الإصحَاحُ
الرَّابعُ عَشَرَ

 

–   حفلة هيرودس ورقصة الموت. ومقتل المعمدان
الحزين             (14: 112)

–   معجزة إطعام الجموع من خمس خبزات وسمكتين                    (13:1421)

–   المشي على الماء                                                       (22:1433)

–   أشفية على بحيرة جنيسارت                                           (34:1436)

 

حفلة هيرودس ورقصة الموت

ومقتل المعمدان الحزين

[1:1412]                     (مر 14:6-29)، (لو 9: 7 – 9)

 

الآن
قد صار لنا سنة كاملة منذ أن بدأ المسيح خدمته العلنية
بحسب تقدير
الحوادث([1]).
وهذه القصة قديمة نقلها القديس متى إلى هذا الموضع.

1:14و2
«فِي ذلِكَ الْوَقْتِ سَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ خَبَرَ يَسُوعَ،
فَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: هذَا هُوَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ قَامَ مِنَ
الأَمْوَاتِ، وَلِذلِكَ تُعْمَلُ بِهِ الْقُوَّاتُ».

أخبار
المسيح رنَّت في قصر هيرودس، لأنها أخبار كبيرة ومذهلة، ولكن الأمور الروحية من
العسير أن تدخل آذان مَنْ هم على شاكلة هيرودس، وإن دخلت تزعجهم كما حدث لهيرودس.
فهيرودس خرج من حادثة قتل المعمدان بضمير مجروح. فبمجرد أن سمع بمعجزات تُجرى ظنَّ
أنه هو المعمدان قام من الأموات. وهيرودس من جهة مبادئه يعتبر صدُّوقياً من فئة
الصدوقيين، ولكن ليس عن أصالة فهو أدومي الأصل. والصدوقيون سريعو الانفعال لقلة
اعتمادهم على الله، وعندهم المعجزات لا تكون إلاَّ من الأنبياء القدامى، ولا يدخل
في فكرهم أن المسيح يمكن أن يكون هو المسيَّا بأي حال من الأحوال. وأبو هيرودس هو
قاتل أطفال بيت لحم، وهيرودس لم يسمع بالمسيح قبل موت المعمدان، لذلك كانت الأخبار
مناسبة فقط لتكون معمولة بيوحنا الذي قتله، غير أن يوحنا في حياته لم يعمل معجزات
قط. ولكن هذا الظن ملأ فكره لأنه كان يعتقد أنه
» بارٌّ وقديس «(مر
20:6) وكان يسمع له. وقول المعمدان هنا
» ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص «(يو 30:3) كان حكمة من المعمدان، لأن الجموع بدأت تنسب للمعمدان
أعمال يسوع وهو حيّ، فأسرع المعمدان بهذا الاعتراف. وقد شاع في تقليد الكنيسة
اليونانية([2])
أن المعمدان لما استُشهِد وصعدت روحه ذهب وبشَّر الأرواح الأخرى بمجيء المسيح
باعتباره السابق أيضاً في الدخول إلى عالم الأرواح، وقد أخذ بهذا الرأي كثير من
الآباء مثل أمبروسيوس في شرحه لإنجيل ق. لوقا (17:1).

3:145 «فَإِنَّ
هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ
مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، لأَنَّ يَوحَنَّا كَانَ
يَقُولُ لَهُ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ. وَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ
خَافَ مِنَ الشَّعْبِ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ».

يُلاحِظ القارئ أن مقتل المعمدان لم يأخذ الرنين العالي في
الكنيسة ولا في وعي الشعب، لأن موت المعمدان لم يكن كفَّارياً ولا من أجل أي عمل
خلاصي، بل ربما يُحسب أنه مات دفاعاً عن حق الناموس، فهو موت على مستوى العهد
القديم. وربما السبب في ذيوع قصة موت المعمدان وتوقير شخصه يعود للمسيح فقط
لأنه حيَّاه وكرَّمه أعظم تكريم وبوَّأه قمة الأنبياء وأعظم مولود من
امرأة!

أمَّا
مسألة هيروديا فهي على مستوى فجور إيزابل. فكما كانت إيزابل عدوة لنبي الله العظيم
إيليا (1مل 19)، ورثت عنها في التاريخ المقدَّس عداوتها للمعمدان الأعظم في
الأنبياء. وهكذا يورِّث كل جيل شروره ويرث كل نبيّ نتيجة حقد الفجَّار. وهيروديا
كانت امرأة أخي هيرودس، فيلبُّس، وقد تزوَّجها رغماً عن أخيه، علماً بأن هيروديا
نفسها هي بنت أخ كل من هيرودس وفيلبُّس، فمن كل الجهات كان زواجه منها مخالفاً
للوصايا([3]).

وتصدِّي المعمدان لهيرودس لم يأتِ مصادفة، ولكن كان هيرودس
يستدعيه ليسمع منه (مر
20:6)،
فواجهه المعمدان بخطيته كجزء من رسالته، ولكنه واجهه بصرامة نبي البراري آكل الجراد
ولابس الصوف والصارخ في آذان الخطاة بالتوبة. وبعدها نوى هيرودس أن يقتله ولكنه
خاف من شهود الشعب للحق، والشعب لا يخشى الطغاة كطبيعة غرسها الله في الشعوب حتى
يوقفوا الطغاة عند حدود الحق ولا يتعدُّوه، إلاَّ إذا صار الطغاة خطاة!

6:1410 «ثُمَّ
لَمَّا صَارَ مَوْلِدُ هِيرُودُسَ، رَقَصَتِ ابْنَةُ هِيرُودِيَّا فِي الْوَسْطِ
فَسَرَّتْ هِيرُودُسَ. مِنْ ثَمَّ وَعَدَ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبَتْ
يُعْطِيهَا. فَهِيَ إِذْ كَانَتْ قَدْ تَلَقَّنَتْ مِنْ أُمِّهَا قَالَتْ:
أَعْطِنِي ههُنَا عَلَى طَبَقٍ رَأْسَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ. فَاغْتَمَّ
الْمَلِكُ. وَلكِنْ مِنْ أَجْلِ الأَقْسَامِ وَالْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ أَمَرَ أَنْ
يُعْطَى. فَأَرْسَلَ وَقَطَعَ رَأْسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ».

الحفل
هنا قد يكون يوم ميلاده أو يوم اعتلائه العرش، وهكذا دائماً الولائم العالمية لا تخلو
من معصية. وهي كثيراً ما تكون فرصة لارتكاب الفاحشة، ولكن العالم لا يتعلَّم ولا
يتعظ. والبيت المسيحي لا يزال معرضاً في حفلات الخطوبة والزواج والأعياد والولائم
إلى مثل هذه الشرور، لأن مَثَل المسيح قائم دائماً إذ يوجد مَنْ يزرع الزوان وسط
الحنطة. أمَّا أداة القتل الشرير في هذا الحفل النجس فكانت بنت “إيزابل” بنت
الحيَّة واسمها هنا “سالومى”. قامت في الوسط لتكون نهباً لكل عين وشرًّا
لكل قلب وفكر، والشيطان يعلِّم أولاده الرقص لأنها مهنة يربح بها الرؤوس والنفوس!

وقد
غالى الملك في إعطاء الأقسام والوعود الملكية التي لا رجعة فيها لتكون أقصى خطية
عنف اقترفتها البشرية بعد حادثة الصليب، فهي تُحسب “خطية الأجيال” التي كسب فيها
الشيطان النمرة الأُولى، التي خسر من بعدها في قضية المسيح كل أرباحه وانحطَّ إلى
التراب.

«فاغتمَّ الملك»: luphqe…j

هنا
آثار يد الله التي ذكرتها التوراة:
» قلب الملك في يد الرب «(أم
1:21). فالعقل هوى واللسان زلّ والإرادة انحطَّت ولكن ضمير الإنسان، مع أنه ملك
شرير، لا يزال يحمل آثار يد الله. فكل مرتكب جريمة يبكي بعد أن يرتكبها ويقسم أنه
لا يعرف كيف ارتكبها! نعم إنه الشيطان يركب العقل ركوب البهيمة ليسوقها عنوة حيث
يشاء! وبعد أن يستيقظ الإنسان على شناعة ما اقترفه يندم إلى التراب، وماذا ينفع
الندم بعد أن تكون قد زلقت القدم، كالمَثَل المشهور؟

«ولكن من أجل الأقسام والمتكئين»:

لذلك
أبطل المسيح القَسَم إطلاقاً، حتى لا يُمسَك الإنسان فيما أقسمه ويخطئ إلى الله والآخرين
ونفسه، وما ذنب الله أن يُذكر اسمه في وليمة
ماجنة وبين قوم خرجوا عن وعيهم باحتساء أقداح
الخمر بلا اتزان؟ وهل من أجل القسم نأمر بقتل بريء؟ أو من أجل المتكئين
يُؤخذ رأس نبي؟ وخوفاً
من ماذا؟ من شرف
يضيع! فلكي نكون صادقين نقضي بالظلم على إنسان مسكين؟ تَـبًّا لملك
يفترس
الرعية!!

مات
المعمدان ذبحاً في سجن ماخيروس، طارت رأسه بضربة سيف وطارت روحه تشكو لله ظلم
الإنسان لأخيه الإنسان. لم يعد في الإمكان أن يُقال عن المعمدان أنه كان هو
المسيَّا. فالمسيَّا سيموت ولكن عظماً من عظامه لن يُكسر([4]).

11:14
«فَأُحْضِرَ رَأْسُهُ عَلَى طَبَقٍ وَدُفِعَ إِلَى الصَّبِيَّةِ، فَجَاءَتْ
بِهِ إِلَى أُمِّهَا».

هدية
الأفعوان للحيَّة،
»
ذاك
كان قتَّالاً للناس من البدء
«(يو 44:8). لقد نال
بها الشيطان أعظم جائزة لأعظم رقصة استطاع بها أن يُسكت فم المعمدان ويعطِّل
المناداة بالتوبة. لقد ارتفع “إيليا” إلى السماء حيًّا، ولكن يوحنا، الذي جاء بروح
إيليا وقوَّته، مات أخيراً في سجن ماخيروس في برية الأُردن. وإيزابل هي إيزابل
والشيطان هو الشيطان.

12:14
«فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَرَفَعُوا الْجَسَدَ وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ أَتَوْا
وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ».

نظر
المسيح إلى التلاميذ والحزن يملأ قلوبهم ويعتصر عيونهم. فقد كان معلِّمهم المحبوب
جداً وكانوا يظنون أنه يبقى ما بقوا، فتألم لألمهم ولكنه عزَّاهم:
» كان هو السراج الموقد
المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة
«(يو
35:5). ولكن يا أولادي قد انفجر النهار وأنارت الشمس الدنيا فكان لازماً أن ينطفئ
مصباح الليل، فليل إسرائيل انتهى ونحن في نهار الخلاص، فلتتعوَّد عيونكم على نور
النهار لأن عملكم يبتدئ حيث انتهى معلِّمكم. اذهبوا أكرزوا كما كان يكرز معلِّمكم
أن:
» توبوا لأنه
قد اقترب ملكوت الله

«

حدث
هذا بحسب تقدير العالِم ماير في بكور سنة 29م([5]).

 

معجزة إطعام الجموع من خمس خبزات وسمكتين

[13:1421]         (مر 30:644(لو 9: 1017)، (يو 6: 1
14)

 

13:14
«فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ
خَلاَءٍ مُنْفَرِداً. فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ الْمُدُنِ».

في
الحقيقة هذه الآية جاءت هنا لتنهي قصة المعمدان، ولكن هي أصلاً للعودة إلى الحديث
الذي قطعه القديس متى ليورد لنا قصة موت المعمدان، ولكن كان يتكلَّم عن أن هيرودس
سمع بأخبار المسيح واعتبر المسيح هو يوحنا وقد قام من الأموات (14: 1و2). فهنا
عودة مرَّة أخرى لأعمال المسيح، ونقطة الاتصال: «موضع خلاء».

14:14و15
«فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ أَبْصَرَ جَمْعاً كَثِيراً فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ
وَشَفَى مَرْضَاهُمْ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ
قَائِلِينَ: الْمَوْضِعُ خَلاَءٌ وَالْوَقْتُ قَدْ مَضَى. اِصْرِفِ الْجُمُوعَ
لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى الْقُرَى وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ طَعَاماً».

لكي
يتضح أمامنا الموضع والميعاد الذي يتكلَّم عنه ق. متى يلزم أن نعود إلى إنجيل ق.
مرقس، لأن ق. متى لا يعتني كثيراً بالأمور الجانبية من القصة، وهو يختزل كل شيء
ليقدِّم قصة الخمس خبزات والسمكتين؛ ولكن ق. مرقس يقول:

+
» فمضوا في
السفينة إلى موضع خلاء منفردين. فرآهم الجموع منطلقين، وعرفه كثيرون. فتراكضوا إلى
هناك من جميع المدن مشاةً، وسبقوهم واجتمعوا إليه. فلمَّا خرج يسوع رأى جمعاً
كثيراً، فتحنَّن عليهم إذ كانوا كخرافٍ لا راعي لها، فابتدأ يعلِّم كثيراً. وبعد
ساعات كثيرة
تقدَّم إليه تلاميذه قائلين: الموضعُ خلاءٌ والوقت
مضى. اِصرفهم …
«(مر 6: 3236)

واضح
أن المسيح ظلَّ يعظ ويشفي لمدة ساعات كثيرة حتى أمسى النهار.

فلكي
نقدِّم للقارئ صورة متكاملة لمعجزة الخمس خبزات والسمكتين يلزم أن نأخذ بإنجيل ق.
يوحنا، لأن له انطباع من جهة مبادرات المسيح يكمل المعنى في الأناجيل الثلاثة. لأن
في إنجيل ق. يوحنا يظهر المسيح:

أولاً:
أنه
يريد أن يصنع المعجزة، ولم تأتِ عفوياً كما يظهر في الثلاثة أناجيل.

ثانياً: هو الذي بدأ
بالسؤال عن أكل الجموع وليست هي مجرَّد ملاحظة من طرف التلاميذ.

+
» فرفع يسوع
عينيه ونظر أن جمعاً كثيراً مقبلٌ إليه، فقال لفيلبُّس: من أين نبتاع خبزاً ليأكل
هؤلاء؟ وإنما قال هذا ليمتحنه، لأنه هو عَلِمَ ما هو مزمع أن يفعل. أجابه
فيلبُّس: لا يكفيهم خبزٌ بمئتي دينار ليأخذ كُلُّ واحد منهم شيئاً يسيراً. قال له
واحدٌ من تلاميذه، وهو أندراوس أخو سمعان بطرس: هنا غلامٌ معه خمسةُ أرغفةِ شعيرٍ
وسمكتان، ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟ فقال يسوع: اجعلوا الناس يتَّكِئُون. وكان في
المكان عُشبٌ كثير …

«
(يو 6: 510)

ولكن
في الثلاثة أناجيل تظهر المبادرة وكأنها من طرف التلاميذ هكذا:

16:4
«فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لاَ حَاجَةَ لَهُمْ أَنْ يَمْضُوا. أَعْطُوهُمْ
أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا».

ردًّا
من المسيح كمن هو واثق بما سيعمله، فالآية التي نوى أن يعملها كانت حاضرة في ذهنه،
فكيف يسمح لهذه الجموع كلها أن تنصرف وتبحث عن طعام في المساء، هذا أمر غير معقول.
لذلك تدخُل هذه المعجزة في نوع من حنان الأب الذي لا يُشقي أولاده في أمور يقوى هو
على حلّها. وقوله:
»
أعطوهم
أنتم ليأكلوا
«هنا يعتمد
المسيح على صدى الآيات والمعجزات كلها التي صنعها أمام تلاميذه حتى يستحثهم
بإمكانية إشباع الجموع بدون شراء وتعب. فالمسيح يبحث عن بارقة إيمان يستند عليها
ليصنع آيته البديعة. ولكنه كان قد حسم الأمر في نفسه أن يصنعها
برغم كل
الظروف
معتمداً
فقط على جراية هذا الولد الصغير، الذي دسَّت له أُمه هذه الأرغفة الخمسة والسمكتين،
لعلَّه يجد صبيًّا مثله جائعاً يأكل معه، فكان اهتمامها بمثل هذا الصبي الجائع أن
أشبعت خمسة آلاف جائع ما عدا النساء والأولاد!!

17:1419 «فَقَالُوا
لَهُ: لَيْسَ عِنْدَنَا ههُنَا إِلاَّ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَانِ.
فَقَالَ: ائْتُونِي بِهَا إِلَى هُنَا. فَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا
عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ،
وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ
لِلتَّلاَمِيذِ، وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ».

كانت
خمسة أرغفة وسمكتين، فلو كان رغيفاً واحداً لكان يكفي، المهم أن الموجود يكفي. هذا
في نظر المسيح. وفي ظني لو كان بدل الخمسة آلاف رجل خمسة ملايين لم يكن الأمر
يختلف شيئاً قط، ولفاض أيضاً خمسمائة قفة. ولكن ولماذا الأرقام، فلو كان العالم
كله في حاجة إلى الطعام وليس طعامٌ بالمرة، لأشبع العالم وفاض
» فليس بالخبز وحده يحيا
الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله
«(تث 3:8، مت 4:4)،
يكفي أن يرفع الرب عينيه إلى السماء إلى الآب ليفتح كوى السماء ويفيض ولا متَّسع.

 

«ورفع
نظره نحو السماء:
¢nablšyaj

وبارك: EùlÒghsen

وكسر: Kl£saj

وأعطى»: œdwken

 

وبارك
الرب وكسر وأعطى. الثلاثة أفعال الإفخارستية
فعل تقديس التي بها
يتحوَّل الخبز إلى جسد الرب ليصير الخبز الحقيقي الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت.
خبز الحياة الحامل لسر الخلود. يعطيه المسيح الآن بصورة خفية ليدرِّب حواس الفكر
للزمن الآتي.

وكون
الجموع تتكئ على العشب الأخضر أمام الرب وفي حضرته، يكون الرب قد هيَّأ للإنسان
مائدة الملكوت بصورتها المنظورة على الأرض. فأن يأكل الإنسان ويشرب في حضرة الله
فهذا هو الفردوس الجديد، بعد حرمان طال أمده من نور الله ورضاه. وكون التلاميذ
يخدمون عطاء الخبز الحامل لسرّ بركة المسيح فقد تعيَّنوا ملائكة لسبق تذوُّق
الخدمة أمام العرش، والشعب أخذ من يد التلاميذ ذلك الذي أخذوه من يد الرب، فيكونون
قد فازوا بعطية من يد المسيح تمهيداً لتسلمهم الحياة
نفسها، لا من يديه فقط بل من قلبه المطعون بالحربة الذي أخرج للبشرية المائتة ماء
الحياة
مجَّاناً.

20:14و21
«فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ:
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. وَالآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ
آلاَفِ رَجُلٍ، مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ».

 

«أكلوا وشبعوا: œfagon – ™cort£sqhsan

ثم
رفعوا ما فضل:
perisseàon

من
الكسر»:

klasm£twn

 

هذه
كلها اصطلاحات إفخارستية يحفظها عن ظهر قلب كل مَنْ خدم الإفخارستيا. لأنها دخلت
كأفعال وأسماء تقديس.

كان
الرغيف في فلسطين بسُمك صابع الإبهام ومساحته قدر الصحن المفلطح، من الشعير
المخبوز في التنور. والقفَّة
kÒfinoj معروفة لدينا ولكن ليست ذات الحجم الكبير، إنما على
مستوى المقطف، وكان بمثابة الخُرج يوضع على الركوبة ليحمل أدواتهم وأوعية المياه
التي يشربون منها. وكثرة الكسر ناتجة من أن الرغيف مصنوع من دقيق الشعير، ليس
كدقيق القمح حينما يعجن يصير مطاطاً (له عِرق) بل سريع التكسُّر (الفتافيت). ويبدو
أن الأجزاء التي وُزِّعت عليهم من الخبز بقيت بعد الأكل كما كانت لم يذهب منها
شيء، وكأنهم أكلوا البركة الزائدة فقط. والخبز الذي تبارك بقي كما هو خميرة
مقدَّسة في بطن الكنيسة رفعه التلاميذ ليعيشوا على بركته.

والقديس يوحنا هو الإنجيلي الوحيد الذي اعتبرها أكثر من آية
إذ دعاها: “آيات”، ووضح ذلك حينما خاطب المسيح الجموع التي أكلت وشبعت وجريت وراءه
تطلبه:
» وقال الحق الحق أقول لكم: أنتم تطلبونني
ليس لأنكم رأيتم
آيات،
بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي
للحياة الأبدية، الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا الله الآب قد ختمه

«
(يو
6: 26و27). من هذا التعليق من جهة المسيح على نوع الطعام الذي قدَّمه لهم واضح أن
له نظرتين: الأُولى:
» الخبز الباقي للحياة
الأبدية
«لمختاريه. والثانية هو الخبز البائد
الذي يُشبع الجسد للاّهين عن خلاصهم. فالخمس خبزات والسمكتان دخلت في حساب المسيح
على أنها آية، هذا فات للأسف على الشعب الذي يجري وراء ملء البطن. كما فات عليهم
“مَنْ هو المسيح” الذي رأوه يصلح أن يكون ملك الخبز فأرادوا أن يجعلوه ملكاً
ليعطيهم هذا الخبز كل حين، وهو الابن الوحيد الذي انحدر من عرش الله وانسحب وعاد!!
المسيح هنا يؤكِّد أن معجزة الخمس خبزات والسمكتين كانت آية، لذلك وقد تقدَّس
الخبز بفعل الإفخارستيا طلب من التلاميذ أن يتحفَّظوا على الكسر. وقد صار هذا
قانوناً في إقامة الإفخارستيا إذ يحرص الكاهن أن لا يضيع شيء بعد قسمة القربانة
وإعطاء المتناولين.

هذه المعجزة بما حوت من معانٍ تُحسب إحدى أسرار المسيح
والملكوت، فانظر أيها القارئ العزيز كيف نال كل واحد من هذا الجمع الذي جاء
لمجرَّد أن يسمع كلمة، كيف نال بركة المسيح واستقرَّت في كيانه، رجلاً كان أو
امرأة أو طفلاً دون أن يشعر. فإن كان قد جاء يطلب وجه المسيح فقد أخذه سرًّا ومارس
نصيبه في صميم أسرار المسيح، اشترك فيه ونال قوته. إن هذه المعجزة تكشف وتحكي بآن
واحد مَنْ هو المسيح؟ ولماذا جاء؟ وماذا يستطيع أن يُعطي؟ ومَنْ هو الذي يأخذ؟
ومَنْ الذي لا يأخذ؟ شأنه شأن المَنّ خبز الملائكة الذي أكله الإنسان في البرية.
ولكن هذا الخبز الذي باركه المسيح أعلى قيمة وقوة وبقاء. فالمسيح قصد بالذات أن
يجمع ما تبقى ليبقى، توكيداً أنه أقدس من المَنْ الذي إذا تبقَّى منه شيء أنتَنَ
وسَرَى فيه الدود. فبركة العهد القديم وخبزه كان “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم”، كما
يخطئ كثير من الشُّرَّاح فيقولون: إن أبانا الذي في السموات أُعطيت لنطلب المَنْ
اليومي على قدر كفافنا وهذا خلط مشين، بل هي:
» خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم « حيث الغد هو الأبدية السعيدة وملكوت السموات التي
ننتظرها بدموع ونعيش ونحيا من أجلها. خبز الله للحياة الأبدية. وقد أعطانا المسيح
هذا المجد بعينه لو نحن تفتَّحت عيوننا وأدركنا سر خبز الحياة الأبدية الذي نأكله
من فوق مذبح التقديس!

أمَّا كيف صارت الأرغفة الخمسة من الشعير خبز حياة وبركة
ودواماً للذي يؤمن، فاسألوا ماء عرس قانا وهو يحكي لكم: كيف تحوَّلت المياه إلى
عناصر الخمر السرِّي؟ ليكشف بها المسيح كأول معجزة معنى حياته ووجوده، وكيف أُعطي
للإنسان أن يحوِّل عناصر الماء إلى عناصر الخلود؟ فالمسيح جاء ليُجلِّي الطبيعة
أينما سار وكلما صنع، لأن الطبيعة بعد أن أخذها المسيح في ذاته تأهَّبت أن تكشف سر
الله فيها وتهب سرّها للارتفاع والخلود. وبالنهاية صار المسيح خبز حياة حتى بها
نتحوَّل إليه:

+ » أنا
هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المَنَّ في البريَّة وماتوا. هذا هو الخبز النازل من
السماء. لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن
أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله
من أجل حياة العالم.
«(يو 6: 4851)

إن
معجزة الخمس خبزات والسمكتين كانت عيِّنة تجلِّي للطبيعة ليكشف فيها المسيح عنصر
الحياة التي جاء ليعطيها، ولقد بدأ بالخبز المادي وحوَّله أمام أعين الآلاف
ليُخضِع الآية للرؤيا والأكل والتاريخ!! ومَنْ يصدِّق أن البركة والحياة تؤكل
أكلاً!؟ ومَنْ يستطيع أن يصدِّق أن الخمس خبزات عدداً ينفسخ منها العدد ويتوه عن
الذهن ويُلغى بواسطة البركة ليزداد الخبز بدون أرقام ولا حدود كيفما شاء الكاسر
والموزع والآكل! وهذه العملية الروحية السريَّة التي ألغى بها المسيح محدودية
الأعداد والأرقام أخفاها، إذ لم يوزِّع الأرغفة كأرغفة بل كسرها كسراً حتى يضيع
معالم الرقم
أي المحدودية وينطلق
الخبز بالبركة إلى ما لا يُعدّ ولا يُحصى!! لذلك يُصِرُّ القديس لوقا على القول
بالنسبة للخبز وباركها
eÙlÒghsen aÙtoÚj لكي تقع البركة على الخبز مباشرة
ليخرج من دائرة الرقم والمحدود.

 

المشي
على الماء

[22:1433]                   (مر 45:652)، (يو 15:621)

 

22:14
«وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ
إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ».

«وللوقت ألزم يسوع تلاميذه»: eÙqšwj
ºn£gkasen

ولأول
وهلة يندهش الإنسان لماذا هنا كلمة للوقت وكلمة ألزم؟! ق. متى اختزل القصة، وبذلك
يستحيل فهم هذه العجلة في الأمر مع الإلزام؟ فالقصة مثيرة جداً، وتدخل في اعتبارات
هامة للغاية، والوحيد الذي أدركها ولم يُعلِّق عليها هو ق. يوحنا، إذ يحكي أن
الجموع تأثروا جداً من آية الخمس خبزات وقاموا بثورة واختطفوا المسيح لينادوا به
ملكاً. والأدهى من هذا أن التلاميذ، على ما يبدو، أنهم انضموا إليهم لأن على
أيديهم كانت الآية، وهي آية منصوص عنها أنها مسيَّانية. فإزاء هذا الموقف الشاذ
الذي يتعارض مع مشيئة المسيح، أسرع وألزم تلاميذه بركوب المركب بنوع من الأمر
القاطع حتى يتفرَّغ على انفراد بإقناع الجموع:
» فلمَّا رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا:
إن هذا هو بالحقيقة النبيُّ الآتي إلى العالم! وأمَّا يسوع فإذ عَلِمَ أنهم مزمعون
أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده
«(يو 6: 14و15). ولم يشأ يوحنا أن يكشف وضع التلاميذ، ولكن الذي كشف
وضع التلاميذ هو ق. مرقس الذي أخذ عنه ق. متى باختصار:
» وللوقت ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة «(مر 45:6). وهذا يكشف في الحال أن المؤامرة اشترك فيها التلاميذ،
ولكن المسيح أسرع وفصل تلاميذه وألزمهم بركوب السفينة حتى يصرف الجموع، الذين
ولابد احتاجوا إلى السلطان أيضاً، لأن الشعب الجامح صعب المراس.

23:14 «وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى
الْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هَنَاكَ
وَحْدَهُ».

كانت
تجربةً، استطاع الشيطان أن يقنع الجموع لا أن يؤمنوا بالمسيح لينالوا على يديه
الخلاص، ولكن، ومرَّة أخرى، لكي يعطيهم الخبز في القفر. فالتجربة التي أخرس بها المسيح
الشيطان عاد الشيطان بواسطة الشعب البسيط يعرضها عليه
وهو مختفي
فيهم
بهيئة مُلك
المسيَّا، وما المانع؟ والسبب أنهم أكلوا خبزاً بلا خبز، وكأنه حوَّل لهم الحجر أو
الرمل خبزاً حسب هوى الشيطان. كانت تجربة خطرة لإبطال الصليب، فأسرع المسيح
وبسلطانه انتهر الفكر الذي ركب أدمغتهم، وخرج إلى الجبل بذاته ليصلِّي مرَّة أخرى.
ولكن هل يُلام التلاميذ؟ طبعاً، إنه فكر طارئ مهوَّش لم يأمر به المسيح. فهو عمل
يخرج تماماً عن الطاعة بل يُحسب ثورة ضد إرادة المسيح.

24:14 «وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ
فِي وَسَطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ
مُضَادَّةً».

لا
ننسى هنا انحراف التلاميذ وراء فكر الشيطان، وهكذا أعطاه التلاميذ موضعاً فيهم وفي
مركبهم. فلا مانع من إظهار سلطانه بإثارة الهواء والبحر هذه المرَّة لتخويفهم.
فالسفينة أبحرت قبل حلول الظلام، واتجهت نحو الغرب نحو الشاطئ الغربي للبحيرة حيث
مدينة كفرناحوم وباقي المدن. والريح هبَّت ولكن بالاتجاه المضاد، أي من غرب إلى
شرق، فكلما جذَّفت السفينة مترين ترجع متراً، وهكذا صار التجديف صعباً للغاية بسبب
الريح المضادة، وصارت السفينة وكأنها لا تسير. أدرك المسيح هذا بروحه وليس من
رؤية، لأنها استحالة فالظلام قد حلَّ، والبحيرة عرضها ثمانية أميال، أي كانوا على
بُعْد ثلاثة أو أربعة أميال على الأقل. ولكن لأن التلاميذ كانوا يصلُّون ويصرخون
باسم المسيح سمعهم بروحه وبدأ يتحرَّك.

25:14
«وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ
مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ».

وهنا
يلزم أن نستشير كلاًّ من ق. يوحنا وق. مرقس، لأن ق. يوحنا كان يركِّز على المسيح:
» فدخلوا السفينة وكانوا
يذهبون إلى عَبْرِ البحر إلى كفرناحوم. وكان الظلام قد أقبل، ولم يكن يسوع قد أتى
إليهم. وهاج البحر من ريحٍ عظيمةٍ تهبُّ. فلمَّا كانوا قد جذَّفوا نحو خمسٍ وعشرين
أو ثلاثين غلوةً، نظروا يسوع ماشياً على البحر مقترباً من السفينة، فخافوا
«(يو 6: 1719). ومن هذا نعرف أنهم
كانوا قاصدين كفرناحوم وكان هياج البحر عظيماً، وأن الليل والظلام والشيطان كان
يخيِّم على البحيرة، وأن السفينة كانت قد قطعت نحو خمسٍ وعشرين غلوة أو ثلاثين.
والغلوة 8/1 ميل، بمعنى أن السفينة قد
ابتعدت نحو ثلاثة أو أربعة أميال من الشاطئ.

أمَّا
وصف ق. مرقس فكان هكذا:
»
وللوقت
ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوا إلى العَبْرِ، إلى بيت صيدا، حتى يكون قد
صرف الجمعَ. وبعدما ودَّعهم مضى إلى الجبل ليصلِّي. ولمَّا صار المساء كانت
السفينة في وسط البحر، وهو على البرِّ وحدَهُ. ورآهم معذَّبين في الجذف، لأن الريح
كانت ضدَّهم.
«(مر 6: 4548)

«وفي الهزيع الرابع»: tet£rtV d
fulakÍ

الهزيع
الأخير من الليل، وهو يبتدئ من الساعة الثالثة إلى الساعة السادسة صباحاً بحسب
تقسيم الزمن لبومبي، فقد اتفق اليهود مع الرومان على تقسيم الليل إلى أربعة أقسام
كل قسم ثلاث ساعات، وكان قبلاً ثلاثة أقسام كل قسم أربع ساعات.

وفي
هذا الميعاد انحدر المسيح من الجبل ومضى إليهم سائراً على الماء، وهو أصعب من
الاقتراح الذي قدَّمه الشيطان للمسيح أن يطرح نفسه من على جناح الهيكل ليهبط
رويداً رويداً وكأنه يسير في الهواء. وها هنا المسيح وبلا شيطان ولا تجربة يسير
على الماء، وهو أصعب من الانحدار في الهواء من علٍ. ولم تكن رحلة استعراض، بل رحلة
إنقاذ، فالسفينة بمَنْ فيها لعب بها الشيطان والبحر والريح معاً. ومع أن الريح
أيضاً كانت مضادَّة للمسيح ولكنه في الحال وصل بالقرب من السفينة، ورأوه فانزعجوا
لأن الأمر فوق تصوُّرهم، مع أنه سبق وأن أمر الريح والبحر أمامهم فأُسكتت الريح وانخرس
البحر الهائج (انظر: مت 8: 23
27). هنا امتطى المسيح
الهواء سائراً بنوع من إخضاع الطبيعة لضرورة إنقاذ الذين أشرفوا على الغرق. فلم
يكن السير على الماء إلاَّ ركوب الخطر لإخضاعه، كما يمتطي الإنسان حصاناً جامحاً
ليوقف جموحه. وهو منظر إيماني كبير يصلح للكنيسة أن تضعه فوق المنارة ليراه ويؤمن
به كل منزعج وكل مَنْ كان في خطر، أو تكون قد داهمته الطبيعة بكوارثها لينتهر الريح والبحر بقوة “الاسم”. ثم هذا
هو المسيح بالنسبة للكنيسة التي تتقاذفها أمواج
العالم العاتي وهي في اضطراب عظيم تنتظر مجيئه في الهزيع الرابع، لأن الظلمة
ادلهمَّت والريح عاصف والبحر جامح بالضد. لن نراه خيالاً بل سنمسك به ونلزمه أن
يدخل السفينة!! وقد سجَّلها ق. مرقس هكذا:

+
» فلمَّا رأوه
ماشياً على البحر ظنوه خيالاً، فصرخوا. لأن الجميع رأوه واضطربوا. فللوقت كلَّمهم
وقال لهم: ثقوا أنا هو، لا تخافوا. فصَعِدَ إليهم إلى السفينة فسكنت الريح.
فبُهِتُوا وتعجَّبوا في أنفسهم جداً إلى الغاية.
«(مر
6: 49
51)

26:14و27
«فَلَمَّا أَبْصَرَهُ التَّلاَمِيذُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ اضْطَرَبُوا
قَائِلِينَ: إِنَّهُ خَيَالٌ. وَمِنَ الْخَوْفِ صَرَخُوا! فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ
يَسُوعُ قَائِلاً: تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا».

فلمَّا
رآه التلاميذ ماشياً على الماء اضطربوا وظنوه خيالاً
f£ntasma (فانتوم = الشبح) ومن الخوف صرخوا. واضح أنهم حسبوه
منظراً خلَّقته الريح والأمواج الثائرة، وإذ تبيَّنوه اعتبروه روحاً فصرخوا من الخوف.

وفي الحقيقة، نحن نرى في قصة مشي المسيح على الماء صورة
واقعية توضِّح لنا القيامة. فجسد المسيح السائر فوق الماء في واقعه الحقيقي تحرَّر
من الجاذبية الأرضية نهائياً، وهكذا انفصل عن الأرض وكأنه في الهواء، ولهذا رأينا
خوف التلاميذ هنا يطابق خوفهم لمَّا دخل عليهم العليَّة، خافوا وظنوه روحاً مما
اضطره أن يقول لهم:
» ما بالكم مضطربين، ولماذا
تخطر أفكارٌ في قلوبكم؟ انظروا يديَّ ورجليَّ: إنِّي أنا هو. جسُّوني وانظروا، فإن
الروح ليس له لحمٌ وعظامٌ كما تَرَوْنَ لي
«(لو 24: 38و39). هذا يجعلنا نزداد اعتقاداً أن المسيح كان في حالة قيامة بالنسبة
لجسده إلى أن دخل السفينة. وكانوا في البداية خائفين أن يدخل السفينة لظنِّهم أنه
خيال. فلمَّا
» أراد أن
يتجاوزهم
«(مر 48:6)، » رضوا أن يقبلوه في السفينة. وللوقت صارت السفينة إلى الأرض
التي كانوا ذاهبين إليها

«
(يو 21:6). أمَّا حركة: » أراد أن يتجاوزهم « فنجدها تماماً مع تلميذي عمواس مع الرب القائم من بين الأموات،
وهم لم يعرفوه بعد:
»
ثم اقتربوا إلى القرية (عمواس) التي كانوا منطلقين إليها وهو
تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد فألزماه
قائلين: امكث معنا …

«
(لو
24: 28و29)، بمعنى أنه رأى إن كانا لم يعرفاه بعد، فلماذا يذهب معهما. فلمَّا
ألزماه التزم بالذهاب معهما. هكذا لمَّا صرخ التلاميذ في السفينة
وقالوا إنه
روح أراد أن يتجاوزهم،
»
فرضوا
½qelon
أن يقبلوه
labe‹n في السفينة «(يو 21:6). إذن، لا يمكن أن نتراجع في قولنا إن هذا الحدث
يصوِّر القيامة، بل هو تحقيق عملي على مستوى الفعل المنظور لجسد القيامة وهو
متحرِّر من الأرض وجاذبيتها. وعدم معرفتهم له ليست مستغربة، فهيئته لم تكن عادية
بكل تأكيد. وقوله:
» أنا
هو لا تخافوا
«هو لتحقيق شخصيته التي
غابت عن أعينهم الجسدية عن اضطرار.

ويكمِّل
لنا المشهد ق. مرقس:
»
فصعد
إليهم إلى السفينة فسكنت الريح. فبُهِتوا وتعجَّبوا في أنفسهم جداً إلى الغاية.
لأنهم لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة …
«(مر
6: 51و52). فماذا يقصد هنا ق. مرقس بقوله:
» لأنهم لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة « المعنى سرِّي، وهذا دائماً دأب ق. مرقس أن يضع الكلام حاملاً
السرَّ ويعبر إلى غيره. السرّ هنا أن المسيح كان في معجزة الخمس خبزات لمَّا كان
يكسر ويعطي كان يوقِّع ذلك على “سر الجسد”: «الخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي
أبذله من أجل حياة العالم»
(يو 51:6). المسيح في معجزة الخمس خبزات كان يوقِّع
على الحادثة، والمعجزة واقع موته وإمكانية إعطاء الخبز الذي يكفي العالم وليس
الخمسة آلاف فقط. فبحسب فطنة ق. مرقس أنهم لم يفهموا بالأرغفة سرَّ موته وسرَّ كسر
الخبز، ففات عليهم سرُّ قيامته وظنوه خيالاً!

28:1431 «فَأَجَابَهُ
بُطْرُسُ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْنِي أَنْ آتِي
إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ: تَعَالَ. فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ
وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إَلَى يَسُوعَ. وَلكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ
شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ، صَرَخَ قَائِلاً: يَا رَبُّ
نَجِّنِي. فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: يَا
قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟».

عسيرة
جداً على بطرس والتلاميذ وعلينا نحن خبرة القيامة، لازالت الأرض تشدُّنا إليها
ونحن لا نمارس وجودنا الحقيقي مع المسيح بعيداً عن الأرض والعالم. فطالما نظن أن
بالخبز وحده يحيا الإنسان فما لنا والحياة بدون خبز، وطالما نحس بالأرض تحت أرجلنا
فنثق أننا نعيش فكيف نرتفع عن الأرض ولا نخاف، أو كيف نسير على الماء وأجسادنا
ثقيلة! وإن كان بطرس قد رأى المسيح خيالاً فالأمر الذي أخذه منه لا يزال خيالاً.
الريح العاصف كشفه إذ لمَّا تعامل معه نسي أن له سنداً أقوى من الريح العاصف. في
البداية إذ وثق من أن المسيح أمامه بدأ يسير على الماء يسنده الإيمان، ولكن لمَّا
اشتدَّت الريح اختفى الإيمان بالمسيح ودخله الشك! الشك في ماذا؟ في وجود المسيح.
وهذا هو مصير الإيمان بالعيان أي بالمنظور والملموس. فلمَّا ابتدأ يشك ابتدأ يغرق،
فطلب النجاة خوفاً من الموت، ولكن ولو أنه تمسَّك بأمر المسيح ولم يخف من الموت ما
غرق!

ولكن
ألا ترى معي، عزيزي القارئ، أن تصريح المسيح لبطرس أن يأتي إليه ماشياً على الماء
تصريح لنا أن نطيع أمر المسيح، وبآن واحد أن نطأ الخوف من الموت ونستهين من الموت
ذاته!! المسيح كان ولا يزال واقفاً على الماء وسط الريح العاصف لنصرخ إليه فتمتد
يده لانتشالنا من الغرق. هذا هو المسيح القائم من الأموات له سلطان النجاة وحتى
الإقامة من الموت.

وبقيت
صورة بطرس هي هي: بطرس أنكر، بطرس غرق! والرب هنا مد يده وأمسك به، والرب هناك
صلَّى من أجله لكي لا يفنى إيمانه! بطرس عمله أقل من إيمانه وقوله أكثر من عمله.

المسيح
قال لمرثا:
» أنا هو
القيامة والحياة … أتؤمنين بهذا
«(يو 11: 25و26)،
فلمَّا قالت: نعم، قام أخوها!! في الطريق قال المسيح لرئيس المجمع لمَّا قالوا له
ابنتك قد ماتت لا تتعب المعلِّم، قال له:
» لا تخف آمن فقط «(مر
36:5)، فقامت الصبية.

والمسيح
لا يزال نصيحته الوحيدة: لا تخف آمن فقط لتذوق النصرة العجيبة!!

32:14و33
«وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ. وَالَّذِينَ فِي
السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: بالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ
اللهِ!»

كان منظر المسيح وهو سائر على الماء كمَنْ يمسك بأعنَّة
الرياح والأمواج ليُخضعها تحت سلطانه، فخضعت أمام أعين التلاميذ. أمَّا هو فكان
يسير على الماء وسط العاصف والموج الهائج لا يبالي من جهة نفسه. ولكن لمَّا صعد
إلى السفينة قبض على زمام الرياح والأمواج وجذبها فهدأت. إنه سيد الطبيعة وصديق
الإنسان، المسيح الذي جاء ليُخضع الطبيعة مرَّة أخرى تحت أرجل الإنسان. وفي إنجيل
ق. يوحنا يقول: إنه بمجرَّد أن وطأت قدم المسيح السفينة وُجِدَت لساعتها على
الشاطئ إلى الجهة التي أرادها. وهكذا انطوى الزمن تحت الضبط أيضاً مع الرياح
والأمواج ليكشف عن سلطان ابن الإنسان.

«وسجدوا له قائلين: بالحقيقة أنت ابن
الله»!

تحصيل
حاصل، لمَّا رأوا خضوع الماء والرياح والزمن أدركوا فيه سر الخالق. كان هذا رد
اعتبار لِما كانوا مزمعين أن يخطئوا به إليه عندما فكَّروا مع الجمع أن يختطفوه
ويجعلوه ملكاً للخبز البائد. الآن وبعد مظهر القيامة المذهل للعقل أدركوا أنه
مسيَّا حقـًّا وابن الله.

 

أشفية على بحيرة جنيسارت

[34:1436]                   (مر
6: 5356)

 

34:1436 «فَلَمَّا
عَبَرُوا جَاءُوا إَلَى أَرْضِ جَنِّيسَارَتَ، فَعَرَفَهُ رِجَالُ ذلِكَ
الْمَكَانِ. فَأَرْسَلُوا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ
وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا
هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ الَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ».

جنيسارت
هي باللغة الأرامية مختصر “جنة السرور”. وهي حقـًّا أرض جميلة حول البحيرة جنوب
كفرناحوم. أرض خصبة كلها خضرة بطول ثلاثة أميال على البحيرة وبعرض ميل ونصف غرب
البحيرة. وبحسب يوسيفوس فهي تنتج محاصيل نادرة مثل الجوز (عين الجمل) والبلح
والتين والزيتون والعنب. وقد بقي المسيح عندهم فترة فنالوا على يديه البركة
والشفاء والتعليم. وواضح أن مِنْ تعلُّقهم به أرسلوا رسلاً إلى كل الكور المحيطة
يدعون بقية الشعب للمجيء ونوال البركة. فجاءوا على عجل مجموعات مجموعات بالنساء
والأطفال، وكانوا قد تعرَّفوا على المسيح في مرَّات سابقة وأحبُّوه. وكان لهم
إيمان قوي بالمسيح إذ كانوا قد اكتفوا بلمس أهداب ثوبه لنوال الشفاء. أمر بديع
حقـًّا من شعب مُحب وبسيط. والتقرير مدهش حقـًّا أن كل الذين لمسوه نالوا الشفاء.
وهكذا بقدر حبِّهم له وإيمانهم به لم يرتد مريضٌ واحدٌ خائباً.



([1])
J.A. Bengel, op. cit., p. 297.

([2])
Ibid., pp. 298 f.

([3])
Ibid., p. 300.

([4])
J.A. Bengel, p. 301.

([5])
H.A.W. Meyer, op. cit., p. 270.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ى يَمْلة ة

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي