الإصحَاحُ
الرَّابعُ

 

الأصحاح
الرابع هو بداءة القسم الثاني والأخير من هذه الرسالة، أي
القسم
العملي

فإن الثلاثة الأصحاحات الأولى هي
القسم التعليمي الذي يدور حول قصد
الله الأزلي ومشوراته من نحو الكنيسة ومقامها المجيد الذي صار لها لاتحادها
واقترانها برأسها المبارك ربنا يسوع المسيح. فالله الآب هو الذي قصد منذ الأزل بأن
يأتي بالخطاة المساكين الذين يؤمنون بابنه الوحيد ليكونوا أولادًا له، هؤلاء الذين
منهم تتكوَّن الكنيسة التي هي «جسد المسيح»، والمسيح «الابن الوحيد» هو الذي اشترى
الكنيسة بدمه الكريم إذ أسلم نفسه لأجلها، والروح القدس أتى من السماء ليقود
النفوس إلى المُخلِّص الوحيد وليتحد كل مؤمن حقيقي بالمسيح الرأس وبذا يتم قصد
الله الأزلي.

سلفت
الإشارة إلى أن الأصحاحات الثلاثة الأولى من هذه الرسالة هي القسم التعليمي أما
الأصحاحات الثلاثة الأخيرة فإن الرسول يحدثنا فيها بالتفصيل عن الواجبات المسيحية،
لأن التعليم الصحيح يجب أن يقود إلى السلوك الصحيح، ذلك لأن الحياة العملية النقية
هي ثمرة التعاليم النقية. فإدراك سمو الدعوة أولاً ثم السلوك كما يحق لهذه الدعوة.
هذا هو الترتيب الإلهي الذي نراه دائمًا في رسائل الرسول بولس، وهذا هو أسلوبه
الخاص فيها، فهو دائمًا يقدم التعليم قبل العيشة العملية. الدعوة أولاً ثم السلوك،
المقام قبل المسؤولية، أو الامتيازات

رسالة أفسس

 

قبل
الالتزامات. فالمؤمن الذي يتيقن من دعوته العليا يمكنه أن يدرك أيضًا واجبه من نحو
العيشة في القداسة. إن آمنت بالمسيحية التعليمية فلا بد لك من أن تحيا في المسيحية
العملية. وكما يرانا الله كمَنْ أُجلسنا في السماويات في المسيح، هكذا يجب أن
يرانا الناس فوق الأرض في الحالة التي تتناسب مع هذا المقام.

ويقدم لنا
الروح القدس في هذا القسم الأخير من الرسالة حقيقتين جوهريتين هما:
السلوك المسيحي (1:4،
9:6)،
والجهاد
المسيحي

(10:6- 20).

«فأطلُب
إِليكم، أنا الأسِير فِي الرَّب، أن تسلكُوا كما يحِقُّ لِلدَّعوةِ التِي دُعِيتُم
بِها» (ع 1).

واضح من
قوله «فأَطْلُبُ إِليْكُمْ» إن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الحق التعليمي في
الأصحاحات السابقة وبين الحق العملي في الأصحاحات الثلاثة الأخيرة، إذ حيثما يوجد
إيمان حقيقي فلا بد أن يثمر بالأعمال الصالحة.

وهذه هي
المرة الثانية التي فيها يشير الرسول إلى نفسه بأنه «الأَسِيرَ فِي الرَّب» (انظر
أصحاح 1:3)، فبالرغم من أن الحكومة الرومانية هي التي أسرته وقيدته وأخيرًا قدمته
للموت كما قدمت ربه وسيده قبلاً للموت «موت الصليب»، بالرغم من ذلك فإن الرسول
يحسبه شرفًا يُردِّد ذكره أن يكون «أسير يسوع المسيح» أو «سَفِير (له) فِي
سَلاسِلَ» (أف 20:6).

وما أرق
الأسلوب الذي به يخاطب الرسول بولس أولاده في الإيمان في أفسس فهو لا يخاطبهم بلغة
أو لهجة الآمر ولكن بأسلوب لطيف «فأَطلُب إِليْكُم، أَنا الأَسِيرَ فِي الرَّب».

«أَنْ
تسلكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ التِي دُعِيتُمْ بِهَا». ما أسمى هذه الدعوة!!
فإنها «دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في14:3)، «دَعْوَة مُقَدَّسَة»
(2تى9:1)، إنها «الدَّعوَةِ السماويةِ» التي صرنا شركاءها (عب1:3). لقد دعانا الله
بنعمته «إلى شَرِكَةِ ابنهِ يَسُوعَ المَسِيحِ رَبِّنا» (1كو9:1)، وفيه قد باركنا
بكل بركة روحية في السماويات، فقد وهبنا حياة أبدية، واتحدنا بابنه الحبيب رأس
الجسد المُقام من الأموات والمُمَجَّد عن يمين الله في السماويات، كما أننا صرنا
مبنيين معًا مسكنًا لله في الروح. صرنا هيكلاً مقدَّسًا في الرب. ففي نور هذه
الحقائق الثمينة يجب أن نسلك كما يحق لهذه الامتيازات المباركة، وكما يحق للدعوة
التي دعينا بها.

«بِكل
تواضعٍ، و ودَاعَةٍ، وبِطولِ أناةٍ، مُحتَمِلِين بعضكم بعضًا في المحبَّةِ» (ع 2).

كان في ذهن
الرسول أن يكتب للمؤمنين عن أهمية «حفظ وحدانية الروح برباط السلام» لذا نراه هنا
يُمهِّد لذلك بالحث على السلوك بالتواضع والوداعة… إلخ.

«بِكُلِّ
تَواضُعٍ». أي التواضع في كل ناحية من نواحي الحياة. هذا ويجب أن نسهر على حالة
قلوبنا التي كثيرًا ما تخدعنا فنحرص على ألا يكون لنا مظهر التواضع الظاهري، بل
بالحري التواضع القلبي. إن سيد المُعلِّمين يدعونا أن نتعلَّم منه لأنه «متواضع
القلب».

رسالة أفسس

 

على
أن هناك فرقًا كبيرًا بين تواضع الرب وبين تواضعنا نحن. فهو، له المجد، المُعادِل
لله أبيه «أنا والآب واحد»، ولكنه «أخلى نفسه… وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت
الصليب». فهو العظيم الذي لا حدَّ لعظمته ولجلاله ولكنه تنازل حتى وصل إلى أرضنا
المُلطَّخة بالخطية، لا بل قد نزل إلى أقسام الأرض السفلى. أما تواضعنا نحن فليس
كذلك، فإن معناه أن نعرف حقيقة ذواتنا، أن نعرف أننا تراب ورماد. وإدراكنا لهذه
الحقيقة يصوننا من الكبرياء والانتفاخ. ليحفظنا الرب في حالة الاتضاع الصحيح لأن
«الله يقاوم المستكبرين أما المتواضعون فيُعطيهم نعمة».

لقد أفاض
الرسول في شرح وإيضاح سمو مقامنا وكيف أن الله الغنى في الرحمة والمحبة والنعمة قد
«أجلسنا معًا في السماويات في المسيح يسوع»، ولكنه (أي الرسول) يحثنا على السلوك
«بِكُلِّ توَاضُعٍ» فلا ننتفخ ونتعظَّم بسبب سمو مقامنا، بل بالحري نُظْهِر جمال
هذا المقام بسلوكنا بالتواضع. هذه هي الخطوة الأولى في سبيل الوحدة.

«وودَاعَةٍ».
حقًا ما أجمل هذه الصفة! وما أجمل أن نتحلَّى بها! إنها صفة من صفات المسيح
الجميلة التي يشير إليها الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس «أَطْلُبُ
إِليْكُمْ بِوَدَاعَةِ المَسِيحِ وَحِلْمِهِ» (1كو 1:10)، والرب نفسه يدعونا
قائلاً: «تَعَالوْا إِليَّ… وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ
وَمُتَوَاضِعُ القَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (مت28:11، 29).

الوداعة هي
أن نقابل الإساءة بكل هدوء كما كان سيدنا هنا على الأرض «الذي إذ شُتِمَ لم يشتم
عوضًا»، فيجب أن نتمثَّل به في وداعته وفي كل صفاته «مَنْ قال: إِنَّهُ ثَابتٌ
فِيهِ يَنْبَغِي أَنَّهُ كمَا سَلَكَ ذَاكَ (أي المسيح) هَكَذَا يَسْلُكُ هو
أيضًا» (1يو6:2). هذه خطوة أخرى في سبيل الوحدة.

«وَبِطُولِ
أَنَاةٍ». يتكرَّر هذا الحث في بعض رسائل الرسول بولس الأخرى. وطول الأناة معناه
أن لا نكون سريعي الغضب والتهيج عندما يُعتَدى علينا أو يُساء إلينا، ولا سيما إذا
كانت الإساءة إلينا افتراء ولا نصيب لها من الصحة.

ما أجمل هذه
السجية «طُولِ الأَناةٍ»، فإنها تُكسِبَ النفس سلامًا وهناء. ليتنا نصلِّي بلجاجة
حتى يُعطينا الرب سعة صدر ورحبة قلب كما أعطى سليمان قديمًا (1مل29:4). هذه أيضًا
خطوة أخرى مباركة في سبيل الوحدة.

«مُحْتَمِلِينَ
بَعضُكُمْ بَعضًا فِي المَحَبَّة». تجئ هذه العبارة مرة أخرى في كولوسي13:3. وهذا
الحث يتضمن في معناه أن كلاً منا مُعرَّض للخطأ في حق أخيه، ولكن متى توفرت المحبة
في قلوبنا فإننا نستطيع بنعمة الله أن نحتمل أخطاء الآخرين إلينا كما أننا نريد
أنهم يحتملون أخطاءنا في المحبة.

صحيح أنه من
واجبنا أن نكون ساهرين فلا نخطئ إلى غيرنا، ولكن بما أننا نحن أنفسنا مُعرَّضون
للخطأ في حق إخوتنا لذا يجب علينا أن نحتمل أخطاءهم إلينا. والرسول بطرس يُحرِّض
المؤمنين على التعقُّل والصحو للصلوات، وهذا تحريض له أهميته ومع ذلك فإنه يقول:
«وَلكِنْ قبْلَ كُلِّ شيءٍ، لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعضِكُمْ لِبَعضٍ شَدِيدَةً،
لأَنَّ المَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الخَطَايَا» (1بط7:4، 8). إن كل هذه
التحريضات التي يقدمها لنا الروح القدس هي التي تساعدنا على حفظ وحدانية الروح
برباط السلام.

رسالة أفسس

 

«مُجتهِدِين
أن تحفظوا وحدانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِباطِ السَّلامِ» (ع 3).

لعله يكون
واضحًا وجليًا لدى القارئ العزيز أن الرسول لا يطلب منا هنا أن نحفظ وحداينة
«الجسد»، لأن هذا ليس من اختصاص البشر بل هو عمل «إلهي» قد قام الله به بواسطة
الروح القدس الذي حضر من السماء في يوم الخمسين ليضم إلى الكنيسة كل الذين يؤمنون
إيمانًا قلبيًا صحيحًا بالرب يسوع المسيح جاعلاً منهم جسدًا واحدًا للمسيح
«لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أيضًا اعْتمَدْنا إلى جَسَدٍ وَاحِدٍ»
(1كو13:12). فإنه بالرغم من الانقسامات العديدة التي حدثت، مع الأسف الشديد، في
المسيحية فإن جميع المسيحيين الحقيقيين في كل الطوائف والجماعات المسيحية في كل
العالم هم جسد المسيح الواحد. أما ما يحثنا الرسول عليه هنا فهو الاجتهاد في حفظ
«وحدانية الروح»؛ أعني بذل كل الجهد في حفظ هذه الوحدانية، أي أن أعتبر أن كل
مسيحي حقيقي في أية جماعة من الجماعات المسيحية هو أخي وأنه عضو مثلي في جسد
المسيح وأن من واجبي أن أحبه وأتعامل معه على هذا الأساس.

ثم لنلاحظ
أيضًا أن الرسول لا يطلب منا أن نجتهد في بناء أو تكوين هذه الوحدة، بل في حفظها،
لأن الروح القدس قد كوَّن فعلاً هذه الوحدانية، وواجبنا هو أن نجتهد في حفظها،
وذلك بواسطة إظهار المحبة القلبية؛ المحبة التي بلا رياء لجميع المؤمنين الحقيقيين
بدون استثناء أو بالحري في إظهار جمال وبهاء هذه الوحدانية في تعاملنا مع كل أولاد
الله.

«بِرِبَاطِ
السَّلامِ». ليس المقصود بالسلام هنا سلام الله لنفوسنا، السلام الذي يحفظ قلوبنا
وأفكارنا في المسيح يسوع، بل السلام الذي يربط قلوبنا بكل أولاد الله الأعزاء. قد
يكون عند البعض من هؤلاء المؤمنين عدم إدراك كامل لكل الحقائق الإلهية، ونفعل
حسنًا إذا كنا بكل تواضع ووداعة نساعدهم في فهم وإدراك المبادئ الإلهية الصحيحة
ولكن الشيء الأهم الذي يُنبِّر عليه الرسول هنا هو الاجتهاد في حفظ وحدانية الروح
برباط السلام.

على أنه، من
الناحية الأخرى، يجب مراعاة هذه الحقيقة الهامة وهي أن حفظ وحدانية الروح برباط
السلام ليس معناه قبول أي إنسان في الشركة مع جماعة المؤمنين كيفما كانت عيشته
العملية أو مبادئه التعليمية، إنه من الخطورة بمكان أن نفعل ذلك بدافع المحبة أو
لحفظ وحدانية الروح برباط السلام، فإن المحبة لا تكون محبة مسيحية صادقة إذا
أُظْهِرَت على حساب حق الله والمسيح. هل من الإخلاص للرب يسوع والمحبة له ولحقه
الثمين أن نسمح لإنسان غير سالك بالأمانة وفي القداسة العملية بالوجود في شركة مع
المؤمنين؟ أو أن نسمح بذلك لشخص يقول إنه مسيحي حقيقي ولكنه ملوَّث بتعاليم فاسدة
تُهين مجد المسيح ربنا وسيدنا؟

أيا قديسي
الله، لنصح ولننتبه جيدًا إلى أننا نعيش في الأيام الأخيرة -أيام لارتداد- التي
فيها «سر الإثم» يعمل بقوة استعدادًا للارتداد الكامل وقبول «الأثيم… ضد
المسيح». إن المبادئ العصرية التي تُنكر وحي الكتب المُقدَّسة كلها أو بعض أجزاء
منها، أو التي تُنكر لاهوت ربنا يسوع المسيح، أو لا تؤمن بأن موته فوق الصليب كان
موتًا كفَّاريًا، أو غير ذلك من المبادئ الكُفرِّية، هذه كلها قد تغلغلت في وسط
المسيحية الاسمية، فجدير بكل محبي المسيح أن يتجنَّبوا أمثال هؤلاء العصريين الذين
يدَّعون أنهم مسيحيون. إن يوحنا رسول المحبة يُحذِّرنا من قبول أمثال هؤلاء
المُضلِّين ومن التعامل معهم بأية صورة من الصور «كُلُّ مَنْ تعَدَّى وَلم
يَثْبُتْ فِي تَعْلِيمِ المَسِيحِ فَلَيْسَ له الله. وَمَنْ يَثْبُتْ فِي
تَعْلِيمِ المَسِيحِ فهَذا له الآب وَالابن جَمِيعًا. إن كانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ،
وَلا يَجِيءُ بِهَذا التَّعلِيمِ، فلا تَقْبَلُوهُ فِي البَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا
له سَلامٌ. لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أعمالهِ الشِّرِّيرَةِ»
(2يو9-11).

رسالة أفسس

 

إن
الرب يسوع المسيح قد بنى كنيسته على الاعتراف الصحيح الذي أعلنه الآب لبطرس فقال:
«أَنْتَ هو المَسِيحُ ابن الله الحَيِّ» (مت16:16، 17) فمَنْ لا يعترف بأن الرب
يسوع المسيح هو ابن الله الحي ولا يؤمن به وبقيمة عمله الفدائي فهو ليس من كنيسة
المسيح، أي ليس مسيحيًا بالحق حتى ولو كان عمودًا أو مُعلِّمًا في أكبر أو أعظم
الطوائف المسيحية، فلا يليق أبدًا أن تكون لمحبي الرب يسوع -أفرادًا أو جماعات-
أية شركة، من أي نوع كان مع أمثال هؤلاء، بينما يجب علينا في الوقت نفسه أن نحفظ
وحدانية الروح مع جميع الذين يحبون ربنا يسوع المسيح في عدم فساد، أن نحبهم بالحق
وأن نقبلهم في المحبة. ليعطنا الرب أن نُحْفَظ بنعمته من الرخاوة والتساهل مع الشر
فلا تكون لنا شركة مع مَنْ يُسيئون إلى اسم ربنا المبارك، سواء في سلوكهم العملي
أو بمبادئهم العصرية الآثمة. وليعطنا من الناحية الأخرى أن نُحْفَظ أيضًا من الروح
الضيقة؛ الروح الطائفية، فنحب جميع أولاد الله حتى القاصرين منهم في إدراك كل
امتيازاتهم التي صارت لهم في المسيح يسوع «وَمَنْ هو ضَعِيفٌ فِي الإيمان
فاقبَلُوه… فيَجِب علينا نحْن الأَقوِيَاءَ أن نَحتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفاءِ،
وَلاَ نُرْضِي أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قرِيبَهُ لِلخَيْرِ،
لأجل البُنْيَانِ… لِذَلِكَ اقبَلُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كمَا أن المَسِيحَ
أيضًا قَبِلَنَا، لِمَجْدِ اللهِ» (رو1:14، 1:15- 7).

«جسدٌ
واحِدٌ، وروحٌ واحِدٌ، كما دُعِيتُم أيضًا فِي رجاءِ دعوتِكم الواحِدِ» (ع 4).

يرسم الرسول
أمامنا في هذا العدد وفي العددين التاليين له (ع 5،6) سبع صفات للوحدة. ففي هذا
العدد (الرابع) ثلاث صفات تعتبر بمثابة الجزء الأول من هذه الوحدة، وفي العدد
الخامس الجزء الثاني المُكوَّن أيضًا من ثلاث صفات أخرى لهذه الوحدة، وفي العدد
السادس الجزء الثالث، المُكوَّن من الصفة السابعة.

«جَسَدٌ
وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كمَا دُعِيتُمْ أيضًا فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ
الوَاحِدِ». هذه هي الدائرة الأولى والتي لا يمكن أن يدخل فيها إلا كل مؤمن حقيقي؛
كل مَنْ وُلِدَ ثانية وخُتِمَ بروح الموعد القدوس.

والمقصود
بالجسد الواحد جميع الذين اغتسلوا بدم المسيح الكريم وصاروا خاصته واتحدوا به
كأعضاء في جسده «فَإِنَّهُ كَمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ،
وَلَكِنْ لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لَهَا عَمَلٌ وَاحِدٌ، هَكَذَا نَحْنُ
الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ
وَاحِدٍ لِلآخَرِ» (رو4:12، 5).

«وَرُوحٌ
وَاحِدٌ». أي الروح القدس الذي به اعتمدنا فصرنا أعضاء في جسد المسيح «لأَنَّنَا
جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أيضًا اعْتَمَدْنَا إلى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهوداً
كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا
رُوحًا وَاحِدًا» (1كو13:12).

رسالة أفسس

 

«كَمَا
دُعِيتُمْ أيضًا فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ». فإن كل المؤمنين الحقيقيين
لهم هذا الرجاء الواحد؛ رجاء مجيء ربنا يسوع المسيح حيث نكون مثله لأننا سنراه كما
هو. لقد أشار الرسول في الأصحاح الأول من هذه الرسالة إلى رجاء دعوتنا هذه بالقول:
«رجاء دعوته» (ع 18) أي أن الله هو الدَّاعي، كما أنه «رجاء دعوتنا» لأننا نحن
الذين دُعينا.

«ربٌّ
واحِدٌ، إيمان واحِدٌ، معمودِيَّةٌ واحِدةٌ» (ع 5).

يتضمن هذا
العدد الجزء الثاني أو الدائرة الثانية لهذه الوحدة. وهي دائرة أوسع نوعًا من
الدائرة الأولى. فهي لا تتضمن بالضرورة كل المؤمنين الحقيقيين فقط، ولكنها قد
تتضمن أيضًا المعترفين بإيمانهم بالمسيح دون أن يكونوا متجدِّدين حقيقة أو مولودين
ولادة ثانية.

«رَبٌّ
وَاحِدٌ». أي الرب يسوع المسيح ابن الله الأزلي الوحيد، والمؤمن الحقيقي يجد شبعًا
لنفسه إذ يعترف به ربًا وسيدًا ويسلك في الطاعة القلبية له ولإرادته الصالحة، إنه،
تبارك اسمه، هو مُخلِّصنا ولكن أكثر من ذلك هو ربنا وسيدنا، وإدراكنا لربوبيته
وسيادته علينا وعلى جميع خاصته هو من أقوى العوامل على حفظ وحدانية الروح برباط
السلام. غير أن الإقرار به ربًا قد يشمل أيضًا المعترفين به دون أن يكونوا مولودين
الولادة الثانية، وقد أشار الرب إلى ذلك في قوله: «ليسَ كُلُّ مَنْ يَقول لِي: يا
رَبُّ، يا رَبُّ! يَدْخل مَلكُوت السماوات. بَلِ الذِي يَفْعَلُ إِرَادَة أبي
الذِي فِي السماوات. كثِيرُونَ سيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ اليَوْمِ: يا رَبُّ، يا
رَبُّ! أَ ليسَ بِاسمكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسمكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ،
وَبِاسمكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئذ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ
أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذهَبُوا عَنِّي يا فاعِلِي الإِثْمِ!» (مت21:7- 23). إن
اليوم سيُبيِّن حقيقة كل المعترفين بربوبية المسيح. حقًا ما أخطر هذا وما أروعه
بالنسبة لكل معترف بالمسيح ولكنه ليس مسيحيًا بالحق! وسيجيء الوقت الذي فيه يعترف
كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الآب.

«إيمان
وَاحِدٌ». إن الوسيلة الوحيدة لدخول الإنسان في دائرة النعمة والحياة الأبدية هي
الإيمان القلبي بالرب يسوع المسيح. لقد كنا أمواتًا روحيًا ولكننا إذ آمنا بالرب
يسوع انتقلنا من الموت إلى الحياة؛ أي نلنا حياة أبدية، غير أن القول: «إيمان
واحد» إنما يشير إلى الإيمان المسيحي العام أو المشترك؛ أعني إقرار جميع المعترفين
بالمسيح بالإيمان به، وذلك للتمييز بينه وبين الإيمان اليهودي وإيمان الأمم
الوثنيين.

«مَعْمُودِيَّةٌ
وَاحِدَةٌ». لا جدال في أنه ليس المقصود بالمعمودية هنا معمودية الروح القدس، فإن
هذه أُشير إليها في العدد السابق بقوله: «روح واحد» أي الروح القدس، ولكن المقصود
بالمعمودية هنا هو
المعمودية بالماء باسم الآب والابن والروح القدس، وتسمَّى بالمعمودية
المسيحية

أو
باسم
الرب يسوع

تمييزًا لها عن معمودية يوحنا المعمدان وعن المعموديات (الغسلات) اليهودية (قارن
أع38:2، 48:10 مع مت6:3؛ عب2:6).

على أن
المقصود بالمعمودية لا إزالة وسخ الجسد بل «سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ اللهِ،
بِقِيَامَةِ يَسُوعَ المَسِيحِ» (1بط21:3)، وفي أعمال 13:8 نقرأ أن فيلبس قد عمَّد
سيمون الساحر عندما اعترف بإيمانه بالمسيح ولكن تبين على الفور أنه لم يكن مسيحيًا
بالمرة، ولذلك فإن فيلبس لما قال له الخصي الحبشي بعد ذلك: «هوذَا مَاءٌ. ماذا
يَمْنَعُ أن أَعْتَمِدَ؟» فَقَالَ فِيلُبُّسُ: «إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ
قَلْبِكَ يَجُوزُ» (أع 36:8، 37).

رسالة أفسس

 

«إِله
وأب واحِد لِلكل، الذِي على الكل وبِالكل وفِي كلكم» (ع 6).

هذه هي
الدائرة الثالثة في هذه الوحدة وهي دائرة أوسع كثيرًا من سابقتها، فإنه وإن كان من
امتياز المؤمنين الحقيقيين أن يعرفوا الله كالإله والآب الواحد لهم وأن يجدوا
سلامهم وشبع قلوبهم في هذه المعرفة، إلا أننا من الناحية الأخرى نرى الله هنا
كصاحب السيادة والسلطان على كل البشر لأنهم خليقته. إنه في الواقع إله الجميع
«الرَّبُّ إِلهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ البَشَرِ» (عد16:27). فهو إله الذين يعرفونه
ويؤمنون به، وإله الذين لا يعرفونه، بل يعبدون الآلهة والأوثان العديدة «نعلم أن
ليسَ وَثَنٌ فِي العَالَمِ، وَأَن ليسَ إِلهٌ آخر إِلا وَاحِدًا. لأنه وَإِن وجِدَ
مَا يُسَمَّى آلِهَة… لكِن لنا إِله وَاحِد: الآب الذِي مِنه جَمِيع الأَشيَاءِ،
وَنحن له. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوع المَسِيح، الذِي بِهِ جَمِيع الأَشيَاءِ»
(1كو4:8- 6).

إننا نؤمن
«بإله واحد» وليس بآلهة عديدة كالأمم الوثنيين، كما نؤمن «بأب واحد للكل». هذه
الحقيقة لم يدركها اليهود في عهد الناموس فإنهم كانوا يظنون أن الله لهم وحدهم دون
بقية البشر، كما أنهم لم يعرفوه كالآب بالكيفية المباركة التي يعرفه به مسيحيو
العهد الجديد «إذ لم تأْخذوا روحَ العُبُودِيَّةِ أيضًا لِلخَوْفِ، بَلْ
أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يا أبا الآب. الرُّوحُ
نَفْسُهُ أيضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أولاد اللهِ» (رو15:8، 16).

إن الله
والآب الواحد هو «للكل»، فإنه يعتني بالكل؛ أعني بجميع خلائقه حتى ولو كانوا
يُنكرونه «فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ،
وَيُمْطِرُ عَلَى الأبرار وَالظَّالِمِينَ» (مت45:5)، وهو الذي «يُعْطِي الجَمِيعَ
حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْء ٍ… لأَنَّنَا أيضًا ذُرِّيَّتُهُ[1]» (أع24:17-
28).

وكما أنه
للكل فإنه أيضًا «على الكل»؛ أي صاحب السلطان والسيادة على كل خليقته.

«وَفِي
كُلِّكُمْ». هذا هو امتياز المؤمنين الحقيقيين، فإنه وإن كان الله هو الإله والآب
الواحد للكل وعلى الكل، إلا أنه في كل المؤمنين أولاًده، إذ لا يقول الرسول هنا:
"في الكل" بل «في كلكم». وفي هذا نرى التميِّيز الواضح والفرق الكبير
بين معاملة الله للعالم بجملته وبين معاملته لأولاده المولودين منه «الولادة
الثانية». «فِي كُلِّكُمْ» فهو ليس معنا فقط، بل هو أيضًا فينا. ما أمجد هذا!

بتأملنا في
هذه الوحدة السباعية نرى الله المثلث الأقانيم عاملاً لأجلنا وفينا لحفظ وحدانية
الروح برباط السلام، ففي العدد الرابع
الروح القدس «رُوحٌ وَاحِدٌ»، وفي
العدد الخامس
الرب
يسوع

«رَبٌّ وَاحِدٌ»، وفي العدد السادس
الله الآب «أب وَاحدٌ» لاسمه
المعبود كل المجد والإكرام.

«ولكِن
لِكلِّ واحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمةُ حَسَبَ قِياسِ هِبةِ المسِيحِ» (ع 7).

رسالة أفسس

 

يُوجِّه
الروح القدس التفاتنا في هذا العدد وفي الأعداد التالية له (7-13) إلى موضوع
المواهب الروحية التي أعطاها المسيح المُمجَّد والمُرتفع إلى السماء لكنيسته
لبنيانها ونموها، غير أن هذا الموضوع يجيء بعد الكلام بالتفصيل عن أهمية حفظ
وحدانية الروح برباط السلام، إذ ما قيمة ممارسة المواهب، مع ما لها من أهمية عظمي،
إذا لم يراع حفظ الوحدانية برباط السلام؟ ما قيمة الخدمة، مهما كانت سامية، إذا لم
تتوفَّر المحبة بين أعضاء الجسد الواحد؟ (اقرأ 1كو13).

والرسول هنا
يتكلَّم أولاً عن المواهب المُعطاة لكل واحد من المؤمنين «لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا»،
بينما توجد في الوقت نفسه مواهب خاصة سيجيء الكلام عنها في الأعداد التالية. إن كل
عضو في أجسادنا الطبيعية له عمله. الأعضاء الداخلية غير المنظورة والأعضاء
الخارجية المنظورة. كل منها له عمله ووظيفته التي يقوم بها لفائدة بقية أعضاء
الجسد، كذلك كل عضو في جسد المسيح له عمله أي موهبته التي يجب أن يخدم بها بقية
الأعضاء «فإِنَّهُ كمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ لَنَا أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلكِنْ
لَيْسَ جَمِيعُ الأَعْضَاءِ لها عَمَلٌ وَاحِدٌ، هَكَذَا نَحْنُ الكَثِيرِينَ:
جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي المَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضاً لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ
لِلآخَرِ. وَلكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ المُعْطَاةِ
لَنَا» (رو4:12- 6).

وهذه
المواهب كلها من مجرد النعمة «لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ (أو
نعمة) حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ». فالمسيح الرأس قد أعطى بحسب نعمته
ومسرَّته الصالحة لكل واحد من أعضاء جسده عملاً أو هبة. وقوله: «حَسَبَ قِيَاسِ
هِبَةِ الْمَسِيحِ» معناه أن الرب يسوع قد أعطى لكل واحد من المؤمنين موهبته بحسب
القياس أو القدر الذي أراده له «وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ الأَعْضَاءَ،
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الجَسَدِ، كَمَا أَرَادَ» (1كو18:12).

إن المسيح
الرأس هو مصدر كل المواهب التي أغدقها على كنيسته، وجدير بالملاحظة أن الوحي في
هذه الرسالة يتحدث عن الرب يسوع الذي صعد إلى العلاء كمصدر للمواهب، بينما في
رسالة كورنثوس الأولى لا يشير إلى الرب يسوع كمانح المواهب الروحية بالقدر الذي
يشير به الروح القدس كالمُعطي لتلك المواهب (1كو7:12- 12)، ذلك لأن الكنيسة منظور
إليها في رسالة كورنثوس باعتبار أنها لا زالت في هذا العالم، وبما أن الروح القدس
الأقنوم الإلهي قد حضر إلى العالم ولا يزال موجودًا فيه، لذا يُشار إليه كالمُعطي
للمواهب الروحية، بينما في رسالة أفسس تُرى الكنيسة أنها أُجلست في السماويات لذا
يُشار إلى المسيح المُمجَّد والجالس الآن في السماويات كالمانح لهذه المواهب
الروحية.

«لِذلِك
يقُول: إذ صَعِدَ إلى العَلاءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا» (ع 8).

اقتبس
الرسول بولس هذه الكلمات من مزمور 18:68 حيث يقول: «صَعِدْتَ إلى العَلاءِ.
سَبَيْتَ سَبْيا. قَبِلْتَ عَطَايا بَيْنَ النَّاسِ[2]،
وأيضًا للمتمردين للسكن أيها الرب الإله». ويبدو أن داود قصد في كتابة هذا المزمور
الإشارة إلى حادثة تاريخية في أيام مُلكه على إسرائيل، أعني إلى إحدى انتصاراته
على أعدائه واقتياد جزء منهم إلى السبي، كما يبدو أيضًا أنه عند انتصار الملك داود
على أولئك الأعداء وُزعت «عطايا» سواء من المَلِك إلى رعيته وهو الأرجح، أو من
الرعية إلى الملك اعترافًا بفضل انتصاره، إنما الذي يهمنا نحن أن نراعيه هو أن
الرسول بولس رأي في كلمات داود هذه ربنا يسوع كمَنْ ترمز إليه هذه الأقوال. رأي في
نصرة ملك العهد القديم (داود) صورة لنصرة ربنا المبارك على الموت وعلى مَنْ له
سلطان الموت أي إبليس (عب14:2) وأنه من وقت رجوعه المُظفَّر إلى بيت أبيه لا يزال
يُوزِّع عطايا وهبات على رعيته. إن هذا ما أدركه أيضًا الرسول بطرس عندما قال في
يوم الخمسين عن الرب يسوع: «وإذ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ
الرُّوحِ القُدُسِ مِنَ الآب، سَكَبَ هَذَا الذِي أَنْتُمُ الآنَ تُبْصِرُونَهُ
وَتَسْمَعُونَهُ» (أع33:2) فقد كان حضور الروح القدس هو العطية الأولى التي وهبها
الرب لكنيسته بعد ارتفاعه إلى السماء.

رسالة أفسس

 

«وَأَما
أنهُ صَعِدَ، فَمَا هو إِلا إِنهُ نزلَ أيضًا أولاً إلى أَقْسَامِ الأرض
السُّفْلَى. الذِي نزلَ هو الذِي صَعِدَ أيضًا فَوْقَ جَمِيعِ السماوات، لِكَيْ
يملأ الكُلَّ» (ع 9، 10).

الانتصارات
التي أعطاها الرب لداود ولغيره من أبطال العهد القديم كانت انتصارات عظيمة وعجيبة
حقًا، ولكن أعظم وأعجب وأشرف نصرة هي نصرة المسيح له المجد، فإنه بعد أن انتصر على
الخطية وغلب الموت وهزم الشيطان قام بمجد إلهي وصعد إلى السماء بجلال فائق ومن
هناك وزَّع الغنائم والبركات على أولئك الذين كانوا أسرى مسبيين في قبضة العدو،
فهو(أي المسيح) الأقوى الذي غلب القوي وخلَّص الأسرى إذ حطَّم الأغلال والقيود
التي كبَّلهم بها ذلك العدو. مبارك ومُمجَّد اسم ربنا المعبود إلى الأبد.

تأمل في هذا!
إن الذي صعد فوق جميع السماوات هو الذي نزل أولاً إلى أقسام الأرض السفلى، فإذا ما
تأملت في اتضاعه فإنك لن تصل إلى أعماق تنازله. إن ذاك المُعادِل لله أخلى نفسه
آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وُجِدَ في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع
حتى الموت موت الصليب. لقد مات رئيس الحياة موت العار والهوان والازدراء. لقد
حَمَلَ دينونتنا، حَمَلَ خطايانا في جسده على الخشبة. نعم إنه نزل إلى أقسام الأرض
السفلى، أي أنه دُفِنَ في القبر وهناك دُفِنَت خطايانا إلى الأبد. يا له من تنازل!

كما أنك إذا
رفعت بصرك إلى السماء فإنك لن تصل إلى إدراك سمو الرفعة التي رفَّعه الله إليها،
الرفعة التي وصل إليها المسيح كإنسان، فإنه هو الإنسان الوحيد المُقام من الأموات
والمُمجَّد والمرتفع إلى السماء بل فوق جميع السماوات «لذلك رفَّعه الله أيضًا
وأعطاه اسمًا فوق كل اسم» وإني إذ أراه بالإيمان هناك أتيقن بأني صرت مقبولاً فيه
أمام الله، بل مقبولاً كقبوله هو أمام أبيه. لقد صعد فوق جميع السماوات «لِكَيْ
يملأ الكُلَّ»، وهل هناك ملء أعظم من صيرورتنا مقبولين فيه قبولاً كاملاً وأبديًا؟
وأن الله يرانا فيه «قدِّيسين وبلا لوم قدامه في المحبة»؟ نعم هل هناك ملء أكثر من
أن الله يحبنا الآن كمحبته لابنه الحبيب (يو23:17)؟ لقد أُسْلِمَ الرب يسوع لأجل
خطايانا وأُقيمَ لأجل تبريرنا، ووجوده هناك فوق جميع السماوات هو أعظم برهان على
تبريرنا وقبولنا أمام الله. هل أدركنا هذه الحقيقة المباركة أن الذي صعد فوق جميع
السماوات هو إنسان مثلنا تمامًا بلا خطية؟ وأنه مُمجَّد على عرش الله، وأنه بالرغم
من وجوده في السماء فإنه كإنسان يرثي لنا في آلامنا وتجاربنا وأحزاننا؟ «فإذ لَنَا
رئيس كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السماوات، يَسُوعُ ابن اللهِ،
فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رئيس كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ
أن يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ
خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إلى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ
رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ» (عب14:4- 16). نعم لنأتِ إليه في
كل ظروف الحياة ولنخبره بكل شيء فإن قلبه الرقيق مملوء بالحنان والعطف علينا ويده
ممدودة بالعون في حينه.

رسالة أفسس

 

«وهو
أعطى البعضَ أن يكونوا رُسُلاً، والبعضَ أَنْبِيَاءَ، والبعض مُبَشِّرِينَ،
والبعضَ رُعَاةً ومُعَلِّمِين» (ع 11).

المسيح له
المجد هو الرأس المُمجَّد والمرتفع إلى السماء، وهو وحده صاحب السلطان في أن يعطي
هذه المواهب المتنوعة لمَنْ يشاء.

إن
الموهبتين الأولى والثانية: «الرُسُل والأنبياء» هما الموهبتان الأساسيتان أو
بالحري الموهبتان اللتان استخدمهما الرب لتأسيس الكنيسة. ومن الخطأ البيِّن أن يظن
أحد بأنه يوجد رُسُل في الكنيسة الآن بخلاف الرُسُل الذين أقامهم الرب في البداءة
أو يوجد خلفاء للرُسُل باقون للآن ولهم سلطان الرُسُل أنفسهم.

لقد اختار
الرب يسوع في أيام جسده على الأرض اثني عشر تلميذًا الذين سمَّاهم رُسُلاً
(لو13:6)، ولكن خدمتهم وقتئذ لم تكن لتأسيس الكنيسة، بل كانت قاصرة على خراف بيت
إسرائيل الضالة (مت5:10، 6). أما بعد أن أكمل الرب عمل بالفداء وقام من الأموات
بمجد الآب فقد أعطى هؤلاء الرُسُل أنفسهم خدمة جديدة، أعطاهم هذه الموهبة الفريدة
أي أن «يَكُونُوا رُسُلاً» للكرازة بالإنجيل للخليقة كلها. على أن إرساليتهم
الجديدة كانت متوقفة على صعود الرب إلى السماء وإرسال الروح القدس ليحل عليهم
ويُزوِّدهم بالقوة في إتمام خدمتهم الجديدة هذه، وهي خدمة تأسيسية «مَبْنِيِّينَ
عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ المَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ
الزاوية» (أف20:2).

«وَالبَعْضَ
أَنبِيَاءَ». أقام الله في البداءة أشخاصًا لم يكونوا رُسُلاً ولكنهم كانوا أواني
للوحي، مثل مرقس ولوقا وغيرهما، هؤلاء كانوا أنبياء. وليس ذلك فقط، بل كان هناك
أنبياء آخرون ولكنهم لم يكونوا أواني للوحي نظير أغابوس (أع10:21، 11) وغيره. ذلك
لأن أسفار الوحي لم تكن كلها قد كُتبت وقت تأسيس الكنيسة. لذا أقام الله الأنبياء
الذين كان يعطيهم إعلانات؛ أي نبوات شفوية ينطقون بها عند الحاجة لمعرفة فكر الله
في أي أمر من الأمور. هذا هو المقصود بقوله للمؤمنين في كورنثوس بأنه إذا كان أحد
المؤمنين يتكلَّم في الاجتماع لبنيان المؤمنين إخوته وحدث أن «أُعْلِنَ لآخَرَ
جَالِسٍ فَليَسْكُتِ الأول» (1كو30:14) ذلك لأن الإعلان هنا هو عبارة عن وحي شفوي
لإرشاد الكنيسة في أي أمر عن الأمور أو مبدأ من المبادئ الإلهية. أمَا وقد كملت
أسفار الوحي (التي تبدأ بسفر التكوين وتنتهي بسفر الرؤيا) فلم تعد هناك حاجة إلى
إعلانات جديدة، وإن كل ادعاء بوجود ما يسمى إعلانات في الوقت الحاضر لهو إنكار
لكمال الوحي الإلهي الذي فيه كل الكفاية لإرشاد المؤمنين أفرادًا وجماعات في كل
شيء، كما أن هذا الادعاء يعطى الشيطان الكذَّاب وأبو الكذَّاب فرصة لخداع النفوس
وتضليلها.

رسالة أفسس

 

مما
لا ريب فيه أن الله أقام من حين إلى آخر رجالا موهوبين كان لهم في خدمتهم ما يشبه
إلى حد ما خدمة الأنبياء إذ استخدمهم في إظهار بعض الحقائق الإلهية المُعلَنة في
كلمة الله والتي أخفاها العدو عن الناس ربما لأجيال عديدة. مثال ذلك، الحق البسيط
الخاص

بالتبرير
بالإيمان بدون أعمال.
هذا الحق قد طمس العدو عيون المسيحيين عن إدراكه أجيالاً
طوالاً إلى أن أقام الله "
لوثر" الذي استخدمه في إنارة الملايين
من الناس في إدراك هذا الحق الإلهي الثمين أن «
البار بالإيمان يحيا». كذلك
الحق المبارك الخاص
بمجيء الرب الثاني كرجاء الكنيسة، هذا الحق الذي غاب
واختفى من أمام الكنيسة أجيالاً عديدة، ولكن الله أقام من وقت ليس ببعيد رجالاً
موهوبين لم يكونوا أنبياء بالمعنى المقصود في هذا العدد، ولكن كان لهم في خدمتهم
ما يشبه خدمة الأنبياء إذ استخدمهم الرب في إحياء هذا الحق الثمين فأشرق نوره
البهيج على الكثيرين من أولاد الله فملأ قلوبهم بفرح مجيد، كما أنه قادهم إلى
الانفصال العملي عن كل ما ليس من الله. وأين تجد في كتابات المُفسِّرين في عصور
المسيحية الوسطى المُظلمة الحق الخاص بدعوة الكنيسة وصيرورتها جسد المسيح ومقامها
السماوي؟ وأين تجد شرحًا مفصلاً وكاملاً لرجاء الكنيسة؛ أعني مجيء الرب لاختطاف
المؤمنين ليكونوا معه ويشاركوه في مجده؟ هذه وحقائق أخري غيرها غابت وأصبحت مجهولة
حتى من المؤمنين الحقيقيين أجيالاً عديدة إلى أن أقام الرب رجالاً مُكرَّسِين
استخدمهم في شرح وتوضيح هذه الحقائق الثمينة.

على أن هناك
نوعًا آخر من الأنبياء بخلاف الأنبياء الذين استخدمهم الرب هم والرُسُل في تأسيس
الكنيسة. هذا النوع الآخر من الأنبياء هم الذين يكلِّمون جماعة المؤمنين
«بِبُنْيَانٍ ووعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ» (1كو3:14) هؤلاء موجودون في الكنيسة في كل مدة
وجودها على الأرض وإلى أن يأتي الرب.

«وَالْبَعْضَ
مُبَشِّرِينَ». ما أسمى هذه العطية! فإن خدمة المُبشِّر المجيدة هي أن يحمل أخبار
النعمة الغنية المفرحة إلى عالم أثيم وهالك، فخدمته ليست دائرتها الكنيسة حيث
الخدمة فيها للراعي والمُعلِّم، ولكن دائرتها «العالم أجمع»، ومع ذلك فإن خدمة
المُبشِّر هي أعظم بركة للكنيسة، فإنه يأتي بالنفوس البعيدة ويقودها إلى المسيح،
وبالتالي إلى جماعة المؤمنين. ومما هو جدير بالملاحظة أن الكنيسة التي لا تهتم
بالكرازة
بالإنجيل

هي كنيسة ضعيفة ومنحطة روحيًا ولا يمكن أن تنمو أو يتزايد عدد تلاميذ الرب فيها،
أو كما قال أحدهم: "
إن الكنيسة المحلية التي تتوقَّف عن خدمة
البشارة تعد كفنها بيدها
". وهذا ما آلت إليها فعلاً بعض الاجتماعات
المحلية.

ثم إن هذه
الموهبة ليست قاصرة على طائفة معينة من المؤمنين ولكن الرب الذي صعد إلى السماء
يُعطي البعض من المؤمنين بين كل الجماعات المسيحية أن يكونوا «مُبَشِّرِينَ»

يظن بعض
المسيحيين أن خدمة المُبشِّر هي أقل أهمية أو أدنى مرتبة من خدمة الراعي أو
المُعلِّم، ولكن هذا الظن لا أساس له من الصحة، فقد كان الرسول بولس مُبشِّرًا
وكذا تيموثاوس وفوق الكل الرب يسوع الذي كان يذهب إلى القرى والمدن كارزًا
ومُبشِّرًا بملكوت الله.

إن
المُبشِّر هو شخص قد ملأ الرب قلبه بالمحبة للنفوس البعيدة وألهب عواطفه بالغيرة
المُقدَّسة والاهتمام بالإتيان بالنفوس إلى المُخلِّص الكريم. ليت الرب يملأ قلوب
الكثيرين من خاصته بالمحبة للنفوس البعيدة ويزوِّدهم بالقوة الروحية لتقديم بشارة
الإنجيل المباركة للنفوس «الحصاد كثير ولكن الفَعَلَة قليلون. فاطلبوا من رب
الحصاد أن يُرسِل فَعَلَة إلى حصاده».

رسالة أفسس

 

«وَالبَعْضَ
رُعَاةً». إن كان عمل المُبشِّر هو الكرازة بالإنجيل للنفوس المسكينة، فإن الراعي
الحقيقي يتميَّز بأن قلبه مملوء بالعطف والاهتمام بسلامة قطيع المسيح. إن كان
المُبشِّر يجد النفوس كخراف ضالة وتائهة في برية هذا العالم ويأتي بها إلى مكان
الأمن والسلام، إلى حيث قطيع المسيح، فإن الراعي يُغذِّيها من مراعي كلمة الله. إنه
يهتم بكل واحد منها فيعمل على تقوية الضعيف وتعزية الحزين وتشجيع المُجرَّب وإقامة
الساقط والعاثر. يهتم بكل واحد من قطيع المسيح ولو كان في حالة المرض أو على فراش
الموت.

عندما التقى
الرب يسوع راعى الخراف العظيم المُقام من الأموات ببطرس ومعه بعض التلاميذ عند بحر
طبرية وسأله ثلاث مرات قائلاً: «أتحبني…؟» كان جوابه: «نَعَمْ يا رَبُّ أَنْتَ
تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي. قَالَ لَهُ أيضًا
ثَانِيَةً: يا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يا رَبُّ،
أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي» (يو15:21- 17). فلم
يكن بطرس رسولاً فحسب، بل كان راعيًا أيضًا. ما أسمى هذه الخدمة! إنها موهبة لا
تُنال بالعلم في الجامعات أو الكليات اللاهوتية ولكن الرب نفسه هو الذي يُعطى
الراعي قلبًا مملوءًا بالمحبة الشديدة لخرافه.

«وَمُعَلِّمِينَ».
وهنا يجب أن نراعى أن هناك فرقًا بين الراعي والمُعلِّم. فالراعي شخص قد ميَّزه
الرب بأن أعطاه فطنة روحية في رعاية قطيعه والاهتمام بكل واحد منهم في ظروفه
المتنوعة، بينما المُعلِّم هو شخص أعطاه الرب معرفة واسعة في كلمته وقدرة على
شرحها للمؤمنين. إننا نقرأ في رسالة كورنثوس الأولى «فإنه لواحد يُعطَى بالروح
كلام حكمة، ولآخر كلام علمٍ بحسب الروح الواحد» (1كو 8:12). فيمكننا القول بأن
الراعي تتميَّز خدمته بكلام «حكمة»؛ حكمة في رعاية خاصة المسيح ومعالجة متاعبهم،
أو بالحري كل ظروفهم، بينما تتميَّز خدمة المُعلِّم بكلام «علم» فهو يستطيع أن
يشرح ويُفصِّل كلمة الحق بالاستقامة حتى يستوعبها المؤمنون ويستفيدوا منها.

وقد يعطي
الرب شخصًا واحدًا أن يكون راعيًا ومُعلِّمًا في وقت واحد.

هذه هي
المواهب الدائمة واللازمة لكنيسة الله كل مدة وجودها على الأرض، وذلك بخلاف بعض
المواهب الأخرى المعجزية المذكورة في رسالة كورنثوس الأولى أصحاحي 12، 14 والتي
كانت لازمة لتثبيت الكرازة عند تأسِّيس الكنيسة «وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ
وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابعَةِ» (مر20:16 – قارن أيضًا عبرانيين
3:2، 4).

«لأجل
تَكْمِيلِ القِدِّيسِين، لِعَمَلِ الخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ المسِيحِ» (ع
12).

يُبيِّن
الرسول هنا غاية الرب العظمى من إعطاء المواهب الروحية، فإن قصده من خدمة الرسل
والأنبياء والمُبشِّرين والرعاة والمُعلِّمين هو «لأجل تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ»؛
أي نموهم ونضوجهم الروحي. هذه هي إرادة الرب من نحو قديسيه، فهو يريدهم أن يكونوا
كاملين في المعرفة وفي الحياة العملية. إن كان الرسل والأنبياء المؤسُّسون ليسوا
موجودين الآن بالجسد بين المؤمنين على الأرض فإن لدينا كتاباتهم:
الأناجيل
وسفر الأعمال والرسائل وسفر الرؤيا
، وفيها كل الكفاية لكنيسة المسيح إلى نهاية
وجودها في هذا العالم. كما أعطى البعض أن يكونوا مُبشِّرين للإتيان بنفوس
المُعيَّنين للحياة الأبدية إلى المسيح، وكذلك أعطى البعض أن يكونوا رُعَاة
ومُعلِّمين لفائدة شعبه. وغاية الرب في ذلك كله هي «لأجل تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ»
وذلك بواسطة الخدمة التي أعطاها الرب لخدامه للقيام بها «لِعَمَلِ الخِدْمَةِ»،
هذا العمل الذي يستخدمه الرب «لِبُنْيَانِ جَسَدِ المَسِيحِ». إن الرب يسوع المسيح
رأس الجسد الذي أحب الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها هو الذي يُغذِّي ويَقُوت أعضاء جسده
وذلك بواسطة المواهب الروحية التي أغدقها على كنيسته لبنيان جسده.

رسالة أفسس

 

«إلى
أن نَنْتهِيَ جمِيعُنا إلى وحْدانِيَّةِ الإيمان ومعرِفَةِ ابن اللهِ. إلى إنسان
كامِلٍ. إلى قِياسِ قامةِ مِلْءِ المسِيحِ» (ع 13).

المسيح يسوع
ربنا وحده ولا سواه هو موضوع كلمات الرسول هذه، فإن قصد الله في إعطاء المواهب
الروحية هو بنيان المؤمنين ونموهم روحيًا حتى يكون لهم هدف واحد وهو المسيح نفسه. إنه
جميل حقًا أن نعرف حقيقة الفداء الذي صار لنا بموت ربنا يسوع، ولكن إرادة الله
الأسمى هي أن ننمو ونتعمَّق أكثر في معرفة ابن الله نفسه. إن الإيمان بعمله
الكفَّاري فوق الصليب لازم ولا غنى للنفس عنه، ولكن أسمى ما يستطيع أن يصل إليه
الإيمان هو الرب يسوع ابن الله المبارك نفسه، فإنه من أسمى امتيازاتنا أن ننتهي
جميعنا إلى وحدانية الإيمان؛ أي الإيمان الواحد المُسلَّم مرة إلى القدِّيسين، أن
نتعمَّق في الإيمان بكل ما للمسيح من أمجاد فائقة ومقام فريد، وننمو في معرفة ابن
الله.

«إلى إنسان
كَامِلٍ. إلى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ المَسِيحِ». والكمال هنا بمعناه الحقيقي هو
أن نعرف الرب يسوع معرفة اختبارية، وأن يكون هو هدفنا الوحيد، أن يكون هو كل شيء
في حياتنا، وأن يكون موضوع تعلُّق وفرح وتعبُّد قلوبنا.

صحيح أننا
سنصل إلى هذه الحالة السامية والمجيدة بصورة كاملة في المجد عندما يأتي الرب يسوع
ويأخذنا لنكون مثله ونراه كما هو، ولكن قصد الروح القدس هنا هو حالة النمو الروحي
التي يجب أن نكون عليها ونحن هنا على الأرض قبل أن نصل إلى المجد. وهذا يؤيده قول
الرسول في العدد التالي:

«كي لا
نكُون فِي ما بعد أطْفالاً مُضطَرِبِين ومَحْمُولِين بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ،
بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إلى مَكِيدةِ الضَّلالِ. بل صَادِقِين فِي
المحبَّةِ، ننمُو فِي كُلِّ شَيءٍ إلى ذَاكَ الذِي هو الرَّأْسُ: المسِيحُ» (ع 14،
15).

جدير بنا أن
نلاحظ هنا المباينة الواضحة بين «إنسان كَامِلٍ» في العدد السابق وبين «أَطْفَالاً
مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ». فإن غاية الله من إعطاء
المواهب الروحية هي نمو المؤمنين في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح. إنه لا
يريد أن يكون المؤمنون به كالأطفال الصغار الذين لا استقرار لهم ولا ثبات
«وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إلى
مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ».

رسالة أفسس

 

إن
قرعتنا وقعت في هذه الأيام الأخيرة «الأزمنة الصعبة» التي كثر فيها المُعلِّمون
الكذبة الذين يستعملون كل حيلة لاقتناص المؤمنين الذين لا يزالون في حالة الطفولة
الروحية. فليحذر كل مؤمن وليسهر لئلا ينخدع بآراء هؤلاء المُعلِّمين أمثال شهود
يهوه أو المُعلِّمين العصريين وغيرهم.

إن أهم
وسيلة لوقاية المؤمنين من «حِيلَةِ النَّاسِ» ومكرهم ومكايدهم التي تقود إلى
«الضلال» هي درس كلمة الله بروح الصلاة إذ هي: «اللبن العقلي العديم الغش».

«بَل
صَادِقِينَ فِي المَحَبَّةِ». أي متكلِّمين بالحق أو متمسكين بالحق في المحبة[3]. إن المقصود
بهذه العبارة هي ألا نكون أطفالاً بل بالحري نامين في إدراك الحق الإلهي والتكلُّم
به بروح المحبة. إنه لأمر له أهميته أن نكون أمناء في تمسكنا بالحق الإلهي
والمجاهرة به بشجاعة وبكل أمانة، ولكنه أيضًا أمر جوهري أن نفعل ذلك بروح المحبة،
فلا نكون متشامخين ولا معجبين بأنفسنا ظانين أننا أفضل ممَنْ لم يدركوا بعد كل
الحق الذي قبلناه من الله إذ ليس لنا فضل في ذلك «لأنه مَنْ يُميِّزك؟ وأي شيء لك
لم تأخذه (من الله)؟ وإن كنت قد أخذت (من الله). فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» (1كو
7:4)؛ (أي كما لو كان ما عندك هو منك ولم تأخذه من الله). «وَإِنْ كَانَتْ لِي
نُبُوَّةٌ، وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي
كُلُّ الإيمان حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ،
فَلَسْتُ شيئًا» (1كو2:13). إننا نرى هذين الأمرين «
الحق والمحبة» ظاهرين في
كمالهما في ربنا يسوع المسيح، فقد كان تبارك اسمه هو «
النور الحقيقي» (يو8)
الذي أعلن الحق كاملاً، بل كان هو «الحق» بعينه (يو14)، كما كان هو
المحبة
المتجسدة

«لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا: أن يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأجل
أَحِبَّائه» (يو13:15)، بل ولأجل أعدائه أيضًا!

فبينما يجب
علينا أن نتمسَّك بالحق المُعلَن في كلمة الله ونُجاهر به بدون خوف، بل بكل شجاعة
مُقدَّسة، فإنه من واجبنا أيضًا أن نكون لطفاء مُزيِّنين التعليم الصحيح بوداعة
المحبة.

«بَلْ
صَادِقِينَ فِي المَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إلى ذَاكَ الَّذِي هو
الرَّأْسُ: المَسِيحُ». هذه هي إرادة الله من نحو كل واحد من المؤمنين خاصته. فهو
يريد أن نكون جميعنا نامين «فِي كُلِّ شَيْء» أعني في كل ناحية من نواحي حياتنا،
النمو الذي يقودنا إلى الرأس المُمجَّد ربنا يسوع وإلى إظهاره وإظهار كمالاته في
حياتنا يومًا بعد يوم.

«الذِي مِنه
كُلُّ الجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، ومُقتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ،
حَسَبَ عَمَلٍ، على قِياسِ كُلِّ جُزءٍ، يُحَصِّلُ نُمُو الجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ
فِي المحَبَّةِ» (ع 16).

الصورة
الماثلة أمامنا في هذه الكلمات مأخوذة من أعضاء الجسد الطبيعية، فكما أن كل عضو
وكل مفصل أو بالحري كل جزء في جسم الإنسان كبيرًا كان أو صغيرًا له عمله وله
وظيفته التي يقوم بها لفائدة وحفظ بقية أجزاء الجسد الأخرى، كذلك الأمر في كنيسة
المسيح التي هي جسده، فإنه متى قام كل عضو في جسد المسيح أي في الكنيسة بعمله
المُعيَّن له من المسيح الرأس «الذِي مِنْهُ كُلُّ الجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا
وَمُقْتَرِنًا» فإن الجسد بمؤازرة كل مفصل يقوم بعمله «عَلَى قِيَاسِ كُلِّ
جُزْءٍ»، أي بحسب قياس العمل المُعطَى لكل جزء، وعندئذٍ «يُحَصِّلُ نُمُو الجَسَدِ
لِبُنْيَانِهِ فِي المَحَبَّةِ». إن الرب يسوع المسيح هو «رأس الجسد» والذي منه يستمد
كل عضو التوجيه والإرشاد لمعرفة واجبه من نحو بقية الأعضاء، كما يستمد منه القوة
والمعونة للقيام بذاك الواجب وبذلك «يُحَصِّلُ نُمُو الجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي
المَحَبَّةِ». ليعط الرب كل واحد منا إدراكًا أكثر لمسؤوليته الفردية كعضو في جسد
المسيح من نحو نمو وبنيان بقية الأعضاء في المحبة.

رسالة أفسس

 

«فأقول
هذا وأشْهَد فِي الرَّبِّ: أن لا تَسْلُكُوا فِي ما بعد كما يسلك سائر الأُممِ
أيضًا بِبُطْلِ ذِهْنِهِم» (ع 17).

يناشد
الرسول بولس المؤمنين بأن لا يسلكوا كما يسلك سائر الأمم، واضعًا أمامهم الرب يسوع
الذي آمنوا به والذي بُوركوا فيه بكل بركة روحية في السماويات «أَقُولُ هَذَا
وَأَشْهَدُ فِي الرَّبِّ» إنه الرب صاحب السلطان والسيادة علينا نحن المؤمنين به
والذي صرنا أعضاء جسده فلا يليق أبدًا بأن يكون سلوكنا مشابهًا لسلوك غير المؤمنين
به. لقد كان المؤمنون في أفسس من الأمم الوثنيين ولكنهم رجعوا إلى الله من الأوثان
وقبلوا المسيح يسوع مُخلِّصًا وربًا لذا يُحذِّرهم الرسول من الرجوع إلى الحياة أو
العوائد الوثنية الدَّنسة أو السلوك فيها، فإن غير المؤمنين يسلكون في الشر
والدَّنس منقادين في ذلك «بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ» وإذ «لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أن
يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ اللهُ إلى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ
لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ» (رو28:1) وما يقوله الرسول للمؤمنين في أفسس يقوله
الروح القدس لنا نحن أيضًا.

«إذ هم
مُظلِمو الفِكْرِ، ومُتَجَنِّبُون عن حياةِ اللهِ لِسببِ الجَهْلِ الذِي فِيهِم
بِسببِ غِلاظَةِ قُلُوبِهِم» (ع 18).

«مظلمو
الفكر». أو بالحري «أَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ» (رو28:1)، فليس لديهم أي شعاع
أو ومضة من النور الإلهي. هذه هي حالة النفوس المسكينة، النفوس البعيدة عن الله
فإنهم «مُتجنِّبون عن حياة الله»، أو بالحري ليس فيهم حياة إلهي «مَنْ لَهُ الابن
فَلَهُ الحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابن اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الحَيَاةُ»
(1يو12:5). فأولئك الأمم هم مُظلمو الفكر ومُتجنِّبون عن حياة الله بسبب الجهل
الذي فيهم «بسبب غلاظة (أو عمى) قلوبهم». لذا أرسل الرب يسوع عبده بولس عندما ظهر
له وهو في طريقه إلى دمشق، إلى أولئك الأمم المساكين قائلاً له: «لِتَفْتَحَ
عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إلى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ
الشَّيْطَانِ إلى اللهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِالإيمان بِي غُفْرَانَ الخطايا
وَنَصِيبًا مَعَ المُقَدَّسِينَ» (أع17:26، 18).

«الذِين -إذ
هم قد فَقَدُوا الحِسَّ- أسلموا نفوسَهُم لِلدَّعارَةِ لِيعملوا كُلَّ نَجَاسَةٍ
في الطَّمَعِ» (ع 19).

أودع الله
في الإنسان "الضمير" الذي يُميِّز بين الخير والشر، ولكن أولئك الأمم
الوثنيون أو بالحري جميع البعيدين عن الله متى تمادوا في الشر فإنهم يصلون إلى هذه
الحالة المرعبة، أحط درجة يمكن أن يصل إليها الإنسان، أعني أنهم يفقدون الحس، وكأن
الضمير لم يبق له أي عمل فيهم. لقد صاروا أُناسًا «موسومة ضمائرهم» فإنهم يفعلون
الشر بدون مبالاة. يشربون الإثم كالماء، ولا يشعرون بأي ألم في أنفسهم بسبب
ارتكابهم الشر، «إذ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ
لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ (أو بطمع)»، أي أنهم
ارتكبوا كل أنواع النجاسة بطمع وشراهة.

رسالة أفسس

 

يا
لعظم غنى نعمة الله! فإن القديسين في أفسس كانت هذه الحالة البشعة حالتهم قبل
إيمانهم بالرب يسوع. حقًا إنه المُخلِّص القدير الذي يدعو أشر الفجار ليُقبلوا
إليه بالإيمان فيخلصون من حالة الشر القذرة وينالون حياة أبدية. يُصبحون خليقة
جديدة «الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا» يا له من مُخلِّص!! تبارك
اسمه المعبود إلى الأبد.

«وأما أنتم
فلم تَتَعَلَّمُوا المسِيحَ هكذا، إن كُنْتُمْ قد سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ
فِيهِ كَمَا هو حَقٌّ فِي يَسُوعَ» (ع 20، 21).

إن العلاج
الإلهي الصحيح لحفظنا من السلوك كما يسلك سائر الأمم هو في المسيح يسوع. إنه، له
المجد، ليس فقط مُخلِّصًا من الدينونة والهلاك الأبدي بواسطة موته فوق الصليب،
ولكن حياته التي عاشها فوق الأرض كإنسان وأيضًا كالمُقام من الأموات والمُمجَّد عن
يمين الآب هي دستور حياة المسيحي الحقيقي. وكما أنه هو المُعلِّم الوحيد الذي ليس
مثله مُعلِّم، فهو أيضًا الدرس الأعظم الذي يجب أن نتعلمه «تتعلَّموا المسيح» وذلك
بالشركة معه والتفرُّس في كمالاته «وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ
بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إلى تِلْكَ الصُّورَةِ
عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إلى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ» (2كو18:3).

«تَتَعَلَّمُوا
الْمَسِيحَ… قَدْ سَمِعْتُمُوهُ». إن الروح القدس هنا يربطنا بالمسيح بكيفية
مباشرة. صحيح أن الرسول يوحنا يخبرنا عمَّا سمعه هو والرُسُل من المسيح لكي تكون
لنا شركة معهم فيما سمعوه ولكي يكون فرحنا كاملاً (1يو1)، ولكن لنا ما هو أكثر من
ذلك كما هو ظاهر من قول الرسول بولس هنا: «سَمِعْتُمُوهُ» وليس سمعتم عنه. إن هذا
هو امتياز خاصة المسيح، أننا تعلَّمنا المسيح وأننا سمعناه هو، كما قال بفمه
الكريم بأن: «وَالخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ… وَلِي
خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أن آتِيَ بِتِلْكَ
أيضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي… خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا
فَتَتْبَعُنِي» (يو10).

«سَمِعْتُمُوهُ
وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هو حَقٌّ فِي يَسُوعَ». إن الحق كله هو «في يسوع» وليس هناك
حق خارجًا عنه «أنا هو الطريق والحق والحياة» فإذا أردنا أن نتعلَّم الحق من جهة
الإنسان، فإننا لن نجده في آدم الإنسان الأول الذي فشل في مسؤوليته أمام الله،
ولكننا نجد الحق كله في الإنسان الكامل؛ الإنسان الثاني الذي كان هنا بحسب فكر
الله، كما أننا إذا أردنا أن نتعلَّم الحق من جهة الله فإننا لن نجده في أي شخص أو
في أي شيء آخر سوى في المسيح، فهو وحده الذي استطاع أن يقول: «أَنَا وَالآب وَاحِد…
واَلَّذِي رَآنِي فقد رَأي الآب» (يو 10، 14). وحتى إن أردنا أن نتعلَّم فكر الله
من نحو الخطية فإننا لن نتعلَّمه إلا في صليب المسيح، فهناك نرى مُخلِّصنا المبارك
آخذًا مكاننا ونرى ما تستحقه الخطية. إن الحق هو في يسوع، فكأن المسيح المُمجَّد
في الأعالي يقودنا إلى شخصه كمَنْ عاش هنا في هذا العالم لنتعلَّم كيف يجب أن نسلك
كما سلك هو. وبالإجمال لن نستطيع أن نجد الحق بخصوص أي أمر من الأمور إلا في «يسوع
وحده».

رسالة أفسس

 

واضح
كل الوضوح أن يسوع هو المسيح، والمسيح هو يسوع، ولكن الروح القدس لا يضع أمامنا
هذين الاسمين في هذا العدد بدون قصد أو غرض. فهو أولاً يضع أمامنا اسمه «المسيح»
«لم تتعلَّموا المسيح هكذا» لأنه في ذلك يقودنا إلى إدراك كل بركاتنا وامتيازاتنا
التي صارت لنا في المسيح المُقام والمُمجَّد في السماويات. ثم يضع أمامنا اسم
«يسوع» وهو الاسم الذي سُميَ به لما كان هنا في هذا العالم، وذلك لندرك واجبنا من
حيث السلوك كما هو حق في يسوع الذي ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته «كما سلك ذاك
هكذا نسلك نحن أيضًا».

«أن تخلعوا
مِن جِهَةِ التَّصرُّفِ السَّابقِ الإنسان العَتِيقَ الفَاسِد بِحسبِ شَهواتِ
الغرورِ» (ع 22).

كيف أستطيع
أن أسلك كما سَلَكَ المسيح لما كان هنا على الأرض وأنا أعلم أنني ورثت من «الإنسان
الأول» آدم طبيعة ساقطة وفاسدة؟

إن الحق كما
هو في يسوع هو أن نخلع من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات
الغرور. وهذا ليس معناه تحسين الإنسان العتيق فإنه لا يقبل إصلاحًا بأي حال من
الأحوال، ولكن العلاج الإلهي الوحيد هو أنني كمسيحي أخلع أو أطرح كل تصرُّفات
الإنسان العتيق الفاسد السابقة.

إن الإنسان
العتيق هو الطبيعة القديمة الساقطة التي لا تحب شيئًا سوى الفساد والشهوات الغاشة،
والتي لا تحب البر والقداسة كما أنها عديمة القوة فلا تستطيع أن تُرضي الله بعمل
أي شيء صالح أو مُقدَّس «لأَنَّ اهْتِمَامَ الجَسَدِ هو عداوة لله إذ لَيْسَ هو
خَاضِعًا لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أيضًا لا يَسْتَطِيع» (رو7:8). والرب يسوع لم
يطلب قط من «الإنسان العتيق» أن يخلع عنه تصرفاته الفاسدة، فإن محاولة تكليف
الإنسان العتيق بخلع أعماله وتصرفاته وشهواته وبعمل ما هو مرضي أمام الله هي نظير
وضع خمر جديدة في زقاق عتيقة «وَليْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي
زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئلاَّ تَشُقَّ الخَمْرُ الجَدِيدَةُ الزِّقَاق، فَهِيَ
تُهْرَقُ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ
جَدِيدَةٍ، فَتُحْفَظُ جَمِيعًا» وإذ عرف الرب يسوع ما كان في قلوب الفريسيين قال
لهم: «وَلَيْسَ أَحَدٌ إذا شَرِبَ العَتِيقَ يُرِيدُ لِلْوَقْتِ الجَدِيدَ،
لأَنَّهُ يَقُولُ: الْعَتِيقُ أَطْيَبُ» (لو37:5- 39). هذه هي حالة القلب غير
المُتجدِّد، إنه يُفضِّل شهوات «الإنسان العتيق الفاسد»، ومسراته الوقتية الغاشة
على العيشة في البر والقداسة. إن المقصود بخلع الإنسان العتيق هو النظر إليه في
صليب المسيح -الإيمان واليقين بأنه قد سُمِّرَ في الصليب «عَالِمِينَ هَذَا: أن
إنساننَا العَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الخَطِيَّةِ كَيْ لاَ
نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أيضًا لِلخَطِيَّةِ» وأن نحسب أنفسنا أمواتًا عن الخطية ولكن
أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا (رو6:6، 11).

ومن الأهمية
بمكان أن نعرف أن خلع الإنسان العتيق ليس معناه أنه لم يبق فينا أي أثر أو ميل إلى
الخطية فإن ذلك يحسبه الرسول يوحنا ضلالاً وليس بحسب الحق (1يو8:1، 10). والرسول
بولس بعد أن يقول للمؤمنين: «مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ» (كو20:2)، «لأَنَّكُمْ قَدْ
مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ المَسِيحِ فِي اللهِ» (كو3:3، 5). فالقول
بالموت مع المسيح أو خلع الإنسان العتيق ليس معناه أننا وصلنا إلى حالة الكمال،
وهذا ما قاله الرسول العظيم بولس عن نفسه: «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أو صِرْتُ
كَامِلاً، وَلَكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ الَّذِي لأجلهِ أَدْرَكَنِي أيضًا
المَسِيحُ يَسُوعُ. أيها الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ
أَدْرَكْتُ. وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شيئًا وَاحِدًا: إذ أَنَا أَنْسَى مَا هو وَرَاءُ
وَأَمْتَدُّ إلى مَا هو قُدَّامُ. أَسْعَى نحو الْغَرَضِ لأجل جَعَالةِ دَعْوَةِ
اللهِ العُلْيا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في 13:3، 14).

رسالة أفسس

 

وجدير
بالملاحظة أن القول بأننا لم نصل بعد إلى حالة الكمال ليس معناه التساهل أو التهاون
في السلوك بالتدقيق والعيشة في القداسة العملية، بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي
دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أيضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ (1بط15:1، 16)
فإن الرسول يوحنا بعد أن يُقرِّر هذه الحقيقة وهي أننا «إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ
لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا» يحثنا قائلاً: «يا أولادي، أَكْتُبُ
إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ لا تُخْطِئوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ
عِنْدَ الآب، يَسُوعُ المَسِيحُ البَارُّ. وَهو كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا»
(1يو8:1، 1:2، 2).

«وتتجَدَّدُوا
بِرُوحِ ذِهنِكُم، وتلبَسُوا الإنسان الجدِيد المخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي
البِرِّ وقَدَاسَةِ الحَقِّ» (ع 23، 24).

بالمباينة
مع خلع الإنسان العتيق وتصرُّفاته الفاسدة يحثنا الرسول على أن نتجدَّد بروح
ذهننا، والمقصود بتجديد روح الذهن هو تغذية وتقوية أرواحنا المتجددة حتى يمتلئ
الذهن بأشواق ورغائب مقدَّسة وطاهرة. فكما نحرص بكل اهتمام على تغذية أجسادنا
بالأطعمة التي نحفظها ونُجدِّدها ونجعلها قوية، كذلك يجب أن تتجدَّد وتتقوَّى
أرواحنا وأذهاننا النقيَّة بالتغذِّي بكلمة الله «اللبن العقلي العديم الغش»
وبالشركة مع الرب يسوع ومع شعبه المحبوب. بهذه الوسائل الإلهية تتجدَّد أرواح
أذهاننا. فلن تجد مسيحيًا قويًا ونشيطًا دون أن يكون متغذيًا بكلمة الله مُحبًا
لها وشغوفًا بها، ودون أن يكون في شركة عميقة مع الرب ومُحبًا لإخوته المؤمنين
أيضًا.

«وَتَلْبَسُوا
الإنسان الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ
الْحَقِّ». مما لا ريب فيه أن لبس الإنسان الجديد قد تم فعلاً في اللحظة التي فيها
قبل الإنسان المسيح مُخلِّصاً له، ووُلِدَ الولادة الثانية، ولكن المقصود هنا هو
لبس الإنسان الجديد بكيفية عملية أو اختبارية. إنه إظهار الإنسان الجديد أو الحياة
الجديدة بكيفية علنية، ذلك الإنسان الجديد أو الطبيعة الجديدة التي حصل عليها
المؤمن في داخله.

وهذا
الإنسان الجديد هو «المَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي البِرِّ وَقَدَاسَةِ الحَقِّ»
فإنه إن كانت الخليقة الأولى قد فَسَدَت ولم تبق بحسب فكر الله، فإن الخليقة
الجديدة هي «بِحَسَبِ اللهِ»؛ أي كما قصد أن تكون عليه، وذلك بواسطة المسيح أو لأن
الله يراها فيه «أعرف إنسانًا في المسيح» وهذا الإنسان الجديد يُرَى بكيفية عملية
في صورتين وهما البر وقداسة الحق. البر في تعاملنا المسيحي اللائق مع جميع الناس, والقداسة
هي في سلوكنا بالتقوى أمام الله. البر هو سلوكنا الخارجي أمام الناس في كل ناحية
من نواحي الحياة، والقداسة هي في حالة قلوبنا الداخلية أمام الله.

وإذ صرنا
خليقة جديدة فيجب أن نلبس ثياب «الإنسان الجَدِيدَ» أعني سيرة جديدة وتصرفات
جديدة، تختلف كل الاختلاف عن تصرفات الإنسان العتيق وشهواته الفاسدة. يجب أن تكون
رغبة كل مسيحي حقيقي هي أن الرب «يُعْطِيَنَا أننا بِلاَ خَوْفٍ… نَعْبُدُهُ
بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أيام حَيَاتِنا» (لو74:1، 75).

رسالة أفسس

 

«لِذلِك
اطرَحُوا عنكم الكَذِب، وتكلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ واحِدٍ مع قرِيبِهِ، لأنَّنا
بَعْضَنَا أعضاء البَعْضِ» (ع 25).

أ يليق
بالمؤمن الذي خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة
الحق أن لا يكون أمينًا وصادقًا في أعماله وفي أقواله أيضًا؟ إن الكذب هو من أعمال
الطبيعة العتيقة الفاسدة، كما أنه من صفات غير المؤمنين الذين «َنَصِيبُهُمْ فِي
البُحَيْرَةِ المُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الذِي هو المَوْتُ الثَّانِي…
لأَنَّ خَارِجًا (أي خارج المدينة السماوية)… كُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ
كَذِبًا» (رؤ8:21، 14:22، 15).

إن واجب كل
مَنْ تعلَّم الحق كما هو في يسوع أن يطرح عنه الكذب وأن يتكلَّم بالصدق دائمًا
مُتمثلاً بالسيد الذي كانت كل أقواله تُعلن حقيقة حياته «فَقَالُوا لَهُ: مَنْ
أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أيضًا
بِهِ» (يو25:8) فإن كلام الإنسان هو المرآة التي تظهره على صورته الحقيقية.

«لأَنَّنَا
بَعْضَنَا أَعْضَاءُ البَعْضِ». أي أننا أعضاء في جسد واحد، فمَنْ لا يتكلَّم
بالصدق مع قريبه، الذي هو عضو في الجسد الواحد، فهو لا يغش أخاه فقط، ولكن كأنه
يخدع نفسه. هل يعقل أن عضوًا في أجسادنا الطبيعية يعمل على خداع وأذى عضو آخر؟ إن
ما يضر عضوًا واحدًا يضر بقية الأعضاء، وما يفيد عضوًا واحد يفيد بقية الأعضاء. وهكذا
الحال في جسد المسيح. فالعضو الذي يتكلَّم بالصدق مع أي عضو آخر فإنه يُحْسِن، لا
إلى ذلك العضو فقط، بل إلى نفسه أيضًا. ليت طلبة المُرنِّم قديمًا تكون طلبتنا نحن
أيضًا: «لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يا
رَبُّ، صَخْرَتِي وولِيِّي» (مز14:19).

«اِغضبوا
ولا تخطِئوا. لا تغربِ الشَّمْس على غيظِكم، ولا تُعْطُوا إبلِيس مكانًا» (ع 26،
27).

 لقد
حيَّرت هذه الكلمات كثيرين من المؤمنين وأربكت أذهانهم لأنهم يتصوَّرون أن الغضب
في كل الحالات هو شر لا يليق بالمؤمنين، ولكن ليست هذه هي الحقيقة تمامًا، ولا
نغالي إذا قلنا إنه في بعض الحالات يكون عدم الغضب شرًا لا يليق بالمؤمن الذي يحب
المسيح ويغار على مجده، غير أنه من المهم جدًا أن نتنبَّه إلى الحافز أو الدافع
إلى الغضب، فإذا كان سببه شيئًا يمس الذات أو الكرامة الشخصية فإنه لا يكون غضبًا
مُقدَّسًا، بل هو الغضب الذي يُحذِّرنا منه الرسول يعقوب بقوله: «لأَنَّ غَضَبَ
الإنسان لا يَصْنَعُ بِرَّ الله» (يع20:1).

أما الغضب
الذي بحسب مشيئة الله فهو الذي نرى فيه المسيح مثالاً لنا، فإننا نقرأ عنه بأنه:
«نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِينًا عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ»
(مر5:3) قد غضب الرب في مناسبات مختلفة ولكنه، تبارك اسمه، لم يخطئ في غضبه. غضب
حينما رأي أولئك الذين جعلوا الهيكل بيت تجارة فصنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من
الهيكل (يو13:2- 16)، كما أنه نطق بالويل على الكتبة والفريسيين المُرائين لأنهم
كانوا يأكلون بيوت الأرامل ولعلة يطيلون صلواتهم (مت14:23).

إني إذا كنت
أرى أو أسمع كلمات التجديف المُهينة لشخص ربنا يسوع ولمجده وأبقى جامدًا ولا تحتد
روحي فيَّ فإني لا أكون في الحالة التي يجب أن أكون عليها كمسيحي يُحب المسيح
ويعتز بمجده وكرامته. إن عدم الغضب في هذه الحالة هو عدم تقدير لمجد وكرامة سيدنا
المعبود المبارك. هذا أمر له أهميته لأن البعض يظنون أن ذلك يتعارض مع المحبة. إن
ظنًا كهذا لا أساس له من الصحة، فإن المحبة الصحيحة هي التي تغار للحق ولا تتساهل
مع الشر. إنها «لا تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالحَقِّ» (1كو6:13)، فلا
يليق أن تكون المحبة على حساب حق الله والمسيح، فإن المحبة في هذه الحالة لا تكون
محبة صادقة بل رياء.

رسالة أفسس

 

غير
أن هناك خطرًا نحن مُعرَّضون له بكل سهولة وهو الغضب المُقترن بالخطية. لذا
يُحذِّرنا الروح القدس بقوله: «اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئوا»، إن الوسيلة الإلهية
لحفظنا من الخطأ هي أن يكون الغضب لمجد الله، وأن يحدث منا ونحن في حضرة الله،
وهناك ينتهي ولا يتعدَّى هذا الحد، لذا يقول الرسول: «لا تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى
غَيْظِكُمْ» لأنه إذا بقي هياج أو غضب كامنًا في نفوسنا فلا يكون هذا الغضب من
الله. فإذا ما غربت الشمس، فإما أن أكون في حالة السلام القلبي العميق والشركة
الحلوة مع الرب، أو أكون في حالة الغيظ محرومًا من التمتع به والشركة معه، وواجبي
فيه هذه الحالة الأخيرة أن لا أستريح على فراش نومي إلا بعد أن أعترف بخطأي لأخي
الذي غضبت عليه وبعد أن أجثو أمام الرب معترفًا له بخطيتي، وإلا فإننا نُعطي
لإبليس مكانًا، فإننا إذا أبقينا شيئًا من الغضب في قلوبنا وأذهاننا فإننا بذلك
نعطى منفذًا للعدو ليدخل إلى حياتنا. يجب أن نكون في حالة الصحو والسهر لأن ذلك
العدو الخبيث يريد أن يهيمن على حياتنا فيسلبنا أفراحنا الروحية ويحرمنا من الشركة
الحلوة مع الرب سيدنا.

يجب أن يكون
الصفح رائدنا في حياتنا في كل حين «لِئلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا
لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ» (2كو10:2، 11).

«لا يسرِقِ
السَّارِق في ما بعد، بل بِالحرِيِّ يتعب عامِلاً الصَّالِح بِيديهِ، لِيكُون له
أن يُعْطِي مَنْ له احْتِيَاجٌ» (ع 28).

صحيح أن
المؤمنين في أفسس كانوا قبلاً وثنيين لا يعرفون الله، وكانوا سالكين في كل أنواع
الشرور والرذائل، لذا كانوا بعد إيمانهم بالمسيح، مُعرَّضين لارتكاب هذه الخطايا. كانوا
مُعرَّضين لخطية السرقة التي كانوا يمارسونها قبل إيمانهم بالرب يسوع. هذا صحيح
ولكن ليس المعنى أن المسيحي ليس مُعرَّضًا لارتكاب هذه الخطية إذا لم يكن متحصنًا
بالنعمة الإلهية. إن ما يُوجِّهه الروح القدس للمؤمنين في أفسس يُوجِّهه أيضًا
لجميع القدِّيسين في كل مكان وزمان. لقد كان القدِّيسون في أفسس في حالة السمو
الروحي. وقد عرَّفهم الرسول بولس بمقامهم السماوي كأعضاء في جسد المسيح، فأدركوا
أن الله الآب قد باركهم بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، وأنهم قاموا مع
المسيح وأُجلسوا فيه في السماويات، ومع ذلك كان يعظهم بالقول: «لاَ يَسْرِقِ
السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ». فمن الخطأ والخطر أن نتصوَّر أننا لسنا مُعرَّضين
للوقوع في هذه الخطية، ليحفظنا الرب بنعمته.

ما أسمى
وأجمل تحريضات النعمة لمن أدركتهم هذه النعمة «لا يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا
بَعْدُ». هذه لغة النعمة اللطيفة، وما أكبر الفرق بين تحريضات النعمة وبين تهديدات
الناموس (خر16:21، 1:22- 3).

رسالة أفسس

 

إن
هناك أشكالاً متنوعة للسرقة، فقد يسرق موظف أو عامل من وقت عمله، وآخر يسلب سُمعة
غيره أو صيته، وما أكثر المؤمنين الذين يسلبون الله فلا يعطونه حقه من الأموال
التي أعطاهم الله إياها: «أَيَسْلُبُ الإنسان اللَّهَ؟ فَإِنَّكُمْ
سَلَبْتُمُونِي. فَقُلْتُمْ: بِمَ سَلَبْنَاكَ؟ فِي الْعُشُورِ وَالتَّقْدِمَةِ. قَدْ
لُعِنْتُمْ لَعْنًا وَإِيَّايَ أَنْتُمْ سَالِبُونَ» (ملا 8:3، 9). على أن عمل
النعمة في المؤمن في العهد الجديد يقوده إلى العطاء للرب بسخاء أكثر مما كان
مطلوبًا في العهد القديم (انظر كورنثوس الثانية 3:8- 5).

«بَلْ
بِالحَرِي يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أن يُعْطِي مَنْ
لَهُ احْتِيَاجٌ». لا يكفى أن يكون المؤمن أمينًا فلا يسرق، بل هناك صورة إيجابية
جميلة وهي: أنه يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له هذا الامتياز المبارك وهو أن
يعطي للمُحتاجين. عجيبة حقًا هي نعمة الله! فإن اليدين اللتين كانتا تمتدان للسرقة
تغيرتا تغييرًا كليًا فصارتا تمتدان للعطاء للمُعوزين والمُحتاجين «إن كان أحد في
المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدًا». لقد
كان أُنسيمس عبدًا سارقًا ولكن إذ افتقدته نعمة الله المُخلِّصة أصبح «الأخ الأمين
الحبيب» (كو9:4)! قال واحد من رجال الله الأفاضل: "
إني أكون سالكًا بحسب
البر الذي في الناموس إذا لم أسلب وأختلس حقوق غيري، ولكنني لا أستطيع أن أحيا
بحسب مبدأ النعمة الغنية والقداسة الحقيقية إذا لم أُشرك الآخرين في الخيرات التي
منحنى الله إياها
". إن فرح المُعطي أسمى وأعظم بكثير من فرح الآخذ «وَأَمَّا
مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجًا، وَأَغْلَقَ
أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فِيهِ؟» (1يو17:3). ولنذكر
دائمًا كلمات الرسول المغبوط: «لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ،
لأَنَّهُ بِذَبَائح مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ» (عب16:13).

«لا تخرج
كلِمة رَدِيَّةٌ مِن أفواهِكُم، بل كُلُّ ما كان صالِحًا لِلبُنْيَانِ، حسب
الحاجةِ، كَيْ يُعْطِي نِعْمَةً لِلسَّامِعِين» (ع 29).

ينتقل
الرسول من الحث على العمل الصالح وعلى العطاء للمحتاجين إلى التحذير من الكلام
الرديء والحث على الكلام الصالح الذي يؤول للبنيان. وما أكثر التحريضات التي في
كلمة الله عن هذا الموضوع الهام، فإن كلام الشفتين هو مرآة صادقة لحالة القلب
الداخلية «فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ» (مت34:12). لقد
أفاض الرسول يعقوب في الكلام عن اللسان «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي
الكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أن يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أيضًا»
(يع2:3).

وكم هو جميل
ومبهج أن نُوجد في حضرة قديس فاضل يفيض قلبه ولسانه بكلمات النعمة التي تبنى
السامعين! وكم هو مؤذٍ وهادم أن يخرج من أفواهنا «كلام السفاهة والهزل الذي لا
يليق» أو أقوال النقد والمذمَّة والطعن في سِيَر الآخرين. ليتنا نحرص على أن لا
تخرج من أفواهنا كلمة رديَّة «انزعْ عَنْكَ التِوَاءَ الفَمِ، وَابعِدْ عَنْكَ
انحِرَافَ الشَّفَتَيْنِ» (أم 24:4).

«لِيَكُنْ
كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحًا بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يجب
أن تُجَاوبُوا كُلَّ وَاحِدٍ» (كو6:4). إن «الملح جيد»، وله قيمته، فهو، وإن كان
لا يُصْلِح الفاسد، لكنه يحفظ الجيد من الفساد. إنه الحق الذي يحفظ النفس في
القدَّاسة. فمتى كان لنا في أنفسنا ملح فإن كلامنا يكون نقيًا وأقوالنا تؤول إلى
السلام مع الآخرين. هكذا قال الرب يسوع: «لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ
مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (مر50:9).

رسالة أفسس

 

يجب
أن لا نتكلَّم إلا بما كان «صالحًا للبنيان». والكلام الصالح هو من القلب الصالح
«فَاضَ قَلْبِي بِكَلامٍ صَالِحٍ» (مز1:45)، «مِنَ الفَمِ الوَاحِدِ تَخْرُجُ
بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ! لا يَصْلُحُ يا إِخْوَتِي أن تَكُونَ هَذِهِ الأمور هَكَذَا!
أَ لَعَلَّ يَنْبُوعاً يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ العَذْبَ
وَالمُرَّ؟» (يع 10:3، 11).

كذا يجب أن
يكون الكلام «حَسَبَ الحَاجَةِ». فإنه من الخطأ أن نتصوَّر أن الكلام من أي نوع
كان لا يكلِّفنا شيئًا، اقرأ ما كتبه الرسول يعقوب عن الأضرار المروعة التي مصدرها
اللسان في الأصحاح من رسالته.

يجب أن لا
ننسى أن كثرة الكلام لا تخلو من معصية، فلنحرص على أن لا نتكلَّم إلا بحسب الحاجة.

«ولا
تُحْزِنُوا رُوح اللهِ القدُّوس الذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيومِ الفداءِ» (ع 30).

الروح القدس
هو الأقنوم الإلهي الذي حضر من السماء في يوم الخمسين، أي بعد أن أكمل الرب يسوع
المسيح عمل الفداء بموته فوق الصليب وبعد أن قام من الأموات بمجد الآب ثم صعد إلى
السماء وجلس عن يمين أبيه هناك. إن الروح القدس ليس هو مجرد تأثير أو قوة، بل هو
الشخص الإلهي المُعادل للآب وللابن، فهو يتكلَّم، ويرسل خدامًا للكرازة بالإنجيل
(أع2:13، 4)، ويبكِّت العالم (يو8:16)، ويعزِّى المؤمنين إذ يأخذ مما للمسيح ويخبرهم،
وهو الذي يرشدهم ويقودهم (يو13:16- 15؛ رو14:8)، كما أنه يحزن إذا لم يسلك
المؤمنون في القداسة لأنه روح الله القدُّوس.

إنه ساكن في
كل مؤمن حقيقي، وهو يصغي إلى كل كلمة ننطق بها، ويعرف كل فكر يخطر بأذهاننا، ويرى
كل عمل نعمله، لذا يُحرِّضنا الرسول بالقول: «لاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ
الْقُدُّوسَ». وهذا ليس معناه أن الروح القدس يترك المؤمن، فإنه متى سكن في المؤمن
فإنه يسكن فيه إلى الأبد «مُعَزِّيا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إلى الأبد»
(يو16:14) هذا هو امتياز مؤمني العهد الجديد. لقد صلى داود في العهد القديم قائلاً:
«رُوحَكَ الْقُدُّوسَ لا تَنزعْهُ مِنِّي» (مز11:51)، أما في عهد النعمة الحاضر
فإن صلاة كهذه لا تليق بالمسيحي الحقيقي الذي سكن فيه الروح القدس وبه خُتِمَ إلى
يوم الفداء. إن الروح القدس ساكن في المؤمن الحقيقي ولن يفارقه مطلقًا، ولكنه يحزن
إذا لم نسلك سلوكًا مقدَّسًا بحسب كلمة الله، وهذا هو سبب حرمان الكثيرين من الفرح
ومن التلذُّذ بالشركة الحلوة مع الرب. أما إذا سلكنا في القدَّاسة والأمانة للرب
فإن الروح القدس يبهج قلوبنا، ويأخذ مما للمسيح ويُخبرنا.

في الأصحاح
الأول من هذه الرسالة يقول الرسول: «إذ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ
الْقُدُّوسِ، الَّذِي هو عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ
مَجْدِهِ» (ع 13، 14). وهنا يعود الرسول ليؤكد هذه الحقيقة المباركة وهي أننا
خُتمنا بالروح القدس، ختمنا ختمًا دائمًا «ليوم الفداء»، والمقصود بيوم الفداء،
ليس فداء أرواحنا «الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ
الْخَطَايَا» (أف 7:1)، بل فداء أجسادنا، وذلك عندما يأتي الرب يسوع المسيح من
السماء ليأخذنا إليه وعندئذٍ يفدي هذه الأجساد الذليلة «سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ
تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ» (في20:3، 21). سيأتي الرب
يسوع لأخذ كل المؤمنين الحقيقيين ولن يترك مؤمنًا واحدًا فإن كل مسيحي حقيقي هو
عضو في الجسد الواحد ولن يكون الجسد في المجد ناقصًا عضوًا واحدًا، مهما كان
صغيرًا أو ضعيفًا.

رسالة أفسس

 

«لِيُرْفَع
من بينِكم كُلُّ مَرَارَةٍ وسَخَطٍ وغَضَبٍ وصِيَاحٍ وتَجْدِيفٍ مع كل خُبْثٍ» (ع
31).

 يُحذِّرنا
الرسول هنا من بعض الخطايا التي إذا تساهلنا معها فإننا نُحْزِن الروح القدس
الساكن فينا. والرسول يبدأ بالتحذِّير من الشر الكامن في داخل القلب «لِيُرْفَعْ
مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ»، والمرارة هي عكس الحلاوة، ومتى وُجِدَت المرارة
في قلب الإنسان فإنها تسلبه حلاوة الفرح والسلام الداخلي، وتجعله قلبًا مظلمًا
وكئيبًا. إنها صفة بغيضة من صفات غير المؤمنين الذين فمهم مملوء مرارة (رو14:3)
والرسول يعقوب يُحذِّرنا من الغيرة المُرَّة في قلوبنا (يع 11:3- 15).

ثم
يُحذِّرنا الرسول أيضًا من الخطايا الظاهرة التي تنشأ من المرارة التي يجب أن لا
تبقى في القلب. يُحذِّرنا من كل سخط وغضب وصياح وتجديف (أو كلام شرير). هذه
الخطايا التي يُحرِّكها الخبث متى وجد في القلب. نعم أيها الأخوة الأحباء يجب أن
تُرفَع كل هذه الأشياء من بيننا. إننا نقولها كلمة صريحة وهي إنه إذا لم نتحرَّر
من هذه الخطايا بقوة الروح القدس فإننا لا نكون عائشين العيشة المسيحية الحقيقية.
فلنحرص على أن لا يكون لهذه الأمور المعيبة وجود فينا أو بيننا وذلك بنعمة ومعونة
إلهنا لنا.

«وكونوا لُطَفَاء
بعضكم نحو بعضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسامِحِين كما سَامَحَكُم الله أيضًا فِي المسِيحِ»
(ع 31).

المسيحية
الحقيقية ليست قاصرة على تجنب الشرور والخطايا التي تُحْزِن الروح القدس، بل هي
أسمى من ذلك بكثير، إنها إظهار صفات المسيح الجميلة في حياتنا، فلكي نكون لطفاء
وشفوقين في تعاملنا مع بعضنا البعض يجب أن نتمثَّل بسيدنا في لطفه وشفقته، ولكي
نكون متسامحين يجب أن نضع أمامنا المقياس الإلهي في الصفح والغفران «متسامحين كما
سامحكم الله أيضًا في المسيح». هل أخطأ إليَّ أحد بأخطاء كثيرة توازى خطاياي أنا
من نحو الله؟ إن كان الله قد سامحني بجميع خطاياي من أجل المسيح وعمله فوق الصليب،
فبالقدر الذي به سامحني يجب أن أسامح أخي. ربما تظن أن الشخص الذي أخطأ في حقك لا
يستحق الصفح والمسامحة فهل كنت أنت مستحقًا للغفران الإلهي؟ إنه لا يمكن أن يكون
شخص قد أساءك وأخطأ إليك بالقدر الذي أخطأت أنت به إلى الله، ومع ذلك فقد أحبنا
الله، وغفر لنا جميع خطايانا. وهذا هو المقياس الذي به يجب أن تغفر للآخرين.

يا ربنا
يسوع هبنا بنعمتك أن نتعلَّمك، وأن نتعلَّم منك ونتمثَّل بك. آمين.



[1] ليس
المقصود بالقول «إننا أيضًا ذريته» أن جميع البشر هم أولاد الله المولودون منه
ولادة جديدة، بل باعتبار أنهم خليقته وصنعة يديه الذين يعتني ويهتم بهم.

[2] أو قبلت عطايا لأجل الناس
وأيضًا للمتمردين

Thou hast received gifts for men : yea, for the
rebellious also.

 or
""But
speaking the truth in love
[3] or "Being
truthful in love
"

. "Holding the truth in love"

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس قاموس الكنيسة مسح الوجه والعينين ن

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي