الإصحَاحُ
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ

 

الجزء
الأول من الحديث الخامس الكبير

أخطاء
الكتبة والفريسيين

–   المقدِّمة                                                                 (23: 1 3)

–   وصف خطايا الكتبة والفريسيين                                       (4:2312)

–   الويلات السبعة                                                         (23: 1336)

–   بكاء المسيح على أُورشليم                                             (23: 3739)

 

تمهيد

 

قدَّم
القديس متى في الأصحاحات السالفة المسيحَ كمعلِّم للحق وفاتح طريق وباب ملكوت
السموات، وفي الأصحاح الثالث والعشرين يبدأ المسيح يأخذ عمله كديَّان.

يمتلئ
الجزء الأول من الإنجيل بالتطويبات والوعد بالبركات، وهنا يبدأ يعطي الويلات للذين
رفضوا التعليم بالتطويبات، كما يركِّز المسيح الدينونة على الفريسيِّين
والفريسيَّة بروحها التي عزلت الشعب عن مخلِّصه وفاديه، وحرمت الأُمة من مصيرها في
التجديد وميراث ملكوت السموات.

لذلك
قبل أن ينهي المسيح رسالته كان يتحتَّم أن يكشف الغطاء عن التعليم الكاذب
والمعلمين الكذبة، ليسلِّم الوديعة محفوظة في الإنجيل لأيدي تعيش وتعلِّم بحق
الإنجيل.
لأن المسيح بذلك يسلِّم للكنيسة الجديدة الخلاص خلواً من عوائق لتعيش
وتعلِّم به. ويضع أمامها الطوبى للالتزام بالتعليم حسب الإنجيل، والويل إن هي
انحرفت نحو الفريسيَّة من جديد لتغلق الملكوت المفتوح وتعرِّج الطريق المستقيم.
لأن روح النقمة صبَّها المسيح على الكتبة معلِّمي الناموس الذين علَّموا تعاليم
انتهت بغلق الملكوت على أنفسهم أولاً، ومنعت الداخلين من الدخول:
» ويل لكم أيها الكتبة
والفريسيُّون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدَّام الناس، فلا تدخلون أنتم
ولا تدعون الداخلين يدخلون.
«(مت 13:23)

وهكذا
أنهى المسيح تعاليمه الإيجابية كلها بهذه التعاليم التي تكشف مواطن الزلل حتى
تحترس منها الكنيسة.

ينقسم
هذا الحديث الطويل إلى ثلاثة أقسام بعد أن يبدأه بمقدِّمة قصيرة (1
3) تحمل
التوجيه بأن يطيع الشعب الكتبة والفريسيِّين في كل ما يعلِّمونه ويشرحونه من وصايا
موسى، ولكن يحذِّر تلاميذه والشعب أن لا ينقادوا إلى سيرتهم وأعمالهم لأنهم لا
يعملون بحسب ما يعلِّمون.

أمَّا
الثلاثة أقسام فهي:

(
أ ) القسم الأول: وصف خطايا الكتبة والفريسيِّين (3
12).

(ب)
القسم الثاني: السبعة ويلات التي صبَّها المسيح على الكتبة والفريسيِّين (13
36).

(
ج ) القسم الثالث: بكاء المسيح على أُورشليم (37
39)

وفي
القسم الأول يبيِّن المسيح كيف أن هؤلاء الحفظة للقانون الموسوي (الناموس):

1 – قد قصَّروا في إخلاصهم في تعليم الشعب إذ وضعوا
على ظهورهم أحمالاً ثقيلة من التعاليم والتحذيرات
والتخريجات، ولم يحاولوا أن يساعدوا الشعب في تحمُّلها لا بالمثال ولا بالشرح.

2
لم يراعوا
إمكانيات الشعب واحتماله، ففقدوا الإحساس بمرارة الشعب إذ لم يحاولوا أن يخفِّفوا
عنهم أثقالهم.

3
كانت
أعمالهم كلها للظهور والتفاخر لإقناع الشعب عن غير صدق ببرِّهم الشخصي وتقواهم
الصورية. يعرِّضون العصائب ويطيلون أهداب الثياب ويحبون المتكآت الأُولى وأن
يدعوهم الناس سيِّدي سيِّدي. وحذَّر تلاميذه من هذه الكبرياء المفتعلة على حساب
الدين.

والقسم
الثاني يشمل السبعة ويلات التي صبَّها المسيح على الكتبة والفريسيِّين لأنهم:

1
أغلقوا
ملكوت السموات أمام الناس فلا دخلوا هم ولا جعلوا الداخلين يدخلون.

2
يجرون
ليكسبوا الدخلاء، ولكن بقدوتهم السيِّئة يجعلونهم أردأ منهم.

3
جعلوا
الحلفان بالذهب أكرم من الحلفان بالهيكل!! والقربان أكرم من المذبح. وهكذا أهانوا
الهيكل والمذبح.

4
تركوا
العدل والرحمة والحق وانشغلوا بأخذ العشور على الكزبرة والكمون والشبث باهتمام.
يصفُّون عن البعوضة ويبلعون الجمل.

5
اهتموا
بتطهير الكأس والصحفة من الخارج وسرقوا ما بداخلها.

6
اهتموا
جداً بمظاهر الدين ليخفوا العار والجريمة.

7
زيَّنوا
قبور الأنبياء الذين قتلهم آباؤهم للادعاء أنهم أفضل من آبائهم.

وأخيراً
عدَّد المسيح دينونتهم وأعدَّها لهم (33
36).

أمَّا
البكاء على أُورشليم التي لم تعرف زمان افتقادها فقد جعله ختام العظة وهو قسمها
الثالث، ولكن أخطر ما جاء في هذا الحديث المطوَّل هو الوعد بخراب أُورشليم، مع
كلمة وداع أنهم لن يروه بعد ذلك إلاَّ في مجيئه الثاني حينما يقولون له مبارك
الآتي باسم الرب.

 

المقدِّمة

[1:233]

 

1:233 «حِينَئِذٍ
خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ
وَتَلاَمِيذَهُ قَائِلاً: عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ
وَالْفَرِّيسِيُّونَ، فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ
وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ».

هنا نقطة هامة يلزم الانتباه لها أثناء القراءة، فالمعنى
يوحي بأنهم جلسوا بسلطان موسى أو من الله كمختارين أو معيَّنين. هذا المعنى خاطئ،
والمقصود بحسب الكلام كله أنهم هم الذين أجلسوا أنفسهم على كرسي موسى.
فكرسي موسى لا يعطيهم سلطاناً خاصاً، ولكن السلطان الوحيد هو سلطان الحق الذي في
الوصية والتوراة، فهذا هو الذي يُحفظ ويُعمل به، ولكن أعمالهم وسلوكهم يلزم أن لا
تدخل في مجال الوصية أو التوراة عموماً، لأنهم لا يعملون بحسب ما يعلِّمون. لذلك
أصبح من الحتمي التفريق بين ما يقولونه من نص الناموس وشرحه والعمل به وحده، وبين
ما يعملونه من الذي لهم من حيث حياتهم الخاصة وفكرهم الخاص. والمسيح هنا لا ينتقد
كتبة وفريسيين معيَّنين كأنهم للجيل الذي يعيش فيه المسيح، ولكن يتكلَّم عن وضعهم
العام الذي أخذوه من أيام عزرا الكاهن. فالكاتب هو المختص بشرح التوراة والذي عليه
أن يعلِّم الشعب معناها. وفي هذا الوضع ليس شيء ما خاطئاً، ولكن هؤلاء تعيَّنوا
بحكم وظيفتهم التي اتخذوها لأنفسهم مهنة لهم، وليسوا معيَّنين من الله. أمَّا كلمة
كرسي موسى فهي لا تحمل معنى التعيين من الله أو موسى أو أن هذا يمنحهم سلطاناً
خاصاً. لأن “كرسي =
Cathedra” لا تفيد أكثر من المكان الذي تذاع
منه نصوص التوراة وشرحها. ولكن لا يعطيهم حق التسلُّط أو تقديس الشخصية. فسلطان
الكرسي الوحيد هو التوراة والناموس. وهكذا تحتَّم أن لا يُؤخذوا كمثل للتوراة أو
نموذج لتكميل الناموس، لأن أعمالهم تكشف عدم التزامهم بالتعليم الذي يقولونه.
فالمسيح يؤكِّد هنا على طاعة الحق الذي في التوراة والناموس. وليس للكاتب أو
الفريسي استغلال موقعه كمعلِّم “لحق” التوراة و“حق” الناموس ليذيع من عنده حقا آخر
غير حق التوراة والناموس. والمَثَل لذلك ما أقدموا عليه ليؤاخذوا المسيح وتلاميذه
أنهم يأكلون الخبز بدون غسل أيديهم، هذا الحق ليس حق التوراة ولا الناموس،
ولكن هو فكر الناس تداولوه وأدخلوه على التوراة والناموس، وألزموا به الشعب
فأرهقوه إرهاقاً لا يوصف بمثل
مئات من هذه التعاليم التي
جاءت من عندهم هم، من أفكارهم هم، وليس من التوراة أو الناموس.

لذلك نجد المسيح قد كسر عن قصد كل تقليد للشيوخ لأنه دخيل
على الناموس، واعتبره عملاً خارجياً مظهرياً وليس من جوهر الناموس. وهكذا ينبِّه
المسيح أن ليس كل ما يقولونه يُعمل ولكن الذي يقوله الناموس ويأمر به هو الذي
يُطاع. وهذا هو صميم المعنى من قوله:
» جلس
الكتبة والفريسيُّون على كرسي موسى (وهنا أَسقطت الترجمة العربية كلمة: “لذلك
= oân”) فكل ما قالوه لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه
«

كلمة “لذلك” هنا هي التي أعطت معنى “الكرسي” وهو معنى تعليمي ملزم، ولكن
إلزامه يتحتَّم أن يكون من واقع صاحبه وهو “موسى”. فكرسي موسى يُقال من
عليه كلام موسى فقط
وتعاليم موسى فقط. وبناءً على مركز
موسى تتحتَّم الطاعة ويتحتَّم التنفيذ. إذن، فسلطان الكرسي هو
محدود بصحة ودقة تعليم موسى، ولا يُعطِي من يجلس عليه أي
سلطان شخصي غير سلطان تعليم موسى الحرفي.

فإن كانوا هم الذين أجلسوا أنفسهم على كرسي موسى فلا مانع،
ولكن هذا لا يعطيهم السلطان أن يعلِّموا إلاَّ بتعاليم موسى فقط. ومن عندهم لا
يُقبل تعليمٌ آخر.

ولكي يدلِّل المسيح على عدم صلاحيتهم أن يعطوا أي تعليم أو
شرح آخر غير الناموس المكتوب والمحفوظ ابتدأ يكشف حياتهم الخاصة لكي يُحطِّم
ادعاءاتهم بأنهم أبرار بحسب الناموس، أو أن من برِّهم الخاص يعلِّمون.

وفي قول المسيح: » فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه واعملوه « هذه وصية جديدة للكنيسة بالنسبة لكل مَنْ يعلِّم في
كنيسة المسيح، أسقف أو كاهن أو واعظ أو معلِّم من قبل الكنيسة. فقد أوصى المسيح
بالطاعة والسماع والتنفيذ دون نقد أو تذمُّر أو مراجعة، لأن الأمر الذي كان غائباً
عن الكتبة والفريسيِّين وهو سلطان الله والكلمة بالروح القدس، هذا هيَّأه المسيح
للكنيسة. فأصبح التعليم في كنيسة المسيح كأنه من فم المسيح والروح القدس، خاصة
بالنسبة للتعليم والشرح والتوجيه لبناء الكنيسة والنفس:
» وأمَّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلَّم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجِّدني لأنه يأخذ مما
لي ويخبركم.
«(يو 16: 13و14)

لذلك
فمشكلة الألقاب التي سينقدها المسيح من أب وسيِّد ومعلِّم، أصبحت هنا في العهد
الجديد ليس لها وقع الذاتية والبشرية للكبرياء والانتفاخ، بل تعبيراً عن مصدر
التعليم والنعمة والحق:
»
مَنْ
يقبلكم يقبلني ومَنْ يقبلني يقبل الذي أرسلني
«(مت
40:10). هنا تبدو الشخصية الكنسية للأسقف أو الكاهن أو الخادم منعدمة، والظاهر
والمؤثِّر والفعَّال هو الآب والابن والروح القدس، طالما لا يبرز الخادم ذاته أو
يعتد برأيه فوق ما يقوله الإنجيل.

 

وصف خطايا الكتبة والفريسيِّين

[4:23-12]                    (مر 38:12-40)، (لو 45:2047)

 

4:23
«فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ
وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ
يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ».

المعنى
هنا مختفي في الآية ولكن دقيق جداً ومبدع، فالمسيح لا يريد أن يقول إنهم يحمِّلون
أحمالاً ثقيلة ولا يريدون أن يساعدوهم في حملها. ولكن الآية تقوم هنا على قطبين:
الأول أكتاف الناس، والثاني إصبعهم. الأول يوضع عليه والثاني يحرِّك. فما يضعونه
ويثقِّلون به على أكتاف الناس لا يكلِّفون أنفسهم به حتى ولا بحركة أصابعهم.
والمعنى أنهم لا يلتزمون إطلاقاً بما يعلِّمون الناس به من تعاليم وتخاريج جعلت
حمل الناموس ثقيلاً حقا على الناس، ولا يتحمَّلون منه شيئاً على أنفسهم ولا حتى
على إصبعهم. وهذا يكشف انعدام الصدق في التعليم وانعدام الإيمان بما يعلِّمون به!!
وهذه مصيبة التعليم الذي يستحيل أن يثمر. لذلك يقول النبي:
» هلك شعبي من عدم المعرفة. «(هو
6:4)

5:237 «وَكُلَّ
أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ
عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ
الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ،
وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي
سَيِّدِي!».

«لكي تنظرهم»: qeaqÁnai

الكلمة اليونانية هي المشتق منها كلمة ثياترو أي مسرح تمثيلي
وهي كلمة لاذعة (انظر شرح 1:6).

وهنا
يبتدئ المسيح (كملك وديَّان) يرصد حركات هؤلاء الكتبة والفريسيِّين التي تكشف نوع
حياتهم، فكل أعمالهم لا تُعمل خوفاً من الله أو محبة له وللقريب، أو حتى من أجل
الواجب والمجاملة، ولكن لكي تنظرهم الناس. حتى في شئون العبادة.

1
ويعطي لذلك
مَثَل العصائب، وهي الأربطة التي يلفونها حول جبهتهم ورأسهم وهي
تحمل أكياساً من الجلد داخلها مكتوب مختصر للناموس وتسمَّى
Phylacteries وهي مذكورة كتعليمات من الناموس، وذلك إمعاناً في حفظ واحترام
وتبجيل الناموس فوق كل شيء آخر:
» وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً: من أجل ما صنع إليَّ الرب
حين أخرجني من مصر. ويكون لك علامة على يدك (الشمال) وتذكاراً بين عينيك لكي تكون
شريعة الرب في فمك، لأنه بيد قوية أخرجك الرب من مصر، فتحفظ هذه الفريضة في وقتها من سنة إلى سنة

«
(خر
8:13
10، تث 4:69، 18:1121). وهي تُربط
على الجبهة بين العينين، وهذا المكان معروف لدى الروحانيين أنه مركز العين الثالثة
التي لها خاصية رؤية السماويات. أمَّا التي على اليد الشمال فلكي إذا طبَّقها على
صدره تأتي على موضع القلب مباشرة، وكل ذلك إمعاناً في تذكار وتبجيل الناموس
والوصايا. ولكن انقلبت إلى تعويذة للحفظ والحماية من أعمال الشيطان. أمَّا هؤلاء
الكتبة والفريسيُّون فصاروا يعرِّضون عصائبهم التي على الجبهة حتى يراها الناس لكي
يكرِّموا تقواهم.

2
وأيضاً
يعظِّمون (يُطيلون) أهداب ثيابهم السفلى. والغرض منها التمادي في تذكار الشريعة.
فهي زينة الرجل:
»
كلِّم
بني إسرائيل وقل لهم أن يصنعوا لهم أهداباً في أذيال ثيابهم في أجيالهم، ويجعلوا على هُدب الذيل عصابة (شريط) من أسمانجوني …
فترونها وتذكرون كل وصايا الرب وتعملونها
«(عد 15: 38و39). فبعد أن
كانت أهداباً قصيرة للتذكار صارت وكأنها ذيول تجري خلفهم يرفعها لهم أتباعهم.

3
ويحبُّون
متكآت الكرامة بين الناس سواء كان في المجامع للصلاة أو الولائم. وقد ذمَّها
المسيح كثيراً لأنها داءٌ للمتكبِّرين (لو 8:14).

4
ويطلبون
التحيَّات في الأسواق وأن يدعوهم الناس سيِّدي سيِّدي.

وليلاحِظ
القارئ أن المسيح يصف الكتبة والفريسيِّين وينتقدهم بملابسهم وأعمالهم وأحوالهم
وهم واقفون أمامه وأمام كل الشعب، وهذا في الحقيقة عمل يحتاج إلى شخصية ملك ديَّان
لا يقوى عليها نبي.

وهنا
لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن المسيح يُمْلي ويسجِّل عيوب رجال الدين وخاصة
المعلِّمين، حتى تتعلَّم الكنيسة ما هو حق وما هو باطل. فالكلام كان موجَّهاً
للرسل كأهم غرض حتى يتسلَّموا الفكر والتعليم والعمل الصحيح، ولا تدخل في الكنيسة
هذه الشوائب بل الفضائح التي أنهت على العبادة اليهودية وجعلتها أقل العبادات: «إن
العشَّارين والزواني يسبقونكم (الكتبة والفريسين ورؤساء الكهنة) إلى ملكوت الله»

(مت 31:21)، «ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره» (مت 43:21).
وطبعاً هذه المصائب والكوارث التي حلَّت بالهيكل ورجال الدين جميعاً بكل درجاتهم
كانت الرد المباشر على السلوك الفاضح الذي ذكره المسيح في مواضع عديدة وكرَّرها هنا
نقول: كان
سببها كله يرجع إلى عدم التفريق بين ما يحق لله ويحق للإنسان، فلا يجوز للإنسان ما
هو حق لله، وأن يغتصب ما لله من كرامة وحقوق وواجبات. وواضح جداً أن هذا كان السبب
المباشر لخراب الهيكل والعبادة اليهودية وضياع الأجيال اليهودية حتى اليوم. إنه
ثمن باهظ، باهظ جداً.

8:2310 «وَأَمَّا
أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ،
وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ. وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ،
لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ. وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ،
لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ».

واضح
أن كلام المسيح هنا مؤسَّس على ما كان يعيشه الكتبة والفريسيون. فهي ألقاب وأسماء
كانت تخدم مظاهر العبادة اليهودية التي شجبها المسيح. ولكن الآن والكنيسة تحيا في
العمق وتهتم بالجوهر، والإيمان يتحكَّم في حياة الكهنوت والخدَّام، والروح القدس
والنعمة هي الفعَّالة، أصبحت هذه الألقاب بالنسبة للكنيسة لا تتعارض مع إيمانها أو
جوهرها.

وكما
سبق وشرحنا في الآية (5) أن الشخصية الكنسية، أسقفاً أو كاهناً أو خادماً، لم تعد
تعمل لحساب نفسها ولا تقدِّم ذاتها للشعب. بل تستمد اسمها وصوتها وعملها من الله
والروح والنعمة:
»
مَنْ
يقبلكم يقبلني ومَنْ يقبلني يقبل الذي أرسلني
«(مت
40:10). فالآن الذي يكرز يكرز بالمسيح وبقوة الروح القدس:
» حسب إنجيل مجد الله المبارك الذي أُؤتمنت أنا
عليه. وأنا أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قوَّاني أنه حسبني أميناً إذ جعلني للخدمة
«(1تي 1: 11و12). وحينما قال بولس الرسول قولته الأبوية السريَّة
المذهلة:
» يا أولادي
الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم
«(غل
19:4)، فماذا يمكن أن يُدعى إلاَّ أباً صادقاً بالحق هذا الإنسان بولس:
» وإن كان لكم ربوات من
المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرون لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل
«(1كو 15:4). من هنا أتى في الكنيسة لقب أب لأنه يلد أولاداً
بالروح، الأمر الذي لا يعرفه ولا سمع به نبي أو قديس أو كاهن أو كاتب أو فرِّيسي.
وبالرغم من ذلك فهو لا يمكن أن يكون أباً إلاَّ من تحت أبوَّة الله التي يخدمها
بتقديم أولاد جدد له.

والمعلِّم
ينقل كلمة المسيح بالروح القدس، فهو يعلِّم بما قال المسيح وعلَّم، وخارجاً عن
المسيح لا يوجد تعليم ولا يُدعى أحدٌ مُعلِّماً!

11:23و12
«وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ. فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ،
وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ».

هنا
الفعل “يتضع” بعد قوله
»
من
يرفع نفسه
« يأتي باليونانية tapeinwq»setai بمعنى يُوضع بنزول من رتبته. هنا الكلام فيما يخص هذا الأمر كثير
جداً في الإنجيل
، وأقواهم ما جاء في الأمثال: » قبل الكسر الكبرياء
وقبل السقوط تشامخ الروح.
«(أم 18:16)

+
» كذلك أيها
الأحداث، اخضعوا للشيوخِ، وكونوا جميعاً خاضعينَ بعضكم لبعضٍ، وتسربلوا
بالتواضع، لأن الله يقاوم المستكبرين، وأمَّا المتواضعون فيعطيهم نعمةً. فتواضعوا
تحت يد الله القويَّة لكي يرفعكم في حينه.
«(1بط
5: 5و6)

+
» لأنه هكذا
قال العلي المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه، في الموضع المرتفع المقدَّس أسكن ومع المنسحق والمتواضع الروح لأُحيي روح المتواضعين
ولأُحيي قلب المنسحقين.
«(إش 15:57)

وفي
غيبة التواضع لا يتم خلاص، وفي غيبة التواضع لا يتمجَّد الله:
» فأين الافتخار؟ قد
انتفى!
«(رو 27:3). المسيح يضع أمام الكنيسة المجد والهوان، لأيهما تختار!!
المجد يكون من عمل اتضاعها والهوان ثمن التعالي. ولكن ليس الآن، لأن الفعلين
“يوضع” و“يرفع” في المستقبل المبني للمجهول، لأن الله الديَّان هو الفاعل. فالذي
يرفع نفسه لن يضعها له إنسان بل الديَّان، والذي يرفعها ليس بشر بل الذي ارتفع فوق
السموات ليملأ الكل.

 

محاكمة جيل:

الويلات السبعة

أو ما هو حق وما هو باطل في الدين

[13:23-36]                  (لو
37:11-52)

 

حينما
بدأ المسيح يعلِّم عن مبادئ الملكوت، قال لتلاميذه:
» إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيِّين لن
تدخلوا ملكوت السموات

«
(مت 20:5). وها هو الآن
يصفِّي حساب برّ الكتبة والفريسيِّين، وما يقدِّمه المسيح في هذه الآيات هو أصعب
وأقسى ما خرج من فمه القدوس ونفسه الوديعة المتواضعة. ولكن نخطئ أشد الخطأ للمسيح
والحق والعدل معاً إذا أهملنا مستوى عواطفه ومشاعره التي بكى بها حالاً على
أُورشليم لأنها لم تعرف زمان افتقادها ولم تتعرَّف على عريسها. فبهذه الروح
الباكية على أمجاد تليدة راحت وذكريات عزيزة انمحت، بدأ يصف ما استقر عليه نصيب
الكتبة والفريسيِّين حكماء إسرائيل. لقد اختاروا النصيب الأردأ والأقل، ولم يعمل المسيح
شيئاً إلاَّ أنه ثبَّته عليهم وأعلنه.

فإن
بدت قسوة الكلام شديدة ومريرة، فهم الذين حدَّدوا ملامحها وألفاظها بأعمالهم التي
عملوها، عن معرفة وعناد ومقاومة، استشعرها كل إنسان قرأ الإنجيل وقرأ التوراة من
قبل!! وموقف المسيح من موقف هؤلاء الكتبة والفريسيين، هو موقف البار وصاحب البر
الحقيقي من الذين ادَّعوه لأنفسهم غشًّا وخبثاً واستهانة بالله الذي يرى الكل.
ولكن يستحيل أن تفوت علينا نبرات المسيح المليئة بالدموع، فهو ينطق بأحكام الويل
عن واقع يراه ولكن بنفس حزينة حزن الصليب. فالذي بكى على أُورشليم لأنها لم تعرف
زمان افتقادها وأهانت عريسها، هو هو نفسه الذي يحكم الآن على الذين تسبَّبوا في
ضياع فرصة افتقادها، والذين أضلُّوا شعبها عن ملكهم وعريسهم، والذين قادوا شيوخها
وشبابها في موكب
»
اصلبه
اصلبه
« فلا يمكن أن نفصل الدموع التي ذرفها المسيح على أُورشليم عن
الدموع الصامتة غير المنظورة التي ذرفها على معلِّمي إسرائيل وقادتها، وعن دموع
جثسيماني. والنفس هي النفس حزينة حتى الموت.

لقد
حتَّم الواجب على المسيح بعد ثلاث سنين ونصف خدمة بين رؤساء إسرائيل ومعلِّميها
أن يعلن
حكمه النهائي وتقريره القضائي عن أحوال وسلوك قضاة إسرائيل وحكمائها ومعلِّميها.
لأن في هذا شرحاً توضيحياً لماذا كان الصليب أمراً حتمياً!! وكيف استطاع هؤلاء
المحسوبون أنهم حفظة أعلى ناموس قضائي في العالم، والمؤتمنون على شريعة عهد الله،
أن يُقْدِمُوا على قتل ابن الله المُرسَل لهم من السماء وهم في غاية السعادة واطمئنان
النفس أنهم قتلوا إنساناً خاطئاً فاعل شر. وها هي الويلات التي صبَّها المسيح
عليهم تحكي لماذا وكيف كان ذلك!؟

وإذا
تمعَّن الإنسان في مستوى تعليم المسيح هنا في إنجيل ق. متى الذي افتتح التعليم
بالطوبى وشرح ووضَّح وفسَّر، ثم انتهى بالويلات، يدرك فكر المعلِّم والقاضي. فالذي
افترى على “الطوبى” وداسها لا يكون هو إلاَّ الذي له الويلات. فلا يُلام بعد من
نادى بالويلات لأنه نادى بالطوبى ولم يُسمع
له. وهي نفس المعادلة القديمة:
» قد
جعلت قدَّامك الحياة والموت. البركة واللعنة فاختر الحياة
لكي تحيا «(تث 19:30). ولكن إن اختار هو الموت
فالويل له لا محالة عن واقع هو اختاره راضياً
لنفسه.

وإن
كنت أيها القارئ العزيز قادراً أن تضع عظة الطوبى مقابل عظة الويل تجد عجباً. فعلى
سبيل المثال قال المسيح:
» طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات « فإذا جئنا للويلات نجده يقول: » ويل لكم أيها الكتبة والفريسيُّون المراؤون
لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدَّام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين
يدخلون
« وهكذا نرى أن المسكنة بالروح تورِّث الملكوت، وفي المقابل نجد أن
كبرياء الروح تسببت في إغلاق الملكوت، منعت الداخلين وامتنع دخولها. هنا أصبح كشف
دور الكتبة والفريسيِّين وتحديد ويلاتهم يمثِّل الجزء المكمِّل لعظة الطوبى. ومن
هنا ينفتح وعينا لندرك لماذا وضع هذا القديس صاحب هذا الإنجيل وضع سبعة تطويبات ثم
جاء هنا ووضع سبعة ويلات. فكل “ويل” يقابله “طوبى” وكل منهما يتبعها سلوك وأخلاق
وسيرة، إمَّا تهيِّئ صاحبها لدخول الملكوت وإمَّا تمنعه لأنه يسد الطريق أمام
غيره.

وقد
ذكر المسيح هذه الويلات السبعة (أو الثمانية في مقابل الثمانية تطويبات أيضاً)
بأحكام قاطعة لا رجعة فيها ودون عودة مرَّة أخرى إليها.

13:23
«لكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ،
لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ
تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ!».

«المراؤون»: طpokrita…

وقد
وصفهم المسيح بأنهم الذين يعملون غير ما يعلِّمون، أو يقولون بغير ما يعتقدون
ويؤمنون. ومن هنا ينشأ التعليم المضلِّل لمعلِّم مرائي. والواضح أن تعليم الكتبة
والفريسيِّين أبعد الشعب عن معرفة حقيقة المسيح وبذلك منعوا الناس من أن يُقبلوا
على تعليم ملكوت الله، فحرموهم من حياتهم الأبدية. وهذا كان راجعاً لأنهم كانوا
يخافون على مراكزهم الدينية وسلطتهم. وهذا الرياء عند المعلمين والرؤساء لا يزال
أمره واضحاً في كل مجال. والعالم الآن يسير نحو الهاوية، لأن ما من مصدر تعليم أو
توجيه في جميع مناحي الحياة إلاَّ ونجد المعلمين والرؤساء والمديرين ومَنْ هم أرفع
منهم منصباً، الكل يعمل من أجل منفعته وبقائه دون الالتفات إلى الحق والعدل وخلاص
الناس. والمسيح وضع هذا الحكم القاطع لا ليدين الواقع أمامه وحسب، ولكن لكي يردع
حركة الرياء في التعليم والتوجيه، بمعنى حرمان كل معلِّم وموجِّه لملكوت الله إن
كان يعلِّم بغير حق المسيح والإنجيل، الذي هو وحده قادر أن يوصِّل الناس إلى ملكوت
الله دون أي اعتبار لمصلحة أخرى، أو أي خوف من أحد. فخلاص المعلِّم والمربِّي
والأب الروحي من خلاص مريديه، فإن بلَّغهم الملكوت بتعليمه بلغ هو، وإن عجز عن أن
يوصِّلهم إلى ملكوت الله فلن يصل هو. وإن زيَّف التعليم لمصلحة غير مصلحة الحق
أصابه الويل. والويل في عُرف الإنجيل هو المستقبل المظلم والوقوع تحت نقمة الله.

14:23
«وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ،
لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ
صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».

كلام
المسيح هنا من واقع مرّ، فليس للأرملة مَنْ يدافع ويحمي، فالمصيبة العظمى أن
يأتيها اللص لابساً ثياب الدين ويدَّعي المعونة والرحمة والرعاية، ثم يغتالها
وينهب ما لها ويظن أن ليس مَنْ يرى أو يسمع، ولكن الدينونة تنتظره ليغرَّم إلى
الأبد.

15:23
«وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ،
لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً،
وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْناً لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفاً!».

الإرساليات
اليهودية كانت نشطة أمام المسيح، ولكن كان الذين يروِّجون للدعاية اليهودية مرائين
ليست لهم أغراض مستقيمة، وإمكانياتهم الروحية منعدمة، فكانوا كما يقول المسيح
يتعذَّبون عذاباً كبيراً
» يطوفون البر والبحر «وفي النهاية يكسبون دخيلاً “بروزوليت” واحداً.
وللحزن العظيم بدلاً من أن يجعلوه ابناً لإبراهيم بالحق يلقِّنونه سرَّ ريائهم
وتعصُّبهم الأعمى، فيجعلونه بدل أن كان أُمميًّا حرًّا صريحاً، يهوديًّا مرائيًّا.
فإن كان في السابق يعمل الشر بجهالة، يعمله الآن عن معرفة، وإن كان في السابق
ابناً لجهنَّم يصير داعياً لجهنم، إذ بدل أن لا يعرف الرياء يصير مرائياً أكثر
منهم.

وهنا
توعية للإرساليات المسيحية حتى لا تقوم على اكتساب الأعداد بل على اكتساب النفوس.
وأن تكون القاعدة غيرة من أجل الاسم القدوس وبدفع الروح القدس وليس بدوافع عنصرية
أو مادية. وبالنهاية ليمتلئ الملكوت وليس لملء الخانات والأرقام والشهادات ونيل
الأموال.

16:23و17
«وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ
بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ
يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ
أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟».

تعليم
المسيح السابق في (مت 5: 34
36)، يوضِّح كيف رفض
المسيح الحَلْف رفضاً قاطعاً مانعاً، لا لشيء إلاَّ لأنه لا لزوم للحَلْف في عهد
النعمة والحق. حيث يسيطر على الضمير روح الله وهو يكشف الحق ويشهد له داخل الضمير.
ويكفي للإنسان أن يكون تحت قيادة ووعي الروح القدس ليكون كلامه مصدَّقاً
ومكرَّماً. ولقد قطع المسيح الطريق على الذين يتحايلون بدل اسم الله بأشياء أخرى
كالسماء والأرض ورأس الإنسان، والهيكل والمذبح. إن كل حلف يسيء إلى الله.

وهنا
يكشف المسيح مستوى تقدير هؤلاء من واقع النسبة التي بين الهيكل والذهب إذ أنهم
قيَّموا الذهب أكثر من الهيكل. وهذا الانفلات الصارخ في تفكيرهم وتقديرهم يذهل
العقل. لأن الحَلْف في حد ذاته هو الاستشهاد بالأقدس والأعظم، فكيف يكون الذهب
المصدر الأقدس والأعظم من الهيكل؟ أليس وراء هذا التحليل شُبهة صارخة للنفعية
والجشع والغرور واحتقار المقدَّسات الحقيقية واختراع مقدَّسات مادية شبه صنمية
ترضي ميولهم؟ ألم يكن المسيح صادقاً في تسميتهم بالعميان الجهلاء؟ لأن الحق واضح
ولكن يتعامون عنه، والحقيقة صارخة ملموسة ولكن زاغت عقولهم عنها لأنها ممسوكة
بالذهب.

18:2320 «وَمَنْ
حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ
الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيُّمَا
أَعْظَمُ: أَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟
فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ».

نفس
القياس السابق حيث التفكير ينحط إلى مستوى توقير غير الموقر، فالمقدَّم على المذبح
مهما كان قيمته فهو مادي حتى ولو كانت أعز أو أغلى مادة، أمَّا المذبح فهو معيار
معنوي عالٍ على مستوي “يد” الله التي تمتد لتقبل القربان والذبيحة. فكيف يكون أن
ما تقبض عليه يد الإنسان من القربان المهدى أثمن وأقدس من يد الله التي تحمل
القربان. فلو خرجنا عن مستوى ما هو منطقي ولائق نواجه عقلية تعمل على مستوى
الخرافة التي يتناقلها كبراؤهم ويسلِّمونها تسليماً أعمى، فأفسدوا ذهن الأُمة
وأعموا بصيرتها وركَّزوا إيمان الشعب على الذهب والقربان ليلهوه عن الله والعبادة
بالروح.

21:23و22
«وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ، وَمَنْ
حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ!».

واضح
أن نظرية الكتبة والفريسيِّين هي تفريغ المقدَّسات من مضمونها الإلهي، وهي المادية
الصارخة والفلسفة العدمية التي تنهي بأفكار الناس وأرواحهم إلى العدم. لأن الذي
يقدِّس المادة يقدِّس العدم لأن مآلها إلى التراب، ومَنْ يقدِّس القربان في ذاته
كذبيحة أو دقيق فهو يقدِّس التراب الذي ينتهي إليه. والمسيح هنا في المقابل يجسِّد
اللاهوت ويستعلن وجوده وعمله في المقدَّسات. فالذهب
وهو المادة
الفانية
إن احتواه
الهيكل أصبح من ضمن المقدَّسات، والقربان العديم القيمة إذا وُضِعَ على المذبح صار
مقدَّساً بالرب وله. على أن المادة بحد ذاتها فانية وإلى زوال ولكن إذا ما اقتربت
من الله أخذت قداسة من مجاله. وعلى هذه الحقيقة الإلهية تُفهم أسرار الكنيسة:
فالماء في المعمودية مادة فانية إن حلَّت فيها كلمة الله واستُدعي الروح ليباركه
صار كأنه رحم جديد يولد فيه الإنسان من جديد. والخبز والخمر وهما مادتان ساذجتان
إن دُعي عليهما بالاسم (اسم الله) أو (اسم المسيح) وقُدِّم الشكر لله مع طلب
التقديس بالحلول، يحل “الكلمة” اللوغس بالروح ويصيِّرهما كالوعد جسداً مقدَّساً له
ودماً كريماً لغفران الخطية لكل من يتناول منه وحياة أبدية. فهي مادة ولكن حلول
“الكلمة” فيها يحولها إلى قوة إلهية غافرة الخطية ومعطية حياة. وهذا هو صميم
التعبير الذي قاله المسيح في هذه الآية:
» مَنْ حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه katoikoànti
aÙtÒn
» أي بالذي جعله منزلاً له. هذا هو الحلول بكل معناه ومبناه.
فكما أن الذي يدخل الهيكل يواجه الله ويقف أمامه ويتكلَّم في حضرته، هكذا الخبز
والخمر لمَّا يتقدَّسان بالحلول الإلهي بالكلمة والروح، فكل مَنْ يتناولهما يتناول
الساكن فيهما أو الحال فيهما
» فمَنْ يأكلني فهو يحيا بي «(يو
57:6). هذه هي نعمة الله العُظمى الجديدة أن أعطانا
عوض مجرَّد
الحضور في حضرته بدخول هيكله الذي كان قديماً
أعطانا أن
نشترك معه ونتحد به لنيل قوة الحياة الأبدية التي له.

ثم
السؤال الخطير الآن: ألا تنظر معي يا قارئي العزيز السرّ في عمى وجهل هؤلاء الكتبة
والفريسيِّين وتقديرهم للذهب دون الهيكل، إنه بسبب عدم إيمانهم وإحساسهم بسر وجود
الله في هيكله برغم ما سبق ونُصَّ عنه في الكتب. ففي صلاة سليمان النبي بعد أن بنى
الهيكل للرب:
» إني قد بنيت
لك بيت سُكْنى، مكاناً لسكناك إلى الأبد
«(1مل
13:8)، وهذا بناءً على طلب داود السابق وردّ الله عليه:
» أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبِّت
مملكته، هو يبني بيتاً لاسمي …
«(2صم
7: 12و13). وهكذا دُعي الهيكل مسكناً للرب وصار واقعاً حيًّا ومصدراً لقوة الملوك
والأنبياء والشعب، وملجأً لكل مرّ النفس يذهب إلى الهيكل ويسكب نفسه والرب يسمع من
مكان سكناه. وقد وردت كلمة مسكن الرب ومكان سكناه مئات المرَّات كحقيقة على كل
لسان في كل صلاة. ولكن أُذُن الكتبة والفريسيِّين كلَّت عن سماعها واستهانوا
بالهيكل والساكن فيه. وشكراً لله الذي جعلنا هيكله الجديد الذي يسكن فيه:
» فإنكم أنتم هيكل الله
الحي كما قال الله إني سأسكن فيهم وأسير بينهم
وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً.
«(2كو 16:6)

23:23
«وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ،
لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ
أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ
تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ».

تعشير
المحاصيل مذكور في (لا 27: 30
33، تث 14: 2229) بخصوص
المنتجات الزراعية: القمح والخمر والزيت:
» عُشر حنطتك وخمرك وزيتك «
ولكن أتى الكتبة والفريسيُّون وتمادوا في تصحيح ناموس الرب ليصبح ناموسهم ويصبح
ثقلاً على الشعب ليضجّ منه ويكرهون إلههم. ولكن وحتى التمادي في التوافه ممكن أن
يكون مقبولاً، وأمَّا أن نهتم بالتوافه ونسقط من حساب الضمير والمسئولية والعبادة
الحق والرحمة والإيمان، هذا وضع شاذ للغاية وجدير بمَنْ يروِّجه بأن يربح لنفسه
الويل. لقد صدق فيهم موسى ومنذ البدء:
» أنهم أُمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم. لو عقلوا لفطنوا بهذه
وتأمَّلوا آخرتهم … لولا أن صخرهم باعهم والرب سلَّمهم
«(تث
32: 28و29)،
» يا شعباً
غبيًّا غير حكيم

«
(تث 6:32). وإن هذا السلوك
بالذات قد كشف عن كل نوعيات التعاليم ومستويات الشرح والتخريج التي أتاهوا بها
الشعب مئات السنين:
»
قد
هلك شعبي من عدم المعرفة.
«(هو 6:4)

«الحق والرحمة والإيمان»:

هنا
جاءت ترجمة كلمة الحق غير دقيقة، فالأصل اليوناني
kr…sin أي العدل أو القضاء العادل. ونرى لها صدى في نبوَّة ميخا النبي: » قد أخبرك أيها الإنسان
ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب. إلاَّ أن تصنع الحقّ وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً
(بالإيمان) مع إلهك.

«
(مي 8:6)

ويُلاحِظ
القارئ أن المسيح قالها معرَّفة بالألف واللام ليجعلها في وضعها الإلهي كواجب
أساسي وثمين. ولكن “العدل” في عرف المسيح هو أن تقضي للمسكين وتنصر الأرملة
واليتيم وتحابي الضعيف وتحامي عن المظلوم. هذا هو العدل عند الله والمسيح، وليس
عدل الإنسان الذي يأخذ من حق الفقير ويضع في جيب الغني، أو يفرض الضريبة على
الفقير والمعدم حتى ولو يبيع ما له أو عياله. عدل الله هو الإنصاف، وهو عين
المجازاة بالنعمة وليس بالنقمة.

أمَّا الرحمة:

فهي
من نصيب المساكين وفقراء الشعب، كذلك فهي تمتد لتحمل معنى الرفق والحنان، وقد
أعطاها المسيح الأولوية في باب الطوبى
» طوبى للرحماء لأنهم يرحمون «(مت
7:5). والرحمة تشمل الأعمال العظيمة بالنسبة للطبقات المطحونة من الشعب، وتدخل في
مسئولية العناية بالمرضى والمصابين والمدمنين وذوي العاهات وغير القادرين على
الكفاح من أجل الخبز. والرجل أو المرأة الرحوم هو مَنْ تبنَّى قلب الله وفكره وعمل
المستحيل لإراحة ضميره تجاه أخيه الإنسان.

أمَّا الإيمان:

فهو
الإيمان المبذول على مستوى المحبة والرحمة. فهنا الإيمان هو سكب الثقة بالله في
قلب الآخرين وخاصة الذين دخلوا في تجارب مرَّة زعزعت إيمانهم بالله، أو كانوا
بعيدين عن الله تائهين في مجاهل الدنيا أو تحت المعاناة من أفكار ومبادئ ضالة
تبعدهم عن محبة الله والناس. فالإيمان هو العنصر الغائب دائماً من قلوب اليائسين
والبائسين والذين فقدوا هدفهم في الحياة أو وقعوا تحت أيدٍ غير رحيمة. وحينئذ يصبح
الإيمان هو هلب النجاة للمركب التي جنحت للغرق، حيث يُمسَك الغريق في يد الله
ويسلِّم القلب لرب الحياة، ويصبح الإيمان هو أغنى وأثمن ما يملك الإنسان.

24:23
«أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ، الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ
وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!».

«القادة العميان»:

ليس
الذين فقدوا البصر بل الذين فقدوا بصيرة الحق والعدل والرحمة، وأخذوا موقف القادة
الذين يقودون الشعب في طريق الله وهم في حياتهم أو سلوكهم قد جحدوا الطريق والحق
في المسيح بإصرار. أمَّا البعوضة التي يُصفُّون عنها فهي بالكلمة الحاضرة عندهم
دائماً ليعملوها ويمثِّلوها أمام الناس ليصفِّق الناس لمنتهى تدقيقهم في ناموس
الله. وأمَّا الجمل الذي يبلعونه فهو الزنا في الخفاء وسلب أموال الفقراء وحقوق
الشعب من وراء ظهره. وهكذا يُخفون بالتصفية عن البعوضة جريمة بلع الجمل في ستر.
والمسيح لم يأتِ هذا المَثَل من فراغ ولا لجأ لهذا التهويل لمجرَّد التهويل، فهو
أحد التعاليم التي عند الربيِّين كما سجَّلها لنا كتاب التلمود: [الذي يقتل ذبابة
يوم السبت فهو مدان دينونة من قتل جملاً]([1]).
وقد رأينا مثلاً في تعشير النعنع والشبث والكمون كيف أتقنوه ليخفوا تغاضيهم عن
العدل والرحمة والإيمان.

أمَّا
تمثيلنا بجريمة الزنا في الخفاء فهي ليست توهماً أو فرضاً، ولكن المسيح كشفها
علناً في الامرأة التي أمسكوها في ذات الفعل وأحضروها أمام المسيح، وهم بصدد قتلها
رجماً عن غيرة شديدة للناموس أمام الناس، وإذ علم المسيح بسريرتهم وما عملوه
واقترفوه من هذا النوع قال لهم:
» مَنْ كان منكم بلا خطية (الزنا) فليرمها أولاً بحجر «(يو 7:8)، وانتظر قليلاً فخرجوا جميعاً من أول شيخ لأصغر كاتب.
ولماذا نذهب بعيداً وفي الآية القادمة يصف كأسهم أنه من الخارج يطهِّرونه جيداً
وهو من داخل مملوء «اختطافاً، ودعارة
«(مت
26:23). إذن، فالمسيح يتكلَّم عن واقع يراه ويعرفه، وحياتهم مكشوفة كلها أمامه.
ولكن المصيبة والطامة الكبرى أن نأتي نحن ونأخذ سيرة ومسيرة الكتبة وكأن المسيح هو
الذي لا يرى ولا يفهم!

25:2328 «وَيْلٌ
لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ
تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ
اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى، نَقِّ أَوَّلاً
دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيًّا.
وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ،
لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ
مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. هكَذَا أَنْتُمْ
أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَاراً، وَلكِنَّكُمْ مِنْ
دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً».

أصل
الوصية في الناموس (لا 33:11) إذا مسَّ داخل الكأس شيءٌ نجسٌ، ولكن تمادى
الفريسيُّون لينقُّوا خارجها بدقة قبل داخلها. والأصل على ما يبدو أنه كان لهم
وصية للكهنة بخصوص وضع الخمر المقدَّسة في الكأس، يلزم أن تكون طاهرة بمعنى أنها
لم تكن قد استخدمت قبلها لشيء غير الخمر المقدَّس([2]).

«اختطافاً ودعارة»:

ونسمع
صدى لهذه الخطايا في عاموس النبي:
» هكذا قال الرب. من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة لا
أرجع عنه: لأنهم باعوا البار بالفضة … ويصدُّون سبيل البائسين، ويذهب رجل وأبوه
إلى صبيَّة واحدة حتى يدنِّسوا اسم قدسي … ويشربون خمر المغرَّمين (أي التي
اختطفوها) في بيت آلهتهم

«
(عا 2: 68) وهكذا
فإن المسيح يكشف عوار ما بداخل سيرة هؤلاء الكتبة والفريسيِّين الذين يخفون
أعمالهم عن الشعب بالاعتناء بالفرائض الظاهرة والتدقيق فيها.

والمسيح
ينعي كأس القداسة الذي نجَّسوه من الداخل بالخيانة والاختطاف وحياة الانحلال
الخلقي. هنا استعراض الحياة السريَّة للكتبة والفريسيِّين التي رمز إليها بداخل
الكأس، والكأس هنا يعبِّر عن عمل التقديس. فبالاختطاف والانحلال الخلقي دنَّسوا
بيت الله وسيرة خدَّامه. وتعتبر هذه الآية تفسيراً للآية التي يقول فيها تركتم
أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. وهكذا أسقط الكتبة والفريسيُّون ناموس الحق
وملأوا كؤوسهم من الاغتصاب والاختطاف، وبآن واحد يظهرون من الخارج أبرياءَ
وأبراراً وأتقياء!!

ولهؤلاء
يقول المسيح:
» نقِّ أولاً
داخل الكأس والصحفة ليكون خارجهما أيضاً نقياً
«
والمعنى شديد الوضوح، طهِّروا ضمائركم من الأعمال الميتة:
» الذين إذ هم قد فقدوا الحس أسلموا نفوسهم
للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع.
«(أف 19:4).

«القبور المبيَّضة»:

تظهر
من خارج جميلة ولكن يجزع الإنسان لو تصوَّر ما بداخلها. هنا المسيح يقارن الكأس
النظيف من خارج ومملوء من الداخل اختطافاً ونجاسة بمنظر آخر أشد قرفاً للنفس
وإثارة وانزعاجاً للمشاعر الحسَّاسة. وهكذا لم يكتفِ المسيح بالكأس والصحفة، فزاد
عليها بالقبر المزيَّن من خارج وداخله عظام ونجاسة. ويعلِّق على هذا المَثَل ق.
يوحنا ذهبي الفم فيقول:

[وإن
كان هناك طرق عديدة للتطهير والتجميل من الخارج، ولكن بالنسبة للنفس البشرية ليس لها إلاَّ واحدة. فإذا نظر الإنسان إلى داخل
ضميره هناك يرى الدود بأنواعه والنجاسة

ورائحة كريهة فوق التصوُّر وشهوات غير معقولة وشريرة والتي هي أكثر نجاسة من

الدود.]([3])

والمسيح يتهم هؤلاء الغيورين جدًّا على الناموس بأنهم أكثر
الناس ثورة ضد الناموس وامتهاناً له
([4]).

«مشحونون رياءً وإثماً»:

الإثم
هنا
¢nom…aj تعني الإنحطاط الخلقي = Lawlessness iniquity،
بلا ناموس. وهي تفيد وكأنها رسالة لهم لأنهم يمسخون الناموس في حياتهم الخاصة
بالرغم من مظاهر الغيرة وتتميم الواجبات بالنسبة لكل دقائق الناموس. ويقول أحد
الشرَّاح إن التهرُّب من وصايا وتعاليم المسيح في الحياة الخاصة لبعض المعلِّمين
تسير جنباً إلى جنب مع الغيرة والاهتمام بالإنجيل، كاليد داخل القفاز (الجونتي)،
وطبعاً اليد نجسة والقفاز مطهَّر جدًّا!!

ويصف
بعض علماء اليهود حالة اليهود قبل خراب أُورشليم، بأن أُورشليم كانت مضروبة
برذيلتين: محبة المال والعداوة!!

«أولاد قتلة الأنبياء»: (23: 2936)

المسيح
هنا يحمِّل إسرائيل
ككيان واحد بشخصيتها
المتماسكة عبر العصور، وقيادة كتبتها وفريسيها ومعلِّميها
يمثِّلها
أفراد هذا الجيل الذي عاش فيه المسيح واختبره جيداً، والذين رفضوا المسيح ورسله
وصلبوه،
يحمِّلهم
كامل المسئولية لرفض جميع الأنبياء والمُرسَلين في الماضي. وذلك بمنتهى الوضوح
والصراحة كاتهام مؤبَّد:
» فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء. فاملأوا
أنتم مكيال آبائكم

«
!

فهؤلاء
الكتبة والفريسيُّون ورؤساء الكهنة قادة الشعب بينما هم يكرِّمون أنبياء الماضي
بغيرة وحماس ظاهر، نجدهم يقتلون ويضطهدون أنبياء ورسل الحاضر. يوقِّرون ذكرى
الأنبياء توقيراً فائقاً ويرفضون نبوَّاتهم بآن واحد. عندما مات إبراهيم وإسحق
ويعقوب، ومن بعدهم الآباء والأنبياء، دخلوا في كيان تاريخ الأُمة وميراثها
التقليدي، فالذي يمسّهم كأنه يمس اليهود جملة وأفراداً. ولكن مَنْ الذي قتل
الأنبياء ورجم المُرسَلين؟ أليست هي الأُمة بنفسها ورؤسائها! أليس التراث الديني
والشخصي والتقليدي الذي يكرِّمه هؤلاء الكتبة والفريسيُّون هو نفسه الذي تمسَّك به
آباؤهم فقتلوا الأنبياء دفاعاً عن تراثهم وتقليدهم! المسيح يكشف غطاء القبور
المبيَّضة عن تاريخ قتل الأنبياء ودفنها، ثم مجيء هذا الجيل ليبيِّض هذه القبور
ويزيِّنها؟ والعقلية والغيرة والتقليد والمعرفة التي دافع عنها آباؤهم واحدة،
والتي بمقتضاها قتلوا الأنبياء ورجموهم بلا رحمة. أليست هي ذات العقلية والغيرة
والتقليد والمعرفة التي تمسَّك بها هؤلاء الكتبة والفريسيُّون ورؤساء الكهنة مع
شيوخ الشعب ورفضوا وقتلوا المسيح، ورفضوا واضطهدوا وقتلوا الرسل؟

المسيح
عندما كان يتكلَّم عن القبور المبيَّضة من الخارج ومزيَّنة وهي من الداخل مملوءة
نجاسة واختطافاً وقتلاً أيضاً، لم يقصد القبور التي في وادي قدرون تحت أُورشليم!!
بل قبور التاريخ وعظام الأنبياء والأبرياء ونجاسة الذين قتلوهم!

أمَّا البياض والزينة الخارجية فهي أعياد الأنبياء وإقامة
ذكراهم بالتبجيل الكثير (والعبادة كما في مصر).

29:23و30
«وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ،
لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ
الصِّدِيقِينَ، وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا
شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ!».

المسيح
هنا يمسك على الكتبة والفريسيِّين أنهم يعتبرون أمجاد آبائهم هي أمجادهم، بإظهار
أمانتهم للأنبياء الذين كانوا في الماضي يفتخرون بمجد إسرائيل. والمسيح هنا
يراجعهم في أمانتهم هذه التي للأنبياء، التي ظهرت في تبييض القبور وتزيين المدافن،
إنها لا تطابق سلوكهم وإيمانهم بالنسبة لتعاليم هؤلاء الأنبياء؛ بل هي امتداد
لسلوك وإيمان آبائهم الذين قتلوا الأنبياء تماماً. فهم قتلوهم غيرة على الناموس
والتوراة وكلام الله، وهؤلاء يعيشون بالغيرة عينها التي تخفي وراءها القتل عينه.
لذلك قال المسيح وهو يقصد معناها:
» فاملأوا أنتم مكيال آبائكم «رفضاً واضطهاداً وقتلَ رُسُلٍ وقديسين.

أمَّا
قول هؤلاء المرائين:
»
لو
كنَّا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء
«
فلا يدل إلاَّ على كبرياء التملُّص من خطايا الآخرين. وإليك المَثَل الذي قدَّمه
المسيح في ذلك:
»
وقال
لقوم واثقين بأنفسهم أنهم أبرار، ويحتقرون الآخرين هذا المَثَل: إنسانان صعدا إلى
الهيكل ليصليَّا، واحد فريسي والآخر عشَّار. أمَّا الفريسي فوقف يصلِّي في نفسه
هكذا: أللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل
هذا العشَّار
« والنهاية أن العشَّار الخاطئ الذي اعترف بخطيته وطلب الرحمة: » نزل إلى بيته مبرَّراً
دون ذاك.
«(لو 18: 914)

على
أن مجرَّد قول هؤلاء الكتبة والفريسيِّين:
» إننا لو كنَّا في أيام آبائنا لما شاركناهم في
دم الأنبياء
« يُحسب دينونة عليهم، إذ وثقوا في برارة أنفسهم وهم على النقيض،
فهو اعتراف ضمني أنهم أولاد قتلة.

31:23و32
«فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ
الأَنْبِيَاءِ. فَامْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ».

عندما
قال هؤلاء المراؤون إننا لو كنا في أيام “آبائنا”، يكونون قد اعترفوا ضمناً أنهم
أبناء قتلة الأنبياء الذين عليهم دم الأبرياء. ومعروف في العرف اليهودي أن سفك
الدم البريء يتحمَّله أبناء القتلة. وعندنا شهادة هؤلاء الكتبة ورؤساء الكهنة
الذين صرخوا أمام بيلاطس لينفوا عنه مسئولية سفك دم المسيح باعتباره رجل خاطئ:
» دمه علينا وعلى أولادنا «(مت 25:27). وقد كان ولا يزال. إذن فهم يتحمَّلون إثم سفك دم
الأنبياء والمُرسَلين الذين قتلهم آباؤهم. وعلى هذا الأساس حمَّلهم المسيح إثم سفك
دم الأنبياء تماماً:
»
فأنتم
تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء، (وعليه) فاملأوا أنتم مكيال آبائكم
« أمَّا التكميل الذي سيتحمَّلونه أضعافاً مضاعفة فهو سفك دم القدوس
الوحيد البار “مسيَّا” ورسله!!

ويُلاحَظ
هنا أن المسيح لم يحمِّلهم ميراث آبائهم الجسدي ولكن ميراث آبائهم العدائي والثوري
ضد الله وأنبيائه. وهناك في رسالة بولس الرسول إلى أهل تسالونيكي مطابقة نادرة
لهذا القول الذي قاله المسيح، مخاطباً أهل تسالونيكي لمَّا اضطهدهم اليهود:

+
» فإنكم أيها
الإخوة صرتم متمثِّلين بكنائس الله التي هي في اليهودية في المسيح يسوع، لأنكم
تألَّمتم أنتم أيضاً من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها، كما هم أيضاً من اليهود،
الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم، واضطهدونا نحن. وهم غير مُرضيين لله وأضداد
لجميع الناس.
«(1تس 2: 14و15)

وقد وردت بعدها نفس
الآية
التي قالها المسيح:
» فاملأوا أنتم
مكيال آبائكم
«في (1تس 16:2) هكذا:

+ » يمنعوننا
عن أن نكلِّم الأُمم لكي يخلصوا، حتى يتمِّموا خطاياهم

 ¢naplhrîsai aÙtîn t¦j ¡mart…aj. «(1تس 16:2)

33:2336 «أَيُّهَا
الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ
جَهَنَّمَ؟ لِذلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ
وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي
مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ، لِكَيْ يَأْتِي
عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ
الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ
الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا كُلَّهُ يَأْتِي
عَلَى هذَا الْجِيلِ!».

لقد
استخدم يوحنا المعمدان سابقاً هذا الاصطلاح
» الحيَّات أولاد الأفاعي «(7:3)
واستخدمه المسيح في (34:12). أمَّا دينونة جهنم فهي الحكم المقابل لأعمالهم.
والمسيح هنا يؤكِّد ما يقول:
» ها أنا «من جهة الأشخاص الذين سيحملون اسمه ورسالته في الكنيسة التي
تحمل شخصه. يرسلهم ليكرزوا بملكوته فيلقون منهم ما لَقِىَ من قبلهم الأنبياء
قديماً. أمَّا الأنبياء فهم في عُرف الكنيسة الوعَّاظ، أمَّا الحكماء فهم العلماء،
وأمَّا الكتبة فهم اللاهوتيون المدافعون عن الإيمان المسيحي.

ومعروف
أن ق. استفانوس كان أول مَنْ باشروا فيه نبوَّة المسيح هذه، ومن بعده ق. يعقوب أخو
يوحنا، وأمَّا الجلد فقد أوقعوه بالرُسل القديسين بطرس ويوحنا وبولس، والطرد من
مدينة إلى مدينة نراه في سفر الأعمال ورسائل ق. بولس، فكلها مطاردة بلا هوادة
للكنيسة الفتيَّة بقدِّيسيها ورعاتها. وقد ذُكر ذلك بتدقيق في أنطاكية بيسيدية (أع
13: 45و50) وفي إيقونية (أع 2:14) وفي لسترة (أع 19:14) وفي تسالونيكي (أع 5:17)
وفي بيرية (أع 13:17) وفي كورنثوس (أع 12:18)
وفي هلاَّس (أع 3:20) وفي أُورشليم (أع 27:21، 12:23) وفي قيصرية (أع 1:24
9).

علماً بأن المسيح لم يمتد بهذه الأعمال: القتل والصلب
والجلد والطرد إلاَّ في حدود هذا الجيل الذي كان يخاطبه المسيح، لأن كل ما أتى على
الكنيسة بعد ذلك جاء من الوثنيين والديانات الأخرى.

وقد جعل جيل هؤلاء الكتبة والفريسيِّين ورؤساء الكهنة مع
شيوخ الشعب، مسئولين أمام الله
عن كل ما اقتُرف من سفك دم منذ بدء الخليقة
كلها حتى زكريا بن برخيا. وهذا يعني في ضمير المسيح أن بسفك دم المسيح سيتحمَّل
هذا الجيل كل دم سُفك سابقاً من أجل الله: “الدم الزكي”، باعتبار أن جميع الذين
سُفك دمهم
المدافعين عن الله وقداسته كانوا
رمزاً للمسيَّا المصلوب.

أمَّا
هابيل الصدِّيق فمعروفة قصته وكيف تحمَّل أخوه سفك دمه. والمعروف عن زكريا بن
برخيا أنه ليس زكريا النبي كما في سفره (1:1)؛ بل زكريا الكاهن وكان موته كالآتي:

+
» ولبس روح
الله زكريا بن يهوياداع الكاهن فوقف فوق الشعب وقال لهم: هكذا يقول الله: لماذا
تتعدُّون وصايا الرب فلا تفلحون لأنكم تركتم الرب، (الرب) قد ترككم. ففتنوا عليه
ورجموه بحجارة بأمر الملك في دار بيت الرب.
«(2أي
24: 20و21)

وواضح
جداً من هذا التقرير أنه مات شهيداً للمناداة بحق الرب. وهو أقصى ما ينطبق عليه
كلام المسيح. والمعروف أن والد زكريا الكاهن كان يسمَّى يهوياداع وبرخيا أيضاً.
لذلك حدث لبس ما بين  هذا الكاهن الشهيد المبارك وبين زكريا النبي الذي هو ابن
براخيا أيضاً. إذن، فالشهيد المقصود هنا هو الكاهن وليس النبي وهذا يرجِّحه
العالِم لنسكي([5]).

«الحق أقول لكم: إن هذا كله يأتي على هذا
الجيل»:

تأتي
هذه الآية بمثابة ختم رسمي ختم به الرب على هذا الوعد بالدينونة في نهاية هذه
العظة.

وتأكيده
أن هذه الدينونة تأتي على هذا الجيل بالذات الذي هو مسئول عن صلب المسيَّا، فقد
تمَّ أمام أعين العالم كله بمستواه الزمني. فقد تحمَّل هذا الجيل مسئولية خراب
الهيكل وحرقه وخراب أُورشليم وهدمها وإحراقها. وهكذا انتهى تاريخ الهيكل منذ
سليمان حتى هذا الجيل بل ومن قبله خيمة الاجتماع. والمعنى مرٌّ للغاية،  فهو
انسحاب الله من إسرائيل فوقع سقفها على الأرض وتبدَّد في كل أقطار المسكونة. وكان
أعظم تعبير عن هذا المصير الذي تحدَّد لإسرائيل في هذا اليوم هو بكاء المسيح على
أُورشليم.

 

رثاء

بكاء المسيح على أُورشليم

[37:2339]                    (لو
34:13
35)

 

37:2339 «يَا
أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا
تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا. هُوَذَا
بيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ
تَرَوْنَنِي مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!».

هنا
يقدِّم المسيح أعمدة الإنجيل الأربعة:

1
المحبة
الإلهية.

2
خطية
الإنسان.

3
الدينونة
الحتمية الزمنية.

4
المجيء
المسياني الثاني.

 

1
فحينما
كرَّر المسيح القول
»
يا
أُورشليم يا أُورشليم

«
وأردف مباشرة بتصوير
الدجاجة وهي تجمع أفراخها تحت جناحيها، يكون المسيح قد كشف عن مكامن أعماق الحب
الإلهي بالنسبة لشعبه.

2
وحينما
ناداها بخطيتها وبسفك دم الأنبياء ورجم المُرسَلين يكون قد كشف عن خطية الشعب.

3
وحينما
سجَّل عليها عدد المرَّات التي طلب فيها أن يجمع أولادها فرفضت، سجّل عليها
دينونتها العاجلة:
»
بيتكم
يُترك لكم خراباً

«

4
وحينما
أفصح عن ذهابه وغيابه ثم عودته المباركة باسم الرب يكون قد أعطى الوعد بالمجيء
الثاني.

حينما
كرَّر المسيح اسم أُورشليم ذكَّرنا في الحال بمرثا مرثا، وشاول شاول، ويهوه في
القديم إبراهيم إبراهيم، بهذه النغمة الحبيبة التي تعبِّر عن القرب والانتماء لله،
وهي وبآن واحد تحمل هنا رنَّة حزن أسيف على فرصة انقضت كانت تتيح لأُورشليم أعظم
الفرص للمجد، لتكون أم الدنيا وباباً أبدياً للملكوت، ولكن لم تكن المرَّة الأُولى
بل الأخيرة، لأن يهوه في القديم أحبَّها وتودَّد إليها، ولكنها كانت دائماً أبداً
تخون الأمانة والمودة. وكان تعبير المسيح لها بقاتلة الأنبياء وراجمة المُرسَلين
سيرة ممتدَّة حملتها أُورشليم على مدى التاريخ. وقد اختصَّت دون كافة المدائن
بالنصيب الأوفر في سفك دماء الأنبياء حتى قالها المسيح:
» لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أُورشليم «(لو 33:13)، شهادة دموية وضعها المسيح على جبين التاريخ لأُورشليم.

والمسيح
يقول:
» كم مرَّة
أردت أن أجمع أولادكِ

«
فهو إنما يتكلَّم أيضاً
بفم يهوه:
» طول النهار
بسطت يديَّ إلى شعب معاند ومقاوم
«(إش 2:65، رو 21:10).
والمسيح في هذا القول يحكي عن خبرته هو، لأن قوله:
» كم مرَّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة
فراخها تحت جناحيها

«
تعني
تماماً أنه كان جادًّا في حمايتها من أعدائها والرومان أيضاً، بأن يبثّ فيها روح
السلام والوداعة والمحبة لتصبح مسئولة عن سلامة روما والعالم كله. فهي إن كانت قد
وقعت فريسة الأسد الروماني الذي عرَّاها من مجدها وخرَّبها وتركها خاوية تنعي
تاريخ مجدها، فلأنها قدَّمت لروما أسوأ صورة لأمة تعاهدت مع الشيطان للقتل
والمقاومة بشراسة. فبعد أن قتلت رئيس السلام ماذا يتبقَّى لها إلاَّ الحديد
والنار. رفضت السلام بيد الله فشربت كأس النقمة حتى النهاية. ثلاث سنوات وأكثر وهو
يتودَّد لها ليسقيها كأس المصالحة مع الله، ويرفع رأسها وسط الشعوب لتصبح مدينة
السلام بالحق، كإسمها، ولكنها عوض أن تقبل من يده خلاصاً سفكت دمه على الأرض ظلماً
وهواناً.

«ولم تريدوا»:

تاريخ
الرفض لله قديم يحكي عنه إرميا النبي بالحزن (628
588 ق.م) في
أيام الملوك يوشيا ويهوآحاز ويهوياقيم وصدقيا في السبي، يقول:

+
» فمن اليوم
الذي خرج فيه آباؤكم من أرض مصر إلى هذا اليوم أرسلت إليكم كل عبيدي الأنبياء
مبكِّراً كل يوم ومُرسلاً. فلم يسمعوا لي ولم يميلوا أذنهم بل صلَّبوا رقابهم.
أساءوا أكثر من آبائهم. فتُكلِّمهم (الله لإرميا) بكل هذه الكلمات ولا يسمعون لك،
وتدعوهم ولا يجيبونك. فتقول لهم: هذه هي الأُمة التي لم تسمع لصوت الرب إلهها ولم
تقبل تأديباً. باد الحق وقُطع عن أفواههم. جزِّي شعرك واطرحيه وارفعي على الهضاب
مرثاة لأن الرب قد رفض ورذل جيل رجزه (غضبه).
«(إر
7: 25
29)

«هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً»:

“هوذا”
„doÚ أي انظروا behold. هنا إسرائيل كأُمة هي المقصودة بالهيكل وأُورشليم “بيتكم”  الذي
وجد الله فيه مسكنه قديماً، قد تركه، فانتُزع وجوده وسلامه وكيانه. كان الهيكل هو
قلب إسرائيل النابض الذي كان يسكنه الله ويرتاح فيه مع شعبه الذي أحبه. رفضوه
فرفضهم. وبعد أن كان يعجّ بالحياة والآباء والأنبياء والقديسين تُرك خالياً بلا
حياة فغشاه الموت والخراب:
» أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل.
ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك.
«(أع 3: 14و15)

الصورة
التي يقدِّمها ق. متى لنهاية إسرائيل قاتمة للغاية ليس لها فرصة ولا بقية، كما
حاول ق. بولس مراراً أن يؤكِّده:
» فالبقية ستخلص «(رو 27:9) ولكن ق.
متى لا يعمل حساباً لبقية أو إعادة نظر. إلاَّ ربما يكون في الآتي رجاءٌ.

«لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن
حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب»:

يبني
كثير من الشُّرَّاح الذين يأملون رجعة لإسرائيل مثل ق. بولس أملهم على هذه الآية،
التي يقابلها في زكريا النبي:
» وأفيض على بيت داود وعلى سكَّان أُورشليم روح النعمة
والتضرُّعات، فينظرون إليَّ الذي طعنوه، وينوحون عليه كنائح على وحيد له، ويكونون
في مرارة عليه كمَنْ هو في مرارة على بكره.
«(زك
10:12)

وتُحسب
هذه النبوَّة على أنها توبة إسرائيل حينما يأتي الرب في مجيئه الثاني ويتعرَّفون
عليه.

وفي عُرفنا أن جميع نبوَّات العهد القديم تتفق في أن
لإسرائيل آخر الأيام صحوة ورجعة وتوبة تكون خيراً على العالم كله. يصفها إشعياء
النبي بأن أُمَّة تولد في يوم واحد!! وذلك في آخر أصحاح له:

+
» مَنْ سَمِعَ
مثل هذا، مَنْ رأى مثل هذه، هل تمخض بلاد في يوم واحد أو تولد أُمَّة دفعة
واحدة،
فقد مخضت صهيون بل ولدت بنيها. هل أنا أمخض ولا أُولِّد يقول الرب، أو
أنا المولِّد هل أغلق الرحم قال إلهكِ؟ افرحوا مع أُورشليم وابتهجوا معها يا جميع
محبيها. افرحوا معها فرحاً يا جميع النائحين عليها، لكي ترضعوا وتشبعوا من
ثدي تعزياتها، لكي تعصروا وتتلذَّذوا من دِرَّة مجدها.
«(إش
66: 8
11)

ومعها
بالضرورة هذه الآية التي تختم على الأحزان:

+
» لأني هانذا
خالق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا تذكر الأُولى ولا تخطر على بالٍ. بل افرحوا
وابتهجوا إلى الأبد في ما أنا خالق. لأني هانذا خالق أُورشليم بهجة وشعبها فرحاً. فأبتهج بأُورشليم وأفرح بشعبي ولا يُسمع بعد فيها صوت
بكاء ولا صوت صراخ.
«(إش 65: 1719)

ومنذ
أن صُلب المسيح، وباب الملكوت مفتوح لكل يهودي أن يعود إلى المسيح ويؤمن وينال حق
البنين ويشترك في جسم الكنيسة، التي هي الشعب الآخر الذي استؤمن على ملكوت السموات.

ولعلَّ
إشعياء أيضاً ذكر هؤلاء العائدين هكذا:
» ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن
المعصية في يعقوب
يقول الرب. أمَّا أنا فهذا عهدي معهم قال الرب. روحي الذي
عليكَ وكلامي الذي وضعته في فَمِكَ لا يزول من فَمِكَ ولا من فم نسلِكَ ولا من فم
نسل نسلكَ قال الرب من الآن وإلى الأبد!
«(إش
59: 20و21)

ولعلَّ
اليهود المتنصِّرين الذين تجمَّعوا في كنيسة في صهيون يُحسبون إشارة ذكية لهذا
الوعد، ومنهم مَنْ صاروا قديسين ورائين …

فإن
كان المسيح قد استعار قول المزمور (26:118):
» مبارك الآتي باسم الرب «
فإنه يوحي بالرجاء الذي فيه لإسرائيل لأنه مزمور إسرائيل:

+
» احمدوا الرب
لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته،

ليقل
إسرائيل إن إلى الأبد رحمته! …

لا
أموت، بل أحيا وأُحدِّث بأعمال الرب،

تأديباً
أدَّبني الرب وإلى الموت لم يسلِّمني،

الحجر
الذي رفضه البنَّاؤون قد صار رأس الزاوية،

مِنْ
قِبَلِ الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا،

مبارك
الآتي باسم الرب!

احمدوا
الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته!!
«



([1]) Jer. Shabb. 107, cited by A. H. Mc`Neile, op.
cit., p. 336.

([2])
E. Haenchen, Der Weg Jesu, 1968, p. 427, cited by F.D. Bruner, Matthew,
A. Commentary
, Part II, p. 826.

([3])
Chrysostom, op. cit., Hom. 73,2; NPNF, 1st ser. Vol. X, p. 442.

([4])
A. H. M’Neile, op. cit., p. 338.

([5])
R.C.H. Lenski, cited by W. Hendriksen, op. cit., p. 838.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كينج جيمس إنجليزى KJV عهد قديم سفر صموئيل الأول I Samuel 17

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي