تَفْسِير رِسَالَةُ بُولُسَ
الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ

متى
بهنام

 

تمهيد

مدينة أفسس

كانت هذه
المدينة واقعة على الساحل الغربي لآسيا الصغرى، وكانت عاصمة ذلك الجزء من القارة
الآسيوية، وقد اشتهرت بعظمتها من النواحي الدينية والسياسية والتجارية.

وكان معظم سكان
أفسس من أصل يوناني كما كان بينهم عدد كبير من اليهود المشتغلين بالتجارة (أع 19:18-
24، 1:19، 17، 24).

وكان في تلك
المدينة هيكل إلَهة اليونانيين والرومانيين الكاذبة التي كانت تدعى عند الرومانيين
«ديانا» وعند اليونانيين «أرطاميس» (أع 23:19- 36). وكان ذلك الهيكل مُعتبرًا
وقتئذ أحد عجائب الدنيا السبع[1].

ويبدو كأن
الروح القدس قصد عن طريق ذلك الهيكل الفخم أن يقود المؤمنين إلى معرفة الحق السامي
الخاص بالهيكل الروحي، أعني «بيت الله» الذي هو كنيسة الله، أي جميع المؤمنين
الحقيقيين المبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية «الذي
فيه كل البناء مركبًا معًا ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب. الذي فيه أنتم أيضًا
مبنيون معًا مسكنًا لله في الروح» (أف 19:2- 22). لقد هُدِمَ هيكل الإلهة ديانا،
هدمه الغوطيون سنة 262 ميلادية، أما الكنيسة بيت الله فإن أبواب الجحيم لن تقوى
عليها.

رسالة أفسس

 

لقد
كانت أفسس وقتئذ أعظم مركز للعبادة الوثنية الكاذبة والتي كثرت معها أعمال السحر
والشعوذة (أع 19:19) كما اعتقد الجميع في آسيا أن تمثال هذه الإلهة قد هبط من
السماء (أع 35:19).

كان ذلك
الهيكل مبنيًا من أنقى أنواع الرخام وطوله 425 قدمًا وعرضه 220 قدمًا، وكان سقفه
قائمًا على 127 عمودًا من الرخام النقي، وارتفاع كل عمود أكثر من 60 قدمًا، وقد
استغرق بناء ذلك الهيكل أكثر من مائتي سنة.

وقد كان في
مدينة أفسس مجمع لليهود ولكن ذلك المجمع بممارساته الناموسية المتنوعة لم يستطع أن
يُبدِّد ظلمات الوثنية التي كان الأفسسيون بل وجميع سكان آسيا غارقين فيها. ولكن
شكرًا لله فإن شيئًا عجيبًا حدث هنالك، ذلك أن إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذي هو
قوة الله للخلاص قد كُرِزَ به في أفسس، بل وسمعه جميع سكان آسيا فحطَّم عظمة تلك
الإلهة الكاذبة فلم تقم لها قائمة بعد ذلك.

لقد استطاع
الإنجيل أن يعمل ما كان يخشاه ديمتريوس زعيم الصُنَّاع من أن يحسب هيكل أرطاميس
الإلهة العظيمة لا شيء ومن أن تهدم عظمتها، هذه التي يعبدها جميع آسيا والمسكونة
(أع 27:19).

الكرازة
بالإنجيل في أفسس

لسنا نعلم
بالتحقيق كيف ومتى كُرِزَ بالإنجيل في أفسس، ولكننا نعلم أنه لما حلَّ الروح القدس
على المؤمنين الذين كانوا مجتمعين معًا في يوم الخمسين، كان بين الرجال اليهود
الأتقياء الساكنين في أورشليم من كل أمَّة تحت السماء بعض رجال من آسيا (التي كانت
أفسس عاصمتها) (أع 9:2). هؤلاء سمعوا بشارة الإنجيل وتابوا وآمنوا بالمسيح.

كذلك واضح
أن الرسول زار مدينة أفسس لأول مرة وهو في طريقه من كورنثوس إلى سوريا عند عودته
من أوربا، من سفرته التبشيرية الثانية[2]،
وأنه دخل المجمع وحاج اليهود ولكنه لم يمكث طويلاً بل ترك أكيلا وبريسكلا هناك (أع
19:18، 20).

ثم واضح أيضًا
أن الرب استخدم هنالك أبلوس الإسكندري، الذي أتى إلى أفسس، وكان رجلاً فصيحًا ومُقتدرًا
في الكتب وخبيرًا في طريق الرب، وكان وهو حار بالروح يتكلَّم ويُعلِّم بتدقيق ما
يختص بالرب عارفًا بمعمودية يوحنا فقط، ولكن إذ سمعه أكيلا وبريسكلا أخذاه وشرحا
له طريق الرب بأكثر تدقيق (أع 24:18- 26).

وواضح بكل
يقين أن الرسول العظيم بولس عاد إلى أفسس مرة أخرى، وأن مدة السنوات الثلاث التي
قضاها في أفسس كارزًا ومُعلِّمًا «ليلاً ونهارًا» أتت بأبرك الثمرات في خلاص نفوس
كثيرة وفي تعليم المؤمنين «جهرًا وفي كل بيت» (أع 1:19- 20، 20:20- 31).

عندما وصل
بولس إلى أفسس وجد اثني عشر تلميذًا. هؤلاء كانوا قد اعتمدوا بمعمودية يوحنا
المعمدان فقط، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يجهلون حق الإنجيل الكامل الخاص بحضور
الروح القدس وعمله في المؤمنين، والرسول بولس في حديثه إليهم أدرك ذلك، لذا وجَّه
إليهم سؤالين:

رسالة أفسس

 

السؤال
الأول: «هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟» (أع 2:19). لقد ميَّز الرسول أن إيمانهم
لم يكن مُؤسَّسا على عمل الفادي الذي مات على الصليب والذي قام من الأموات. إنهم
لم يدركوا تعليم الإنجيل الكامل ولم يعرفوا أن الروح القدس أتى لكي يسكن في المؤمن
في اللحظة التي فيها يقبل الرب يسوع مُخلِّصًا. لذا أجابوا قائلين: «ولا سمعنا أنه
يوجد الروح القدس». إن الحق الإلهي الصريح هو أن سكنى الروح القدس في قلب الإنسان
هي البرهان الوحيد على أنه مسيحي حقيقي «إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له
(أي ليس للمسيح)» (رو 9:8). وهل كان مُمكنًا أن تُبنى الكنيسة في أفسس على أساس
معمودية يوحنا؟ لذا وجَّه الرسول لهم:

سؤاله
الثاني: «فقال لهم: فبماذا اعتمدتم؟» فأجابوه: «بمعمودية يوحنا»، فالذي حدا
بالرسول أن يسألهم عن المعمودية هو يقينه بأن مَنْ اعتمد بالمعمودية المسيحية لا
يمكن أن يجهل حقيقة الولادة الجديدة، لو كانوا اعتمدوا بالمعمودية باسم الرب يسوع
لكانوا بلا ريب عرفوا عن الإنجيل وقوته المُخلِّصة.

إن كل ما
كان يدركه هؤلاء التلاميذ قد تعلَّموه من أبلوس، الذي مع أنه كان رجلاً فصيحًا
ومقتدرًا في الكتب وحارًا بالروح، إلا أنه كان عارفًا معمودية يوحنا فقط. فلم يكن
مُدْرِكًا لحقيقة الفداء الكامل بعمل ربنا يسوع المسيح فوق الصليب وقيامته من
الأموات وصعوده إلى السماء. لقد علَّم أبلوس بمعمودية التوبة التي تتطلَّع إلى
الملك الآتي، أما المعمودية المسيحية فإنها تتطلَّع إلى الوراء حيث أُكْمِلَ عمل
الخلاص بذاك الذي وُلِدَ من عذراء وعاش عيشة القدَّاسة الفريدة والكاملة «القدُّوس»،
وتتطلَّع إلى موته الكفَّاري وإلى نصرة قيامته، وإلى صعوده إلى السماء وجلوسه عن
يمين الاب. إن المعمودية المسيحية هي برهان اتحاد كل ابن حقيقي لله مع المسيح في
الموت والدفن والقيامة. وقد كانت نتيجة حديث الرسول بولس مع أولئك التلاميذ أنهم «لما
سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع» (أع 5:19).

ثم إذ
تتبعنا الرسول بولس في خدمته في أفسس نجده في مجمع اليهود «كان يجاهر مدة ثلاثة أشهر
مُحاجًا ومُقنعًا في ما يختص بملكوت الله» (أع 8:19). ولكن «لما كان قوم من اليهود
يتقسُّون ولا يقنعون، شاتمين الطريق أمام الجمهور، اعتزل عنهم وأفرز التلاميذ، مُحاجًا
كل يوم في مدرسة إنسان اسمه تيرانُّس» (ع9). لقد رفض بولس أن يبقى في شركة مع ممَنْ
ينكرون سيده «أية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي أتفاق للمسيح مع بليعال؟» إن الأمر
الإلهي الصريح «اخرجوا من وسطهم واعتزلوا، يقول الرب» (2كو 14:6- 18). إن كل خادم
أمين للمسيح لا يتوانى عن الانفصال عمَنْ يُنكرون اسم سيده أو قيمة عمله الفدائي.

لقد كانت
الكنيسة في أفسس تجتمع في تلك المدرسة، إذ ليست العبرة بمكان الاجتماع وبفخامة
تشييده بل بأمانة المجتمعين باسم الرب وفي حضرته (مت 20:18). لقد أراد الرب أن
تسمع آسيا كلمة الإنجيل، ولمدة سنتين استمر بولس كارزًا ومُعلِّمًا في كل يوم «حتى
سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين في آسيَّا، من يهود ويونانيين» (أع9:19، 10).

رسالة أفسس

 

ولقد
وضع الله ختم المُصادقة على كرازة الرسول بولس بأنه كان يصنع على يديه «قوات غير
المعتادة. حتى كان يُؤتى عن جسده بمناديل أو مآزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض،
وتخرج الأرواح الشريرة منهم» (أع 11:19، 12).

كذلك كان
عمل النعمة في نفوس الذين آمنوا عملاً حقيقيًا ومُثمرًا «وكان اسم الرب يسوع يتعظَّم.
وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون مُقرِّين ومُخبرين بأفعالهم، وكان كثيرون من
الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع. وحسبوا أثمانها فوجدوها
خمسين ألفًا من الفضة. وهكذا كانت كلمة الرب تنمو وتقوى بشدة» (أع 17:19- 20).

 

مقاومات
الكرازة في أفسس

مع أن الله
قد بارك كثيرًا كرازة وخدمة الرسول بولس في أفسس وأيدها بالقوات «غير المعتادة»
التي صنعها على يديه، إلا أنه لقي مقاومات عنيفة من الشيطان وأعوانه، فقد بدأت تلك
المقاومات عندما كان قوم من اليهود قد قسوا ولم يقنعوا بكرازته بل كانوا يشتمون الطريق
أما الجمهور كما سلفت الإشارة (أع 9:19). وفيما كتبه الرسول نفسه في بعض رسائله
نرى كم لقيَ من المقاومات العنيفة، ففي كورنثوس الأولى 32:15 يقول: «كإنسان قد
حاربت وحوشًا في أفسس» مشيرًا بذلك بدون شك إلى المقاومات الشديدة التي لقيها هناك
ولا سيما من اليهود ثم يقول أيضًا: «ولكنني أمكث في أفسس إلى يوم الخمسين. لأنه قد
انفتح لي باب عظيم فعَّال، ويوجد مُعاندون كثيرون» (1كو8:16، 9)، ثم قوله بعد ذلك
في رسالته الثانية: «فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة ضيقتنا التي
أصابتنا في آسيَّا، أننا تثقلنا جدًا فوق الطاقة، حتى أيسنا من الحياة أيضًا» (2كو8:1).

لقد كانت
للشيطان أيضًا وسائله المتنوعة في مقاومة عمل الله، فلم يكتف بالمقاومات القاسية
التي أثارها على خادم الرب الأمين بولس وعلى خدمته، بل استعمل وسيلة أخرى وهي
تقليد عمل الله بواسطة سبعة بنين لسكاوا رجل يهودي رئيس كهنة «فشرع قوم من اليهود
الطَّوافين المُعزِّمين أن يُسمُّوا على الذين بهم الأرواح الشريرة باسم الرب يسوع،
قائلين: نقسم عليك بيسوع الذي يكرز به بولس!». لقد كان هؤلاء التعساء المُجدِّفون
يجهلون عاقبة استخدام الاسم القدوس المبارك -اسم ربنا يسوع- في سحرهم وعرافتهم،
فالإنسان الذي كان فيه الروح الشرير وثب عليهم وغلبهم وقوي عليهم حتى خرجوا من ذلك
البيت عراة ومجرَّحين حتى صار ذلك معلومًا عند الجميع «وكان اسم الرب يسوع يتعظَّم»
(أع 13:19- 17). شكرًا لله فإنه بالرغم من شدة وقسوة مقاومات العدو فإن كلمة الرب كانت
«تنمو وتقوى بشدة» (أع20:19)، لأنه مهما اشتد هجوم الشيطان وأعوانه فإن كلمة الرب
لا يمكن أن ترجع إليه فارغة.

لم تكن هذه
كل المقاومات التي لقيها الرسول بولس في أفسس، إذ واجه مقاومة أخرى شديدة وقاسية،
فإن إنسانًا اسمه ديمتريوس، صائغ صانع هياكل فضة للإلهة أرطاميس، كان ذا نفوذ بين
الصنَّاع إذ كان يكسبهم مكسبًا ليس بقليل، لذا جمعهم هم والفعلة في مثل ذلك العمل
وهيَّجهم ضد الرسول بولس قائلاً: «أنتم تعلمون أن سعتنا إنما هي من هذه الصناعة. وأنتم
تنظرون وتسمعون أنه ليس من أفسس فقط، بل من جميع آسيَّا تقريبًا، استمال وأزاغ
بولس هذا جمعًا كثيرًا قائلاً: إن التي تُصْنَع بالأيادي ليست آلهة. فليس نصيبنا
هذا وحده في خطر من أن يحصل في إهانة، بل أيضًا هيكل أرطاميس، الإلهة العظيمة، أن
يُحسب لا شيء، وأن سوف تُهدم عظمتها، هي التي يعبدها جميع آسيَّا والمسكونة» (أع 24:19-
27) عندئذ غضبوا «وطفقوا يصرخون قائلين: عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين! فامتلأت
المدينة كلها اضطرابًا… وخاطفين معهم غايوس وأرسترخس المكدونيين، رفيقي بولس في
السفر» (ع 28، 29).

رسالة أفسس

 

وفي
رسالته الأولى إلى تيموثاوس 3:1، 4 يقول بولس بأنه طلب إلى تيموثاوس بأن يمكث في
أفسس لكي يوصي المؤمنين هنالك بأن لا يُعلِّموا تعليمًا آخر وأن لا يُصغوا إلى
خرافات وأنساب لا حد لها.

ثمار
خدمة الرسول في أفسس

يجدر بنا أن
نشير بكل إيجاز إلى ثمار خدمة الرسول بولس في أفسس أو بالحري إلى نُصرة الإنجيل
ليس في أفسس فقط، بل وفي كل آسيَّا (آسيَّا الصغرى) «حتى سمع كلمة الرب يسوع جميع
الساكنين في آسيَّا، من يهود ويونانيين» (أع 10:19). هؤلاء لم يسمعوا كلمة الله
فقط، بل أن كثيرين منهم قبلوها، الأمر الذي شهد به ديمتريوس الصائغ نفسه، فقد
اعترف قائلاً: «إنه ليس من أفسس فقط، بل ومن جميع آسيَّا تقريبًا، استمال وأزاغ
بولس هذا جمعًا كثيرًا» (أع 26:19). ولقد تأسَّست بالفعل كنائس ليس في أفسس فقط،
بل في جهات أخرى في آسيَّا. ولهذه الكنائس وجَّه الرب وهو في المجد خطاباته السبعة:
«إلى الكنائس السبع التي في آسيَّا» (رؤ 11:1؛ وأصحاحا 2، 3).

ما
وصلت إليه الحالة في أفسس

في رسالة
بولس الثانية إلى تيموثاوس يكتب هذا الخبر المُحزن «أنت تعلم أن جميع الذين في آسيَّا
(وأفسس ضمنًا) ارتدُّوا عني (أي تركوا الرسول عند القبض عليه في المرَّة الأخيرة)»
(2تي 15:1). ولا ريب أيضًا أن كثيرين تحوَّلوا عن الحق الذي علَّمهم بولس إياه،
فكأنه قد تحقَّق ما أنذر الرسول بولس به شيوخ تلك الكنيسة (أع 29:20، 30)، ولكن
بالرغم من ذلك يذكر الرسول في رسالته الثانية إلى تيموثاوس 12:4 بأنه أرسل إليهم
تيخيكس، وذلك لفرط عناية الرسول واهتمامه بهم.

وفي خطاب
الرب نفسه لتلك الكنيسة (رؤ 2) يمتدحهم كثيرًا، إلا أنه يتهمهم اتهامًا خطيرًا
بأنهم تركوا محبتهم الأولى، ويُنذرهم بأنه سيزحزح منارتهم من مكانها إن لم يتوبوا.
وهذا ما صار فعلاً، إذ أين هي كنيسة أفسس الآن؟

 

 

 

 

 

مقدمة الرسالة

كتب الرسول
بولس هذه الرسالة ورسائله إلى كولوسي وفيلبي وفليمون أثناء سجنه الأول في رومية،
ومع أننا لسنا نعلم علم اليقين وبالتحديد تاريخ كتابة هذه الرسالة، إلا أنها كُتِبَت
على الأرجح ما بين سنة 60 و64 ميلادية[3].

لقد كتب
الرسول هذه الرسالة ورسائله الأخرى سالفة الذكر وهو «أسير في سلاسل» في سجن رومية،
فكأن الرب قد سمح للسلطة الرومانية الغاشمة بأن تلقي عبده وخادمه الأمين في ذلك
السجن لكي يعطيه هذه الفرصة الذهبية الثمينة التي فيها يكتب هذه الرسائل القيمة
ولا سيما هذه الرسالة الغنية بالحقائق الإلهية. وهذا يفسِّر لنا قول المرنم في أحد
المزامير: «لأَنَّ غَضَبَ الإنسان يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ الْغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ
بِهَا» (مز 10:76). لقد استخدم الله غضب الإنسان الذي قذف برسوله إلى السجن ليؤول
إلى حمده ومجده. ولقد تنطَّق ببقية ذلك الغضب إذ منح عبده وخادمه الأمين نعمة خاصة
في كتابة هذه الرسالة.

إن هذه
الرسالة هي بحق أسمى كتابات الرسول بولس، وإننا إذ نتصفحها كأننا نقف على رابية
مرتفعة ومقدَّسة. ليس معنى ذلك أننا نُقلِّل من قيمة أو أهمية بقية الرسائل أو
الأسفار الإلهية الأخرى، لأن «كل الكتاب هو مُوحى به من الله، ونافع للتعليم
والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر» (2تي 16:3)، ولكن مَنْ الذي يستطيع أن
يُنكر أن الروح القدس، في هذه الرسالة، أماط اللثام عن أسرار ومقاصد ومشورات إلهية
لم تكن معروفة من قبل ولم تُعلَن بوضوح وبكل تفصيل في الرسائل الأخرى. كما أنها لم
تعلن فقط في أسفار العهد القديم (أف 5:3، 9)؟

رسالة أفسس

 

إن
موضوع هذه الرسالة ليس هو ما يحتاج إليه الإنسان كخاطيء وعلاج الله لهذه الحالة
الذي نجده في الرسالة إلى أهل رومية، كما أن موضوعها يختلف اختلافًا كليًا عن
موضوع الرسالة إلى أهل غلاطية التي فيها يقاوم الرسول بكل شدة خطأ الرجوع إلى
الناموس، سواء من الناحية الفرائضية أو الوصايا والمبادئ الأدبية، كما ينبِّر فيها
على النعمة التي في المسيح المصلوب والمُقام من الأموات وإلى الوعد الذي أُعطي قبل
الناموس وأُكمل في المسيح دون سواه، وبذا تجري البركة إلى الأمم ويُقْبِل الروح
القدس بالإيمان. وتختلف كذلك عن الرسالة إلى أهل فيلبي التي فيها يُرى المسيحي
الحقيقي كسائح يركض ويسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع،
كما أن الرسالة إلى أهل كولوسي لا تصل بالمؤمنين إلى السمو الذي في رسالة أفسس،
فإن المؤمن يرى في رسالة كولوسي كمَنْ مات مع المسيح وقام أيضًا معه، ولكنه لا يُرى
فيها كمَنْ أُجْلِس في السماويات في المسيح يسوع، الحق الذي نراه في رسالة أفسس
دون بقية الرسائل.

ويبدو أن
حالة المؤمنين الروحية والأدبية في أفسس وقت كتابة الرسالة كانت سامية، وأنه لم
يكن هناك ما يُعيق أو يُعطِّل الروح القدس من أن يُقدِّم لهم وبالتالي لكنيسة الله
في كل الأجيال الإعلانات الإلهية السامية التي في هذه الرسالة. لقد كان هناك توافق
وتجاوب بين حالة الكنيسة في أفسس وبين الحقائق الإلهية الفريدة التي في هذه
الرسالة التي كُتبت إليهم ونحن بدورنا لا نستطيع أن ندرك سمو الحقائق الإلهية
ونتمتع بها اختباريًا إلا إذا سمت حالتنا الروحية. ليعطنا الرب بنعمته أن نكون
كذلك.

***

أقسام الرسالة

تنقسم هذه
الرسالة إلى قسمين رئيسيين: فالثلاثة الإصحاحات الأولى هي القسم
التعليمي
، والثلاثة الإصحاحات الأخيرة هي القسم العملي. في القسم الأول
يُبيِّن الروح القدس غنى نعمة الله، وفي القسم الثاني يقدم التحريضات العملية لمَنْ
قبلوا هذه النعمة الغنية. أعني المقام أولاً ثم المسؤولية، أو الامتيازات ثم
الالتزامات، أو بالأحرى المقام السماوي من ناحية، ثم السلوك الذي يوافقه ونحن هنا
على الأرض من الناحية الأخرى. وهذا هو الترتيب الإلهي في كل كلمة الله.

ليتنا لا
نفرح فقط بما أجزلته لنا نعمة الله، بل لنسلك كما يحق لغني هذه النعمة.

***



[1]
كان ذلك الهيكل
مبنيًا من أنقى أنواع الرخام وطوله 425 قدمًا وعرضه 220 قدمًا. وكان سقفه قائمًا
على 127 عمودًا من الرخام النقي، وارتفاع كل عمود أكثر من 60 قدمًا. وقد استغرق
بناء ذلك الهيكل أكثر من مائتي سنة.

[2]
غالبًا
في سنة 54 ميلادية.

[3] يظن بعض المفسرين أن هذه الرسالة كُتِبَت سنة 62 ميلادية.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس الكتاب الشريف عهد قديم سفر التثنية 28

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي