الإصحَاحُ
الثَّانِي

 

1
فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّ جِهَادٍ لِي لأَجْلِكُمْ، وَلأَجْلِ
ٱلَّذِينَ فِي لاَوُدِكِيَّةَ، وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَرَوْا
وَجْهِي فِي ٱلْجَسَدِ، 2 لِكَيْ تَتَعَزَّى قُلُوبُهُمْ مُقْتَرِنَةً فِي
ٱلْمَحَبَّةِ لِكُلِّ غِنَى يَقِينِ ٱلْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ
ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلْمَسِيحِ، 3 ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ
جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ.

في
هذه الآيات المجيدة يظهر لنا قلب بولس المفعم بالحب من أجل المؤمنين. إنه يجوز
جهاداً عظيماً من أجل المسيحيين حتى الذين لم يرهم وجهاً لوجه من أهل لاودكية،
الذي كانوا في خطر الضلال ولهذا جاهد.

وكلمة
جهاد التي استعملها الرسول هنا، تحمل أيضاً معنى الكرب الشديد. وهذا يدل على أنه
كافح شديداً من أجل الذين يحبهم، ويفكر فيهم بالرغم من قيوده في سجن رومية، وهو
يتوقع المحاكمة التي قد تنتهي بالموت. فبأية صورة كان جهاده؟

كان
جهاد صلاة، ولعله كان بدافع من شوقه الشديد إلى زيارة كولوسي. حيث كانت رغبته ملحة
للوقوف في وجه المعلمين المضلين، ويفند آراؤهم دفاعاً عن الإيمان المسلّم
للقديسين. ولكن هذا السجن الذي احتجزه، بحيث لم يبق لديه من وسيلة إلا الصلاة،
ولأجل هذا اتخذت صلاته شكل الجهاد، لأجل الذي منعته القيود من الذهاب إليهم.

وكان
عليه أن يجاهد أيضاً من أجل نفسه، لأنه كان ينتظر المحاكمة أمام نيرون الطاغية،
ويتوقع أن يطيح هذا الظالم برأسه، فيما كان ذهنه مملوءاً بالمشاريع من أجل نشر
الإنجيل.

كان
من السهل عليه أن يتخلى عن حق الإنجيل حباً في البقاء، ولكن بولس كان أميناً حتى
الموت. والأمانة عززت شجاعته، ليقف ويشهد للحق أمام عظماء رومية. وفوق هذا فإن
بولس كان يعلم أن أي تخاذل من قبله، كان سيؤدي إلى ضياع المؤمنين في كولوسي وغيرها
من الكنائس. لذلك لم يكن جهاده من أجل نفسه فقط، بل أيضاً من أجل أولئك الذين
اعتبروه قائداً وأباً لهم في الإيمان.

ونحن
نحسن صنعاً إذا ذكرنا عند اتخاذ أي موقف لنا في حياتنا، إن هناك أناساً يرمقوننا
بحيث يتحتم علينا، أن نلاحظ سيرتنا، ونجاهد بقوة من أجل تجنيبهم العثرات، عالمين
أن كرامة المسيح بين أيدينا.

ونلاحظ
أن بولس حذا حذو يسوع حين بدا يعزي تلاميذه وهو مزمع أن يفارقهم. واستهل خطابه
بالقول: «لا تضطرب قلوبكم». والتعزية من هذا النوع ليس فقط تدخل السلوان إلى القلب
بل تقوي أيضاً الإيمان بالإنجيل، وفقاً لقوله لأهل رومية: «لِنَتَعَزَّى بَيْنَكُمْ
بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِينَا جَمِيعاً، إِيمَانِكُمْ وَإِيمَانِي»
(رومية 1: 12). وقد قرن الرسول التعزية بالمحبة لأن المحبة رباط الكمال، وهي شرط
الاتحاد. والكنيسة أو المؤسسة التي يبني أفرادها على المحبة، يتشدد رجاؤهم
ويقاومون الضلال.

ونرى
أن الرسول أراد أن يحلّق المؤمنون في أجواء الإعلان، حتى يتيقنوا أن سرّ الله الآب
ليس سوى سرّ المسيح. وإن سّر المسيح ليس سوى سرّ الله الآب، بدليل أن جوهر الآب
والابن واحد. فلولا مجيء يسوع في الجسد، لبقي الله بالنسبة لنا ذلك الإله المحتجب.
ولكن لسعادتنا أنه أعلن بالمسيح، المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم الصحيح.
وإنما هذه الكنوز مخفاة عن العقول الدنيوية مهما كان فهمها غزيراً ومعلنة لمن فتح
الله عيون قلوبهم، مهما كانوا بسطاء بدليل قول المسيح: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا
ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ
هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا
لِلأَطْفَالِ» (الإنجيل بحسب متّى 11: 25) ونلاحظ هنا أن المسيح لم يشكر أباه لأنه
أخفى الحق عن بعض الناس، بل شكر على أنه أظهره للأطفال.

وقد
عبّر الرسول عن فوائد الحكمة الروحية «بالكنوز» بياناً لقيمتها العظيمة لنفس
الإنسان، إذ هي تؤكد له الخلاص من الخطية والموت، وتجعله سيداً إلى الأبد في
السماء. وعلى هذا شبه يسوع ملكوت المسوات بكنز مخفي (الإنجيل بحسب متّى 13: 44).

هل
عرفت يا أخي أن في ملكوت السموات فقط الغنى الحقيقي، لأن فيه رضى الله والحياة
الأبدية، والميراث، الذي لا يفنى، ولا يتدنس ولا يضمحل. وهذا وحده يشبع نفس
الإنسان؟ وأفضل ما في الكنز السماوي، «ٱلْمَسِيحِ ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ
جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (الرسالة إلى كولوسي 2: 3)
فليتك تسارع إلى اقتناء هذا الكنز الثمين، متمثلاً بذلك التاجر الحكيم، الذي لما
وجد لؤلؤة ثمينة، مضى وباع كل ما كان له واشتراها.

الصلاة:
اللهم، لك الشكر والتعظيم، من أجل بركاتك المذخرة لنا في المسيح يسوع ربنا. نحن لا
نستطيع أن نرد لك حسناتك. ولكن يطيب لنا أن نشكرك من أجل الفادي المحب، الذي حصل
لنا الرضى. فثبتنا في هذا الرضى وليكن لك المجد في حياتنا إلى المنتهى آمين.

 

4
وَإِنَّمَا أَقُولُ هٰذَا لِئَلاَّ يَخْدَعَكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ مَلِقٍ، 5
فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِباً فِي ٱلْجَسَدِ لٰكِنِّي مَعَكُمْ فِي
ٱلرُّوحِ، فَرِحاً، وَنَاظِراً تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي
ٱلْمَسِيحِ. 6 فَكَمَا قَبِلْتُمُ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ ٱلرَّبَّ
ٱسْلُكُوا فِيهِ. 7 مُتَأَصِّلِينَ وَمَبْنِيِّينَ فِيهِ، وَمُوَطَّدِينَ
فِي ٱلإِيمَانِ، كَمَا عُلِّمْتُمْ، مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ
بِٱلشُّكْرِ.

يبدأ
الرسول الكريم هذا الفصل بتحذير الكولوسيين من الانقياد بخداع المعلمين الكذبة،
الذي كانوا عرضة له، بغية أن ينقذهم من الخطر الذي كان يتربص بهم.

الواقع
أنه من علامات الكنيسة الأمينة، أن تكون لها القدرة على مقاومة التعاليم المضلة،
بحيث لا يقدر المبدعون أن يخدعوها بكلام التملق والمداهنة. ولعل الرسول أراد أن لا
يؤخذ المؤمنون بأسرار أخرى وحكمة أخرى، وتكون النتيجة حملهم على مطاوعات ليست من
الله الذي دعاهم والقصد منها التضليل. وغير ذلك من التعاليم التي تتعارض مع
التعليم الذي كرز به الرسول، بدليل قوله: «وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا
بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ، بَلْ
بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُوَّةِ» (رسالة كورنثوس الأولى 2: 4).

المعروف
بين الناس، أنه إذا غاب أحد عن غيره، يحرّر نفسه من كل مسؤولية تجاهه. ولكن الرسول
بولس حقق للكولوسيين أن بعده عنهم لم يحمله على أن يغفل عنهم البتة. بل كان معهم
في الأفكار وحاملاً إياهم في صلواته أمام الرب الإله. بمعنى أنه كان يسهر عليهم،
كأنه حاضر معهم، ولا يفتأ يسأل عنهم ويجاهد من أجلهم لكي يعتبروه كأنه ناظر إليهم
بسلطة رسول المسيح، الأمر الذي من شأنه أن يثبتهم ويمنحهم القوة لمقاومة المضلين.

ولا شك
في أن الرسول سمع من أبفراس أنباء سارة عن حسن تصرفهم في الأمور الروحية، وإدارة
الكنيسة بترتيب يدل على أنها ثابتة في المسيح الذي جعلته مصدر حياتها.

ويذكر
الرسول الكنيسة بالماضي السعيد، حين المسيح يسوع الرب خلّصهم مشيراً إلى تمسكهم
بالمسيح نفسه، باعتبار كونه حياً وحاضراً معهم، وإنهم متحدون به بالإيمان. وإنه
لامتياز عظيم أنهم قبلوا ابن الله وجعلوه ملكهم وربهم ومخلصهم الوحيد ومصدر حياتهم
الجديدة.

ومن
هنا انطلق الرسول فأهاب بهم أن لا يتوقفوا عند حد قبول المسيح، بل أن يسلكوا فيه
أيضاً، عاملين بمقتضى سيرته، وناظرين إليه كمثال في السلوك، كأولاد أحباء نظروا
إليه واستناروا ولعله شدّد على هذه الناحية، لكي يثبتوا ضد فساد المضللين، ولا
يتحولوا عن الإنجيل الذي بشروا به إلى تعليم آخر.

من
علامات الكنيسة الأمينة أن تتمسك بالإيمان الذي تسلمته فلا تنسى التعليم الذي
قبلته عن المسيح الفادي والمخلّص، والذي يرتكز على الحق الذي لا يعتبر، ولا يقبل
التغيير. وهو أن يسوع المسيح، هو الله الذي ظهر في الجسد.

هل
قبلت هذا الحق؟ إن كان نعم فطوباك، لأن «كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ
فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ
ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 1: 12).

ومن
علامات الكنيسة الأمينة، أن تكون متأصلة ومتأسسة في محبة المسيح، «لأَنَّ
ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ
وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ وَيَعْرِفُ ٱللّٰهَ» (رسالة يوحنّا
الأولى 4: 7).

أثبت
فيه فتحصل على امتياز الصلاة المقتدرة كثيراً في فعلها. أثبت في كلامه فتعرف الحق،
والحق يحررك من أوهام التعاليم المضلة، التي كثرت في زمننا، وأوقعت الكثيرين في
الفسق والإلحاد، وكل أمر رديء.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس و وَفسي ي

ومن
علامات الكنيسة الأمينة، امتلاؤها بروح الشكر. الشكر المتزايد والمتفاضل كل يوم.
إن تقديم الشكر هو النغمة الأصلية في لحن الحياة المسيحية. ولا ريب أن تقديم الشكر
هو من امتيازات السلوك المسيحي، وأجمل ألوان الشكر ما كان في الأعمال. ولعل أجمل
ما قاله الرسول في موضوع الشكر، هو ما قاله لأفسسيين: «شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ،
لِلّٰهِ وَٱلآبِ» (الرسالة إلى أفسس 5: 20).

كن
شكوراً لله مصدر البركات الروحية، مهتماً بكل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر على ما
حصلت عليه من بركات، ولتعلم طلباتك لدى الله، الذي يستحق كل شكر وعبادة وتسبيح.

الصلاة:
يا إلهنا الحي، يا مصدر الخير والسلام. نعظم اسمك أيها العلي القدير، ونرفع إليك
شكرنا من كل القلب على صلاحك، وعلى عنياتك بنا. زد إيماننا يا سيدنا الرب، وقو
محبتنا حتى نحبك من كل القلب، لأنك جدير بالحب. ثبتنا فيك، وأصلّنا في محبتك. أوجد
فينا روح الشكر، لكي نشكرك لأجل جميع حسناتك آمين.

 

8
اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِٱلْفَلْسَفَةِ
وَبِغُرُورٍ بَاطِلٍ، حَسَبَ تَقْلِيدِ ٱلنَّاسِ، حَسَبَ أَرْكَانِ
ٱلْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ ٱلْمَسِيحِ. 9 فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ
كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً. 10 وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ،
ٱلَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ.

ما من
شك في أن هذه الآيات بالنسبة للمتأمل، هي من أصعب ما كتبه بولس. ولكن ربما لم يكن
الأمر هكذا بالنسبة لأهل كولوسي، الذين عرفوا المسيح من الإنجيل، الذي كرز به
بولس. ووجه الصعوبة في فهم هذه الآيات، هو ازدحامها بإشارات إلى التعليم المضل،
الذي كان يشكل خطراً على حياة المؤمنين في كولوسي.

إن
الشيء الواضح لدينا من الآيات السابقة، هو أن المعلمين الكذبة أرادوا أن يدخلوا في
عقول الكولوسيين ما يمكن تسميته إضافات للمسيح. إذ كانو يعلمون أن يسوع المسيح
وحده ليس كافياً. لأنه حسب زعمهم كان واحدً بين مظاهر كثيرة لله. وإنه كان من
الضروري عبادة وخدمة ومعرفة القوات الإلهية الأخرى بالإضافة إليه.

والمتأمل
بعمق في الآية الثامنة، يرى أن معلمي الضلال اجتهدوا أن يعلّموا الإخوة فلسفة
إضافية. وكان من رأيهم أن الحق البسيط الذي كرز به يسوع، ودُوِّن في الإنجيل لم
يكن كافياً لذلك فهو يحتاج إلى تكملة بتعليم موسع من الفكر الفلسفي.

لهذا
حذّر الرسول المؤمنين قائلاً: انظروا انتبهوا واسهروا لأن هناك خطراً يتربص بكم.
لا يسبيكم المضلون بالفلسفة المبنية على غرور باطل أو خداع.

من
المسلّم به أن الرسول هنا لم يشجب كل الفلسفات وإنما حذر الكولوسيين من نوع من
الفلسفة كان شائعاً في كولوسي. وهو خليط من الفلسفة اليونانية والأوهام اليهودية
وسمي في الكنيسة بتعليم الغنوسيين. ولكي يظهر البون الشاسع بين هذه الفلسفة وحكمة
المسيح، قال إنها حسب تقليد الناس. لأن معلميها اتخذوا تقليد الناس، بدلاً من
الإعلانات الإلهية. وكان في اليهود ثلاث فرق أساسية: الفريسيون والصدوقيون
والأسينيون. فالصدوقيون نفوا الوحي والتقليد، والفريسيون تمسكوا بالتقليد. أما
الأسينيون فهم الباطنيون الذين بالغوا في التمسك بالتقاليد. والذي شاع في كولوسي
هو تقاليد الآسينيين الذين ادعوا أن لهم كتباً تتضمن كل كنوز الحكمة المخفية عن
عامة الناس.

ولكن
الرسول الذي ائتمن على إنجيل الله، أبان أصل الفلسفة الباطلة بقوله، بحسب تقليد
الناس. وأبان موضعها بقوله بحسب أركان العالم، وليس حسب المسيح. أي أن المسيح ليس
هو مصدر تلك الفلسفة، التي نادوا بها ولا موضوعها. فهم وضعوا بدلاً منها رسوماً
خارجية ووسطاء من الملائكة.

أما
المسيح فخلافا لما علّم به الغنوسيين، ليس هو أحد القوات الكثيرة، التي دعوها
أيونات، والتي تختلف بالقدرة، بل هو الكائن الذي حلّ فيه كل ملء اللاهوت في صورة
بشرية. وبتعبير آخر إن الله بملء لاهوته حلّ في الكلمة الذي هو الأقنوم الثاني،
بدليل قول يوحنا: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ،
وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ
ٱللّٰهَ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 1: 1) وحين تجسد الكلمة، كان فيه الملء
جسدياً بدليل قول يوحنا الإنجيلي: «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ
بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ» (الإنجيل بحسب يوحنّا 1: 14).

ومن
امتياز المؤمنين بالنعمة، أنهم مملؤون في المسيح. وفي تعبير آخر إن المواهب
الروحية تجري من المسيح إلى النفس المؤمنة المتحدة به وفقاً لقول الإنجيل: «وَمِنْ
مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (الإنجيل بحسب
يوحنّا 1: 16) فمما تقدم يتضح أن كل الذين ظنوا أنهم يحتاجون فضلاً عن المسيح إلى
شفعاء كالملائكة وغيرهم من الوسطاء المخلوقين هم مبتدعون.

تأكد
يا أخي أن المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والناس. ومع أنه فوق الكل ورأس كل
رياسة وسلطان، إلا أنه في نعمته وتمشياً مع حبه الفائق يقبلك ويصالحك مع الله إن
آمنت به. فهو الذي قال: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ.
مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً.. اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ
وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ» (الإنجيل بحسب متّى 11:
28 والإنجيل بحسب يوحنّا 6: 37 و إشعياء 45: 22).

«هَلُمَّ
نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ
كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ.. هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى
ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ،
أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» ( إشعياء 1: 18 ورؤيا يوحنّا
3: 20).

الصلاة:
لك الحمد والشكر. أيها السيد الرب لأنك أحببتنا أولاً، وأحببتنا فضلاً. وبالمحبة،
تتنازل وتقبلنا وتتشفع بنا أمام الآب السماوي، وتصالحنا معه. اقبل منا الشكر.
واحفظنا في محبتك غير عاثرين آمين.

 

11
وَبِهِ أَيْضاً خُتِنْتُمْ خِتَاناً غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ
خَطَايَا ٱلْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ ٱلْمَسِيحِ. 12 مَدْفُونِينَ
مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ، ٱلَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضاً
مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ
ٱلأَمْوَاتِ.

كان
معلمو الضلال يطالبون المسيحيين من أصل أممي أن يختتنوا. وكان الختان علامة
الانتساب إلى الله. واستندوا في أمر الختان على قول الله لإبراهيم: «هٰذَا
هُوَ عَهْدِي ٱلَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ
نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ: يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ، فَتُخْتَنُونَ فِي
لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» (تكوين
17: 10). وفي كل أجيال العهد القديم، انقسم الناس إلى فريقين في موضوع الختان. قال
فريق منهم، إن الختان في حد ذاته كاف ليصلح أمور الإنسان مع الله، وأن الختان
الجسدي هو المطلوب. وذهبوا إلى القول: لا يهم أن يكون الإنسان صالحاً أو شريراً،
طالما كان يهودياً ومختوناً. أما القادة الروحيون وكبار الأنبياء، فكان لهم رأي
آخر يختلف كل الاختلاف عن الرأي السابق. واستعملوا نفس كلمة الختان بمعنى جديد
وجريء، فتكلموا عن الشفاه الغلفاء والقلب المختون (لاويين 26: 11 حزقيال 44: 7 و9،
30: 6) وفي تعبير آخر لم يكن الختان عندهم مجرد إجراء عملية في جسد الإنسان، بل
حدوث تغيير في قلبه وفي حياته كلها. كان الختان فعل علامة إنسان مكرّس لله، ولكن
التكريس لم يكن في ختان الجسد، بل في استئصال أي شيء يتعارض مع مشيئة الله، من
حياة الإنسان.

من
هذه الحقيقية، انطلق جواب بولس إلى معلمي الضلال، قال: أنتم تطالبون بالختان ولكن
يجب أن يستقر في خواطركم، أن الختان في مفهومه الروحي، لايقصد به إزالة قطعة من
جسد الإنسان. إنما المعنى الحقيقي له، هو تكريس الحياة كلياً لله، وترك كل الأشياء
التي تتعارض مع إرادة الله. ويؤكد بولس أن يسوع المسيح هو وحده القادر أن يجري
ختان القلب فينتزع من كل الذين قبلوه كل الأمور المخالفة لحياة الإيمان.

ويتابع
الرسول إرشاداته فيقول: إن الختان ليس نظرياً، بل واقعياً يختبره كل مؤمن مولود من
الله، وهو يتم لكم في المعمودية.

وعندما
نتأمل في العمودية يجب أن نذكر أن المسيح نائب الإنسان، فلما مات، مات عنه. فمات
شعبه معه، عن الخطية وعن الدينونة. فلما دُفن، دُفن شعبه معه، عن العالم وعن
الخطية. والدفن مع المسيح يشير إلى شدة الاتحاد به، والأشتراك في نتيجة عمله.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ى يابيش جلعاد د

قيل
سابقاً «إننا مملؤون فيه» وإننا «مختونون بختانه» وزاد على ذلك هنا «إننا مدفونون
معه». وهذا إثبات لانفصال المؤمن عن حياته القديمة في الخطية وانفصالاً أشد من
الانفصال الذي أشار إليه بالختان. وقال إن هذا الانفصال قد تمّ بالمعمودية، لأن كل
مؤمن يعترف عند المعمودية بإيمانه بالمسيح، وموته ودفنه للخطية. ولأنه حصل في وقت
المعمودية بواسطة إيمانه بالمسيح والاعتراف بذلك الإيمان جهراً على فوائد كل ما
عمله المسيح، واشتراه لشعبه بالفداء.

ويشير
الرسول إلى أن المؤمن، الذي اتحد بالمسيح بواسطة المعمودية الروحية التي رمز إليها
بمعمودية الماء. وكما قام المسيح بعد دفنه هكذا يُقام روحياً بقوة إيمان عمل الله.

والإيمان
هنا ليس سوى اليد التي يمسك بها الله. وعمل الإيمان هنا هو إنارة عيون أذهاننا،
لنعلم ما هو رجاء دعوة يسوع المسيح، «وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي
ٱلْقِدِّيسِينَ، وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ
نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ
ٱلَّذِي عَمِلَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ
ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ»
(الرسالة إلى أفسس 1: 18-20).

وكثيراً
ما ذكر في الإنجيل أن قيامة المسيح أصل رجاء المؤمنين. لأن إيمانهم بأن الله أقام
المسيح، يتضمن اليقين بأن الله قادر ومستعد أن يقيمهم معه من الموت في الخطية، إلى
الحياة الروحية. وحياته في السماء عربون قيامة كل المتحدين معه وغلبتها.

ويجب
أن لا يغيب عن أذهاننا أن الرمز يصبح حقيقة مباركة، إن كان الإنسان المعمد يؤمن أن
القوة التي ساندت يسوع المسيح في الصلب وإقامته من الأموات، تستطيع أن تفعل معه ما
فعلت مع يسوع.

كأن
بولس يقول لأولئك المعلمين، أنتم تتحدثون عن الختان، ولكن الختان الحقيقي الوحيد،
هو عندما يموت الإنسان ويقوم ثانية مع المسيح في المعمودية وليس بانتزاع جزء من
جسده، ولكن بانتزاع طبيعته الخاطئة كلها، والامتلاء بجدة الحياة، وبقداسة الله.

الصلاة:
يا إلهنا الصالح، نسبّح اسمك، ونعطيك المجد والإكرام، ولا ننسى كل حسناتك. ونشكرك
بنوع خاص من أجل موت وقيامة المسيح. أعطنا أن نتشبه بموته وقيامته، فنموت عن
الخطية، ونقوم معه لنسلك في جدة الحياة ونحيا للبر آمين.

 

13
وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فِي ٱلْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ،
أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحاً لَكُمْ بِجَمِيعِ ٱلْخَطَايَا، 14 إِذْ
مَحَا ٱلصَّكَّ ٱلَّذِي عَلَيْنَا فِي ٱلْفَرَائِضِ،
ٱلَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ ٱلْوَسَطِ
مُسَمِّراً إِيَّاهُ بِٱلصَّلِيبِ، 15 إِذْ جَرَّدَ ٱلرِّيَاسَاتِ
وَٱلسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ.

يستعمل
بولس سلسلة من الصور، ليبيّن ماذا عمل الله في المسيح للبشر. فليست هناك حاجة إلى
أي وسطاء آخرين لتخليص الناس، خلاصاً كاملاً. وقد استخدم الرسول الكريم ثلاث صور:

1.
صورة الأموات في الخطايا. هذا بيان حال الكولوسيين قبل إيمانهم بالمسيح، وهكذا
كانت حال الأفسسيين (أفسس 2: 1) وهكذا كانت حالك أنت وحالي أنا، قبل أن نعرف
المسيح. كنا مغلوبين من الخطية، عاجزين عن تحطيم سلاسلها. لم تكن لنا قوة أكثر من
قوة إنسان ميت للانتصار على الخطية. فهب يسوع لنجدتنا وبعمله حرّرنا من سلطة
الخطية ومن عقاب الخطية، وأعطانا حياة جديدة ونشيطة وحرة. حتى يمكن أن يُقال أنه
أقامنا من الأموات.

كان
الاعتقاد عند اليهود، أنهم وحدهم الأعزاء عند الله الذي اختارهم قنية له وشعباً
خاصاً له. ولكن المسيح جاء ليعلّم الناس أن الله في عهد النعمة كتب الخلاص لجميع
الأمم والشعوب والألسنة.

2.
صورة المسيح وهو يمحي الصك الذي علينا في الفرائض، الذي كان ضدنا. وفي تعبير آخر،
قد محا عنا قائمة الاتهام المثبتة فيها خطايانا وتعدياتنا. وقد تراكمت هذه الخطايا
حتى امتلأت بها قائمة طويلة. ولكن الله في المسيح محا الصك، فصارت الكلمة الرسولية
«كما سامحكم الله في المسيح»وهو يمحو خطايا كل إنسان، حين يؤمن بناء على الفداء
الذي أكمله المسيح مرة واحدة عن خطايا العالم عند موته، الذي أكد المغفرة، لكل من
يأتي إلى الله به. ومعنى قوله محا الصك، كمعنى قوله مبطلاً بجسده ناموس الخطايا في
فرائض.

هذه
النعمة الغافرة في أسمى معانيها، إن هذه الدينونة، وهذه الاتهامات كانت مبنية على
فرائض الناموس بمعنى أنه قبل مجيء المسيح وقيامه بعمل الفداء، كان الناس تحت حكم
الناموس، الذي أغلق على الكل تحت الخطية. ولكن المسيح بموته الكفاري أزال حكم
الناموس، فصار الإنسان موضوعاً لرحمة الله، وقد أحاطت به نعمة الله من كل جانب.

3.
صورة المسيح المنتصر، الذي جرّد الرياسات والسلاطين من القوة على مقاومته كما أن
الجيش المنتصر يجرّد الجيش المغلوب من أسلحته. «والرياسات والسلاطين» هم المشار
إليهم في الرسالة إلى أفسس، والذين لقبهم بـ «وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى
ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ
ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (الرسالة إلى أفسس 6: 12). فهم
قوّات الشر أعداء المسيح وأعداؤنا. وأشار المسيح إلى انتصاره عليهم بقوله: «اَلآنَ
يُطْرَحُ رَئِيسُ هٰذَا ٱلْعَالَمِ خَارِجاً» الإنجيل بحسب يوحنّا 12:
31).

ولم
يكتف المسيح بدحر قوّات الشر، بل أشهرهم جهاراً ظافراً بهم» والكلام مبني على ما
اعتاده الملوك قديماً، يوم يرجعون من الحروب منتصرين، فإنهم كانوا يتباهون بالأسرى
والغنائم.

في
هذه الصورة الواضحة يقرر بولس الكفاية المطلقة للمسيح. فالخطية مغفورة لكل من
يؤمن، والشر مغلوب. لأن المسيح حقق النصر على قوات الشر، وقد أعلن ذلك جهاراً حين
قال لتلاميذه: «ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ ٱلْعَالَمَ» (الإنجيل بحسب
يوحنّا 16: 33).

وهذا
النصر هو للمؤمنين أيضاً، بدليل قول الرسول: «شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي
يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي ٱلْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ» (رسالة
كورنثوس الثانية 2: 14).. «شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِينَا
ٱلْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رسالة كورنثوس الأولى
15: 57).

هل
أعطيت هذه الغلبة؟ يجب أن تنالها في جهادك مع المسيح، لكي يتم ذلك وعد المسيح
القائل: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ ٱلْمَنِّ
ٱلْمُخْفَى، وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى ٱلْحَصَاةِ
ٱسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ ٱلَّذِي
يَأْخُذُ» (سفر الرؤيا 2: 17).

لست
في حاجة إلى معرفة أكثر من ذلك. فاترك الفلسفات المضلّة وكل تعليم آخر، يبعدك عن
حق الله المعلن في الإنجيل!

الصلاة:
شكراً لك أيها الإله البار القدوس، لأنك أحببتنا بهذا المقدار. كنا أمواتاً في
الذنوب والخطايا، فأحييتنا مع المسيح، مسامحاً لنا بخطايانا السالفة. فمحوت عنا صك
الفرائض الذي كان ضدنا، بقوة الصليب، وأتحت لنا أن نعبدك بحرية الروح القدس. كمّل
عملك الصالح، الذي بدأته في حياتنا إلى يوم مجيء المسيح آمين!

 

16
فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ
أَوْ هِلاَلٍ أَوْ سَبْتٍ، 17 ٱلَّتِي هِيَ ظِلُّ ٱلأُمُورِ
ٱلْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ. 18 لاَ
يُخَسِّرْكُمْ أَحَدٌ ٱلْجِعَالَةَ، رَاغِباً فِي ٱلتَّوَاضُعِ
وَعِبَادَةِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، مُتَدَاخِلاً فِي مَا لَمْ يَنْظُرْهُ،
مُنْتَفِخاً بَاطِلاً مِنْ قِبَلِ ذِهْنِهِ ٱلْجَسَدِيِّ، 19 وَغَيْرَ
مُتَمَسِّكٍ بِٱلرَّأْسِ ٱلَّذِي مِنْهُ كُلُّ ٱلْجَسَدِ
بِمَفَاصِلَ وَرُبُطٍ، مُتَوَازِراً وَمُقْتَرِناً يَنْمُو نُمُوّاً مِنَ
ٱللّٰهِ.

في
هذه الآيات تحذير من أعمال خاصة تنافي ما سبق، وتشير إلى أن المؤمنين ليسوا
مملوئين في المسيح، وإن الصك الذي عليهم في الفرائض لم يُمحَ، أي أنهم ما زالوا
تحت رق المناسك الخارجية. ويبدو من القرائن أن هذه الممارسات، التي أشار إليها
الرسول هي من ابتداع الغنوسيين، وهي بالنسبة للإنجيل ارتداد نحو اليهودية، وقبول
أركانها الضعيفة. ولا ريب في أن المتأمل فيها يرى أربع لمسات غنوسية:

1.
التزهد: وكان يفرض في لوائح طويلة المسموحات والممنوعات من ألوان الأكل والشرب.
وفي هذا رجوع واضح إلى قوانين اليهودية وقوائمها الطويلة من المسموح والممنوع، من
النجس ومن الطاهر.

ولعل
بولس أراد بتحذيره عدم الربط بين الدين والأكل والشرب، ناسجاً على منوال المسيح
الذي علّم أن الأكل والشرب ليس لهما أية صلة بالدين (الإنجيل بحسب متّى 15: 10-20،
الإنجيل بحسب مرقس 7: 14-23) وقد تعلّم بطرس عدم التكلم عما هو نجس وطاهر من
الأطعمة، كما نقرأ في أعمال 10.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد قديم سفر التثنية 03

2.
الاهتمام بالأيام: لقد اجتهد معلمو الضلال أن يفرضوا على مؤمني كولوسي ممارسات لم
يدع لها الله. ومن جملتها حفظ أيام الأعياد اليهودية من مواسم سنوية، وأهلّة
شهرية، وسبوت أسبوعية. وقد وضعوا جداول بالأيام التي تخص الله، والأيام الواجب أن
تؤدى فيها طقوس معيّنة، والأيام التي يحرّم فيها بعض الأشياء، وربطوا الدين كله
بالطقوس وممارسة السبوت.

كان
في انتقاد بولس على هذه الرسالة إشارة إلى قول الله بفم إشعياء النبي: «لاَ
تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ. ٱلْبَخُورُ هُوَ مَكْرُهَةٌ
لِي. رَأْسُ ٱلشَّهْرِ وَٱلسَّبْتُ وَنِدَاءُ ٱلْمَحْفَلِ…
رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي» (إشعياء 1: 13 و14).
وعلى ذلك أيضاً قال بولس للغلاطيين: «أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً
وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ؟ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ
عَبَثاً» (الرسالة إلى غلاطية 4: 10 و11).

وفي
أيامنا تقوم جماعات السبتيين والأدفنتست، بدعوة حماسية لحفظ السبوت وغير ذلك من
الفرائض التي تتبع ذلك. كأنهم يريدون الرجوع بالمؤمنين إلى أركان اليهودية
الضعيفة، التي حرّرنا المسيح منها. فالرسول هنا يؤكد أن المؤمنين غير مكلفين بحفظ
أعياد اليهود وسبوتهم.

وكأني
بالرسول يقول: لقد صارت لكم النعمة فتحررتم من طغيان الفرائض لحفظ الفرائض
الناموسية، فما بالكم تريدون العودة إليها؟ لكأنكم ترفضون الحرية التي اشتراها لكم
المسيح بدمه المبارك؟

هذه
الممارسات الناموسية، لم تكن سوى ظل الحقيقة، أما الحق الكامل فهو في يسوع المسيح.
أو بتعبير آخر إن المناسك الموسوية لم تكن سوى إشارات إلى أمور روحية متوقعة، قد
كملت في ملء الزمان بيسوع المسيح، المشار إليه. ولما جاء الحق وجب على ظل الحقيقة
أن يتوارى بدون رجعة. ولنا أن نتعلم من كلمة الرسول أن الديانة الحقيقية هي الشركة
مع المسيح فقط.

والواقع
أن الرسول يقول في رسالته إلى الغلاطيين: «إِذاً قَدْ كَانَ ٱلنَّامُوسُ
مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ» (الرسالة إلى غلاطية 3: 24). وقال
للرومانيين: «لأَنَّ غَايَةَ ٱلنَّامُوسِ هِيَ: ٱلْمَسِيحُ» (الرسالة
إلى رومية 10: 4). وفي الحقيقة أن المسيح بمجيئه جعل للأمور العتيدة معنى وجوهراً
وقيمة وحياة.

وانطلق
الرسول من وضع الأمور في نصابها إلى تحذير المؤمنين من خسارة المكافأة المعدة في
المسيح، وهي الحياة الأبدية في السماء. وهذه المكافأة لن تنال بحفظ الأيام
وبالتدقيق في ما يؤكل ويُشرب. بل لعل هذه الممارسات تقود الممارس إلى الكبرياء،
فيشعر أنه على درجة ممتازة من التقوى والصلاح. فينظر إلى البسطاء نظرة ازرداء كما
فعل الفريسيون قديماً.

وقد
عُرف بالاختبار أن هذا المسلك، لا يحرر الإنسان من شهوات الجسد. ولا شك أن الرسول
أراد أن يفهمنا أن الحرية المسيحية لاتأتينا من الكبت ولا من التقشف وخصوصاً
التقشف المبالغ فيه. الحرية تأتينا من حلول المسيح بالإيمان في القلب، فيؤسسه
ويؤصله في المحبة.

الصلاة:
أيها الرب المبارك، نعترف لك بخطايانا الكثيرة، وخصوصاً بالكبرياء التي هي مكرهة
عندك. جرّدنا من روح التعالي، وأعطنا روح التواضع، الذي يقربنا من يسوع رئيس
الإيمان ومكمله اقبل شكرنا باسم المسيح ربنا آمين.

 

20
إِذاً إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ
ٱلْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي ٱلْعَالَمِ،
تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ: 21 لاَ تَمَسَّ، وَلاَ تَذُقْ، وَلاَ تَجُسَّ؟ 22
ٱلَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي ٱلٱسْتِعْمَالِ،
حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ ٱلنَّاسِ. 23 ٱلَّتِي لَهَا حِكَايَةُ
حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ ٱلْجَسَدِ، لَيْسَ
بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إِشْبَاعِ ٱلْبَشَرِيَّةِ.

في
الآية الثانية عشرة من هذا الأصحاح تكلّم الرسول عن دفن المؤمن في المعمودية،
مشيراً إلى شدة اتحاده بالمسيح الذي بلغ من التمام حداً لا يقتصر على أن يموت
المؤمن للخطية. بل يصير بالنظر إليها كالمدفون الذي لم يبق بينه وبين الخطية أي
تعلُّق، من جهة ممارستها، أو التلذذ بها أو سلطتها. وفي اعتقادي أن الرسول استعار
كلمة دفن للمعمودية، لتحقيق انفصال المؤمن عن الخطية. لأن الدفن يثبت أن الإنسان
مات حقيقة. فيصير معنى قوله «مدفونين معه» إننا انفصلنا عن عالم الخطية وتحرّرنا
من سلطتها.

في
رسالته إلى رومية قال الرسول: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ
مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ
هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ
جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ.
لأَنَّ ٱلَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ ٱلْخَطِيَّةِ» (الرسالة إلى
رومية 6: 5-7).

فبناء
على ما سبق من قوله «مدفونين معه» قال الرسول: «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ
ٱلْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ ٱلْعَالَمِ» (كولوسي 2: 20) كما كان حين
آمنتم وكررتم إقراركم حين اعتمدتم، مشتركين في موت المسيح على الصليب، عن أركان
العالم، التي هي فرائض خارجية وضعها الناس. فلماذا تُفرض عليكم، بعد إن حرركم
المسيح منها؟ أو لا تكون ممارستكم لها بمثابة ردة إلى تقاليد بالية يهودية ليست من
المسيح في شيء؟

صحيح
أن الكنيسة في زمن طفوليتها لم تلغ تلك السنن لأنها كانت قاصرة وتحت أوصياء ووكلاء
(الرسالة إلى غلاطية 4: 3 و4) ولعلها كانت في حاجة إليها، قبل أن استعدت لحرية
البالغين وحياتهم الروحية. ولكن كل تلك الأركان الضعيفة زالت بعد مؤتمر الرسل
الأول في أورشليم كما أخبرنا لوقا الطبيب في الأصحاح الخامس عشر من سفر أعمال
الرسل. فتحررت الكنيسة نهائياً من الأركان اليهودية، التي كانت ظل الأمور العتيدة.

وكأني
بالرسول يقول للكولوسيين: هذه الرسوم الجسدية، التي وضعت إلى وقت الإصلاح، فلماذا
تفرض عليكم ممارستها، بعد أن تم الإصلاح بالمسيح يسوع؟ ولماذا كأنكم عائشون في
العالم للعالم؟ أو كأنكم من العالم وليس من المؤمنين الذي اختارهم المسيح من
العالم.

كم
يجب أن نشكر الرب الإله لأجل الحرية التي وُهبت لنا في المسيح يسوع، إذ أزاح عن
كاهلنا ثقل تلك الأركان التي كانت قائمة بأطعمة وأشربة وغسلات مختلفة وفرائض جسدية
وغير ذلك من المطاوعات التي ليست من الذي دعانا. وكم يجب أن نتهلل ونبتعد من أجل
ناموس روح الحياة في المسيح، الذي أعتقنا من هذه النواحي الخاصة بأمور ممنوعة إنها
نجسة ولكن الله لم يحرّمها. بل هي من قواعد الآسينيين، الذي زعموا في تعليمهم أن
المادة هي مركز الإثم وإن إماتة الجسد تتيح للإنسان أن يبلغ القداسة. ولهذا حرموا
أشياء كثيرة، منها أكل الزيت واللحم ولمس الوثني.

هذه
الأشياء حسبها الرسول أنها فانية، لأنها من الأشياء التي تتلاشى بالاستعمال، على
وفق قول المسيح: «أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلإِنْسَانَ
مِنْ خَارِجٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ إِلَى
قَلْبِهِ بَلْ إِلَى ٱلْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى ٱلْخَلاَءِ،
وَذٰلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ ٱلأَطْعِمَةِ» (الإنجيل بحسب مرقس 7: 18
و19).

في
الحقيقة إن كان الله قد عيّن الأطعمة للإستعمال فبأي حق يسمح الإنسان لنفسه بأن
يجتهد على شريعته تعالى، فيحرّم ما أحلّه الله؟!

في
رسالته الأولى إلى تيموثاوس أشار بولس إلى معلمين كذبة ملبوسين بأرواح مضلّة،
وموسومة ضمائرهم. هؤلاء قال الرسول إنهم ابتدعوا قوانين تدعو إلى الامتناع عن
الزواج، وتأمر بتحريم أطعمة قد خلقها الله لتتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي
الحق. وإنه لمن المؤسف أن يعتبر بعض الناس أن الامتناع عن هذه الأمور فضيلة ووسيلة
ضرورية لبلوع أسمى درجات القداسة. هذا مع العلم أن الكتاب المقدس يعلّم بأن
الإيمان بالمسيح، ومعرفة حق الإنجيل هما شرط القداسة الحقيقية والقبول عند الله،
لا النوافل التي يخترعها الناس.

الصلاة:
أيها الرب إلهنا وفادينا. إننا نشكرك لأجل دعوتك لنا في المسيح يسوع. دعوتنا لكي
نترك الخطية، ونحيا للبر. ثبّتنا في هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون. وسامحنا عن
كل تعدياتنا السابقة، معطياً لنا نعمة وحكمة حتى نتصرف بلياقة وتواضع.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي