تَفْسِير رساله بُولُسَ
الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ فِيلِبِّي

 

إسم السفر:

رسالة بولس الرسول إلى أهل
فيلبي "
Philippians "

الإختصار : في = PHP

أسس بولس الرسول كنيسة فيلبي
حوالى العام 5. ب.م.، في رحلته التبشرية الثانية، فكانت اول مدينة اوروبية حمل
اليها الإنجيل، ومن ثم اهتمّ بزيارتها مرات عدّة. غير انه، بعد تعرّضه لصعوبات
ومساوئ (ضرب وسجن…)، اضطرّ الى ترك المدينة، ولم يخلّف وراءه سوى جماعة صغيرة
معظمها من الوثنيين المتفاوتين اجتماعيا (اعمال 16: 12-40).

 

كاتب السفر:

بولس الرسول

كتب بولس هذه الرسالة وهو في
قيود السجن، ربما كان ذلك في رومية او قيصرية او أفسس (اذا رجّحنا المكان الأخير،
تعود كتابة الرسالة الى العام 56-57 ب.م). يقول الأب اسطفان شَربنتييه، وهو عالم
كاثوليكي كبير، بأن الرسالة الى كنيسة فيلبي "كُتبت من دون سبب"، ولعله
يقصد بأن الجماعة الناشئة هناك لم تعرف، نظير غيرها من الكنائس، أزمات او بدعا،
وأن علاقتها برسول الأمم كانت طيبة جدا. ما تظهره الرسالة ذاتُها أن بولس كان
مأخوذا بمحبة أهل فيلبي الذين بعثوا في نفسه فرحا كبيرا بفضل اهتمامهم به
والعطاءات المالية التي وصلته منهم (4: 10-20)، التي ارتضاها هو متجاوزا القاعدة
التي وضعها على نفسه، وهي أن يكفي رسالته بما تنتجه يداه (راجع: 1 كورنثوس 4: 12،
9: 14 و15؛ 1 تسالونيكي 2: 9…)، وذلك أنه كان يعرف قلب أصدقائه، وكرمهم رغم
"فقرهم العميق" (2كورنثوس 8: 2).

وواقع الحال أن جماعة فيلبي
كانت قد أرسلت أبفرودتس بمهمّة الى بولس (أشرنا الى مضمونها أعلاه)، غير أن الرجل
مَرِضَ بعد التقائه بالرسول وقرب الموت، "ولكن الله رحمه"، فأرجعه بولس
بعد تعافيه الى أهل بلده، لِما أصابهم من قلق عليه (2: 25-30)، ولعلّه حمّله هذه
الرسالة تعبيرا عن امتنانه لما يعملونه معه من خير. واستغلّها مناسبة فأطلق العنان
لقلبه، فإن ما سمعه عنهم يجعله اكثر اشتياقا الى جميعهم "في أحشاء يسوع
المسيح" (1: 7و8).

 لم يهمل بولس -كعادته- تشجيع
مؤمني الكنائس المؤسَّسة حديثا وإرشادهم، فدعا أهل فيلبي الى أن يتمّموا خلاصهم
"بخوف ورعدة"، ويكونوا "بلا عيب في وسط جيل معوَّجٍ وملتوٍ"
(2: 12-15، راجع ايضا 4: 2-9). ولعلّ انشغاله بمشاكل الكنائس الاخرى وخوفه من أن
يصيب هذه الكنيسة الغنية بالودّ شرُّ الذين يروّجون التعاليم الباطلة، جعله يضيف
كلمة تحذير: "انظروا الكلاب، انظروا فعلة الشر، انظروا القطع (قد يكون يقصد
اليهود الذين ظلّوا يؤمنون بأن أعمال الشريعة -ومنها: القطع، اي الختان- ضرورية
للخلاص)" (3: 2).

 اعتبر بعض علماء التفسير أن
رسالة فيلبي بلا تصميم واضح، وقال آخرون انها عبارة عن رسائل عدّة (اثنتين او
ثلاث) بعثها الرسول في اوقات مختلفة وجُمعت في ما بعد… من دون أن نهمل هذه الافكار،
يمكننا أن نلاحظ أن ثمة موضوعا بارزاً يجمع الرسالة، وهو الاتحاد بالمسيح الرب
ينبوع الفرح. وهذا يكشفه بولس الأسير، منذ بدء الرسالة، لمّا يحدّث قرّاءه عمّا
يحيّره، فهو واقع بين أمرين ولا يعرف أن يختار بينهما، أولهما شوقه الى المسيح
الذي يجعله يؤْثر الانطلاق اليه، وثانيهما بقاؤه في الجسد من أجل تقدُّم اهل فيلبي
وفرحهم في الايمان (1: 24 و25). هذا الارتباك يجعلنا نفهم أشياء خاصة في حياة
الرسول، ويدعونا الى أن نعي ما وعاه، وذلك أن كل خدمة كنسية صحيحة تفترض اولا أن
نحب الرب اكثر من الوجود، هذا الحب وحده هو الذي يدفعنا الى العمل -الذي لا يعرف
مللا او كللا- وأن نستغل كل زمان ومكان لنعلن كلمة الله (1: 12-19). وهذا يبيّنه
اهتمام بولس الدائم بإعلان الإنجيل الذي أخذت قضيته حياته كلها، وذلك انه، في
إصرار ومحبة كبيرين، يدعو أحبّاءه الى العيش "كما يحق لإنجيل المسيح"، ويحضّهم
لكي يكون لهم دائما "فكر واحد"، وأن يكون التواضع والطاعة اللذان في
المسيح يسوع علامتهم المميّزة. ولقد أدرج، دعما لسعيه، نشيدا قديما يشيد بالمسيح
الذي وهو مساوٍ لله "أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد… وأطاع حتى الموتِ، موتِ
الصليب…" (2: 5-11). في آخر الرسالة يحضّ الرسول أصدقاءه على الفرح الدائم
بالرب، ثم يترك لنفسه أن يعبّر، بطريقة لطيفة ومربية، عن امتنانه لعطاءاتهم، ويطلب
لهم نوال "الثمر المتكاثر". ويختم رسالته، كعادته، بتحيّات وسلامات

 

تاريخ كتابه السفر:

 يرجح نحو سنة 63 ميلادية قرب
نهاية أسره الأول حيث كان يتوقع سرعة الإفراج عنه (1 :25،2 : 23، 24)، وقد تأسست
كنيسة فيلبى أثناء رحلة بولس الرسول التبشيرية الثانية عندما ذهب الى فيلبى ومعه
سيلا ولوقا وتيموثاوس (أع11:16، 12)

 

محور السفر:

 + الأتضاع، التضحية بالذات،
الوحدة، الحياة المسيحية،الفرح

 + ربنا يسوع المسيح فرحنا

 + وحدانية الروح وحياة الفرح

 

مدينة فيلبي:

 + مدينه في مقدونية اسمها
القديم كرينيوس، ضمها فيلبي المقدوني الثاني إلي مملكته عام 356 ق.م ووسعها وحصنها
ودعاها علي أسمه.

 + سقطت تحت يد الرومان عام
168 ق. م وأصبحت فيما بعد مدينة كولونية (أع 16 : 12)أى لها امتيازات رومانية
وصارت من أشهر مدن مقدونية.

 + زارها الرسول بولس نحو عام
52 م، حيث أسس أول كنيسة في أوربا وآمن علي يديه كثيرون منهم ليديه والفتاة التي
بها روح عرافة (أع 16)

 + فيها سجن الرسولان بولس
وسيلا حيث أخرجهما الرب فكرزا للسجان وأهل بيته واضطرا إلي ترك المدينة

 + زارها الرسول مرة أخري (أع
20 : 3- 6).

 + تمتاز كنيسة فيلبى بالكرم
رغم فقرها، فقد أرسلت مساعدات مالية لبولس، على يد أبفرودتس وهو فى رومية، فأرسل
اليهم بولس هذه الرسالة بيد أبفرودتيس أيضا ليشكرهم فيها على معروفهم، وليحذرهم من
بعض المعلمين الكذبة وهى رسالة فرح، وحب، وشكر، ومدح، فلا تجد فيها انتقادا أو
توبيخا.

 + يحتوى الإصحاح الثاني بحثا
هاما فى شخص الرب يسوع المسيح، واتضاعه وارتفاعه

 

كانت فيلبي في القديم -وهي
اليوم خراب- مدينة مزدهرة، تقع على منحدر في سفح جبال بانجيه على نحو 12 كيلومترا
من البحر، تجاه سهل مكدونية الشرقية والى الشمال الشرقي من اليونان. وكانت تدعى
قرينيدس، نسبة الى ينابيعها الصغيرة، قبل أن يضمّها الملك فيلبس الثاني والد
الإسكندر الكبير (357 ق.م.) الى مكدونية، ويطلق عليها اسمه. في منتصف القرن الاول
ق.م.، وبعد تغيّرات سياسية ومعارك متعددة، تحولت فيلبي الى مستعمرة رومانية
وغُمِرَت بامتيازات جمّة (منها: أن كل مولود فيها أخذ يتمتع بكامل حقوق المواطن
الروماني)، الى أن أصبحت، في العام 31 ق.م. (في زمن أغسطس)، مستوطنة عسكرية يقطنها
العديد من المحاربين القدامى.

 وعى سكان مدينة فيلبي أنهم
"رومان"، وواقعيا كانوا خليطا من الناس تعدّدت عباداتهم وشعائرهم
الدينية المحلية -أبرزُها عبادةُ الامبراطور- وتمازجت تمازجا تلفيقيا، مما حدا
بالديانة التوحيدية اليهودية، امام كثرة العبادات، أن تبدو حقيرة للغاية. ونعرف من
كتاب اعمال الرسل أن بولس لما زار المدينة لم يكن يوجد فيها مجمع يهودي (16: 13)،
ولعلّ السبب يعود الى قلة عدد الرجال اليهود المؤمنين في فيلبي (ربما لا يتجاوزون
العشرة رجال).

 

غرض السفر:

 كان الفيليبيون قد أرسلوا
إليه هبه (4 : 10) علي يدي أبفروتس (4 : 18) فأرسل إليهم يشكرهم، علي ثمر حبهم
المتزايد وليس من أجل الهبة في حد ذاتها وإذ مرض ابفروتس وقارب الموت سمعوا
فحزنوا، فحزن أبفروتس ليس علي مرضه وإنما لأجل حزنهم عليه … إنها رسالة مملوْءة
بمشاعر الحب الفياضة التي فيها يعلق كل عضو حبه للآخرين علي حساب نفسه.

 + يبدوا أن البعض كرز بالسيد
المسيح أثناء سجن الرسول بقصد سيئ ليتعرض الرسول لضيقات أكثر… لذلك جاءت نغمة
هذه الرسالة " وحدانية الروح والفرح ".

 + كان للنساء عمل في الكنيسة
ويبدو أن اختلافا في الفكر قد دب بينهن (4: 2) لذلك أكثر الرسول من كلمة "
جميعكم " ليؤكد التزام الكل بوحدانية الروح.

 

مضمون السفر:

(أ) المناسبة. عرف أهل فيلبي
أن بولس في السجن، فأرسلوا إليه ايفروديتس ليحمل اليه مساعدة مالية. ولكن موفد
فيلبي مرض فقلق عليه أهل فيلبي لانه كان يحتل مكانة رفيعة في الجماعة (2 :25-30).
لهذا اراد ان يعود باسرع وقت ممكن إلى فيلبي ليضع حدا لقلق المؤمنين فيها. استفاد
بولس من هذه المناسبة ليحمّله رسالة وضع فيها كل قلبه. متى دوِّنت فل واين دوِّنت؟
رج رسائل الاسر. قيل ان فل دونت في افسس والامر معقول لان لغتها ومضمونها قريبان
من رو اكثر منه من كو وأف. فكنيسة فيلبي التي كانت أول كنيسة تأسّست في اوروبا (سنة
50، أع 16 :11-40)، على يد بولس والفريق الذي معه، عرفت الاضطهاد (1 :7، 29-30)
ولكنها لبثت ثابتة، وما أصغت إلى أعداء صليب المسيح (3 :2، 18).وقد وجّه بولس
كلامه للاساقفة والشمامسة، فدلّ على تنظيم تأسّس في هذه الكنيسة، حالًا بعد مرور
بولس فيها، أو بعد ذلك الوقت بقليل.

(ب) المضمون والتأليف. اذا
وضعنا جانبا بعض نصائح شخصية (1 :12-26؛ 2 :19-31) واقوال شكر على المساعدة
المالية (4 :10-20)، تتوسع الرسالة في موضوعين. الاول : تحريض على الوفاق والمحبة
(1 :27-2 :18). كانت هناك خلافات بين اهل فيلبي (4 :2)، لهذا حرّضهم بولس على
التواضع الذي هو الشرط الضروري للمحافظة على المحبة (2 :3ي). فعلى المسيحيين ان
تكون لهم عواطف المسيح الذي كان إلها وكان من حقه ان يفرض على الآخرين ان يكرموه
كإله. ومع ذلك صار عبدا للجميع. لهذا منحه الاب مجدا الهيا (2 :5-11 : مديح قديم).
الموضوع الثاني : يتضمن تحذيرا من المتهوّدين (3 :2-21). يتحدث بولس عن خبرته
الشخصية بعبارات قريبة من تلك التي يستعملها في روم. وينهي كلامه بحضّ على الحياة
المسيحية. وبمختصر الكلام : حضّ على الوفاق (1 :27-2 :18) وأخبار شخصية (2
:19-30). تحذير من المتهوّدين (3 :2-21) وتنبيهات وأخبار (4 :1-20).

(ج) يتّفق الجميع على صحة
نسبة فل إلى بولس. ولكنهم يناقشون وحدة الرسالة. كنا ننتظر ان نقرأ الخاتمة بعد 2
:19-30. ولكن بدل هذا نجد قسما جديدا مكتوبا بلغة مختلفة. قد تكون وصلت إلى بولس
اخبار خلال كتابة الرسالة فأجاب إليها في القسم الثاني. (د) المواضيع الرئيسيّة.
مع أن فل مليئة بالتعاليم التي تذكّرنا بما في رو أو كور، فهي ليست برسالة
تعليميّة. فبعد 2كور، هي أكثر الرسائل شخصيّة. ولكنّها تختلف عن 2كور لأنّها ليست
رسالة هجوميّة (لا صراعات داخليّة في الكنيسة، 2 :2-3). والجماعة لم تصغ إلى الأعداء
الذين من الخارج : هي رسالة الفرح. ثلاث مرات نجد دعوة إلى الفرح : "إفرحوا
دائمًا في الربّ (2 :18 :3 :1؛ 4 :4). ويتوازى فعل "خايرين" (فرح،
ابتهج، 1 :18؛ 2 :17-18؛ 4 :10) مع "خارا" (الفرح، 1 :4، 25؛ 2 :2؛ 4
:1). يذكر الكاتب "عمّال السوء" (3 :2) و"أعداء صليب المسيح"
(3 :18). ولكن هذا لا يؤثّر على الفرح الذي يُشرف على الرسالة. ويذكر الرسول
مبشّرين من ذوي النيّات السيّئة. ولكنّه يبقى هادئًا : المهم أن يبشّر بالمسيح (1
:18). وهذا الفرح بما فيه من مفارقة، نجد ما يسبّبه بشكل عرضيّ وشخصيّ (الأمل
بتحرّر قريب من السجن). والسبب الآخر هو المحبّة التي تربطه بجماعة فيلبي العزيزة
على قلبه (1 :3، 7، 8؛ 2 :1، 12، 17؛ 4 :1). وهناك أسباب أعمق أيضًا : اليقين بأنه
مع المسيح والأمل بأن يكون معه بشكل أوثق إن هو مات، والتأمّل في مثال المسيح الذي
رُفع بعد أن صار عبدًا طائعًا حتى الموت على الصليب

 

 محتويات السفر:

1- مقدمة ص 1: 1 – 11

 +الشركة الرسولية 1 – 2

 + الشكر لله والصلاة عنهم 3
– 11

 في هذه المقدمة نلاحظ :

 + يوجه الحديث إلي "
جميع القديسين" فيؤكد الوحدة.

 + يقدم الشعب ككل عن
الأساقفة والشمامسة فإن الكهنوت هو خادم الشعب لا يطلب لنفسه الكرامة بهذا يحفظ
الكنيسة روحانيتها ووحدتها لأن الكبرياء علة الانقسام.

2- الوحدانية والعمل ص 1 : 12
– 30 :

 لا تتحقق وحدانية الروح
بشعارات نظرية مجردة ولا بتنظيمات وتنسيق وإنما تنبع عن قلوب مؤمنه صادقة عن إناس
لهم الإيمان بالعمل الروحي والثقة في الله الذي يحول آلامنا للخير والفرح بتحقيق
الهدف الإنجيلي دون مصلحة خاصة مادية أو معنوية.

 + إدراكنا لمفهوم الألم يولد
ثمرا مفرحا 12- 17.

 + الفرح بتحقيق الهدف
الإنجيلي 18 – 26.

هل تبحث عن  ئلة مسيحية عشارون وزناه يسبقون الأبرار للملكوت ت

 + الجهاد معا وسط الآلام 27
-30.

3- الوحدانية والإتضاع ص2 :

 + ليس شيء يفرح قلب الرسول
بولس مثل الوحدة النابعة عن روح الحب الحقيقي في إتضاع وقد قدم الرسول السيد
المسيح نفسه مثلا أعظم كما تحدث عن نفسه وتيموثاوس وابفرووتس كيف يعملون بروح الحب
والاتضاع

 + روح الشركة 1 – 4.

 + المسيح مثالنا في الاتضاع
5 – 11.

 + الله واهب الاتضاع 12 – 18.

 + أمثلة لخدام روحيين محبين
19 – 30.

4 – الوحدانيه والبدع ص 3 :

 + لا تعني الوحدة التهاون في
الإيمان الكنسي وضم المبتدعين تحت ستارها. فالوحدة الحقة هي وحدة إيمان حقيقي
مترجم في الحياة العملية :

 + رفض بدعة التهود 1- 2.

 + روحانية قوة لا عجز 3 –
11.

 + روحانية نمو بلا توقف 12 –
16.

 + الرسول كمثال الحياة
السماوية 17 – 21.

5 – وصايا عملية ص 4.

 ترجم الرسول الحديث عن
الوحدة عمليا في الآتي :

 + الثبوت في الرب 1.

 + وحدة الفكر 2- 3.

 + الفرح والعبادة الدائمة 4-
7.

 + السلوك الحي 8- 9.

6 – ختام الرسالة :

 + شكر علي محبتهم 10- 12.

 + إهداء السلام 13- 22.

 + البركة الرسولية 23.

 

ملخص السفر:

كان الرسول بولس في ترواس في
آسيا الصغرى عندما تلقى الدعوة، في رؤيا، بأن يحمل الأخبار السارة إلى مكدونية.
وكان معه لوقا وسيلا وتيموثاوس، فاستقلوا في الحال باخرة إلى نيابوليس في أول
رحلات بولس إلى أوروبا. ومن هناك اتجهوا فورا عبر طريق جبلي إلى فيلبي، التي تقع
على بعد 10 أميال إلى الداخل. وكانت فيلبي هي المدينة الرئيسية في مقاطعة مكدونية
(أعمال 12:16).

وكانت ليدية هي أول من آمن
ببشارة بولس، وقد كانت سيدة أعمال. وبعد ذلك بفترة قصيرة، كان بولس قد حرر فتاة
جارية بها شيطان فاغتاظ أسيادها وأثاروا شغبا وأمسكوا بولس وسيلا وجروهما إلى
السوق إلى الحكام… وأمروا أن يضربا بالعصا… فوضعوا عليهما ضربات كثيرة
وألقوهما في السجن (19:16-23). في تلك الليلة، حدث زلزال، وانفتحت جميع أبواب
السجن بطريقة معجزية وسقطت السلاسل من أيدي جميع المسجونين. وبعد الاستماع لبولس
وسيلا، آمن السجان وجميع أهل بيته. وبعد بضعة سنوات، في رحلته التبشيرية الثالثة،
زار بولس الكنيسة التي كانت قد تكونت في فيلبي.

وفي وقت كتابة بولس لهذه
الرسالة، كان مسجونا في سجن الإمبراطورية الرومانية، ربما بعد 10 سنوات من تأسيس
الكنيسة في فيلبي، وحوالي 30 سنة بعد صعود المسيح وحلول يوم الخمسين وابتداء
الكنيسة الأولى. وأثناء سجنه الأول في روما، كتب بولس رسائل إلى أهل فيلبي وكولوسي
وأفسس وإلى فليمون.

ومع أنه كان سجين الحكومة
الرومانية، إلا أن بولس كان يدعو نفسه أسير يسوع المسيح لأنه كان يعرف جيدا من هو
الذي يتحكم في حياته (أفسس 1:3؛ 1:4؛ 2 تيموثاوس 8:1؛ فليمون 1:1،9). فلم يكن
تركيزه متجها إلى الظروف بل إلى من هو أعلى من الظروف.

والفكرة الرئيسية لبولس في
هذه الرسالة هي: افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضا افرحوا! (فيلبي 4:4).

 

أولاً: الرسول بولس
والكنيسة في فيلبي:

قام الرسول بولس برحلته
الكرازية الثانية في 52م. وأحس بأن الكثير من خططه تقف أمامها عوائق، فعندما كان
في غلاطية "منعهم الروح القدس أن يتكلموا بالكلمة في آسيا (الصغرى)، فلما
أتوا إلى ميسيا حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية فلم يدعهم الروح" (أع 16: 6و7)،
فذهب بولس ورفيقاه سيلا وتيموثاوس إلى ترواس، حيث ظهرت لبولس رؤيا في الليل، رجل
مكدوني قائم يطلب إليه ويقول: "اعبر إلى مكدونية وأعنا" (أع 16: 9).
فأدرك بولس أن عليه أن يعبر إلى مكدونية ليكرز بالإنجيل في قارة أوروبا. لقد
انفتحت الطريق أمامه وأصبحت الرياح مواتية.

وفي خلال يومين وصل إلى
"نيابوليس" (ميناء فيلبي) وسار على الطريق المرصوف (الطريق الإغناطي
الشهير)، واجتاز الجبال وانحدر على الجانب الآخر، وسار مسافة ثمانية أميال إلى
فيلبي، ولم يكن في فيلبي مجمع لليهود، ولكن كانت هناك جماعة من النسوة المتعبدات،
يجتمعن في يوم السبت في مكان خارج المدينة "عند نهر حيث جرت العادة أن تكون
صلاة" (أع 16: 13)، على بعد نحو ميل إلى الغرب من باب المدينة على شاطئ نهر
"جنجيتس". وتكلم الرسول بولس ورفقاؤه إلى أولئك النسوة، ففتح الرب قلب
ليدية فآمنت بالرب. وبعد ذلك أخرج الرسول بولس "روح العرافة" من جارية،
مما أدى إلى وضعه وسيلا في السجن الداخلي وضبط أرجلهما في المقطرة. ونحو نصف الليل
وهما يصليان ويسبحان اللهن حدثت بغتة زلزلة هزت أساسات السجن وفكت قيود السجناء.
وقد أدى ذلك إلى خلاص السجان وأهل بيته. ولما علم الولاة بأنهما رومانيان، ذهبوا
إليهما وتضرعوا إليهما أن يخرجا من المدينة (أع 16: 16-40).

ففي فيلبي ذاق الرسول بولس
لأول مرة الجلدات الرومانية، وضبط رجليه في المقطرة في سجن روماني، ومع ذلك غادر
المدينة مسروراً لأن جماعة من التلاميذ قد تكونت في فيلبي، وقد ارتبطوا بالرب وبه
ارتباطاً وثيقاً، فعوضه ذلك عن كل الآلام التي عاناها.

ويبدو أن المؤمنين في فيلبي
كانوا من أحب الناس إليه، فقد تجددوا على يديه، ولم يضع أي فرصة متاحة لزيارتهم،
والابتهاج بوجوده بينهم.

وبعد ذلك بنحو ست سنوات، بينما
كان بولس في أفسس، وكان قد أرسل تيطس إلى كورنثوس برسالة إلى الكنيسة هناك، وكان
يريد أن يعرف بأي روح سيستقبلونها، رتب أن يعود إليه تيطس في مكدونية، والأرجح أنه
صرف أيام الانتظار في فيلبي. وإن كان قد التقى بتيطس هناك، فلعله كتب رسالته
الثانية إلى الكنيسة في كورنثوس، في تلك المدينة (2كو 2: 13، 7: 6). ثم عاد الرسول
بولس إلى أفسس. وبعد أن حدث الشغب فيها، غادرها مرة أخرى إلى مكدونية، وزار فيلبي
للمرة الثالثة. والأرجح أنه في ذلك الوقت وعد الفيلبيين بأنه سيعود إليهم ليقضي
معهم أيام عيد الفطير في عام 58 م (أع 20: 2و6).

ونعرف من الرسالة الأولى إلى
تيموثاوس أن الرسول بولس ذهب إلى مكدونية بعد إطلاقه من السجن للمرة الأولى في
رومية، فقد كان الرسول بولس يستمتع بوجوده بين المؤمنين في فيلبي، فقد كانوا
مؤمنين حسب قلبه، فهو يشكر الله عند كل ذكره إياهم لأجل مشاركتهم له "في
الإنجيل من أول يوم إلى الآن" (في 1: 5). ويخاطبهم قائلاً: "يا
أحبائي"، وكيف أنهم أطاعوا كل حين، ليس في حضوره فقط، بل بالأولى جداً في
غيابه (في 2: 12). كما يقول لهم: "يا أخوتي الأحباء والمشتاق إليهم، يا سروري
وإكليلي" (في 4: 1). لقد كانت كنيسة فيلبي كنيسة أثيرة عند الرسول بولس.

 

ثانياً: خصائص
الكنيسة في فيلبي:

(1) – يبدو أنها كانت أقل
الكنائس التي أسسها الرسول بولس يهوداً، فلا توجد أسماء يهودية في قوائم أسماء
المؤمنين في كنيسة فيلبي، المذكورة في العهد الجديد.

(2) – يبدو أن عدد النساء بها
كان أكبر من عدد الرجال، وهو ما يتفق مع ما نعلمه عن المركز الذي كانت تشغله
المرأة في مجتمع مكدونية. فقد جاءت ليدية بكل أسرتها إلى الكنيسة، ولابد أنها كانت
امرأة قوية التأثير، وقد أثر حماسها وتكريسها وكرمها في الآخرين فاقتدوا بها،
فتميزت الكنيسة في فيلبي بهذه السجايا. وقد ذكرت في الرسالة "أفودية
وسنتيخي" اللتان يقول عنهما الرسول أنهما جاهدتا معه في الإنجيل، وأن اسميهما
في سفر الحياة. ولكن يبدو أنهما اختلفتا في أمر ما. ويوصيهما الرسول: "أن
تفتكرا فكراً واحداً في الرب" (في 4: 2و3).

(3) – كان بالكنيسة في فيلبي
بعض الرجال العظام، سواء من المكدونيين أو من المحاربين الرومانيين، كان بولس
يستريح لوجوده بينهم. لقد كانوا فخورين بأنهم رومانيون. ويوصيهم الرسول بولس أن
يعيشوا – كمواطنين – كما يحق لإنجيل المسيح (1: 27). ومع أنهم كانوا يفخرون
برعويتهم الرومانية – كما كان هو أيضاً – فإنه يذكرهم بأنهم قد أصبحوا "رعية
سماوية"، فيقول لهم: "إن سيرتنا (رعويتنا) نحن هي في السموات التي منها
ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح (في 3: 20). وإن "ملكهم" جالس على
عرشه في السماء، وسيأتي ليقيم ملكوته المجيد، لأنه يستطيع أن يخضع لنفسه كل
شيء" (في 3: 21).

(4) – كانت الكنيسة في فيلبي
تتكون من مختلف عناصر السكان بالمدينة، وكانت مدينة يونانية رومانية، وقد أدخل
المسيحية إليها رجلان من اليهود، يتمتعان بالرعوية الرومانية. ورجل نصف يهودي
(تيموثاوس الذي كان من أم يهودية وأب يوناني – أع 16: 1). وكان أول ثلاثة قبلوا الإيمان
في فيلبي: دخيلة يهودية من أسيا، وجارية يونانية، وحافظ السجن الروماني. ولا شك في
أن من آمنوا بعد ذلك كانوا خليطاً من كل هذه الجنسيات والطبقات الاجتماعية. ورغم
ذلك – باستثناء أفودية وسنتيخي – كانوا بفكر واحد في الرب. وكان هذا برهاناً
أكيداً على أنه في المسيح تنصهر كل الفروق البشرية، ويصبح الجميع في انسجام تام،
يعيشون معاً في سلام.

(5) – تميزت الكنيسة في فيلبي
بالسخاء، فقد أعطوا أنفسهم أولاً للرب وللرسول بولس (2كو 8: 5). وكلما كان في
وسعهم أن يساعدوا الرسول بولس أو عمل الإنجيل، كانوا يعطون بفرح حسب طاقتهم بل
وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم (2كو 8: 3)، حتى إن الرسول بولس نفسه اندهش من سخائهم
حتى قال: "إنه في اختبار ضيقة شديدة فاض وفور فرحهم وفقرهم العميق لغنى
سخائهم" (2كو 8: 2). ولا شك في أن الفيلبيين قد ضربوا أروع الأمثلة في البذل
والسخاء. لقد أحبهم الرسول بولس حباً جارفاً، حتى إنه قبل عطاياهم، بينما رفض ذلك
من كنائس أخرى (أع 20: 34، 2كو 11: 7-12، 12: 13)، فقد أرسلوا له معونات مادية
أربع مرات على الأقل، فأرسلوا إليه مرتين بعد قليل من مغادرته لهم وذهابه إلى
تسالونيكي (في 4: 15و16). وعندما ذهب إلى كورنثوس، وكان في احتياج، سد احتياجه
"الأخوة الذين أتوا من مكدونية" (2كو 11: 8و9). فلم يكن سخاؤهم مجرد
حماسة وقتية اختفت باختفاء الرسول عن أعينهم، بل لم تكن صلتهم الشخصية بالرسول هي
التي حفزتهم على العطاء، بل لأنهم كانوا "قد أعطوا أنفسهم أولاً للرب"،
وأدركوا التزامهم بالعطاء لتوصيل الإنجيل للآخرين من خلال خدمة الرسول.

وبعد ذلك بإحدى عشر سنة، سمع
الفيلبيون بأن الرسول في السجن في رومية، وعرفوا أنه في حاجة إلى معونتهم، وكانت
الإحدى عشر سنة كفيلة بإحداث تغيير جذري في عضوية الكنيسة، ولكن من الواضح أنه لم
يتغير شيء في ولاء المؤمنين في فيلبي أو في سخائهم، فقد بادروا إلى إرسال
"أبفرودتس" إلى رومية بعطاياهم وتحياتهم. وفي هذه الرسالة يشكرهم الرسول
لأجل اعتنائهم به الذي "أزهر" مرة أخرى حالما أتيحت لهم الفرصة (في 4:
10). فلا عجب أن الرسول يفخر بهم، ويضعهم قدوة للإخلاص في محبة الآخرين (2كو 8:
8).

 

ثالثاً- خصائص
الرسالة:

(1) – إنها ليست بحثاً مثل
الرسالة إلى الكنيسة في رومية، أو الرسالة إلى العبرانيين، أو رسالة يوحنا الرسول
الأولى، وليست رسالة عامة مملوءة بالملاحظات العامة والتحريضات التي يمكن تطبيقها
في أي مكان وأي زمان مثل الرسالة إلى الكنيسة في أفسس أو رسالة يعقوب ورسالتي
الرسول بطرس، ولكنها رسالة بسيطة لأصدقاء شخصيين، ليس بها مباحث لاهوتية وليس لها
إطار محدد أو سياق منتظم، بل كأي رسالة شخصية تزخر بالأخبار والمشاعر الشخصية
والعواطف المتبادلة بين أحباء حميمين. إنها أكثر رسائل بولس تلقائية.

(2) – إنها رسالة محبة، ففي
كل الرسائل الأخرى نجد مزيجاً من المشاعر، فنجد أحياناً مشاعر حزن أو غضب كما في
الرسالة الثانية إلى الكنيسة في كورنثوس، وأحياناً يبدو أن أهم غرض للرسول بولس من
كتابته هو ترسيخ الحق في مواجهة الأعداء كما في الرسالتين إلى غلاطية ورومية، وفي
غالبية الأحوال يشعر الرسول بأنه مضطر لمعالجة أخطاء من يكتب إليهم، فيوجه إليهم
التحذيرات والتحريضات. ولكنه لا يكتب هذه الرسالة ليعالج خطأ في الكنيسة في فيلبي،
والإشارة الوحيدة إلى ذلك هي إلى اختلاف الفكر بين أفودية وسنتيخي. ومع أن الرسول
كان يرى ضرورة أن تكونا بفكر واحد، إلا أنه من الواضح لم يعتبر ذلك خطراً يتهدد
الكنيسة. وباستثناء هذه الإشارة، لم يكتب الرسول إلا المديح لإخوته الأحباء
والصلاة لكي تزداد محبتهم أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم (في 1: 9)، وأنه يشكر
الله عند كل ذكره إياهم (1: 3). وأنه يُسر بانسكابه على ذبيحة إيمانهم وخدمته (2:
17). ولعل الكنيسة في فيلبي لم تكن مبرزة في المواهب الروحية مثلما كانت الكنيسة
في كورنثوس، لكن كانت لها ثمار الروح القدس على أغزر ما تكون. ويبدو أن الرسول لم
يجدها في حاجة إلاَّ إلى الفرح بامتيازاتها الروحية، وأن تنمو في النعمة وفي فكر
المسيح. وكان قلبه مفعماً بالشكر والمحبة وهو يكتب الرسالة، فهو يفرح إذ يذكرهم،
وكان سلامه القلبي ورجاؤه ينتصران على كل ما يكتنفه من الضيقات والاضطهادات، بل
على الموت الذي كان يتوقعه. وإذا كانت هذه الرسالة هي وصيته الأخيرة إلى كنيسته
المحبوبة – كما يدعوها هولتزمان – فلم يكن لديه ما يسلمه إليهم سوى بركته غير
المحدودة، فإذ أحبهم من البداية فهو يحبهم أيضاً إلى المنتهى.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ص صرفة 1

(3) – رسالة فرح: فكما قال
"بنجل" (
Bengel) – إن
خلاصة الرسالة هي: "أنا أفرح فافرحوا أنتم". لقد كان الرسول بولس
إنساناً لا ترهبه أي ظروف، قد يُجلد في مدينة، ويُرجم في أخرى، ويُسجن في مدينة
ثالثة، ويُترك بين حي وميت في مدينة رابعة. ولكن حالما كان يسترد وعيه. كان يفرح،
فلم يكن يسلبه فرحه شيء (وتتكرر كلمة "فرح" ومشتقاتها 16 مرة في هذه
الرسالة) ولم يكن ثمة شيء يعكر سلامه، فقد جُلد في فيلبي، ووضع في السجن الداخلي،
وضبطت رجلاه في المقطرة، ولكنه في نصف الليل، كان هو وسيلا يصليان ويسبحان الله.
وعند كتابة هذه الرسالة، كان في السجن في رومية، ولكنه كان يستمتع – كالعهد به –
بالفرح، رغم أن هذه الظروف كانت كفيلة بأن تدفع إلى الإحباط والكآبة، فأينما ذهب
يكرز بالإنجيل، كان لا يجد سوى الاحتقار والاضطهاد. لقد شنع عليه اليهود وضايقوه
كثيراً، كما أن كثيرين ممن اعترفوا بإيمانهم لم يكن إيمانهم صادقاً. لقد انصرمت
سنوات اتسعت فيها الثغرة بينه وبين إخوته من اليهود، وأخيراً نجحوا في وضعه في
السجن وإبقائه فيه سنوات. والحياة في السجون حياة صعبة، فكم بالحري كانت في تلك
الأيام الغابرة.

لقد كان بولس متوقد الروح،
فكان من الصعب عليه أن يُسجن وتُقيد حركته. لقد كان مرسلاً عالمياً يتسع مجال
خدمته ليشمل كل القارات حاملاً رسالة المسيح، فكان وضعه في السجن شبيهاً بوضع نسر
في قفص. وما أكثر النسور التي تنتابها الكآبة في الأسر فتموت، ولكن بولس لم يكتئب،
بل كان يتمتع بالفرح والسلام، فيكتب لهم قائلاً: "إن أموري قد آلت أكثر إلى
تقدم الإنجيل… وبهذا أنا أفرح، وسأفرح أيضاً" (في 1: 12و18). فإيمانه لم
يتزعزع، ورجاؤه لم يضعف. كانت ينابيع أفراحه عميقة دائمة لا تنضب أبداً، فلم يعتره
القلق، إذ كان "سلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلبه وأفكاره في المسيح
يسوع" (4: 7). فالنغمة الأساسية في هذه الرسالة هي: "افرحوا في الرب كل
حين، وأقول أيضاً افرحوا" (4: 4).

في هذه الرسالة القصيرة
يستخدم بولس الشيخ – وهو في السجن – كلمات الفرح والسلام والشكر نحو عشرين مرة،
فهي رسالة تفيض بالفرح.

(4) – أهميتها لاهوتياً: إن
لهذه الرسالة أهمية لاهوتية بالغة، فهذه الرسالة التي تبدو مجرد رسالة شخصية
بسيطة، تحتوي على أروع إعلان عن حقيقة تجسد المسيح. لقد كان أمامه هدف عملي، كان
يحرض الفيلبيين على التواضع، فقال لهم: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح
يسوع أيضاً… الذي أخلى نفسه آخذاً صورة عبد… لذلك رفَّعه الله أيضاً وأعطاه
اسماً فوق كل اسم" (في 2: 5-11). إنها عبارة من أروع وأعمق العبارات عن
"التجسد" في العهد الجديد، فيها نجد الحل لسر مجيء المخلص وخطة الخلاص.
فهنا نجد أعظم الحقائق عن المسيح "الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن
يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه… وأطاع حتى الموت موت الصليب". عبارات
رائعة تعلن أعظم الحقائق في أدق إيجاز، إنها تاج الإعلانات عن تجسد المسيح في
رسائل بولس.

 

رابعاً: أصالة
الرسالة:

ينعقد الإجماع الآن على أصالة
الرسالة إلى الكنيسة في فيلبي، فقد اعترف بها "ماركيون"، وذكرت في
الوثيقة المارتورية، وتوجد في الترجمة السريانية (البشيطة)، وفي الترجمات
اللاتينية، وقد ذكرها بوليكاربوس واتقبس منها في رسائله إلى ليون وفينا، وورد
ذكرها في رسالة "ديوجنيتوس" (
Diogentus)، وفي كتابات إيريناوس وأكليمندس السكندري، ويلخص
"ماكجفرت" (
Mcgiffert)
الموقف بالقول: إنه لمما لا يعقل أن يقوم شخص آخر (غير بولس) بكتابة رسالة ينسبها
لبولس، بدون أي دافع تعلمي أو كنسي، والتي يبرز فيها العنصر الشخصي، وتبدو فيها
سمات الرسول بكل هذه القوة والوضوح، إن الرسالة جديرة بأن توضع إلى جانب رسائله –
التي لا يحيط بها أي شك – إلى غلاطية وكورنثوس ورومية – وأن تعتبر معياراً للحكم
على أي كتابات أخرى يُشك في أصالتها".

 

خامساً: مكان وزمان
كتابة الرسالة:

من الواضح الجلي أن بولس كتب
الرسالة إلى الكنيسة في فيلبي، وهو في السجن (1: 12، 13). ولكن ليس من الواضح في
أي سجن كان. إن أرجح الاحتمالات أنه كان في رومية، وفي تلك الحالة يكون تاريخ
كتابة الرسالة هو حوالي 62 م. ولكن يرى البعض بأن الرحلات التي تتضمنها بعض عبارات
الرسالة (4: 14، 2: 25-26) كان من الصعب القيام بها إلى هذا المكان البعيد
(فالفيلبيون يسمعون بأن بولس في السجن، فيرسلون له عطية مع "أبفرودتس"،
ويسمع "أبفرودتس" وهو في رومية أن إخوته في فيلبي قد سمعوا بمرضه)، لذلك
فهم يرون أن الإشارة هي إلى سجن في أفسس (حوالي 55م)، أو في قيصرية (حوالي 58م).
ونحن نعلم أن الرسول بولس قد سُجن في قيصرية (أع 23: 33-35). ولكن عبارة:
"يسلم عليكم.. الذين من بيت قيصر" (في 4: 22) يصعب فهم المقصود منها، لو
أن الرسالة كانت قد كتبت في قيصرية. أما أفسس، فلا شك أنها كانت أقربها إلى فيلبي
مما كان يسهل معه تبادل الرسائل والقيام بالرحلات العديدة بينها وبين فيلبي، ولكن
ليس ثمة إشارة إلى أن الرسول بولس سُجن في أفسس رغم ما يسلم به الجميع من دقة لوقا
كمؤرخ. ولكن يزعم البعض أن الرسول بولس وضع في حبس احتياطي في أثناء حدوث الشغب في
أفسس (أع 19: 30و31)، ولكن مثل هذا الحبس لم يكن ليؤدي بالرسول بولس أن يظن أنه قد
جاء الوقت لانطلاقه (بالاستشهاد) ليكون "مع المسيح" (في 1: 23)، إذ أن
ذلك يدل على أنه كان يتوقع الحكم عليه بالإعدام من محكمة لا إستئناف بعدها. ولذلك
فالأرجح أنها كتبت في المكان التقليدي لكتابة الرسالة، وهو رومية، وبخاصة أن بولس
قضى في سجن رومية سنتين على الأقل (أع 28: 30)، وكانت الرحلة من فيلبي إلى رومية
في ذلك العصر تستغرق نحو ثلاثة أسابيع.

 

سادساً – موجز السفر:

(أ) – المسيح فرح المؤمن (1:
1-30)

(1) المرسل والتحية (1: 1و2)

(2) الصلاة بفرح لأجل
الفيلبيين (1: 3-11)

(3) الفرح رغم الألم
والأدعياء (1: 12-18)

(4) الفرح رغم احتمال اقتراب
الموت (1: 19-30).

(ب) المسيح مثال المؤمن (2:
1-30)

(1) التوصية بالوحدة (2: 1-4)

(2) التوصية بالتواضع (2:
5-11)

اتضاع المسيح (2: 5-8)

رفعة المسيح (2: 9-11)

(3) دعوة للمعيشة المسيحية
الإيجابية (2: 12-18)

(4) بولس يوصي الكنيسة
برفقائه (2: 19-20)

(ج) المسيح رجاء المؤمن (3:
1-21)

(1) تحذير من الناموسية (3:
1-3)

(2) وصف بولس لحياته قبل وبعد
التجديد (3: 4-14).

(3) مثال شخصي للموقف السليم
(3: 15-19)

(4) مصير المؤمن الحقيقي (3:
20و21).

(د) المسيح كفاية المؤمن (4:
1-23)

(1) دعوة للفرح (1: 1-4).

(2) تحريض على تسليم كل شئون
الحياة للمسيح (4: 5-7)

(3) الصيغة المسيحية السليمة
للتفكير والتصرف (4: 8و9).

(4) تقديم الشكر للفيلبيين
(4: 10-20).

(5) التحية الختامية (4:
21-23).

سابعاً – محتويات الرسالة:

(1) التحية والصلاة الافتتاحية
(1: 1-11):

يقدم الرسول بولس في الفقرة
الافتتاحية من الرسالة أهم الموضوعات التي سيكتب لهم عنها، فيعبر لهم عن مكانتهم
منه بالقول: "لأني حافظكم في قلبي… أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع
المسيح" (1: 7و8). وهذه العواطف الدافئة المتدفقة المضحية تتخلل كل الرسالة.
ومن الملاحظ أيضاً أن الرسالة تبدأ وتنتهي بمواضيع "النعمة"
و"القديسين" (1: 1و2، 4: 21-23), فقد كانت تشغل فكر بولس كل الوقت نعمة
المسيح الفائقة التي تمتد إلى الإنسان الخاطئ وتغيِّره وتفصله عن العالم. أما
"القديسون" فهم الذين تعاملت معهم هذه النعمة فتغيروا قلباً وفكراً، حتى
إن محبتهم كانت "تزداد أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم" (1: 9).

وثمة موضوعان عظيمان يظهران
هنا. فنجد كلمة "يفكر" (وهي "فرونيو" – "
Phroneo" في اليونانية) ومشتقاتها ترد في
هذه الرسالة القصيرة أكثر من عشر مرات (بينما لا ترد إلا سبع مرات في الرسالة إلى
رومية)، فقد كان أمراً حيوياً عند الرسول بولس أن التفكير الحكيم هو لب الحياة
المسيحية. وفي هذه الأعداد الافتتاحية، يبين بجلاء أن المحبة التي يكنها من نحوهم،
هي في الواقع الأسلوب المسيحي للتفكير فيهم، فيقول: "كما يحق لي أن أفتكر هذا
من جهة جميعكم" (1: 7). ويؤدي هذا إلى تأكيد أمر آخر، هو "النمو"،
فالفكر المسيحي لا يظهر بين عشية وضحاها، لكنه ينمو "ويزداد أكثر فأكثر"
(1: 9). ويجب على المؤمن أن يعمل على نموهم فكرياً، حتى تكون لديهم قوة التمييز
التي تستطيع أن تغير سلوكهم وتُعدَّهم "ليوم المسيح" (1: 6و10و11).

ثم نلاحظ في هذه الصلاة
الافتتاحية تأكيده على الإنجيل وعلى الشركة، مرتبطين – في صلاة بولس – بالشكر
(للفيلبيين" لمشاركتهم في الإنجيل" (1: 5و7)، كما يذكر موضوعاً عظيماً
آخر هو موضوع "الفرح" (1: 4). فهذه المواضيع الثلاثة مواضيع جوهرية في كل
الرسالة.

(2) – بولس وسجنه وكيف يتعظم
المسيح فيه (1: 21-26): يكتب الرسول بولس عن موقفه هو، ليقدم لب رسالته، لأنه
عندما يكتب "لي الحياة هي المسيح" (1: 21)، فإنه يعني أكثر من أن كل
لحظة يحياها إنما يقضيها في شركة مع الرب وفي خدمته، بل يعني أيضاً أ،ه في شخصه
وتصرفاته يُظهر المسيح بل "يحياه"، كما يقول في رسالته إلى غلاطية: أحيا
لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ (غل 2: 20). لذلك استطاع أن يقول بعد ذلك: "وما
تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيَّ، فهذا افعلوا" (4: 9). وقليلون من
خدام المسيح هم الذين يجرؤون على أن يقولوا مثل هذا القول، ولكن بولس كان يؤمن أنه
كرسول للمسيح، كان من امتيازه لا أن يتكلم عن المسيح فحسب، بل أيضاً أن يحيا حياة
المسيح أو أن يحيا المسيح فيه، وإن كان هذا يعني المعاناة والاتضاع.

وثمة صعوبتان تاريخيتان هنا:
أولاهما هي تصور الموقف الذي يشير إليه الرسول في الأعداد 1: 12-18، إذ يبدو أن
الكنيسة في رومية (إذا كانت رومية هي التي كتب فيها هذه الرسالة) كانت منقسمة فيما
يختص بسجنه، فكان البعض مسرورين لذلك، لأنه أتاح لهم أن يكرزوا بالإنجيل كما
يريدون، ولم يكن هذا ليزعج بولس، فهو يقول: "سواء كان بعلة أم بحق، ينادى بالمسيح،
وبهذا أنا أفرح" (1: 18). ولما كان الرسول بولس حريصاً دائماً على الدفاع عن
نقاوة الكلمة التي ينادي بها، فلابد أن أولئك المبشرين لم يكونوا على خطأ فادح.

والصعوبة التاريخية الثانية
نجدها في الأعداد 19-26، فبينما يبدو أن بولس لم يكن يعرف ما سيسفر عنه سجنه (1:
19- 26)، فإنه يبدو وكأنه كان بيده أن يختار الحياة أو الموت (1: 22). وأخيراً
يقول للفيلبيين إنه واثق من أنه "سيبقى" (1: 25). ولعل أفضل تفسير لذلك
هو أن بولس تلقى تأكيداً من الروح القدس بأن سجنه هذا لن ينتهي بإعدامه.

هل تبحث عن  م المسيح المسيح هل قال أنا الله أو أنا الرب المعبود 04

(3) – الحياة كما يحق للإنجيل
(1: 27-2: 18): وينتهي هذا الجزء أيضاً بالفرح كما انتهى الجزء السابق. وما يقوله
في هذا الجزء يتلخص في التحريض الوارد في العدد السابع والعشرين، فبولس يريد ألا
تكون هناك فجوة بين ما يعترف به المؤمنون في فيلبي وبين ما يعيشونه، بل أن يكون
إنجيل العقيدة هو الإنجيل المُعاش أيضاً. ويحتوي هذا الجزء على أربعة أقسام يمكن
تصنيفها كالآتي:

(أ) 1: 27-30، الحياة الجديرة
باسمها في وسط عالم معادٍ. (ب) 2: 1-4، الحياة الجديرة باسمها في شركة المؤمنين.
(ج) 2: 5-11، الإنجيل الذي يلهمنا. (د) 2: 12-18، أولويات الحياة كما يحق للإنجيل.

ويأبى الرسول أن يترك
الفيلبيين يظنون أنه أسوأ حالاً منهم، فيقول لهم: "إذ لكم الجهاد عينه الذي
رأيتموه فيَّ والآن تسمعون فيَّ (1: 20)، لأن الألم من يد عالم مُعادٍ، جزء لا
يتجزأ من التلمذة للمسيح، فإذا كنا نعترف بأننا نؤمن بإنجيل المسيح، الذي رغم أنه معادل
لله، أخلى نفسه، ولم يتجسد فقط، بل أطاع حتى الموت، موت الصليب (2: 6-8). فعلينا
ألاَّ ننظر للألم كشر لابد منه، بل كامتياز، "لأنه وهب لكم لأجل المسيح لا أن
تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتأملوا لأجله" (1: 29).

والأمر الجوهري الذي كان
يلزمهم لمواجهة عداء العالم بنجاح، هو الوحدة، فكان يجب عليهم أن يكونوا
"مجاهدين معاً بنفس واحدة لإيمان الإنجيل" (1: 27). فإيمانهم بإنجيل
واحد يكون منهم جبهة متحدة ضد العالم، وليس مجرد جبهة دفاعية.

ويواصل كلامه عن الوحدة في
الأصحاح الثاني حيث يعود الرسول بحديثه إلى حياة الشركة (2: 1-4)، وكأنه يقول لهم
إن الوحدة الخارجية في مواجهة العالم، لا يمكن أن تتحقق إلا متى كانت قلوبهم
وأفكارهم متحدة تماماً في المحبة والروح والهدف (2: 2) مهما كان موقفهم الخارجي.
ولا تتحقق هذه الوحدة إلاَّ إذا توفرت "أحشاء ورأفة" (2: 1) بينهم،
فالترتيب الجميل في العدد الأول، يصل إلى ذروته في هذه العبارة، التي تؤدي بدورها
إلى الأنشودة الشهيرة في 2: 6-11، ومثل هذه الرأقة (أو الرقة) لا يمكن أن تجد لها
مكاناً في قلوبهم إلاَّ متى آمنوا بالإنجيل الذي تتغنى به هذه الأنشودة.

وسواء كانت الأعداد 2: 6-11
ترنيمة حقيقية كان يترنم بها المؤمنون الأوائل في العبادة، أم لم تكن، فهو أمر لا
يمكن الجز به، ولكن المؤكد أن لغة الرسول بولس هنا تأخذ شكل ترنيمة، رغم أنها ليست
صيغة شعرية، ولكنها تنسجم مع سياق الكلام. وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن لهجة بولس
هنا تبدو فريدة في بابها، وهو يعبر عن حقائق تسمو على الإدراك البشري.

(4) مثالان يُحتذيان (2:
19-30): يكتب لهم الرسول عن موقفه وخططه، فيوضح لهم سبب إرساله الرسالة بيد
"أبفرودتس" وليس بيد "تيموثاوس"، ولكنه يتخذ من الاثنين
مثالين عمليين للحياة كما يحق للإنجيل. فتيموثاوس "يهتم بأحوالكم
بإخلاص" (2: 20)، لأنه ليس مثل الباقيين، لأنه لا يطلب ما لنفسه بل ما هو
ليسوع المسيح (2: 21)، فهو يعيش الإنجيل، مكرساً لخدمة الإنجيل (2: 22)، ومثله كان
"أبفرودتس"، وإن كان بصورة أخرى، فاتحاده بالمسيح لا يظهر بوضوح في
خدمته للإنجيل ولرفقائه من المؤمنين، كما يظهر في مرضه الذي عاناه في غربته. فهو
تمثل بالمسيح في المخاطرة بنفسه حتى الموت، ومثل المسيح عاد للحياة (2: 27-30)،
وسيعود إلى إخوته المؤمنين في فيلبي ليفرحوا بعودته.

(6) السعي إلى الأمام والثبات
(3: 1-4: 1): ويبدأ هذا القسم وينتهي أيضاً بنغمة الفرح (3: 1، 4: 1)، ليس جزافاً،
لأن طريق الصليب التي يرسمها بولس هي أيضاً طريق الفرح (انظر أيضاً عب 12: 2)، كما
أن هذا القسم يبدأ وينتهي بعبارة "يا أخوتي". ولم يكن هذا أيضاً جزافاً،
لأنه مرة أخرى يكتب بولس في هذا القسم عن نفسه، وكيف أنه كان مثالاً في اختباره،
وأن على من يكتب إليهم، أن يسعوا ليكونوا مثله في حياتهم، فيقول لهم: "كونوا
متمثلين بي معاً أيها الأخوة" (في 3: 17)، فبعد أن وضع أمامهم تيموثاوس
وأبفرودتس كأمثلة، يضع الآن نفسه مثالاً لهم.

وتتغير النغمة تغيراً مفاجئاً
في العدد الثاني من الأصحاح الثالث عندما يحذرهم من "الكلاب"، والأرجح
أنهم هم أنفسهم الذين يدعوهم "المقاومين" (1: 28)، ولكنه هنا يحددهم
ليبين للفيلبيين أن الحياة المسيحية هي على النقيض تماماً من القيم التي يعتنقها
مقاوموهم.

ويبدو أنهم كانوا يهوداً مثل
الذين قاوموا الرسول في تسالونيكي القريبة من فيلبي (أع 17: 5)، فهم يعتقدون أنهم
شعب الله المختار، وهو مايسميه الرسول "الاتكال على الجسد" (3: 4)،
ويظنون أنهم يعرفون طريق البر، وأنها طريق الطاعة التامة للناموس في كل دقائق
الحياة، ولكن بولس يصفها بأنها السعي "للبر الذي من الناموس" (3: 9)
الذي لا علاقة له إطلاقاً بالبر الذي يمنحه الله في المسيح. ويواصل كلامه مؤكداً
أن الطريق الوحيد ليكونوا شعباً لله هو طريق الذات، فإن كل ما كان يعتز به قبلاً
كيهودي، أصبح الآن يعتبره "نفاية" (3: 8)، فالطريق الوحيد للحصول على
البر هو الإيمان بالمسيح (3: 9)، إذ يجب أن تتشبه به في موته، إذا أردت أن تعرف
قوة قيامته (3: 10). فالموت مع المسيح – عند بولس – لم يكن يعني فقط معاناة السجن
والكثير من الآلام لأجل المسيح، بل كان يعني أيضاً التخلي عن كل الامتيازات التي
كانت له كيهودي.

ومن السهل أن نرى كيف كان
بولس موضع اتهام، ليس من اليهود فقط، بل ومن المسيحيين المتهودين أيضاً. ولكن بولس
كان يعلم أن الخلاص – أولاً وأخيراً – هو في المسيح، وأي شيء يمكن أن يشغل مكانه
يجب أن يُطرح جانباً. فوضع ثقة الإنسان في ميراثه اليهودي، هو تفكير "في
الأرضيات" (3: 19)، أما وضع الثقة في المسيح، فهو أن يكون قلب الإنسان في المدينة
السماوية، وانتظار أخذه إليها (3: 20و21).

(6) – التفكير والفرح
والمشاركة (4: 2-23). وتتغير النغمة مرة أخرى، فجأة (في 4: 2، 4: 10)، لدرجة أن
البعض يرون أن الرسالة إلى فيلبي مجموعة من جملة رسائل، ولكن هذه نظرة خاطئة ناتجة
عن سوء فهم لأسلوب الرسول بولس في التفكير، وعدم رؤية الرابط الخفي الذي يستلزم
التأمل الدقيق لاستجلائه.

عندما يتحول الرسول لمخاطبة
"أفودية وسنتيخي" (4: 2)، فهو في الواقع لا يُغيِّر الموضوع، فالرابط
بين هذا الجزء وما قبله، هو نفس الرابط بين 1: 27-30 والفقرة الأولى من الأصحاح
الثاني، إذ كيف يمكن للمؤمنين أن يقفوا في وجه "أعداء صليب المسيح" (3:
18)، إذ كانوا ممزقين وفي نزاع بين بعضهم البعض؟ فإذا لم يكن هناك سوى إنجيل واحد،
فوجود عدم انسجام بين المؤمنين، معناه أن الإنجيل ليس له كامل تأثيره. ولذلك يطلب
من "أفودية وسنتيخي" أن تفتكرا فكراً واحداً في الرب" (4: 2)،
ويذكرهما بالوحدة العجيبة التي وجداها في مجاهدتهما معاً "في الإنجيل"
(4: 3).

وهذا "الوفاق" الذي
يحثهما الرسول بولس على تحقيقه، ليس التماثل التام في الآراء من جهة كل الموضوعات،
ولكنه يعني "وحدة القلب" في المحبة المشتركة للمسيح والإنجيل، ويبين
الرسول في باقي الرسالة ماذا تعنيه هذه الوحدة عملياً، سواء فيما يجب أن تعنيه،
وما عنته فعلاً للفيلبيين، فاستخدم العقل أمر حيوي، ويقدم الرسول في الأعداد 4-9
صورة للحياة المسيحية التي تؤدي فيها الصلاة الدقيقة الواعية (4: 6و7)، والتوجيه
الإرادي للفكر إلى "كل ما هو حق…" (4: 8)، إلى حياة تتميز بصفتين
هامتين هما السلام والفرح مهما كانت الظروف (فالعدد السابع يوازن العبارة الثانية
من العدد التاسع، ويقف العدد الرابع على رأس كل هذا الجزء).

ويؤدي هذا بنا إلى الجزء
الأخير الذي فيه يشكر الرسول بولس الفيلبيين، رغم ذلك لاشقاق البادي في ناحية من
الكنيسة في فيلبي، إلا أن الكنيسة ككل، قد أظهرت "الفكر" المسيحي
الواحد، إذ أبدوا هذه الوحدة مع بولس في مشاركتهم له في الإنجيل، بإرسال عطيتهم مع
"أبفرودتس"، فيكتب لهم قائلاً: "إنكم فعلتم حسناً إذ اشتركتم في
ضيقتي" (4: 14)، فتعود بنا أفكارنا إلى الأنشودة الرائعة في 2: 6-11، لأن هذه
المشاركة تنبع من إنجيل المسيح الذي جاء من السماء ليحمل خطايانا، ومن هنا أيضاً
جاء موقف بولس أمام مختلف الظروف، "أعرف أن أتضع (نفس الكلمة في 2: 8)، وأعرف
أيضاً أن أستفضل" (4: 12)، فبالارتباط بالمسيح، لا نقلق من جهة احتياجنا (4:
7 مع 4: 6)، ولكن نشترك معه ومع الآخرين في الاتضاع والارتفاع كما يشاء واثقين أن
"يملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (4: 19).

 

شرح السفر

فيلبي 1 – 4

كان أعداء المسيح الدينيون قد
تتبعوا بولس عبر آسيا وأوروبا وأخيرا تمكنوا من اعتقاله في قيصرية حيث مكث لمدة
سنتين. ونتيجة لتظلمه، فلقد تم نقله إلى روما لكي يحاكم أمام الإمبراطور. وبما أن
بولس كان رومانيا، فلقد كان من حقه أن يستأجر بيتا خاصا به، بشرط أن يظل مقيدا
نهارا وليلا مع أحد الجنود الرومان.

فبينما استطاع أعداء بولس أن
يوقفوه عن التبشير في اليهودية، إلا أن سجنه أعطاه الفرصة أن يشارك الأخبار السارة
عن يسوع المسيح مع جنود الإمبراطورية الرومانية. وقد كانت هذه فرصة عظيمة إذ كان
يتم تغيير الحرس ربما ثلاث أو أربع مرات في اليوم. وقد كتب بولس إلى أهل فيلبي
قائلا: أريد أن تعلموا أيها الإخوة أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل، حتى أن
وثقي قد صارت ظاهرة في المسيح [أي أصبح الجميع يعلمون أني مسجون من أجل خدمة
المسيح] في كل دار الولاية وفي باقي الأماكن أجمع (فيلبي 12:1-13). وقد عرف أيضا
الجميع من بولس أنه مسرور بترك مصير حياته ومماته بالكامل في يدي الرب.

وقد أصبح الكثيرون من بيت
قيصر (فيلبي 22:4) أتباعا للمسيح من خلال شهادة ذلك السجين. فإنه لم يسجن من أجل
سرقة أو قتل أو أي عمل شرير، بل من أجل تعريف الآخرين بطريق الخلاص. وقد تخلى عن
العمل المرموق واختار بدلا منه أن يعيش حياة التعب المتواصل والمشقات والاضطهادات
والتي انتهت بالموت العنيف. لكنه فعل ذلك بدون تردد، ولعلمه بما ينتظره في
المستقبل قال: من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية… لأعرفه… وقوة
قيامته (فيلبي 8:3،10).

لدى كل منا رغبة طبيعية
للأشياء المادية. فنتعلق ببيوتنا وبالأشخاص المحيطين بنا. لكن الرسول بولس كان قد
تغلب على الأشياء المادية المجردة، وكانت خططه وآماله وأفكاره كلها مركزة في
المسيح. كان المسيح هو حياته وهذا يظهر في إشاراته المتعددة إلى المسيح يسوع الرب
في هذه الرسالة الصغيرة، رسالة الفرح.

والسؤال الهام الذي يخص كل
واحد منا الآن هو: هل أنا متمسك بكلمة الحياة لافتخاري في يوم المسيح [أي لأجد
شيئا أفتخر به في يوم يسوع المسيح] بأني لم أسع باطلا ولا تعبت باطلا؟ (فيلبي
16:2).

قد يكون عملنا في هذه الحياة
في السياسة، أو الجيش، أو التجارة، أو التعليم، أو الحرف اليدوية، أو تدبير
المنزل. ولكن بغض النظر عن أعمالنا، يجب أن يكون لنا هدف واحد في الحياة هو أن
نفعل في كل حين ما يرضيه (يوحنا 29:8).

لا يمكننا بعد الآن أن نتخذ
من الظروف عذرا لكي نعفي أنفسنا من المشاركة في خدمة المسيح – لأن ما فعله بولس في
سجن روما يمكن أن يحدث في أي مكان آخر. لقد تعلم بولس أن الله يستخدم عادة
العداوات لينمي فينا الصبر ويختبر محبتنا، وذلك من أجل تقدم الإنجيل. فالمسيحية
الحقيقية هي التشبه بالمسيح، ودعوة المسيح الوحيدة هي هذه: كما أرسلني الآب أرسلكم
أنا (يوحنا 21:20).

يجب أن تكون خسائرنا الشخصية
ثانوية في تحديد قراراتنا لأن ولاءنا هو للمسيح؛ لذلك دعونا نقول أيضا مع بولس: لي
الحياة هي المسيح، والموت هو ربح (فيلبي 21:1).

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي