الإصحَاحُ
السَّادِسُ

 

البر
الأخلاقي السلوكي

1 –                 من نحو
الفقير                                                        (6: 1 4)

2 –                 من نحو الله                                                            (6: 5 15)

3 –                 من نحو
النفس                                                        (16:618)

4 –                 من نحو
العالم والجسد                                                (19:634)

 

تمهيد
للأصحاح السادس

كلام
المسيح في الأصحاح السادس يظل مرتبطاً بما بدأه في الأصحاح الخامس، إذ بين
الأصحاحين صلة قوية:

أولاً: أن المسيح
ظل يتكلَّم عن البر بالنسبة لملكوت الله، إذ نجد الصلة واضحة بين (1:6) وبين ما
قيل في (6:5و10و20).

ثانياً: يظل إلى
عدة آيات يفرِّق بين البر الحقيقي في مقابل البر الذي يروِّج له الكتبة
والفريسيون. فما لمَّح إليه في (20:5) بالنسبة للمرائين يعود إليه في (2:6و5و16).

كذلك
نلاحظ أن هناك نقلة إلى قسم جديد. فكما في الأصحاح الخامس تكلَّم المسيح عن
العبادة الحقيقية بالمقارنة مع الذي كان يروِّج له الكتبة والفريسيون كنوع من
التقليد الرباني، هكذا يعود إلى نفس المقارنة في الأصحاح السادس (1:6
18) مع ما
كان يمارسه الكتبة والفريسيون. ولكن من أول (19:6) يُسقط المسيح من اعتباره كل ما
يختص بهؤلاء المرائين نهائياً من العظة.

كذلك
من بدء (1:6) حتى (12:7) يركِّز المسيح على بر الملكوت ومعناه. معتبراً أن حياة
البر الحقيقي تنحصر في طاعة الوصية “محبة الله فوق الكل ومحبة القريب كالنفس”.
ولكن هذه الوصية لها شقَّاها: محبة الله، ثم محبة القريب. وهكذا يستغرق الأصحاح
السادس كله في المحبة الأُولى: محبة الله. ثم يخصِّص من بداية الأصحاح السابع
(1:7) حتى الآية (12) منه لمحبة القريب.

في
الأصحاح السادس يشرح المسيح مطالب العبادة الصادقة لله من القلب (1:6
18) مع ثقة
غير منقسمة في الآب السماوي رغم كل الظروف (19:6
34). فإذا
أحبَّ الإنسان الله الآب بكل إخلاص حينئذ سيخضع له ويسلِّمه الحياة وكل
متعلِّقاتها، ومنه ينتظر أن ينال كل شيء. ومن شدة انتباه المسيح لأهمية العلاقة مع
الآب السماوي ذكره 12 مرَّة في الأصحاح السادس
وهو أصغر
من الأصحاح الخامس
في مقابل 3 مرَّات فقط
في الأصحاح الخامس. لذلك يُعتبر الأصحاح السادس جوهر البر الذي يصنع العلاقة بين
الله والإنسان.

 

البر الأخلاقي السلوكي

1 – من نحو الفقير

[1:6-4]

 

حينما قال المسيح في (6:5) طوبى للجياع والعطاش إلى البر
كان فاتحة الحديث عن بر الملكوت، البر
الآخر غير الذي كان يعلِّم به الكتبة
والفريسيون، وكان هو بحد ذاته تعبيراً عملياً صادقاً عن العبادة الحقة كما تُمارس
في المحبة والصلاة والصوم، وبقية ممارسات العبادة القلبية من تأمُّل وسجود وسهر.

وهنا
وفي بداية الأصحاح السادس يعود لنفس العبادة الصادقة يعطي لها الأولوية في مفهوم التعبُّد.

1:6
«اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ
يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمْ الَّذِي فِي
السَّمَوَاتِ».

«أن تصنعوا صدقتكم»:

هذه
العبارة جاءت في أقدم المخطوطات اليونانية المحققة: “تُمارسون عبادتكم
dikaiosÚnhn
Ømîn
([1])
أمَّا الصدقة
™lehmosÚnhn فتأتي بعد ذلك في الآية القادمة. ولكن
هنا تتصدَّر العبادة كل الأعمال التي تخص التقوى الحقَّة.

ويلزم أن نفرِّق بين أعمال
الخدمة
والكرازة والوعظ التي تعتبر نور الإنجيل، وبين أعمال العبادة من صوم وصلاة وسهر وسجود.
فالأُولى يليق بها الآية التي تقول:
» فليُضيء
نوركم هكذا قدَّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجِّدوا أباكم الذي في السموات

«
(مت
16:5)، فهنا قصد عمل الخدمة وكل أصنافها هو إنارة حياة الناس وبالنهاية تمجيد
الله. أمَّا أعمال العبادة الخالصة فيلزم أن تكون غير علنية:
»
ادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء
… (وهو) يجازيك علانية
« وهنا آية الحراسة: » لكي ينظروكم وإلاَّ فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات
«

وهكذا أيضاً عمل الصدقة.

«لكي ينظروكم»: qeaqÁnai
aÙto‹j

وترجمتها:
“لكي تُنظروا منهم”. هنا الكلمة اليونانية بديعة التصوير، فمن مشتقاتها كلمة:
qšatron (1كو 9:4) أي ثياترو
بمعنى تمثيل ونظارة تتفرج. وهذا المنظر تكمِّله الآية القادمة:
»كما يفعل المراؤون
(الكتبة والفريسيون) في المجامع وفي الأزقة.
«(مت
2:6)

فهنا وفي بدء وصايا البر السماوي تلزم جداً أن تكون أعمال العبادة الخاصة غير منظورة من
الناس، بعكس محاولة إظهار أعمال البر عند الكتبة والفرِّيسيين الفاقدة أجرها
وقيمتها الروحية العملية.

وطبعاً يلزم أن نعلم أن أعمال العبادة هي أعمال صادرة من
عمق الإنسان، مقدَّمة للآب السماوي كذبيحة محبة للتعبير عن صلات المحبة والطاعة
والخضوع والخوف والإكرام لله وحده، والقصد الأساسي منها تكوين علاقة روحية وشركة
بالروح مع الآب السماوي لتشبع منها النفس وترتوي وتمتليء عزاءً وسروراً ورضى. فأي
علانية فيها (أعمال العبادة) تبدد منها التقوى وسِريَّة العلاقة بالله، وتجعلها
ترتد إلى حضن الإنسان فارغة بلا ثمر. أمَّا الأمر الذي تذخره هذه الأعمال العبادية
الخاصة التي في الخفاء فهو استجابة الله بالروح التي ترتد للإنسان عزاءً ورضى
ومسرَّة، فيعلم الإنسان أن حياة الشركة مع الله هي حيَّة ومثمرة. كما أنه إذا
تقدَّم الإنسان في أعمال العبادة يبدأ يشعر بتدخل الله في حياته، يدبِّر له أموره
ويطمئن نفسه من جهة رعايته وعنايته بأعماله ومسئولياته، فيرفع عنه القلق والهم،
وفي الأوقات الحرجة والعصيبة وظهور التهديدات والمخاطر يلمس معونة واضحة قوية
تزيده ثقة في علاقته بالله، وتُقوِّي حياة الشركة بالروح إلى أقصى حد ويشعر
الإنسان أنه معانٌ بالروح ومحمول بالنعمة.

وليتيقَّن الإنسان أن المسيح الذي يقول هذا ويؤسِّس به حياة
العبادة والشركة المقدَّسة مع الآب
السماوي يكشف لنا بدوره
الوجه الآخر للآب السماوي من جهة هذه العبادة. فيقول إن
» الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا
«
(يو
24:4)،
» لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له
«
(يو
23:4). هنا قول المسيح عن الآب أنه طالب الساجدين له بالروح والحق
ينبغي أن يُشعل قلوبنا ناراً وتقوى وإخلاصاً، فنعود على أعمالنا وصلواتنا
وننقِّيها من أي شوائب الجسد والذات والمظاهر الكاذبة لتكون بالروح.
وننقِّي الحياة والسلوك والكلام من الغش والكذب والتحايل ليكون بالحق
»
فالله روح والذين يسجدون له
فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا
« حيث السجود هنا يأتي بمعنى العبادة كلها.

2:64 «فَمَتَى
صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ
الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ
النَّاسِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!
وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا
تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي
يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً».

هنا
يوضِّح المسيح الحد الفاصل بين عبادة بالروح والحق لمجد الآب السماوي، وعبادة
بالغش والكذب والرياء والمظاهر ليتمجَّد بها صاحبها من الناس. وعبادة الروح والحق
لا تحتمل الظهور أو الإعلان عنها لأنها مقدَّمة لله الذي هو غير ظاهر ولا مُعلن
عنه، فهو لأنه في الخفاء ينبغي أن تُقدَّم له العبادة في الخفاء. وهنا يخصِّص
المسيح عمل الصدقة لأنها من أبرز الأعمال التي يحاول المراؤون أن يعلنوا عنها
لينالوا مجداً أكثر. وهنا يوصي المسيح أن لا يُعلَن عنها.

«المراؤون»: طpokrita…

المراءاة
هي مزيج من نقيصة خُلُقية مختفية في فضيلة، وبها يغش الإنسان نفسه أولاً ثم
الآخرين. وكل هَمّ المرائي أن يُمتدح من الناس كونه رجل البر والصلاح: عطوفة
الباشا، البيك المحسن، السيِّد صاحب الفضائل والولائم، أم المحسنين، الأُم البارة
صاحبة الصدقات، وهلمَّ جرَّا!!

وقوله:
» لا تُعرِّف
شمالك ما تفعل يمينك

«
ليس
أن نكبش المال ونعطيه دون أن نعرف مقداره، فهذا نوع من الهَبَل، لأنه قد يكون أكثر
جداً من حاجة المُعطَى له، كما يكون سبباً في طمع الناس وجشعهم. ولكن السر في قوله
» لا تُعرِّف
شمالك ما تفعله يمينك

«
هو بقصد عدم الإعلان
لدرجة أن اليد الشمال لا ترى ما تعمله اليمين، وبالتالي لا يرى الناس ما
تعمله. لأنه إذا رأت اليد الشمال ما في اليمين يراه الناس بالضرورة. ولكن حينما
تخبِّئه في اليد اليمين وتعطيه دون أن يظهر البتة يكون فعلاً هو عطاء الخفاء،
فالقصد الأساسي هو عدم رؤية الناس ما تعطيه، وليس عدم معرفتك أنت. إذ ينبغي أن يكون
لنا مقدار من المال محسوب ومحجوز للعطاء، ولا نترك الأمر للظروف. وهناك فرق بين
الحكمة في العطاء والجهالة في التبديد، وخاصة إذا كان المال ليس مالك الشخصي.

علماً
بأن الذي يعطي في الخفاء يحس بالفعل أن الله وحده هو الذي ينظر فتفرح نفسه، كما
ولابد أن يختبر كيف يرد له الله ما أعطاه أضعافاً مضاعفة:
» كيلاً جيداً ملبَّداً مهزوزاً فائضاً يعطون في
أحضانكم ([2]).
لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم
«(لو
38:6)،
» مَنْ يزرع
بالشح فبالشح أيضاً يحصد، ومَنْ يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد. كل واحد كما
ينوي بقلبه ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطي المسرور يحبه الله. والله قادر أن
يزيدكم كل نعمة لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء تزدادون في كل عمل
صالح. كما هو مكتوب فرَّق أعطى المساكين برُّه يبقى إلى الأبد.
«(2كو 9: 69)

 

2 – من نحو الله

[5:615]

5:6و6
«وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ
يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ
يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا
أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ
وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ
الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَة».

هنا
يلزم أن نعرف بادئ ذي بدء أن الصلاة ثلاثة أنواع:

1
صلاة
جماعية كالمقامة في الكنيسة حيث تُقدَّم صلاة الجماعة المؤمنة العابدة لله بصوت
واحد وقلب واحد وروح واحدة بأنواع صلوات مختلفة، منها الشكر، والتقديس، والتسبيح،
والتوسُّل من أجل الكنيسة والعالم والمرضى والفقراء والمساكين والغرباء والذين ليس
لهم مَنْ يذكرهم. ومن أجل الحياة العامة والمحيطة والهواء والمطر والماء والزرع
والعشب والطيور والحيوانات، والزلازل والبراكين والأوبئة والكوارث. والملوك
والرؤساء والحكومة (المتولِّين علينا). في كل هذه يشترك كل إنسان بصوته وقلبه
فتتحد الجماعة في طلباتها وينظر الله إلى الكنيسة ويحفظها وينمِّيها. وكل صلوات
الكنيسة محدَّدة بالأوقات والمواعيد والأيام والمواسم.

2
وهناك صلاة فردية خاصة يصلِّيها الإنسان بمفرده، وهذه هي التي يركِّز
عليها المسيح هنا، ويحدِّد المسيح مكان الصلاة في غرفة النوم التي يسمِّيها “مخدع”
حيث لا يدخل ولا يخرج أحد على الإنسان وهو يصلِّي، وقد أغلق بابه من الداخل
ويصلِّي دون أن يُسمع. وهذه هي صلاة الخفاء الخاصة حيث يسكب الإنسان قلبه ودموعه
أمام الله ويقدِّم السجود والمجد والإكرام كما
يوحي إليه الله بكلمات الصلاة الحارة ليعبِّر عن نفسه ومحبته وأمانته لله.

وقانون
الصلاة الخاصة هي تمجيد الله أولاً، والتشفُّع من أجل الآخرين ثانياً،
وآخر الكل نفسه وما يكنّه الإنسان من نحو الله كاشفاً قلبه وأعوازه متوسِّلاً
بدموع أن يؤازره: أولاً ليقدِّم صلاة مقبولة دائماً ومسموعة ومؤازرة بالروح
القدس لتدخل إلى حضرة الله ويسمعها، وثانياً من أجل ضعفاته لكي يسنده
ويستره بنعمته وتكون حياته مرضية أمامه. على أن الترتيل من أقوى مشجعات الصلاة
وراحة النفس المتعبة.

على
أن صلاة الليل والسهر ينبغي أن يكرِّس الإنسان لها أياماً معينة يقضي فيها جزءاً
من الليل في الصلاة والتأمُّل والترتيل. اسمع ما يقوله إشعياء النبي:
» إلى اسمك وإلى ذكرك
شهوة النفس. بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر
«(إش 26: 8و9). هكذا كان يواصل إشعياء عظيم الأنبياء الليل بالنهار
وهو يبث الله شهوة نفسه وحبّه. فماذا يكون لنا ونحن نحيا عصر النعمة والمحبة
وانسكاب الروح؟

3
كما أن
هناك صلاة الاثنين أو الثلاثة، حينما يجتمعون معاً ليكون الله في وسطهم ويقدِّمون
خدمة صلاة توسُّلية حارة من أجل النفوس التائهة أو المتعبة أو المريضة، مع تقديم
ذبيحة شكر ومسرَّة قلب بترتيل حلو لمجد الله والمسيح وتهليل لإحساس حضور الله:
» وهذا نادى ذاك وقال:
قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض.
«(إش
3:6)

7:6و8
«وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ،
فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. فَلاَ
تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ
قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ».

الصلاة
صنفان: صلاة القلب، وصلاة الفم. صلاة القلب يسمعها الله قبل أن ينطقها الفم، أمَّا
صلاة الفم فتسمعها الأُذن وحسب. توجد صلاة تقف عند السؤال والطلبة، وصلاة تستحي أن
تسأل وتطلب. الأُولى الله في غنى عنها لأنه يعلمها، والثانية يطلبها الله لأنها
تريح قلبه:
» لأن الآب
طالب مثل هؤلاء الساجدين (العابدين) له … بالروح والحق
«(يو
23:4). يوجد أشخاص إذا أُعطي أحدهم أن يصلِّي في وسط الجماعة تفلت أعصابه ويظل
يتكلَّم وهو لا يعرف ما يقول، ولا يشعر أحد أنه يصلِّي، ويتمنَّى الموجودون أن
يسكت وهو لا يستطيع أن يسكت وكأنه عربة فلتت فراملها. ويوجد أشخاص إذا بدأ أحدهم
يصلِّي تنفتح له الآذان وتتعلَّق به القلوب ويشتهي الجميع أن لا يسكت أبداً.
الأولون يؤدون واجباً ثقيلاً ويستعرضون جفاف قلوبهم، ويتهيَّأ لهم أنه ربما كثرة
الصلاة تعوِّض عن برودتهم مع أنها تشيع البرودة في الجميع، والآخرون يقتصدون في
الصلاة لعلَّ مَنْ هو أفضل منهم يستطيع أن يُشبع روح الجماعة أكثر، مع أن الجماعة
تشتهي أن هذا يستمر حتى إلى الفجر! وقال الجامعة:
» لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك إلى نطق كلام
قدَّام الله … لتكن كلماتك قليلة.
«(جا 2:5)

توجد
صلاة تخرج فيها الكلمات كسهام من نور تبهر الروح وكأنها أجنحة مفرودة تطير عليها
القلوب وتشتهي لو أن لا تحط على الأرض أبداً. وتوجد صلاة تثقل على الأسماع حتى
يتمنَّى الإنسان لو يجلس أو ينام. سمعتُ صلوات تيقَّنتُ أنها خارجة من فم الروح أو
من قلب الله وتيقَّنتُ أنها تسجَّلت عند الملائكة في السماء. وسمعتُ صلوات أحسستُ
أن الخطية تحبسها في الحلق وليس وراءها شهادة أو تزكية من الروح.

وبعد
هذا كله فهمت أن الصلاة صورة لقلب الإنسان تقيس بُعده أو قُربه من قلب الله! يقول
قائل: عرِّفنا كيف نصلِّي. فأسأل: وهل يعلِّم أحدٌ الولد الخارج من بطن أُمه كيف
يصرخ طالباً حقّه في الرضاعة؟ ألسنا كلنا مولودين وكلنا يشتهي اللبن العقلي عديم
الغش؟ وألسنا كلنا مولودين من كلمة الله الحية. فهي أبونا وهي أمنا، وهل لا يعرف
الإنسان أباه وأُمه؟ فالصلاة التي لا تخرج من الإحساس بالحاجة والعوز رياء هي!

والطفل
الذي لا ينبِّه أُمه بصراخه، كيف تعرف أنه جائع؟

يقول
المسيح:
» أفلا ينصف
الله للصارخين إليه نهاراً وليلاً … أقول لكم: إنه ينصفهم سريعاً.
«(لو 18: 7و8)!

وألم
يقل المسيح طوبى للجياع والعطاش إلى البر؟ وكيف نعلن عن جوعنا إلاَّ بالصراخ، وعن
عطشنا إلاَّ بالدموع؟ ثم ألسنا خليقة جديدة فكيف تنمو الخليقة الجديدة؟ أنعطي
الخليقة العتيقة فينا حقها من الطعام ونحرم الخليقة الجديدة فينا من حقها وهي
تتغذَّى على الحق وترتوي بالنعمة وتستنشق الروح، وكل هذا يأتيها سرًّا بالصلاة
والدموع وليس من يرى، حيث يفغر الإنسان فاه والخالق يملأه؟ وبغير الصلاة السريَّة
تضعف الخليقة الجديدة وتمرض وليس من دواء. وإن كانت الشجرة لا تنمو ولا تثمر في
وسط عواصف الشتاء، هكذا النفس لا تنمو ولا تثمر إلاَّ في الهدوء والسكون. والمسيح
كان يخرج باكراً جداً ويذهب إلى مكان خلاء ويصلِّي. وكان يذهب إلى الجبال ويمضي
الليل كله في الصلاة!!

 

الصلاة الربَّانية

[مت 9:613]                    (لو
2:114)

 

9:6
«فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ
اسْمُكَ».

«فصلُّوا أنتم هكذا»: oÛtwj oân

وفي
إنجيل ق. لوقا:
»
متى
صليتم فقولوا
«

هنا
المسيح يصحِّح الوضع السابق في تكرار الكلام باطلاً، فهو هنا يعطينا النموذج المختصر
المتقن الذي يستوعب كل عناصر التمجيد لله للدخول إليه للصلاة، كيف ندعوه ونذكر ما
نحتاجه، ويضع المسيح هنا ترتيبه بحكمة سماوية واتصال بديع واختصار عجيب.

وكما
قلنا في إنجيل ق. لوقا يقول:
» متى صلَّيتم فقولوا «أي إن أردتم أن تصلُّوا فقولوا هكذا. هنا
التوجيه في أول كلمة
»
إن
أردتم أن تصلُّوا

«
بمعنى
أن الصلاة تأتي عن إرادة، ويعني بهذا أنها ذات دافع داخلي يتمثَّل في اجتماع
الإرادة بغرض طلب الصلاة. والخطأ الحادث في تلاوة
» أبانا الذي «إنها تُقال كما لقوم عادة. ونكرِّرها دون إحساس
بالحاجة إليها. والتصحيح يأتي في أن تكون الإرادة قد حُضِّرت للصلاة داخل القلب
والفكر أولاً، لأن صلاة
»
أبانا
الذي
«تُقال في
حضرة الله، بل هي بحد ذاتها دخول في حضرة الله. هذا الدخول يحتاج إلى إعداد
قلبي ومظهري قبلها:
»
اخلع
حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدَّسة
«(خر
5:3). فنحن قادمون على مقابلة سريعة لله ووجها لوجه، سنخاطبه كما يخاطب الإنسان
صاحبه. وقد أعطانا المسيح بهذه الصلاة إذن دخولٍ إلى حضرة الله كُلَّما كانت لنا
إرادة حقيقية للصلاة، أو كلما دعانا الروح، فالروح يحب الصلاة ويقود إليها. فلو
نحن تصوَّرنا حقيقة الدخول إلى الله والوقوف أمامه ومخاطبته وجهاً لوجه لأدركنا
مقدار الخطأ والاستهانة في تلاوة هذه الصلاة دون اهتمام ولا إحساس بإرادة الصلاة،
فنتلو الصلاة وكأننا أمام خيال أو صورة أو فراغ. وهل ننتظر بعد ذلك أن يسمع لنا
الله أو أن صلاتنا تدخل إليه؟

إذن،
وقبل أن نصلِّي نقف هادئين نستحضر الإرادة أولاً لكي تكون الصلاة خارجة من قلب
يريد أن يتكلَّم مع الله، وهو مدرك أن الله في السماء يتسمَّع لنبضات قلبنا قبل
كلمات فمنا. فتكون حواسنا كلها مجموعة أمامه، موجَّهة نحوه بإرادة منجمعة تحمل كل
المشاعر والعواطف ومشيئات القلب والروح. وأخطر ما يلزم أن يكون حاضراً فينا هو
الفكر، فالفكر الشارد في أمور لا تخص وقفة الصلاة أمام الله خطية. فقبل أن ننطق
بكلمة يلزم أن ينجمع إلينا الفكر بانضباط ووعي وإحساس بالوجود في حضرة الله.
ومع كل كلمة تصوَّب الإرادة والفكر مع النطق لتقديم النفس إلى الله بكل كياننا حتى
يتقدَّس كياننا بوقفتنا أمام الله.
فنحن نتقدَّس في كل مرَّة نقف فيها نصلِّي
» أبانا الذي «أمام الله.

ويلزم
أن ينتبه القارئ أن هذه الصلاة تبدو أنها تخص الجماعة، فالمتكلِّم بها بالجمع
“نحن” بمعنى أنها للكنيسة، وكل من اجتمع من المؤمنين معاً وفي أي مكان
وهي تُقال
علناً وجهاراً، غير صلاة الفرد الذي ينبغي أن يقدِّمها داخل مخدعه سرًّا. على أنه
يلزم أيضاً أن نفهم أن الفرد في الكنيسة ليس فرداً بل عضواً في جسدها، له أن
يتكلَّم ويصلِّي كما تصلِّي الكنيسة وبفمها. فإن كانت الكنيسة تُحسب جسد المسيح فنحن جسده أفراداً، والمسيح لا يسكن الجماعة كما
يسكن قلب
الإنسان. المسيح
يكون وسط الجماعة ولكن في الفرد يحيا:
» فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ «(غل 20:2) لذلك وُضعت هذه الصلاة لتكون للفرد والجماعة سواء.

«أبانا الذي في السموات»:

الله
أب للجميع بلا نزاع، فهو خالق الكل والراحم والمنعم. ولكن أن يكون الله “أبانا”
فهنا تخصيص أبوَّة، وهي استحالة أن تتم لكل إنسان، بل للذين تبنَّاهم الابن
للآب جديداً،
فهنا حينما نقول لله “يا أبانا” فهذا النطق يحمل شخص يسوع المسيح
ابن الله الذي به وفيه نكلِّم الله، وبغيره ليس لنا كلام مع الله، ولا لله كلام
معنا. فهنا المبادأة في مخاطبة الله “يا أبانا” هي كنز العهد الجديد، هي دعوة
إلى الدخول في قدس الأقداس للوقوف أمام يهوه الله العظيم التي لم يكن يُسمح بها في
العهد القديم إلاَّ لرئيس الكهنة وعلى يديه دم الذبيحة.
هذا عهد الحب
والأبوَّة قد أشرق ويهوه يدعو الأولاد:
» دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم! «(مت 14:19)

نحن
هنا نخاطب الله مباشرة، فبواسطة هذه الصلاة قد أُعطي لنا أن ندخل إلى حضرته وكأننا
في السماء وقوف أمامه ونطلب منه أن يصغي إلينا. فنداؤنا له دعوة لكي ينتبه إلينا،
فيتحتَّم أن يكون إحساسنا مرافقاً لندائنا أننا أمامه نطلب أن يسمع لنا.

ونحن
نخاطبه “كأب” لنا، فهنا تشدّنا علاقة البنين بأب حقيقي، ولو أن الله له صفات أخرى
كثيرة كخالق وديَّان ومؤدِّب ومدبِّر الكون، ولكن أُعطِيَ لنا أن نقف أمامه
ونخاطبه كأب، فيلزم أن نستحضر فينا روح البنين كأولاد مطيعين في الحق والمحبة
الصادقة من نحو الآب. نقدِّم أنفسنا في طاعة الحق ومشاعرنا كلها مصبوغة بالحب
ودالة البنين، لكي تتحنَّن أبوَّة الله وتنسكب علينا بعطايا الأُبوَّة التي تقرِّبنا
إليه فنتقرَّب.

«الذي في السموات»:

مقصودة
من المسيح لكي ينبِّه ذهننا أننا الآن متجهون بقلوبنا وعقولنا نحو السماء لنؤهَّل
للوقفة في حضرة الله
فنحن مدعوون للدخول
في جو القداسة:
اخلع حذاءك … لأن الموضع الذي أنت واقف عليها أرض مقدَّسة
(خر 5:3). هكذا جاء الصوت من السماء لموسى أمام العُلَّيقة المشتعلة بالنار،
والنار لم تكن إلاَّ نار حضرة الله، تمهيداً ليتكلَّم الله مع موسى.

والصلاة
حديث مع الله نتكلَّم معه ويتكلَّم معنا، والله يتكلَّم جالساً على عرشه، فأمام
عرش نعمته نحن واقفون، أمام مركز حكمه وملكوته: لك ينبغي التقديس يا الله، هكذا
نهتف قلبياً باعتراف قدسه.

«ليتقدَّس اسمك»:

هنا
لينتبه القارئ لأن أمامنا سبعة توسلات، يمكن تقسيمها إلى قسمين:

(
أ ) القسم الأول:
ثلاثة توسلات بروح
البنين تخص مجد الآب: اسمك، وملكوتك،
ومشيئتك!

(ب)
القسم الثاني:
أربعة توسلات تخص حياتنا أمامه: خبز الحياة في اليوم
الزمني، غفران ذنوبنا، لا تدخلنا في التجربة، نجنا من الشرير.

ولكن
في مضمون السبعة توسلات يعطينا المسيح القاعدة الراسخة التي تنطلق بها من الأرض
إلى السماء كاستجابة ورد فعل لما عمله الآب في ابنه من أجلنا ونزل من السماء إلى
الأرض.

وهنا
لو دققنا الرؤية نجد أن الثلاثة توسلات الأُولى هي تطُّلع نحو السماء لاكتشاف
قداسة الاسم ومجد الملكوت وصلاح المشيئة، ثم رجاء بعشم عظيم في يسوع المسيح الذي
كان في الحضن الأبوي ونزل إلى أرضنا، أن يظل الاسم يتقدَّس في الأرض كما هو في
السماء، ويتمجد الملكوت كما هو في السموات
يكون على الأرض، وتتراءف المشيئة الصالحة لتكون كما في السماء كذلك على
الأرض. فلأن المسيح وهو الله ظهر في الجسد ونزل
إلينا، نطمع فيه أن تنزل معه وبسببه قداسة الاسم
ومجد الملكوت وصلاح المشيئة على الأرض كما في
السماء.
وقد احترس المسيح جداً أن
يتمِّم ذلك
بالفعل.

إن
المدخل الرسمي لله هو النداء بالاسم القدوس، الذي بمجرَّد النطق به يتقدَّس
الإنسان بكل ما فيه، فهو فاتحة المتكلِّم مع الله ليؤهَّل اللسان بالنطق الحسن.
حيث الاعتراف بقدُّوسية ما لله قبل أن ندخل إلى ما هو لنا. والاسم القدوس يغطِّي
كل مَنْ في حضرة الله. فالاسم هو “الأنا الأعظم”
“الإجو
(ذات)
™gè لله، فبمجرَّد تقديس
الاسم
ينفتح أمامنا حق الحديث مع الله:
» ليستجب لك الرب في يوم الضيق، ليرفعك
“اسم”
إله يعقوب.

«
(مز 1:20)

والله
يُسرُّ بذكر اسمه، وتقديسه يقرِّبنا إليه:
» الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له (بالروح والحق) «(يو 23:4). وقد أعطانا المسيح حق النطق باسمه لتحل علينا نعمته
ومحبته:
» عرَّفتهم
“اسمك”
(اسم
الأبوَّة) وسأعرِّفهم ليكون فيهم الحب (الأبوي) الذي أحببتني به وأكون أنا
فيهم
(الابن
الوحيد مع الأبناء)

«
(يو 26:17) وهكذا تحتوينا
نعمته لنؤهَّل لملكوته، أي يتمجَّد اسمه فينا بواسطة ابنه يسوع المسيح:
» وأنا قد أعطيتهم المجد
الذي أعطيتني.
«(يو 22:17)

10:6
«لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ
عَلَى الأَرْضِ».

«ليأتِ ملكوتك»:

والآن
لأنه أبونا الذي في السموات بمعنى أنه تبنَّانا في المسيح:
» الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا (الترجمة الأصح
مع أرواحنا) أننا أولاد الله، فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون
مع المسيح
«(رو 8: 16و17). ويُلاحَظ أن الترجمة العربية هنا قصرت في المعنى
وأضعفته لأن الآية تنص على أن الروح يشهد مع أرواحنا التي تشهد:
tÕ pneàma
summarture‹ tù pneÚmati ¹mîn
وهنا تكشف الكلمة اليونانية summarture‹ الخطأ والقصور في الترجمة العربية، فهي تترجم يشهد مع
أرواحنا أو أن الروح وأرواحنا يشهدان معاً، أو لهما شهادة واحدة. أو باختصار يشترك
في الشهادة لأرواحنا.

وليس ميراث في الله إلاَّ ميراث ملكوته! فالآن لأنه أبونا
ونحن ورثة مع المسيح في ملكه الأبدي، فقد أصبحت لنا دالة أن نقول له
بواسطة ابنه يسوع المسيح
ليأتِ ملكوتك. بمعنى أننا نستعجل ميراثنا المذخر لنا، مع المسيح فيما هو للآب.
ونحن حينما نقول: ليأتِ ملكك السعيد، نقول ليس كعبيد يخدمونه بعد بل كأولاد
يرثونه. فعن حق يسوع المسيح الابن
الوحيد المبارك في ميراث الآب وشركتنا معه نطلب
أن
» يأتِ ملكوتك « لأن نصيبنا فيه محفوظ ونحن
نحمل عربونه المقدَّس بالروح القدس لأننا أولاده:
» شاء فولدنا بكلمة الحق. «(يع 18:1)

«لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على
الأرض»:

لقد
صنع الابن مشيئة الآب:
»
حينئذ
قلتُ هانذا جئت بدرج الكتاب مكتوب عني. أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت
«(مز 7:40و8، راجع: عب 7:10)، وأكملها يسوع حينما أخذ الكأس من يد
الآب (يو 11:18) وسلَّم نفسه لمشيئة الآب وارتفع على الصليب من أجلنا. والآن ونحن
مصالحون مع الآب في المسيح يسوع نطلب أن تُكمَّل لنا مشيئة الآب كما تكمَّلت عنده
في السماء، بحسب نبوَّة دانيال:
»
أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدَّامه فأُعطي
سلطاناً ومجداً وملكوتاً …
أمَّا قدِّيسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد
الآبدين
«(دا 7: 13و14و18).
بمعنى كما كملت مشيئتك في السماء من جهة ملكوتك بجلوس الابن المتجسِّد عن
يمينك في عرشك، هكذا لتكمل مشيئتك في تنفيذ استعلان ملكوتك على الأرض بشركتنا في
نصيب الابن.

وإذا
تأمَّلنا جيداً الأصل اليوناني لهذه الصلاة نجد عبارة:
» كما في السماء كذلك على الأرض «لا ينحصر معناها في
عبارة
» لتكن مشيئتك « بل يمتد ليشمل أيضاً ما قبلها أي » ليأتِ ملكوتك … كما في السماء كذلك على الأرض «

™lqštw ¹ basile…a sou, genhq»tw
tÕ qšlhm£ sou, æj ™n oÙranù kaˆ ™pˆ gÁj

فالمعنى متصل: “ليأتِ ملكوتك، ليته يأتي كمشيئتك (كلاهما)،
كما في السماء كذلك على الأرض”.

أي
كما كمل ملكوتك في السماء كمشيئتك كذلك يأتي على الأرض. وللتوضيح أكثر نقول إنه
كما كمل ملكوت الله بالمسيح في السماء ليأتِ كذلك على الأرض ليكمل بنا. والمعنى مطابق
لما جاء في دانيال في الآيات السابقة حرفياً وبذات المعنى الجميل الفائق!

وهكذا
ينكشف المعنى العظيم جداً الذي يخصنا في الملكوت ويربطنا بالله الآب والمسيح!!
والذي من أجله أوعز إلينا المسيح أن نطلب في صلاتنا دائماً أن يأتي ملكوت الله على
الأرض كما هو في السماء ليكمل نصيبنا مع المسيح في الله، لأنه أصبح حقا لنا في
المسيح.

11:6
«خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا اليَوْمَ».

«كفافنا»: ™pioÚsion

ولم
ترد هذه الكلمة في العهد الجديد كله سوى هنا وفي الموضع المقابل من إنجيل ق. لوقا
فقط. وقد دخلت هذه الكلمة في صراع مع الشُرَّاح على طول المدى. فقد قرر الآباء
عموماً أن معناها روحي وليس مادياً، وأيضاً ينتحي ناحية السريَّة. ولكن يُعتبر
موقف ذهبي الفم أهمهم جميعاً، فهو يساند الوضع الذي اصطلح عليه مترجمو الإنجيل من
اليونانية، إذ يقول:

[لأنه
يقول لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، فهو إنما يكلِّم أشخاصاً موضوعين
تحت الطبيعة وواقعين تحت حاجتها وغير قادرين أن يكونوا كالملائكة المنزهين عن
الآلام … فهو يرثي لضعف طبيعتنا … لأنها تحتاج إلى طعام … لذلك لم ينبهنا
لأي شيء نطلبه إلاَّ الخبز فقط، و“الخبز اليومي” حتى لا ننشغل بباكر. من أجل هذا
قال: “خبز اليوم” أو بمعنى أعطنا خبزاً ليوم واحد!! ولم يكتفِ بهذا بل عاد فكرَّر
أعطنا اليوم.]([3])

وهذا
يتفق مع ترجمة الآية في الترجمة القديمة: “أعطنا اليوم خبزنا اليومي” = أو خبز كل
يوم أعطنا اليوم. حيث تُترجم الإبيئوسيون “باليومي” التي أعادتها الترجمة
الأمريكية إلى: “خبزنا كفافنا” =
needful بمعنى: الذي نحتاجه. وقد رجَّحها ق. أوغسطينوس ولكن عاد ووافق على
الخبز الروحي وجسد الرب والخبز اليومي معاً([4]).

وقد
أعطاها بعض العلماء القدامى معنى: “خبز الغد” أعطنا اليوم، مثل جروتيوس وماير
وليتفوت وهم علماء الكتاب المقدَّس. واختصت ترجمة الفولجاتا اللاتينية بمفهوم
الخبز الروحي بحسب الكنيسة الكاثوليكية ووافق على هذا العالِم أولسهاوزن وألفورد
وغيرهم. والقديس جيروم يقول إن حسب إنجيل
العبرانيين (أبوكريفا) تأتي كلمة إبيئوسيون بمعنى “الغد” وقد شرحها هو على

أنها هي المعادلة لكلمة
supersubstantialem وتعني الجوهري([5]). وهذا هو
أقرب المعاني إلى روح
الصلاة.

وبحسب
رأينا نرى أن المسيح هنا يعلِّمنا أن نصلِّي، والصلاة اختصَّت بتقديس اسمه ومجيء
ملكوته ولتكن مشيئته على الأرض كما في السماء، كل هذا الدفع الروحي هل يمكن أن
يسقط مباشرة إلى طلب رغيف العيش من الجالس على العرش، الذي قال وأكَّد:
» اطلبوا أولاً ملكوت
الله وبره وهذه كلها تزاد لكم
«(مت 33:6). وماذا
نعمل يا ترى في الآية التي ستواجهنا سريعاً:
» فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه «(مت 34:6)، » لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون
… أليست الحياة أفضل من الطعام
«(مت 25:6)، » فلا تهتموا قائلين ماذا
نأكل أو ماذا نشرب … فإن هذه كلها تطلبها الأُمم. لأن أباكم السماوي يعلم أنكم
تحتاجون إلى هذه كلها.

«
(مت 6: 31و32)

وبولس
الرسول يؤكِّد على هذا بقوله:
» لأن اهتمام الجسد هو موت. «(رو
6:8)

فالذي
نود أن نوعِّي القارئ به أن
» صلاة أبانا الذي في السموات «صلاة عميقة عمق المسيح والآب واسمه القدوس، عمق
ملكوت الله ومشيئة الله المملوءة إنعامات وبركات روحية، فلا نأخذ وجهة الجسد ونحن
في صميم طلب الملكوت. هذا تعارض صارخ مخلّ بالروح. فالخبز هو خبز الملكوت الذي
نموت لو لم نأكله كل يوم. ليس هو رغيف الخبز الذي يرد شهوة الجائع، الذي تصوَّره
الشيطان في هيئة حجارة جبل التجربة، بل هو كلمة الله الخارجة من فمه التي يحيا بها
الإنسان ولا يموت، كما ردَّ المسيح! ونِعْمَ ما كان الرد! فالذي يحيينا ليس حجرة
تتحوَّل إلى خبز بل كلمة تتحوَّل فينا إلى حياة
» وُجد كلامك فأكلته «(إر
16:15). والمعنى المختبئ أنه بعد أن طلبنا مجيء الملكوت على الأرض حسب مشيئته كما
هو في السماء، علينا أن نطلب خبزه، أي خبز الملكوت، كل يوم وكلما جعنا وعطشنا إلى
برِّه إلى أن يأتي! وحتماً “يُشبعون”!! فعندنا صلاة أبانا الذي هي بحد ذاتها خبز
الوجوه الساخن كل يوم بيومه الذي بعد عرضه على مذبح الله لا يحل أكله إلاَّ للذين
تطهَّروا. لأجل هذا قال بعدها مباشرة:
» اغفر لنا ذنوبنا «!

12:6
«وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ
إِلَيْنَا».

الأصل
اليوناني لا يذكر ذنوب بل ديون
Ñfeil»mata، فالترجمة العربية أساءت
لفكر القديس متى ولمنطق المسيح المنقطع النظير في هذا الإنجيل، فهو هنا لا يعتبر
الذنوب والخطايا (كما جاءت في لوقا 4:11) أكثر من ديون، والسر في ذلك واضح أن
المسيح ألغى أصل الخطية المميتة التي كان لا شفاء ولا خلاص منها. فلم يصبح للخطية
سلطان علينا يؤدِّي إلى الهلاك بعد موت المسيح على الصليب حاملاً خطايانا ولعنتنا
في جسده على الخشبة، ثم بقيامته بنا بالجسد مبرَّئين ومبرَّرين بنعمته. فهنا في
إنجيل ق. متى أعطانا مفهوماً جديداً للخطايا المغفورة أنها ديون مرفوعة من علينا
برحمة الله ونعمة المسيح. ولكن على أساس أن نرفع نحن أيضاً ديون المديونين لنا.
وهنا تأتي قصة الأصحاح الثامن عشر ذات المعنى والتعبير الدقيق عن مفهوم الخطية
والدَين بالنسبة لملكوت الله، إذ أعطى المسيح المثل ورفعه إلى مستوى الملكوت:

+
» يشبه ملكوت
السموات إنساناً
ملكاً أراد أن يحاسب عبيده. فلمَّا ابتدأ في المحاسبة
قُدِّم إليه واحدٌ مديونٌ (لعلَّه أنا أو أنت) بعشرةِ آلاف وزنةٍ [(10.000).
والوزنة تساوي 6.000 دينار والدينار حوالي عشرة جنيهات، فالمبلغ كله مهول ومزعج
للغاية، 600.000.000 ستمائة مليون جنيه، ما كان يساوي في أيامها الضريبة الرومانية
الواقعة على كل من سوريا واليهودية والجليل وأدومية]. وإذ لم يكن له ما يوفي أمر
سيده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له (وهيهات أن يسد الدين) ويوفي الدين
… فتحنَّن سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدين. ولمَّا خرج ذلك العبد وجد واحداً
من العبيد رفقائه، كان مديوناً له بمائة دينار (الدينار ما يساوي أجرة عامل طول
النهار)، فأمسكه وأخذ بعنقه قائلاً: أوفني ما لي عليك. فخرَّ العبد رفيقه على
قدميه وطلب إليه قائلاً: تَمَهَّل عليَّ فأُوفيكَ الجميع. فلم يرد بل مضى وألقاه
في سجنٍ حتى يوفي الدين. فلمَّا رأى العبيد رفقاؤه ما كان، حزنوا جداً. وأتوا
وقصُّوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذ سيده وقال له: أيها العبد الشرير، كل
ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليَّ. أفما كان ينبغي أنك أنت أيضاً ترحم العبد
رفيقك كما رحمتك أنا …؟
«(مت 18: 2335)

هذا
المثل يجيء هنا معبِّراً أقصى تعبير عن معنى: “اغفر لنا ما علينا كما نغفر نحن
أيضاً ما لنا على الآخرين”، فهي كانت ذنوب وخطايا ولكن حسبها المسيح مجرَّد ديون،
ولكن إذا لم نرفعها نحن أيضاً من المديونين لنا، تعود الخطايا والذنوب وتصبح
بثقلها لا كخطايا وذنوب بل ديون محبة تحرمنا من الملكوت.

ثم
عاد ق. متى في الآية (14) وكشف عن سر الديون إذ أعادها إلى أصلها قائلاً:
» فإنه إن غفرتم للناس
زلاتهم
وعند ق.
لوقا خطاياهم
يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي. وإن لم تغفروا
للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم.
«(مت
6: 14و15)

وهنا
يتحتَّم علينا أن نلاحظ أن الزلات والخطايا التي على الآخرين لنا لا هي زلات إثم
ومعصية ضد الله، ولا خطايا في حق قداسة الله تؤدِّي إلى الهلاك، لأنه ليس لنا
سلطان على غفرانها
إن كانت كذلك إطلاقاً،
بل هي مجرَّد ديون محبة نسامح بها أكثر من أننا نغفرها. وعلى هذا الأساس تماماً
فنحن بعد موت المسيح على الصليب حاملاً خطايانا ودافعاً ثمنها من دمه لا تُحسب
خطايانا وذنوبنا في نظر الله أكثر من ديون محبة، يكون على استعداد أن يرفعها عنا
طالما نحن لا نمسكها على المديونين لنا بحسب القصة التطبيقية التي سردناها!

وهكذا
نشكر الله جداً أن ق. متى أنار عيوننا وقلوبنا بهذه الآية (14:6و15) التي صدَّرها
بعد نص الصلاة مباشرة لكي تشرح لنا أكبر معضلة في مفردات أبانا الذي في السموات
على مستوى المثل الذي قدَّمه في الأصحاح (18).

13:6
«وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ
لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ».

«ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من
الشرير»:

هنا
تقابلنا أيضاً مشكلة كبيرة، فالسؤال هو إن كان الله في يده أن لا يُدخلنا التجربة،
فلماذا يدخلنا إذن التجربة؟ علماً بأن التجربة مُرَّة وهي مؤلمة وقد تكون فادحة
التكاليف. هذا الأمر يتضح لنا أكثر عندما وقف المسيح وهو على خطوة واحدة من الصليب
يقول لبطرس:
» سمعان سمعان
هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة
«(لو 31:22). واضح هنا قسوة التجربة الآتية على التلاميذ وعلى بطرس
بالذات، فمعروف أنهم تركوا المسيح كُلُّهم وهربوا، ومعروف أن بطرس أنكره ثلاث
مرَّات، وأخيراً قال أنا لست أعرف هذا الرجل (عن المسيح)! فلماذا؟ واضح أيضاً أن
هذا من حق الشيطان أن يختبر أمانتنا لله والمسيح. فلا يحق لله أن يمنعه لأن الأمر
يخص نفسه، يخص الأمانة له. وهذا بالتالي يتضح من وقفة الشيطان ضد أيوب:

+
» وكان ذات
يومٍ أنه جاء بنو الله (الملائكة) ليمثُلُوا أمام الرب. وجاء الشيطان أيضاً في
وسطهم. فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطانُ الربَ وقال: من الجولان في
الأرض ومن التمشِّي فيها. فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب لأن ليس
مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر؟ فأجاب الشيطانُ
الربَ وقال: هل مجاناً يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيَّجت حوله وحول بنيه وحول كل ما
له من كل ناحية؟ باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن ابسط يدك الآن
ومسّ كل ما له فإنه في وجهك يجدِّف عليك. فقال الرب للشيطان هوذا كل ما له في يديك، وإنما إليه (إلى نفسه) لا تمد يدك. ثم
خرج الشيطان من أمام وجه الرب.
«(أي 1: 612)

ومعروف
أن الشيطان ضرب أولاد أيوب وعبيده وإماءه، وضرب مواشيه فأهلكها، وباختصار أنهى على
كل ما لأيوب، ثم ضربه هو بمرض كريه معروف في الطب “بمرض أيوب” لا شفاء منه!!

فانظر
أيها القارئ اللبيب وافهم أن للشيطان سلطاناً أن يجرِّبنا في كل ما لنا وفي صحتنا
حتى ولو كنَّا كاملين ومستقيمين ونتقي الله ونحيد عن الشر، لكي إما نُثبت أن
ديانتنا وأمانتنا لله وللمسيح صحيحة فيعوِّضنا الله
كما عوَّض
أيوب
عن كل ما
أصابنا، وإمَّا نُثبت أن أمانتنا وإيماننا كذب وادعاء، ويكون الشيطان مُحِقاً في
دعواه وشكواه ضِدَّنا.

وهذا
نسمعه واضحاً في قول الرب لبطرس:
» ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك «(لو
32:22)، فكل ما وعد به المسيح أن يطلب أن لا يفنى إيمان بطرس أثناء التجربة
وبعدها، ولكن لا يمنعها. لأن بطرس كان يدَّعي الأمانة ويتوهَّم أنه قادر أن يحمي
المسيح ويذهب معه حتى إلى السجن وإلى الموت كذباً وافتراءً. فسمح الله أن يدخل
بطرس التجربة، ولولا المسيح ونظرته إليه في اللحظة الأخيرة لكان قد انتهى بطرس!!

ثم
لكي لا نأتي على المسيح بأي لوم، فلنرجع إلى الوراء قليلاً عندما كان المسيح
يصلِّي وعرقه يتصبَّب كقطرات دم نازلة على الأرض، ذهب إلى بطرس ومَنْ معه ثلاث
مرَّات وهو ينادي بهم صلُّوا لكي لا تدخلوا في تجربة، صلُّوا لئلاَّ
تدخلوا في تجربة، فما سمعوا وما صلُّوا، فوقعوا في التجربة، وهربوا جميعاً وبطرس
أنكر!! فهل نلوم المسيح؟

إذن
فحقَّ للمسيح أن يطلب منا أن نتوسَّل لدى الله أن لا يدخلنا التجربة على أساس
أننا إذ نصلِّي لا يدخلنا التجربة، لأننا ونحن في حالة صلاة لا يقترب إلينا
الشيطان
لأننا نكون مُمسكين بالمسيح وبدمه
وبصليبه! وينبغي أن نعلم أن اسم الشيطان الآن هو “المشتكي” فإن كان له
حق في الشكوى ضِدَّنا ونحن غير متسلّحين بالصلاة فهو
يُعطَى أن ينازعنا في سلامنا وصحتنا ومالنا
وعيالنا!!

لذلك
نقول ونؤكِّد: إن سر طلبتنا من الله أن لا يدخلنا في تجربة ويسمع لنا هو أن ننفِّذ
وصيته بالأساس: «صلُّوا لكي لا تدخلوا في تجربة» (لو 40:22). والمسيح قادر
فعلاً أن ينجِّينا من الشرير بقوة صليبه وحق دمه!!

لذلك
كانت الكنيسة الأُولى متيقِّظة جداً لهذا الأمر، فأضافت “بالمسيح يسوع ربنا” على
لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير!!

الختام:

«لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد
آمين»:

وُجِدَت
في كثير من المخطوطات القديمة، وسجَّلتها الديداخي، وهي من بداءة القرن الثاني
الميلادي وتُدعى تعليم الاثني عشر (
VIII.2)، ومعمول بها في الكنيسة في أقدم الليتورجيات([6]).
وهي غائبة من إنجيل ق. لوقا.

ولكن
من حيث مناسبة وضعها فهي تكمِّل فعلاً مفهوم صلاة الملكوت وتُسمَّى: “التمجدة
Doxology”، وهي تليق أن
تكون سبباً لكل دعاء بمفرده. فمثلاً ليتقدَّس اسمك لأن لك الملك، ليأتِ ملكوتك لأن
لك الملك. وهكذا. فهي داخلة في صميم المضمون. كذلك “القوة” فهي علة كل استجابة لكل
صلاة.

تعقيب:

14:6و15
«فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً
أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ
يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَّلاَتِكُمْ».

سبق
أن شرحنا هذا المضمون لعدم المغفرة من جهة الله أنه حَبْسُ دَيْن، لأن عنصر الخطية
كتعدٍّ ومعصية زال إلى الأبد بالفداء بسفك دم ذبيحة الابن الوحيد. ولكن لينتبه
القارئ أن نص هذه الصلاة قد قيل قبل تكميل عمل الفداء، ولكن ليس معنى هذا أنه لا
ينطبق عليها عمل الابن. فالفداء له أثر رجعي في مغفرة الخطايا. ولكن يقتصر مفهوم
عدم المغفرة على اعتبار أن الخطايا أصبحت بمفهوم دين وليس عقوبة موت وهلاك. بمعنى
أنه كما أن على الآخرين ديوناً لنا لا نريد أن نسامح فيها، هكذا الله له ديون
علينا لا يسامح فيها إلاَّ إذا سامحنا نحن الآخرين بديونهم. تماماً حسب تطبيق قصة
الملك والعبد المدين له بهذا المبلغ الضخم الذي يستحيل عليه إيفاؤه وقد ضخَّمه
المسيح لهذه الغاية عينها، وهو رهن سماح العبد لدين رفيقه عليه وهو زهيد للغاية.
فالفارق الهائل في نسبة ديوننا لله بالنسبة لديون الآخرين لنا يلحّ في تنبيه ذهننا
أن المسألة فرصة ذهبية لحسابنا كمحاولة من الله جيدة ورائعة للغاية أن يجعل رفع
ديوننا الخطيرة التي علينا لله نظير أن نغفر للآخرين ما يساوي الملاليم. وقد جعل
المسيح نسبتها في المَثَل الذي وضعه في الأصحاح (18) كنسبة 600.000:1 بمعنى هذا أن
المسيح جعل غفران ديوننا على مستوى مشيئتنا نحن وإمكانياتنا نحن وفي متناول
أيدينا! …
» اغفروا
يُغفَر لكم
«

 

3 – من نحو النفس

[16:6-18]

 

الصوم:

الصلاة
والصوم عملان من أعمال الجهد البشري الذي تزكِّيه النعمة، ليثمر ثماراً روحية،
ويأتيان دائماً معاً، فكل منهما يزكِّي الآخر. ولكن كما وجدنا الصلاة لها أصول،
كذلك الصوم.

16:6
«وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ
يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوا أَجْرَهُمْ».

كان
أول درس للصلاة أن ندخل مخدعنا ونصلِّي في الخفاء، والله الذي في الخفاء يسمع في
الخفاء ويجازي علانية. وعلى نفس المنوال فالصوم ليس للظهور أو لكسب المديح وإلاَّ
يُحسب للإنسان أنه أخذ أجرَه إن هو أعلن عنه. فإن كانت الصلاة في جوهرها صلة سرية
بالله نكلِّمه ونستمع إليه، فالصوم جناحان نطير بهما بخفة لنقترب من حضرة الله.
والصوم لأسباب روحية روحي هو:

+
» وبينما هم
يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما
إليه.
«(أع 13: 2و3)

+
» وانتخبا لهم
قسوساً في كل كنيسة ثم صليا بأصوام واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به.
«(أع 23:14)

وأمَّا
أن نصوم لكي نظهر صائمين، فما نكون قد صمنا وما اكتسبنا إلاَّ كذباً.

17:6و18
«وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ،
لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ.
فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً».

بهذا
لا يعود الصوم عملاً من أعمال الظهور وكسب التزكية من الناس، بل عمل يُعمل في الخفاء
للتقرُّب إلى الله لرفع الروح فوق الجسد، ولإبطال عتو الشهوات والغرائز الجامحة،
وللتذلُّل الحقيقي بالنفس أمام الله من أجل نوال رحمة وتعزية، حداداً على الشبع
وملذات العالم وتحديًّا لجبرؤوت البطن التي استعبدت الإنسان بالملذات، ليظهر
الإنسان صغيراً في عيني نفسه، ويواضع الذات التي انتفخت وتعالت دون وجه حق، ليعود
الإنسان إلى وجه الطفولة النحيل ومشاعر المسكنة كفقير، ليليق للدخول من الباب
الضيق.

وعن
الصوم لم يكن كإشعياء الذي وصف وأسهب في الوصف حتى جاء إلى آخر ما يمكن أن يُقال
في الصوم:

+
» أليس هذا
صوماً أختاره: حلَّ قيود الشر، فكَّ عقد النير وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل
نير؟ أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخل المساكين التائهين إلى بيتك؟ إذا رأيت
عُرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك؟ حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك وتنبت صحتك
سريعاً ويسير برُّك أمامك ومجد الربِّ يجمع ساقَتَكَ (يحميك من خلفك). حينئذ تدعو
فيجيب الرب، تستغيثُ فيقول هأنذا، إن نزعت من وسطك النير والإيماء بالأُصبع وكلام
الإثم! وأنفقت نفسك للجائع وأشبعت النفس الذليلة يشرق في الظلمة نورك ويكون ظلامك
الدامس مثل الظهر! ويقودك الرب على الدوام ويُشبع في الجدوب نفسك وينشِّطُ عظامَك
فتصير كجنة ريًّا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه. ومنك تُبنى الخِرَبُ القديمة، تقيم
أساسات دور فدور فيسمونك مرمِّم الثغرة، مُرجِع المسالك للسكنى!
«(إش 58: 612)

هذا
هو الله الذي يرى في الخفاء ويجازي علانية.

وقد
يكون الصوم من الشروق إلى الغروب (قض 26:20، 1صم 24:14)، أو لمدَّة سبعة أيام كما
صام الشعب بعد دفن شاول (1صم 13:31)، أو لثلاثة أسابيع:
» في تلك الأيام أنا دانيال كنت نائحاً ثلاثة
أسابيع أيام لم آكل طعاماً شهياً
«(دا 2:10و3)، أو
أربعين يوما (خر 34: 2و28، تث 9:9و18، 1مل 8:19). وكان الفريسيون يفتخرون أنهم
يصومون يومين في الأسبوع (لو 12:18). والمسيح أعطى نموذج الصوم لأربعين يوماً
وأربعين ليلة.

والذين
مارسوا الصوم بدافع روحاني أدركوا القيمة الفريدة لهذا العمل الملكوتي الممتاز.

 

 4
– من نحو العالم والجسد

[19:6-34]           (لو 34:1136؛22:1234؛13:16)

 

19:6و20
«لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ
وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّاَرِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلْ اكْنِزُوا
لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ،
وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ».

الهم
الأول للإنسان الجاهل رجل أو امرأة هو جمع المذخرات الأرضية وتخزينها في الدواليب
والغرف والمخازن المخصوصة وخِزن الحديد، وحديثاً البنوك. والمسيح قسَّمها إلى
ثلاثة أقسام: خزين المأكولات وهذه تسوق عليها الطبيعة السوس والميكروبات لتفسدها،
وكم من تلال من المأكولات تفسد وتُلقى في الزبالة. ومع السوس العث وكل أصدقاء العث
من أسماء ومسميات لإفساد الملابس الثمينة، أمَّا القطنية فلها فصيلة خاصة من العث،
وأما الصوفية فلها صنف آخر أشد بلاءً، وأمَّا الحرير فله آفة تفتك به، وكم من
أثواب أُلقيت في الزبالة أو للحريق. أمَّا القسم الثالث فهي المشغولات المعدنية
وهذه رتَّبت لها الطبيعة أنواع الصدأ والتآكل للإتلاف. أمَّا الثمينة جداً فلها
لصوص مهرة ينقبون الحوائط ويفسخون الخزن ويحملون تحويشة العمر ويلوذون بالفرار.
وإذا لم تكن هذه الآفات كلها، فإن هناك آفة أخطر وهي آفة التقدُّم في العمر حيث
يحس الإنسان أنه ليس له سرور في كل ما جمع، وإذا أراد أن يتخلَّص منها فلا يستطيع.
فالإنسان الذي لا يتطوَّر مع الزمن هو نفسه يأكله العث، والذي لا يؤمن بكلام
المسيح
» يكفي اليوم
شرُّه
«(مت 34:6)، يجمع لنفسه شرور السنين ويقضي حياته في همٍّ مقيم!
وأسعد إنسان هو الذي استطاع أن يسرِّب كنوزه وأمواله وأرصدته إلى فوق، ليحيا بلا
هم. وإذا انطلق يجد أمواله قد تحوَّلت إلى عائدها الروحي الذي ينعم به إلى الأبد.
وسوف نرى في مثل وكيل الظلم كيف يقول المسيح عنه:
» اصنعوا لكم
أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية

«
(لو
9:16). أمَّا الذي صنعه
وكيل الظلم هذا المغبوط، فقد بدَّد مال سيده،
ويرى المسيح أن مال سيد هذا العالم الظالم ينبغي أن يبدَّد على الفقراء والمساكين
والمرضى، وبهذا نُسرِّب “مال الظلم” إلى فوق ليتحوَّل لنا إلى كنز أبدي.

وإني
أتصوَّر أن هناك بنكاً سريًّا على الأرض اسمه بنك ملكوت الله، تُحوَّل فيه الأموال
من الصلاحية الأرضية إلى فوق حيث يكون الصرف بتحقيق الشخصية السماوية. أمَّا هذا
البنك فيجمع كل الأموال التي تعطى للفقراء والمساكين والمرضى والذين ليس لهم مَنْ
يسأل عنهم، ويودعها باسم صاحبها بضمان وإمضاء وختم المسيح!

21:6
«لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هَنَاكَ
يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً».

«qhsaurÒj sou – kard…a sou»

فإن
كان كنزنا على الأرض فقد استوطن القلب التراب وصار له التراب لحافه ولحده معاً.
وإن أرسلنا كنزنا إلى فوق استوطن قلبنا السماء وعاش غربته على الأرض متعلِّقاً
بموطنه السعيد حيث ميراثه الأبدي. ولكن يوجد مَنْ يكنز على الأرض لحساب الله
والكنيسة والصرف على المعوزين، فهذا كنزه الحقيقي فوق، وعلامة أصحاب الكنوز
الأرضية التي تعمل لحساب الغرباء على الأرض أنها ليست نهاية بحد ذاتها، أي لا يعمل
فيها الإنسان لمجد ذاته بل يمجِّد الله بأعماله كل يوم، وفرحته العظمى أن يفرِّق
ويعطي المساكين ويستر أجساداً ويرعى أرامل وأيتاماً. فهذا صاحب كنزين: كنز في
الأرض يعمل لحساب كنز في السماء وعائد الأول يتحوَّل للثاني.

22:6و23
«سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً
فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً
فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ
ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!»

العين
البسيطة:
ÑfqalmÕj
¡ploàj
: هي البسيطة
الخيِّرة الإيجابية المميِّزة للحق والنور.

العين
الشريرة:
ÑfqalmÕj ponhrÒj: هي المنقسمة الحاقدة
السلبية غير المميِّزة للنور.

الكلام
هنا عميق للغاية وأبعاده سرِّية وذات قيمة عُظمى لرفع مُدركات الإنسان وتمييزه.
فالعين بالنسبة للإنسان هي العين الظاهرة التي تُميِّز النور والظلام والأصيل
والمغشوش، يقابلها عند الإنسان عين جوَّانية هي قدرة الإدراك والرؤية للحقائق
والتمييز بين ما هو صادق وما هو مزيَّف، وتُسمَّى بالوعي الباطني أو العقل الناظر
أو الرائي. فمعنى العين البسيطة بالنسبة للعين الخارجية يعني هي عين إيجابية كعين
الولد الصغير الذي زكَّاه المسيح للدخول إلى الملكوت، فعينه بسيطة إيجابية تصدِّق
ما ترى. أمَّا العين البسيطة بالنسبة للوعي الباطني أو العقل الناظر أو الرائي،
فهي العين الموحِّدة للرؤى والقوى والعين التي لا تَدِين ولا تَذمُّ ولا تفرِّق،
التي ترى الحقيقة كنور بسهولة وتميِّزها جيداً وتحيط بها حتى العمق، التي يناسبها
قول المسيح: «فتح ذهنهم ليفهموا الكتب» (لو 45:24). الكتب هنا هي كلمات من
نور لا تُرى إلاَّ على مصباح الله. فأصبح لهم وعي روحي إنجيلي سماوي ملكوتي مفتوح
على الحق والنور باستمرار، يستمد منه إيمانه ووجوده وكل كيانه، فيمتلئ الإنسان
بالمعرفة والحق والحب والسلام. أمَّا إذا كانت العين الداخلية فاقدة للبساطة،
بمعنى سلبية، فهنا تستمد قوتها من القوة السلبية المضادة للحق. وهكذا تُسمَّى عين
شريرة لأنها تشتغل بالشر وتمسك فيه وتتلذَّذ به، وبالتالي تسوق الإنسان بكل كيانه
في الاتجاه السلبي لتحكمه الأفكار الشريرة والنزعات المعادية للحق والكارهة
للمعرفة الخيِّرة، فتسكنها العداوة والبغضة والحسد والنقمة واليأس والشك في كل شيء
مع الخوف من المستقبل. وهذا هو الذي يقول عنه المسيح إن الجسد كله يكون مظلماً،
بمعنى أن كل ملكاته ونزعاته وأحاسيسه وتصوراته لا تستمد قوتها من النور.

واضح
هنا إنسان الملكوت بعينه النيِّرة وجسده المضيء كله بالمعرفة الإلهية الحقة، وإنه
لوصف صادق جداً وحقيقي ما قاله المسيح من أن سراج الجسد هو العين إذا أدركنا
معناها العميق، حيث الوعي يكون بشبه مصباح يسير والنور أمامه أينما سار، حتى وفي
عتمة هذا العالم بليله الدامس([7]).

24:6
«لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ
يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ
الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ والْمَالَ».

كان
هذا هو الوضع السائد في إسرائيل، لأن المعروف عن المال بالنسبة لليهودي أنه فعلاً
يرقَى إلى مستوى السيد، بل والإله.

ولكن
بدخول واقع الحياة الروحية في الإيمان المسيحي، حيث يجوز الإنسان المسيحي عملية تغيير
جوهرية في طبيعته لتنتقل من طبيعة مادية إلى طبيعة روحانية، وتنتقل تبعاً لذلك
مصادر حياتها ونموها من أرضية مآلها إلى الزوال إلى روحية سماوية تنتهي بالخلود،
تتغيَّر بالتالي نظرته وتعاملاته تجاه أدوات الحياة وأعوازها من حيِّزها الضيِّق
المنحصر في الرؤية المادية للأشياء إلى الرؤية المتسعة المنفتحة على القيم الروحية
والإنسانية العُليا.

بهذه
المقدمة المختصرة جداً أدخل مع القارئ في النظرة الجديدة إلى “المال” من وضعه
اليهودي المحصور انحصاراً عنيفاً في مادية الواقع والنظرة، وفي التعامل مع الحياة
الأرضية وأدواتها على أنها هي الأبقى والأسمى له والتي يحكمها ويتحكَّم فيها
المال، إلى وضعه المسيحي؛ إذ يرى الإنسان المسيحي في المال مُعيناً وسنداً ماديًّا
على الأرض لتكميل حياة روحية وبلوغ أهداف سمائية أعلى وأرقى من الأرض وكل ما فيها.
وفي هذا الوضع الجديد الذي يعيشه الإنسان المسيحي ينتقل المال تبعاً لذلك بصورة
أساسية من وضعه القديم الذي كان يحكم ويتحكَّم في الحياة كسيد إلى وضعه الجديد
الذي يخدم فيه الحياة الروحية للإنسان لبلوغ أهدافه السمائية، بمعنى أنه في الوضع
المسيحي يكون المال قد انتقل من موضع السيادة والتحكُّم في الإنسان إلى موضع
الخدمة والمعونة والسند.

ولكي
ندخل في عمق هذه العلاقة الخطيرة بين الإنسان والمال والله يلزمنا أن نفحص كلا
الوضعين: وضع المال الأول، على المستوى اليهودي ومعنى سيادته على الإنسان بل
وتعبُّد الإنسان له كإله؛ ووضع المال الثاني، على المستوى المسيحي وكيف صار خادماً
لحياة الإنسان الروحية، فهو لا يزيد في قيمته عنده بأكثر مما يُشترى به من طعام
وملبس وأدوات المعيشة، أو قيمة التنقُّل من مكان إلى مكان، أو قيمة التعلُّم بعلوم
العصر، أو قيمة استخدام أدوات المدنية الحديثة لتسهيل الحياة ورفع المعاناة
والمشقة عنها.

أولاً: الإنسان العتيق([8]) والمال
السيد العظيم المبجَّل والمعبود:

كان
المال في عصر ما قبل المسيح، خاصة في الأوساط اليهودية، هو المقياس الأول الذي
تُقاس به وعليه قامات الرجال. فكان الإنسان إنساناً بماله، يوزن بما استحوذ عليه
من مال. ونقول إن الإنسان كان إنساناً بماله بكل المعاني: فالعالِم والشاعر
والأديب والحكيم والطبيب إن كان لا يحتكم على مال فهو صعلوك في نظر القوم، يستجدي
بعلمه وحكمته وشعره وطبّه المال عند الأغنياء والملوك. وهكذا كان المال ربَّ
الحياة وسيدها، والكل يسعى في اكتساب ودِّه. وقد دخل المال بالفعل في منافسة مع
الله وانحاز شعب إسرائيل إلى المال والذهب والفضة وعبدوها على هيئة أصنام:
» صنعوا
لأنفسهم من فضتهم وذهبهم أصناماً لكي ينقرضوا
«(هو 4:8)، وعجل الذهب في سيناء شاهد عليهم. ولكن القول هنا ليس على
مستوى أخطاء عابرة بل توطُّنٌ أخلاقي يتغلغل أعماق كيانهم وهويتهم، فالمال محبوب
ومعبود أكثر من الله.

لذلك
لم يكن ممكناً تغيير هذه الحقيقة مهما كان سواء بالعلم أو بالمعرفة، ولم يكن
التأديب بنافع، فالطبيعة البشرية العتيقة تعبَّدت للمال بصورة لم يكن لها من علاج
إلاَّ اقتلاعها اقتلاعاً. ولا يغيب عن الفكر مدى العلاقة بين المال والانحراف
الأخلاقي وتوطُّن الخصال الرديئة من طمع وجشع ونهب وسلب وظلم وفجور، وآلاف من
خطايا نعرفها ولا نعرفها، فكما قال بولس الرسول بتأكيد:
» وأما الذين
يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربةٍ وفخٍ وشهواتٍ كثيرة غبية ومضرَّة
تغرِّق الناس في العطب والهلاك. لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم
ضلُّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة.
«(1تي 9:6و10)

ولكن
الأخطر من كل هذا أن هذه العلاقة مع الأموال ذات التأثير الطاغي على فكر الإنسان
ورؤيته وتقديره العام تخلخل من علاقته بالله وتغرس بدلاً منها نوعاً من الجفاء
وعدم المسرة، بل وربما الغطرسة والكبرياء على أمور الله والدين. هذا كله زكَّى
تصميم الله على تغيير هذه الطبيعة البشرية المنحرفة نحو العالم والمادة والشهوة،
وبالتالي الغِنَى ومحبة المال من دون الله، الأمر الذي حقَّقه المسيح للبشرية
بتجسده وسفك دمه على الصليب وموته بهذه الطبيعة المحمَّلة بالخطايا لتكميل عقوبتها
بالموت واللعنة ثم القيامة بها في نصرة المسيح جديدة مجدَّدة ذات خليقة جديدة
منعطفة انعطافاً جذرياً نحو الله والحياة الأبدية.

ثانياً: الإنسان الجديد وعلاقته الوثيقة
بالله، وسقوط المال إلى موضع الخادم والعبد:

أول
علامات النصرة الجديدة للإنسان الجديد في شخص يسوع المسيح ظهرت في موقعة التجربة
مع الشيطان على الجبل، حينما جاع المسيح بعد صوم أربعين يوماً وأربعين ليلة، فأتاه
الشيطان في خلوته البعيدة عن الطعام والشراب يقترح عليه أن يحوِّل الحجارة خبزاً،
فكان ردُّ المسيح بلسان الإنسان الجديد:
» ليس بالخبز
وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله
« وهكذا ارتفعت رؤية الإنسان
الجديد مع إيمانه من التعلُّق بالأرض والمادة لقيام الحياة، إلى الاعتماد المباشر
على كلمة
الله كمصدر أساسي ودائم لحياة
الإنسان في علاقته الجديدة مع الله متحدِّياً الشيطان والعالم والجسد

والمادة.

ومرة
أخرى على مستوى أعلى وأشمل وأخطر رفع المسيح الرؤية الإيمانية للإنسان الجديد
واعتماده على العلائق الأسرية والأبوية والزوجية والمالية المرتبطة بالملكية
واقتناء الأرضيات جميعاً، إلى المستوى الروحي الأسمى دون أن يُفقده أيَّ شيء منها،
فقداناً يؤثِّر على حياته ومستقبله هكذا:
» وكل مَنْ
ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من
أجل اسمي يأخذ مئة ضعف (ويضيف إليها القديس مرقس 30:10: “مئة ضعف الآن في هذا
الزمان بيوتاً وإخوة وأخوات وأمهات وأولاداً وحقولاً مع اضطهادات”) ويرث الحياة
الأبدية
«(مت 29:19). بمعنى
أن الذي يترك هذه كلها من أجل اسم المسيح وخدمة الإنجيل لا يُحرَمُ من مئات الآباء
والأمهات والأولاد والإخوة والأخوات، وحقول بلا عدد تكون تحت يده ليستخدمها في
خدمة الله. ويضيف القديس مرقس: “مع اضطهادات”، لأن هذا يكون من حسد وحقد رئيس هذا
العالم الذي يغرِّم مَنْ يتحدَّاه في مُلكه الأرضي.

والمعنى
أن الذي يترك بإرادته أو عن اضطهاد وحرمان كل هذه الممتلكات والمتعلِّقات الجسدية
والأرضية من أجل اسم المسيح أو لخدمة الإنجيل، لا يفقد ولا يُحرم من الانتفاع بكل
هذه الممتلكات والمتعلِّقات ولكن على المستوى الروحي الأسمى.

وهذا
يفيد إفادة قاطعة أن الإنسان الجديد في المسيح يسوع لم يصبح تحت سطوة المال ولا كل
ما يُشترى أو يُقتنَى بالمال أو كل ما يمتِّع الإنسان نفسه به. بهذا يتضح مدى
الارتفاع الهائل والتسامي المطلق الذي بلغه الإنسان الجديد فوق سيادة المال
وسطوته. وهذه شهادة رجل يهودي كان شديد التعلٌّق بالمال وسيادته ومنغمساً في شهوات
سلطانه ورئاسته وكبريائه، وهو بولس الرسول:
» لكن ما كان
لي ربحاً، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من
أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نُفاية
لكي أربح المسيح، وأوجد فيه
«(في 7:39). وهذا الذي يتكلَّم هنا كان فرِّيسيًّا
متعصباً، يهودياً عابداً بالنسبة للمال والعالم بكل معنى. ولكن الآن يتكلَّم
باعتباره الإنسان الجديد في المسيح يسوع.

وهكذا
بمجرد أن يرتفع الإنسان في علاقته بالله إلى المستوى الروحي بالإيمان بالمسيح
وبلوغه تجديد الطبيعة البشرية في المسيح، تنفك كل علاقاته المسلسلة بالمال والقنية
لتهبط هذه في الحال من مركزها الأعلى المتفوِّق على قدراته والتي استعبدته تحت
أوهام الغِنَى والملكية والسعادة الكاذبة، لتستقر تحت قدميه وترتفع بالتالي نفسه
وروحه لتسود فوق الدنيا كلها بكل أموالها وإغراءاتها وأوهام سعادتها الباطلة:
» وأنا أحسبها
نفاية لكي أربح المسيح، وأوجد فيه.
«(القديس بولس)

ثالثاً: المال عند الإنسان المسيحي يصير
الخادم والعبد الأمين:

كان
المال في العصور الأولى قوة سلبية غير منضبطة إذا أُضيف إلى أي شخصية، خاصة إذا
سعى الإنسان إليه عن شهوة للقنية والتمجُّد، فإن المال يتحوَّل بصورة سريَّة غير
ملموحة إلى موضع السيادة بالنسبة إلى نفسية هذا الإنسان، وقليلاً قليلاً تبدأ قامة
الإنسان تنحني تحت سطوة إمكانيات المال المذهلة، إذ يصبح الإنسان شخصية مرموقة ذات
حيثية وسيادة مهما كان مستواه السابق.

ولكن
الذي حدث في أمر المال في العصور الحديثة، وخاصة في العصر الذي نعيشه الآن، أن
المال دخل في إطار الانضباط والتقييم الإيجابي المسمَّى الآن ب “الاقتصاد”، وهي
كلمة ذات مدلول إيجابي بديع سواء عند الجماعة كدولة أو هيئة أو جماعة متعاهدة
للقيام بعمل ضخم، أو حتى الفرد إذا كان على مستوى عبقرية الإحاطة بشروط وواجبات
الاقتصاد. لأن الاقتصاد أصبح من أخطر العلوم الديناميكية الذي بإمكانه التنبؤ
بخراب البنوك وسقوط الأمم. فالدولة أو الهيئة أو الأفراد الذين تفتَّحت عقولهم
لإدراك الأصول الدقيقة للاقتصاد، وانفتح وعيهم لأسرار ألاعيبه وإمكانياته الدقيقة
والضخمة بآن واحد، يصبح المال عندهم لعبة أو خادماً أميناً يُسَخِّرونه لمصلحة
الملايين في الدولة، ولمصلحة ارتقاء الهيئات والجماعات لأداء الخدمات والمشاريع
التي تنتفع بها الطبقات المتعددة من الشعب وخاصة المستويات الفقيرة والمستضعفة.

أما
الأفراد الموهوبون الذين شربوا روح الاقتصاد، فاستطاعوا بالفعل بإمكانياتهم
المالية الحرَّة أن يؤدُّوا من الأعمال والخدمات ما يذهل الدولة الآن، حتى أصبح
عماد الدولة في اقتصادها يقوم أساساً على مشاريع ونشاط الأفراد أكثر من الهيئات
الحكومية أو الشعبية. فعماد الاقتصاد الآن هو في أيدي الموهوبين في تسخير ذلك
السيد المدعو المال كخادم وعبد يتحرَّك ويعمل الأعاجيب تحت أصابعهم. وأصبح اتكال
الدولة على أكتاف هؤلاء الأفراد فيما يخص البطالة كمعجزة يمكن أن ترفع رأس الدولة
أو تسقطها إلى الحضيض. فالفرد الواحد المقتدر بإمكانه الآن إقامة مصنع مثلاً
يوظِّف فيه المئات والآلاف من الشباب العاطل!! دون أن تتحمَّل الدولة همَّ رواتب
وعلاوات. أي أن نشاط الأفراد الآن على المستوى الاقتصادي الناجح هو أمل البلاد في
القضاء على الفقر.

على
أنه لا يمكن في هذا المكان الضيِّق أن أسرد للقارئ كل القيمة الإنسانية الخيرية،
بل والروحية التي يمكن أن يأتيها المال إذا وُضع في أيدي أفراد أمناء مقتدرين
ومدرَّبين وموهوبين في شئون الاقتصاد الذي يحتاج إلى مهارات منفتحة على الله
والمستقبل لخير الإنسان.

إلاَّ
أنه يوجد خطر واحد في استعباد ذلك السيد الكبير المدعو المال بالنسبة لأولئك
الموهوبين في الاقتصاد، وهو الخروج عن حدود أصول الاقتصاد الصحيح.

رابعاً: كيف ينقلب المال من وضع الخادم
والعبد إلى السيد والصنم مرة أخرى للتخريب:

ولو
أننا ندخل هنا في دقائق اختصاصات الاقتصاديين، ولكن ليعذرنا القارئ فهذا الأمر
أيضاً من اختصاص الروحيين: وهو عدم تشغيل الفائض من المشاريع ورفعه للتخزين، حيث
تبدأ ترتفع قرون المال ليدخل في دائرة السيد مرة أخرى الذي تُوجب له العبادة.

التخزين كصنم العالم الجديد:

فالمفروض
بحسب الرؤية الروحية للإنسان الجديد أن الفائض في رؤوس أموال الأعمال الاقتصادية
والتجارية يتحتَّم أن يدخل دائرة الصرف والخدمة، بعد أن يُعلَّى منه نسبة محدَّدة
يقررها رجال الاقتصاد والتأمين.

فإذا
ارتفعت نسبة المخزون، أي انحجب المال عن الصرف والخدمة، وخاصة من أجل الفقراء
والمعدمين سواء على مستوى الدول أو الجماعات أو الأفراد، صارت هذه النسبة داخلة في
مفهوم “خطية” الدول والجماعات والأفراد، ويتحوَّل فيها المال إلى معبود
العالم والإنسان في العصر الحديث. لأن الحوافز والإغراءات على التخزين كلها
شيطانية، وأخطرها هو لرفع أسعار العملة أو السلعة، وأقلها الغِنَى والتملُّك!

وعلى
قدر خبرتنا القليلة سمعنا كيف كانت أمريكا تخزِّن الأذرة لكي ترفع سعرها في
الأسواق العالمية، وخوفاً من تسويس الأذرة استخدمته للوقود في قطارات السكك
الحديدية، وكذلك البن في البرازيل. والآن يُخزَّن البترول تحت الأرض لرفع سعره في
العالم، وكذلك الذهب والفضة والبلاتين والمعادن الثمينة والمشعَّة. هذا على مستوى
الدول، ولكن الشائع الآن هو تخزين كل شيء وكل سلعة وفائض الأموال لرفع الأسعار حتى
ولو جاعت الشعوب. وكم اكتوت مصر من تخزين السلع والتموينات والمحاصيل بأيدي
الأغنياء وأصحاب الأموال، فهذه ولو أنها جريمة اقتصادية، فهي في أصولها الروحية
استعلاء للمال بقرونه القديمة ليرتفع على الإنسان كسيد تُقدَّم له العبادة رغم أنف
علوم الاقتصاد وتقدُّم الإنسان في معرفة الأصول والواجبات والروحيات.

لذلك
نسمعها كقاعدة يُنادي بها المسيح أن لا يهتم الإنسان فوق العادة
بالطعام واللباس، وهكذا يأكل الاهتمام بهذه الأمور من الاهتمام بالحياة نفسها،
فالحياة أفضل من الطعام واللباس. لأن:
» هموم هذا العالم وغرور
الغِنَى (للتملُّك والتخزين) وشهوات سائر الأشياء تدخل (القلب) وتخنق كلمة الله
(للحياة)…
«(مر 19:4). وبولس
الرسول يصرخ من جهة هذه الأمور كلها طالباً أن يكون
» الذين
يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه (بالنهاية)، لأن هيئة هذا العالم تزول،
فأُريد أن تكونوا بلا هم.
«(1كو 31:7و32)

خطر الاهتمام الكثير وابتلاع الوقت:

آخر
مخاطر الاشتغال بالمال في الحدود الصحيحة، وحسب الأصول الاقتصادية المفروضة، وإزاء
النجاحات المشكورة للفرد التي تعود عليه بدعاء الفقراء والمحتاجين ورضى المجتمع
وشكر الدولة، هو أن يطغى الاهتمام بواجبات الأمانة في تشغيل المال على واجبات
الحياة الروحية، فتقل التزامات الإنسان من جهة أمانته في العبادة واسترضاء وجه
الله والضمير. فهذه الواجبات يتحتَّم أن يضعها الإنسان المسيحي المخلص ضمن الفروض
الواجبة عليه فرضاً من الله نفسه، لا يسمح لنفسه أن يستعفي منها، لأنها تدخل
دخولاً رسمياً في إعطائه النجاح الحقيقي لتدبيره وأداء واجبه في الحياة:
» كُنْ أميناً
إلى الموت فسأُعطيك إكليل الحياة.
«(رؤ 10:2)

25:6
«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ
وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ
الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟»

«لا تهتموا»: m¾ merimn©te

وتفيد
الهمّ مع القلق، وهي حالة عقلية ونفسية متصلة ببعضها، فكثرة التفكير يولِّد الهمّ
بالشيء. واضح أن السبب الرئيسي لطغيان المال وعبادته في العالم هو كثرة اهتمام
الإنسان بأعواز الحياة مما يجعله يفكِّر في البداية بجمع المال وتخزين الطعام
والملابس، ثم يمتد هذا الاهتمام من تأمين الأعواز إلى امتلاك رؤوس الأموال التي
تبدأ بتأمين الحياة لتنتهي بتحويل الحياة نفسها إلى خدمة المال، فعوض أن كان المال
عبداً للإنسان لتغطية أعوازه، يصير الإنسان عبداً للمال لتغطية كل أصوله وواجباته.

وإن
كان الطعام وبقية الأعواز الأخرى من ملابس وخلافه توفِّر حياة مريحة، فالحياة
أصلاً أهم من الطعام وبقية الأعواز الأخرى. إذن أصبح من الضروري أن نهتم بالحياة
نفسها أكثر من الأعواز. والاهتمام بالحياة يرفع قلوبنا وعقولنا في الحال لرب
الحياة. فاهتمامنا بعلاقتنا مع الله أهم من اهتمامنا بمتعلقات الحياة، لأن الله
وعد أن يوفرها لنا. بمعنى أن يكون اهتمامنا بالحياة الروحية وتقديم العبادة
والمحبة لله أولاً وأساساً وبعد ذلك أمور الحياة. بهذا لا تطغى علينا أعواز الحياة
ونلتجيء إلى التخزين ثم تكديس المال وأخيراً عبادته دون الله.

فالمسيح
هنا يحدِّد الانحراف الأول الذي يؤدِّي بنا إلى عبادة المال، وهو الاهتمام الأكثر
بأعواز الحياة أكثر من الاهتمام الأساسي بالحياة في علاقتها بالله. فالاهتمام
الأول يرمينا في قبضة المال، والاهتمام الثاني يحررنا من الاهتمام الأول ويوفِّر
لنا الأعواز وكل شيء.

أمثلة من الطبيعة الله يُقيتها ويُلبسها:

26:6
«اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ
وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا.
أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟»

إنها
دعوة للتأمُّل العميق، لأن الله أعطى لهذه الطيور في صميم غرائزها كيف تبحث عن
طعامها يوماً بيوم ولا تجمع للغد ولا تبيت جائعة، فالأرض كفيلة أن تقيتها على مدار
السنين دون خلل.

أمَّا
من جهة الإنسان فالعجيب أنه لم يُعطَ من الغرائز إلاَّ غرائز قليلة لم يتبقَّ منها
إلاَّ الخاصة بحفظ النوع والجنس والدفاع عن الذات وبقايا غرائز مآلها للضياع. لأن
الإنسان خُلق أصلاً ليعتمد على الله. ومن هنا يبكِّت الله الإنسان على إهماله
للغريزة العظمى وهي الاحتماء بالله والاعتماد عليه لكي يقدِّم له الله كل ما يلزم
لحياته إن هو التصق به وكان أميناً في الاعتماد عليه.

والمسيح
هنا يبكِّتنا لكي نراجع أنفسنا كخليقة ضعيفة اعتمادها الكلي على الله. فإذا هي لم
تلتفت إلى مصدر حياتها والمتعهِّد بكل أعوازها، ارتمت في حضن الاهتمام والقلق
والتخزين والجهد الضائع. والمسيح في هذه الآية يعمل توازناً دقيقاً بين الغرائز
الممنوحة للخليقة وبين اعتمادنا على الله. إذ كان يجب أنه كما أن الطيور وبقية
الحيوانات مكتفية بغرائزها التي أعطاها الله، أن نحصل نحن أيضاً على كفايتنا من
اعتمادنا على الله، لا أن ننام والله يقيتنا، ولكن جهدنا نبذله على قدر كفايتنا
وأعوازنا، ولا نجعل الهمّ والقلق بأعواز الحياة يطغي على الحياة فيبدِّد سلام
النفس وراحة البال والأعصاب والجسد، ونضيِّع الوقت في مزيد من العمل والشغل لمزيد من
المال لمزيد من الترف والمتعة. ولمَّا نحصل على هذا المزيد يكون قد اضمحل الجسد
وتآكلت الأعصاب وجلسنا مرتمين في البيت محبوسين مرضى ويُصرف المال على الأطباء
والدواء. وخلاصة الآية مع الآية السابقة هي أن لا نحمل همّ الحياة وأعوازها في حين
أن الله وعد أن يحمل همّنا.

27:6
«وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ
ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟»

المسيح
هنا يسخر من اهتمام الإنسان، ويعطيه فرصة ليفكِّر ماذا يعود عليه من حمل همّ
الحياة إن كان لا يستطيع أن يطيل عمره أو قامته. يقولها ق. متى هنا ذراعاً واحدة
ويقولها ق. مرقس شبراً واحداً، ونقولها نحن سنتيمتراً واحداً أو ساعة واحدة.
فالاهتمام لا يزيد الحياة إلاَّ قصراً ومرضاً ولا يطيل شيئاً من العمر إلاَّ
المعاناة والحزن والمرض. وهنا يودُّ المسيح أن يقول: لو كان اهتمامكم ينصبُّ على
علاقتكم بالله لانتهى كل همّ بالحياة الذي هو سبب مصائبكم.

عودة إلى الأمثلة:

28:630 «وَلِمَاذَا
تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ
تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي
كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبِسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ
الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ،
يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أنْتُمْ
يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟»

يبدو
هنا أن المسيح بدأ يكشف عن نظرة عميقة وأخروية مؤداها أن اهتمامنا الكثير بأعواز
الحياة الأرضية وخاصة بأصناف الملابس الكثيرة، ومحاولتنا الظهور بمظهر أجمل في
الجسد، قد ضيَّع علينا اهتمام الله الأهم والأخطر بأن يُلبسنا بالروح ألبسة البر
والخلاص ذات البهاء والمجد والجلال. فإن كانت الملابس التي تُلبس اليوم وتُطرح
باكراً في الزبالة استحوذت هكذا على اهتمامنا، أما كان بالأحرى أن نهتم بالله الذي
يشاء أن يُلبسنا ألبسة البر اللائق بملكوت الله.

+
» فرحاً أفرح
بالرب. تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البر، مثل عريس
يتزيَّن بعمامته ومثل عروس تتزيَّن بحليها.
«(إش
10:61)

لم
يرفض المسيح الملابس الجميلة المزركشة ذات الألوان البهيَّة والمناظر البديعة،
ولكنه يلفت نظرنا أن نتأمَّل في جمال وبهاء زنابق الحقل والزهور ذات الألوان
والمناظر الخلاَّبة، ونتيقَّن أننا سنلبس أفخر منها فوق، حيث الجمال الفائق الحد
عمَّا هو في الطبيعة. فمهما اهتممنا هنا بهذه الألوان والأشكال فإننا سنحصل على
أفضل منها. قاصداً أن ننقل حبنا بالمناظر والألوان والجمال والإبداع في الطبيعة
إلى ما هو فوق لأنه أفضل وأبقى. كما يشير الرب إلى أنه هو يُلبس زنابق الحقل
بهاءها، وهو الذي يُلبسنا بهاءه هناك حتى يقلِّل من شدة تعلُّقنا بالأرض ويربط
تعلقنا به هو الذي سيصنع بنا وفينا عجباً.

31:634 «فَلاَ
تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا
نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ
السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. لكِنِ
اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.
فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي
الْيَوْمَ شَرُّهُ».

وأخيراً
أفصح المسيح عن القطب الجاذب لكل تعليمه وهو ملكوت الله. فكل الآيات السالفة كانت
تقوم على أساس ما هو لملكوت الله، وقياساً على أهميته في حياة تلاميذه والمؤمنين
باسمه. فالحياة الحاضرة بكل أعوازها ينبغي أن تخدم الملكوت أساساً، والمال هو
المنافس الأساسي في ابتلاع الأهمية والفكر والقلب والوقت عند الإنسان، وقد
يزيح الملكوت كلية من حياة الإنسان ويحل هو مكان السيد والرب والإله. كذلك من غير
المعقول أن يضيِّع الإنسان معظم أوقات حياته من أجل الطعام والملابس وأعواز الجسد
ولا يُبقي لملكوت الله شيئاً من الوقت أو الاهتمام، فتضيع الحياة سدًى. والمسيح
يؤكِّد أن الإنسان خُلق أولاً ليكون مواطناً سمائياً، وأن المسيح جاء أولاً ليجعل
للإنسان نصيباً أساسياً في ملكوت الله، ومن أجل ذلك بذل ذاته وحياته حتى الموت
ليربح الإنسان الحياة الأبدية في ملكوت أبيه السماوي. وأعطانا اختباراً لكي
نجرِّبه أن لا نهتم للغد، وهو أقل اختبار لقياس مدى القيمة الحقيقية للملكوت
ومقدار صدق وإمكانية إزاحتها للزمن، فلا نهتم للغد ونترك الغد لمَّا يأتي يهتم بما
له، ونلتفت نحن لمطالب الملكوت في يومنا الحاضر كخبز اليوم الجوهري بشبه الذي كان
يلتقطه شعب إسرائيل يوماً بيوم تعبيراً عن كلمة الحياة الأبدية الموهوبة لنا
بالإنجيل من فوق من عند الآب السماوي. وأن لا نتشبَّه بالأُمم في إتلاف الوقت
لخدمة أعواز الجسد التي يتكفَّل بها المسيح إن نحن أعطيناه كل الحياة:
» حين أرسلتكم بلا كيس
ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟
« (لو
35:22). والمسيح بهذا يكون قد أعطى الإنسان أن يجرِّب ويختبر مدى صدقه في هذا
الأمر.
»لأن مراحمه
لا تزول هي جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك. نصيبي هو الرب قالت نفسي من أجل ذلك أرجوه. طيب هو الرب
للذين يترجونه. للنفس التي تطلبه.
«مرا 3: 2225).



([1])W. Hendriksen, op. cit., p.
319, N.T. Nestle, Interlinear Greek English New Testament.

([2]) المنظر هنا بديع حقا: “فالكيل المهزوز الملبَّد الفائض” هو منظر يُرى في
الأسواق حينما يقع الإنسان في تاجر ابن خير وأمين، فإنه حينما يُكيِّل يملأ
المكيال أولاً إلى الآخر ثم يهزّه بما يعرف “بهزة ونصف” فينزل ما في الكيل كثيراً
ثم يعود يملأه حتى القمة، وهذا هو “الملبَّد” ثم يعود ويضع فوقه كبشة ثم كبشة حتى
يفيض ويقع على الجنبين!! وهذا هو
“الفائض”.

([3]) St. Chrysostom, Homilies on the Gospel of St.
Matthew,
NPNF, 1st ser., vol. X, p. 135 &
n.3.

([4])
St. Augustine, Sermon on the Mount, NPNF, 1st ser. vol,
VI, p. 42 & n. 4.

([5])
W.C. Allen, St. Matthew, I.C.C., p. 59

([6])
W. Hendriksen, op. cit., p. 338.

([7]) الرجاء الرجوع إلى كتاب: “شرح إنجيل ق. لوقا” للمؤلِّف، للاطلاع على
مقدِّمة هذه الآية: “النور والظلام” (33:11
36). صفحة 495

([8]) الإنسان العتيق: هو الإنسان ذو الطبيعة البشرية الساقطة تحت عقوبة الموت
واللعنة بسبب الخطايا قبل أن يجدِّدها المسيح بقيامته.

هل تبحث عن  هوت طقسى أعياد الكنيسة القبطية عيد ظهور الصليب المقدس س

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي