الإصحَاحُ
التَّاسِعُ عَشَرَ

 

بدء
القسم الخامس من خمسة أقسام الإنجيل

–   تعليم من جهة الطلاق                                                  (19:
1 12)

–   المسيح والأولاد                                                        (13:19
15)

–   الغني الحزين والتلميذ السعيد                                          (19:
1630)

 

تعليم من جهة الطلاق

[1:19-12]                    (مر
10: 1
12)

 

بمجرَّد أن أنهى المسيح تعاليمه في الأصحاح السالف (18) ترك
الجليل، ولكن الذي يسجِّله ق. لوقا عنه أنه بدأ سيره عبر السامرة، ثم في إقليم
بيرية، ثم جنوباً إلى اليهودية غرب النهر مقابل أريحا. وإذا عدنا إلى إنجيل ق.
مرقس لا نجد هذا الأمر واضحاً، إذ اكتفى بقوله:
» وقام من هناك (كفرناحوم) وجاء إلى تخوم اليهودية من عبر الأردن
«
(مر
1:10). وإلى هنا نكون قد تحقَّقنا أنه ترك الجليل للمرَّة الأخيرة ولم يعد إليها،
ويكون قد أكمل تعاليمه هناك. وكأن المسيح بتركه الجليل كان متجهاً عبر اليهودية
إلى أُورشليم في الحقيقة، ولكنه أمضى خمسة أشهر في اليهودية قبل أن يتجه مباشرة
إلى أُورشليم.

هنا
اتجه المسيح نحو إقليم بيرية عبر الأُردن وأعطى تعليمه في الأصحاحين (19و20).
ويحدِّد العالِم هِنْدركسن هذه المدَّة من ديسمبر سنة 29 إلى أبريل سنة 30([1]).
وقد عبر أثناءها الأُردن عدَّة مرَّات. علماً بأن بعض المدن في الضفة الشرقية للأردن
تُحسب ضمن إقليم اليهودية، لذلك حرص ق. متى أن يقول انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم
اليهودية من عبر الأردن([2])،
وعبر من بيرية غرباً إلى تخوم اليهودية مقابل مدينة أريحا([3])
(29:20).

1:19
«وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذَا الْكَلاَمَ انْتَقَلَ مِنَ الْجَلِيلِ وَجَاءَ
إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ».

وبقوله
هذا في بداية هذا الأصحاح
أو يكون مكانه الأصح
في نهاية الأصحاح (18)
يكون قد أنهى كتابه
الرابع.
فالأول ينتهي في (28:7) والثاني في (1:11) والثالث في (53:13) وهذا
الرابع في (1:19). وبذلك كما يقول بعض العلماء يكون التقسيم الذي أراده ق. متى
لإنجيله على نمط الخمسة أسفار التي للتوراة، حيث يختتم كتابه الخامس في (1:26).

2:196 «وَتَبِعَتْهُ
جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ هُنَاكَ. وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ
لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ
امْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ
الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟ وَقَالَ: مِنْ
أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ،
وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ
جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ».

يقول
ق. متى هنا إنه شفى جموع المرضى التي تجمَّعت حوله، ولكن ق. مرقس يقول إنه كان
يعلِّمهم، ويبدو أن المسيح لم يكن يشفي فقط بل كان يعلِّم أولاً وقبل كل شيء.
أمَّا مجيء الفريسيِّين فكان لتدبير فخ للمسيح، إذ هو هنا في أرض هيرودس الذي أطاح
برأس المعمدان، لأنه قال له، لا يحل أن تتزوَّج بمطلَّقة، وهي امرأة أخيه. لذلك
يقول ق. متى إنهم جاءوا ليجرِّبوه
peir£zontej، وتعني أن السؤال كان له طبيعة الإيقاع في فخ. والانشقاق في
التعليم بالطلاق عند اليهود لكل علَّة من عدمه، نابع أصلاً من الفُرقة بين مدرسة
هالليل ومدرسة شماي التي كانت شديدة التخطيط. وكانوا يأملون أن يوقعوا بين تعاليم
هالليل وشماي، ولكن المسيح ارتفع فوق المدرستين المرتبطتين بالناموس، ووضع أساس
الزواج على أصول الخلقة الأُولى، وبهذا جعل الطلاق أمراً غير وارد في قلب الله منذ
البدء. وبذلك يصبح الزواج ارتباطاً بين الرجل والمرأة ليصيرا جسداً واحداً، وليسا
بعد الزواج جَسَدَيْن. ومن هنا رأينا في شرحنا للآية (31:5و32)
([4]) أن اتحاد
الرجل بالمرأة أنشأ جسداً واحداً غير الرجل وحده والمرأة وحدها، بل جسداً ذا كيان
جديد يجمعهما في بركة الكنيسة بقوة الروح القدس، كيان له سلطان يجذب كلاًّ منهما
للآخر ويقدِّسهما معاً ويحافظ على وحدتهما بالروح أيضاً، لأنه سرٌّ يعمل فيه الروح
القدس، وبذلك ليس في سلطان إنسان مهما كان أن يحلَّه أو يفسخه.

ولم
يضع هنا المسيح أي قانون آخر للزيجة غير هذا المبدأ القاطع، أمَّا القول بالطلاق
لكل علَّة
p©san
a„t…an
فهو تعليم مدرسة هالليل، ولكن بحكمة فائقة لم يعلِّق المسيح على تعاليم
هالليل هذه، حتى لا يأخذوها ذريعة للإيقاع بأصحاب مدرسة هالليل هذه. يكفي أنه أعطى
البرهان مسنوداً بقوة الله والروح أن الزواج رباط غير قابل للإنحلال، ينتج عنه
جسدٌ واحدٌ لشخص واحد جديد من صنع الله. فهو خليقة من ذكر وأنثى تعبِّر عن تدخُّل
يد الله، ليس في مقدور الإنسان ولا من حقه أن يفصلها. ولكن في حديث آخر في الآية
(9) عاد وأضاف أن الزنا يفسخ العَقْد وسنأتي إليه.

7:1911 «قَالُوا
لَهُ: فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟ قَالَ
لَهُمْ: إِنَّ مَوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا
نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ
مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى
يَزْنِي، وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي. قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ:
إِنْ كَانَ هكَذَا أَمْرُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَلاَ يُوافِقُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ! فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الْكَلاَمَ بَلِ
الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُمْ».

أمَّا
قولهم لماذا أوصى موسى بأن يُعطى كتاب طلاق فتُطلَّق، فردُّ المسيح أن هذا ليس من
فكر الله بل من أجل قساوة قلوبهم، والمعنى ينصبُّ على معاملة المرأة بقسوة ومذلَّة
مِنْ قِبَل الرجل، لذلك أعطاها حق الطلاق، ولكن بكتاب في يدها يحميها من الانتقاد،
بمعنى أن الطلاق أصلاً هو صورة رديئة لمستوى الرجل في المعاملة والحياة الأسرية
وعدم أهليته للحياة مع زوجته.

أمَّا
منذ البدء فكان الرجال ذوي قلوب تخاف الله، وكانوا يعاملون زوجاتهم باعتبارهن هدية
اقتنوها من عند الرب. أمَّا قوله إن الزواج ينحل من تلقاء ذاته بسبب الزنا، لأن
الله هو الذي جمع، ودخول الزنا على وحدة الزيجة التي صنعها الله يعتبر دخول
النجاسة وإصبع الشيطان، فلا مكان لوحدة زيجة بعد. ولكن يعود المسيح ليقول إن الرجل
الذي يتزوَّج بأخرى بعد أن طلَّق امرأته، إذا لم يكن بسبب الزنا، فهو يعتبر
زانياً، لأن الطلاق بدون العلَّة غير قانوني، وهو مرفوض من قبل الله. أمَّا الذي
يتزوَّج بمطلَّقة مهما كان، سواء كانت صالحة أو زانية، فهو يزني، لأنها إن كانت
صالحة فهي لا تزال محسوبة على زوجها لأن الطلاق غير قانوني، أمَّا إن كانت زانية،
فمن يتزوَّج بزانية فهو شريك لها لأن كل مَنْ التصق بزانية هو زانٍ. وفي رسالة
بولس الرسول الأُولى إلى أهل كورنثوس ما يوضِّح هذا:
» وإن فارقته فلتلبث غير متزوِّجة أو لتصالح
رجلها، ولا يترك الرجل امرأته
«(1كو 11:7). بهذا
حتَّم المسيح أن لا طلاق البتَّة إلاَّ لعلَّة الزنا. وهنا لم يترك المسيح
اجتهاداً لمجتهد!

أمَّا
قول التلاميذ الذي يكشف أنهم استصعبوا شروط الزواج التي وضعها الرب وفضلوا عليها
عدم الزواج جملةً، فلم يراجعهم المسيح في ذلك، لأن مَنْ وجد في نفسه الكفاءة أن
يلتزم بشروط الزواج يتزوَّج، والذي لا يجد في نفسه الكفاءة لقبول شروط الزواج هذه،
فهو حرّ في ذاته لأن الزواج ليس أمراً حتمياً، ولكن عليه في نفس الوقت أن يتدبَّر
إمكانية حياته بدون زوجة. فإن كان قد نال في نفسه هذه العطية من الله أن يبقى بلا
زواج من أجل الله =
»
الذين
أُعطي لهم
« فهذا يمكن أن يبقى كما يقول ق. بولس » كما أنا « كمثال للذي نذر نفسه لخدمة الله.

وهذا
هو نفس الحال مع البنت إن وجدت نفسها أنها قادرة بنعمة الله أن تبقى بلا زواج من
أجل الله، يمكنها أن تقبل نذر نفسها كما يقول بولس الرسول:
» لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا. لكن كل
واحدٍ له موهبته الخاصة من الله. الواحد هكذا والآخر هكذا. ولكن أقول لغير
المتزوِّجين وللأرامل، أنه حسن لهم إذا لبِثوا كما أنا.
«(1كو
7: 7و8)

12:19
«لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ،
وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا
أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ
فَلْيَقْبَلْ».

هنا
تعليق على قول التلاميذ أنه لا يوافق الرجل أن يتزوَّج إن كان رباط الزواج لا
يُحلُّ والطلاق لا يجوز إلاَّ لعلَّة الزنا. فكان رد المسيح أن عدم الزواج هو
بمثابة أن يخصي الإنسان نفسه، أي لا يستعمل أعضاءه الجنسية بعد، وهذا فيه صعوبة
طبيعية لأنه مخالف لنظام الطبيعة، فسيعاني الإنسان الذي يمتنع عن الزواج ما يعانيه
الذي يخصي نفسه. ولأن هذا غير متمشٍّ مع الطبيعة، فيلزم أن يكون الإنسان قد وُهِبَ
موهبة من الله أن يحتمل آلام مقاومة الطبيعة. وطبعاً لا يكون ذلك إلاَّ من أجل
ملكوت السموات. لأنه حينئذ، وحينئذ فقط، يعطي الله نعمة وموهبة للإنسان أن يحيا بلا
عناء، أو أنه يحتمل كل عناء حبًّا وكرامة في الملك السماوي!

لذلك
نسمع من بولس الرسول، الذي هو نموذج لمن بقي بدون زواج من أجل ملكوت السموات التي
دُعي إليها من المسيح، أنه كان يقمع جسده ويستعبده، ويميت بالروح أعمال الجسد،
ويميت أعضاءه التي على الأرض، وأن يحسب كل ذلك ربحاً من أجل أن ينال ملكوت السموات
ويخدم دعوتها. ويوجد من الأمثلة القبطية نماذج رائعة وعالية القدر للذين عاشوا
كالقديس بولس بدون زواج حبًّا في الملك المسيح، مثل أنوار البرية الذين أضاءوا على
المسكونة كلها كالقديس أنطونيوس وباخوميوس ومكاريوس وبيمن وبموا وشيشوي وبيشوي
وغيرهم. ومن الكارزين أثناسيوس وكيرلس وغيرهم.

هؤلاء
جميعاً قبلوا الدعوة وأطاعوا وساروا بسيرة مقدَّسة وتركوا نماذج حيَّة ناطقة،
وكأنهم لم يموتوا، فنورهم يشرق على المسكونة جنباً إلى جنب مع الرسل والقديس بولس
والقديسين الذين جاءوا في عصر ما بعد الرسل. كُلُّهم أنوار تضيء كالجَلَد في سماء
عالمنا المظلم، نهتدي بخطواتها وكلماتها، نُحيِّي سيرتهم ونسير في موكبهم، تتساقط
أجسادنا على الأرض لتتقابل أرواحنا جميعاً في السماء ونشهد للمسيح ملك القديسين.

وفي
هذه السيرة نلاحظ أن الذي يقبل تكريس الحياة والجسد لملكوت الله يتخلَّص من همّ
باطل ليقبل اهتماماً صالحاً حسب ملاحظة بولس الرسول:
» فأريد أن تكونوا بلا هم، غير المتزوِّج يهتم
في ما للرب كيف يرضي الرب
« وعلى نفس النمط
يقول للعذارى:
» غير
المتزوِّجة تهتم في ما للرب لتكون مقدَّسة جسداً وروحاً، وأمَّا المتزوِّجة
فتهتم في ما للعالم كيف ترضي رجلها
«(1كو 7: 32و34).
ولكن إحقاقاً للحق وشهادة أمام الله أنه وُجِدَ من المتزوِّجين والمتزوِّجات ذوي
الأولاد من اهتم بالروح والإنجيل والخدمة والملكوت بدرجة يصغر أمامها أي مثل عادي
من أمثلة الذين عاشوا بلا زوجة وأولاد. فالمسيح لم يُقصر خدمة الملكوت على غير
المتزوِّجين، ولكن أطراف الحديث عن الطلاق هو الذي امتد بنا ليشمل الذين استطاعوا
أن يعيشوا بلا زوجة ردًّا على اعتراض التلاميذ. لهذا وجب التنبيه.

 

المسيح والأولاد

[13:19-15]                  (مر 13:10-16)، (لو 15:18-17)

 

13:1915 «حِينَئِذٍ
قُدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلاَدٌ لِكَيْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ،
فَانْتَهَرَهُمُ التَّلاَمِيذُ. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: دَعُوا الأَوْلاَدَ
يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ
السَّمَوَاتِ. فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ. وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ».

لقد
أحسن ق. متى في إيراد هذا الوضع
بعد حديث المسيح عن الزواج وقدسيته،
ويبدو أن هذا كان هو الواقع تاريخياً، أن قُدِّم إليه الأولاد بعد أن أنهى حديثه
عن الزواج. ومعروف أن للمسيح رؤية متَّسعة لقامة الطفولة، فهو أحبَّها جداً لأنها
جزء حي من ذكرياته الشخصية، ولها رنين وصدى دائم في نفسه لأنه يحمل معيارها الغائب
عن العالم:
» تعالوا
إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم
وتعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم
«(مت
11: 28و29). كما أنها أكثر القامات البشرية تعرُّضاً للافتراس من كافة الاتجاهات
العالمية سواء الاجتماعية أو الخلقية، فهي في أغلب الأحيان محرومة مظلومة مهانة
مستغلَّة مباعة بلا ثمن. مع أنها هي الخلايا الأولية التي تبني جسم البشرية،
واللبنات الأُولى التي يُبنى بها أساس الكنيسة. ولكن سر اللطمات العنيفة التي
تتلقَّاها الطفولة من العالم هو بسبب الزيجات الفاشلة واحتقار رباط الزوجية وغياب
روح الأمومة والعطف الأبوي. فيخرج الطفل يبحث عن قلب رحيم يحنّ إليه فيقع في مخالب
الذئاب. على أن لا شيء، سواء كان مؤسَّسة خيرية أو حضانة أو جمعية للأولاد الأيتام
أو بيوت رحمة، يمكن أن يحل محل أم الولد وهي ترضعه الحنان والرحمة والعطف، أو محل
الأب الذي يملأ قلب الطفل بالرجاء والسند والثقة والشجاعة والاعتماد على الذات.
فإذا لم يستقِ الولد أو البنت هذه الصفات الأساسية من الأسرة، سيتشرَّب من نقع
الأوساط الفاسدة خارج الأسرة. وهكذا يضيع الإنسان ويفقد بناءه الخلقي السليم ويعيش
بلا مُثُل عليا صالحة ولا هدف يسعى إليه.

لذلك
تجيء دعوة المسيح للعالم:
» دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم «
هي بمثابة وصيَّة آمرة ثمينة خرجت من فم الله ليتحمَّل تنفيذها كل مَنْ تعيَّن مسئولاً
عن الطفولة سواء الأسرة أو المدرسة أو المشرفين على الحياة الاجتماعية. إذ يطلب
المسيح أن يوصِّلوا إليه الولد وهو كفيل أن يعطي له كل ما كان ينقصه في الحياة.
فهو الوحيد الذي يملأ فراغ الأمومة والأبوَّة في حياة الولد أو البنت. فإن أخفق
الأب أو الأُم في أن يجعلوه صالحاً في الأسرة، فالمسيح يجعله عضواً صالحاً لملكوت
السموات وواحداً من أهل بيت الله مع القديسين. فقط:
» دعوا الأولاد يأتون إليَّ «

فالأم
الحكيمة إن أرادت أن ترفع عنها مسئولية نجاح وفلاح ابنها، عليها أن توصِّله إلى
المسيح، والأب الذي لا يقوى أو لا يملك الكفاءة أن يربِّي ابنه تربية صالحة عليه
أن يوصِّله للمسيح ويقف من بعيد يتعلَّم كيف
يبني المسيح أولاده. فالمسيح قالها وهو يعلم كيف سيربحهم جميعاً لملكوته

السماوي.

إن
عالي الكاهن يوم علَّم الصبي صموئيل كيف يتكلَّم مع الله رأساً عوضاً عنه، ضمن
لإسرائيل نبيًّا صالحاً قضى لإسرائيل كنبي ومعلِّم.

ثم
يقول ق. متى إنه: «وضع يديه عليهم»، وباركهم. هذا صار طقساً كنسياً يناله
المعمَّد بوضع يد الأسقف (أو الكاهن) عليه، مع الدعاء لحلول الروح القدس، ثم الدهن
بالزيت ليتقدَّس لحساب ملكوت السموات. ويقابلها هتاف الكاهن في القدَّاس لتكميل
السرّ: [أنت الذي وضعت يدك عليَّ وباركت طبيعتي فيك وأكملت ناموسك عني …]،
فرؤوسنا جميعاً طالتها يد الرب وتقدَّست بالدعاء. فنحن أطفال الله نترجَّى ملكوته!

 

الغنيّ الحزين والتلميذ
السعيد
([5])

[16:19-26]                  (مر 17:10-27)، (لو 18:18-27)

 

16:1920 «وَإِذَا
وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ
أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟ فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا
تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ.
وَلكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ فَاحْفَظِ الْوَصَايَا. قَالَ
لَهُ: أَيَّةَ الْوَصَايَا؟ فَقَالَ يَسُوعُ: لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَزْنِ. لاَ
تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ
قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. قَالَ لَهُ الشَّابُّ: هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ
حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟».

كل
الملابسات في الحديث وأهدافه تكشف أن هذه القصة أيضاً حدثت توًّا بعد بركة
الأولاد. وواضح أن فكرة التداعي هي سهولة دخول الأولاد لملكوت الله، فجاءت هذه
القصة لتكشف بآن واحد صعوبة دخول ملكوت الله، وتكشف في الحال أن المال الكثير كان
العثرة الوحيدة التي منعت ذلك الشاب الغني من دخول الملكوت، بل وجعلته يمضي حزيناً
في دنياه، إذ لا هو قادر أن يترك أمواله ويتبع الرب، ولا هو مرتاح ولا مطمئن أنه
يمكن أن يدخل الحياة بمجرَّد حفظه الوصايا التي أتمَّها منذ حداثته. مع أنه واضح
أنه كان يسعى ليدخل الحياة، ويتمنَّى لو يعمل أي عمل صالح بأمواله الكثيرة. كما
إنه واضح أنه طاهر إذ حفظ نفسه من عصيان الوصايا، بل إنه كان ذكيًّا أيضاً إذ عرف
مَنْ هو الذي يستطيع أن يدلّه على كيفية الدخول إلى الحياة الأبدية. ولكن هذه كلها
لم تسعفه لأن المال عدو خطير يُغرِي الإنسان على اقتنائه، فإذا اقتناه الإنسان صار
عبداً له.

علماً
بأن القديس متى يراه “شاباً”، والقديس لوقا يذكر أن هذا الشاب كان رئيساً:
» وسأله رئيس … «(لو 18:18)، والقديس مرقس يذكر أنه “جثا” أمام المسيح.
إذن، فهو على تقوى. ولكن كل هذه الخصال الطيِّبة استطاع المال الكثير أن يلغي
مفعولها جميعاً!! والعجيب أن هذا الرئيس أو الرجل الغنيّ كانت عنده فكرة عن
الصلاح، إذ تقدَّم للمسيح معبِّراً عن شعوره نحو المسيح بأنه المعلِّم الصالح،
لأنه كان يطمع في عمل الصلاح. لذلك فإن المسيح أراد أن يوجِّه نظره إلى مصدر
الصلاح الوحيد الذي يُغنيه عن كل عمل صالح:
» ليس أحد صالحاً إلاَّ واحد وهو الله « ولكن لأنه كان قد تثبَّتت عيناه وفكره على العمل الصالح فات عليه
مصدر الصلاح. أمَّا المسيح فقد بدأ يتدرَّج معه لكي يوصِّله إلى الله. فقال له عن
الوصايا. ولكن سرعان ما سدَّ على نفسه الطريق فقال: قد حفظتها منذ حداثتي
طيِّب
جداً.

21:19و22
«قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبِعْ
أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ
وَتَعَالَ اتْبَعْنِي. فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً،
لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ».

بقي
شيء واحد وهو الله أبو الصلاح، بع كل ما لك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء
وتعالَ اتبعني. والمسيح يؤسِّس هذه النصيحة على افتراضه هو لأنه دعا المسيح:
“المعلِّم الصالح”، وبالتالي رفع المسيح نظره إلى الله نفسه مصدر الصلاح. فكونه
يبيع كل ما له، فهو يحوِّله إلى كنز في السماء ينتظره فوق، وبهذا يُرضى قلب الله
الصالح، ثم يأتي ويتبع المسيح (المعلِّم الصالح)، وبهذا يكون قد عمل كل الصلاح!
ولكن علَّة هذا الرئيس الغني أنه كانت قد توطَّدت علاقته بأمواله، حتى لم يبقَ له
فرصة ليبحث في شئون نفسه أو حياته. فبمجرَّد ما وضعه المسيح في موضع الإنسان الحر
في قراره لكي يجحد أمواله، ظهر أنه ليس حرًّا بالمرَّة فقد استعبدته أمواله.

فبهذا
التدرُّج العجيب، استطاع المسيح أن يُعرِّي سؤال هذا الرئيس الذي تقدَّم به إلى
المسيح أنه يريد أن يعرف العمل الصالح الذي يورِّثه الحياة، فأوضح المسيح أنه سؤال
بلا سائل، فليس له أساس من واقع حر في الإرادة عنده. فالإرادة مستعبدة للأموال
الكثيرة. فعبثاً يشتاق، وعبثاً يسأل، بل والإجابة الصحيحة ورَّثته الحزن. فمضى حزيناً!!

23:19و24
«فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ
أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً:
إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ
إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ».

هنا
لم يسأل التلاميذ المسيح عن سبب ذهاب ذلك الرئيس هكذا حزيناً، ولكن المسيح هو الذي
تقدَّم بمبادرة يبلور فيها هذه المعادلة الصعبة: كيف يدخل الغني ملكوت الله!! فأن
يدخل الغني بأمواله ملكوت الله بأي وسيلة وأي محاولة فهذا أمر مستحيل، لأن الأموال
تحمل مضمون العالم بكل صوره من عظمة واقتدار وكرامة وظلم وغش ورشوة وكذب. إذن، فهي
استحالة أن يدخل الغني ملكوت الله وأمواله معه. إذن، لكي نصوِّر هذه المعادلة
المستحيلة وجد لها المسيح صورة صادقة للغاية، وهي مرور جمل من ثقب إبرة، ولكن نضيف
عليها نحن الغني نفسه، أي مرور غني راكباً جمله! تقول لي محاجاً ولكن فرضاً أن
الغني باع أمواله؟ إذن، فالجواب أنه يدخل حتماً الملكوت، لأنه حينئذ سيكون فقيراً،
ودخول الفقير ملكوت السموات لا يحتاج إلى خرم إبرة، بل بالعكس يدخل بالرحب والسعة.
لأن افتقار الإنسان من بعد غِنىً هو العبور من الباب الضيِّق. إذن، فالصعوبة التي
وضعها المسيح في هذه المعادلة المصوَّرة بدخول جمل من ثقب إبرة، ناتجة ليس من
الإنسان بل من الأموال. فهو هنا لا يقسو على الإنسان الغني، بل يقسو على الحِمْل
الذي يحمله وراء ظهره([6]).

25:19و26
«فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ: إِذاً مَنْ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: هذَا
عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ
مُسْتَطَاعٌ».

فزع
التلاميذ من القطع الذي قطعه المسيح بالنسبة لدخول الأغنياء ملكوت السموات، لأن
المحاولة جاءت من طرف الإنسان، من طرف الرئيس الغني بالنسبة لمحاولة دخول ملكوت
السموات بالأعمال الصالحة. ولكن ليست الحقيقة هكذا أبداً، بل الحقيقة أن دخول
ملكوت السموات عمل يضطلع به الله بواسطة يسوع المسيح، ويوفِّر للإنسان كل الإمكانيات
للدخول، لا على مستوى الأفضل أو بعد إجراء مسابقة أو امتحان، بل على مستوى الأطفال
والصغار والمزدرى بهم. دخول ملكوت السموات أيسر من دخول مدرسة الحربية أو قصر
الملك. ولكن إن كانت هناك أي صعوبة في دخول ملكوت السموات، فالمتسبِّب فيها هو
الإنسان وليس الله. فإن كان الطفل مهيَّأ أن يدخل ملكوت السموات فليستد فم كل
ناقد، وإن كان المساكين بالروح لهم ملكوت السموات فليخزَ المتشائمون، وإن كان
ملكوت السموات سهل الارتياد للمطرودين من أجل البر والمعيَّرين بالاسم والمشهَّر
بهم كذباً، فكلنا داخلون. إذن، فالصعوبة هي عند القادرين والأقوياء والعظماء
والأغنياء، وليست عند الأدنياء والمزدرى بهم ومساكين الأرض. فالعيب عيب هذا العالم
والذي يتمسَّك به، وبعد ذلك كل شيء مستطاع لدى الله. ثم إن التلاميذ خلطوا بين
دخول الملكوت والخلاص، فشرط دخول ملكوت السموات هو عدم التعلُّق بأي أمر من أمور
العالم، وذلك عند مَنْ قَبِلُوا المسيح وآمنوا بالحياة الأبدية. أمَّا الخلاص
فشرطه الوحيد الإيمان بالمسيح من كل القلب. فالغني الذي يستطيع أن يرتفع بإيمانه
بالمسيح وبالحياة الأبدية من كل القلب وبأمانة حتى إلى الموت، فهذا له الخلاص
والحياة الأبدية. فالإيمان بالمسيح حينما يبلغ درجة التسليم بالحياة، قادر أن يلغي
وجود العالم والمال والشهرة والغنى وكل أمجاد هذه الدنيا. لذلك حينما نتكلَّم عن
المال نقول إنه أعظم معطِّل لدخول ملكوت الله، ولكن حينما ندخل في الإيمان فهو
يفوق المال والعالم، وقادر أن يخلِّص حتى إلى التمام كل الذين يتمسَّكون به حتى
الموت.

وإن
أعظم مَثَل واجهته في حياتي للغنيّ الذي سيخلص هو حبقوق النبي: اسمع ما يقوله
حبقوق ويتحدَّى به العالم ورئيس هذا العالم والمال والغِنَى:
» فمع أنه لا يُزهر التين
ولا يكون حملٌ في الكروم، يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً (ملكه مع كل
هذه المقتنيات)، ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقرَ في المزاود، فإني أبتهجُ بالربِّ
وأفرحُ بإله خلاصي. الرب السيِّد قوَّتي ويجعل قدميَّ كالأيائل (كالغزال)
ويُمشِّيني على مرتفعاتي

«
(حب 17:319). هذا هو
الغنيّ الذي يستهتر بغناه ومستعد أن يصبح فلا يجده، حينئذ يرقص فرحاً ويهلِّل
مجداً للرب! إذن، أعطِ إنساناً من الغِنَى ما شئت، وأعطه قلب حبقوق وهو يدخل ملكوت
الله كسابق!

هوذا قد تركنا كل شيء وتبعناك:                              (مر 28:1031، لو 28:1830)

27:19و28
«فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ
شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ،
مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ
أَيْضاً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ
الاِثْنَيْ عَشَرَ».

شكراً
للقديس بطرس صاحب المبادرات المشهورة، لأنه أعطانا فرصة أن نعلم جيداً، وبوعد من
الحق، أن الرسل لهم نصيب سماوي فوق الجميع. والآن نحن تحقَّقنا من وعد المسيح
وأصبحنا نحن بدورنا مديونين لهم بإيماننا وحياتنا الجديدة في المسيح:
» مبنيِّين على أساسِ
الرسل والأنبياءِ، ويسوعُ المسيح نفسه حجرُ الزاويةِ.
«(أف
20:2)

«التجديد»: paliggenes…v

اصطلاح
عميق مليئ بالمعاني، ويقصد به المسيح عملية التغيير العظمى من القديم إلى الجديد،
ويقصد به عالم السموات والروح، حتى أنَّ الترجمة الإنجليزية اختارت لها
the new world
أي العالم الجديد، والمعنى “الخليقة الجديدة” بحسب بنجل([7]).
وهو اصطلاح استخدمه ق. بولس:
» لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل
الميلاد الثاني
paliggenes…aj وتجديد ¢nakainèsewj
الروح
القدس
«(تي 5:3). هنا اختصر المسيح غسل الميلاد الثاني وتجديد الروح بلفظة
“التجديد”، والتي تعني بحسب بنجل: حينما يولد عالم الإنسان نفسه
microcosm وبه يولد العالم
الكبير
macrocosm ثانية، الأمر الذي تكلَّم عنه بطرس الرسول أيضاً: » ويرسل يسوع المسيح
المبشَّر به لكم قبل. الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي
تكلَّم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر
«(أع
20:3و21)، والتي تكلَّم عنها المسيح نفسه في إنجيل ق. لوقا:
» ولكن الذين حُسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر
والقيامة من الأموات … هم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة
«(لو
20: 35و36)، كذلك القديس يوحنا في رسالته الأُولى:
» أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يُظهر بعد
ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو.
«(1يو 2:3)

وهنا
يتكلَّم المسيح عن بداية الدينونة، وكيف سيظهر الاثنا عشر رسولاً جالسين على اثني
عشر كرسياً يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر، على ما اقترفوه في حق الرسالة. ويصف
المسيح الوقوف أمام المسيح للباقين هكذا:
» اسهروا إذاً وصلُّوا وتضرَّعوا في كل حينٍ لكي
تُحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون وتقفوا قدَّام ابن الإنسان
«(لو 36:21). ويؤكِّدها بولس الرسول في رسالته الثانية لأهل
كورنثوس:
» لأنه لابد
أننا جميعاً نُظهَر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع
خيراً كان أم شرًّا.

«
(2كو 10:5)

أمَّا
وعد المسيح في جعل الرسل الاثني عشر قضاة لإسرائيل يقضون للأسباط الاثني عشر،
علماً بأن الاثني عشر هم أصلاً من بني إسرائيل، في هذا يعطي إشعياء نبوَّته لتلك
الأيام التي يتكلَّم عنها المسيح هكذا:
» وأعيد قضاتك كما في الأول ومشيريك كما في
البداءة.
«(إش 26:1)

الترك المربح:

29:19و30
«وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتَاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ
أُمًّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي،
يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. وَلكِنْ كَثِيرُونَ
أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ».

القديس
مرقس يزيد على هذا الوعد أمرين: الأول أنه يحدِّد الترك أن يكون
» من أجلي ومن أجل
الإنجيل
« والثاني أن المائة ضعف التي يأخذها كتعويض زمني في هذا العالم » تكون مع اضطهادات «(مر 30:10). وهنا كلمة: » بيوتاً «جاءت في إنجيل ق. مرقس: » بيتاً «بالمفرد لأن المقصود كما يقول
العالِم بنجل
هو البيت الذي يسكن فيه الإنسان وليس فقط الذي
يقتنيه. وبعد ذلك يذكر القديس متى المتروكات اثنين اثنين وإنما في ترتيب تصاعدي.
كذلك فكلمة:
» امرأة «جاءت بالمفرد، وهذا
صحيح دفعاً للفهم الخاطئ من جهة تعدُّد الزوجات. وكلمة:
» من أجل اسمي «فهنا إشارة للاعتراف باسم المسيح، بمعنى
الاستعداد للاستشهاد، وفي إنجيل ق. مرقس يكمِّل:
» ومن أجل الإنجيل «
ويعني بها الكرازة والخدمة. كذلك يضيف ق. مرقس بعد المائة ضعف:
» بيوتاً وإخوة وأخوات
وأُمهات وأولاداً وحقولاً
«في هذا الدهر، ليوضِّح العوض الزمني، بمعنى عدم الحرمان من
مشاعر الأسرة التي سيوفِّرها له المسيح بالروح، وعوض الأب فالمسيح يعطيه روح
البنوَّة للآب السماوي، وعوض الأُم سيشعر بأمومة الكنيسة، وعوض المرأة هنا، يرفع
عن الرجل والمرأة كل منهما إحساس العوز للآخر، لأن هذا العوز أنشأه الله بالخلقة
الطبيعية لإنجاب النسل ليملأوا الأرض، أمَّا الآن فعوز الجسد للجسد يكف بنعمة
الروح القدس، ويصبح عوزاً نحو السماء لإعطاء أولاد بالروح يرثون الملك السماوي.
كذلك الأولاد يتحوَّل الحنين إليهم إلى الحنان عليهم كأولاد لله بعد. كذلك فالمائة
ضعف تشمل بالدرجة الأُولى تعزيات الله والنعمة التي ترافق الإنسان وتعوِّضه آلاف
المرَّات وليس المئات فقط عن كل ما قدَّمه، لأن العطية الروحية وزنها عالٍ جداً لا
يقارن بالنسبة لوزن ما يتركه الإنسان على الأرض. فالفقر الإرادي بالجسد عموماً
يتحوَّل إلى غِنَى روحي، والعوز إلى شبع، والفقدان إلى ملء.

ويعود
المسيح ويوضِّح أن الجزاء والتعويض، سواء على الأرض أو في السماء، لا يتبع قاعدة
الترتيب أو المستويات بأي نوع. فالأول هنا لا ينتظر أن يكون أولاً هناك، ولا
الأخير هنا يكون أخيراً، فقد ينقلب الترتيب وتنقلب النسب، ذلك حسب صلاح الله في
العطاء. وسيأتي المَثَل القادم في الأصحاح القادم ليشرح هذا المبدأ.

ولكن
لماذا مائة ضعف، وعلى أي نسبة أو قانون وضعها المسيح؟ لقد حدَّدها بالحد الأقصى
ثلاثين
وستين ومائة
فيما تربحه كلمة الملكوت إن صادفت تربة صالحة
أي قلباً صالحاً، والآن نحن هنا بصدد “فعل” للملكوت وهو هنا يصادف قلب الله،  فلا
بد من الحد الأعلى، فالمائة مضمونة وهي أيضاً على وجه الأقل. فالترك للعالم ولكل
ما في العالم، ولمن يعمل في العالم، هو فعلٌ ردُّ فعلِه ملكوتي. فله ربحه السماوي،
ولكن لأنه تركٌ أرضيٌ فهو يطبَّق أولاً علناً على الأرض، وثانياً سرًّا في ملكوت
الله. ولكن بتطبيقه على الأرض وفي العالم علناً، هنا مجابهة مباشرة لرئيس هذا
العالم الذي لا يمكن أن يغتفرها للإنسان، الذي اجترأ واحتقر مملكته واستهان بعلائق
اللحم والدم التي هي صنعته في نسج الأهواء والشهوات والرباطات الأرضية الحديدية
بالأب والأُم والبيت والزوجة والأولاد. هذه قوام إيبارشيته التي يترأَّس عليها
ويغزل منها خيوط فخاخه وروابط دهرية لا ينفك منها الإنسان إلاَّ بالمستحيل، من عند
الله. لذلك يتصدَّى للذي ترك فيغرِّمه في نفسه ولحمه ودمه بقصاص يخرج منه بصعوبة
لولا سند الروح والنعمة. ولكن إذ يصنع هذا بالإنسان الذي بذر بذاره في ملكوت
السموات، يأخذ عنها كلُّ الذي يمرق من بين يديه مائة ضعف أيضاً عزاءً ورجاءً
وفرحاً ونعيماً. لأن العمل هنا والفعل يدخل في دائرة ملكوت الله بجملته.



([1])
W. Hendriksen, op. cit., p. 711.

([2]) H.A.W. Meyer, op. cit.,
p. 336.

([3])
Ibid.

([4]) انظر ما سبق في صفحة 245248.

([5])

احفظ حيـاتي ليكون

واحفظ زماني شاكراً

  تكريسها يا رب لك

  فيـــه دوامــاً عملـك

 

([6]) يُحكى أن ثعلباً اشتهت نفسه عنب الحديقة التي يمر عليها كل يوم، فجاذف
وأخذ يبحث في سورها عن ثقب يدخل منه، وبالضيق دخل الحديقة وقال لنفسه كلي يا نفسي
واشبعي. فأخذ يأكل بلا حساب حتى سمن وزاد حجمه. وفي يوم رآه الحرَّاس فجروا وراءه،
ولكنه استطاع أن يخاتلهم، والثعلب ماهر في المخاتلة، ولكن علم أن يومه قريب فذهب
يبحث في السور عن الثقب الذي دخل منه فوجد الأمر مستحيلاً إذ زاد حجمه، فذهب
حزيناً إلى جحره المظلم وصام عن العنب والسرقة، وكان يذهب كل ليلة إلى الثقب فيجد
أنه لا يزال سميناً. وأخيراً جداً، وبعد أن فقد كل ما أكله في الحرام حاول وبصعوبة
بالغة أمكنه عبور الثقب ولكن بجروح في جلده
تذكاراً لمأساته، فخرج وهو يلعن العنب وأكل العنب. هكذا خروج النفس من هذا

العالم.

([7])
J.A. Bengel, op. cit., p. 365.

ويستخدم
هذا الاصطلاح القديس كليمندس الروماني في رسالته الأُولى (4:9) بمعنى: “تجديد
الخليقة بعد الطوفان في أيام نوح”.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس الكتاب الشريف عهد قديم سفر هوشع 03

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي