى التطوع الاختباري الذي توصي به
المحبة، وتحتاج إليه الإلفة، لأن المرأة مرتبطة بالرجل برباد المحبة، الذي يجمع
نظيرين متساوين في الحقوق.

إن
اعتبار الزواج المسيحي كعمل إلهي «في الرب» يرفع من شأنه. وخصوصاً يرفع مقام
المرأة ويجعلها على قدم المساواة مع الرجل. ففي الاعتبار اليهودي كانت المرأة
كسلعة يقتنيها الرجل، تماماً مثلما يقتني أمتعته، ولم تكن تتمتع بأدنى الحقوق.
فمثلاً في ظل القانون اليهودي، كان للرجل أن يطلق امرأته لأتفه الأسباب. بينما لم
يكن للمرأة أي حق في طلب الطلاق. وفي المجتمع اليوناني، كانت المرأة الشريفة تعيش
حياة العزلة الكاملة. وكانت تقضي حياتها في الجناح الخاص بالنساء. ومع أنه كان
يطلب منها الخضوع الكامل والعفة التامة، إلا أن زوجها كان له مطلق الحرية للدخول
في علاقات كثيرة خارج دائرة الزواج، دون أن يصيبه شيء يسيء إلى سمعته. أما
المسيحية فقد جاءت بالالتزامات المتبادلة بين الزوج وزوجته. أي أن المسيحية جاءت
لتنظم العلاقات الشخصية للأزواج، ولكي تجعلها علاقات مقدسة، جعلتها «في الرب».

الصلاة:
يا إلهنا الصالح، نرفع إليك آيات الشكر والحمد لأجل البيت المسيحي الذي هو شهادة
حية لعمل المسيح، الذي يسكن في كل بيت ويفرح في أن يباركه. نسألك أن تكثر من هذه
البيوت المؤسسة على المسيح. آمين.

25أَيُّهَا
ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً
ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، 26لِكَيْ يُقَدِّسَهَا،
مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ، 27لِكَيْ
يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ
شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذٰلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ.
28كَذٰلِكَ يَجِبُ عَلَى ٱلرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ
كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ.

حين
نتأمل التعليم الرسولي الخاص بالعلاقات الزوجية، نرى أن المبدأ الأول في الأخلاق
المسيحية هو الالتزام المتبادل. فلا تتفق مع الكرامة أن نضع الواجبات كلها على
جانب واحد، ونعفي الجانب الآخر منها. والأمر كما يضعه الرسول أمامنا يحتم بأن
يلتزم الأزواج بواجباتهم، كما تلتزم الزوجات بواجباتهن.

(25)
رأينا في آيات سابقة أن الرابطة بين الزوج والزوجة يجب أن تقوم على صلة متبادلة،
فالخضوع من جانب المرأة تقابله المحبة من جانب الرجل. وقد جعل الرسول قياس هذه
المحبة محبة المسيح للكنيسة.

في
جملة الأشياء التي رتبها الله، جعل للكنيسة رئيساً يسهر عليها ويرعاها. وعملاً
بهذا المبدأ قام رئيساً على العائلة. معترفاً به من الزوجة المؤمنة التي تجد فيه
راعياً ومشيراً وحامياً. ولكن المؤسف له أن عدداً عديداً من الأزواج، في اهتمامهم
بسلطة الرئيس يهملون وظيفة الراعي المحب، الأمر الذي يرتب عواقب محزنة للبيت،
وآلاماً شديدة للزوجة والأولاد. لأن الإهمال ينتيح للذئاب الخاطفة المتربصة
بالعائلة، أن تنقض عليها، فتفسد ما أعطاه الله وتفرق ما جمعه.

إن
تعدد واجبات الأب، كرئيس وراع ومحام، هي بحسب فكر الخالق. ولما كان الخالق غيوراً
على ما نظمته حكمته الإلهية، فإنه يجعل الأب مسؤولاً أمامه. ومسؤوليته هذه تستلزمه
أن يبذل حبات قلبه لإشاعة السرور في قلب الزوجة. وأن يبذل جهوداً لإشاعة الانسجام
بين أفراد الأسرة لحفظ وحدتها.

شبه
أحد الأتقياء البيت المسيحي بالفلك التي بناها نوح لنجاة عائلته من الطوفان. وكما
أن الفلك قد طليت بالزفت داخلاً وخارجاً منعاً لتسرب الميها (تكوين 6: 14) هكذا
البيت المسيحي يجب أن تكون المحبة سداه ولحمته منعاً لتسرب الإهمال. لأنه حين
يتنكر أحد الزوجين لواجباته، تحدث ثغرة في الفلك، فتتسرب مياه الخصام وتكون
النتيجة غرق السفينة بمن فيها.

(26-27)
«كما أحب المسيح الكنيسة» هذا قياس حب الرجل لامرأته فهو حب من نوع المثال الذي
أشار إليه المسيح حين قال: «ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل
أحبائه» فمحبة الزوج تستلزمه أن ينكر نفسه لأجل زوجته، كما أنكر المسيح نفسه لأجل
الكنيسة، فقد أحبها حتى أنه أسلم نفسه لأجلها.

ويبدو
أن الرسول انتهز فرصة التكلم عن واجبات الأزواج، لإيضاح محبة المسيح للكنيسة، وما
ينتج هم خذت تلجب «لكي يقدسها». سبق للرسول أن تكلم في الآية الخامسة، عن محبة
المسيح لنا فقال: أسلم نفسه لأجلنا، هناك أشار إلى محبة المسيح في عملها الكفاري
المقبول لدى الله قرباناً وذبيحة رائحة طيبة.

وهنا
يرينا محبة المسيح في عملها الفدائي، لكي يقدس الكنيسة… ويحضرها لنفسه. هذه هي
غاية المسيح الأخيرة، أن يحضر كنيسته بعد تقديسها وتنقيتها من كل دنس أو شائبة،
إلى حد يبتهج بها وهي حاوية على كل كمال. لأنها سكتون في شبه صورته. لأن الله عين
مختاريه «لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ» (رومية 8: 29).

(28)
إنه لمن البديهي أن يحب الرجل امرأته، كما يحب جسده. لأن الزواج في الرب يصير
الزوجان واحداً. ويجب أن أذكر هنا أن حب الرجل لزوجته في مفهوم المسيحية ليس حباً
جسدياً شهوانياً، بل حب روحي مؤسس على رابطة مقدسة.

الصلاة:
أيها الرب الإله، حافظ الكل بقدرتك. لك الشكر والحمد لأجل حكمتك التي صنعت تدبيراً
كهذا، أن يتعاون الأزواج فيما بينهم على أساس المحبة. اطلب اليك مبتهلاً أن تنظر
بعين رأفتك إلى البيوت المحطمة في هذه الأيام. وأن تزرع بذور الإيمان والمحبة في
القلوب حتى يرجع الكل اليك فيتم الوئام في كل بيت. آمين.

29فَإِنَّهُ
لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا
ٱلرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ. 30لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ
لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ. 31مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ
أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ
ٱلٱثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. 32هٰذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ،
وَلٰكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ ٱلْمَسِيحِ
وَٱلْكَنِيسَةِ. 33وَأَمَّا أَنْتُمُ ٱلأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ
وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ هٰكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ
فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا.

(29)
هذه الآية تعقيب على الأية السابقة، وفيها يبين الرسول أن محبة الرجال لنسائهم
طبيعية كمحبة الإنسان لنفسه. فكما أنه غير معقول أن يبغض الإنسان جسده، كذلك الرجل
المؤمن بالله لا يمكن أن يبغض امرأته التي اقترن بها في الرب.

مر
بنا أن حب الرجل لامرأته، شبيه بحب المسيح للكنيسة. والمسيح في حبه للكنيسة لم يرض
نفسه (رومية 15: 3)، بل ارتضى من أجل الكنيسة، أن يتحمل الآلام حتى الموت. صحيح أن
المسيح قد صنع للكنيسة أكثر مما في وسع الرجل أن يصنع لامرأته، إذ قدم نفسه ذبيحة
على الصليب ليفتدي الكنيسة ويقدسها. ولكن الرجل الذي صمم على أن يتمثل بالمسيح في
إنكار الذات، يمكنه أن يجد الفرصة في احتمال كل المشقات في سبيل إسعاد امرأته وهو
في نفس الوقت مدعو من الله لبذل كل طاقة قولاً وعملاً، يقودها إلى الاتكال على
الرب يسوع.

وليتذكر
كل رجل أن الشريعة الطبيعية وأوامر الله، تقضي بأنه على الرجل أن يعامل امرأته بكل
رقة. وأن يعتني بها، ويسهر على راحتها باستمرار ويقوم بحاجاتها.

«كما
الرب أيضاً للكنيسة» هنا يثبت الرسول ما قاله في واجبات الرجل لامرأته، بما فعله
المسيح للكنيسة. فإنه عالها ولم يقصر عليها في شيء.

ومن
جهة المحبة، فكما أن المسيح هو رأس الرجل الأعلى، وقد خصه بحب فائق. كذلك الرجل
باعتباره رأس المرأة يتوجب عليه أن يتمثل بالمسيح، بأن يكن لامرأته محبة شديدة بلا
رياء. هذا الالتزام الذي وضعه الله، يجعل من يقصر في محبته لامرأته مسيئاً لنفسه،
ويحكم على ذاته بالخروج على مبدأ الأخلاق المسيحية. وفوق ذلك فإن من يقصر في حق
زوجته يحسبه التعليم الإلهي مقصراً في حق الرب الذي أحبه وافتداه.

(30)
في هذه الآية يعلل الرسول ما قاله في الآية السابقة عن الكنيسة. فلأن المؤمنين
المتحدين بالمسيح بالإيمان هم «أعضاء جسمه» فإن المسيح يقوت هذا الجسم الروحي
ويربيه، كما يقوت الإنسان جسده ويربيه. أما ما قيل في الآية فمقتبس من قول آدم،
حين أحضر الله حواء له: «هٰذِهِ ٱلآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ
مِنْ لَحْمِي» (تكوين 2: 23) والمعنى أن النسبة بين المسيح والكنيسة تشبه النسبة
بين آدم وحواء. ويقول المصلح كالفن: كما أن حواء صورت من جوهر جسم آدم، كذلك صورت
الكنيسة من جوهر جسم المسيح، الذي «اشترك معنا في اللحم والدم» ويقول هودج: كما أن
حواء صارت شريكة في حياة آدم، كذلك أصبحنا نحن شركاء في حياة المسيح.

(31)
هذه الآية مقتبسة من تكوين 2: 24 وقد أوردها الرسول للدلالة على متانة الصلة بين
المسيح والكنيسة. وبالتالي ببين الواجب الذي تفرضه هذه الصلة على الرجل، أن يحب
امرأته وأن لا ينفصل عنها. وقد اقتبس المسيح هذه الآية كسلاح لمحاربة بدعة الطلاق،
التي كانت منتشرة في المجتمع اليهودي منذ أيام موسى.

(32)
«هذا السر العظيم» معنى السر هنا، ما لا يصل العقل إلى إدراكه، ويميل بعض المفسرين
إلى اعتبار هذا السر أمراً عسير الفهم، يحتمل تأويلات أكثر مما يرى في ظاهره. ولكن
الرسول بقوله: «من نحو المسيح والكنيسة» وضع حداً للتأويل. فالمقصود بالسر هو
الاتحاد بين المسيح والكنيسة، كأنهما جسد واحد.

(33)
في هذه الآية يلخص الرسول تعليمه في واجبات الزوجين، الخضوع من جهة المرأة، يقابله
الحب من جانب الرجل. هذا الترابط يؤمن الانسجام. فالزوجة التي تنتظر وتسمع وتتفهم،
تتمم قصد الله في التعاون الذي عبر عنه في تكوين 2: 20 والزوج المحب الذي لا يتنكر
لواجباته كرأس المرأة ورئيس العائلة، يسعد بهذا التعاون. وقد عرف بالاختبار، أنه
ليس من ضرر أو فاجعة للعائلة أشد من الزوج الضعيف المهمل، إلا الزوجة المتسلطة
التي تخلت عن لطفها وإيناسها.

الصلاة:
لك الشكر يا رب السماء لأجل وحيك المبارك، الذي كتبه رسلك القديسون لنهتدي به.
اعمل يا رب لكي ينتشر هذا التعليم في أوساطنا لتحقق سعادة البيوت. آمين.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي