الإصحَاحُ
الثَّانِي

 

الخطاب
الثالث

1يو
2: 1 و 2

"يا
أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع
المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط بل (لخطايا) كل العالم
أيضاً"

 

هذان
العددان يتبعان الإصحاح الأول ويخصانه، وهما تتمة لازمة له. ومع أن العدد الثالث
يبدأ بأداة العطف على ما قبله إلا أنه في الواقع يقود إلى موضوع وهو تطبيق الحق
الذي يتضمنه الإصحاح الأول، بطرق غاية في الأهمية والخطورة لوقاية النفوس من
الخداع والضلال. ولكننا نترك الكلام عن هذا الموضوع الآن، لأن غرضنا التأمل في
العددين الأول والثاني ولنا فيهما مجال متسع لدراسة كلمة الله والبحث فيها لخير
نفوسنا وشبعها.

 

رأينا
الإصحاح الأول يتكون من قسمين. أولهما يحدثنا عن فيض محبة الآب في الابن المتجسد،
نابعاً من النعمة الإلهية بلا أي مسبب خارجي – إلا خطايانا! فالمحبة هي نشاط طبيعته.
ويحدثنا ثانيهما عن طهارة طبيعته معبراً عنها بالكلمة الرمزية الدقيقة التعبير
"نور". وأية كلمة كان يمكن أن تتفق مع غرضه أحسن من هذه؟ وهكذا كتب لأجل
تعليمنا ولكي يكون الأمر في متناول إدراكنا بمعونة الروح القدس فإنه لا يوجد عنصر
يرفض الفساد ويأباه أكثر من النور كما أنه في ذاته طاهراً طهارة مطلقة. وعلى أية
حال فإن نور طبيعة الله هو هكذا، ونصيبنا في نعمة الله أننا حصلنا على طبيعة من
طبيعة كمسيحيين، وهذا ما يخبرهم به الرسول بإرشاد الروح القدس يوم أن كانت الكنيسة
بحسب الظاهر تكاد تصبح حطيماً. وها نحن نرى أن الحالة كانت كذلك يومئذ كما يستدل
من هذه الرسالة ذاتها، فإن شر أنواع الضلال التي يمكن تصورها في العالم المسيحي هو
ما يسمى "ضد المسيح" وقد كان في ذلك الوقت "أضداد للمسيح
كثيرون" والآن هم أكثر. وقد شاء الله في حكمته وعنايته أن يجعل جرثومة أشر
الضلالات تظهر جلية قبل أن يكتب آخر الرسل كتاباته حتى يبلغنا بواسطة الحكم الإلهي
على تلك الضلالة وشرها وخطرها. فلم يتركها لفطنة التمييز الروحي وحده مع أن هذا
لازم جداً للإفادة من كلمة الله ولكنه أعطانا في كلمته سلطانه الإلهي للحكم على
هذه الضلالة وأمثالها. فليس على أساس الاستنتاج أو حجج الناس أو خلاصة اختبار
القديسين، بل كل ما من شأنه أن يؤثر بسلطان الله على ضمير وقلب كل ولد من أولاده.
ولذلك فقد رأى في فائق حكمته، طالما أن هذه الشرور كلها كان مآلها للظهور، أن يسمح
بظهور أردأها في ذلك الحين لكي يحدده ويدينه أمام قديسيه.

 

ومن
هنا كان لهذه الرسالة طابعها الفريد الخاص. فهي ليست كالرسالة الثانية إلى
التسالونيكيين التي تتطلع إلى فترة أخرى من الزمن ليست موجودة الآن، فترة لم تكن
قد جاءت بعد ولكنها ستجيء حتماً قبيل يوم الرب – وأعني بها فترة
"الارتداد"آت لاشك فيه فإن أحد العوامل التي يمهد لظهوره هو هذا الشيء
الغريب الذي يسمونه "النقد الأعلى"، أو بعبارة أخرى إعداد الناس
وتهيئتهم لذلك النوع من عدم الإيمان الذي سيكون شاملاً وكاملاً وعلنياً. وأين يا
ترى أمانة أولئك الموظفين من رجال الدين يجنون الجاه الأرضي والكسب المادي من ذات
الشيء الذي يعملون على تقويضه، والذي كان ينبغي أن يعملوا – إن لم يكونوا يعلمون
فعلاً – أنهم عاملون على تقويضه وهدمه؟ ولكن ذلك الارتداد مستقبل، بينما أضداد
المسيح كانوا قد جاءوا فعلاً فقد كانت "الساعة الأخيرة" ومن علامات
الساعة الأخيرة وجود "أضداد للمسيح كثيرين" وها هم أمام عيوننا فليس
المقصود الشر المستقبل فقط أي ضد المسيح الأكبر، بل أضداد للمسيح كثيرون الذين هم
طلائع ضد المسيح الآتي والممهدون لطريقه.

 

على
أن العددين الذين أمامنا يتناولان شراً عاماً – شراً يجب أن يحسب حسابه كل مسيحي
معترف. فالجسد عداوة لله، وهو خطر قريب ودائم، لأنه على استعداد أن يزود العدو
بمادة للعمل ليس فقط في الذين ليس لهم سوى الجسد بل في أولئك الذين وإن كانوا هم
أنفسهم في الروح إلا أن الجسد فيهم – الذين يقال عنهم بصراحة أنهم ليسوا في الجسد
بمعنى أنهم بالإيمان قد عتقوا في المسيح من الجسد وقد حصلوا على طبيعة جديدة كل
الجدة ولم يتركوا في الطبيعة القديمة بلا حول ولا قوة. ففي الروح القدس القوة
الكافية لحفظ كل قديس لله من الخطأ.

 

نعلم
بالاختبار أننا قد نخطئ وأننا جميعاً نعثر. لكن الذنب ذنباً.ولذلك فإن المؤمن هو
الشخص الذي يجب أن يكون على استعداد – بل وبسرور – أن يبرر الله ويدين نفسه. طبيعي
أن هذا أمر مذلل ولكن ألم نحصد بركة أيها الأخ العزيز بل وبركة عظيمة من ذات الشيء
الذي يذلنا؟ فما من تجربة على الإطلاق، مهما كانت متعبة ومؤلمة وقاسية أحياناً،
إلا وتحولت بنعمة الله إلى الخير طالما كنا قد قبلناها من يد الله، فإن "كل
الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده". وحيث
أننا نعلم أن كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من عند أبي الأنوار فنحن بلا عذر إن
كنا نسيء الظن فيه، لأننا أولاد وعلينا أن نحافظ على الصفة العائلية.

 

ولذلك
ينبغي أن لا نسيء فهم ما يقصده الرسول حينما يرينا في الجزء الثاني من الإصحاح
الأول نقطة الابتداء للمؤمن. لأن العدد السابع الذي طالما أسيء فهمه يشير في
الحقيقة إلى مقام المؤمن. وكثيراً ما يرينا بعض الناس يأخذون هذا العدد على أنه
يشير إلى أخلاق المؤمن وتصرفاته التي قد يخالطها النقص، في حين أن الإشارة منصرفة
إلى نوع مسلكنا من حيث المبدأ لأن لنا حياة أبدية، ولأن هذه الحياة الأبدية لها
حراسة قوية وأساس راسخ للتعزية في ذبيحة المسيح. فالقول "إن سلكنا في
النور" هو تقرير حقيقة مجردة تنطبق على كل مسيحي بالحق. وهذا يكفي لتبيان وجه
الخطأ والانحراف في تفسيره ذلك التفسير المقلوب. فلا علاقة هنا بأي زمن أو تصرف
معين في مسلك المؤمن بل الإشارة إلى طابع سلوكه العام بحسب الله.

 

وهذا
بالضبط ما قصده رسولنا أن يعلنه بسرور ويطبقه علينا باستمرار. فالقول "إن
سلكنا في النور" معناه في الواقع إن كنا مسيحيين، إن كنا قد رأينا نور
الحياة، إن كنا تابعين للمسيح. والرب القائل "من يتبعني لا يمشي في
الظلمة" فهل يقصد بذلك جانباً من القديسين دون غيرهم، إنه له المجد يؤكد هذه
الحقيقة المبهجة لكل من يتبعه "لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور
الحياة" ومع ما لهذا الامتياز من عظمة فهو من فضل النعمة الخالصة وليس بحال
من الأحوال غاية نصل إليها بفضل أمانتنا الشخصية، بل أنه من ثمرة صلاح الله الذي
لا عديل له أنه صار لنا من الآن كمؤمنين أن نتعامل مباشرة مع الله كما هو. وأين
يعرف الله كما هو؟ طبعاً ليس في الظلمة بل في النور. فنحن ليس لنا فقط حياة أبدية
بل لنا مع الحياة الأبدية امتياز السلوك في النور عوض أن نسلك في الظلمة كما يفعل
عابد الوثن. إن الإنسان الساقط يسلك بالضرورة في الظلمة لأنه لا يعرف الله. أما
المؤمن فإنه يسلك في النور لأنه يعرف الله إذ قد رأى المسيح نور الحياة. ونور الحياة
هذا ليس مجرد شعاع صغير سرعان ما يتلاشى، بل هو نور كامل دائم. فالنور الحقيقي
الآن يضيء ولكن أين يضيء؟ يضيء على المسيحي وفي ذات قلبه. إن الرسول بولس يذهب إلى
أبعد من هذا فيتكلم عن "نور المجد" لأنه مشغول بالمسيح في الأعالي، ولكن
الكلام هنا هو عن نور الحياة في المسيح، نور الطبيعة الإلهية الحقيقي. فنحن حينما
نتجدد ونستريح على أساس الفداء، إلى أين يؤتى بنا؟ ليس بعد إلى السماء، بل
"إلى الله" (1 بط 3: 18) وهل الله ظلمة؟ حاشا "الله نور وليس فيه
ظلمة البتة". وهناك نحن نسلك.

 

يخلط
الناس بين السلوك في النور والسلوك بحسب النور من أن الأمر الثاني شيء آخر على
الإطلاق. فالقول "نسلك بحسب النور" معناه السلوك العملي ولكن الرسول
يقول "نسلك في النور" وهذا معناه السلوك في الدائرة التي أتى بنا إليها
ربنا يسوع المسيح، أي إلى الله، وهي الدائرة التي نسلك فيها من تلك اللحظة إلى أن
نصل ونكون معه حيث لا يوجد ما يعطل ذلك النور على الإطلاق. فهنا نحن محاطون بكل
أنواع المعطلات والعراقيل والمخاطر من الجسد والعالم وإبليس ومع ذلك فإننا من الآن
نسلك بالإيمان في نور محضر الله.

 

إن
قلب العدو حقداً شخصياً ضد الابن، الرب يسوع، بصفة خاصة. وكذلك نعلم أن الشيطان
منذ البدء يحقد على الإنسان بينما الله يعطف عليه ويحنو. ولا عجب في ذلك حيث أن
قصد اللاهوت الأزلي أن يصير الابن إنساناً فضلاً عن أن الإنسان في حد ذاته كان
موضع اهتمام الله. لقد كان الإنسان مجرد حفنة من تراب إلى أن نفخ الله في أنفه
نسمة الحياة – في الإنسان وحده دون أية خليقة أخرى على الأرض. فليس سوى الرأس
الأرضي نال بهذه الطريقة المباشرة نسمة الله. أما سائر المخلوقات الأخرى فبدأت
حياتها بغير هذه الوسيلة ولذلك فإنها تبيد وتهلك بالموت. ولكن ليس هكذا الإنسان.
صحيح إنه إذ يموت يعود إلى التراب، ولكن ما هو مصير نسمة الله؟ هنا أساس خلود
النفس. إننا لا نتكلم الآن عن حياة المؤمنين الجديدة بل عن أنفس الناس. إن كان
هناك من ينكر خلود النفس أفلا يكون بهذا الإنكار وحده كافراً ملحداً لأنه يسوى من
هذه الناحية بين نفس الإنسان ونفس الكلب؟ وهل يمكن أن يكون هناك تبجحاً أعظم من
هذا وعدم إيمان حتى في مواجهة ما عمله الله للإنسان ولأجل الإنسان؟ فما من حيوان
آخر جعل على صورة الله أو شبهه. ومما يزيد في شناعة عدم إيمان الإنسان وجحوده غير
الشاكر أنه يزدري بالله وبكلمته – الله الذي أظهر مثل هذا اللطف والصلاح من نحوه
الذي أضفى مثل هذه الكرامة العجيبة الممتازة على الجنس كله ممثلاً في رأسه، إذ
جعله سيداً على كل شيء. إن مركزاً كهذا لم يسمح به الله حتى لملاك من الملائكة
لأنهم جميعاً خدام. وما من ملاك سيلبس تاجاً أو يجلس على عرش يوم من الأيام مهما
كانت أحلام الشعراء أو اللاهوتيين. أما المؤمنون فبكل يقين ستكلل تيجان المجد
هامتهم وسيجلسون على عروش ويملكون مع المسيح.

 

فها
أنت ترى أن هناك شيئاً خطيراً ذا مغزى هام حتى في طريقة خلق الإنسان. ولكن الشيطان
عدو الإنسان يحاول جاهداً أن يجعل منه مجرد مخلوق للأمور الحاضرة، مغلقاً عينيه عن
كل ما هو آت، ومنكراً بذلك كلمة الله والدينونة العتيدة. لا شك أن درجات الإلحاد
منوعة وكثيرة وبخاصة في يومنا الحاضر، ولكننا نعتقد أن أول درجات الإلحاد هي نكران
الكتاب بوصفه كلمة الله إن لم يكن رفض شهادته للمسيح في الإنجيل المكروز. ثم يضاف
إلى ذلك الحط من قدر نفسه الخالدة والنزول بها إلى مستوى البهائم متجاهلاً جهنم
والسماء. وهكذا قل عن باقي درجات الإلحاد وغيومها المتكاثفة وظلماتها المتزايدة.
ولكن هنا يوجد أيضاً خطر الادعاء والكبرياء لأن الجسد ميال دائماً لأن يفسد كل شيء
وأي شيء، وهو يحاول أن يسيء استعمال النعمة ويروقه أن يفعل ذلك ما لم تحصل النفس
على طبيعة جديدة. وحتى مع وجود هذه الطبيعة لا سبيل لحفظ المؤمن مستقيماً إلا
بالاعتماد على الله في الإيمان بعمل المسيح.

 

ومن
جهة أخرى هناك عمل الله الدائم. فإذا كان النور هو طبيعة الله الأدبية فإن المحبة
هي نشاط طبيعته العاملة دائماً بكل ما فيه من صلاح وعطف ورعاية. والواقع أن
المسألة كلها مصدرها المحبة. لا ريب أنه يسير على الإنسان أن يسيء استخدام المحبة،
وهو لا يقف عند حد الإساءة إليها في فترات متقطعة بل قد يتقدم من رديء إلى أردأ
لولا أن الله في المسيح ليس فقط حياة ونوراً بل محبة. أجل، وبالمحبة مات المخلص
لأجلنا وسفك دمه لكي يجعلنا أبيض من الثلج في نظر الله، كما هو شفيعنا عند الآب
القدوس البار.

 

قد
يلاحظ القارئ أن الرسول لا يتكلم الآن عن طبيعة الله كما في الجزء الأخير من
الصحاح الأول. بل يعود بنا إلى صفته كالآب (كما في الجزء الأول من ذلك الإصحاح)
ذلك الاسم الكريم الذي يعبر عما للمسيحي من شركة مع الله. ولا عجب فإن النعمة التي
أظهرت للمسيحي هي أسمة نعمة أظهرها الله أو سيظهرها. وبذلك قد تمت كلمة الله، فلم
يوجد بعد عند الله أي إعلان آخر يعلنه وليس للإنسان أن يظفر من الله بأي إعلان أكثر
من ذلك. لقد أخرج الله الحلة الأولى ولم يبق بعد ما هو أفخر منها. فالله لم يعطنا
فقط آخر وأعمق كلمة في المسيح ابنه، بل أعطانا أيضاً الروح القدس الذي هو معنا
الآن ليزودنا بما نحتاجه من قوة. فلسنا في حاجة إلى أن نذهب إلى أورشليم أو
السامرة أو روما أو كنتربري أو غيرها لكي نعرف كلمة الله ومرادها. فكما أن الكتاب
هو دستور الحق الوحيد، كذلك الروح القدس ساكن في كل مسيحي لهذا الغرض بالذات –
ليرشده إلى كل الحق.

 

غير
أن هذا أيضاً يفترض وجود النفس في حالة لائقة. فالحالة السامية المباركة التي
تأملنا فيها في مطلع الإصحاح الأول هي الشركة. والشركة المسيحية معناها مشاركة
الآب في فكره وعواطفه وعمله ومقاصده مهما يكن مداها ومهما تكن حدودها وآفاقها كما
هي مركزة في غرض الإيمان الموضوع أمامنا وهي جميعاً موجودة في شخص الكلمة الحي
المتجسد وفي الكلمة الحية المكتوبة، وهي هناك لتأملنا وفهمنا وإدراكنا. وبهذه
الكيفية ندرك ونفهم أن ما صنعه الله لأجلنا في المسيح هو عين ما كان في قلبه قبل
أن يعمل أي شيء آخر، وذلك كما هو معلن في ابنه وكما هو محقق فينا بعمل الروح القدس
وحده. لقد حصلنا على أفضل ما كان ممكناً لله أن يمنحه لنا وهو اشتراكنا معه في مسرته
الأزلية بابنه، وهي المسرة التي يوصلها إلينا الآن الروح القدس. فعندما قال الآب
"هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" ألم يكن هذا القول (كما لاحظ آخر)
أعجب بكثير مما لو قال "الذي به ينبغي أن تسروا"؟ وحتى لو قال هذا لكان
فضلاً عظيماً من الآب، ولكنه أراد بالقول "الذي به سررت" أن يشركنا معه
في بهجة قلبه الأعظم، فإن سرور الله كله يتركز في الرب يسوع، وبالأكثر لأن الابن
رضى بأن يولد من امرأة، ولأنه تنازل ليصير إنساناً – الأمر الذي كان لازماً
لبركتنا كلزوم كونه الله منذ الأزل. فما كان ممكنا أن تكون هناك أية حلقة تربط
الله بالإنسان لولا تجسد الله الابن. وكم كان هذا التجسد لازم أيضاً لمجد الله.

 

إن
الرب يسوع لم يأت فقط ليموت. لاشك أن خذا ما فتح لنا الباب وشق لنا الحجاب وأدخلنا
إلى محضر الله متحررين من جميع نقائض خطايانا ونتائج طبيعتنا الساقطة. ولكن الأهم
من هذا كله تمتعنا بالله كما هو وشركتنا مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح وهو بالأسف
ما ينساه ويتغاضى عنه المسيحيون العصريون. لكن أليس هو افخر جزء في نصيب المسيحي
بالحق؟ وأليس هو بالأسف ما يقصر دونه المؤمنون في الوقت الحاضر؟ أهم يظنون أنه
يكفيهم أن يكونوا مخلصين أو أن يكون لهم على الأقل رجاء متواضع أن يكونوا كذلك في
آخر حياتهم. وهنا تبدو أنانية المبادئ الكلفينية وقسوتها. فالناس فيها يقولون
"إذا كنت قد خلصت فهذا هو المهم، وأن أكون مختاراً أو غير مختار هو أولى
المسائل التي يجب الاهتمام بها والبث فيها". مشغولية تدور كلها حول الذات.
أما السؤال الأول عند الله فهو أن أؤمن بالرب يسوع وعندئذ ينطلق القلب يملأ الحرية
متجهاً بالطبيعة إلى الآب والابن في قوة الروح، وليس فقط إلى جميع القديسين بل
لجميع الخطاة لكي يؤمنوا هم أيضاً ويخلصوا.

 

أي
نعم يا أخي. ليست المسألة الأولى مسألة سلامتي. فو إن كان خلاصي أمراً مباركاً،
فإن سلامتي جزء صغير في كيان المسيحية الحقيقية وجزء أصغر في المجد الإلهي. لا شك
أنه أمر جوهري أن يبدأ المؤمن بيقين الخلاص حينما يقبل المسيح. وهذه البداية برهان
كاف على عدم استحقاقه في ذاته لأية بركة لأن الله يمنحها له كاملة ومجاناً. غير أن
التمتع بمحبته ومسرته بابن محبته شيء آخر يفوق كثيراً مجرد الخلاص وينشئ فرحاً
أكمل وأسمى بكثير مما يمكن أن ينشئه أي شيء آخر. وأي شيء في السماء أعظم من ذلك؟
هناك سيغيب كل شر ولا يكون سوى المجد، ولكن ليس في السماء ما يسمو على الشركة مع
الآب ومع ابنه يسوع المسيح. والأمر العجيب أن تتاح لنا هذه الشركة مع الآب والابن
ونحن هنا على الأرض، وأنه لمن أفضال الله ومراحمه العظمى حقاً أنه يؤهلنا من الآن
للتمتع بهذه الشركة في الروح.

 

ولكن
مهما تكن الشركة مع الآب والابن مباركة فإنها تتعطل بسهولة. فكر واحد غبي أو كلمة
واحدة غبية تكفي لتعطيلها، إذ كيف يمكن أن يكون للآب والابن شركة مع الخطية؟ وهنا
نحتاج لرد النفس ومن ثم كان لنا القول الكريم "يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي
لا تخطئوا" وليس معنى هذا أن الرسول كان يخشى عليهم أن يهلكوا. ومن هذا الوجه
نرى المبدأ الكلفيني رغم صرامته وضيقه صحيحاً غاية الصحة. فالحياة الأبدية معناها
الحياة الأبدية ولا شيء أقل من ذلك، ولو أنها تعني أيضاً شيئاً أكثر مما يستخلصه
الكثيرون من هاتين الكلمتين الموضوعتين هكذا معاً. ولعل أول ما نفهمه منهما سطحياً
أن الأمر ليس قاصراً على مجرد الخلاص والسلامة. وحتى من هذه الناحية البسيطة هناك
من المسيحيين من يظنون أ "الحياة الأبدية" تعني أقل من السلامة! ونحن لا
يسعنا إلا أن نحزن من أجلهم كثيراً. ولكن إن كانت هناك أشياء غبية أخرى مخالفة
لكلمة الله يحتمل أن يلهو البعض بها بين المسيحيين فإنه لا يجوز لأحد قط أن يلهو
بهذا الحق الأساسي الذي يرتبط بشخص المسيح نفسه. وشكراً لله لأنه يراقب قلوب
أولاده وأفكارهم وألسنتهم من جهة هذا الأمر الخطير فلا يسيئون استخدام نعمته التي
لا مثيل لها ولا يستهينون بشخص ربنا المعبود الذي هو حياتنا الأبدية.

 

فالشركة
مع الآب ومع ابنه القائمة على الحياة الأبدية في المسيح تؤهلنا للنور وتجعلنا
أكفاء للسلوك في النور، والله في صلاحه لا يزودنا فقط بالفطنة والفهم الروحي بل
يملأنا أيضاً بالسلام والفرح. وهل تظن أيها القارئ العزيز أن معظم أولاد الله
يؤمنون فعلاً بأن هذا هو نصيبهم الآن، وإن هذا هو فكر أبيهم من جهتهم؟ وهل
مسيحيتهم العملية تبلغ إطلاقاً إلى هذا المستوى مستوى "الفرح الكامل"؟
إن رسالة يوحنا الأولى ليست وحدها هي التي تكلمنا عن فرح المسيحي الكامل بل هناك
أيضاً بولس الرسول واختياره وشهادته في هذا الشأن.

 

انظر
إلى تلك الرسالة الاختبارية المكتوبة للفيلبيين، فمع أنها رسالة آلام واختبار لكن
لا يوجد بين رسائل بولس ما يعدلها في فيض الفرح من كل جانب. فالرسول كان له هذا
الفرح في قلبه وكان يرجوه ويتطلع إليه في قلوب أولئك القديسين الذين كان يحبهم كما
أحبوه. صحيح أنه بدأ خدمته في فيلبي في سجن في نصف الليل، حيث أحاطت به كل أنواع
القسوة والإساءة من الناس ووقع عليه وعلى زميله "سيلا" كثير من الآلام
والعار ولكن لا نقرأ عن مكان آخر نظير فيلبي بدأت في خدمة الإنجيل بأغاني النصرة
وأناشيد التسبيح والحمد لله وسط الحزن والآلام والأوجاع. أناشيد سمعها الله وليس
فقط المسجونون، وقد أجابهم عليها بزلزلة عظيمة يمكن أن يقال عن يقين أنه لم يحدث
نظيرها في أي مكان منذ ابتداء العالم بدليل الآثار التي تخلفت عنها والتي لم يسبق
لها مثيل على الإطلاق، فقد حلت قيود جميع المسجونين ومع ذلك لم يهرب منهم سجين
واحد ولم يمت أحد أو يجرح أحد.

 

وقد
استيقظ السجان ليس فقط لكي يعلم أن جميع من كانوا بعهدته موجودون وسالمون بل لكي
يعرف ما هو أفضل من ذلك بكثير – لكي يعرف المخلص العجيب وليتأكد خلاص نفسه بالنعمة
السامية المطلقة. واضح أنه كان رجلاً قاسياً فظاً عديم المبالاة كسائر السجانين
ولاسيما في تلك الأيام. ولكن ها هو بين غمضة عين وانتباهتها يصبح نصباً تذكارياً
هائلاً لعمل الرحمة الإلهية وشهادة خالدة لإجابة الله ليس فقط على سوء استخدام
السلطان بل على صبر إيمان عبديه اللذين كانا يسبحانه ويترنمان بحمده في أعماق
السجن، ومن هناك وقعت في سمعه موقع الرضاء والقبول وأناشيد فرحهم التي زادت
أنغامها عذوبة وحلوة تلك الضربات الكثيرة الغاشمة التي وقعت عليهما. حقاً أنه أولى
بنا في الظروف العادية وفي وسط كل تمتعاتنا الهادئة بالنعمة والحق الإلهيين أن
تنطلق ألسنتنا وتمتلئ أفواهنا بأغاني التسابيح القلبية لحمد إلهنا في كل حين. ليس
المقصود أن يكون كل مسيحي دائماً مرتلاً بل المقصود هو أن يتصاعد الحمد والتسبيح
من قلوب المسيحيين في جميع الظروف والأحوال. ولا شك أن يكون الحال كذلك لو عرف
القديسين المسيحية الصحيحة كما سلمت مرة لإيمانهم ولو تمتعوا بها منفصلين عن
كعطلات عدم الإيمان المظلمة.

 

يبدأ
العددان اللذان أمامنا بالنداء المؤثر لثقة محبة الذين يدعوهم الرسول أخيراً
"يا أولادي". لقد امتنع حتى الآن عن استعمال أي تعبير حبي من هذا
القبيل، أما الآن فيستعمله. "أكتب إليكم هذا" – وهنا أيضاً لا يستخدم
ضمير الجمع الدال على الشهادة المشتركة التي كانت لازمة ومناسبة في مكانها حينما
قال "نكتب إليكم هذا" (عدد 4) بل هو الآن يوجه إليهم خطاباً شخصياً. لقد
كان يكتب لكل واحد وللجميع مسوقاً من الله ولكن من أعماق نفسه الشخصية لا شك أنه
كان ملهماً حين قال "نكتب" في الإصحاح الأول كان خاصاً بقرار شهود
مختارين وشهدوا بالنعمة الإلهية عن أمور قصد أن يتمتع بها جميع القديسين تمتعاً
كاملاً. فإذا كانوا قد استطاعوا أن يتحدثوا إليه بأناشيد الحمد والتسبيح في نصف
الليل فبكل يقين كان لهم أن ينشدوا ترانيمهم الروحية في نور نصف النهار أيضاً.

 

أما
هنا فإنه يوجه إليهم إنذاراً خطيراً "أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا". من
منا يعجب لأن يجيء هذا نداء شخصياً وبداعي الحاجة. لماذا؟ إن الخطية تكسر القلب
وتمسه في الصميم وبخاصة إذا وقعت من أحد قديسي الله الذين دعي عليهم اسمه. إذاً
كنا قد عرفنا الإنجيل فإننا نؤمن حقاً أن الحياة الأبدية تستمر إلى حيث لا يكون
زمان، والمسيحي له هذه الحياة الأبدية أي حياة المسيح المعطاة له من الآن، كما أن
له فداء المسيح الأبدي (عب 9: 12) ليس فداء وقتياً زمنياً كالفداء الذي جاء بواسطة
موسى في الخروج من مصر، بل فداء أبدياً كسائر امتيازاتنا المسيحية. ففي العدد الأول
من هذا الإصحاح لا نشتم أثراً للخوف من الهلاك نظير الإسرائيلي، ولكن كل ما هنالك
أننا كأحياء بحياة المسيح وصفاته قد صرنا بالنعمة نشعر ونتأثر بكل ما يحط من قدر
اسم المسيح ويحزن روح الله القدوس الذي به ختمنا ليوم فداء المقتنى وأكثر من ذلك
أن لنا "الآب" كما يحرص الوحي على أن يذكرنا هنا، فلسنا فقط شركاء
الطبيعة الإلهية بل لنا شركة الأولاد مع الآب.

 

لو
تخيلت ولداً يتيماً مسكيناً لم يعرف أباه أو أمه ولكنه أخذ في يوم من الأيام
يستشعر بألم فقدانه هذه الرابطة التي تربط الآخرين معاً، فعندئذ تستطيع أن تدرك
معنى الفراغ العظيم الذي يحس به الإنسان في هذه الحالة. أما نحن فقد جنبتنا النعمة
كل إحساس من هذا القبل. فلم نحصل فقط على طبيعة إلهية أعطيت لنا بالنعمة لتدوم
فينا على الزمن ورغم كل تصاريفه وصعبان، بل قد أصبح لنا كمن قبلنا المسيح سلطان أن
نصير أولاد أبيه وأبينا، وهذه نسبة وعلاقة لا تتغير قط. وما هي الخطية في نظر
الآب؟ ليست شيئاً أقل من طعنة مباشرة ضد طبيعة الله. وعلاقتنا الوثيقة بالله
ونسبتنا إليه كأولاد إنما تتضاعف من الإهانة التي نلحقها بالله. فالخطية معناها
فعل الإنسان لمشيئة الذاتية ضد مشيئة الله. هذه هي صفتها الحقيقية وليست كسر
الناموس أو التعدي عليه كما قد يتبادر إلى الذهن من الترجمة الرسمية[4] ليوحنا
الأولى 3: 4. هكذا ظن بعض اللاهوتيين فترجمتها كذلك لأن الطبيعة البشرية ميالة
دائماً للتفكير بالروح الناموسية. أما ما كتبه الرسول في ذلك العدد فهو أن الخطية
هي التمرد (
Lawlessness) أي
صنع الإرادة الذاتية وعدم التقيد بأي ناموس وهذا المعنى أوسع وأعمق من مجرد مخالفة
الناموس. فإن مخالفة الناموس قد تقع من يهودي تحت تأثير الإهمال أو الاستفزاز دون
أن ينتبه ويفطن إلى سلطان الله فيه. بينما التمرد أو عدم التقيد بأي ناموس شيء
خطير للغاية ومن هنا كانت وصمة الأمم الذين لا يعرفون الناموس وذنبهم الخاص حتى أن
الرسول يستخدم عبارة "بلا ناموس" (
Lawless) وصفاً لهم. وهذا هو تعريف الخطية المعلن للمسيحي – "الخطية
هي التمرد". صحيح أن تعدي الناموس خطية، لكن ليس صحيحاً أن الخطية هي تعدي
الناموس لأن الخطية لها معنى أوسع – هي التمرد أو الإرادة الذاتية الجامحة غير
المروضة.

 

ولذلك
وبعد أن شرح الرسول الشركة الإلهية والطبيعة الإلهية، بدأ يكتب مناشداً أولاده
الأحباء لكي لا يخطئوا. فإذا كنت أخطئ متجاوزاً ممارسة الحياة الأبدية التي لي في
المسيح فإني بذلك أهين إهانة عظيمة محبة الآب والابن، بل إني أخدش طبيعة الله نفسه
– طبيعته الأدبية. لأن خطية المسيحي ليست مجرد نقض للناموس الذي أعطاه موسى
لإسرائيل مع خطورة هذا في حد ذاته ومع قيمته العظيمة لكل من عرفه إذ الوصية مقدسة
وعادلة وصالحة، ولكننا نحن المسيحيين، حتى وإن كنا يهوداً مسيحيين، قد متنا مع
المسيح للناموس ودخلنا في نسبة جديدة ومقام آخر يختلف كل الاختلاف عن مقام اليهود،
لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة. هذا هو مركز المؤمن منذ مات سيدنا وقام.
ولذلك، ولأن الشيطان على استعداد دائم أن يوقع المسيحي في مصيدة الخطية لإهانة
سيده، نقرأ القول "اكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا". كلمات قليلة لكن ما
اخطر ما تنطوي عليه! ومما يزيد في وزنها ويعظم في قدرها تلك البساطة المحسوسة
والعاطفة الرقيقة التي بها يقدمها إلينا الرسول. "وإن أخطأ أحد" – وهنا
لا يقول إن أخطأ "إنسان" فليس المقصود أي إنسان على الإطلاق بل إن أخطأ
أحد من المؤمنين. إن أخطأ أحد ممن لهم هذه العلاقة المقدسة وهذه الطبيعة
الإلهية….

 

مفروض
أن هذه الخطية وقعت من قديس وليست خطية مستمرة إذ لا يمكن أن يقال أن المسيحي يعيش
في الخطية عامداً، والكتاب لا يقدم سبباً أو عذراً لمثل هذا التساهل أو التراخي.
قد تكون لدى بعض الناس نظرية خاطئة فاسدة تقوم على نكران وجود الخطية فينا، ولكننا
قد رأينا حكم الكتاب على أمثال هؤلاء على أنهم يضلون أنفسهم وليس الحق فيهم. أما
نكران وقوع الخطأ منا، أي الادعاء بأننا لم نخطئ أعمق غوراً وأكثر خطراً لأنه يدل
على ضمير موسوم متحجر وعلى تجرد كلي من ذلك النور الإلهي الذي يكشف دقائق حياتنا
الذاتية بأجمعها. والواقع أنه لا توجد نظرية تعارض كلمة الله من نحونا أكثر من
هذه. فلنسمع ماذا يقول الكتاب "إن أخطأ أحد فلنا شفيع". أليس القول
"فلنا شفيع" تعبيراً غاية في الجمال يكشف عن حقيقة مشجعة؟ فالرسول لا
يقول "إن أخطأ أحد فله شفيع" بل يقول "فلنا شفيع" ذلك لأنه
مهما يكن سمو هذه الهبة فليس معناها الترخيص لنا بقصر شفاعة المسيح على علاج
الوقوع في الخطأ وعلى إلغاء حزن وخجل المؤمن بسبب خطيته.

 

إن
كلمة "شفيع" أوسع أفقاً وأوسع قدراً من مجرد مواجهة أو علاج خطية معينة
ولو أن هذه هي القضية التي يناقشها الرسول هنا. وباعتبار هذه الخطية صادرة من
مسيحي فإنها تجلب إهانة عظمى لله وهذا مما يزيد في مهمة الشفيع وخطورتها، وما الذي
لم يتكلفه المسيح في حمل الخطية والخطايا؟ فإنه حينما "جعل خطية" نزل
إلى أعمق الأعماق محتملاً دينونتها من يد الله لكي يعفينا نحن من احتمالها. إن
أخطأ أحد فلنا (أي المجموعة المسيحية كلها، جميع الذين هم موضوع النعمة الإلهية)
شفيع". وهو هناك في الأعالي لمواجهة هذه الحاجة فكما هو هناك دائماً لأجلنا
وبكل كمالاته هكذا هو أيضاً لنا. كما لنا الفداء بدمه، وغفران الخطايا، وكما لنا
الحياة الأبدية فيه، هكذا تماماً هو لنا كشفيع عند الآب. يا له من تدبير عجيب
هيأته لنا النعمة. ثم أن كلمة "معزين" الواردة في (أيوب 16: 2) فإن كلمة
"شفيع" الواردة في الإنجيل والرسالة، وما تحمله من معنى خاص في تطبيقها
الكتابي، تعني شخصاً يتبرع لأجلنا ويدافع عنا وفي استطاعته أن يؤدي لنا بصورة
كاملة ما نعجز عن القيام به. وهذا وحده يدل على أنه من الخطأ تضييق خدمة شفيعنا
وقصرها على مواجهة الخطية فقط، فهو أيضاً معزينا الذي يهتم بسداد كل حاجة من
حاجاتنا.

 

على
أن التعزية، ولو أنها النتيجة النهائية التي نحصل عليها بالنعمة، ولا يمكن بطبيعة
الحال أن تكون الطريقة الصحيحة لمواجهة خطية المسيحي وعلاجها. قد تسمع عن هذا
الأسلوب البشري المبتكر، وهي طريقة يرتضيها الجسد ويرتاح لها، حيث يقال "قلل
في الكلام ما أمكن عن الخطية. لا تجرح الأخ كثيراً في الكلام عنها، وأشفق على
عواطف أخينا المسكين العاثر الذي لم يكن له حيلة في الأمر" هذا أسلوب مغلوط
وليس بحسب الحق، فإن الشخص المستقيم يود بالعكس أن يتغلغل مبضع الجراح في الدمل،
ويرجو غربلة خطيته حتى الأعماق، وهكذا يحكم على ذاته قدام الله لأنه انزلق في خطأ
لا يليق بالآب والابن ويحزن الروح القدس: على أنه قبل الاستسلام للخطية، ولتحويل
هذا العارض السيء المحزن إلى أحسن النتائج، لنا شفيع عند "الآب" يسوع
المسيح البار. نعم هو شفيعنا عند الآب في صفته هذه وليس في صفته كالله. كان يجوز
أن يقال عند "الله" لو أننا قد فقدنا مركزنا كمسيحيين، ولكن وإن كانت
الخطية سيئة ومحزنها فإنها لا تفقد علاقة النعمة، فلا يزال من حقنا التمسك بها
باعتبارها ملكاً لنا. والواقع أنه لا يوجد وقت يعوزنا فيه أن نتذكر مركزنا
كمسيحيين أكثر من الوقت الذي فيه تدهمنا الخطية فنسقط فيها بسبب غباوتنا وإلا فكيف
يتسنى لنا أن نخجل من أنفسنا خجلاً عميقاً دون أن يتسرب إلينا اليأس؟ فما أبلغ
الحزن الذي يغمرنا. وإننا وقد حصلنا على رحمة الله وبركته، نعود فنبعث بالإثم
متجاهلين محبة أبينا وطبيعته القدوسة، وناسين الخطية التي انغمسنا فيها – الإنسان
العتيق!

 

أليست
الخطية الساكنة فينا كوحش بري جاثم في الداخل ينبغي تقييده وحبسه بقفل وسلسلة حتى
لا ينطلق ثائراً؟ حقاً إنها عدو قتال ومع ذلك فمن حقنا وسلطاننا أن نبقيه تحت
الموت – الموت الوحيد الفعال – موت المسيح وموتنا معه. فالذي يعرضنا للسقوط إذن
ليس فقط عدم سهرنا على أنفسنا، لأن موته لم يكن فقط لإزالة الخطايا بل أيضاً
لإدانة الخطية في الجسد – في ذاك الذي كان جسده مقدساً قداسة مطلقة. هناك دان الله
الخطية، وهذا هو مصيرها بالنعمة بالنسبة لنا، أن تدان لا أن تغفر. إن الخطايا
تحتاج إلى غفران أما الخطية فقد دانها الله في المسيح الذي جعله خطية لأجلنا. لقد
تنفذ الحكم على الخطية في المسيح مصلوباً لكي نتبرأ نحن فيه ونصير أحراراً. هذا ما
كنا نحتاجه وقد نلناه بالنعمة (رو 3: 8) لذلك وجب علينا أن نكون دائماً على حذر
وفي حالة اليقظة والسهر المستمر لطلب القوة لإدانة الجسد كلما حاول الظهور أو مجرد
العمل في دائرة الشعور حتى ولو لم يظهر للآخرين.

 

ولكن
القضية هنا قضية مؤمن وقع في الخطأ. قديس، أحد أولاد الله، قد أكون أنا وأنت أو أي
شخص آخر من المؤمنين – قد أخطأ. فماذا بعد ذلك؟ من طبيعة الخطية أنها تتطور من ردئ
إلى أردأ وتقود إلى شر أعظم. وهي لا بد فاعلة ذلك لو لم يكن لنا شفيع كهذا. غير أن
الشفيع يعمل، ونتيجة عمله أننا نشعر بالخطية وندينها بالتذلل أمام إلهنا وأبينا.
قد يراه الكثيرون أمراً عجيباً أن يقال "إن أخطأ أحد فلنا شفيع". لا شك
أن الوضع الأخير هو ما ترسمه الأقلام الناموسية التي لا تؤمن بالنعمة. أفليس
صحيحاً في شرعتها أن يقال "إن تاب أحد فلنا شفيع"؟ غير أن كلمة الله
تقول "إن أخطأ أحد". يقيناً أن الله يبغض الخطية بغضاً لا حد له لكنه
يحب القديس. كآب يحب أولاده بمحبة تسمو فوق كل صعوبة. وفضلاً عن ذلك أن غرضه هو أن
يدخل ذلك القديس في أفكاره وفي بغضه لتلك الخطية عينها. ولذلك لنا شفيع ليس فقد
عند "الله" كما لو كنا سنبدأ من جديد وقد فقدنا كل شيء بتلك الخطية.
كلا. ولكني أدينها وأحكم على ذاتي بمقدار ما سببت من إهانة وعار. ومن ذا الذي
يوصلني إلى هذه النتيجة الطيبة الرحيمة؟ هو الشفيع في الأعالي. وهو يعمل فينا
أيضاً بشفيع آخر على الأرض هو الروح القدس.

 

ومن
هنا يتضح للقارئ السبب في تشديدنا على التمسك بكلمة "شفيع" فيما يختص
بأقنوم الروح القدس في إنجيل يوحنا لأن خدمة سيدنا عند الآب في الأعالي وعمل الروح
القدس فينا على الأرض هي خدمة الشفاعة التي تعني القيام بكل ما نعجز عن عمله
بأنفسنا حتى في الحالة القصوى، يوم كانت الدولة الرومانية لا تزال تحمل بعض شعور
العطف الأدبي في أخريات أيامها ولم تنغمس بعد في الأنانية ومظاهر الأبهة والفساد
كما حدث في أخريات أيامها. فكان لكل قبيلة رئيس أو "نصير" (
Patron) وكان من حق كل فرد في القبيلة أن
يلجأ إلى النصير الذي كان عليه بحكم مركزه كرئيس للقبيلة وحاميها أن يهتم اهتماماً
شخصياً بتقديم المعونة التي يطلبها كل فرد من أفاد العشيرة التابع له. على كل حال
هذه كانت النظرية التي قامت عليها وظيفة الباترون يومئذ، ومن المحقق أننا لا نتوقع
الكمال من ذلك الرئيس أو النصير لأن القول والعمل شيئان مختلفان في الإنسان في هذا
العالم. ولكن الشفاعة كانت الفكرة المقصودة على كل حال. أما الكمال المنشود، وما
كان مجرد فكرة فاشلة بين الناس، فيجده المسيحي الآن في الرب يسوع.

 

ولسنا
نجده فقط في الشفيع عند الآب بل كذلك في الروح القدس الذي جاء من الآب ومن الابن
ليكون الشفيع فينا. فمن ضمن عمله أنه يشفع في القديسين بحسب مشيئة الله. وشفاعته
ليست من نفس النوع بالضبط ولكنها على كل حال شفاعة مستمرة كما تقرأ في رو 8: 26 و
27 نظير شفاعة المسيح في الأعالي تماماً في عدد 24 من نفس الإصحاح. وهاتان
الشفاعتان الإلهيتان، أو بالحري هذه الشفاعة الإلهية المزدوجة تضمن تسديد كل
أعوازنا تسديداً فعالاً. فحيثما واجهتنا صعوبة أو تجربة أو حزن فإنه الروح القدس
لا يتخلى عنا بل هو هناك لمعونتنا وحيثما شعرنا بالضعف أو الجهل يتقدم الروح
لإغاثتنا والأخذ بيدنا، عاملاً بكيفية أو أخرى، ليس دائماً بطريقة مباشرة في
نفوسنا بل بواسطة بعضنا البعض. وأليست هذه طريقة مباركة ومغبوطة؟ نعم فإنه حاشا
لنا أن يستقل أحدنا عن الآخر. فكما أننا أعضاء جسد المسيح الواحد هكذا قد جعلنا
الآن بقوة الروح أعضاء بعضنا لبعض أيضاً. ومشيئة الله هي أننا ننفذ هذا عملياً في
حياتنا هنا على الأرض. فماذا نحن فاعلون؟ هنا نشعر بخزي الوجوه، ولكننا نعلم على
الأقل أن شفيعنا في الأعالي لا يفشل قط، كما لن يفشل قط شفيعنا الذي على الأرض.
وهكذا لنا في نعمة الله العجيبة التعضيد المزدوج والغاية المضاعفة لكي نكون أمناء
مهما كنا ضعفاء. وهاتان الخدمتان نجد إحداهما في إنجيل يوحنا والأخرى في رسالته
هذه. حقاً إننا دينون يدناً مضاعفاً لله من أجل هذه المعونة المزدوجة التي زودنا
بها في طريق غربتنا.

 

إن
الرسول بولس لم يزودنا بكل شيء من هذه الناحية مع أنه لم يوجد أعظم منه وكيلاً
لسرائر الله، ولم يقم من بين جميع الذين عملوا وعاشوا وتألموا من أجل اسم ربنا
يسوع من هو أقوى منه عاملاً مقتدراً في الإنجيل وفي الكنيسة غير أن الرسول يوحنا
كان له مركزاً لم يستطع أن يملأه سواه بإرشاد الروح القدس. ولا غرابة فإنه لم يتكئ
في حضن الرب عبثاً. لقد كانت هنالك أسباب ودواعي لانفراد بمثل هذا الامتياز
المبارك، وها نحن أولاء نحصد البركة عن طريق التلميذ الذي كان يسوع يحبه، والذي
صاغته النعمة الإلهية هكذا وهيأته للعمل الذي أعطي لعمله بعد ذلك الوقت. وما هو
الحال الآن؟ ألم تتضاعف هذه الظروف قسوة وعنفاً وعلواً وعمقاً وتمدداً بعد ذلك
التاريخ؟ على أن شفيعنا في الأعالي باق وشفيعنا الآخر على الأرض ماكث فينا ومعنا،
فهل نؤمن بكليهما إيماناً بسيطاً حقيقياً كاملاً؟

 

ومن
المهم أن نعرف الفرق بين شفاعة الرب وكهنوته. إننا لا نقرأ ليوحنا قط أية إشارة
لسيدنا باعتباره كاهناً – للمسيحيين في الوقت الحاضر على الأقل. وإنما هو يشير إلى
شخصه العزيز كالشفيع. والشفيع له من صفة القرب والمودة والعلاقة الوثيقة ما يزيد
عن الكاهن بمراحل. إن للكاهن مكانه الضروري للغاية، وقد كشفه الوحي بصورة خاصة حيث
كان يجب أن يكشف وحيث كانت الحاجة القصوى تدعو إليه، أي للمسيحيين العبرانيين
الذين كان معظمهم يحنون إلى الكهنوت القديم والطقوس القديمة. ومن الأمور التي لها
مغزاها وجمالها أن الرسول بولس هو الذي علمهم هذا الحق الذي كان ينقصهم مع أنه لم
يكن رسولهم، ولذلك فإن رسالته للعبرانيين وقلوبهم. فهو يمحو نفسه غافلاً اسمه
مستعيناً العون كله بفصول العهد القديم منتقاة بمهارة لا مثيل لها. وهي مهارة قد
منحه إياها الروح القدس لهذا الغرض العظيم، ولا شك أنه هو أيضاً كان الإناء
المناسب للكلام عن خدمة يسوع هذه كالكاهن العظيم في الأعالي، كما كان يوحنا الإناء
المناسب للكلام عن المهمة الأخرى التي نحن بصددها – أي مهمة الشفاعة.

 

ونستطيع
أن نجد ما يعيننا على إدراك الفارق بين رسالة العبرانيين ورسالة يوحنا التي
أمامنا، لأن هذا الفرق لا ينحصر في نقطة واحدة بل يتخلل كلتا الرسالتين. فرسالة
العبرانيين تتناول موضوع اقترابنا إلى الله ودخولنا إلى مقدسه، وهذا شيء غير
علاقتنا بالآب،. صحيح أنه توجد في ص 12 إشارة إلى الله مخاطباً القديسين كبنين،
وإلى التأديب الأبوي الذي يحتفظ به أبو الأرواح للبنين الحقيقيين ولكن طابع
الرسالة هو الكلام عن "الله" وعلاقته بالقديسين. ولذلك فالموضوع الذي
عني به بولس بإبرازه هو كيف يتسنى لنا، ونحن ما نحن، أن نقترب إلى الله في
الأقداس. ومن هنا قد أفاض الرسول في الكلام عن ذبيحة المسيح وعمله الكفاري الكامل،
وهي تمتاز بخاصية فريدة تميزها عن ذبائح العهد القديم وتجعلها في تباين مستديم
معها وهي بكونها "ذبيحة واحدة" قد تمت مرة واحدة وإلى الأبد. والحق أننا
نلاحظ أن الوحي يحرص بتجديد تطبيق الدم. ولماذا هذا؟ لأن دم المسيح له خاصية ليست
لأي دم آخر وما كان ممكناً أن تكون لأي دم آخر، وهي أنه يعمل عمله كاملاً ولذلك
يعمله مرة وإلى الأبد. ولكن مما يؤسف له أن هذا الحق بالذات هو ما يصعب الآن أن
تجد من يؤمن به إيماناً كاملاً مطلقاً بلا شرط أو قيد.

 

فهما
اختلفت أشكال النظم الكنسية وتباين العقائد، فإن معظمها حتى بين الإنجيليين –
يتمسك بقاعدة تطبيق دم المسيح من جديد. ومسلك كهذا يشبه في جوهره مسلك اليهودي وهو
في حقيقته إحياء لليهودية واستعادة لها بعد أن طردت طرداً وبخاصة بجهود الرسول
بولس، بحيث لا يظهر لها أقل أثر حينما كتب للتسالونيكيين أو الكورنثيين أو الرومان
أو الغلاطيين أو الفسسيين أو الكولوسيين أو الفلبيين. أما للمؤمنين اليهود،
العبرانيين، فهو يستبعد استبعاداً حازماً كل فكر كهذا. وكما يقول في (ص 9: 26)،
أنه كان يجب في هذه الحالة أن يتألم مراراً كثيرة. ولكنه قدم مرة وليس مراراً وهنا
تتكشف ليس فقط ضلالة بل غباوة "القداس" الروماني فهو باعترافهم ذبيحة
بغير دم – ذبيحة تتكرر يومياً لغفران الخطايا،. بل هو "سر مقدس" يعلن
بصوت صارخ أن دم المسيح قد فشل ولا بد من تقديم القداس لنوال الغفران! ولكنه مجرد
صورة خادعة، وادعاء جريء من الكاهن الأرضي وإهانة عظمى للرب يسوع هنا وفي السماء.
ولكن حتى بين البروتستانت الغيورين، أليسوا واقعين تحت غشاوة الالتجاء المتكرر
للدم وتجديد تطبيقه من وقت لآخر؟.

 

وهل
أدلك على منشأ هذه الضلالة وبأي شيء ترتبط نظامياً؟ منشأها إغفال غسل الماء
بالكلمة يم لا يرون في هذا الحق إلا كونه يشير إلى المعمودية! ولكن الكتاب يقصد
بغسل الماء بالكلمة شيئاً آخر يختلف عن هذا كل الاختلاف. يقصد تسديد حاجة القديس
المستمر بعد أن استراحت نفسه بالإيمان على دم المسيح. والغسل بالماء له صورتان في
الكتاب المقدس الصورة الأولى غسل التجديد وهذا نناله في ذات اللحظة التي نرتاح
فيها على دم المسيح وهو أيضاً يتم مرة واحدة لا يتكرر أبداً فلا يوجد في الكلمة
شيء اسمه إعادة التجديد. فكما أن ذبيحة المسيح لا تتكرر هكذا التجديد لا يتكرر.
كلاهما مرة واحدة ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. وهكذا دم المسيح يبقى دائماً
أبداً في كامل فاعليته لدى الله ولأجلنا. والواقع أنه لو لم يكن الأمر كذلك لكانت
النتيجة هلاكنا لا محالة، فالمسيح لا يمكن أن يموت مرة ثانية لأجلنا. غير أننا بعد
أن نرتاح على موت المسيح لأجلنا يزعم البعض أن فاعلية هذا الموت تتعطل بالخطية
ولذلك فالأمر عندهم أننا نحتاج إلى إعادة تطبيق الدم من جديد لتطهيرنا. ولو كان
الأمر كذلك، فأين كنا نذهب أيها الأخ؟ ولكن شكراً لله لقد مات المسيح مرة واحدة
وقيمة موته باقية إلى الأبد، وفاعليته دائمة بغير توقف ولا انقطاع كما هو عنى
الكلمة حرفياً.

 

ولكن
هناك الصورة الثانية وهي غسل الماء بالكلمة وهذا الغسل يتكرر باستمرار كلما دعت
الحاجة وقد رسم لنا الروح القدس هذه الصورة وضرورة تطهيرنا المستديم بغسل الماء
بكيفية مؤثرة للغاية، ليس في رسالة العبرانيين ولا في الأناجيل بصفة عامة بل في
إنجيل يوحنا وحده، حيث أخذ الرب مغسلاً وماء ومنشفة وغسل أرجل تلاميذه مبيناً بهذا
الرمز ما يعمله الآن في السماء كلما تدنست أقدامنا ونحن نسير على الأرض، وهي
الخدمة التي قال لتلاميذه أنهم سيفهمون معناها فيما بعد، والغرض منها مواجهة دنس
السلوك في الشخص المسيحي، وهذه خدمة الشفيع كما هو واضح وقد أعطى الرب صورتها
بانحنائه لا لكي يموت من أجل تلاميذه بل لكي يغسل أرجلهم المتسخة الأمر الذي أدهش
بطرس كما أدهش الباقين بلا شك، وإنما بطرس هو الذي كشف عن جهالتهم المشتركة إذ وثق
بأفكاره الخاصة للمحافظة على كرامة سيده ناسياً أن كرامة سيدنا الأدبية العظمى
إنما تتمثل في ذلك الاتضاع الذي قبله في محبته إرضاء لمحبة الآب إلى أقصى حد
وإسعاد لقلوب القديسين إسعاداً دائماً كاملاً وهكذا نجد أن عملية غسل الأرجل في يوحنا
13 تتجاوب مع كلمات يوحنا هنا "لنا شفيع عند الآب". وهي ليست خدمة الدم
بل خدمة الماء. وقد جاء في نفس الرسالة "هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع
المسيح لا بالماء فقط بل بالماء والدم". هكذا يكتب رسولنا في (ص 5: 6) مشيراً
بلا شك إلى ص 19 من إنجيله (العددين 34 و35) فإن موت المسيح يكفر عن موت المؤمن
كما يطهره أدبياً. يكفر عنه بالدم مرة واحدة وإلى الأبد، ويطهره بالماء (الذي يشار
به إلى الكلمة في يو 15: 3) ليس فقط في بدء الطريق بل إلى نهايتها هنا على الأرض،
أي أن الكلمة تطبق موت المسيح لتطهيرنا بالإيمان.

 

إن
رسالة العبرانيين تحدثنا كما سبقت الإشارة عن ضمان اقتراب المؤمن إلى الله بواسطة
الذبيحة الكاملة "دم الصليب" وبواسطة دخول الرب يسوع إلى الأقدس كرئيس
الكهنة العظيم على بيت الله وكمن دخل كسابق لنا لكي ندخل نحن بثقة في أثره
المبارك، ولكن الغاية من كهنوته هي إعانة المجربين والرثاء لضعفاتنا لكي ننال رحمة
ونجد نعمة عوناً في حينه. فهو في السماء يظهر أمام وجه الله لأجلنا، وبذلك يعزينا
ويقوينا ضد تجارب البرية، ويشددنا في ضعفنا وتعرضنا لمخاطر الطريق وصعابها
المختلفة. ولكننا لا نجد في الكلمة أية إشارة إلى علاقة خدمته الكهنوتية بخطايانا
هنا تأتي شفاعته له المجد بصريح العبارة. إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، وهذا
الشفيع هو نفس الشخص، الرب يسوع ذاته، ولكن في خدمة مختلفة وذلك لوصل ما انقطع مع
الآب من الشركة بسبب الخطأ من جانبنا، أو بعبارة أخرى لرد الشركة التي عطلتها
الخطية.

 

على
أن هناك أمراً آخر يوجه إليه الروح القدس أنظارنا. فالشفيع هنا هو يسوع المسيح
البار. وهذه هي نقطة هامة جداً. وأكثر من ذلك "وهو كفارة" لاحظ هنا
الأساس المزدوج. فأولاً تقوم الشفاعة على أساس كونه البار. ونحن لم يكن لنا أي بر.
أما هو فهو البار، وقد صار لنا من الله ليس فقط حكمة بل براً وثانياً هو كفارة
لخطايانا وقد أرسله الله الآب لهذه الغاية بالذات. وقد حمل كل ما كان ضرورياً
للتكفير عن خطايانا إذ احتمل الدينونة الإلهية مرة إلى الأبد. ولكنه كالشفيع يعالج
الآن خطية المسيحي التي تعطل تمتعه بالشركة مع الآب والابن. وهذا العمل لا دخل له
إطلاقاً بتألمه مرة تحت ثقل الدينونة الإلهية (لأن هذا كله انتهى إلى الأبد على
الصليب) ولكنه خاص برد الشركة مع الآب والابن كلما تعطلت، وما أكثر ما تتعطل
بسهولة مع الأسف.أي نعم أيها الأخ الحبيب، إنه لأمر محزن أن نستخف بهذه الشركة فلا
نشعر بانقطاعاتها التي تعرضنا لها كلمة طائشة أو فعلة غبية قد تندفع إليها في عدم
يقظتنا! لكن شكراً لله إذ "لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار".

 

إن
المسيح هو الآن في الأعالي في كامل نعمته. وبره باق في كامل استحقاقه وكذلك كفارته
بالدم باقية بكامل فاعليتها. وإنه لما يملأ قلب المسيحي بالفرح والفخار إن شيئاً
على الإطلاق لا يمكن أن يمس المسيح المقام أو يؤثر على فاعلية عمله على الصليب
لأجلنا. وإن تعامت الأرض أو تصامت فإن السماء لا يمكن أن تنسى ما لهذين الأمرين (-
بر المسيح وكفارته) من قيمته لمجد الله وتطهير المؤمنين. لكن لنلاحظ هنا نقطة
أخرى. يقول الرسول أن كفارة المسيح ليست لخطايانا فقط بل "لكل العالم".
ونعرف من كلمة الله أن الكفارة عن خطايا هي للمؤمنين فقط، لمؤمني العهد القديم
ومؤمني العهد الجديد، أولاد الله في الوقت الحاضر. فالمسيح هو كفارة بصفة عامة لكل
العالم ولكن فقط "لخطايانا" نحن المؤمنين. ولن تجد غير هذا في كلمة
الله، ولذلك يحرص الرسول على تبيان الفارق عندما يشير إلى كل العالم. لأنه إذا كان
الرب كفارة لخطايا كل العالم فإن كل العالم يحصل على النتيجة حتماً ويذهب إلى
السماء. فإن كان الرب حمل خطاياهم كما حمل خطايانا تماماً فماذا يكون لله ضدهم؟
لكن الحق الذي يقرره الكتاب هو أنه كفارة لخطايانا، تلك الخطايا التي أبطلها إلى
الأبد ماحياً إياها بدمه. ولو كان الأمر كذلك مع العالم لبرئت ساحته بلا نزاع.

 

إذن
ما هو دخل العالم هنا، وما هي علاقة الكفارة به؟ الجواب على ذلك كما يقول لنا
الكتاب هو أن الكفارة ليست متعلقة فقط بقضية أولاد الله. إن الله نفسه كان يجب أن
يتمجد من جهة الخطية بغض النظر عن خلاصنا، وإن طبيعته كمحبة كان يجب أن تتبرر
بالنسبة لأردأ أعدائه. ونستطيع أن نجد التعليم الوافي عن هذين الحقين أو عن هاتين
الوجهتين من ذبيحة المسيح الكفارية في ما قد سجله لنا الوحي عن يوم الكفارة العظيم
في سفر اللاويين (ص 16). ففي ذلك اليوم كان يقد تيسان عن شعب إسرائيل: أحدهما كان
من قرعة الرب وثانيهما من قرعة الشعب. ولكن على رأس تيس الشعب وحده كانت تستقر
اعترافاتهم بخطاياهم، الأمر الذي لم يحصل مع التيس الأول الذي كان يذبح فأنت ترى
من هذا فارقاً ملحوظاً بين الاثنين. أما عن التيس الأول. قرعة الرب، فقد كان لمجد
الله الذي شوهته الخطية في هذا العالم، حتى يتسنى بموته بالنعمة إشباع مطاليب
طبيعته. فقد كان لزاماً أن يتمجد الله من جهة الخطية. ولكن هذا لم ينزع بعد عبء
الخاطئ بصفة نهائية، لأن غفران خطاياه كان يقتضي الاعتراف بها بصفة واضحة وبصورة
قاطعة. وهذا عين ما فعله هارون إذ وضع يديه كلتيهما على رأس التيس الحي أو التيس
الثاني، قرعة الشعب. أما التيس الأول فقد ذبح وجيء بدمه إلى القدس بل وإلى كل مكان
في الداخل وفي الخارج. وهذه هي الكفارة بصورة رمزية، ومن هذه الناحية وإلى هذا
القدر هي للعالم كله لكي يتسنى الكرازة ببشارة الإنجيل لكل خاطئ.

 

وهذا
هو تعليم الكتاب هنا وفي كل مكان. وهو حق خطير جداً ككل الحقائق المتعلقة بشخص
سيدنا له المجد حتى أن الله لن يكتف بمجرد تعليمه لنا نظرياً، بل سبق فوضحه لنا
بطريقة رمزية عملية وعجيبة للغاية. فإن ذلك الرمز المعروف المشهور يوضح لنا الفارق
بين وجهتي الكفارة فنجد من الوجه الأول أن ذبيحة المسيح قد مجدت طبيعة الله
تمجيداً كاملاً حتى يستطيع الله أن يقف متسامياً ويرسل بشارته المفرحة إلى كل
الخليقة. ولكن من الوجه الثاني هناك شيء آخر لابد منه للخطاة لكي يخلصوا وذلك هو
المتضمن في قول الرسول "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة".
هذا لا يقال مطلقاً عن العالم، والوحي دائماً حريص في تعبيراته. ولكن بما أن الله
تمجد بالتمام من جهة الخطية في ذبيحة المسيح، فإنه يستطيع بوساطة خدامه أن يطلب
إلى أعدائه بل أكثر من ذلك – ويا لغنى النعمة – أن يستعطفهم قائلاً: تصالحوا مع
الله. ومحبة الله هي مصدر الإنجيل وموت المسيح هو وسيلته وأساسه على أنه ليس من
المحتم أن الإنجيل يخلص كل إنسان (مع أنه كفء لذلك) ولكنه يذيع أ، الله قد تمجد في
المسيح. وحتى لو لم تخلص نفس واحدة فإن الله يتمجد في رائحة موت المسيح الذكية.

 

ولكن
يحسن بنا أن نعرف أن الفارق عظيم بين الحقيقتين فلو أن الله ترك كل شيء للإنسان،
لما تسنى أن يخلص إنسان واحد. فإنا بالنعمة مخلصون. والمختارين يعطي الله الإيمان،
وهنا تأتي الكفارة عن خطايانا. ولست أظن أن واحداً به خوف الله يزعم أن كل العالم
سيخلص، أو ينكر أن النعمة وحدها هي لتي تجعل الفارق بين المؤمن وغير المؤمن. ففي
يوم الكفارة شهادة على أن أول شيء كان لازماً هو تمجيد طبيعة الله بغض النظر عن
محو خطايا شعبه. وقد كان لزاماً وأهم من ذلك بكثير أن يتبرر الله من جهة حقه
وقداسته وبره ومحبته وجلاله في صليب المسيح. ففي الصليب دون سواه قامت المعركة
الحاسمة بين الخير والشر، وذلك لدينونة وهزيمة الشر ونصرة الخير ومصالحة ليس فقط
جميع المؤمنين بل كل شيء (وليس كل شخص) مع الله ووضع الأساس الإلهي للسماوات
الجديدة والأرض الجديدة لطول الأبدية. وأساس هذا كله نراه فيما كان التيس المذبوح
(قرعة الرب) يرمز إليه. ولكن لتخليص الشعب من خطاياهم أراد الرب أن يريهم عظم
رحمته، وهكذا في المكان الثاني يأتي دورهم جلياً واضحاً فتوضع خطاياهم على التيس
الحي الذي حملها إلى أرض النسيان لكي لا تعود تذكر فيما بعد. هذا هو الفارق بين
الكفارة والنيابة.

 

وهنا
نقرأ أن ربنا وسيدنا هو الكفارة لخطايانا وليس لخطايانا فقط بل لكل العالم أيضاً.
وفي هذه العبارة نرى حرص الوحي على عدم الخلط بين أولاد الله والعالم. ومع ذلك فإن
كلمة الله تعلن الرحمة الإلهية إلى كل العالم. في هذا وحده تتبرر طبيعة الله
ومحبته فكالمخلص يظهر الله لجميع الناس، باعثاً برسالة الخليقة لكل النعمة لكل
الخليقة وداعياً جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا. ولكن لكي يخلص الخاطئ ينبغي
أولاً أن تتجه إليه الدعوة الفعالة بحسب المشورة الإلهية، ثم يلي ذلك عمل الروح
القدس في القلب لقبول المسيح. وليس الأمر هكذا مع "كل العالم". ومن
العبث أن ننكر الحقائق الواقعة. ولنا هنا المكتوب الذي يفسر القضية تفسيراً جلياً.

 

فحينما
نؤمن بربنا يسوع المسيح نستطيع نحن أيضاً أن نقول مع المكتوب أنه حمل خطايانا ولكن
ليس من حقنا أن نقول هذا لغير المؤمن ولا "لكل العالم". الإيمان وحده هو
الذي له أن يتكلم هكذا.

 

والواقع
أن الرمز الذي أشرنا إليه إنما هو شهادة خاصة لهذا المبدأ الكتابي العظيم، الذي
يفسره العهد الجديد تعليماً بأوضح لغة. خذ مثلاً الفارق بين "الفداء"
(أف 1: 7) وبين "الشراء" (2 بط 2: 1) وهو المفتاح الحقيقي لهذا الموضوع
الخطير. فالرب بموته قد "اشترى" كل الخليقة ومن ضمنها كل إنسان بطبيعة
الحال بما في ذلك "المعلمون الكذبة" وغيرهم. وإنه لهلاكهم ودمارهم
الأبدي أنهم ينكرون حقوقه ويثورون ضد سيدهم العظيم الذي اشتراهم. ولكنه لا
"يفتدي" سوى أولئك الذين لهم بالإيمان بدمه غفران خطاياهم. إن الرب
بموته على الصليب قد أضاف إلى حقوقه كالخالق بأن جعل كل الخليقة ملكاً له بحق ذلك
الشراء العظيم. فالجميع ملكه وليس ملك أنفسهم، ولو أن المؤمن وحده هو الذي يعترف
بذلك اعترافاً كاملاً. ولكن الفداء هو الذي يعتق من الشيطان والخطايا. ولم ينال
أحد هذا العتق إلا بالإيمان.

 

خذ
أيضاً صورة أخرى لهذا الحق في (عب 2: 9 و 10) فيقال هناك أن المسيح ذاق بنعمة الله
الموت لأجل كل واحد أو لأجل كل شيء بما في ذلك كل إنسان طبعاً (قارن عدد 7 و 8).
فالكل قد شملهم الشراء وهو قد اشترى الجميع، لكن اللغة تتغير تغيراً كاملاً ابتداء
من عدد 10 حيث نسمع عن الله آتياً "بأبناء كثيرين" إلى المجد ومكملاً
رئيس خلاصهم بالآلام. إذن فالتفكير عن "خطايانا" شيء والتفكير عن
"كل العالم" شيء آخر. والخلط بين هذين الحقين المتميزين يفقدنا الدقة في
التعبير بل أن الحق نفسه يضار بسبب ضيق القلب الذي ينتج عن عدم معرفة الشراء العام
أو بسبب الغموض الذي ينتج من عدم معرفة تخصيص الفداء.

 

يا
ليت الله يبارك الحق الذي تأملنا فيه من أجل خاطر الرب يسوع.

 

الخطاب
الرابع

1 يو
2: 3 – 6

"وبهذا
نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه. من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو
كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكملت محبة الله. بهذا
نعرف أننا فيه. من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو
أيضاً"

 

إن كل
مسيحي متأمل لا بد أن يحس وهو يقرأ هذه الأقوال أنها بحسب الظاهر غير مرتبطة
بالأعداد السابقة، ولو أن حرف العطف الذي تبدأ به قد يعطيها شبه اتصال بما قبلها.
لا شك أن هناك رابطة حية بين الاثنين، ولكن مرجع هذه الرابطة ليس حرف العطف الذي
يربط به الناس عادة موضوعاتهم المنوعة لأن العبارة في الواقع تتكلم عن شيء متميز
عما سبقه. ومع ذلك فهناك حلقة، وحلقة مهمة جداً، تربط الاثنين معاً، وهذه الحلقة
هي في كلمة واحدة "الحياة" ليس فيما بعد مجرد الحياة الإلهية بل طبيعة
الله في طهارتها المطلقة المعبر عنها بالكلمة التصويرية "نور" – ذلك
النور الذي انتقل إليه المؤمن منذ لحظة تجديده.

 

فالنور
هو الذي يؤثر بقوة من الآن فصاعداً على الضمير لأنه ليس فقط ضميراً يقظاً بل
ضميراً مطهراً. والطبيعة الجديدة ترحب بنور الله وتستجيب له وبالأكثر لشعورها
الأليم بمبلغ الشر الذي تنطوي عليه الطبيعة القديمة في ذاتها. ولكن المسيحي قد حصل
على طبيعة جديدة من الله. ويصرح الرسول بطرس أننا نحن المؤمنين قد صارت لنا طبيعة
إلهية، وذلك من اللحظة التي فيها تعمل حياة الله في نفوسنا وهي تعمل فعلاً من ذات
اللحظة التي فيها نرجع إلى الله. قد لا يكون لنا بعد، بل قد يمر وقت طويل قبل أن
نتمتع بالسلام تمتعاً كاملاً ومع ذلك فإننا نبتهج ونفرح فرحاً عظيماً في إيماننا
أن الله قد تكلم إلى نفوسنا ونحس براحة كبيرة في خضوعنا الكلي لنور الله الذي يكشف
ويدين حياتنا الماضية.

 

وكيف
ذلك، ولماذا نفرح بإدانة نفوسنا؟ السبب لأن لنا حياة جديدة من الله والحياة في
المسيح هي نور الناس. وهذه الحياة تسمى في أماكن أخرى الحياة الأبدية ولكن حياة
المسيح ليست حياتين. صحيح أن لتعبير "الحياة الأبدية" معناه الخاص
وتأثيره الخاص، ولكنها نفس الحياة الواحدة، وليس للمؤمن سواها. ونحن نرى كم هو
لائق ومناسب أن يكون الوضع هكذا، لأن المسيح حياتنا هو نفسه الحياة الأبدية كما هو
مذكور عنه في العدد الثاني من الإصحاح الأول. وكذلك الرسول بولس يقرر في رسائله
بلا تردد أن المسيح حياتنا (كو 3: 4) وأنه يحيا لا هو بل المسيح يحيا فيه (غلا 2:
20). إذاً فالحق مؤكد من كل جانب. وكما أن المسيح ليس لنا ليس له حياتان، كذلك
المؤمن ليس له حياتان. أقول هذا فقط عن الحياة الروحية، غير منكر الحياة الطبيعية.
ففي المسيح كانت الحياة منذ الأزل، وإذا جاء من السماء صار يعطي الحياة بالإيمان
ليس لليهودي فقط بل للعالم (يو 6: 32) فهي للأممي الذي يؤمن سواء بسواء. إذاً
فالمؤمن له هذه الحياة، وإذا هو يتقدم في الإدراك يشعر بالفرح العظيم إذ يعرف أنها
حياة أبدية.

 

وفي
رسالة بطرس الأولى (ص 1: 2) نجد نفس هذا الحق الجوهري فيما يتعلق بتقديس الروح
الذي يتكلم عنه الرسول هناك. لقد أساء الكثيرون فهم المراد من الاصطلاح
"تقديس الروح" فظنوا أن المقصود هو القداسة العملية. وقد ترتب على هذا
التفسير المغلوط أخطاء أخرى كثيرة، فإن بذرة الخطأ متى زرعت أنتجت حصاداً كثيراً
من التشويش والارتباك. ولكن القرينة توضح تماماً أن تقديس الروح هناك معناه شيء
واحد وهو تكريس المؤمن أو تخصيصه لله، الأمر الذي يتم بولادته من الله، لأنه تكريس
أو تخصيص "للطاعة ورش دم يسوع المسيح" أعنى أنه سابق وليس لاحقاً لطاعة
على شبه طاعة المسيح ورش دمه بالمقابلة مع طاعة الناموس ورش دمه (خروج 24) فنحن
مدعوون منذ خطوتنا الأولى في الحياة الجديدة التي بها يفرزنا الروح لله ويخصصنا أو
يقدسنا له أن نطيع كما أطاع المسيح كأبناء في كل حرية مقدسة ولنا الدم المرشوش
الذي يعلن غفران خطايانا وإبطالها. وهذا على نقيض إسرائيل الذي بدأ مساعيه في
الحصول على الحياة بمحاولة إطاعة الناموس خوفاً من عقوبة ذلك الموت الذي كان يشهد له
دم الذبائح التي كان يرش على الكتاب والشعب. ونفس هذا المعنى يوضح السبب في قول
الرسول بولس في (1 كو 6: 11) "لكن اغتسلتم بل تقدستم" قبل القول
"بل تبررتم"، إذ لو كان الأمر متعلقاً بالقداسة العملية لانعكس الوضع.
فتقديس الروح الذي يتكلم عنه الرسولان الرئيسيان (بطرس وبولس) معناه الانفصال لله،
ذلك الانفصال الذي يتم حينما نولد من الله. (وهي طريقة يوحنا في الكلام) وسابق
لتخصيص رش دم المسيح وممهد الطريق لطاعتنا لله كما أطاع المسيح.

 

في
عهد الناموس كانت الحياة تقدم للإسرائيلي تحت شرط الطاعة. ومع ذلك فلم تكن ملكاً
له بل كانت الحياة المضاعة التي فقد حقه فيها وكان لا بد لها من الوقوع تحت سلطان
الموت كالحياة الآدمية الأولى. على أنه لا يقال أنها كانت تحت سلطان الفناء، لأنه
لا فناء للإنسان على الإطلاق ولن تستطيع كل قوة الشيطان أن تبيد أضعف كائن بشري.
لاشك أن هناك أشياء مخلوقة لم يكن قصد الله الأصلي أنها تحيا ثانية. أما الإنسان
فليس كذلك وما موته إلا مجرد انفصال بين النفس والجسد. الإنسان المذنب يجب أن يموت
ويدان، وأليس هو حقاً وعدلاً أن يحتمل وزر إثمه ضد الله والإنسان؟ أما الإنسان
المؤمن فيعلم من الله أن الحياة الأبدية التي له هنا في الابن هي نفس الحياة التي
تكون له عندما يتغير أو يقام من الأموات، فهي الحياة التي أهلته للشركة مع الآب
والابن وهو هنا في هذا العالم، وهي التي ستؤهله للتمتع بالآب والابن طوال الأبدية.

 

ثم أن
روح الله هو القوة الإلهية والأقنوم الإلهي العامل للخير في هذه الحياة ضد كل ما
يقاومها.وبهذا يمجد المسيح الذي وهبها لنا بالنعمة. ذلك لأننا نحتاج دائماً للرب
يسوع كغرض وقوة نفوسنا كما احتجنا إليه كواهب الحياة، وكما سنحتاج إليه إلى الأبد
للخدمة والتعبد والتمتع. ولكنه الآن يحيا في السماء لأجلنا فلا نستطيع القول أن يعوزنا
كما لو كنا لم نمتلكه. لقد امتلكناه فعلاً وصار يلذ لنا الابتهاج به كمن بذل نفسه
لأجلنا، وسرورنا الآن – قبل كل شيء – أن نعمل رضاه. وكما نحب أن نتمم مشيئة الله
على الأرض هكذا سيكون الحال في الأعالي عندما تزول إلى الأبد جميع المؤثرات
المضادة.

 

ولكننا
نبدأ من الآن بما هو أبدي حتى ونحن بعد في عالم الزمان. وأليس هو أمراً مباركاً
لنفوسنا أننا نتطلع إلى الأبدية ليس كمجرد مستقبل، بل نتعلم من الله كل من له حياة
أبدية قد دخل فعلاً من الآن فيما سيستمر إلى الأبد؟ فنحن لا ننظر إلى الأمور التي
ترى وهي وقتية بل من امتيازنا أننا ننظر إلى الأمور التي لا ترى وأبدية. والإيمان
يعلم أن الأمور التي لا ترى حقيقية وغير متغيرة أكثر جداً من كل ما نراه بعيوننا.
وواضح أن حلقة اتصالنا بما أبدي هو أن ذاك الذي هو نفسه لحياة الأبدية حياتنا.
وكيف تعرف هذه الحياة؟ عند هذه النقطة يحاول الشيطان أن يلقي بما لا يسوغ لمؤمن أن
يسمح به قط – وهو الشك، ولكن نحن الذين نؤمن بإعلان الله يجب علينا أن نعتبر الشك
خطية. لأنه قيم هذا الشك؟ طبعاً ليس في حقيقة ذواتنا، لأننا قبل أن نسمع صوت ابن
الله هل كنا إلا خطاة هالكين؟ ثم هو ليس شكاً في محبة الله لأن عندنا البرهان
عليها وهو دم المسيح المعطى لنا بل والمصلوب لأجلنا – المسيح المعطى لنا ليس فقط
في كل قيمة دمه لمحو خطايانا بل كالمقام من الأموات وكمن هو الآن في المجد حيث لا
يستحق بنا بل يدعونا إخوة. فبالنعمة لنا المسيح الآن وإلى الأبد. هكذا على الأقل
هو يؤكد لنا (يو 10: 28).

 

إن
الحياة الأبدية – نظير الفداء الأبدي – هي هبة الله العجيبة في المسيح، وهي ككل
هبات الله تبقى إلى الأبد غير متغيرة أو منقوصة. والمسيح قد اجتاز الموت لكي يطبع
تلك الحياة بطابع الحياة المقامة وليس فقط الحياة الأبدية. وإذا أقمنا معه نعلم أن
خطايانا جميعها قد غفرت (كو 2: 13) والقيامة معه معناها أن ذاك الذي مات هو الآن
حي وإلى الأبد وأن لنا الحق منذ الآن أن نقف موقفه، عالمين أن النعمة قد جعلت ذلك
المقام نصيبنا الحاضر. أما إذا كان إبليس يتحدانا ويناوشنا فإننا نتيح له الفرصة
بإهمالنا وعدم سهرنا وإغفال الصلاة والتغذي بالكلمة كطعامنا اليومي. إن الناس
يحسون بالحاجة للطعام الجسدي، ولكن أليس للنفس مثل هذه الحاجة بل أكر منها، إن لم
نقل شيئاً عن أهميتها التي لا تقارن؟

 

ما هو
إذن خبز الحياة؟ هو المسيح معلناً بالكلمة. أو بعبارة أخرى هو الكلمة جاعلة المسيح
طعامنا في الروح. فلا شيء سوى المسيح يغذي النفس. ومع ذلك فعندما تستسلم النفس
للتجربة وتسقط في الخطية هناك تكون فرصة العدو. فهو يستخدم السقطة لكي يقود المؤمن
إلى مزالق الشك في كلمة الله تحت ستار الشك في نفسه كما يحصل عادة. ولكن هي أن
الشك هو في الله تحت ستار الشك في نفسه كما يحصل عادة. ولكن الحقيقة هي أن الشك هو
في الله وفي نعمته في المسيح ويا لها من شكوك مخجلة، مع وقوف المسيح مصلوب بوضوح
أمام عيوننا! فها هو هناك، مقدماً في كلمة الله لإيماننا كالمصلوب، لكي يهدم كل شك
هدماً كاملاً. ألم يمت من أجل الفجار والأعداء الضعفاء (رو 5: 6 – 10)؟ حقاً أننا
لو لم نكن أردياء بهذه الصورة لما كانت بنا حاجة إلى مخلص إلهي نظيره. وفضلاً عن
ذلك فإننا نعلم خيانة الجسد في المؤمن. وهذا ما يزعج الكثيرين من القديسين ليس ما
عمله في أيام ظلامه وموته بل ما يلمسه في اختباره من فشل في طريق النعمة والحق، من
فورات الإرادة الذاتية أو غباوة أو عجب أو كبرياء أو روح عالمية، إلى غير ذلك مما
يحزن الروح القدس بعد كل الرحمة التي أظهرها له الله وكم هو محزن حقاً بعد اختبار
كل هذا الفيض من النعمة، أن يكون المؤمن في وقت من الأوقات حاداً أو فظاً، مهملاً أو
متهاوناً. ومن هنا نرى فشل المؤمن يخلق في نفسه كثيراً من الصعوبات حول نفسه أمام
الله، وليس ذلك فقط بل إذا ما انزلق المؤمن في خطية وافتضح أمرها للناس فإنهم
بدورهم يرتابون في حقيقة حاله.

 

لذلك
نرى يوحنا وقد وضع أساس الرسالة التعليمي في الإصحاح الأول والعددين الملحقين به
من الصحاح الثاني، يبدأ في مناقشة هذا السؤال: كيف أتأكد من وجود الحياة وما هي
وسائل امتحانها؟ إن الفلاسفة يتحدثون كثيراً الطبيعية مع أنهم لا يعرفون عنها إلا
القليل، فلماذا يدهشنا أن يثير الشيطان الشكوك حول الحياة الروحية وبخاصة عندما
تنزلق أقدام المؤمن ويتدنس ضميره؟

 

فمن
العدد الثالث يزودنا الوحي بأكثر من محك واحد. يزودنا بمقاييس فاحصة ليوضح لنفوسنا
وللآخرين أيضاً كيف تعلن الحياة عن وجودها أو عدم وجودها. فقد حدثنا يوحنا أولاً
عن غرض الإيمان في المسيح أي الحياة الأبدية، ثم عن عمل طبيعة الله الذي لابد منه
في الذين هم له، أي النور. وبعد العبارة التكميلية الوجيزة الخاصة بمعدات النعمة
لرد نفس المؤمن الساقط يصل بنا إلى محك الحياة الحقيقية وبراهينها. والأعداد 3 – 6
تعطينا المحك الأول. فما هو هذا المحك الأولي لأي نفس؟ هو ذلك الذي يميز تمييزاً
واضحاً وفي الحال، أي من بدء الطريق، ما إذا كان الإنسان له حياة أم ليس له – وهو
الطاعة. "وبهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه". أي أنها نتيجة
مستمرة أننا عرفناه إن كنا نحفظ وصاياه. وهذه هي الطاعة ولا شيء غيرها. وهي ليست
الصورة الوحيدة التي تدل على روح الحياة ولكنها بصفة عامة الصورة الأولى التي تبدأ
في الحياة بلا تأخير أو إبطاء. وهي امتحان يناسب أصغر قديس لأن اختبار الطاعة هو
امتحان دعواه بالحصول على الحياة. وهذا هو بالتحقيق ما تقود إليه الحياة الجديدة
وهو أول وجه من أوجه نشاطها. لاحظ هذا في ذلك الإنسان الذي كان مزمعاً أن يصير
رسول الأمم العظيم. فما إن وصل صوت الرب نفسه، وتحقق أن ذاك الذي مات فوق الصليب
هو الله الحقيقي ظاهراً في الجسد، حتى دوت من أعماق نفسه تلك الصرخة المأثورة
"يا رب ماذا تريد أن أفعل" فهو يحكم على خطأه ويريد أن يطيع. وهذه هي
أول غريزة من غرائز الحياة الروحية. فإذا قد تجدد قلبه أصبح همه أن يطيع ذاك الذي
يدعوه بلا تردد رباً. وهكذا إذا تابعنا البحث في كلمة الله نرى أهمية الطاعة
وخطورتها العظمى وكيف أنها شاملة لكي شيء.خذ مثلاً مسألة خضوع النفس لبر الله. ذلك
ما يسمى في رسالة رومية "إطاعة الإيمان" ويقصد به ليس الطاعة العملية
التي ينتجها الإيمان في السلوك بل العمل الأولي في تصديق كلمة الله. هذه هي
بالحقيقة طاعة القلب. طاعة الإنسان للحق وقبول النفس لشهادة الله عن ابنه.
فالإنسان الذي كان إلى الآن أثيماً وبعيداً عن الله يعترف بإثمه كامل الاعتراف
وينحي أمام كلمة الله ويتقبل الحق الخاص بالمسيح وبعمله فيتبرر. من ذلك يكرز
بالإنجيل لجميع الشعوب ليس لكي يطيعوا الناموس كما كان الحال مع إسرائيل بل لإطاعة
الإيمان. ونرجو الانتباه مرة أخرى إلى حقيقة المعنى المقصود بهذه الكلمة. ليست
الطاعة التي يثمرها الإيمان. بل الخضوع للإنجيل بالإيمان. وهذا المعنى نراه يتردد
في صيغ مختلفة في الكتاب المقدس.

 

ولكن
هناك علامات وأدلة أخرى لها أهميتها. ونفعل حسناً إن نحن نظرنا إليها منذ فجر
التاريخ الإنساني. فماذا نرى هناك؟ نرى آدم الأول، أبا الجنس البشري ويا للأسف!
فإن تاريخ الإنسان الأدبي يبدأ بالعصيان وعدم الطاعة. فالوصية في عدن لم تكن إلا
امتحاناً بسيطاً للطاعة مقترناً بعقوبة الموت. لم يكن الأكل من شجرة معرفة الخير
والشر في ذاته ذنباً أدبياً أو إجراماً كالسرقة أو القتل أو الطمع أو غير ذلك مما
يعتبر نقضاً للوصايا العشر. فهذه النواهي كلها تفترض وجود استعداداً فطري لفعل
الشر. لكن الأمر لم يكن هكذا مع آدم حيث كان إلى ذلك الوقت في حالة البراءة
والاستقامة. وكل ما هناك أن الله نهاه عن الأكل من ثمرة تلك الشجرة. ولا علاقة
مطلقاً بين هذا النهي وبين نوع الثمر، كما أنه لا يتضمن بحال من الأحوال أنذلك الثمر
كان سماً. هكذا كان يجب الإنسان أن ينظر إلى المسألة، فكل همه يدور حول مدى
تأثيرها على نفسه. ولكن القصد من الوصية كان تثبيت سلطان الرب الإله، ولا شيء غير
ذلك. كان القصد امتحان طاعة الإنسان وثقته في كلمة الله وصلاحه. وبالاختصار كان
القصد امتحان خضوعه المطلق كخليقة الله، لأنه إلى ذلك الوقت لم يكن ممكناً أن آدم
يدعى بالنعمة ابناً مولوداً منه. لقد كان ابناً لله بالمعنى الذي كان الأثينيون
بعد ذلك. أي ذرية الله. أعني أنه لم يكن مجرد حيوان طبيعي بلا عقل، فقد حصل من أول
الأمر على نفس خالدة من نسمة خالدة من نسمة القدير. فمن هذا الوجه كان آدم ذرية
الله، لكنه لم يكن حتى ذلك الوقت ابناً لله مولوداً منه بالنعمة بالإيمان. فمثل
هذه الولادة ليست إلا ثمرة نعمته في المسيح ولا يمكن أن ترجع إلى أي شيء آخر. بهذه
الطريقة وحدها ينال الإنسان الحياة في ابنه – الأمر الذي لم يكن لآدم شيء منه
بينما كان وهو في جنة عدن مجرد إنسان في حالة البراءة.

 

 غير
أن الواقعة الصريحة التي بدرت منه بسرعة ودمغت خرابه وسقوطه هي العصيان. لقد عصى
المسكين حتى الموت، بالمباينة على خط مستقيم مع نقيضه الأعظم الإنسان الثاني، آدم
الأخير، الذي أطاع حتى الموت. ومع ذلك فالابن في كيانه الأزلي، وفي مقامه الذاتي
السرمدي، وفي جلاله الشخصي الملازم له، هو أقنوم إلهي، وبصفته هذه لم يكن له شأن
بالطاعة. ولهذا السبب عينه قيل عنه في (عب 5: 8) أنه تعلم الطاعة مما تألم به.
أعني أنه له المجد لم يكن يعرف الطاعة حتى جاء وصار إنساناً. كان يعرف جيداً معنى
الطاعة وكيف تكون في حالة الآخرين، في حالة كل مخلوق، أما هو فلم يكن مخلوقاً بل
الخالق. غير أنه إذ صار إنساناً ارتضى بكل إخلاص وولاء أن يقوم بواجبات الإنسان.
ومن أول واجبات الإنسان الطاعة لله.

 

وتبارك
اسم سيدنا فقد أظهر طاعة لا مثيل لها ومجد أباه في كل فكر من أفكار قلبه وفي كل
كلمة من كلمات فمه وفي كل خطوة من خطوات طريقه. وقد أخضع يوحنا المعمدان لطلبته
بقوله المأثور "يليق بنا أن نكمل كل بر" وواجه تجارب الشيطان بشيء واحد
هو الطاعة. وهذا في الواقع هو الفرق العظيم بين الرب يسوع كإنسان وبين كل إنسان
آخر. فما من إنسان أطاع على طول الخط نظيره. والطاعة هي مميز أسمى بكثير من عمل
المعجزات. وكثيرون سيقولون للرب في ذلك اليوم "يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا
وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط.
اذهبوا عنى يا فاعلي الإثم" (مت 7: 21 – 23) فصنع المعجزات وحده ليس بحال من
الأحوال علامة ضرورية على السمو الأدبي. إنها كآية أو علامة كانت بصفة عامة تتبع
عبيد الله الأمناء الذين افتتحوا تدبيراً معيناً طبقاً لمشيئة الله المعلنة أو
الذين برروا هذه المشيئة كلما طغت أمواج الارتداد. ولكن الله – لحكمة سامية في
نفسه – قد أرانا أشر الناس صانعين معجزات عظيمة، وفي مقدمتهم خائن الرب يسوع نفسه
كما سبقت الإشارة، وسيأتي الكلام بعد قليل عن شخصية أخرى كان لها شأنها الخاص من
هذا النوع ولكن الأول من هؤلاء وهو الذي يدعوه سيدنا "ابن الهلاك" قد
أظهر بما لا يحتاج إلى دليل أنه لم يكن يحمل للمسيح أقل تقدير. لقد نال قوة وأخذ
سلطاناً، ولكنه مجرداً من الطاعة ومن الإيمان الذي يقود إليها.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ش شـعيرة شعائر ر

 

ومن
الطبيعي وقد ذكرنا ابن الهلاك الأول أن تنتقل أفكارنا إلى ابن الهلاك الأخير، أي
ضد المسيح. وما الذي يؤهله لأن يكون أداة طيعة ومطيعة ذلولاً للشيطان إلى أقصى
درجة؟ إن الطريقة التي أظهر بها يهوذا تمرده وخيانته في تسليم ابن الله المحبوب لا
تعدلها طريقة أخرى في إهانة الله. وهكذا سيكون ضد المسيح سبباً في خراب اليهود
والأمم بدرجة لم يسبقه فيها أي إنسان عاش على الأرض.

 

لكننا
نسأل ما العلامة التي ستميز ضد المسيح قبل أن يتاح للشيطان لأن يعمل فيه بتلك
القوة الهائلة زمناً يسيراً؟ ما الذي سيؤهله لهذا الدور الخطير الشنيع؟ لا شيء
كإرادته (دا 11: 36) أي أنه لا يتمم إرادة الله بل إرادة الشيطان. هذا هو
"إنسان الخطية" وهو "الأثيم" (2 تس 2: 3 و 8) إنك حينما تفعل
إرادتك الذاتية تكون بكل أسف عبداً للشيطان، أما هذا المخلوق الغريب فسيكون في هذا
الميدان.

 

ومن
هنا نرى المكانة الخطيرة التي تحتلها الطاعة من الأول إلى الآخر. فمنذ فجر التاريخ
نرى الإنسان الأول يتنكب طريقها وإذا بالخراب الشامل يحل بالعالم على الأثر.
وعندما جاء الإنسان الثاني، الرب يسوع الذي هو من السماء كان هو الإنسان المطيع
الكامل الذي جاء للإنسان ليس بالبركة المجانية الكاملة فقط بل و أيضاً بالكفارة
والسلام بدم صليبه إذ هو يمحو خطايا الخطاة محواً تاماً متى آمنوا. وقد نزل الروح
القدس من السماء كالشاهد لشخصه العزيز ولعمله المبارك للفداء الأبدي ومصالحة
الخليقة في مجيئه الثاني. ومن هنا كانت الطاعة شوق النفس وتصميمها وسرورها بمجرد
أن تعرف الرب يسوع وتعترف به. فالقلب المتكبر المتهاون المظلم يقع تحت تأثير كلمة
الله وروحه القدوس الذي يملأه بالرعب من شره ويقدم له المسيح في ملء صلاح الله
الذي بذل المسيح لأجل نفسه فينحني أمام سيده ومخلصه مشتاقاً لأن يطيع من تلك
اللحظة فصاعداً. وكما أن للطاعة أهميتها الكبرى منذ لحظة بدء الحياة في النفس كذلك
هي بالغة الأهمية في كل طرق الله العلنية حتى فيما يتعلق بضد المسيح في نهاية
الدهر الحاضر كما رأينا.

 

ومن
هنا يتضح ما لمبدأ الطاعة من أفق بعيد وأهمية بالغة لمجد الله وخير الإنسان، بل ما
هو أبعد كثيراً من دائرة الإنسان. فقد علمنا أن الملائكة الذين سقطوا كانوا قبل
سقوطهم كائنات سماوية، وأنه بسبب عصيانهم وكبريائهم تركوا رياستهم أي المكان الذي
عينه لهم الله واتخذوا لأنفسهم مركزاً آخر لم يكن من قرعتهم بحسب ترتيب الله.
فالطاعة لله إذن هي دائماً وفي كل زمان ومكان طريق البركة الحقيقية.

 

فلا
يدهشنا (والأمر كما قدمنا) أن نرى روح الله يبادر على الفور بإدخال الطاعة في
رسالتنا وفي هذا القسم منها. فإذا ارتاب واحد في نسيته لله، أو ارتاب الآخرون فيه،
فها هو روح الله يقدم الطاعة باعتبارها المحك الأول العظيم. فهل عندنا روح الطاعة؟
لما كنا في أيام ظلمتنا كنا ندعى بحق "أبناء المعصية" (أف 2) ولكن عندما
جاءت نقطة التحول، نقطة تجديدنا ورجوعنا إلى الله، أصبحنا ندعى "أولاد
الطاعة" (1 بط 1: 14) فالطاعة من الأول هي ميل وديدن القلب المطهر بالإيمان.
ومن تلك اللحظة فصاعداً يصبح حنين الإنسان الباطن أن يطيع الله، ربما قبل أن تستقر
النفس بيقين السلام الكامل الراسخ بزمن طويل، ولو أن هذا الاستقرار قد يتم في وقت
قصير نسبياً. ولكن هناك على أي حال كراهة للخطية وحكم على الذات ونعمة المسيح التي
تجعل الإنسان ليس فقط مشتاقاً للطاعة بل مؤهلاً لها لأنه ما من شخص يتجدد بدون
شعاع ولو ضئيل من النعمة. فالرعب لا يجدد أحداً ولو أنه قد يوقف الإنسان ويره
الطريق. وما من رعب استطاع أن يجدد أحداً ولو أنه قد يهديه لسماع صوت الإنجيل. فلا
بد لنا من شيء آخر يربحنا لله أكثر من الرعب والخوف. وهذا الشيء هو النعمة. قد لا
تعرف النفس عن المسيح حينئذ سوى القليل. ولكن هذا القليل لابد منه لكي ينال
بالإيمان النور الإلهي والحياة الأبدية. وهذه الحياة تعمل بالطاعة، وتبرهن على
وجودها بعزم الإنسان الباطن على إطاعة الله باعتبارها ناموس الحرية وليس ناموس
العبودية، فإن حياة المسيح فينا (كما هي فيه بصورة كاملة) تسر أن تفعل مشيئته دون
سواها.

 

ومن
هنا الاختلاف العجيب، بحسب الظاهر، بين هذا الجزء من الرسالة وما سبقه. ولكن
التشديد على الطاعة هنا هو في محله المناسب. لقد رأينا في القسم السابق مصدر
البركة الإلهي وهو معرفة الآب بواسطة الابن والشركة التي لنا مع الآب والابن على
أساس هذه المعرفة. ورأينا أيضاً الخبر الذي لنا منه عن طبيعة الله في ملء قداستها
بالاقتران بطبيعة الحال مع الأمر الأول وهو نعمته المطلقة. فإذا كنا ننال البركة
(بركة الشركة) فلا يسعنا إلا الترحيب بمسؤولية الوجود في نور الله والسلوك فيه.
وكيف يتم ذلك فينا؟ يتم على أساس أن الحياة الأبدية التي هي المسيح هي نفس الحياة
التي لنا. وبرهان النور والحياة هو الطاعة. وكما لمعت الطاعة طوال حياة المسيح على
الأرض، كذلك هي جوهرية في القديس وتشغل المكان الأول في تاريخه الروحي باعتبارها
المحك الحياة هنا على الأرض – "بهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا
وصاياه".

 

والطاعة
المشار إليها ليست هي الغيرة في التبشير – كما نرى كثيراً في هذه الأيام. فسرعان
ما يتجدد الإنسان حتى يظهر رغبته أحياناً في أن يصير مبشراً، وقد يكون ولداً
صغيراً بعد كما هو الحادث الآن بين الطوائف في أماكن كثيرة. كلا، ولا هي تنمية ما
يسمونه (موهبة الصلاة) وخاصة في الأماكن العامة حيث يتطلب الوقف أن يتلو المصلي
على مسمع الحاضرين قائمة متقنة من الأعواز المطلوب تسديدها والأخطاء المراد
تصحيحها في كافة أنحاء العالم. على أنه مهما تكن هذه الأمور فإن طريق الله المعلنة
تختلف عن ذلك كل الاختلاف. خذ مثلاً مسألة التبشير: إنها شرك المغرور، وكثيرون هم
الذين يطمعون فها مع خلوها من القوة اللازمة لها. أما حيث توجد الموهبة فالكرازة
خدمة عزيزة وعمل مبارك من أعمال الإيمان والمحبة. فقط ليكن هناك أساس صحيح ولتكن
هناك محبة صادقة للنفوس وليس مجرد الرغبة في الكرازة، بعد أن يكون الله قد عمل في
القلب لنعرف حقيقة ما نحن، فوق الكل، لنعرف ما هو الله في المسيح من نحو الهالكين.

 

هنا
إذاً يبدأ الرسول بالطاعة. وهل هناك ما هو جدير بالله وجميل بنا أكثر من الطاعة؟
إنها شيء شخصي، تنطبق على كل شيء، وفي جميع الأحوال. إنها تتطلب الاتضاع وتصونه
وتولد الثبات والاستقرار. تتطلب الاعتماد على الله وتحمي القديس م ذاته ومن تأثير
الآخرين غير اللائق. فلا بد للنفس من تعامل شخصي مع الله للحصول على القوة
الحقيقية وتجنب الغرور وهنا نرى الطاعة تتجلى أولاً في صورة "حفظ
وصاياه" وهذا يأتي بنا إلى خاصية بارزة من خواص الرسالة التي أمامنا، وهي أنك
في أكثر مواضعها لا يمكن أن تحدد بالضبط من هو المقصود بالضمير "هو"
ومشتقاته – هل هو الله أم المسيح، فإن الرسول ينتقل بينهما بلا أدنى تغيير في صيغة
الكلام والسبب لأن كلاً من الاتجاهين صحيح فإن المسيح وإن كان قد صار إنساناً فذلك
لم يوقف كونه الله، فإذا قلنا "وصايا الله" فإننا نقصد أيضاً وصايا
المسيح. ولطالما رأينا الرسول يوحنا يبدأ بالكلام عن المسيح بصفة واضحة ثم ينتقل
متكلماً عن الله بنفس الوضوح. فالمسيح هو الله، وكلمة الله، أي الذي يعبر شخصياً
عن فكر الله قولاَ وعملاً. وكما عمل الروح القدس في المسيح هكذا يعمل في المؤمن فيجعل
الطاعة فيه شيئاً فعلياً واقعياً بحيث لا يصبح منقاداً بفكره الخاص ولا يفعل
مشيئته الخاصة بل منقاداً بالله. وهذا عمل من أعمال الروح القدس المجيدة.

 

فنحن
من هنا نبدأ تعليمنا، تماماً كالأطفال الطبيعيين في بكور تاريخهم. قد يفهمون
القليل في بادئ الأمر ولكنه من الضروري والمهم للغاية أن يتعلموا الطاعة لكي يصلوا
إلى الفهم الكامل ولكي يتعلموا الطاعة يجب أن يدربوا عليها بأسلوب واضح يتفق مع
عقولهم المتفتحة، فلا نتوقع من طفل مثلاً أن يدرك بسهولة الحقائق المعنوية
المجردة، كما لا نتوقع أن يكون للقدوة تأثيرها على الطفل في كل الأحوال. فقد يكون
من السهل أن يقال له "هذا لائق ببابا أو ماما، أو بهذا الرجل أو تلك
السيدة" ولكن المهم هو مدى ارتباط مدى الكلام بدائرة نفسه الصغيرة.

 

فأول
صورة من صور الطاعة هي بكل بساطة ودقة – الخضوع لوصاياه. وليس المقصود بوصايا
الناموس العشر فإن يوحنا لا يشير إلى هذا مطلقاً في كلامه عن الوصايا هنا، فإن
الأمر كله مرتبط بالمسيح وبشخصه الكريم ونستطيع أن نقول باختصار أن الفارق بين
اختبار الناموس وامتحان هذه الوصايا هو أن الناموس كان برهان على حقيقة ما هو
الإنسان بينما الإنجيل هو إعلان ما هو الله في المسيح. ولذلك فقد وضع الإنسان تحت
الناموس ليثبت هل يستطيع هل يتخلى عن إرادته الذاتية ينفذ مطاليب الله لنوال
الحياة، فكانت الحياة معروضة للذين تحت الناموس إن هم أطاعوا الناموس. وهذا يختلف
كل الاختلاف عما يمنح الله الآن للمؤمنين. فالمفروض أن الإيمان قد امتلك الحياة
فعلاً، تماماً كما كانت الحياة في المسيح قبل مجيئه إلى العالم. فهو كان الحياة
الأبدية عن الآب ولما اتخذ الناسوت كان لا يزال الحياة الأبدية وقد أظهر هنا ليس
فقط كأقنوم إلهي جاء ليظهر المحبة كإله الحق وابن الله، بل كالحياة الأبدية ليعطي
حية للذين لم يكن لهم سوى الموت والخطية التي جلبت الموت. فمن الواضح أن الوصايا
المشار إليها هنا هي لتوجيه الحياة الجديدة الممنوحة فعلاً عوض أن تكون مجرد دستور
أدبي يجب أن يطاع لنوال الحياة. وبعبارة أخرى هي ممارسة الحياة التي وهبتها النعمة
للمؤمن في المسيح. على أن الصورة الأولى للطاعة هي "إن حفظنا وصاياه".

 

إن
الله في نعمته يضع الأمور في صيغة الأمر والسلطان لكي يشعر الطفل، وليد النعمة
الشبيه بالطفل، بخطورة الطاعة وأهميتها والحاجة إليها لذلك نراه تبارك اسمه يصوغ
وصاياه في حالات كثيرة في قالب الأمر، وبكل وضوح وسلطان. وأليس هذا حسناً وصواباً؟
وهل يتصور عاقل أن الله يمكن أن يتكلم بغير أسلوب السلطان المطلق، أو أن سلطانه
غير مرتبط بكل ما يفرضه على الإنسان؟ هذا ولا يخطرن ببالك أن وصية الله هي دائماً
شيء يجب على الإنسان أن يعمله. ألم يعمل هو شيئاً للإنسان لكي يؤمن به؟ في (1 يو
3: 23) نجد الإيمان باسم ابنه وصية من وصاياه. تماماً كوصيته بأن نحب بعضنا بعض،
أي أن الله يوصي جميع الناس أن يؤمنوا بالإنجيل كما يوصي القديسين أن يحبوا بعضهم
بعضاً. إذاً فهو يوصي لكي يرينا أن سلطانه مرتبط بالأمر، ليس فقط محبته بل حقه في
أن يأمر ويوصي. ومن الواضح بأن الطاعة مفروضة على الإنسان بحسب الله.

 

خذ
مثلاً آخر. في (أع 17: 30) يقول الرسول بولس للأثينيين أن الله يأمر جميع الناس أن
يتوبوا، وهو ما يقابل بالإيمان باسم ابنه يسوع المسيح. فالأمر الآن لا يتعلق بنجاة
نينوى من الدمار بل بإنقاذ الخطاة من جهنم. طبعاً لا يونان ولا رجال نينوى كانوا
يفكرون يومئذ في الخلاص من الدينونة الأبدية، ولا في نوال الحياة الأبدية للتمتع
بالشركة مع الآب والابن كما في الوقت الحاضر ثم الوجود مع المسيح إلى الأبد في
الأعالي. أما نحن فلنا وصيته الآن لهذه الغاية الصريحة، ومع وجود النفس في حالة
صحيحة يجب أن يكون لهذه الوصية أعظم وزن وتقدير. فهي ترينا مبلغ اهتمام الله
بأمرنا. أو ليس خبراً طيباً لنفس متمرغة في التراب والرماد بسبب خطاياهم أن تعلم
أن الله مهتم بأن يقدم بركة مجانية كاملة مع خالص نعمته لشخص مسكين كهذا محتاج
للتوبة والإيمان؟ هذا والأمر مرتبط في الوقت نفسه بجلاله وعظمته، وهو لن يسلم عزه
ليرضي غرور الإنسان الفارغ المتكبر. حقاً إن الناس لابد وأن يكونوا عمياناً في
خطاياهم وعداوتهم لله كل أيام حياتهم وإن هم لاموا الله رغم كل هذا الاهتمام
العظيم من جانبه بأمر نفوسهم – الله الذي بذل ابنه الوحيد الحبيب لكي يخلص أشر
الخطاة.

 

عندما
نحب شخصاً يسرنا أن نفعل ما قد يضعه في صيغة أمر أو وصية. وحيث يوجد سلطان، فالأمر
أو الوصية هي الصيغة السائدة حتى بين الناس. فكم بالأحرى يجب أن يكون الأمر مع
الله الذي لا يمكن أن يكذب أو يخدع. الإله المملوء صلاحاً ورحمة وطول أناة. حتى
تجاه المتمردين والمتهاونين؟ هذا وحفظ وصاياه هنا إنما هو لبركة النفس الآن وإلى
الأبد. إن الخاطئ الذي أزمن في حياة الشر يحتاج في الواقع إلى كل ما هو حسن وصالح،
وهكذا يتغير مجرى الحياة كلها عندما يتوب الإنسان توبة حقيقية ويرجع إلى الله
مؤمناً بالرب يسوع المسيح، وهكذا في كامل النعمة يعلن الله مشيئته وفكره بغاية
الوضوح لكي يسير التائب في ضوء ما يعلنه على أن هذه العناية من جانب الله من شأنها
أن تجعل عناد الإنسان وعدم مبالاته بوصاياه أكثر جرماً وشراً وبخاصة إذا كان
الإنسان يحمل اسم الرب باطلاً.

 

أما
في العدد الخامس فيطالعنا الرسول بشيء أعمق إذ يقول "وأما من حفظ
كلمته". هذا شيء يختلف عن حفظ "وصاياه" ويتضمن طبيعة الطاعة ومداها
لأن يفترض تقدماً روحياً ونمواً في الإدراك وعزماً في الاختبار، فلا تصبح مجرد
"الوصية" الواضحة هي التي تتحكم في النفس بل "كلمته". وكلمته
قد لا تتخذ شكل الوصية المحددة لكنها بكل يقين تكشف عما هو مرضى قدامه وذو قيمة في
عينيه. وعندما تكون روح الطاعة قوية في القديس فإنه تكفيه إشارة بسيطة للأمانة في
السلوك وإرضاء الله ولو لم ينطق الرب بما يشبه الوصية الصريحة.

 

وأليس
عجباً ومؤلماً كيف أن روح القلب الناموسية تعمل في اتجاه عكسي؟ ففي النصرانية،
ولاسيما بين جماعة المعمدانيين، ينتشر الرأي بحسبان المعمودية وعشاء الرب وصيتين
صريحتين، مع أنهما في الواقع ليستا شيئاً من هذا القبيل. فأين نجد وصية للشخص أن
يتعمد أو يشترك في عشاء الرب؟ إن الوصية تقلل من قيمة الشيء وتجعلنا ننظر إليه من
وجهة نظر خاطئة. فالمعمودية المسيحية هي امتياز ممنوع للنفس بسلطان الرب يسوع.
لذلك نسمع الخصي الحبشي يقول من تلقاء نفسه "ماذا يمنع أن أعتمد". وبطرس
في حادثة كرنيليوس وأماكن أخرى يقول "أترى يستطيع أحد يمنع الماء؟" فلو
كانت المعمودية وصية أو أمراً لكان في القولين شيء من الغرابة إذ من ذا يفكر في
منع وصية الرب والوقوف في وجه تنفيذها؟ ولكن هنا يتخاصم الذين من أهل الختان بشدة.
ومع ذلك فتش الكتاب أيها القارئ كما تريد فلن تجد المعمودية في صورة وصية في أي
مكان. لاشك أن الشخص الذي تناول قضية المسيحي المعترف حديثاً قد يعمده أو يرشده
إلى من له أن يعمده. ولكن القوم لا يقصدون ذلك بل يعتبرون المعمودية وصية من الرب
يسوع للمعترف نفسه. ولكن الرب لا يضع المعمودية هذا الوضع. إنها امتياز يسره أن
يمنحه بحسب كلمته؟ ولهذا فهي ليست وصية بالمعنى الأدبي أو الناموسي. وهكذا الحال
مع عشاء الرب. يقول الرب "خذوا كلوا". فهل هذا يجعله وصية؟ هبني في
ساعات احتضاري وقد وقف أحد أحبائي إلى جانب سريري فقلت له: "خذ كتاب المقدس
هذا واحفظه". إنك لو اعتبرت هذا أمراً فاسمح لي أن أقول أن عقليتك وتفكيرك
ليس من النوع الرفيع. فما كان ذلك أمراً بل علامة محبة. وهنا كل الاختلاف. صحيح أن
له قوة الوصية وتأثيرها ولكنه أعظم منها بكثير ومختلف عنها. إنه مرتبط بعواطف
وذكريات شخص كان حبيباً إلى النفس وغالياً عليها في زمان طويل حتى في ساعة رحيله.
هكذا أعطيت من سرير المحتضر وهكذا قبلت بنفس الروح، وهكذا يجب أن يفهمها كل ذي فهم
وتمييز.

 

وإليك
مثلاً آخر قد يجعل المسألة أكثر وضوحاً. لنفترض عائلة صغيرة متواضعة تعتمد في
معاشها على أتعاب عائلها اليومية. ومن عادة الرجل أن يمضي إلى عمله مبكراً جداً.
ففي أحد الأيام وهو يتهيأ لمغادرة المنزل وإذ بالزوجة قد فاجأها مرض مباغت والزمها
الفراش. وهنا تقوم صعوبة. فها هي شريكة حياته التي تعودت أن تبكر القيام مسرورة
لتعد له طعام إفطاره وربما بعض ما يعوزه طوال يوم عمله، قد أصبحت مريضة بحيث لا
تحتمل سمع الكلام. فما العمل في هذا الظرف المفاجئ الطارئ؟ ها هي فتاة صغيرة من
أفراد الأسرة تدرك حقيقة الموقف لم يأمرها أبوها بعمل شيء ما لكنها تلمس الظرف. هي
ترى أن الظروف اليوم تختلف عنها بالأمس. وحيث أن الأم ربت الدار لا تقو على العمل
وإدارة الموقف فهي تتقدم لتفعل ذلك. بالأمس كانت تساعد أمها أما اليوم فهي تدير
الدفة بنفسها، وها هي تنهض مبكرة وتعد لأبيها طعام إفطاره وغذاءه في ساعات غيابه
عن الدار. ليس في هذا الحادث أي وصية أو أمر، ولكنه يساعد على توضيح المراد من
القول "كلمته". فكما أن لكمة الله تعبر عن إرادته ولو لم تحمل في طياتها
أمراً، كذلك هذه الابنة عرفت ما يلزم لتنفيذ إرادة أمها لو كانت قادرة على الكلام.
لقد رأت أباها في حالة ارتباك بسبب مرض زوجته بحيث لم يقدر أن يفعل شيئاً في أمر
تهيئة طعامه في الوقت الذي كان لابد له أن يذهب إلى عمله كالمعتاد. أدركت هذا كله
وبدون ضجيج قامت بالعمل التي كانت تعمله الأم. ذلك لم يكن حفظاً لوصية ولكنه يبين
المعنى المقصود من "حفظ كلمته".

 

هكذا
ينمو المؤمن في معرفة الله ويسر في عمل ما يرضيه. ليس فقط بإتمام ما هو في صورة
وصية أو أمر صريح بل في صنع مشيئته الصالحة حينما يعرفها هذا فيه كل الكفاية للقلب
المطيع والأمر في ذلك لا يحتاج إلى التماس الإرشاد للضمير من الخارج أو استشارة أي
شيء في الداخل. كلا، فأنا مطلوب مني أن أكون خاضعاً لله وذلك بحفظ كلمته. على أن
أفعل مشيئة الله، وهي معلنة الآن في كلمته المكتوبة، أي الكتب المقدسة التي أعطيت
لنا لإنذارنا كما لتعزيتنا وهكذا لاق بالرسول بولس في ساعة الوداع الأخيرة أن
يستودع القديسين لله ولكلمة نعمته فإذا كنا نريد أن يصنع جميع القديسين مشيئة الله
فلنبدأ نحن بكل تواضع في صنعها من جانبنا. وها هي مشيئته معلنة بكل وضوح في كلمته.
ولا ننسى أن أحسن طريقة لقراءة كلمته قراءة صحيحة هي أن نرى المسيح نفسه كغرض الله
في كل جزء من أجزائها ليس المقصود ما قاله المسيح فقط ولو أن ذلك مهم وعظيم. ولا
ما أوصى به ولو أن لذلك قيمته العظمى وخطورته البالغة، بل ما أظهره المسيح في كل
ساعة من ساعات حياته هنا على الأرض، فمرة نراه مع الله مبكراً قبل طلوع النهار،
فهل لا يوجد لي ولك صوت في هذا؟ ثم لاحظه حينما يكون أمامه في اليوم التالي أن
يعمل عملاً خطراً، كيف يقضي الليل كله في الصلاة مع الله. يقيناً أن في ذلك درساً
في نفوسنا. صحيح أنه لا يخطر ببالنا أننا نستطيع أن نفعل عين ما كان يفعله المسيح
أو أن ننفذ الأمور كما كان ينفذها تماماً ولكن من منا ينكر أنه كان في ذلك تاركاً
لنا مثالاً؟ والمثال ليس أمراً أو وصية ومع ذلك فالمقصود به على أي حال أن يترك
تأثيره القوي على اهتمام النفس وطاعتها.

 

ولذلك
"من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه" (عدد 4)
لأنه معنى هذا انعدام روح الطاعة في شخص كهذا. فهو ليس فقط لا يحظ كلمته بل إنه لا
يحفظ حتى وصاياه. إنه يهمل التزاماته ويطرح جانباً الوصايا الإلهية ليست التي في
العهد القديم فحسب بل التي في العهد الجديد وهي ما تعنيه بصفة خاصة لأن هذه
الوصايا الجديدة هي أول صورة معنية لاختبار اعترافه المسيحي وإذا لم يكن له ضمير
يحفزه على حفظ وصاياه، فلا داعي أن نسأل كيف يعامل المسيح أو العهد الجديد في
مجموعه.

 

وفي
العدد الخامس نأتي إلى نقطة أخرى – "وأما من حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكلمت
محبة الله" هنا اهتمام واضح بكل فكر الله والباعث عليه لأن كلمته محبوبة فنحن
هنا أمام قلب ذات يبرهن على طاعته لا بحفظ وصاياه فقط بل أيضاً بحفظ كلمته والكلمة
عنده ليست ذات سلطان وتأثير على النفس فقط بل غالية وعزيزة لذلك هو يفتش فيها
بسرور ويخرج منها بفائدة. وحيث يكون الأمر كذلك، فإن يوحنا لا يتردد في القول بأن
محبة الله قد تكلمت في شخص كهذا.

 

وهنا
أيضاً أجد الفرصة مناسبة لإبداء ملاحظة عامة عن أسلوب الرسول يوحنا الخاص ليس في
هذه الرسالة فقط بل في كل كتاباته. فهو ينظر إلى الأمور طبقاً للمبدأ الإلهي
المعلن دون أن يشغل نفسه بالعوائق والتقصيرات من جانب الإنسان. فتراه لا يتناول
السقطات التي قد تعترض طريقنا بسبب التهاون أو الإهمال، بل حينما يتكلم عن المسيحي
الحقيقي فإنه ينظر إليه كمن هو سالك في تنفيذ فكر الله ولذلك هو لا يشوه المبدأ
بإدخال شيء من التقصير هنا أو قليل من التهاون هناك، وإنما يرسم بوضوح ما يرضي
الله ويليق بأولاده. وهذا يتم حتى في حالة الأولاد (أحدث المؤمنين) بحفظ
"وصاياه" أما في حالة البالغين المحنكين فليس فقط بحفظ وصاياه بل بحفظ
"كلمته" بصفة عامة، وهي الكلمة التي تعبر عن مشيئته تعبيراً كاملاً وبكل
صورة.

 

من
أجل ذلك نقرأ عن سيدنا له المجد قوله المأثور "هأنذا أجيء لأفعل… "
ماذا…. ناموسك؟ كلا وصيتك؟ كلا. مع أنه بكل يقين حفظ ناموسه وتمم وصيته، بل أكثر
من ذلك إنه أكرم الناموس وبرره وعظم سلطانه ومداه كما لم يفعل إنسان قط. ولكنه جاء
ليفعل "مشيئة" الله. وهو لا يقول ذلك فقط بل "في درج الكتاب مكتوب
عني" ذلك الدرج الذي لم يعرفه سوى الآب والابن والروح القدس. مشورات الله
السرية وفكره السرمدي الذي تسجل بعد ذلك في سفر المزامير. وهذا الذي قيل مغاير
للناموس وطقوسه. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر، ومع ذلك فهو هناك مكتوب ومسجل.
وعندما جاء الابن كإنسان كان هذا ما جاء ليفعله – مشيئة الله. ومشيئة الله هذه
فاقت بكثير ما كان يعرفه الناس كالعشر كلمات أو العشر وصايا. كانت النعمة المطلقة
هي إعلانها. ولم يكن عمله مجرد صنيع مشيئة الله بل احتمال الآلام في تنفيذها، لأنه
أطاع حتى الموت موت الصليب، ومتى كان الناموس يطلب أو يتوقع مثل هذه التضحية من
البار؟ هل كان يخطر ببال الناموس شيء كهذا أن قدوس الله يموت من أجل الفجار؟ ولكن
مشيئة الله لم تكن شيئاً أقل من هذا، وهو له المجد قد عرفها قبل أن يكون زمان.

 

عبثاً
كان الكلام عن الذبائح والقرابين من دائرة الخليقة، فكأن الله كان يقول بلغة
الواقع "إن هذه كلها لن تنفع ولن تفيد". إن دم ثيران وتيوس لا يمكن أن
ترفع خطايا، أو تنجى من بحيرة النار أو تخلص الأثيم من دينونة الله. ولا يستطيع أي
طقس ما أن يجعل الإنسان الرديء إنساناً صالحا ً أو يأتي به إلى الله بلا عيب وأبيض
كالثلج. فماذا إذن؟ – "مكتوب عني". وهكذا صار حتى أنه نزع الأول أي
الناموس وثبت الثاني أي مشيئة الله. ومشيئة الله في النعمة المطلقة هنا هي خلاص
أشر الخطاة بواسطة موت الرب يسوع. أليس ذلك يدل على مبلغ القوة التي تنطوي تحت ما
أعطاه لنا الله في الكتب المقدسة؟ إن خلاصنا كان غرض الله ومشيئته قبل كل شيء. وقد
عرف الرب هذه المشيئة منذ الأزل ولما أتى ملء الزمان جاء ليتممها، وفي تتميمها
تألم إلى أقصى حد. إن أي عمل من أعمال القوة مهما كان عظيماً لم يكن كافياً لإتمام
هذه المشيئة. أكان مستعداً أن يجعله الله خطية وأن يحتمل ل النتائج لكي يمجد الله
حتى من جهة الخطية وذلك يجعله عملاً باراً من جانب الله أن يمنحنا الغفران الكامل،
بل أن يبررنا ويمجدنا؟ إذن فليتألم من أجل الخطايا تحت يد الله المقدسة الممتدة ضد
الخطية والموقعة عليها ما تستحقه من دينونة عادلة. ومع ذلك فقد احتمل الكل بخضوع
كامل مهما كانت الكلفة على نفسه البارة. هنا يتجلى البون الشاسع بين الناموس
والنعمة.

 

وكما
المسيح هكذا المسيحي من جهة هذا المبدأ مع الفارق العظيم وهو أنه الله الكائن على
الكل وأنه صنع الكفارة لأجلنا. فنحن أيضاً لنا قبل أن ندخل ميدان العمل، كما كان
لسيدنا الحياة في ذاته طوال الأزلية قبل أن يجيء إلى العالم. فشأننا إذن هو العمل
من فيض الحياة، وليس لأجل نوال الحياة، كما هو شأن الإنسان تحت الناموس. نعم، فإن
السلوك المسيحي هو ممارسة الحياة الجديدة الأمر المستحيل على من ليس له حياة،
والممكن فقط للشخص الذي له هذه الحياة بتثبيت عينه على الرب يسوع. وإلا فلا تكون
العين بسيطة إذ قد تنشغل بهذا الشخص أو ذاك الشيء حينما لا يكون السلوك بحسب النور
– "إن كانت عينك بسيطة فإن جسدك كله يكون نيراً". والمسيح وحده هو الذي
يجعل العين بسيطة.

 

ذلك
مشار إليه بكل وضوح هنا، ولكن يوحنا يضيف شيئاً آخر. "بهذا نعرف" ليس
فقط أننا قد عرفناه بل "إننا فيه" ذلك يفترض حصول النفس على امتياز عظيم
وبهذه الطريقة يشجع الله أولئك الذين هم بحق طائعون بالروح. فهم ليسوا فقط يعرفون
بل هم فيه. ويا له من أمر عجيب أن يتأكد القديس أنه في المسيح! هو غير المحدود،
ونحن المحدودون الضعفاء المساكين، مهما كنا مباركين بالنعمة. ولكن الحياة هنا
معلقة بالاعتماد على الله وابنه، وروح الله يقوي الشعور بهذا الاعتماد ويستخدم
الكلمة لتثبيتنا وتأييدنا في هذا الوضع. وماذا ترينا هذه الكلمات؟ فما أسعد إذن أن
نعرف ما هو الله لنا وما كان لأجلنا! ويا لها من تعزية وقوة تحملها لنا هذه
الكلمات في شعورنا بضعفنا!

 

وإذا
قارنا (يو 14: 20) نتعلم أن الوجود في المسيح هو جزء من تلك المجموعة الغنية من
الامتيازات المسيحية التي أكدها له المجد للتلاميذ ابتداء من اليوم الذي جاء فيه
الروح القدس ليكون فيهم ومعهم بعد صعوده إلى الآب، إذ قال "في ذلك اليوم
تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم". فهناك أولاً المركز العجيب
العادل، مركز الرب المقام في أبيه. أنه لا عجب أن يكون وه الابن الوحيد الحبيب في
ذلك المركز الذي هو حقه الجوهري في اللاهوت ولكنه يعلن الآن لهم لأول مرة أنه
مكانه الحق باعتباره الإنسان المقام كما كان حينئذ وسيظل كذلك إلى الأبد. هذا
مكانه عند الصعود ومكافأته العادلة بسبب رفض العالم إياه (يو 16: 10) ونحن
المؤمنين نعرف بالروح المرسل لنا من الآب باسم المسيح أنه في أبيه هناك، وهو مركز
يسمو بكثير عن مركزه كالمسيا عن عرش داود، أو حتى كابن الإنسان متسلطاً على جميع
ممالك الأرض في الملكوت العتيد. هذا هو مركزه وما كان ممكناً أن يكون له إلا
باعتباره أقنوماً إلهياً وواحداً مع الآب مع كونه الإنسان المقام بعد إتمام
الفداء، وهذا ما يعطي المسيحية سموها وعظمتها الفريدة.

 

ولكن
كان يجب أن يعرفوا بعد ذلك أنهم فيه، ليس فقط أنهم بفضل موته وقيامته صاروا جزءاً
من الثمر الكثير الناتج من حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت، بل أنهم لهم فوق
ذلك مركزاً وثيقاً سماوياً في شخصه المحبوب بقدر ما كان ذلك ممكناً للمخلوق، ليس
فقط الحياة المقامة بل مركز القرب المضمون فيه هناك وهو المركز الذي نعرف أنه
نصيبنا الآن ونحن على الأرض. كذلك كان عليهم أن يعرفوا أن المسيح فيهم، وهو حق
تتميز به رسالة كولوسي (1: 27)كما تتميز رسالة أفسس بكونهم في المسيح (1: 3، 2، 6
و 10 الخ) مع الفارق أن رسولنا يتناوله كحق من ناحية الفرد بينما بولس يتناول في
ناحية وحدانية جسد المسيح أي الكنيسة وهو نصيب كل مسيحي بالحق، وعدم معرفته هو عار
عدم الإيمان في النصرانية الاسمية. ومن أسف أن عدم الإيمان هذا قد شوه أذهان
الكثيرين من المؤمنين في الوقت الحاضر بل منذ انتقال الرسول الذي يوضح هنا أن
إدراك هذا الحق وتحقيقه توقف على حفظ كلمة الله وتكميل محبة الله في النفس. على أن
هذا ليس شيئاً أكثر مما يليق بكل مسيحي، وانعدامه يحزن روح الله القدوس الذي به
ختمنا ليوم الفداء، أي فداء الجسد. أما قلة الإيمان أو الأمانة فتضع غشاوة على
بصرنا الروحي فلا تر بالأسف أحسن امتيازاتنا وأفخرها.

 

"من
قال أنه ثابت فيه" ا شيء آخر قد يكون مجرد تفاخر، وتفاخر أجوف فارغ فيقابله
الرسول بطريقة تختلف عما اتبعه مع المتهاون لمزدري بسلطان الله فهذا قد حكم عليه
بأنه كاذب وليس الحق فيه، وبمنى آخر قد دمغه بطابع من لم يأخذ شيئاً حقيقياً من
الله، أما في حالة الاعتراف بالثبات فيه، فما أهدأ الاستنتاج وأقواه. أتقول أنك
ثابت فيه؟ إذن ينبغي أن تسلك كما سلك هو أيضاً. هنا لا يوجد ادعاء بالخلو من
الخطية. ولكن إن قلنا أننا ثابتون في المسيح، فلنعلم أن تأثير الثبوت في المسيح
لابد وأن يظهر على الفور وبقوة في السلوك. فالسلوك هو المعبر عن الحياة في نور
الله. وإن كنت ثابتاً في ذلك الذي هو الحياة والنور، فما الذي يمنع سلوكي كما سلك
المسيح؟ إننا في محضره لا نخطئ، ولكننا نخطئ متى فقدنا الإحساس بذلك المحضر.
وسلوكنا هو بالنعمة نفس سلوك المسيح من حيث المبدأ وإن كنا لا ندعي بأنه من نفس
المقياس. المسيح هو المقياس وليس الناموس.

 

نحن
نعلم أنه من السهل أن ننزلق، ومن اليسير أن ننسى الرب قليلاً، وأن نسمح لنشاط
طبيعتنا أن يلعب دوره. وكل ذلك ليس ثابتاً فيه، ولكن الرسول لا يتجه نحو التفاصيل.
بل ينظر إلى المبدأ. والمبدأ شيء مطلق. والشخص الذي يأبى أن ينظر إلى الحق المطلق
لأن في الإنسان هذا الخليط الشاذ، فذاك معناه ترك الإيمان والاستعاضة عنه بالشعور
والإحساس. وكيف يمكن لشخص كهذا أن يفهم حق المسيح هنا وفي غيره من المواضع
الكتابية؟ إن الحق يجب أن يكون مطلقاً في المسيح وعمله. والنعمة يجب أن تكون مطلقة
ليستفيد منها الخاطئ الهالك. إن كان يعطيني تبريراً، فهو تبرير كامل ومؤكد. وإن
كان الله يبرر الفاجر، فهو تبرير مطلق كمنحة الحياة الأبدية في المسيح تماماً.
والمؤمن له الحياة الأبدية لكي يتسنى له أن يطيع وأن يتمتع بالشركة مع الآب ومع
ابنه. ومن أجل هذا نقرأ هنا "من قال أنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا
يسلك هو أيضاً". والرسول يترك هذا ليفعل فعله في الضمير، إذ لا يوجد هنا
ادعاء اسمي من قول الإنسان أنه ثابت في المسيح. ليس هذا مجرد معرفتي أنني فيه، مع
ما في هذا من بركة عظمى، بل إنني اعترف بجعل إياه مقراً لنفسي لكل فرح وكل ألم،
لكل خطر ولكل صعوبة. هذا هو الثبات فيه. وإذا كان الأمر هكذا معي فينبغ أن أسلك
كما سلك هو. ولكن هل هذا الواقع بالعمل والحق؟ إن فشلنا في الثبات الحقيقي فيه
ظاهر في تقصيرنا في السلوك ولكننا كمسيحيين نعترف بالمسيح كمقياسنا الحقيقي مهما
كان هذا مذلاً لنا. نحن لا ندعي أننا نسلك بنفس قياس سلوك المسيح لكننا نسعى
بالنعمة لنسلك حسب هذا القياس.

 

الخطاب
الخامس

1 يو
2: 7 – 11

"أيها
الأحباء لست اكتب إليكم وصية جديدة، بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية
القديمة هي الكلمة التي سمعتموها. أيضاً وصية جيدة أكتب إليكم ما هو حق فيه وفيكم
أن الظلمة قد مضت والنور الحقيقي الآن يضيء من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو
إلى الآن في الظلمة. ومن يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة. وأما من يبغض أخاه
فهو في الظلمة. وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أن يمض لأن الظلمة أعمت عينيه".

 

رأينا
في الأعداد السابقة أن الطاعة هي أول وأهم علامات الحصول على الحياة الإلهية، وأن
جوهر الطاعة ليس مجرد صنع ما هو حق في ذاته بل صنعه بدافع الخضوع لسلطان الله
والرغبة في إرضائه. ولست أتردد في القول أن الشخص الذي دائماً يفعل ما هو حق لمجرد
كونه حقاً إنما هو في الواقع يفعل الخطأ لأنه لا يترك أهم أركان الطاعة بالنسبة
لله نفسه وبالنسبة لأولاده، فإن أول جميع الحقوق هو أن يكون لله حقوقه، بينما
إغفال الله هو بالضبط ما يفعله الإنسان الذي يتصرف بمقتضى حكمه الخاص بأن ما يفعله
هو الصواب. من هو الإنسان في هذه القضية؟ وما هو حتى يحسب له حساب ويقام لحكمه
تقدير؟ كلا. إن الأمر يتعلق بمشيئة الله، ولذلك فإن مخافة الله هي دائماً رأس
الحكمة الروحية (أي بدائتها). فالطاعة إذن هي أول امتحان للحياة الجديدة الإلهية.
كما يقول الرسول، وبخاصة بالنسبة لروح الإثم التي كانت عاملة حينئذ حتى بين
المعرفين بالمسيحية. فإذا ما جلس الإنسان في كرسي القضاء واعتبر نفسه كمن لهو حق
الحكم ناسياً الله الذي لا يرى. فقد تخلى عندئذ عن الأساس الوحيد الصحيح لكل حكم
مقدس. لأنه حتى مع افتراضنا إنه إنسان مؤدب ومستقيم بحسب الظاهر فإن تصرفه بمقتضى
حكمه الخاص على مجرد ما يعرض أمامه أنه هو على خلوه من روح الطاعة لله. وحيث لا
توجد الطاعة لله فكل شيء خطأ ومتناقض في أساسه مع مسئولية المسيحي.

 

على
أن هناك مبدأ أدبياً آخر يأتي بعد المبدأ الذي ناقشناه ولكنه في الواقع يتمشى معه
جنباً إلى جنب وذلك لأن كليهما ينبعان من المسيح فالمسيح هو الحياة وتعبيره عن
الحياة بأقواله وأفعاله لما كان هنا على الأرض يعطينا القياس الصحيح لمعرفة ماهية
الحياة الأبدية في حقيقتها، لأن سيدنا لم يكن ينطلق بمجرد نظريات وعقائد بل كان
يحيا الحياة عملياً والحياة هي أوثق الأشياء بالإنسان ولابد له منها لكي يحس أو
يميز، أو لكي يفعل شيئاً أو ليكون شيئاَ في الوجود. على أن الناس جميعاً لهم حياة
الإنسان الساقط تحت سلطان الخطية والموت، وماذا يفيد هذا النوع من الحياة بالنسبة
لله أو الإنسان؟ إنها قد تفعل قدراً من الشر ولكنها لن تقود إلى ما يرضي الله.
المسيح وحده هو الذي أرضى الله دائماً وإلى التمام. وحياة المسيح هذه، هي حياتنا
الآن، وهو واهب الحياة لكل من يؤمن بقلبه. لقد جلب الإنسان الأول الموت، أما
الإنسان الثاني فهو روح محيي. كانت فيه الحياة كالكلمة الأزلي، وكإنسان قبل من
الآب أن تكون له الحياة في ذاته وهو يعطيها لكل من يقبلونه. وكما أن الآب يحيى،
هكذا هو أيضاً يحيى.

 

والحق
أنه لاشيء يميز الله بصورة مطلقة فريدة أكثر من كونه تعالى خالق الحياة وواهبها.
أما الفلاسفة عديمو الإيمان فلم يصلوا بعد إلى معرفة كنة الحياة ولا أين هي، فإن
بعضهم يكد ويجتهد متشوقاً إلى اكتشاف آثارها في بوتقة الاختبار متوقعاً أن يصل إلى
معرفة سرها من تجاربه الكيميائية، وليس علماء ما وراء الطبيعة بأكثر حكمة منهم في
قدح زناد الفكر والالتجاء إلى العقل البشري ومحاولة الاستضاءة بنوره. فالعقل
البشري قد يكون ماهراً في استقراء الظواهر واستنباط النتائج إلا أنه لا يستطيع
استكشاف الحق بوسائله الخاصة. قد تنجح هذه الوسائل والأساليب البشرية في الدوائر
المادية أو العقلية المعلقة بالعناصر الطبيعية أما الحياة فهل يمكن اكتشافها ببحوث
أو تجارب من هذا القبيل؟

 

كلا.
إن حياة الإنسان صدرت أصلاً ومباشرة من الله، وقد أعطيت له بنسمة القدير، ومن أجل
ذلك فإن الإنسان وحده ذو نفس خالدة. إن للحيوانات الأخرى نفساً وحياة تلائمها،
لكنها حياة ليست صادرة من نسمة الله بل هي وليدة مجرد إرادته وسلطانه. إنه سمح
بوجودها الوقتي إذ قال فكانت وأمر فصارت ولكن هذا يختلف كل الاختلاف عن النفخة الشخصية
في أنف الإنسان، وهي طريقة لم تتبع مطلقاً مع أي كائن آخر على الأرض. الإنسان هو
وحده الذي نال هذه الخطوة وإدراك هذا الفارق يوضح أساس كيان الإنسان الأدبي
ومسئوليته، وهذا الفارق هو خلود نفسه.

 

على
أن هناك امتيازاً أسمى بكثير من مجرد الخلود الذي يعني به دوام وجود النفس. فقد
يكون لهذا الدوام نتائج مرعبة أكثر مما يتصوره العقل. تفكر قليلاً في وجود دائم في
بحيرة النار‍‍‍‍‍‍! فلا بد لكل إنسان يرفض ابن الله أن يقع تحت دينونة الله
الأبدية، أي أنه يكون في هذه الحالة في وجود دائم أبدي غير منقطع وسط سعير من
الآلام – آلام من يد الله لأنه أبي في عناد وتمرد أن يؤمن أن الابن العزيز احتمل
بالنعمة ذلك القضاء لكي يعفي المجرمين من ملاقاة تلك الدينونة ويؤهلهم للبركة إلى
الأبد! فإذا كنت لا أؤمن به، ولا بالبشارة الطيبة عما صنعه الله بواسطته، فأين
أكون؟ طبعاً تحت سلطان الشيطان، ذلك العدو القاسي الذي يبغض الله والإنسان. على أن
الإنسان لا يمكن أن يتلاشى من الوجود. وإنها لجريمة كبرى أن يتمنى الخاطئ أن يكون
بلا وجود قد يقدم على الانتحار، ولكنه سيعطي لله حساباً عن ذلك. ما أروعه حساباً،
لأن الله هو الذي وهبه الحياة، فمن أين له هذا الترخيص بالتخلص من الحياة بيده؟
وأي خير يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه الفعلة الجهلاء النكراء؟ لئن كان القتل في شتى
أنواعه يعد جريمة شنيعة مميتة فإن الانتحار صورة من أ[شع صوره لأنه إهانة مباشرة
ضد الله. والخلاصة أن الرب يسوع كان الإنسان الوحيد الذي أطاع طاعة دائمة وكاملة
وذلك لأن طاعته كانت نابعة من حياة هي بعينها الحياة الأبدية. أما بالنسبة لنا نحن
المؤمنين فليس الأمر هكذا دائماً إذ قد يعمل الجسد أحياناً لخزينا وعارنا، ولكن
الحياة الجديدة التي فينا لكونها أبدية، تبقى مصدراً للقوة والنشاط. قد ينطلق
الإنسان العتيق من عقاله وقد يثور بسبب الغفلة وعدم السهر بالصلاة. لأن الحياة
القديمة أو اهتمام الجسد لا زال موجوداً وهو بكل أسف عداوة لله (رو 8: 7). هذه
الحياة القديمة هي إرادة الإنسان الذاتية، ولمن تكون طاعة الإنسان في هذه الحالة؟
للشيطان لا محالة لأن الإرادة تكون في خدمة الشيطان وأداة طيعة له. وهذه في الواقع
هي حرية الإرادة التي يفخر الإنسان بها.

 

إن من
واجبنا أن نردد هذه الحقيقة باستمرار وهي أن كل مؤمن يحصل على الحياة الأبدية من
المسيح بمجرد إيمانه به. يحصل عليها كاملة ناجزة وفي الحال، وهي تبدأ نسمتها
الأولى فينا عندما يبدأ الإيمان في النفس، وبعبارة أخرى عندما يخضع الخاطئ للمسيح
كعطية الله بالنعمة. وقد رأينا أن مجرد هذا الخضوع يعتبره الله طاعة له فإن وصيته
الصريحة لي هي أن أؤمن بالإنجيل وأن أتوب. وهنا يكون الخضوع الصحيح لله في النفس،
والطاعة في هذه الحالة لا يشار بها إلى ما سأفعله لله من الآن فصاعداً بل يقصد بها
انحناء نفسي أمام الله في اللحظة الأولى كالله المخلص بواسطة ابنه ما أبرك نحه
إياي الحياة! وما أعجب جعله إياي غرضاً لمحبته! وأية محبة أعظم من أن يبذل ابنه
لكي يأتي هنا ويعيش لأجلي، بل ولكي يقدم نفس هذا الابن الذي هو الحياة الأبدية لكي
يموت من أجل خطاياي ولكي يمحوها محواً كاملاً بفداء أبدي، فتكون لي به حياة
أبدية؟.

 

ولكن
هذه الحياة الجديدة ليست مصدراً للطاعة فقط بل للمحبة الإلهية أيضاً، والمحبة
المطلوبة هنا ليست فقط المحبة لله، (تلك المحبة التي لنا تتوفر في الإنسان إلا حينما
تتأكد النفس أن الله في نعمته السامية المجانية قد أعطاها الحياة الأبدية كما
أعطاها في الوقت نفسه كفارة عن خطاياها في ابنه الوحيد المحبوب) ولكن المحبة
المقصودة هنا هي محبتنا لإخوتنا المسيحيين.

 

حينما
يكون القديسون أحداثاً، ونظير المسيحيين الكورنثيين ليسوا روحانيين يحسبون أمراً
سهلاً أن يحب أحدهم الآخر. ولكن الحقيقة تنجلي لهم إذ هم وضعوا أعناقهم يوماً
فيوماً في ميدان الاختبار. وإذا أخلصوا في فحص ذواتهم قدام الله فسرعان ما يدركون
أن كثيراً مما نحسبه محبة لا يزيد عن كونه محبة بالكلام واللسان. قد يبدو الأمر سهلاً
حينما يكون كل شيء على ما يرام وسائراً في الاتجاه الذي يروقنا ولكن عندما تهب ريح
مضادة تصدم رغباتنا فعندئذ يكون المحك لمن يحسبونه شيئاً يسيراً أن يحب أحدنا
الآخر. قد نجد هذا النوع من الحب عند أي إنسان لطيف ودود، بل قد تجده عند كلب أو
قط ولكنه حب مجرد من كل عنصر إلهي. أما حبنا لإخوتنا فقد يصطدم بالشيء الكثير من
المعطلات فينا وفيهم فالأمر مع المسيحي يختلف عنه مع المسيح الذي قيل عنه وحده
"وليس فيه خطية". أما نحن فإن الخطية هي عين الشيء الذي فينا بحسب
الطبيعة، ونحن نعجب لأي شخص لا يؤمن بهذه الحقيقة فإنه وأمثاله إنما يعيشون في
فردوس زائف من جهة نفوسهم إذ يحسبون ذواتهم كاملين الآن من الناحية العملية بينما
في الواقع هم ليسوا كاملين بهذا المعنى بل إنهم لم يتعلموا بعد معنى الكمال
المسيحي وهو التخلي عن الذات والاستناد في كل شيء على المسيح وبخاصة في السلوك
والاختبار اليومي، فإننا لن نكون كاملين في ذواتنا إلا بعد أن نتغير تماماً إلى
صورته، ومتى فحصنا أنفسنا في النور فإنه لا يسعنا إلا أن نحزن بحق على تقصيرنا
وفشلنا في أمور كثيرة.

 

على
أن الرب قد جعلها وصية خطيرة على تلاميذه أن يحب أحدهم الآخر فإن الإيمان به كان
كفيلاً لأن يتسع لعداوة اليهود كما لسائر الشعوب. إن محبة الإنسان لشعبه وأبناء
جلدته لا تخلوا من التباهي والافتخار، ونحن ميالون لأن نقرن أنفسنا بما نعده مزايا
خاصة أو فضائل باهرة ممتازة. وليس من شك في أن اليهود كانوا لا ينقصون عن غيرهم من
الأمم في ميدان التفاخر بامتيازاتهم من أعدائهم. أما الحق فإنه ما من إنسان على
صواب فيما يفتخر به، إلا أن يندم في التراب بسبب خطاياه ضد الله.

 

إن
كان لأحد أن يفخر بصنائع الله فإن لإسرائيل بلا ريب أن يفتخر أكثر من غيره من
الشعوب. غير أن هذا لا ينفي الحقيقة الثابتة وهي أننا إذا فحصنا الأمور في نور
الله بأمانة فلا يسعنا إلا أن نتضع ونتذلل قدامه من أجل حقارتنا وعدم استحقاقنا.
فنحن نجد الخطية في ذواتنا وفي أحدنا الآخر. ولهذا فلا بد من عمل روح الله لكي
يرفع المؤمن فوق كل ما يستفز ويضايق، ليس فقط كل ما هو مضاد لما نحب بل كل ما
نحسبه خطأ أيضاً.

 

هنا
يأتي امتحان الرب القاسي. هل نثابر على حب بعضنا البعض ولو في هذه الحالة؟ من
واجبنا ألا نتعامى عن إهانة شخص المسيح أو نكران حق الله أو العبث بالقداسة أو غير
ذلك من أشكال الخطية المكشوفة. ولكننا مدعوون لأن نتقوى بالنعمة التي في المسيح
يسوع، وأن نحتمل المشقات كجنود صالحين، وأن نصبر على كل شيء لأجل المختارين لكي
يحصلوا هم أيضاً على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجد أبدي. وهذا ما تفعله
المحبة في الواقع. إنها ترفع النفس إلى مستوى المساهمة في صبر الله، ذلك الصبر
الذي اختبره المسيح إلى أقصى حد وأظهره في حياته كل يوم وفي كل شيء. غير أن هذا لم
يمنعه من مناهضة الشر ضد الله. الأمر الذي لا يعد نقصاً في المحبة لأن عدم بغض
الشر معناه الإساءة لطبيعة الله وكلمته، وعدم الاكتراث للشر هو عكس القداسة على خط
مستقيم، بينما محبة الصلاح وإكرام البر جزء من القداسة العملية في كل شخص مولود من
الله.

 

غير
أن المحبة تسمو فوق كل ما يصيبنا في أشخاصنا أو يقاوم أفكارنا ورغائبنا فهذه كلها
نستطيع أن نستودعها بين يدي الله بالإيمان، ويجب أن نستودعها كذلك في المحبة. قد
نضطر أن نوبخ ما هو خط في إخوتنا ومن الواجب أن نوبخ إلا في الحالات التي لا يكون
التوبيخ فيها لائقاً. ولكن مهما تكون الأمور محزنة وداعية للحسرة فعلينا أن نحفظ
أنفسنا في محبة الله (يه 21) وذلك ليس لأرواحنا فقط بل لابد متى امتلأت نفوسنا من
محبة الله أنها تفيض من نحو بعضنا البعض.

 

يبدأ
الرسول العدد السابع مخاطباً المؤمنين كإخوة وهي كلمة تتناسب والمحبة التي يجب أن
تسودهم. هم جميعاً مولودون من الله، أولاد أحباء، إخوة بعضهم لبعض وجميعهم أهداف
المحبة الإلهية الهادفة، المحبة التي لا تتغير. محبة قد احتضنتهم جميعاً ويا له من
باعث قوي مقتدر يشدد محبتهم بعضهم لبعض "أيها الإخوة لست أكتب إليكم وصية
جديدة بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء".

 

هذه
الوصية القديمة نجدها في إنجيل هذا الكتاب الملهم. فهو الذي يبرزها أكثر من غيره،
إن لم يكن الوحيد الذي يوردها بحروفها. فقد نقل إلينا أن الرب وضع في عنق تلاميذه
هذه الوصية الحارة أن يحبوا بعضهم بعضاً. وإنه له المجد أوصى بهذه الوصية في أول
إصحاح من تلك المجموعة البديعة من الإصحاحات التي يتكلم فيها مع تلاميذه بمناسبة
رحيله عن العالم وذهابه إلى الآب. ففي (ص 13: 34 و 35) نقرأ الوصية الجديدة ولنرجع
قليلاً إلى تلك القرينة المؤثرة "يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد
ستطلبونني وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا أقول لكم أنتم
الآن". لقد كان ذهابه هذا شرطاً لابد منه للمسيحية، أي غيابه عن الأرض ووجوده
في السماء فإلى ذلك الوقت لم تكن المسيحية بمعناها الصحيح قد بدأت فيما يتعلق
برابطة التلاميذ ولو أن أصل البركة كان في شخصه العزيز، لكن موقفهم الصحيح بالنسبة
للسيد وبالتبعية لكل شخص آخر – أي علاقتهم الكاملة – كان شيئاً جديداً عرفوه بعد
الرب وقيامته وصعوده.

 

وإذ
أشار إلى مغادرته إياهم ليصرح بما يريد فيهم ومنهم "وصية جديدة أنا أعطيكم أن
تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم
تلاميذي إن كان لكم حب بعضكم لبعض". واضح من هنا أن الرسالة تشير بلا ريب إلى
الإنجيل. وأن الوصية في الإنجيل هي نفسها المراد تطبيقها في الرسالة أعطى الرب في
هذه الوصية لما كان على الأرض وفي هذا نرى توكيداً للملاحظة التي أشرنا إليها
عندما التأمل في الكلمات الافتتاحية من الرسالة وهي أن هناك فارق بين "من
البدء" و "في البدء". على أن هذا الذي كان "من البدء" لم
يكن ليوجد ما لم يسبقه وجود الكلمة والابن "في البدء" قبل السماوات
والأرض. فالقول "من البدء" يعني من وقت وجود الكلمة الأزلي في أرضنا،
وفي ملء النعمة والحق مع التلاميذ، أي منذ أن صار الكلمة جسداً وحل بيننا، فإلى
هذه الفترة يشير الرسول عند قوله "بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء" –
"الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء" وواضح أن هذه الكلمة
لم يسمعوها "في البدء".

 

لقد
سمعوها من المسيح. وقبل ذلك لم توجد وصية مثل هذه قط.

 

المحبة
التي أوصانا بها سيدنا لم تكن مجرد محبة القريب. تلك محبة تختلف عن هذه في مقياسها
ونوعها وأهدافها مهما كان مصدرها. أما المحبة موضوع الوصية هنا فمتجهة من وإلى
الذين حصلوا على الحياة الأبدية في المسيح وقد أعد لهم فداءاً أبدياً بدمه. هم
جماعة جديدة أفرادها قد أعدوا لكل ما هو مجهز لهم على أساس الحياة الأبدية التي
نالها كل واحد منكم في شخص المحبوب. على أنه كان لابد من موته وقيامته لإقامة
الأساس الإلهي لمواجهة كافة الصعاب والمطالب وكفالة جميع الامتيازات مهما كانت.
لكن هذه المشورات وطرق الله ليست بوجه خاص مجال خدمة يوحنا، بل علينا الرجوع
لرسائل بولس للبحث عنها. أما يوحنا فيعالج المبادئ المطلقة اللازمة للقديسين
شخصياً في غير تعديل أو تخفيف، ولو أنه يلجأ إلى التعدي والتخفيف إلى حد ما بالنسبة
لما نحن عليه وبالنسبة لحالة العالم الذي نعيش فيه. ومع ذلك فالمبادئ تظل ثابتة في
مكانها وإليها يقود يوحنا جماعة المؤمنين. فهو يشدد على المبادئ الإلهية التي نحن
مدعوون لأن نتمسك بها راسخين، وفي هذا لابد لنا في الاعتماد على إله أمين يعيننا
في حل جميع الصعاب بواسطة الكلمة المعطاة لنا ولاسيما على يد الرسول بولس.

 

وهنا
يتكلم رسولنا عن وصية المحبة وكيف يجب أن تكون هذه المحبة على قياس ومثال محبة
المسيح لنا. إنها كانت "وصية قديمة" لأن المسيح قبل موته وقيامته كان لا
يزال معهم على الأرض وهم كانوا لا يزالوا يهوداً ولكنهم كانوا قد حصلوا في نفوسهم
على شيء هو أسمى من اليهودية بما لا يقاس. بحسب الظاهر كانوا مستمرين على عادتهم
الأولى في الذهاب إلى الهيكل. بل أكثر من ذلك. إن غالبية التلاميذ إن لم يكن كلهم
استمروا في هذا الطريق فترة طويلة وهم في أورشليم بعد وت الرب وقيامته وصعوده، بل
إننا نقرأ عن قادة الرسل (حتى بعد نوال روح الموعد القدوس يوم الخمسين) يصعدون إلى
الهيكل في ساعة الصلاة، كما كانوا متعودين أن يفعلوا قبل وبعد ما تبعوا الرب على
الأرض.

 

"الوصية
القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء". ولإشارة هنا لا يمكن أن تنصرف إلى
الأزلي. فهي وصية لم يأمر بها "في البدء" ولم يسمعها أحد في الأزل وإلى
فإن ذلك معناه أنها وصية لا علاقة لها بالزمان أو المكان أو الناس. فواضح والحالة
هذه أنه من الخطأ أن نخلط بين التعبيرين "من البدء" و "في
البدء" كما يفعل الكثيرون.

 

على
أننا نقرأ في العدد التالي، أي العدد الثامن، ما يبدو على أنه نوع من التناقض
ويحنا لا يعبأ بهذا لأن ما يبدو متناقضاً أمام العقل البشري قد يكون هو الحق بعينه
ولو أن الأذن الغير المختونة يحسبه متنافراً ومتناقضاً. غير أن السبيل الوحيد لفهم
الأسفار الإلهية إنما هو الإيمان بما فيها. عندئذ نبدأ بفهمها أما إذا كنا لا نؤمن
بها فكيف نستطيع أن نفهمها؟ إن الذهن الطبيعي ميال لأن يفضل الذات على الله ويأبى
أن يتعلم ما يسمو فوق إدراكه بما لا يقاس. ولا شك أن تفضيل أذهاننا وأفكارنا
وكلمتنا الخاصة على لكمة الله أمر يتناقض بالطلية مع الإيمان بوحي الله.

 

والشيء
الوحيد الذي يليق بالمؤمن هو أن يقف بعزم راسخ في جانب الله وكلمته. قد يشعر بأنه
لا يستطيع تفسير هذه الصعوبة أو تلك. لكنه يصدق الله ويستخون نفسه. ولهذا هو يتأنى
وينتظر، واثقاً أن الرب سيعطيه نوراً بخصوص ما استغلق عليه إن كان ذلك لخيره، وحتى
إذا لم يأتي النور إطلاقاً فإنه يثق ويؤمن أن للرب في ذلك غرضاً سامياً. فهو يعلم
في قرارة نفسه أن الله دائماً على حق. أما عن نفسه فما أكثر ما يخطئ!

 

يقول
الرسول في العدد الذي أمامنا "أيضاً وصية جديدة أكتب إليكما هو حق فيه
وفيكم". والواقع أن ما يبدو صعباً لأول وهلة إنما يفسر بعضه بعضاً تفسيراً
كاملاً. فنحن ليس علينا أن ننتظر طويلاً أو نبحث بعيداً لنفهم كيف تكون الوصية
القديمة وصية جديدة. من المحتمل جداً أن من يقبلون على درس كلمة الله بعقلية طلبة
المدارس لن يفهموا المعنى المقصود حتى يوم القيامة. فهم يودون أن يفهموا دون أن
يؤمنوا، والنتيجة أنهم يظلون في ظلامهم وغبائهم مهما تكن درجة تعلمهم. إن الوصية
القديمة كانت حقاً في المسيح. فيوم أن نطق بها كان يحب تلاميذه جميعاً بحب لا
يستطيعه غير الله. كان يحبهم حباً كاملا مطلقاً. وهل تتصور أنهم كانوا يحبون بعضهم
بعضاً في ذلك الوقت؟ ألم يحسد أحدهم الآخر؟ لقد كانوا على استعداد أن يتخاصموا
دائماً، بل أن يتشاحنوا ويتباحثوا بشدة فيمن يكون الأعظم بينهم. فهل كان شيء من
المحبة في هذا؟ إن تنافساً كهذا لهو نقيض المحبة على خط مستقيم ويدل على نشاط
الجسد والذات لا أكثر ولا أقل.

 

إن
المحبة تعلم أن الله وحده هو الذي من حقه أن يقرر مركز كل واحد والكتاب يبين أن
الله يقيم في الكنيسة مواهب كما يوافق مشيئته. أما التلاميذ فقد أرادوا جميعاً أن
يكون كل واحد منهم الأعظم، الأمر الذي ما كان ممكناً أن يتم وهل من شيء يتنافى مع
المحبة أكثر من أن يريد كل واحد أن يكون الأعظم وأن يأخذ المركز الأول لنفه؟ وكم
يتعارض هذا مع فكر المسيح كما هو مرسوم في الإصحاح الثاني من فيلبي!

 

إذن
فنرى هنا أن الشيء الذي كان وصية قديمة لما كان الرب على الأرض قد أصبح الآن وصية
جديدة لأنها الآن حق ليس فيه فقط بل فيهم أيضاً. وما الذي جعلها حقاً فيهم؟ الجواب
موت وقيامة الرب يسوع. هذا هو الذي يجعل كل شيء جديد. على أن القيامة ما كانت
ممكنة لولا الموت، وما كان ممكناً لأمور القديمة أن تمضي لولا موت المسيح كما لم
يكن ممكناً للأمور الجديدة أن تأتي لولا قيامته. لكنه هو القيامة والحياة وهذا هو مبدأ
المسيحية المجيد. كل شيء يدور حول موت الرب يسوع وقيامته. هذا هو ما جعل القديم
جديداً. وهذا ما جعله حقاً فيهم كما هو فيه. إنه له المجد كان لا يزال هو الحق،
ولكن ما الحال معي ومعك أيها الأخ؟ هل نحن في الروح؟ أم تراني لازلت أنانياً أطلب
ما لنفسي؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا ليس من المسيح ولا من المحبة.

 

وكم
هو مبارك وجميل أن الوصية القديمة هي الآن جديدة، وحق فيه وفي خاصته! ولماذا هكذا؟
الجواب لأن المسيحيين يقفون جميعاً على حد سواء، كمن لهم حياة فيه وبما أن مساوئنا
وشرورنا قد عولجت في صليبه فإن جميع الموانع التي تعطل عمل الحياة الإلهية
وممارستها في المحبة وجريانها من نحو بعضنا البعض بحرية وبلا عائق – كل هذه الشرور
والمعطلات قد دينت جميعها في صليب المسيح. وكما أن الكلمة تعلن هذه الحقيقة فإن
الروح القدس يحققها اختبارياً في كل منا. ولاحظ أن الرسول يتكلم هنا أيضاً طبقاً
للمبدأ دون الإشارة إلى الملابسات الوقتية العرضية التي قد تحيط بحالة كل مسيحي
والتي لها علاجها في أماكن أخرى من الكلمة. غير أن يوحنا يعطينا المبدأ الصحيح في
كل كماله لكي يتمتع به الإيمان ويمارسه بحسب قياس حالتنا الروحية، فيعلن أن الأمر
حقا فينا أي في جميع المسيحيين كما هو حق في المسيح.

 

إنها
في الواقع حقيقة منعشة بل مدهشة في الدائرة الروحية، ولكن بركتها لا تعرف عملياً
إلا متى قبلتها النفس تصديقاً لكلمة الله وآمنت بها فيما يتعلق بالآخرين كما فيما
يتعلق بالإنسان ذاته. يقول الرسول "ما هو الحق فيه وفيكم"، إن الوصية
القديمة كانت بلا قوة إلى أن مات المسيح وقام، ولكن بعد موته وقيامته وبعد أن أظهر
بذلك ملء البركة في ذاته، مائتاً وقائماً لأجلهم، فإنها وصلت إليهم هم أيضاً: إن
حبة الحنطة بقيت وحدها إلى أن وقعت في الأرض وماتت، وإذا ماتت كما قال الرب أتت
بثمر كثير. وأين ذلك "الثمر الكثير"؟ هو في جميع المسيحيين. في كل مسيحي
حقيقي. قد تأتي الملابسات فتعطل، ومن المهم أن نتعلم كيف يمكن أن نتغلب على
المعطلات ونسمو فوقها. فلا نعطي لأنفسنا راحة أو نكف عن الصراخ لله واستخدام
الوسائل التي تزودنا بها كلمته ويمدنا بها روحه لمواجهة المعطلات في أنفسنا أو في
الآخرين فقد أعطانا المسيح مثالاً، ونحن أيضاً ينبغي أن نغسل بعضنا أرجل بعض.

 

فهنا
إذن أمامنا المبدأ، أي وصية المسيح في قوتها. أنها كانت كاملة على الدوام في
المسيح لما لم تكن إلا الوصية القديمة كان هو وحده المنفذ لها. أما وقد مات وقام
فهلم وانظر التغيير بين التلاميذ يومئذ "وقف بطرس مع الإحدى عشر رسولاً"
وقفة رجل واحد. لقد تلاشى النزاع الجسدي والتنافس والأنانية. لم نسمع بهذا من قبل
قط ولم نقرأ عن مثل هذا التغيير أيام خدمة سيدنا في الجسد، تلك الفترة المسماة هنا
"من البدء". لقد كانت حينذاك حقاً فيه وحده. أما الآن فبفضل قوة قيامته
صارت حقاً فيهم كما فيه وهاك هو السبب "لأن الظلمة قد مضت" هذا هو الحق
في كل مولود من الله. ولكن هل الظلمة مضت من العالم بصفة عامة ومن العالم المسيحي
بصفة خاصة؟ لا هذا ولا ذاك فإن الظلمة لن تمض من العالم إلا بمجيء المسيح ثانية.
يومئذ يقال "قومي استنيري لأنه قد جاء نورك" هناك سيكون نور لكل الأرض.
قد يضيء بلمعان أكثر في أورشليم ولكنه سيعم المسكون بأسرها لأن مجد سيدنا سيملأ كل
الأرض. أما الآن فواضح أن الحالة تختلف عن ذلك فيما يتعلق بالعالم. فالوثنية والأديان
الزائفة موجودة في عصرنا وبابل ستوجد كما هي موجودة الآن ونحن نعرف ما هي فضلاً عن
كل أنواع الشناعات المنتشرة في العالم المسيحي. وشر من هذا و ذاك، اقتراب يوم
الأثيم الذي سيجلس في هيكل الله مظهراً نفسه أنه الله. وحتى في يومنا الحاضر تصم
آذاننا أصوات الإلحاد والتشكك التي ترتفع من فوق المنابر كل يوم – ليس من بعض
النكرات بل بالأسف من القادة و البارزين. وقليلون هم الذين يقفون ضد هذا التيار
الأثيم معرضين أنفسهم للبغض والكراهية يوماً بعد يوم. ولكن مهما كانت عزلتهم
وبساطة مسلكهم فإن شهادتهم هي أن هذا الإلحاد كله إنما هو خديعة إبليس ومقدمة
الارتداد العتيد وطلائع الإنسان الخطية الذي يبيده الرب بظهوره بالمجد.

 

أما
الظلمة فقد مضت، ولكن من أين مضت؟ من كل مسيحي يتجدد بالحق ويضم إلى الكنيسة. قد
يؤمن بعض من مجاهل إفريقيا، وقد يؤمنوا في اليابان والصين حتى في روسيا. وهكذا
حيثما تعمل النعمة، بغض النظر عن المكان، وحيثما يتجدد قديسون لله، فبهذا القدر
تمضي الظلمة وهي تمضي فعلاً من كل مسيحي بالحق. والرسول هنا ينظر إلى المبدأ. فهو
لا يبحث عن مدى تحقيق ذلك عالمياً. ليس هذا مهمة بل هو ينظر إلى أشياء كما ينبغي
أن تكون في المسيحي عاملاً ومنفذاً المبدأ الإلهي الذي قبلته نفسه.

 

لكنه
يضيف "والنور الحقيقي الآن يضيء" وذلك لكي يعطي المعنى المقصود كل قوله.
إن هناك من المسيحيين من لا يحبون الدقة. ولكن أليس الأفضل أن يكون لدينا الحق في
أقصى ما يمكن من البساطة والوضوح والكمال؟ والنقطة الهامة التي علينا أن نلاحظها
هنا أن الكلام عن النور الحقيقي يلجأ بعد موت المسيح وقيامته.لألم يحاول العالم أن
يطفئ ذلك النور بموت سيدنا؟ نعم لقد حاولوا ذلك وبذل قصارى جهده في تنفيذه. ولكن
كل جهوده باءت بالفشل بفضل قيامة سيدنا وهاهو النور يضيء بلمعان أكثر وأقوى من ذي
قبل "النور الحقيق الآن يضيء" فالقديسون الذين كانوا ضعفاء أصبحوا
أقوياء ونسوا ذواتهم وجهالتهم في فيض سرورهم وفرحهم بالمخلص المقام. والروح الذي
نالوه على أثر القيامة هو روح القوة والمحبة والنصح. ومن هنا نرى كيف أن وصية
المحبة صارت الآن حقاً فيهم كما هي فيه. وهي في بلا شك لكن المشكلة كانت
"فيهم". فكيف يتسنى أن تكون حقاً فيهم؟ لقد قام المسيح آتياً بثمر كثير
ومن هذا الثمر قد مضت الظلمة وحل محلها الر. وهكذا يطرد المسيح الظلمة بالنسبة لكل
مسيحي وهو يضيء الآن لجميع المسيحيين، يضيء لهم وفيهم، أكثر من ذي قبل.

 

وبناء
على ذلك يأتي في العدد التاسع الجواب عن من يقول أنه في النور وهو يبغض أخاه. إن
هذه الرسالة تنظر إلى مجرد "القول" دون العمل نظرة قاسية ولكنها في
محلها، فإن قديس الله الحقيقي لا يتكلم بخفة عن الوجود في النور. هو يعلم أنه في
النور، ويبارك الله من أجل ذلك، لكنه ينظر نظرة جدية إلى هذا الأمر الخطير. إنه
يدع الآخرين يقولون متفاخرين "نحن في النور" بينما هم يسلكون في الظلمة.
وهل من شيء أكثر من هذا إهانة للرب أو أقل لياقة بالمسيحي؟ إن المسلك الصحيح
الحقيقي لا أن نقول بل أن نظهر بأننا سالكون في النور وذلك بالسيرة التقوية أما
"من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه" فإنما يقيم الدليل على أنه ليس في
النور. فإنما ما يحمله بين جنبيه من بغض لأخيه يتعارض ليس فقط مع المحبة بل مع
النور والحياة لأن هذا الثلاثة تسير معاً ولا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر. فكما
أن الطاعة برهان الحياة، لذلك المحبة برهاننا الأخير، ومن خصائص النور الحقيقي
الذي يضئ الآن أنه يكتشف ظلمة البغضاء. لاشك أنه إذا كان أخ قاسياً أو متهوراً أو
مشوباً بأي نوع من أنواع النقص، فإن في ذلك امتحاناً لنفسك، ومن واجبك أن تكون
أكثر حرصاً وحذراً، بل أكثر اهتماماً وعطفاً لاسيما إذا بدر منه شيئاً تراه سيئاً
في نظرك. ولماذا يتسع قلبك لتربحه؟ ولماذا تتخلى عن المحبة حيث الحاجة إليها أشد
وأدعى؟ إنه من واجبك أن تعطف على أخيك إذا كنت تحسب أنه أخطأ خطأ جسيماً. أو لا
ينبغي أن يكون موضوع توسلاتك الحارة قدام الله، مهما كرهك لشره ورفضك لخطأه.

 

"من
قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة". عبارة غاية في
الاختصار ولكنها قاطعة كالسيف البتار. وهذا هو يوحنا الحبيب. لم يعد له أحد في
اللطف والمحبة،ولم يعد له أحد كذلك في الحزن والشدة.وهنا الفارق بين المحبة و عدم
وهو الاكتراث.فهو لا يقول مجرد قول "إني أحب أخي" بل هو يحبه فعلاً
"من يحب أخاه يثبت في النور" وهو يحب حتى مع وجود المتناقضات الأليمة
التي ترهق المحبة وتثقل كاهلها، بل إن هذه المتناقضات والمنفرات تبرهن على وجود
المحبة وتجعلها تظهر بلمعان أكثر وهذا معنى القول "وليس فيه عثرة". لقد
امتحنته تلك المضايقات في محبته، لكنه لم يعثر بل ظل يحب أخاه. مثل هذا "يثبت
في النور وليس في عثرة". لو أنه قابل الخطأ بمثله، أو لو أنه تمنى الشر
والسوء لمن فشل وسقط، فحينئذ تكون الفرصة للعثرة. ولئن كانت هذه العثرات شأن
الإنسان الطبيعي عندما تستفزه المضايقات، لكنها ليست من المسيح في شيء وبالتبعية
ليست من المسيحي.

 

"وأما
من يبغض أخاه". هنا نرى الشر في صورته العنيفة. "وأما من يبغض أخاه فهو
في الظلمة". هذه هي حقيقة حالته، وهي القول الفصل في الموضوع فإن الذي يبغض
أخاه هو من حيث المبدأ قاتل نفس كما يقول يوحنا في مكان آخر بعد ذلك (ص 3: 15).
"ومن يبغض أخاه فهو في الظلمة" – ليس الكلام عما يفعل أو كيف يسلك بل
أنه هو شخصياً في الظلمة، وهذه الحالة يدلل عليها بمسلكه العنيف الخالي من الرحمة
وتعلنها أقواله وأفعاله. فأقواله لا تزيد عن كونه "يبغض أخاه". وأفعاله
لا تقل عن كونه "يبغض أخاه" أنه "في الظلمة يسلك". ومسلكه
برهان حقيقته، كما أن سلوكنا في النور نابع من حقيقة وجودنا في النور نعم فإن
البغضاء الكامنة في قلبه ليست نظرية من النظريات بل حقيقة دفينة في أغوار طبيعته
وكلمة "يسلك" لا تعني أقل من هذا – "ولا يعلم أين يمضي"أي أنه
منحدر إلى الهلاك. وبكن هذا هو مصيره المحتوم وبخاصة وهو يدعي لنفسه مركز المسيحي
لأنه إن كان لا يوجد شيء في الوجود أغبط وأبرك من صيرورة الإنسان مسيحياً فإنه لا
يوجد أتعس وأبأس من ادعاء هذا المركز دون أن يكون الإنسان مسيحياً بالمعنى والحق.
ومع ذلك فما أكثر الذين يضلون النفوس بهذه الصورة اليوم.

 

فكيف
إذن يتأكد الإنسان أنه مسيحي فعلاً؟ أنا متأكد أني خاطئ هالك، ومتأكد أن الله يرحب
بالخاطئ الهالك باسم يسوع لأن الله أعطانا ابن الله ليكون ابن الإنسان لكي يطلب
ويخلص ما قد هلك. فأنا محتاج لمسيح لأجل خلاصي وأؤمن به تصديقاً لكلمة الله عنه.
أفليس من حقي إذن أن أتخذ مركز المسيحي؟ إذ قبلنا المسيح، قبلنا حياته، وهو في
حساب الإيمان الكفارة الوحيد لخطايانا. وهكذا يعطى لقب أولاد الله لجميع الذين
يؤمنون باسم المسيح، وهو يضمن لهم جميعاً النصيب المسيحي والبركة المسيحية وذلك
لأن جميع امتيازات النعمة في شخصه العزيز تأتي عملياً مجتمعة معاً.

 

وعلى
عكس ذلك، إن كان الإنسان يتخذ اسم المسيح بخفة ومجرد صورة دون أن يفكر تفكيراً
جدياً في أمر خطاياه وحاجته القصوى إلى العتق والخلاص فلا شك إن مثل هذا الإنسان
لا يزال يسلك في الظلمة رغم ادعائه الزائف. إنه في الظلمة ويسلك في الظلمة ولا
يعلم إلى أين يمضي لأن الظلمة قد أعمت عينيه، وبالأكثر لأنه يدعي أنه مسيحي
"لأنه إن كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كم يكون" أما المسيحي فقد
ولد ليس من دم، ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله وذلك بالإيمان الحي
بيسوع.

 

ليس
القصد من ذلك تثبيط عزيمة أضعف مؤمن. حاشا فلا في العهد الجديد، ولا في العهد
القديم، كلمة واحدة تحمل الناس على الشك والريبة، بل إن كل كلمة في الكتاب قصد بها
أن تقودهم إلى الإيمان. فإذا آمنوا وخضعوا لإعلان الله أي كلمة حقه ونعمته،
فالبركة لهم، لأن كلمة الحق هي إنجيل الخلاص، وكل ما هنالك أنها ككلمة الحق تكشف
حقيقتك كخاطئ بائس ولكنها في الوقت نفسه تزيل كل لطخة وتمحو كل خطية وتضع يدك على
الحياة الأبدية وتوقفك موقف المتبرر قدام الله. ليست الذات هي التي تبررني فأنا
إنما أدين نفسي. الله هو الذي يبرر المؤمن بالرب يسوع. والمسيح وحده هو الذي في
استطاعته أن يجعل عتقي من الدينونة حقيقة واقعية فإذا كنت قد حصلت على المسيح فإني
أستطيع أن أخلي نفسي بالكلية، وكل الأشياء التي كنت أعتد بها وأفاخر، مهما كانت
صورتها، فإني أرفضها جميعاً كأشياء لا قيمة لها إطلاقاً وخاطئة. ويا لها من غبطة
وبركة وسعادة أن أجد أن جميع بركات الله هي في المسيح وأنه يمنحها جميعاً من مجرد
نعمته المجانية! ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد. ولكن ها هنا شخص يجرؤ أن يدعي أنه
تحت راية الاسم المقدس بدون أن يكون في نفسه شعور حقيقي بخطاياه أو بنعمة الله.
هذا ليس إلا ادعاء أجوف وتضليل للذات. ومن أسف أن النظم الإكليركية في هذه الأيام
تخلق هذه الحالة بضغطها على الجماهير البسيطة المغرورة فتحشرهم حشراً بين جماعة
المؤمنين. فترى الواحد منهم يتسلل إلى دائرة الأخوية المسيحية ولكنه يفشل فشلاً
ذريعاً. يبغض أخاه ومعنى ذلك أنه لم يزد عن كونه إنساناً طبيعياً فهو لا يزال في
الظلمة وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أين يمضي لأن "الظلمة قد أعمت عينيه".

 

لكننا
بعد الإيمان نبصر جيداً، لأن الإيمان بالمسيح يطرد ويزيل كل عائق آخر فإن نعمة
الله تعطينا المسيح ليس فقط كالحياة والكفارة بل كمن فيه الكفاية لمطاليب السلوك
كل يوم ولمواجهة صعاب ومخاطر كل يوم. فما أعظم التشجيع الذي ينطوي عليه أسلوب
الرسول البسيط العميق في عرضه لهاتين العلامتين اللتين تميزان المسيحي الحقيقي،
وأعني بهما الطاعة ثم المحبة. ففي كلتيهما لا يوجد فيما بعد سلوك في الظلمة كأهل
العالم، بل يكون للنفس نور الحياة، لأننا إذ نتبع المسيح مؤمنين طائعين نكون في
الوقت نفسه سالكين في المحبة.

 

ولذلك
فقد تعلمنا من أول الأمر أن طاعة الله البرهان الرئيسي والعلامة الأولى الجوهرية
المميزة للشخص المسيحي وقد قصد بالطاعة أن تشمل جميع نواحي حياتنا وأن تربط تصرفاتنا
وأعمالنا بواعثنا ونوايانا فنحكم عليها جميعاً بهذا المقياس: هل هذه مشيئة الله؟
هل هذا العمل يرضي الله؟ هل أنا في هذا الظرف أو ذاك مدعو لأن أعمل وأحتمل مهما
كان العمل ومهما كان الاحتمال؟

 

والخضوع
لكلمة الله فيه الجواب على كل سؤال. هكذا صار المسيح له المجد على الأرض. ونحن
مدعوون كمسيحيين أن نسير في أثر خطواته. ولا ريب أن الخضوع المطلق لمشيئة أبيه
وأبينا يجعل الأمر حلواً لنا كما يقول تبارك اسمه "احملوا نيري عليكم وتعلموا
مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف" يا
أخي، هل أنت تحمل هذا النير بإخلاص؟ إذن فطوبى لك، لأنه ما الذي يجعل النير هيناً
علينا؟ لا شيء سوى المسيح، فإذا ما استقرت العين على المسيح هان الحمل علينا. أما
إذا ابتعدت العين عن المسيح وتحولت إلى ذواتنا أو إلى شيء آخر، فعندئذ يصبح الحمل
ثقيلاً لا يطاق، وتحت ضغط عدم الإيمان تنكسر السفينة.

 

ونستطيع
أن نرى حكمة الروح القدس في إعطائنا كلتا العلامتين وفي الترتيب الذي يضعها فيه،
أي الطاعة أولاً ثم المحبة. نحن عادة نضع المحبة في المركز الأول عند الكلام عن
برامج حياتنا المسيحية، ثقة منا في صدق محبة إخوتنا. لا شك أن انطفاء جذوة المحبة
في نفس الأخ المسيحي أمر يكسر القلب ويدعو للأسف والحسرة، وأنه لمن الأمور الشنيعة
للغاية حقاً أن لا يكون الأخ المسيحي أخاً محباً، ولكن ما حال طاعته؟ هل هو الآن
متميز بالطاعة لله بعد أن كان قبلاً موسوماً بالأنانية وفعل الإرادة الذاتية؟

 

نذكر
جميعاً تلك الحجة القوية التي تسلح بها الرسل في تجاربهم القاسية أيام الكنيسة
الأولى (أع 4 و 5) وهي أنه ينبغي أن يطاع الله. لقد كان تبشيرهم وتعليمهم بيسوع
كالمسيح سهماً صائباً في نفوس رئيس الكهنة والكتبة والشيوخ والصدوقيين. ولذلك
أمرهم القوم يومئذ ألا ينادوا بهذا الاسم. ولكن الله ظهر لهم وهم في السجن ظهوراً
معجزياً أدهش القائمين على حراستهم. إذ أخرجهم من السجن ملاك وأمرهم أن يعودوا
ليتكلموا ثانية في الهيكل. ولم يكن خروج الاثني عشر هذه المرة كخروج بطرس بعد ذلك
منفرداً يتبع الملاك دون أن يراه أحد – مع ما في حادثته من معجزات عجيبة – ولكن
خروجهم جميعاً هذه المرة كان على مرأى من الحراس الذين كانوا في نوبة حراستهم
يروحون ويغدون دون أن يدركوا البتة ما كان الله يفعله. فهو يعرف جيداً كيف يطمس
العيون ويخلص من الأغلال إذا أراد. وإذا وصلوا إلى الهيكل كما أخبرهم الملاك نادوا
برسالة الله. غير أن قادة اليهود تعلموا حتى عن هذه الآية وأصروا على إسكات الرسل.
وهنا لم يسع الرسول بطرس إلا أن يجهر بقوله المأثور "ينبغي أن يطاع الله أكثر
من الناس". أجل، فالطاعة هي حق الله على المخلوق وهي واجب المسيحي الذي لا
يحيد عنه. فإذا لم نطع الله فإننا نسيء إليه في أهم حق من حقوقه علينا.

 

من
المسلم به أنه يوجد على الأرض أشخاص من حقهم أن يأمروا، كما يوجد آخرون من واجبهم
أن يطيعوا. فالطفل مثلاً يجب أن يطيع والديه، وكل إنسان يجب أن يخضع للسلطات
المدنية. ولكن هذه الطاعة تختلف كل الاختلاف عن طاعة المسيحي التي يتحدث الرسول
عنها هنا. فالطاعة الظاهرية أو الطبيعية قد تتم رغم أنف الشخص الطائع، أعني أنه قد
يؤدي واجب الطاعة مستكرهاً بعض الأحيان. هذا النوع من الطاعة لم يعرف سبيلاً إلى
طاعة المسيح. وينبغي ألا يكون له مكان في طاعة المسيحي الذي قد تقدس لطاعة المسيح
وأصبح مطلوباً منه أن يثبت نظره على ناموس الحرية الكامل كمن نال طبيعة جديدة تحب
أن تفعل مشيئة الله كما هي معلنة في كلمته بالمباينة مع إسرائيل تحت ناموس
العبودية والتهديد بعقوبة الموت. ذلك أن الطبيعة الجديدة تجد في مشيئة الله
بواعثها على العمل كما تجد في المسيح مثالها الكامل.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس أخبار سارة عربية مشتركة عهد قديم سفر يشوع بن سيراخ 38

 

قد
نتألم في طريق الطاعة لله، لكن هذا شرف لنا، كما حسب الرسل يوم جلدوهم بسبب
إصرارهم على طاعة الله، وبكل وداعة تحملوا النتائج، كانت عقوبة جلد اليهودي في
المجمع تعد إهانة كبرى في تلك الأيام، غير أن الرسل تحملوا الإهانة في صمت بل
بالحري خرجوا فرحين لأنهم حسبوا أهلاً لأن يهانوا من أجل الاسم العظيم. ولم يكن
موقفهم هذا مجرد "مقاومة سلبية" بل طاعة مقدسة واحتمالاً لنتائج بلا
تذمر بل بسرور فائض. إذن فالطاعة تفترض كسر الإرادة الذاتية والخضوع لكلمة الله
وبالتالي لله نفسه. والواقع أنه لا يوجد تواضع حقيقي بدون الطاعة، ومع ذلك فالطاعة
هي التي تسلح النفس بالقوة والشجاعة ضد جميع عوامل الجذب المضادة وتعطي ثباتاً
ورسوخاً لأضعف قديس ضد كل عدو أو خصم. هذا ما نراه في المسيح نفسه، ذاك الذي أكرم
المكتوب إكراماً كاملاً والذي يجب على المسيحي أن ينهج على قياسه. إن الطاعة تركز
الذهن على مشيئة الله وتغار على صون سلطانه في كل ما نطق به فمه عالمة أن له وحده
الكمال الإلهي المطلق في الجلال والقداسة والحق والأمانة – ذلك الكمال الذي ظهر
بتمامه في الكسيح الذي هو صورته.

 

لكن
المحبة ليست هي هذه الناحية من الطبيعة التي نسميها الطهارة ولو أنها لا تنفصل
عنها – تلك الناحية التي عبر عنها تعبيراً قوياً بالنور الذي من خصائصه أن يظهر
ذاته كما يظهر كل إنسان وكل شيء آخر أينما أضاء. أما المحبة فهي نشاط اللاهوت في
صلاحه الذاتي ليس فقط بالنسبة للذين لهم به علاقة أو تجانس بل هو صلاح يتخطى كل
الحواجز وبالنعمة الكاملة يخلص أشر الخطاة الذين يقبلون المسيح ويحررهم من أفظع
الشرور بفضل الفداء بدمه، وبالحياة الأبدية التي هي في الابن ولكنها أعطيت للمؤمن
كحياته الجديدة وبالروح القدس الذي يقوده من تلك اللحظة كابن الله ويعمل فيه وبه
في وحدانية جسد المسيح، والكنيسة، بينما هو ينتظر رجوع سيده ليأخذه لنفسه ويدخله
مع جميع القديسين السماويين إلى بيت الآب في الأعالي ونستطيع أن نقول إن جاز هذا
التعبير أنه إن كانت الطاعة في النور بمثابة القوة المركزية الجاذبة في المسيحي
فإن المحبة هي القوة المركزية الدافعة، باعتبارنا متمثلين بالله كأولاد أحباء
وسالكين في محبة كما أحبنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة
طيبة.

 

ليت
الرب يباركنا حتى تتم فينا، لا العلامة الأولى فحسب، بل أيضاً العلامة الثانية أي
المحبة التي هي عامل النشاط في الطبيعة الإلهية. ولنذكر أن القديسين التسالونيكيين
كانوا حديثي الإيمان ومع ذلك فقد كتب إليهم الرسول يقول "أما المحبة الأخوية
فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم
بعضاً" (1 تس 4: 9). أما نحن فقد قطعنا في الطريق شوطاً أطول مما قطعوا.
فليعطينا الرب نعمة ونحن متعلمون من الله نزداد في المحبة أكثر. عالمين أن الشكر
يتبع المحبة دائماً، وأن المحبة التي ليست من هذا النوع لا تزيد عن كونها
"لطافة" كما يسميها الناس أو روحاً طيبة كريمة لا تريد أن تتعب أو تتعب
غيرها ومستعدة أن تدع كل إنسان وشأنه. وهو يحسبون ذلك محبة!! ليت الرب يساعدنا
لتمييز وإدراك ما لروح الله.

 

الخطاب
السادس

1 يو
2: 12 و 13

"أكتب
إليكم أيها الأولاد لأنه قد غفرت لكم الخطايا من أجل اسمه. أكتب إليكم أيها الآباء
لأنكم قد عرفتم الذي من البدء. أكتب إليكم أيها الأحداث لأنكم قد غلبتم الشرير.
أكتب إليكم أيها الأولاد لأنكم قد عرفتم الآب".

 

هنا
نرى الرسول يتحول وقتياً عن مجرى حديثه السابق الخاص بامتحان حقيقة الحياة الأبدية
والشركة مع الآب والابن بدليل أنه يستأنف نفس الحديث من العدد الثامن والعشرين من
نفس الإصحاح حيث نرى ذات الموضوع الذي كان أمامنا ابتداء من العدد الثالث إلى العدد
الحادي عشر وهو الخاص بالمبدأين العظيمين اللذين يميزان المسيحي الحقيقي عن أي شيء
آخر، وهما الطاعة أولاً كما رأينا ثم المحبة، وكلاهما شيئان رئيسيان وجوهريان ولو
أنه لا سبيل إلى المقارنة بينهما سوى أن الطاعة تأتي أولاً إذ هي طاعة لله، والله
لابد أن يكون له المكان الأفضل والأسبق في كل شيء أما المحبة التي هي موضوع الكلام
هنا فهي ليست المحبة لله بل محبتنا لإخوتنا. ومع أن هذه المحبة مبدأ جوهري من
أركان المسيحية، وانعدامها هادم لكل اعتراف مسيحي، إلا أن طاعة الله لها الأسبقية
على محبتنا لإخوتنا وفي ظروف وقت واحد حينما تحصل النفس على الحياة الأبدية
بالإيمان بالرب يسوع. فمن تلك اللحظة ليست "أنا" القديمة هي التي تحيا
بل المسيح هو الذي يحيا فيّ، الأمر الذي يصدق على كل مسيحي بلا استثناء.

 

هذا
هو سياق المناقشة السابقة. أما هنا فبعد العدد الثاني عشر التمهيدي نجد التدرج الروحي
بين المسيحيين، وذلك من العدد 13 لغاية 27. غير أن الرسول قبل أن يتناول هذا
التدرج يحرص في العدد 12 على وضع جميع المسيحيين على أساس واحد مشترك مخاطباً
إياهم جميعاً بهذا اللقب العائلي الجميل "أيها الأولاد" مشيراً إلى
امتيازهم المشترك كمقدمة أو تمهيد للكلام عن طبقاتهم المختلفة تبعاً لاختلاف
تطورهم أو نموهم الروحي. لأنه وإن كانت كلمة الله كاملة الآن، وإن كان التطور أو
النمو أمر لا ينطبق على المسيح إذ هو كامل كمالاً مطلقاً، فإنه قد يوجد بل لابد أن
يوجد نمو في الشخص المسيحي بقدر نموه في معرفة الله. غير أن الرسول بروح النعمة،
وقبل الدخول في الكلام عن الفوارق الخاصة بين المسيحيين، يطالعنا بالأساس الذي
يضعنا عليه إيمان الإنجيل حيث نتساوى جميعنا وذلك منذ اللحظة التي تطأ فيها
أقدامنا عتبة اعترافنا المسيحي. ولاشك أنه من المفيد والممتع أن نعرف الخطوة
الأولى التي يخطوها المؤمن فور حصوله على الحياة وبعد ظهوره مبدأي الطاعة والمحبة
مغروسين في نفسه جنباً إلى جنب مع الحياة، بل متضمنين في صلبها. وهل من أحد عرف
المسيح الرب يمكنه أن يشك لحظة في أنه له المجد كان دائماً مطيعاً وكان دائماً
سالكاً في المحبة؟ والمسيحي من حيث المبدأ لا يمكن أن يكون منفصلاً عن المسيح إذ
هو روح واحد مع الرب، وهو مديون له بكل شيء، والمسيح بالنسبة له هو الكل في الكل
(كو 3: 11).

 

فما
هو هذا الامتياز الأول الذي يجب أن يعرفه ويتمتع بع المسيحي من بادئ الأمر؟ هو
غفران الخطايا ويا له من امتياز هام خطير. ولكن مما يؤسف له أن هذا الامتياز
الأولي قد يكون دائماً محققاً لعدة أسباب مع أن الإنجيل يعلن غفراناً حاضراً
وكاملاً للمؤمن بواسطة الإيمان بالمسيح وعمله. والواقع أننا نرى كثيرين من
القديسين يفوتهم التمتع الكامل بهذا الامتياز المسيحي الذي هو حق من جميع أفراد
بيت الله، ذلك الحق الأولي المشاع بين الجميع بلا استثناء. وليست هذه الحالة
المحزنة بنت اليوم ترجع في تاريخها إلى سنوات كثيرو جداً. بل قل منذ أن ترك الرسل
هذه الأرض. فإنه سرعان ما اقتحم النقاش الإنساني ميدان نعمة الله المخلصة فأخضعها
إلى اشتراطات ناموسية مقوضاً بذلك دعائم حقيقة غفران الخطايا الكامل وجاعلاً إياه
هدف المسيحي الأخير عوض أن يكون نقطة ابتدائه. وبالاختصار انتشرت الضلالة الغلاطية
في أرجاء المسيحية الاسمية ولازالت منتشرة رغم أصوات النذير والدحض التي اهتزت بها
عواطف الرسول الثائرة في تلك الرسالة (رسالة غلاطية)، ووقع الإنجيل تحت الناموس
الذي يقدم الحياة دائماً كشيء ينبغي أن نعمل للحصول عليه أو الاحتفاظ به. وكهذا
يرجع الإنسان إلى اليهودية إذ يكون قد هجر نعمة الإنجيل، فإن من مضامين بشارة الله
أن يبدأ المسيحي بالنعمة الإلهية فينال بالإيمان الحياة في المسيح وكذلك كفارته
لخطايانا. ولئن كانت شعلة الحياة لا يمكن أن تنطفئ فإن ممارستها والتمتع بها قد
تعطل بواسطة الضلالة التي تؤجل أو تخفي غفران الخطايا فتجعل الناس يجاهدون للحصول
عليه وتكون النتيجة أنهم يئنون لعدم نوالهم إياه وهكذا يقضون حياتهم فريسة للشكوك
والمخاوف.

 

إن
تساؤل الإنسان "هل أنا للمسيح أما أنا لست له؟" هو تساؤل غير لائق
بالمسيح ومؤسف لصدوره من المسيحي ومع ذلك – وهنا وجه العجب والغرابة – نرى
الكثيرين من المسيحيين المخلصين يتمسكون به. ومما يزيد الأمر غرابة أن هذا التردد
والتشكك ليس ديدن الكنائس التقليدية فقط بل قد سرت عدواه في صفوف الكلفنيين (أي
الكنائس المصلحة) أيضاً. فهناك من يذهبون إلى حد القول "إن أنت لم تشك في
نفسك فأنا أشك فيك". فهل يوجد تعليم أضيق أو تطرفاً من هذا؟ ومع ذلك فهؤلاء
هم الذاتيون الذين يدينون كل واحد ما عدا أنفسهم. مع أنهم لو حكموا على أنفسهم
لارتموا في أحضان نعمة الرب يسوع ونسوا ذواتهم في غنى صلاح الله فيه.

 

والحق
أن نعمته تقوى أكثر من أي شيء آخر تحت خضوع النفس لتعليم الروح القدس. فقد ضمن
المسيح غفران خطايانا بدمه الذي يطهرنا من كل خطية. هذا ما يعلنه الإنجيل لكل
مخلوق لكي يؤمن به، بحيث أن الدعوة يمكن أن توجه بالحق والبر والمحبة والمثابرة
لأشر الخطاة على الأرض لكي يؤمنوا بالمسيح ودمه الثمين لمغفرة خطاياهم، فإن الكتاب
يعلن ويؤكد أن هذا يمكن نواله بواسطة عمل المسيح ليس على أساس نعمة الله فقط بل
على أساس بره وعدله أيضاً. غير أن الواقع هو أنه يوجد الكثيرون من المسيحيين الذين
يؤمنوا بالرب يسوع ولكنهم لا يدركون أن عمله على الصليب يعطيهم الحق في غفران حاضر
وكامل. فإذ هم يؤمنون به يضعون بينه وبينهم، وفضلاً عن ذلك تراهم منزعجين بصفة
خاصة بسبب إحساسهم بالخطية الساكنة فيهم. وهم معذورون في هذا الأمر الأخير لأن
الخطية في الجسد مشكلة عويصة تتعب على المؤمنين قبل وبعد بداءة الطريق. فمع أنهم
متجددون حقيقة لكنهم يجدون بالاختبار أن في داخلهم شراً هو في الواقع أعمق مما
كانوا يتصورون، ويدهشهم أن يعلموا أنه قد جاء الوقت ليتحققوا من ذلك بالحزن
العميق. على أن إشراق نور الحياة في نفوسهم هو الذي جعلهم يحسون بتلك الذات التي
تلازم طبيعتهم القديمة.

 

عندئذ
يدرك المؤمن بالنعمة أنه ليس فيه فقط الإنسان الجديد الذي توقع أن يكون وحده فيه،
بل الإنسان العتيق أيضاً وبصورة نشطة، إذ هو يسعى دائماً للظهور، ومن أجل ذلك
يحتاج القديس لأن يضبط ذلك الإنسان العتيق ويضعه بالإيمان في مركز الموت الذي هو
صليب المسيح حيث دانه الله فيه. ولا شيء سوى ذلك يمكنه أن يسوى بصورة قاطعة حساب
الإنسان العتيق – موت المسيح دون سواه. إن دمه الكريم قد سوى حساب خطايانا وإثمنا،
ولكن موته الكفاري يتناول ما هو أكثر من الخطايا الفعلية. ففي موته قضي على اهتمام
الجسد بأكمله، إذ فيه دان الله الخطية في الجسد بواسطة الذبيحة عن الخطية، ليس فقط
عن الخطايا بل عن الخطية الساكنة في الجسد. وهذا يتعلمه القديس ليس فقط بالإيمان
بل بالاختبار أيضاً.

 

كثيرون
من القديسين، إن لم يكن معظمهم، ينزعجون بعد التجديد حينما يصطدمون بوجود الخطية
الساكنة فيهم حتى بعد أن آمنوا بالمسيح. ففي غمرة فرحهم بالحصول على مخلص كامل لا
يدركون أن خطاياهم قد محيت محواً تاماً وأن عليهم أن يختبروا في داخلهم شراً
كامناً لم يزعجهم من قبل بمثل هذه الصورة. فإذا لم يعالجوا هذا الاختبار بموت
المسيح فأي شيء آخر يمكن إضافته عليه؟ وما الذي عالج الخطية أكثر من موت المسيح؟
إن رسالة العبرانيين تقدم لنا دراسة قوية وبحثاً عميقاً في عمل المسيح.، وخلاصة
هذه الدراسة التحليلية العظيمة هي هذه: كما أنه لا يوجد سوى مخلص إلهي واحد، كذلك لا
توجد سوى ذبيحة فعالة واحدة، وإن كان الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك فهذا معناه أنه
لابد للمسيح أن يتألم مراراً ولكن هذا نكرا لحقيقة صليب المسيح وإلغاء لعمله كمن
مات مرة لأجل الجميع وكمن "لا يسود عليه الموت فيما بعد" كما لم تسد
عليه الخطية قط. ولكن الخطية الساكنة فينا حتى بعد إيماننا بالنعمة، كان لابد لها
أن تدان وقد دينت فعلاً في صليبه فما نحتاجه من جهة الخطية الساكنة فينا هو إدانة
الله لها، وهذا عين ما فعله الله في موت المسيح على الصليب، فإن نيران الدينونة في
ذبيحة الخطية كان ينبغي أن تحرق الخطية أمام الله طبقاً للرمز المعروف. وهكذا
يعطينا العهد الجديد الحق الكامل للصور التي كان يقدمها العهد القديم جزئياً في
الرموز. فإن جميع تلك الرموز، وما يزيد عنها بكثير مما لا يستطيع أي رمز أن يصوره،
تمت كلها في المسيح وعمله المبارك.

 

ويتخذ
الرسول هذه الحقيقة المباركة المفروغ منها وهي حقيقة غفران خطايا القديسين غفراناً
كاملاً أساسياً لكتابة رسالته ويبني على هذا الأساس حقائق أخرى كثيرة. وهو لا
يدعوه سببه الوحيد ولكنه على كل حال يقول أنه الباعث على الكتابة إليهم. ونحن
الذين أتينا بعدهم نستطيع القول أن هذا الباعث على الكتابة إليهم. ونحن الذين
أتينا بعدهم نستطيع القول أن هذا الباعث الذي دعاه للكتابة إليهم لازال قائماً بكل
ما فيه من فائدة لنا. فكل تعليم مسيحي، وكل تعليم للقديسين، مبني على هذا الأساس
وهو أن لنا بالنعمة غفران الخطايا، أو بعبارة أخرى أن خطايانا قد غفرت لنا من أجل
اسمه. ولن نكن واقفين على الأساس المسيحي الصحيح إلا متى قبلنا من الله أن خطايانا
مغفورة بفضل المسيح "أكتب إليكم أيها الأولاد" – وهو هنا يضم جميع عائلة
الله التي سيتكلم عنها الكثير بعد قليل – "لأنه قد غفرت لكم الخطايا من أجل
اسمه" كلمات ما أبسطها! وفي الواقع ليس هناك من شيء أهم من هذه الحقيقة
ليعرفها المؤمن شخصياً من بدء الطريق إن أراد أن يكون له الغبطة الكاملة. هي
الحقيقة التي يبدأ بها المؤمن نهاره، والتي يجب أن يحملها في طيات قلبه طوال يومه،
وأن يستبقى لذة التفكير في يقينها المشبع المعزي كآخر مرحلة من مراحل جولات عقله
الواعي قبل نومه. نعم فإن خطايانا هي حقاً مغفورة من أجل اسمه الكريم الغالي. وما
من خوف تاعس يخيم علينا، أو سحابة غيم تعكر صفو حياتنا مادامت الأخبار الطيبة التي
تلقيناها ونحن بعد في حالة فجورنا قد أكدت لنا من جانب الله أن خطايانا قد غفرت
عند إيماننا ومن ثم فإنها زراية كبرى بالإنجيل وإهانة بالغة للرب يسوع أن نرتاب من
جهة هذه الحقيقة، فإن إحساساً كهذا إنما يدحض أقوال الله الواضحة. وهل هناك ما هو
أوضح من الكلمات التي أمامنا؟ وأليس هذا الأساس ثابتاً وباقياً؟ أم هل نحن تحت
مواعيد وقتية وشرطية نظير إسرائيل قديماً تحت الناموس؟

 

لقد
نادى بطرس بغفران الخطايا منذ أيام الكنيسة الأولى إذ قال "له يشهد جميع
الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال غفران لخطايا" وقد نال عطية الروح القدس جميع
الذين آمنوا من الأمم كما نالها قبل ذلك جميع الذين آمنوا من اليهود. والمعروف
الواضح أنه لا يمكن نوال هذا الختم الإلهي بدون معرفة غفران الخطايا والتحقق منه
(قارن أع 11: 17) وبعد ذلك أعلن بولس في مجمع أنطاكية بيسيدية هذا الحق عينه إذ
يقول "فليكن معلوماً عندكم أيها الرجال الإخوة أنه بهذا ينادي لكم بغفران
الخطايا، وبهذا يتبرر كل من يؤمن من كل ما لم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس
موسى" (أع 13: 38).وهكذا نرى الرسولين العظيمين، رسول الختان ورسول الغرلة
يعززان ويؤيدان ما يؤكده آخر الرسل في نهاية العهد الرسولي لمواجهة المضللين
المتزايدين في عملهم الأثيم الشرير. ومما يجدر ملاحظته أن الرسول لا يعلن الامتياز
للقديسين لكي يعلموا أن خطاياهم قد غفرت من أجل اسم المسيح ولكنه يكتب الرسالة
إليهم لأن خطاياهم قد غفرت. فلو أنها لم تكن مغفورة لسقط الأساس المفروض واللازم
للمسيحي وبدون اليقين بهذه الحقيقة لا يمكن أن يكون هناك سلام مع الله ولا تكون
النفس مؤهلة لاقتبال أية إعلانات إلهية أخرى والاستفادة منها.

 

إن
حروف الشرط لا مكان لها في هذا الميدان. صحيح أنها ضرورية في مكانها في الكتاب
ويجب مراعاتها وعدم التخلص منها أو الدوران حولها حيث توجد، ولكنها هنا لا مكان
لها لأن أي شرط يدخل في الإنجيل يسيء إليه إساءة بالغة بل يهدم هدماً كاملاً
طبيعته وصفته وغايته. فإن بركة الفداء (مهما كانت النعمة التي تأتي بها والمسئولية
الجديدة التي تترتب عليها) إنما تتوقف لا على المفديين بل على الفادي. ليس أبسط من
هذا الحق الذي يعلنه الوحي في كلمات قليلة. ومن شأن الإيمان أن يقبل ما يعلنه ن الله.
وقد عني تبارك اسمه عناية لا مزيد عليها بأن يعلن هذا الحق الجوهري ليس فقط بفم
الرسولين العظيمين بطرس ورسول الختان وبولس رسول الغرلة بل كذلك بفم يوحنا آخر
الرسل جميعاً. وهكذا بقي حق الإنجيل حتى "الساعة الأخيرة" جديداً إلى
النهاية كما كان عند البداية. بقي هو كما في الكتاب لم يتأثر بخراب الكنيسة العملي
ولا بتلك الكارثة الرهيبة التي أشار إليها الرسول بولس قبل ذلك وهي مجيء
"الارتداد" قبل يوم الرب المخوف بالدينونة. هذا ما أعلنه في الرسالة
الثانية لأهل تسالونيكي وهي (ورسالته الأولى كما نعلم) من أوائل ما كتب الرسول
بولس ولو أن الرسالة الثانية كتبت بعد الأولى ليس بوقت طويل بل ربما في نفس السنة.
هناك يتنبأ الرسول عن نهاية الإثم الرهيبة ووصوله إلى غايته القصوى وهي الارتداد
عن الحق وذلك ليس من جانب اليهود أو الوثنيين بل بكل أسف من جانب المسيحيين
بالاسم. فإذا ما تحقق الاتحاد الكنسي الذي ينشده البعض كانت هذه بكل أسف بوادره
وكانت هذه الخاتمة صفته وظهره.

 

لقد
أرتد اليهود من قبل، يوم أن انحرفوا عن الرب إله آبائهم وتحولوا إلى الأوثان ثم
توجوا ارتدادهم برفض مسياهم الرب يسوع. هذا يمكن أن يسمى ارتدادهم ولو أنهم
سيتقدمون إلى عداوة أكثر قبل النهاية. أما الوثنيون فقد كانوا دائماً في حالة
الارتداد عن الله منذ أن أقاموا آلهة كاذبة لأنفسهم. أما النهاية الرهيبة التي
تعلنها الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي فهي أن الارتداد سيقع من جانب المسيحية
قبل مجيء يوم الرب وما على القارئ إلا أن يلقي نظرة على الصحف اليومية أو
الأسبوعية أو الشهرية ولاسيما التي تصدر في الخارج في أيامنا الحاضرة فيرى في
المجلات الدينية أو الصحف العالمية الدليل على اقتراب الارتداد، فإنها جميعاً لا
تستطيع أن تخفي الاستعداد له بالحري تكشف عنه.

 

وما
كان "النقد الأعلى" الكاذب الاسم إلا خدعة إبليسية لذر الرماد في عيون
الناس من جهة الكتاب. فأين هي كلمة الله التي تركوها للإيمان؟ وإذا كانوا ينكرون
على الكتاب أنه كلمة الله، فأين الكنيسة وأين المؤمن أو الخاطئ الهالك؟ بل أين
المسيح الرب وشهادة الله لنعمته وحقه؟ الوقع أنهم بذلك يهدمون كل أساس للإيمان فإن
إحاطة كلمة الله بالغموض والشك وجعلها كلمة إنسان مهماً كان دون أن تكون كلمة الله
معناه فقدان الإنسان لمحبة الله ونعمته المخلصة، وقوته الضابطة التي صانت اليد
البشري عن إحداث غلطة واحدة في كتابه المجيد حتى لا توجد أقل ثغرة في كل الكتاب كما
هو معطى منه تعالى. هذا ما قصده الله، وهو عين ما أعلنه الرسول بولس بسلطانه
الرسولي في آخر رسائله (تيموثاوس الثانية) وقد كان وقت كتابة هذه الرسالة هو الوقت
المناسب أيضاً لإعلان هذا الحق حيث يقول الرسول بولس ليس أن كل الكتاب في مجموعه (
All Scripture) موحى به من الله
بل أن كل الكتاب (
Every Scripture) بمعنى
أن كل جزء من الكتاب المقدس، كل جزء من العهد القديم وكل جزء من العهد الجديد، كل
حرف وكل كلمة فيه هي من نسمة الله. وشكراً لله لأن الأمر كذلك. وهل يستطيع الله أن
يكذب؟ وهل الله في حاجة لأن يندم أو يغير رأيه؟ ولكن ما أشر الإنسان وبخاصة في
العالم المسيحي! فإنه لأمر يكسر القلب حقاً أن نرى هذه الموجة من التشكك غير
المحكوم عليها من جميع الطوائف كبيرها وصغيرها. فليس بواحدة منها خالية من آثار
ذلك التشكك قل أو كثرى لاسيما في قادتهم أو البارزين من رجالهم.

 

ولكن
دعنا من المتشككين ولنرجع إلى كتابنا الحق المبين. ففي العدد الثاني عشر إذن نجد
الامتياز العام الأولى المفروض أنه من نصيب كل مسيحي. وهو ليس مجرد الحصول على
الحياة لأن جميع قديسي العهد القديم كانوا حاصلين على الحياة ولو أنه لم يكن
ممكناً لواحد منهم مع حصوله على الحياة أن يقول أن خطاياه مغفورة من أجل اسمه فلم
يكن المسيح قد جاء ومن باب أولى لم يكن قد تألم. ولم يكن العمل الفدائي قد تم
وبالتالي لم يكن ممكناً إعلان النعمة إعلاناً كاملاً. أما الآن فكل شيء قد تم تهيأ
حتى ليقال أن المسيح على استعداد لأن يدين الأحياء والأموات. فيليق بالرسول والأمر
كما أوضحنا أن يقول "أكتب إليكم أيها الأولاد لأنه قد غفرت لكم الخطايا من
أجل اسمه" الأمر الذي لم يكن ممكناً قبل مجيئه والكلمات من أجل اسمه لها
دلالاتها الخطيرة فلم يكن من الضروري أن يوضح الرسول من هو الذي يعود إيه الضمير هنا،
فكل مسيحي يدرك ذلك على الفور. لقد أعلنت نعمته وحقه وسيظل إعلانهما ثابتاً
والمراد "باسمه" هنا ما أعلنه الله عنه وعن عمله ويدخل ضمن ذلك ليس فقط
ما كان الرب هنا على الأرض بل أيضاً ما تألم به وأكمله قبل أن يترك العالم ليمضي
إلى الآب، وقد نزل روح الله إلى الأرض بناء على طلب سيدنا كما من جانب الآب أيضاً،
ليس فقط لغنى بركة القديسين بل لتمجيده تبارك اسمه، ولكي تنشر الكرازة بالإنجيل
لكل الخليقة في قوته فلا يخيب شخص من سماع صوته المبارك.قد يرفض الكثيرون أن
يسمعوا الكرازة بسبب عدائهم أو إهمالهم وهذا شأنهم المحزن وهم أحرار فيه ولكنهم
سوف يعطون عنه حساباً. ولكن البشارة مع ذلك تمضي في طريقها متجهة إلى الجميع:
لليهودي واليوناني، للختان والغرلة، للبربري والسكيثي، للعبد وللحر. ولا واحد
استثنى من كلمة مصالحة الله. وهذا على أساس بره وليس نعمته فقط. عندما يعمل الضمير
في القديس إذا انحرف فإنما ذلك متعلق بمسألة القداسة الشخصية العملية إذ يكون
والحالة هذه محتاجاً إلى رد الشركة التي عطلتها الخطية. أما المصالحة مع الله فلا
يمكن لإنسان أن يجتني منها بركة، ما لم يؤمن بالمسيح بالنعمة الإلهية وهذا يقتضي
عمل روح الله في الضمير والقلب. ومع ذلك فإنه بالإيمان بكلمة الله يعمل الروح
القدس هذا العمل الإحيائي.

 

أما
بين القديسين في كنيسة الله، أينما كانت، فالمفروض أن جميع من فيها قد علموا أن
خطاياهم مغفورة. وإلا فكيف يتسنى لهم كأفراد أن يتمتعوا بالغبطة قدام الله؟ ومن
أين تتأتى لهم بساطة العين لتمييز مشيئته والشجاعة لإتمامها رغم كل الشراك التي
تنصب في طريقهم من العالم والجسد وإبليس؟ وكيف تكمل لهم الشركة الحقيقية في
السجود؟ وكيف تتم لهم الأهلية للمساهمة في التزام الجماعة لمعالجة الشر ونزعه من
وسطهم إن تحتم ذلك كالحل الأخير؟ إنهم بدون اليقين بأن خطاياهم مغفورة لا يتسنى
لهم أن يفهموا أن "خميرة صغيرة تخمر العجين كله" ولا أن يتصرفوا بحزم
على هذا الأساس، فإن انعدام التمتع بالغفران لا يتضمن ضميراً شريراً فقط بل يتضمن
أيضاً أن صاحب هذه الحالة لم يتطهر قط من الأعمال الميتة ليعبد الله الحي، وبذلك
يخسر القوة الروحية لأن الشك لا يمكن إلا أن يضعف النفس ويحيطها بالظلام ولكن
حينما يتمسك الإيمان بالنعمة التي تهب التطهير بدم المسيح فإن الروح القدس يشعر
المؤمنين بواجبهم الرئيسي كجماعة وهو أن "نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي
تكونوا عجيناً جديداً كما أنتم فطير" فالتصرف يجب أن يكون دائماً طبقاً
للمبدأ الإلهي وإلا فإن الجماعة تسيء إلى الاسم ولا يكون الغرض من وجودها إلا
نكران وإهانته "لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا. إذاً لنعيد ليس بخميرة
عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطيرة الإخلاص والحق".

 

صحيح
أنه قد يبدو شيء من الفشل المحزن كما ظهر بين الكورنثيين حيث لم يكن هناك أقل شل
في أن جميع المسيحيين بالحق حاصلون بالإيمان بالإنجيل على غفران خطاياهم، ولكن نفس
هذا الفشل هو ما تعالجه الرسالة وبدون يقين الغفران لما أمكن تطبيق مضامين الرسالة
عليهم لأنها لا توجه خطابها إلى الأشخاص غير المفغورة خطاياهم من بينهم، فإن أمثال
هؤلاء ليسوا قائمين على أساس المسيحية، ومن باب أولى ليسوا من الكنيسة.

 

وأين
تجد التشديد حتى على هذا الأمر، أي عزل الخبيث من بين الجماعة؟ إن حركة الإصلاح لن
تتطلبه كشيء لازم للجماعة (إذ جازت لنا الإشارة إلى "الجماعة" أو
الكنيسة في ذلك العهد) لأن تلك الحركة لم يكن همها يومئذ الترتيب الكنسي على
الإطلاق، وإنما قامت بخدمة جليلة وخطيرة كانت الحاجة إليها أمس وأدعى، وهي أنها
قدمت الكتاب للناس بعد أن كان مستبعداً عنهم وبخاصة بواسطة أكثر الهيئات الدينية
كبرياء وصلفاً، وهي الهيئات أو الشركات التي تسمي نفسها كنائس دون أن يكون لها
الحق في هذه التسمية. نعم فقد ظل الكتاب مخفياً أزمنة طويلة. وما كان إلا للكاهن
أن يمنح الإذن بقراءته وقلما كان يعنى بإعطاء هذا الإذن أو الترخيص الذي لم يكن
ممكناً للشعب أن يحصل على الكتاب إلا به.

 

مرة
اشتاق أحد الأشخاص في لندن أن يقرأ العهد الجديد، ولكونه من أتباع روما وممن يطلق
عليهم لقب "كاثوليكي صالح" لم يشأ أن يكسر قانون "الكنيسة"
الذي يحرم ذلك كقاعدة عامة، ولو أنه لا يحرم قراءة الإنجيل باللغة اليونانية، ومن
هنا استطاع بهذه الطريقة الدائرية أن يفوز بأمنيته. ومع أنه كان يشتغل بوظيفة
ملاحظ في مصنع (ونحن نعلم ما تنطوي عليه مثل هذه الوظيفة ومبلغ المسئولية التي
تلقيها على عاتق شاغلها والوقت الذي تتطلبه للقيام بواجباتها) فإنه تعلم اللغة
اليونانية ليتمكن من التمتع بكلمة الله بطريقة مباشرة. وقد أخيرني بقصته صاحب
المصنع الذي كان مسيحياً معروفاً ومحترماً وكان يثق كل الثقة بمخدومه الغيور
الأمين. وفي الحق كان ذلك إحساساً مسيحياً من شخص روماني يناضل ضد طغيان وجبروت
تلك "الكنيسة" وغيرتها الكاذبة المستمدة من سلطانها المزعوم. ولئن لم
يكن لديه القدر الكافي من النور للحكم على شرها فقد حمل بين جنبيه حنيناً ورغبة
ملتهبة نحو كلمة الله الأخيرة وقد تحمل صنوفاً من الجهد والتعب للحصول عليها، ونحن
نرجو في الرب أن يكون قد بارك تلك الجهود لنفسه. ولا يسعني أن أزيد على ما وصل إلى
مسامعي، غير أني أذكر ما قصه علي صاحب العمل من أنه لم يوجد بين جميع عماله من كان
يركن إليه لأمانته وإخلاصه في العمل أكثر من ذلك الروماني المسكين الذي تعلم اللغة
اليونانية حباً في التمتع بالعهد الجديد كما أعطي من الله. ومن منا يشك في أنه كان
يخاف الله ويحب كلمته؟

 

وأخيراً
نأتي إلى درجات المؤمنين المختلفة بعد أن استوثقنا مما هو مشترك بينهم جميعاً.
الفريق الأول هم الآباء "أكتب إليكم أيها الآباء" أي البالغين الناضجين
في القوة الروحية والمعرفة. وأليس هذا خليقاً باهتمامنا البالغ؟ ماذا يا ترى يقول
الكتاب للآباء الذين وصلوا إلى ذروة الاختبار؟ لا شيء عن الأمور الإدارية أو
العقائد الدينية وإنما الشيء الوحيد الذي يميز البالغين بين المؤمنين هو عمق
الدخول الروحي في فكر الله عن المسيح. نعم فإن قياساً أسمى في إدراك الرب يسوع هو
الذي يكون الآباء الروحيين الذين يتكون منهم الفريق الأول في عائلة الله. هناك
فريق "الآباء" ثم فريق "الأحداث" وأخيراً فريق
"الأولاد". وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكلمة في الأصل اليوناني المترجمة
"أولاد" في عدد 12 هي غير الكلمة الثانية معناها "الأولاد الصغار
أو الأطفال". والرسول يحرص عل مراعاة هذا الفارق في سياق الرسالة كلها.

 

فالكلمة
الأولى (أي "أولاد" في عدد 12) تعني كل عائلة الله وتمهد الكلام عن
درجاتهم المختلفة في العبارات المعترضة (الواقعة بين العددين 12 و 27)والرسول يعود
لاستخدامها في العدد 28 بعد أن فرغ من الكلام عن درجات المؤمنين المختلفة. ذلك أن
الرسول بعد أن تحدث عن هذه الدرجات الثلاث عاد إلى موضوعه الذي كان قد توقف بعض
الوقت عن الاستطراد فيه لكي يبين لنا الفوارق القائمة بين أولاد الله من حيث
البلوغ الروحي على نفس أساس عمل النعمة، وهو النوع الوحيد من الفوارق المعترف بها.
أما الكلمة المستعملة في الأعداد الاعتراضية، أي التي نجدها في الجزء الأخير من
عدد 13، فهي كلمة تختلف عن الأولى كما سبق القول ولم ترد في الرسالة كلها إلا في
هذا الموضع وفي مطلع عدد 18 حيث يوجه الرسول كلامه للمرة الثانية إلى فريق الأولاد
الصغار أو الأطفال كما فعل مع الفريقين الأولين أي الآباء والأحداث. هذان هما
الموضعان الوحيدان اللذان جاءت فيهما هذه اللفظة. ولقد استخدم سيدنا هذين
التعبيرين في الإنجيل إذ لا علاقة له بموضوع الرسالة وليس من حق أي إنسان أن يبدي
رأياً في شيء أخبرنا به الله بكل وضوح كما أنه لا يوجد أي مجال لاختلاف وجهات
النظر والحكم في شيء من هذا القبيل لأن الله في كلمته هو، كما يجب أن يكون، صاحب
القول الفصل في كل مجادلة.

 

إذن
ففي العدد 13، كما في عدد 18 فقط، يقصد بكلمة "أولاد" أصغر أعضاء عائلة
الله. ومن الطبيعي أنه بعد الكلام عن "الآباء" و "الأحداث"
يأتي دور "الأولاد" وهو القسم الثالث من "الأولاد الأحباء" أو
عائلة الله بوجه عام. ومن الضروري أن نميز بينهم على وجه ما، لاسيما وإن انعدام
هذا التمييز قد عرض الكثيرين من أبرز الرجال المتعلمين إلى الخطأ هنا، ولا مفر من
هذه النتيجة مادام عملهم ليس خاضعاً للحق المعلن وبالتبعية ليس متمتعاً بإرشاد
الروح القدس طبقاً للكلمة. وحيث يكون الأمر كذلك بكل أسف، فإن العلم عوض أن يكون
نافعاً قد يضر ضرراً بالغاً ولا يمكن أن يصنع خيراً. إذاً ما هو الخير الروحي في
شيء لا يدخله روح الله ولا يقود إليه؟ أما إذا كان روح الله ينطق بأقوال يعلمها
هو، فواجبنا الخضوع المطلق للكلمة. بهذا وحده تضمن يقين الإعلان المبارك.

 

وما
أوسع نطاق هذا العدد الذي يشبه سابقه في التركيب والوضوح. فهو يطالعنا بثلاث طبقات
عائلة الله، متميزاً إحداها عن الأخرى، وكل ذلك في إيجاز بديع. غير أن روح الله
يعود مرة أخرى فيتوسع في الكلام عن كل طبقة، ومع استثناء واحد عجيب، وذلك بطريقة
مليئة بالتعليم، ولا يتقنها غير روح الله، وسيعرض لنا التأمل فيها حينما يأتي
دورها.

 

ولنقنع
الآن بالتأمل في الكلمات الموجزة التي أعطاها روح الله بشأن مميزاتهم المختلفة في
(عدد 13).

 

فهو
يميز "الآباء" بأنهم "عرفوا الذي من البدء". وهل من أحد يجهل
من هو المقصود؟ إنه المسيح وليس آخر. ولكنه لا يسمى هنا باسمه المألوف. لقد كان
الكلمة والابن قبل الوقت المعبر عنه بعبارة "من البدء". كان ابن الآب
الوحيد منذ الأزل فكالابن الأزلي للآب الأزلي لا يستطيع العقل البشري أن يعرفه أو
يحده، ويجيء التجسد فيزيد بالضرورة في استغلاق السر عن كل بحث أو استقصاء. على أن
ذلك ليس سبباً يدعو بحال من الأحوال إلى عدم الإيمان بما هو فوق مستوانا. فهو معلن
دون ذرة من الشك. أما السبب في فشل الناس وضلالهم فهو أنهم يبدأون النقاش من
الإنسان إلى الله، وهي دائماً طريقة مضللة. فأنت يجب أن تبدأ من الله إلى الإنسان
إن أردت أن تكون في الحق. إذ من يعرف الحق سوى الله؟ ومن يستطيع أن يعلن الحق غير
الله؟ كما عمل في المسيح؟ لقد حرص يوحنا أن يقول في الإنجيل "في البدء كان
الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" فليرجع الفكر إلى الوراء جهد
استطاعته وليطو ما شاء من مراحل الماضي السحيق صوب أغوار الأزل وليتصور ملايين من
السنين، فهذه كلها ليست البدء ولن تصل به إلى البدء ولو أنه ليس من الصواب بطبيعة
الحال أن يتكلم الإنسان عن الأزلية بلغة السنين حيث لم تكن معايير الزمن قد وجدت
بعد. ومع ذلك ارجع بخيالك إلى أعماق تلك الأغوار التي لا معيار لها، فهناك كان
الكلمة، واعلم أنه لا بد لذاك الذي كان بشخصيته أيضاً "عند الله".

 

ثم هو
لم يكن فقط عند الله كأقنوم له ذاتيته المتميزة عن الآب والروح، بل كان الله. وليس
من خواص الله ما هو أكثر دلالة عليه وتميزاً له مثل كونه أزلياً فإذا لم يكن
أزلياً فليس هو الله.

 

غير
أن الرسول يعني هنا شيئاً آخر. فهو لا يقصد إلى معرفة سيدنا المجيد الذي كان في
البدء عند الله، بل معرفته "كالذي من البدء". وهذا البدء كما قلنا هو
بدء اتخاذه جسداً، الكلمة المتجسدة، في هذا العالم. هذه هي الحقيقة الجديدة على
الإطلاق فالفترة من البدء تحسب منذ إظهار نفسه كعمانوئيل، أو الله المتأنس. هذا هو
الذي عرفه "الآباء". فما الذي يمكنك معرفته عن الابن في الأزل سوى أنه
كان الابن الوحيد في حضن الآب موضوع لذاته الدائمة كما يحدثنا الإصحاح الثامن من
سفر الأمثال؟ ذلك ما كانه لما لم تكن خليقة ما في السماء أو تحت السماء، لا ملاك
ولا إنسان ولا ما دونهما من الكائنات. لم يكن هناك سوى الله المبارك – الآب والابن
والروح القدس كما نعرف الآن. وكانت هناك مشورات إلهية كان المقصود إعلانها فيما
بعد لنا نحن الذين نؤمن الآن. فما الذي نعرفه أكثر من هذا؟ لكننا إذا نظرنا إلى
"ذاك الذي من البدء" نجد فيه تبارك اسمه كل ما لنا أن نتعلمه ونعرفه.

 

وأين
نجد هذا الموضوع الذي لا حد له؟ نجده في العهد الجديد بصفة عامة، وفي الأناجيل
بصفة خاصة. هناك نجده على الأرض، ظاهراً كإنسان، ليس مجرد كائن بشري بل الله
وإنسان في شخص واحد، أقنوم إلهي بالحق والحقيقة. هناك نجده مولوداً من العذراء،
ليس فقط كالمسيا بل كابن الله الرب-الكائن الرب (مت 1: 21 و 23) حقاً ما أكثر ما
نتعلمه ولو عند مولوده! فإننا هنا نمس حقيقة شخصية عندما صار جسداً وإذا كانت
الأناجيل قد زودتنا بالكثير عن عهد طفولته، فهي قد حدثتنا أكثر عن عهد صبوته يوم
كان في سن الثانية عشرة. وما أبلغ الصمت الذي أسدل ستاره على جميع السنين من ذلك
التاريخ إلى سن الثلاثين! فلا أبواق تضرب، ولا طبول تدق، ولا احتفالات تقام، ولا
شيء من هذا القبيل كتذكار يوم الميلاد من جانب أي فرد سوى أمه الحقيقية وأبوه
الشرعي وربما بعض رفاقهم. لم يعرفه أحد وهو في صبوته كما لم يوجد له مكان في
الفندق يوم مولده وأنت تعلم أنه لا يوجد من هم أكثر دراية وفطنة لمعرفة مقادير
الناس ومبلغ وجاهتهم في العالم من أصحاب الفنادق وخدامها وها هوذا صاحب الفندق في
بيت لحم يعرف قدر كل واحد من مظهره. وها هو يعرف جيداً من يدفع حسناً ومن لا يدفع.
وها هو يتطلع إلى العائلة المقدسة وهي تدخل الفندق فيقول في نفسه: إن مثل هذا
القطيع من الناس يكفيه مذود البقر، أما المنزل "فليس لهما فيه موضع".

 

وإنه
ليأخذنا العجب من الاستتار الكلي الذي أحاط بتنقلات ذاك الذي كان لذة الآب ومسرته،
وهو يعمل على منضدة النجار مع أبيه الشرعي. ولكنه هناك كان يفعل مشيئة الله. ثم
"ألا ينبغي أن أكون في ما لأبي"؟ قال هذا عن وجوده في الهيكل جالساً
يسمع المعلمين ويسألهم. لم يمتط كرسياً ليعظ كما يفعل الآن بعض الصبيان الأغبياء
الذين يدفعهم رجال ونساء أغبى منهم، ولكنه جلس هناك في تواضع ووداعة يسمعهم
ويسألهم بمعرفة تفوق كثيراً معرفة كل معلميه. وألم يكن في ذلك شهادة لضمائرهم،
وليتعلموا كيف صار ذلك؟ فهاهم لا يرون فيه أي ادعاء. رغم علمه الغزير الوفير الذي
أدهشهم فإذا صار إنساناً لم يشأ أن يتعالى على الأوضاع الطبيعية والنمو المعتاد
فاحتفظ بمظهره كمجرد صبي، ولكن هذا الصبي هو الرب الإله، خالق الكون. هذا هو الشخص
الذي استقرت عليه نظرات الآب ليجد فيه كل ما يوافق فكره وعواطفه ليس فقط كأقنوم
إلهي بل بصفة خاصة كأقنوم إلهي صائراً إنساناً. صائراً إنسانا! الكلمة صار جسداً!
ما هذا؟ ودخل في العائلة البشرية! أي نعم. ومع ذلك فالإنسان كان لا يزال على عهده
القديم، أشر مخلوقات الله وأكثرها بطلاً وكبرياء. إن الحيوانات العجماوات تتمسك
بعاداتها وقد حافظت عليها والتزمت حدودها منذ أن مستها خطية الإنسان وجلبت عليها
الخراب والدمار. أما الإنسان وحده فهو الذي يتقدم من شر إلى شر، متدرجاً باستمرار
من رديء إلى أردأ من مضي الزمن. وكلما فاز بنو آدم بنور خارجي حولوه وأفسدوه.

 

وبعد
قرون وقرون، عندما وصل العالم في مجموعه إلى أردأ نقطة لم يصلها من قبل، ولد الرب
في ملء الزمان. وعندما بدأ خدمته الجهارية، ما أكثر من كان يطالعه به كل يوم! وكم
من دروس نطقت بها شفتاه وفاضت بها حياته! تآلف مع الرجال والنساء والأطفال. مع
الشيوخ والمعلمين. مع الكتبة والفريسيين مع الهيرودسيين والصدوقيين مع المرائين
والأبرار في أعين نفسهم مع نساء شريرات ورجال أشرار، وعادة مع رجال أتقياء ونساء
تقيات. مع هؤلاء وأولئك كانت للرب أحاديث وأقوال لأنه تبارك اسمه كان عليه أن
يتعامل مع جميع الطبقات، الأمر الذي انفرد به عن ما عداه فما من شخص سواه وجد في
دائرة متنوعة العلاقات كهذه أو اهتم بكل واحد اهتماماً جدياً نظيره، أو أظهر نعمة
إلهية وحقاً لكل من أتى إليه. لا شيء هنا عن معجزاته مع ما كانت عليه من جلال
وعظمة، وما كانت تدل عليه من حقائق روحية أعمق وأعظم. كذلك لست أراني في حاجة الآن
للتحدث عن أقواله مع أنه تكلم بما لم يستطع إنسان قط أن ينطق بمثله. وهو الذي أجاب
عندما سألوه "من أنت" بجوابه العظيم الذي لا يمكن أن يصدر عن سواه
"أنا ما أكلمكم أيضاً به" (لو 8: 25). أي انه كان يقوله (شفوياً)
وبعبارة أخرى كانت كلماته المعبرة عن حقيقته. فهو الحق، وفي ذلك يتفرد عن كل
إنسان. ومن هم الذين يستسيغون هذا كله، ويهضمونه ويتمتعون به ويقدرون شخصه العظيم
ويعرفون صفاته ويطبقونها عملياً؟ هم "الآباء". "الله لم يره أحد
قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر (أي هو أعلنه)". هو أيضاً قد
أراهم الآب. ومن هنا، وبعد الذي اختبروه وعرفوه، وبعد الذي أدركوه وتمتعوا به، لم
يسعهم إلا أن تمتلئ قلوبهم بالمسيح وكفى.

 

وأنت
تعلم جيداً أنه ليس كل المسيحيين يجدون شبعاً في هذا، ولا نتوقع أنهم يجدونه ما
دامت الأمور على حالتها التي نشاهدها منذ الأيام الأولى. ذلك أنه ما لم يقم
الانفصال التام بين النفس من ناحية والإنسان الطبيعي والعالم من ناحية أخرى فإنه
لن يتسنى للمسيحي أن يجد كل شبعه مركزاً في شخص المسيح وحده ذلك المسيحي الحقيقي
الذي لا بد وإنه اختبر شخصياً وبالروح القدس كل أنواع الصعاب والجهاد مع نفسه ومع
كل ما يحيط به. فكم من مرة يكون عمل الرب الشغل الشاغل لبعض النفوس المخلصة. كما
تكون الكنيسة الشغل الشاغل لآخرين مع أن ذلك واجب في محله. ولكن المسيح وحده،
معروفاً كما كان على الأرض، يكشف ويطرد كل مشغولية من غير محلها بحيث يبقى هو
مشغولية النفس الحقيقية وبذلك تزداد النفس تعرفاً بشخصه العزيز ويتعمق على الأيام
وإدراكها للملء الذي حل فيه جسدياً.

 

لا شك
أن "الأب" كان يوم "ولداً" ثم "حدثاً" قبل أن يصير
"أباً". لا بد أنه تذوق كاملاً طعم الأفراح الأولى في كل جدتها
وحلاوتها، لا بد أنه كانت له حصته في المعارك والمصارعات التي تطلب منه نشاطاً
وشجاعة روحية. لا بد أنه كانت له هذه وتلك، ولكن بعد أن اجتاز كل صنف من الاختبار
كرجل إيمان ومحبة كانت نتيجة ذلك كله هي هذه: لا شيء سوى المسيح، والمسيح الكل.
ولكن، ولنذكر هذا ونكرره، المسيح معروفاً "كالذي من البدء". فليس فقط
كالابن في السماء في الأزلية، بل كإنسان بين الناس هنا على الأرض. فالشيء الذي
يميز الآباء بوجه خاص هو معرفتهم الابن المتجسد، المسيح كما رؤى وسمع كل أيام
خدمته الجهارية في الجليل واليهودية والسامرة. المسيح شخصياً، الله وإنسان، الابن
معلناً الآب في كل ما قاله وما عمله. هذا ما ريح قلوبهم وثبتها وملأها. وهو ذات
الشيء الذي ملأ قلب الآب وأشبعه مسرة "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"
أي الذي وجد فيه لذته ورضاه. ولقد سمع هذا الصوت آتياً من الآب مرة وهو هنا في يوم
النعمة (عند نهر الأردن مت 3) وأخرى شهادة للمجد العتيد (في جبل التجلي مت 17) ففي
شخص المسيح المعلن هنا يتمتع الآباء بالشركة معه لأنه كانت لهم فعلاً شركة مع الآب
والابن، وذلك بطريق غاية في العمق والاختبار العملي. أولئك هم "الآباء".

 

قد
يكون الإنسان شخصاً موهوباً وحائزاً على موهبة لامعة ومع ذلك لا يكون
"أباً" على الإطلاق. وقد يكون آخر ليس فقط مبشراً عظيماً بل معلماً
مقتدراً مع ذلك لا يكون "أباً"، فإن هذه الصفة لا تتوقف على الموهبة
بأية صورة بل على تلك الروحانية التي تعلمت وأدركت أنه ما من شيء له قيمة في
الوجود سوى المسيح. قد نستفيد من أشياء أخرى. حتى مما يذلنا ويؤلمنا أشد الألم.
وقد ندخل بإعجاب وفرح وشكر إلى دائرة بركتنا في المسيح في السماوات ونتمتع بمركزنا
كأعضاء جسده الذي هو رأسنا الجالس عن يمين الله، وباتحادنا أيضاً مع جميع القديسين
الذي مصدره اتحادنا بسيدنا المحبوب. قد نتمتع بهذا كله وبأكثر منه ولكن مصدر كل
ذلك السر، وكل اختبار نافع، هو معرفتنا أن الكل يتركز في المسيح نفسه. في المسيح
الذي يحبه أبونا ويكرمه. وهو نفسه الذي أيضاً يشغل قلوبنا ويملأها سروراً. وذلك
كمن أعلن في العالم. هذه هي معرفته "كالذي من البدء" المعرفة التي هي
آخر وأفخر نصيب "الآباء".

 

بعد
ذلك يتجه الرسول إلى الطريق الثاني فيقول "أكتب إليكم أيها الأحداث لأنكم قد
غلبتم الشرير" فالذي يميز الأحداث هو النشاط – النشاط العامل بالإيمان
والمحبة. ثم هم قد ميزوا الخطية ودانوها إدانة كاملة عالمين أنهم ماتوا عنها مع
المسيح وقد علموا كذلك أنهم أقيموا معهم لكي يهتموا بما فوق ويميتوا أعضاءهم التي
على الأرض. تجاوزوا الذات وخلصوا من المشغولية بها. عرفوا قوة الشيطان وواجهوها.
قاوموا إبليس فهرب منهم. وهكذا غلبوا الشرير. كانوا في معمعة ذلك النوع من الصراع
ولكنهم كانوا أقوياء. لقد استفادوا هم أيضاً من مكانهم الأول كأولاد أو أطفال. فكل
واحد بطبيعة الحال يبدأ "ولداً" ثم يتدرج حتى يصير "حدثاً"
ولكن قليلين هم الذين يصلون إلى رتبة "الآباء". وقد يسمح لي القارئ أن
أعلن أني وقد عرفت الكثيرين من المسيحيين لم ألتق في حياتي إلا بعدد قليل من
الآباء بل إنني لم أسمع عن "آباء" سوى في القليل النادر. أما
"الأحداث" فالعثور عليهم من حسن الحظ ليس نادراً. ولو أنهم قليلون في
العالم المتدين. والواقع أنه لا يمكن اكتمال هذه الصفة ونضوجها في مثل تلك الأجواء
التي يسيطر عليها العالم بتأثيره ومن هنا، وكما سنرى فيما بعد، نجد إنه الأطفال أو
الأولاد بينهم لا ينطبق عليهم تماماً طابع "الأولاد" الذي يصفه الرسول
(أي العلم اليقيني بأن خطاياهم مغفورة) وكم هو محزن أن ينعدم بينهم حتى هذا الطابع
الواضح الذي جعله الله من نصيب "الأطفال" في عائلته!!.

 

لقد
حدد الرسول موقف الفريق الثاني تحديداً كافياً نرجو أن يقدره ويفهمه كل مسيحي حتى
ولو لم يستطيع تخصيصه لنفسه. إنها المسيحية النشيطة القوية المسيحية المستقيمة
الفاصلة، المسيحية التي تعلم جيداً أن المصارعة مع اللحم والدم المعروفة لدى معظم
المؤمنين، ليست شيئاً بالمقابلة مع الصراع مع قوة الشيطان. ذلك الصراع الذي
يحتاجون فيه إلى كل سلاح الله الكامل لكي يستطيعوا أن يقاوموا. ثم هم يعلمون كيف
يقاومون، وبعد أن يتمموا كل شيء، يثبتون. قد غلبوا الشرير. ومصارعتهم واضحة بصفة
عامة. فهم لا يجهلون حيل العدو ولكنهم يقاومونه بعزم ويغلبونه. ولا شك أن هذه
الصورة هي كما قلنا صورة المسيحية الفتية في قوة الإيمان والسلوك. وهنا أيضاً لا
عبرة بالمواهب فالموضوع هو بلوغ روحي لا أكثر ولا أقل أما غفران الخطايا فلا علاقة
له بالبلوغ وكذلك امتلاك الحياة والنور في المسيح هذه أشياء من أوليات المسيحية
وهي نصيب كل طفل في الإيمان وأساسها الإيمان بالإنجيل ليس إلا. أما العالم
والإنسان الطبيعي على ما نعهدهما فلا يسع المؤمن بعد الحصول على امتيازات النعمة
أن يظل بمنأى عن اختبار الذات والعالم، وكذلك عن اختبار الشيطان بعد الفوز عليه
وإسكاته على أن سكوت هذا العدو الأكبر وحيله الماكرة لا تخدع هؤلاء الأحداث الذين
يقفون ثابتين بالنعمة على أساس نصرة مخلصهم وسيدهم شاكرين الله الذي يعطينا الغلبة
بربنا يسوع المسيح. وهكذا نختبر أنه في جميع الأشياء التي تبدو مضادة ومعاكسة يعظم
انتصارنا بالذي أحبنا بهذه الكيفية استطاع الأحداث أن يغلبوا الشرير.

 

ننتقل
بعدئذ إلى الفريق الثالث وهو الفريق المهم للغاية والأكثر عدداً بمراحل وهم فريق
"الأولاد" أو "الأطفال". يقول الرسول "أكتب إليكم أيها
الأولاد لأنكم عرفتم الآب" ألم تختبر مبلغ انطباق هذه الصفة على أولاد الله
الذين عرفتهم؟ من المفروض أن الكثيرين منا يعرفون عدداً غير قليل من أولاد الله
وقد التقوا بهم في طريق الحياة المسيحية فلو إنك قصدت أن تسأل هذا السؤال "قد
عرفتم الآب" فماذا يكون الجواب في الغالب؟ هل من المغالاة أن نتوقع أن
غالبيتهم سيجيبون جواباً واحداً تقريباً وهو أنهم يستكثرون على أنفسهم التصريح
بأنهم يعرفون الآب "أعرف الآب!! أنني بكل أسف لا أستطيع أن أدعي مثل هذا
الشيء لنفسي" الواقع أن معظم المسيحيين يظنونه بلوغاً عجيباً حقاً على هذه
الأرض أن يصل الإنسان إلى معرفة الآب، فيتساءلون مستنكرين : من ذا الذي يمكن أن
تكون له مثل هذه المعرفة في هذه الحياة وفي هذا العالم؟ ذلك لأن هذه المعرفة تعني
أنهم يعرفون فعلاً أنهم منذ الآن أولاد الله وأنه لا يوجد عندهم أي ريب أو تردد
حول هذه الحقيقة وإنها حقيقة قد قبلوها من اله وقد استقرت في نفوسهم ليس عن أحلام
أو مشاعر أو أفكار شخصية، ولا على أساس أي شيء من جانبهم بل كأمر قد تعلموه من
الله وقبلوه لنفوسهم مصدقين وشاكرين. عرفوا أولاً أن خطاياهم قد غفرت لهم من أجل
اسمه كما رأينا، وما كان ممكناً لهم في الواقع أن يعرفوا الآب بدون الاستناد
والاطمئنان على الفداء في المسيح. ولكن ما أقل القديسين الذين يستريحون هكذا
دائماً في سلام تام على أساس فدائه العجيب!

 

غير
أن الاعتقاد بأصح تعليم عن الفداء لا يعني بالضرورة راحة النفس بموجب كلمة الله
على هذا الفداء. فمن الممكن جداً أن تتقبل حقيقة الفداء كتعليم جامد وفي نفس الوقت
يقول "إني لست موقناً به أمام الله من جهة خطاياي. أحياناً أشعر ببعض الرجاء
أو الأمل المتواضع ولكني في الأوقات الأخرى اِعر باليأس الكلي من جهة
نفسي"وواضح أن هذا ليس سلاماً حقيقياً ومن باب أولى ليس سلاماً ثابتاً
مقرراً. فالسلام الثابت الأكيد المؤسس على دم الصليب لا يتغير مطلقاً لأن أساسه
ثابت لا يتغير. ثم هناك نسبتنا الأكيدة إلى الآب، وهي النسبة المعطاة لنا بالروح
القدس لأننا أبناء. فإنه حتى الطفل في عائلة الله يمتاز بمعرفة ما هو أكثر من مجرد
كون خطاياه مغفورة، إذ هو يعرف الآب أيضاً وهذا حق جوهري في المسيحية فإن غفران
الخطايا الكامل بالدم، مهما كان مبلغ تحقق النفس منه بالإيمان، ليس هو كل ما ينتظر
من طفل عائلة الله يرفه. وإلا فقد تجرد من نسبته إلى الآب وإدراك هذه النسبة.

 

من
أجل ذلك رأينا رسولاً آخراً يؤكد القول للغلاطيين "لأنكم جميعاً أبناء الله
بالإيمان بالمسيح يسوع" (غلا 3: 26) تماماً يقول رسولنا هنا "اكتب إليكم
أيها الأولاد لأنكم قد عرفتم الآب" وما كانوا ليعرفوا هذا لولا أنهم أبناء،
ولولا أن الله أرسل روح ابنه إلى قلوبهم صارخاً "يا أبا الآب" (غلا 4:
6) وما كان لأحد قط يحس ذلك وينطق به قدام الله ما لم يكن قد أخذ لا روح العبودية
للخوف بل روح التبني. وكما إن القوة لإلهية تنشئ فينا الإحساس والعواطف الخليقة
بهذه النسبة الوثيقة كذلك هي تحركنا في التصرفات والواجبات نحو الآب وطبقاً
لمشيئته. وهكذا يعطي هذا الامتياز المبارك، وهكذا يتقرر بكل بساطة. ومع ذلك فإن
كثيرين في يومنا الحاضر ممن يؤمنون بالمسيح يسوع يتهيبون الإيمان بأنهم أبناء الله
وأنهم كذلك إلى الأبد. ومثل هذا الشك يحزن الروح القدس ولا يسعه إلا توبيخه فيهم
عوض أن يمنحهم الحرية والبهجة الجديرة بمثل هذه النسبة.

 

ولكننا
نقرأ هنا عن أصغر فريق في عائلة الله في يقين نسبتهم إلى الآب. وليس في مقدور كائن
أن يحصل على هذا اليقين الدائم بأنه ابن الله ما لم يكن مختوماً بالروح القدس.
فالروح القدس يسكن فينا لأن خطايا قد غفرت من أجل اسم المسيح، بواسطته يعرف
الأولاد الآب. وبمثل هذا الكلام كتب الرسول بولس للقديسين في أفسس قائلاً
"الذي فيه أيضاً إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضاً إذا آمنتم
ختمتم بروح الموعد القدوس" (أف 1: 13) ولم يكن هؤلاء القديسون وقتئذ مسيحيين
متقدمين. أعني أنهم لم يكونوا بعد قد تقدموا ونموا في معرفة الحق وإنما كانوا قد
قبلوا حق الإنجيل من عهد قريب كما أرسله الله إليهم، فآمنوا بفاعلية وكفاية موت
المسيح وقبلوا ملء نعمته، ذلك الملء الذي يتضمن غفران خطاياهم وصيرورتهم أبناء
الله واقتبالهم الروح القدس لكي يصرخوا به في كل وقت "يا أبا الآب".
والبركة المسيحية ليست شرطية أو وقتية كبركة اليهودي إلا أن الأفكار الناموسية
تخلط بين عمل المسيح لأجلنا وعمل الروح فينا وبذلك تزعزع السلام الذي صنع بدم
صليبه.

 

حقاً
إنه مركز عجيب يصل إليه بالإيمان شخص ربما لم يكن قبل ذلك بوقت قصير سوى خاطئ
هالك. أما الآن فبفضل عمل المسيح الفدائي صارت للمؤمن معرفة الآب. وهذا يغير كل
شيء بالنسبة له، ويقوده إلى شركة الثقة الوادعة بين ابن وأبيه. هب أن واحداً من
آباء أجسادنا عزيز على أولاده. لاسيما إذ كان أباً عطوفاً أميناً، فإن علاقة
الأولاد به تكون علاقة الشركة البهيجة المتبادلة، شركة الثقة الخالية من سحب
التشكك والخوف، ونحن من جانبنا لا يساورنا أي شك من جهة الآب السماوي. فالكل عنده
مباركون ولهم غلاوتهم ومعزتهم واعتبارهم وهو تبارك اسمه عطوف ورؤوف بقدر ما هو
صادق وأمين فهناك إذن شركة المحبة المتبادلة بين الأبناء والآب. ولكن من هو كفء
لهذه الأمور؟ كفايتنا من الله فلسنا فقط نصرخ "يا أبا الآب" بل نعلم
أيضاً أن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله والروح يشهد لأرواحهم
أنهم أولاد الله، وبهذا أيضاً يتذوقون لذة ويقين المعرفة بأن أباهم يحبهم ويباركهم
يوماً فيوماً ولو أن الحال قد يستلزم التأديب الأبوي للمنفعة لكي يشتركوا في
قداسته كمدعوين لمجده الأبدي في المسيح يسوع. هذه هي إذن صورة الأطفال أو الأولاد
الصغار في عائلة الله وهذا هو طابعهم الذي يتميزون به أنهم "قد عرفوا
الآب".

 

إنه
ليس فقط من العبث أن تبحث في العالم المسيحي عن "آباء" في المسيح وأنه
من الندرة أن تجد فيه "الأحداث" الذين يحملون طابع الله الحقيقي، بل أين
نستطيع أن نجد "الأولاد الصغار" أو "الأطفال" كما تصفهم كلمة
الله هنا؟ أليس هذا أمراً محزناً للغاية؟ فمتى كان الناس مكتفين بذواتهم راضين
بحالتهم أكثر مما هم الآن؟ وكم يتمنى المرء ويتوق لأن يلتقي بأمثال
"الأولاد" الذين يصفهم الرسول، وأن يسعى لتشجيعهم في طريقهم لكي يقووا
ويصيروا أشداء ضد العدو، ولكي ينموا أكثر فأكثر في معرفة ذاك الذي تألم لأجلنا
آلاماً لا يعبر عنها. ولكن أنى لنا ذلك! فمنذ القرن الأول. وإن كان لنا أن نحكم من
تواريخ لآباء الأولين، ساءت الأحوال بكل أسف، ولعل من أبرز الأدلة على سوئها وعلى
الانحراف عن الحق هو أن معظم المعترفين باسم المسيح لا يخصصون لأنفسهم حتى هاتين
الحقيقتين البدائيتين وهما "أنه قد غفرت لكم الخطايا من أجل اسمه" و
"أكتب إليكم أيها الأولاد لأنكم قد عرفتم الآب".

 

خذ
مثلاً الفكرة السائدة بشأن ضرورة تكرار الالتجاء إلى دم المسيح للحصول على غفران
الخطايا. كيف يمكن للناس أن يقولوا مثل هذا القول لو أنهم يؤمنوا أن المسيح قد وجد
لنا فداء أبدياً؟ أو أن الخادمين وهم مطهرون مرة ليس لهم أيضاً ضمير خطايا؟ عم إنه
لا يمكن أن يكون لهم حق الإنجيل في نفوسهم وإلا لما استطاعوا أن يفكروا تفكيراً
كذا. إن المسيح قد حمل في جسمه على الخشبة جميع خطايانا وليس فقط الخطايا السابقة
لإيماننا ودمه يطهر من كل خطية وليس من بعض الخطايا فقط ومن واجب القديسين أن
يعلموا أن هناك غسل الماء بالكلمة لمواجهة أي دنس قد يلصق بالمسيحي في الطريق وذلك
بلا شك على أساس الفداء بدم المسيح وليس إبطاله لأنه "بقربان واحد قد أكمل
إلى المقدسين" وليس في إنجيل الله ما يمكن أن يستفاد منه أننا نحتاج إلى
كفارة جديدة بدمه بعد الكفارة الأولى التي كانت كاملة وفيها كل الكفاية. وإنما
بعوزنا كقديسين أن تغسل أقدامنا بكلمة المسيح وشفاعته. ومن واجبنا أن نعترف
بخطيتنا إذا ما فعلنا ما لا يوافق قداسته وندين في أنفسنا ما عرضنا إلى مثل هذا
الفشل. هذا هو الحق والصواب، لا أن نزعزع أساس ذبيحته الواحدة والفداء بدمه غفران
خطايانا. لو أن سيدنا لم يمح جميع خطايانا. فما قيمة أي شيء آخر؟ لو أن خطية واحدة
بقيت بدون غفران. لكان فيها الكفاية لقتلنا وهلاكنا أما بالنسبة للمؤمن فغفران
خطايانا معناه استبعاد الحمل الثقيل استبعاداً كاملاً. وكل ما في الأمر أنه إذا
أخطأ أحد فإن الضمير يتحرك بفعل الروح القدس ويعقب ذلك تذلل حقيقي لنفوسنا بسبب أية
سقطة، لأن كل شيء من هذا القبيل هو عار لنا وحزن لروح الله القدوس لذي به ختمنا
ليوم الفداء. ولكن هذا لا يمكن أن يؤثر بحال من الأحوال على عمل ربنا يسوع الذي
صار سبب خلاص أبدي لنا، وهكذا أيضاً معرفة الآب ونسبتنا له كأولاد لا يمكن أن
تتزعزع مطلقاً لآن "لنا شفيع عند الآب" وهو موجود هناك في الأعالي
لمواجهة جميع هذه الصعاب التي لا يمكن التغلب عليها بدونه، وهكذا نحن مديونون
للمسيح إلى الأبد، غير أن شفاعته ليست سفك دمه، كما أن دمه ليس هو شفاعته، فهو
كالمقام والموجود في السماء عن الآب يحيا ليشفع فينا، أما دمه الكريم فكان لغرض
وغاية أخرى. لقد أتمت ذبيحته عملها كاملاً، ولشفاعته مكانها الخاص لتسديد حاجتنا
بعد ذلك. وويل لجميع الذين بجهلهم يزعزعون الحق ويقحمون ما من شأنه تقويض إنجيل
المسيح ولو كانوا من المؤمنين بشخصه المحبوب!.

 

الخطاب
السابع

1 يو
2: 14 – 27

"كتبت
إليكم أيها الآباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء"

 

"كتبت
إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير. لا
تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب.
لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من
العالم. والعالم يمضي شهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد"

 

"أيها
الأولاد هي الساعة الأخيرة. وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي قد صار الآن أضاد للمسيح
كثيرون. من هذا نعلم أنها الساعة الأخيرة. منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو
كانوا منا لبقوا معنا لكن ليظهروا أنهم لسوا جميعهم منا. وأما أنتم فلكم مسحة من
القدوس وتعلمون كل شيء لم أكتب إليكم لأنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعلمونه وإن
كل كذب ليس من الحق. من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو ضد
المسيح الذي ينكر الآب والابن. كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً ومن يعترف
بالابن فله الآب أيضاً. أما أنتم فما سمعتموه من البدء فليثبت إذاً فيكم. إن ثبت
فيكم ما سمعتموه من البدء فأنتم أيضاً تثبتون في الابن وفي الآب. وهذا هو الوعد
الذي وعدنا هو به الحياة الأبدية. كتبت إليكم هذا عن الذين يضلونكم. وأما أنتم
فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد بل كما
تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء وهي حق وليست كذباً كما علمتكم تثبتون
فيه".

 

واضح
هنا أن الرسول يقيم نصائحه على نفس الأساس السابق أي مراحل النمو الروحي المختلفة
التي تميز أعضاء الله. وهو هنا يتوسع في الحديث عن مميزهم الثلاثي. غير أن الشيء
العجيب الذي يقابلنا في مطلع هذه الأقوال أن الآباء الذين كنا نظن أن من حقهم أن
يزداد تفصيل ما يميزهم لكونهم أقدر من غيرهم على الاستمتاع بحق الله، لا يصلهم من
الرسول سوى نفس الكلمات القليلة الأولى معادة مرة ثانية. وهذه ظاهرة عجيبة لاسيما
والتكرار ليس من عادة الكتاب بصفة عامة. في بعض الحالات يكرر الوحي نفس الأقوال أو
ما يشبهها، لكنها حالات استثنائية، والحال التي نحن بصددها واحدة منها.

 

والسبب
مؤثر للغاية. لقد قرأنا في عدد 13 قوله "أكتب إليكم أيها الآباء لأنكم قد
عرفتم الذي من البدء" – أي المسيح كما ظهر على الأرض، فلا يتعرض الرسول
للمشورات الإلهية الأزلية ولا إلى أمجاد المسيح المستقبلة، ولا حتى إلى مركزه
الحالي عن يمين الله، ذلك المركز الذي هو محور تعليم الرسول بولس. أما التلميذ
المحبوب فيواجه الانحطاط الذي أصاب المسيحية الاسمية يومئذ ويريد أن يهيئ أحسن عون
ممكن للآباء الذين هم أكثر عائلة الله بلوغاً روحياً فلا يجد ما يردده في مسامعهم
أفضل من تكرار نفس منطوق خطابه الأول "كتبت إليكم أيها الأباء لأنكم قد عرفتم
الذي من البدء" بلا أدنى تغيير سوى تغيير لفظي واحد في صيغة الفعل. ففي العدد
13 يقول "أكتب" وفي العدد 14 "كتبت" مشيراً إلى ما قاله
أولاً. ولماذا هذا؟ ألم يكن لديه ما يقوله للآباء أكثر من ذلك؟ الجواب لأنه في
الحالتين لم يكن يتكلم عن انبثاقات إلهية كما توهم بعض الناس بل عن حلول اللاهوت
جسدياً. فالآن، في ربنا العزيز كإنسان، قد جسم الله وأظهر ملء نعمته وحقه بطريقة
لم تحدث في الماضي قد ولا حاجة لحدوثها مرة أخرى على الأرض وكل تفكير في ظهور شيء
آخر أكثر من ذلك هو إنكار لذلك الملء وأكذوبة من الشيطان.

 

فنحن
هنا أما اللانهائي غير المحدود. غير المحدود ليس فقط في طبيعة اللاهوت بل في شخص
الابن صائراً إنساناً. وهنا سر العجب، لأن ناسوت سيدنا في الواقع هو علة العجب،
وما كان له المجد ليثير فينا كل هذا العجب لولا حلول ملء اللاهوت فيه، ذلك لأن
الله مظهراً نفسه حقاً في إنسان وكإنسان هو أعجوبة العجائب. الأعجوبة التي فاقت كل
العجائب ولاسيما عندما نصل إلى حادثة موته الكفاري وفيه "أولاد" يعرفون
الآب، ثم "أحداثاً" في فتوة القوة الروحية، ذلك الامتياز الجديد المبارك
الذي لم يفقدوه إذ من دروس ذلك الدور واختباراته قد حصلوا على بركة لا تزول،
ولكنهم بعد اجتياز المصاعب والمخاطر المنوعة بما تركته فيهم من أثمار دسمة وغنية
في طريق النمو في معرفة الله المعرفة الحقيقية، بقي شيء واحد هو الذي اجتذبهم بصفة
خاصة وركز عواطفهم إلى الأبد – ذلك هو شخص الرب كما سار في عالمنا متكلماً أو
عاملاً. مظهراً الله الآب في كل كلمة وكل عمل، وفي كل خطوة من خطوات حياته هنا على
الأرض، هذه هي القوة في معرفة "الذي من البدء". وبعيداً عن المسيح في
صورته هذه لن نجد شيئاً هكذا عميقاً وحقيقياً، ولن نتعلم شيئاً هكذا سامياً
ومقدساً. ليس باعتباره الإنسان المرتفع في المجد السماوي، الأمر الذي هو محور
تعليم بولس وذو أهمية عظمى لكل نشاط روحي، بل كالله الظاهر في الجسد هنا على الأرض
– يسوع المملوء نعمة وحقاً وسط عالم شرير لكي يفصلنا عن شره ولكي يقدسنا لنسلك كما
سلك هو حسب عمله فينا بقوة الروح القدس.

 

ثم
نتقدم إلى المرحلة الثانية، مرحلة "الأحداث". وهنا نرى روح الله يتوسع
بعض الشيء "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد
غلبتم الشرير".

 

لاحظ
أيضاً أن هناك إضافة ليست موجودة في عدد 13وهي التي تعطينا السر في قوة الأحداث،
وهذه الإضافة هي أن "كلمة الله ثابتة فيهم". هذه حقيقة خطيرة تمنح شجاعة
عظم وقوة روحية بالغة. فليس الأمر قاصر على اللجوء إلى الكلمة في أوقات الطوارئ
تحت ضغط الصعاب والتجارب بل إعلان الله كان ثابتاً فيهم باستمرار.

 

وهذا
عين ما نجده في الرب يسوع بصورة كاملة فإن ما سمعه الناس منه كان كلمة اله سواء
كان السامع صديقاً أو عدواً، شريفاً أو وضيعاً. وحتى كان إبليس يجربه، كانت الكلمة
جوابه الدائم الحاسم. وإذا اقتبس العدو جزاً منها بقصد سيء، كانت إجابة سيدنا من
المكتوب للخير والحق، وإذا احتاج التلاميذ أن يعلموا ما ينتظرونه، شرح لهم كلمة
الله. والواقع أنه لم يوجد شخص برهن على أن كلمة الله كانت ثابتة فيه في كل
الأوقات وحيا كل الناس والظروف مثل الرب يسوع.

 

لن
نجد هذا ولا حتى في الرسل، مع أنه وجد رسل، كيوحنا نفسه، كانوا يدخرون الكلمة
ويكتنزونها باهتمام شديد في أعماق نفوسهم وقلوبهم، وكذلك بطرس مع حبه الدافق
الغيور. ولكن لم يوجد مثل الرب، ولا حتى الرسول بولس مع أننا نستطيع أن نقول بثقة
أنه لم يوجد إنسان على وجه البسيطة (مجرد إنسان) أكرم كلمة الله أكثر من الرسول
بولس. ومع ذلك ففي هذه الناحية كما في كل النواحي الأخرى أم يوجد من يشبه سيدنا
العزيز المحبوب. والحق أن خضوعه المطلق للكلمة قد ميزه تمييزاً كاملاً وذلك ما جعل
الأناجيل الأربعة التي ترينا الرب في حياته اليومية كنزاً غنياً لا يفرغ، مفيداً
لنا، وفي الوقت نفسه فوق متناول معظم أولاد الله في حالتهم العملية.

 

وسبب
ذلك أن معظم المسيحيين عندما يتجددون يعمدون إلى رسالتي رومية وغلاطية وهناك
يقفون، بل إن معظم منهم لا يتقدمون كثيراً في رسالة رومية فيكتفون منها بفصولها
الأولى حيث تجذبهم وتستهويهم الأسس القوية التي وضعها الله في القسم الأول من تلك
الرسالة، ويعجبون أن يروا أن الأمر لا يقوم على أساس نعمته فقط بل على أساس بره
أيضاً، وإنهم يثبتون على صخرة البر المكمل ويدركون المسيح نفسه كبرهم، لأنهم
يتعلمون من تلك الإصحاحات الأولى كيف يفرقون بين هذا البر الكامل كمقامهم وبين
قداستهم الشخصية في الحياة وهي القداسة التي ينشئها فينا روح الله لأننا للمسيح.
أما البر فهو الشيء الذي يحتاجه الخاطئ الأثيم مع الرحمة التي تؤكد له غفران
خطاياه. وإنه لواجد في المسيح هذا كله ملئه وكماله فما عليه إلا أن يأخذ مكان
الخاطئ الهالك ويلقي بنفسه في أحضان الرب يسوع الذي صار براً. وبهذا البر يستطيع
أن يتقدم إلى ذات عرش الله وهناك يقف بالإيمان من الآن فصاعداً آمناً هادئاً
مطمئناً وبينما هو يدين نفسه إدانة كاملة من أجل كل خطاياه يجد في الرب يسوع براً
يشبع الله ويمجده لأنه بر الله الذي يبرر بفضل ما عمله المسيح وتألم به من أجل
أتعس الخطاة. قد يقول ما قاله العشار "أنا الخاطئ" بحصر اللفظ (
I am "the" sinner) وكأنه
لا يوجد في الأرض سوى خاطئ واحد وأنه هذا الخاطئ. قد يقول هذا ويشعر به ولكن هذا
لن يحول دون نواله البر الكامل فإن الرسول بولس نفسه قد بزه في هذا المضمار إذ قال
عن نفسه أنه أول الخطاة. وكان هذا القول صحيحاً لأن بره الناموسي جعله ألد أعداء
الرب وأكثر الناس بغضاً لمن يدعون باسمه فما كانت ديانته الأولى إلا ديانة الإنسان
في الجسد على حد تعبيره ديانة شخص عبراني من العبرانيين يظن في نفسه القدرة
والكفاية على حفظ ناموسها وفرائضها ويسلك بكل تدقيق بحسب الظلام الذي كان فيه مما
زاد في مرارته ضد الرب يسوع وكل ما كان له. فأي شيء أكثر من هذا كان يمكن أن يكون
أشد مقاومة لبر الله في المسيح؟ ومع ذلك فقد شاء الرب أن يكون بولس هو أول
المبشرين المتحمسين لبر الله في المسيح يسوع.

 

في
الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا نرى أن الناموس لم يعد الآن هو القياس للحكم
على الخطية أو البر أو الدينونة. فقد تغيرت الأوضاع والمعايير بسبب حضور السيد
ورفضه حتى أن الروح القدس منذ مجيئه (وقد جاء بعد صعوده له المجد) يبكت العالم على
خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنوا بالمسيح وأما على بر
فلأنه ذب إلى أبيه ولا يرونه أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين،
وبرهان الدينونة الذي يقدمه الروح القدس للعالم ليس في مظهر خارجي من مظاهر
الانتقام الإلهي كما حدث قديماً في مصر وكنعان وبابل أو روما بل في حكم القضاء
الذي صدر على ذاك الذي أضل العالم وقادهم إلى صلب مجد رب المجد. هناك دين رئيس هذا
العالم. صحيح أن تنفيذ الحكم مؤجل غير أن القضية قد بت فيها والحكم قد تقرر
نهائياً، والخطية الكبرى التي يبكت الروح عنها أهل العالم هي عدم الإيمان بالرب
يسوع كما أن البر الحقيقي هو فيه كالمرفوض الذي مضى إلى أبيه. لقد خسر العامل شخص
يسوع. جاء إلى العالم يطلب ويخلص الخطاة لكنهم لم يريدوه. وكان شعبه الخاص أشر
رافضيه وانتهت مأساة رفضهم بالصليب. غير أنه في الصليب لم يتمجد الله فقط بل في
قيامة المصلوب وقبوله في المجد يقوم البر الحقيقي ضد الإنسان والشيطان والعامل بما
فيهم إسرائيل.

 

والمظهر
الثاني لبر الله هو إعلانه بشارة الخلاص للخاطئ البائس المسكين الذي يقترب باسمه
الكريم. الاسم الوحيد الذي أعطى تحت السماء بين الناس وبه ينبغي أن نخلص. نعم، ففي
الإنجيل قد ظهر بر الله بإيمان يسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. وبعد
التبرير يبدأ دور القداسة العملية. لأن لنا في اسمه الكريم الحياة كما لنا غفران
الخطايا، وهذه الحياة الجديدة هي التي تنتج الثمر الصالح، على أن هذا أمر يتعلق
بالقداسة. أما الشيء الذي يعوزنا ويخلصنا كخطاة فهو المسيح وعمل المسيح لأجلنا عند
الله، في حين أن ما يخلق في نفوسنا الحكم على الذات وتمجيد الله بالاعتراف
بخطايانا إنما هو جزء من قداستنا نحن الذين حسبنا أبراراً في المسيح ومن أجل خاطر
المسيح.

 

هذا
هو الوضع الإلهي الصحيح، وهذا هو سر قوة الأحداث الذين يمتازون بالفتوة الروحية.
ليس بالنشاط الطبيعي إذ لا أثر في هذا النوع من النشاط للنعمة بل الشجاعة الروحية
والقوة الروحية تصونها وتنظمها كلمة الله الثابتة فيهم. لقد أحبوا كلمة الله بهذا
المقدار حتى إنها لم تعد دائماً بجانبهم فقط بل ساكنة وثابتة فيهم، لم يكن شأنهم
شأن بعض الإخوة الأحباء الذين نسمعهم أحياناً يفاخرون بأنهم يصرفون ساعة أو ساعتين
كل يوم منكبين على لكمة الله بل أن لكمة الله هي التي كانت دائماً منكبة
"عليهم". هذا هو الطريق الصحيح، ليسس أن نكون منكبين على لكمة الله
الأمر الذي ينتهي عادة بكلام كثير بل أن تكون كلمة الله هي المنكبة أو المتسيطرة
والمتحكمة فينا لأنها بذلك تضع حداً لأفكارنا وتشدد عزائمنا بقدر ما تسود علينا
وتوبخ كبريائنا. هكذا امتاز هؤلاء الأحداث بكلمة الله ثابتة فيهم، ليس مجرد البحث
فيها أو التنقيب بين سطورها عن مسائل عجيبة أو معضلات عويصة، ولا حتى محاولة
الوقوف على أشياء قد لا تكون مشيئة الله من جهتنا أن نعرفها بعد أو أن نعرفها في
الزمان الحاضر على الإطلاق. ولكن هذه كانت حالتهم، حالة الخضوع المطلق لكل كلمة
الله. لاشك أنهم كانوا يتألمون بروح الصلاة في جميع الأسفار الكتابية من أولها
لآخرها بقدر ما كانت متوفرة لديهم وقتذاك لأن الأمر في يومهم كان بطبيعة الحال
أصعب مما هو في يومنا. أما في الوقت الحاضر فماذا ترى؟ لو تطلعت إلى كتاب أي واحد
منا فستجد على الأرجح بعض أجزاء قليلة منه تحمل من العلامات والتأشيرات والخطوط ما
يدل على أنها موضع الاهتمام والدرس تينما تجد أجزاء أخرى كثيرة خالية من كل ما يدل
على أن لنا معها أية معاملة وقد تكون لا تزال محتفظة بالشكل الذي خرجت به من
المطبعة. هل هذا هو ثبوت الكلمة فينا؟ أن ثبوت الكلمة فينا معناه تقديرنا الدائم
لكل الكلمة والاجتهاد في درسها ونخبئها في قلوبنا لأننا لا نعرف أية كلمة قد
تعوزنا في اللحظة القادمة. والخلاصة أن الطريقة الوحيدة الحكيمة التقوية الجديرة
بنا هي أن تكون الكلمة ثابتة فينا.

 

ولكن
بعد هذا يأتي شيء آخر. "لا تحبوا العالم". ولماذا يوجه هذا التحذير
للأحداث بصفة خاصة، ولا نجده موجهاً للآباء فلم يزد الرسول كلمة واحدة عما قاله
لهم أولاً فقد تميزوا بما تميزت به مريم وهو الجلوس عند قدمي الرب والاستمتاع
لكلامه. وألم يكن هذا معناه الاستغراق في المسيح والامتلاء به؟ لقد سكنت فيهم كلمة
بغنى، بكل حكمة وفهم روحي. وليس ذلك فقط بل أن المسيح نفسه كما ظهر وعاش هنا، كان
دائماً أمامهم كموضوع سرورهم الأكبر وشركتهم مع الآب. هذا شأن الآباء. أما الأحداث
فبحذرهم قائلاً "لا تحبوا العالم" وهل في هذا غرابة على أشخاص يقول عنهم
أنهم أقوياء ويمتازون بالقوة الروحية؟ بالعكس لقد كانت هذه القوة ذاتها، مع كونها
قوة روحية، مصدر خطر عليهم أن لم ينتبهوا. لقد انطلقوا ينشرون الحق باجتهاد ملحوظ،
يشهدون بلا خوف عن المسيح بواسطة الكلمة الثابتة فيهم بالروح القدس العامل بهم. لقد
فازوا بانتصارات لمجد الله، غير أن هذه النصرات عينها كانت مصدر خطر عليهم لأن
التعامل مع الناس يعرضهم لمحبة العالم إذ لم يعرفوه على حقيقته فإن محبة العالم
ليست هي مجرد الميل للظهور والاستمتاع بالموسيقى أو للتمثيل والصيد وسباق الخيل
والمقامرة وربما ما هو أبشع من هذه الأمور جميعها، إنما العالم شرك ماكر، وهو في
هذا أقوى من الجسد، فإن الكثير من شهوات الجسد يحتقرها حتى الإنسان الطبيعي وهناك
من المنغمسين في العالم من يخجلون من تصرفات الظاهر. أليس يسعى إليها ويمارسها كل
ذي خطر في الحياة؟ إنها الطموح إلى كل ما تستسيغه الهيئة الاجتماعية، وإلى كل ما
يظنه أصحاب الرأي والمعرفة وقادة الفكر والذوق السليم والكياسة والآداب والاتيكيت
خليقاً بالرجال والنساء. وهذه كلها أمور لها جاذبيتها وسطوها وتأثيرها وبخاصة على
عقول الشباب وعلى الأحداث الأقوياء الذين يعرفون الرب ويودون بإخلاص القلب أن
ينشروا معرفة الحق. على أن تيار هذا الإخلاص قد يدفعهم للذهاب بجرأة هنا وهناك
ظناً منهم أنهم يستطيعوا لذهاب إلى أي مكان ما دامت بين أيديهم أخبار طيبة وبشائر
مفرحة ينادون بها. أنهم على الأقل يعرفون المخلص الذي يجهله الناس، فأين هو هذا
المكان الذي لا يحتاج لخدمتهم والذي إليه لا يذهبون؟ إزاء هذه الغيرة المقدسة التي
يحملونها بين جنوبهم يحذرهم الرسول من العالم بصفة خاصة.

هل تبحث عن  ئلة مسيحية خلاص الاخرين ن

 

وإذا
قلنا "العالم" فلسنا نقصد الكون كما خلقه الله. إن العالم بمعناه الأدبي
هو ما صنعه الشيطان بعد سقوط الإنسان وقد ولدت بادية "العالم" من قايين
ونسله فماذا نرى في قايين؟ لقد حكم عليه بالتيه والهروب في الأرض ولكنه تحدى هذا
الحكم وابتنى لنفسه مدينة. وإذ لم يقنع هو ونسله أن يعيشوا متفرقين واحد هنا وآخر
هناك قاموا يجمعون شملهم ويستقرون معً في صعيد واحد. والاتحاد قوة كما يقول الناس
ومتى استقر بهم المقام ينهض من بينهم رجل ذو بأس وسرعان ما يصل إلى القمة. وهذا هو
مطمع كل إنسان والهدف الذي يرجو أن يصل غليه يوماً من الأيام ولو بدرجة ما. وفي
معترك هذا الجهاد ينسى الله والخطية بكل سهولة. وهذا عين ما فعله قايين إذ بنى
مدينة وأطلق عليها اسم ابنه. وهنا تدخل الكبرياء وإرضاء الذات أو إرضاء الآخرين
دون التفكير في الله. ومن هنا بدأت الاختراعات العظيمة في هذه الأسرة. فلا نجد رجل
المرح في هاييل، ولا في شيث الذي حل محل هاييل، بل نجده في قايين ونسله وبصورة
ملحوظة. ويومئذ بدأت قوافي الشعر الاجتماعي حيث نرى لامك يكتب لامرأتيه بصيغة فنية
ذات رنين شعري، فصاحبنا هذا هو أول من أدخل مبدأ تعدد الزوجات وبرر سفك الدماء
دفاعاً عن النفس بما يمكن أن نسميه قصيدة أو أنشودة لمن يهواهم قلبه. فهو لم يفكر
في الله حتى في ذلك الحادث الأليم وإنما فكر في زوجتيه. ولم يتخذ من معاملة الله
لقايين مجردة اعتذار عن فعلته بل اتخذ منها مسنداً لها وترخيصاً ثم في هذا البيت
عينه نشأت الحياة البدوية الجريئة وابتكرت أسباب البهجة القائمة على آلات النفخ
والأوتار الموسيقية. وهي من أركان تطور المدنية وهكذا كان "العالم" يعمل
منذ بكور التاريخ. أليس هذا هو العالم؟ لا ريب أنه يحل للمسيحي أن يستخدم كثيراً
من وسائل الراحة الموجودة في العالم. غير أن نقطة سوداء واحدة تلطخ العالم وتشوهه
وهي خلوة من المسيح الغالي على قلوبنا ولكنه المرذول من العالم. وإلا فخبرني عن
شيء واحد في العالم يضع عليه المسيح خاتم مصادقته. أين كل ما هو جليل في نظر
المسيح؟ وأين كل ما عاشه المسيح وأحبه؟.

 

هنا
المحك الصحيح والمقياس الكامل للتفرقة بين ما هو من العالم وما هو من المسيح، فإن
كل ما هو خارج المسيح يجد قبولاً وترحيباً لدى قلب الإنسان الساقط وهذا هو العالم
بمعناه الصحيح. فالبعض كما نعلم يشغفون بالعلوم، والبعض يفضلون الآداب والبعض
الآخر ينصرفون إلى السياسة. بل أن الدين نفسه، عمل الرب وعبادته، يمكن مع الأسف أن
يحترفه البعض بروح عالمية وصورة أنانية طلباً للمكسب أو الصيت، وما أكثر الأساليب
التي يبتكرها القوم في هذا الميدان لتحقيق الشهرة وجذب الأنظار إليهم. أليس هذا
أيضاً من العالم؟ إن اسم الرب بالانفصال عن مشيئته ومجده ليس وحده عاصماً من محبة
العالم، فلقد رأينا بعضاً من أخبث الشعراء الذين رأتهم الأرض يفعلون هذا فقرضوا
الشعر في موضوعات كتابية مقدسة ولكن هذا لم يغنهم فتيلاً ولم يصلح أحوالهم بل ظلوا
طوال حياتهم بمعزل عن الله، وفي معظم الأحايين كانوا بلا ريب أعداء للمسيح.

 

لذلك
كان العالم شركاً خطيراً لروحانية الأحداث مهما كانت قوتهم ما لم يحتفظوا على
الدوم بشعور متزايد بنسبتهم إلى الآب – تلك المعرفة التي كانت من نصيب حتى الأطفال
في عائلة الله. لقد تمتعوا بالإحساس العميق بهذه النسبة المباركة كان لهم اليقين
بغفران خطاياهم كما هو حال جميع أولاد الله. فحتى وهم أطفال أضافوا إلى متعة غفران
الخطايا معرفتهم للآب، وهو امتياز ثمين حقاً إذا نحن قارناه بحالة الأكثرين من
المسيحيين في الوقت الحاضر الذين يظنون أنفسهم ويظنهم الآخرون أنهم متقدمون ومع
ذلك لا يدعون الله لكن ليس كالآب بكل معنى الكلمة، بل كالقدير أو الرب-الكائن
(الرب) أو إله إبراهيم أو غير ذلك كما لو كانوا يهوذاً. تلك هي حالة النصرانية في
الوقت الحاضر وبخاصة بين أولئك الذين يتباهون بديانة الآباء والأجداد والجماهير
الغفيرة، ولكنها ديانة مطبوعة بالطابع اليهودي. أما مسيح المسيحية فإنه ينقل
المؤمن من كل ما هو أرضي سواء كان من متعلقات اليهود أو الأمم وينقش عليه اسمه
الكريم مكن بدء حياته الجديدة وفي كل طولها وعرضها كما يقول هو نفسه عن الذين
أعطاهم له الآب "ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم". لذلك كان
من واجب "الأحداث" روحياً أن يحترسوا بصفة خاصة من العالم لئلا يصبح لهم
(وهم في غمرة حماسهم وغيرتهم) غرضاً ذا قيمة. فقد يقولون أنهم إنما يريدون أن
يربحوا العالم للمسيح وأن غرضهم هو أن يجعلوا المسيح وإنجيله معروفين للعالم. ولكن
ألست بحاجة أيها الأخ الأحدث إلى الاعتماد على المسيح وعلى إرشاد روحه في معرفة
متى وأين تذهب وكيف تذهب؟ إنه لا يكفي أن يكون المشروع أو الغرض صالحاً، فإن الغرض
الرئيسي الذي يجب أن نتحفظ ضده كامن ليس في صلب المشروع أو الغرض بل في طريقة التنفيذ.
هنا يكمن خطر الفشل. قد تكون الغاية صالحة ولكن الوسيلة أيضاً يجب أن تكون مطابقة
لمشيئة الله وكلمته. ومن ذا الذي يستطيع أن يرشدنا ويحفظنا في الوسيلة التي
نتبعها؟ واحد هو الذي نحن له، عاملاً فينا بكلمته وروحه.

 

لم
يكتف الرسول الشيخ بالتحذير العام يلقيه في مسامع الأحداث ضد محبة العالم بل يردفه
بتحذير آخر "ولا الأشياء التي في العالم"، هذه الأشياء قد تكون أشد دهاء
ومكراً من العالم نفسه. خذ مثلاً ديانة العالم، ديانة الجماهير، ديانة العظماء
والشرفاء والحكماء. إن أي إنسان طبيعي لا يمكنه أن يتجنب هذا الجنب ما لم يكن
إنساناً فاجراً ماجناً مستبيحاً لا ميل له إلى الدين على الإطلاق. فإن قايين نفسه
كانت له ديانته بقدر ما كان له عالمه في ظلامه الدامس وبعده عن الله. أو ليس هذا
شركاً من أشد الشراك دهاء على كثير من القديسين وأدعي إلى يقظتهم وإستثارة كل
قوتهم فقد قول الكثيرين من المسيحيين: "لسنا نجسر أن نحب العالم، لكن ها هو
عرض مشروع نستطيع أن نؤذي به خيراً كثيراً أينما ذهبنا ومتى شئنا، وأن نتحدث
كارزين أو معلمين مهما تكن الظروف أو الجماعة التي تحيط بنا". وقد نسى
أصحابنا أن هذا كله على حساب الحق وانتقاص له. فهو إذن من "الأشياء التي في
العالم" والتي علينا أن نتجافاها ولا نحبا. ثم خذ غلطة أخرى أكثر شيوعاً وهي
أن يكون لكل واحد منا غرض خاص يجذبه، هوية خاصة من نوع ما، لا علاقة لها حقيقة
بالمسيح. هذه الأشياء وأمثالها تصبح أصناماً تتركز حولها أفكار أصحابها، في حين
أنه من حق المسيح (مع قيامنا بواجباتنا المعروفة وفرائض علاقاتنا العائلية) أن
يستحوذ على كل حبنا.

 

إن
المسي هو الغرض الذي وضعه الآب أمامنا وإذا ما كانت العين بسيطة من نحوه فلنتأكد
أن الجسد كله يكون نيراً. ومن المستحيل أن يكون شخص مخلصاً وصادقاً في تطلعه إلى
المسيح. جاعلاً إياه غرض خدمته وسلوكه اليومي، وفي نفس الوقت يشغف أو يتعلق بما لا
يستحسنه المسيح. لاشك أن شخصاً كهذا تكون كلمة الله ثابتة فيه. وإذا ما راضى
الإنسان نفسه على أن يفع ما يسر المسيح وكان هذا هو هدفه فمن المؤكد أن المسيح
يكون في عونه. غير أننا ونحن في هذه الحالة الطيبة قد تعترض سبيلنا مؤثرات عالمية
ضع غشاوة على العين وعندئذ تتحول الغيرة إلى انتفاخ الذات وإلى إتمام مشيئتنا
الخاصة. ومن وجب الحذر فالنشاط الحقيقي نفسه قد يعرضنا للخطر ولذلك يحذر الرسول
الأحداث بالقول "لا تحبوا العالم ولا أشياء التي في العالم" مردفاً إياه
بتحذير آخر أشد منه خطورة "إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب". إن
عادة يوحنا، كما رأينا سابقاً، أن يتحدث عن المبادئ المجردة دون التعرض للظروف
المخففة. فهو إذ يقول "إن أحب أحد العالم" يطلق هذا القول إطلاقاً دون
أن يشير إلى عامل من عوامل التخفيف أو الاستدراك بل يرسم المبدأ كما هو. فإذا كانت
محبة العالم مبدأك ومسلكك فليس في الإمكان أن تكون فيك محبة الآب كحقيقة.

 

على
أنه فيما يتعلق بالمسيحيين، كما هو مسلكهم الآن، فهناك في الغالب خليط محزن. فقد
تجد البواعث الطيبة والبواعث الردية تعمل جنباً تعمل جنباً إلى جنب. ولكن مثل هذه
الصورة ليست موضوع تأملنا هنا. هناك أجزاء أخرى من كلمة الله تعالج هذه الناحية.
أما الغرض هنا فهو تقرير المبدأ الخاطئ من ناحيتهما المطلقة. ومن هنا كان الحكم
الحاسم أنه إذا أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب وهذا قول سليم وحق لأنه يفترض
السلوك بموجب مبدً من المبدأين، محبة الآب أو محبة العالم. بعد ذلك يتقدم الرسول
إلى تبيان الفوارق الخاصة بالشهوات العالمية "لأن كل ما في العالم شهوة
الجسد" (أي العوامل المتوطنة في النفس) وشهوة العيون (أي التي تجذبني خارج
نفسي) وتعظم المعيشة (أي كبرياء الحياة أو تفاخرها). وهذه الأخيرة قد تكون الحرص
على المركز وما يتعلق به من عادات ومشاعر في العالم. خذ مثلاً شخصاً من النبلاء أو
الأشراف، أو واحداً من الطبقة الأكبر عدداً التي تليهم والتي يود كل فرد فيها أن
يكون من زمرة النبلاء والشرفاء. في مثل هذه الحالات أين يكون المسيح؟ وهل يجيز
المسيح لتلاميذه السعي وراء المراكز الدنيوية التي يود الناس الحصول عليها ولو
بجدع الأنف؟ وإلا فما معنى قول سيدنا "ليسوا من العالم كما أني لست من
العالم"؟ وهل العالم هو ما ينبغي على المسيحي أن يحتفظ به كتقدمة مقبولة
لمسيح؟

 

كثيرون
من المسيحيين يتمسكون هكذا بمراكزهم العالمية ويقدمونها للمسيح كما يقولون وكأنها
أشياء لها قيمة عنده له المجد! هل هذا ما رسمه الرب؟ وهل هكذا سار الرسل وغيرهم من
القديسين الأمناء؟ وأي شيء في الوجود يأخذ بمجامع القلب المطهر بالإيمان أكثر من
انفصال المسيح عن العالم للآب؟ أما أن العكس على طول الخط هو المشاهد بين كثيرين
من المسيحيين فأمر معروف ولا يحتاج إلى إيضاح وطالما كان منشأ حزن عميق وانسحاق
قلب شديد لأولئك الذين يغارون على اسمه الكريم وعلى كلمته. إن تعظم المعيشة في
المسيح قساوة للإنسان ومكرهة للآب. وليس من أجل هذا كان يسعى ربنا يسوع يوم جاء
إلى أرضنا وعاش وسط خطايا الناس وجهالاتهم وبطلهم وكبريائهم وكل ما كان يسود على
الناس من نقائض طالباً أن يخلص الشريف والوضيع على السواء. وليس من أجل هذا التقى
بنا المسيح، بل بالحري لكي يحررنا من كل بطل ولكي يستأصل منا جذور الكبرياء واضعاً
حكم الموت على كل ما هو من الجسد. هل استبقى الصليب واحداً من هذه الأشياء ولم يقض
عليه؟ حاشا. ومن هنا يقول عبده يوحنا أنه ولا واحد من هذه الأشياء ومن باب أولى
الأشياء في مجموعها – من الآب بل من العالم الذي أبغضه وأبغض ابنه. وهل يجد الآب
أية مسرة في شيء من هذه الأشياء التي تشغل أفكار الناس بهذا المقدار ويتشبثون بها
بكل عناد وإصرار سواء بحسد الغير عليها أو بنشدانها لأنفسهم؟ وقصارى القول أن تعظم
المعيشة ليس من الآب، بل أكثر من ذلك من عدوه – العالم.

 

لأنه
ما هو العالم؟ هو النظام الذي غرسه الشيطان بين قوم ساقطين ليمحو من ذاكرتهم
فردوساً مفقوداً. وقد راح هذا النظام يتسع ويتجمل وينمو من ذلك الحين رغم كارثة
الطوفان المريعة، إلى أن ثار أخيراً على ابن الله وصلبه فوق الخشبة. هذا ما فعله
العالم أخيراً بعد كل ما وصل إليه من تطور وتقدم ورغم كل ا احتواه من فنون وآداب،
ودين وفلسفة. لقد كان العالم يتكون حينئذ من يهود وأمم. وكلاهما أحب العالم،
وكلاهما تضافر في رفض رب المجد أشنع رفض. فهل عالم كهذا يستحق أن يكون غرضاً لمحبة
المسيحي؟ هل أي شيء منه على الإطلاق، أو أي شيء من مفاخرة ومباهجه؟ ألا يكون خيانة
للآب والابن؟.

 

على
أن للعالم خاصية أخرى يشدد عليها الرسول هنا وهي أنه زائل ويحمل في ذاته حكم الله
عليه بالموت. "والعالم يمضي" – سيذهب كله إلى غير رجعة. يمضي هو وشهوته،
إذ من ذا الذي يقدر أن يحفظه؟ لا فرق في ذلك بين ثراء ضخم أو جاه أو مركز أو متعة
أو سلطان أو ما شابه ذلك. الكل إلى زوال، حتى لقد يحصل كما حدث فعلاً في أيامنا،
أن عظمته في هذا الدهر قد تنتهي إلى قفر مدقع بحيث لا يجد صاحبها قوت يومه إلا عن
طريق العمل في مصنع من المصانع ومع كل هذا، ورغم كل هذا، نرى الناس يتهالكون
ليحصلوا على مركز أعظم مما هم فيه، حتى أنه حتى ستار المظاهر الخارجية تكمن شقاوة
لا ستطيع التمتعات تبديدها.

 

"والعالم
يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد" فليست الكلمة وحدها
هي التي تثبت إلى الأبد بل الذي يصنع مشيئة الله أيضاً. هذا أهم بكثير من أي تعليم
أو عقيدة يستخلصها الناس، أو بالحري من أي مادة من مواد قانون الإيمان، كما
يسمونها. لاشك أنها أمور قد تكون واجبة ولازمة لمقاومة ما هو ضلال أو شر، ونحن تحت
التزام لأن نخضع لكلمة الله ومشيئته المعلنة، ولكنه من السهل أن يتسرب الخطأ إلى
العقائد والتعاليم التي يصنعها أفضل الناس والتي يدافعون عنها أو ينافحون ضدها.
أما هنا فيقال لنا أن من يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد. وهذا ما لا يستطيع أحد
أن يصنعه ما لم يكن ملتصقاً بالمسيح ويحب الآب. مكتوب "الابن يبقى إلى
الأبد". والمسيحي قد يرقد ولكنه يثبت أو يبقى إلى الأبد. فسيأتي الرب ليوقظه
من رقاد الموت أو ليغيره إن كان حباً عندئذ ليكون على صورة جسد مجده الذي يبقى
عليه إلى الأبد. غير أنه مدعو لأن يدرك هذه الحقيقة من الآن وأن يتصرف بمقتضاها كل
يوم حتى لا تنحرف قدماه إلى مسالك العالم الدنسة، التي يظن إنها بهجة بينما هي على
العكس مليئة بكل شر وإثم.

 

والآن
نأتي إلى "الأولاد" الصغر في عدد 18. وهم ليسوا كل العائلة، ومن الخطأ
الذي لا مبرر له أن نخلط بين العائلة وهذا الفريق المعين منها وهم أصغر أعضائها أو
الأطفال فيها. ومع ذلك، ومع أنهم أقل طبقات عائلة الله بلوغاً، فهم الذين يقال
عنهم أنهم يعرفون الآب. تصور كم ابتعد قديسو الوقت الحاضر عن هذه المعرفة! وأليس
جديراً بالملاحظة أن روح الله يتحدث إليهم بتوسع أكبر؟ كلمة واحدة لم يزدها في
حديثه الثاني "للآباء" وبضع كلمات قليلة زيدت "للأحداث" أما
"للأطفال" فقد توسع وفاض. ألسنا نرى في هذا أسلوب النعمة وطريقتها
الصالحة؟ إنها ليست طريقة الإنسان ولا أسلوب الإنسان. أما الله فيدخل بروحه في
تفاصيل حاجة "الأولاد الصغار" ويهتم بها أكبر اهتمام. أنهم أحوج من
غيرهم إلى هذه العناية الدقيقة وهاهم يجدونها أكثر من غيرهم، فإن روح الله يفيض في
الحديث عن تفاصيل طريقهم أكثر مما فعل حتى مع الأحداث، وذلك لأن الأولاد الصغار
كانوا معرضين لخطر عظيم.

 

يقول
الرسول "أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة". وهنا يجدر بنا أن نراعي دقة
الألفاظ. فحينما يقول الوحي "الساعة الأخيرة" فمن المحقق أنه يقصد فترة
أقصر من "الأزمنة الأخيرة" (1تي 4: 1) أو "الأيام الأخيرة"
(2تي 3: 1) نعم هي "الساعة الأخيرة" ولو أنها ساعة طويلة جداً بلا شك،
ليس بسبب التباطؤ بل بسبب أناة الله الذي لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع
إلى التوبة. إن النعمة لا زال أمامها أناس آخرون تريد أن تخلصهم وتباركهم، أناس
آخرون تريد أن تجعلهم أعضاء في جسد المسيح، ومن أجل هذا ينتظر الله. ولكن منذ أيام
الرسول هي "الساعة الأخيرة" وما الذي جعلها كذلك؟ ليس المسيح معروفاً بل
"أضداد المسيح كثيرون". إن مجيء المسيح الأول يقال عنه قد تم "في
هذه الأيام الأخيرة" أي الأيام إلى بدأت بمعاملات الله مع شعبه إسرائيل في
الأرض والتي في نهايتها، عند انقضاء الدهور، جاء المسيح. هكذا نقرأ في عب 1: 2، 9:
26، لأنه "لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه".

 

أما
هنا فالتعبير خاصة جد خطير. إنها "الساعة الأخيرة". الوقت مقصر. الرب
قريب وهو على استعداد أن يدين الأحياء والأموات كما قال الرسول بطرس. على استعداد
ليس فقط أن يختطف قديسيه إلى السماء، بل أن ينفذ الدينونة على الأحياء والأموات
ومع ذلك فالله يطيل نعمته المباركة ليخلص آخرين، ومتى انضم آخر عضو في المسيح، وما
الذي يبقى بعدئذ؟ لا شيء طبعاً. وحينئذ يأتي الرب ويأخذ خاصته إلى الأعالي، وبعد
ذلك يبدأ عمله بين اليهود والأمم، وبصفة خاصة لكي يهيئ شعبه لمكانهم على الأرض،
فهم لم يكونوا مهيئين لذلك المكان في مجيئه الأول، ومن ثم سيتمم الرب هذه التهيئة
في مجيئه الثاني. ويومئذ يكون للرب ومملكته شعب منتدب. ويومئذ سيتمم الرب ما فشل
يوحنا المعمدان في إتمامه، وسيفعل ما لم تفعله الكنيسة فيحول قلب إسرائيل للترحيب
بمسياهم المرفوض زماناً طويلاً والذي سيدهشون ويحزنون إذ يرون أنه ليس سوى ذاك
الذي صلبوه…… من أجل هذا سيقسم له الرب في ذلك اليوم بين الأعزاء ومع العظماء
يقسم غنيمة، في حين أنه في الوقت الحاضر نرى أن الجهال والضعفاء والأدنياء في
العالم هم الذين اختارهم الله لتعظيم نعمته في المسيح، ولكن في يوم ظهورهسيرحم
القلوب المنكسرةة وتخشى الأمم اسم الرب وكل ملوك الأرض مجده. يومئذ سيكون فارق بين
أناس وأناس، لأن البعض يكون قد سبق إلى هذا الاكتشاف بينما الآخرون لا يعرفونه إلا
عند ظهوره.

 

أما
الآن فإنها "الساعة الأخيرة" بالنسبة لنا. ليست ساعة انتشار المسيحية
ولا إرسالية إنجيل الملكوت لجميع الأمم بل ساعة ظهور أضداد للمسيح. نعم، فسيأتي
وقت فيه يقوم متجددون بتوصيل بشارة الملكوت إلى جميع الأمم وسيجدون طريقهم إلى حيث
لم يستطع المسيحيون (لأن النعمة الإلهية ستعضدهم) وعندئذ يأتي انقضاء الدهر.

 

ولكن
هذا هو الرجاء المسيحي؟ كلا فإننا لسنا ننتظر النهاية بل ننتظر المسيح، وننتظره
لكي يخذوأخذنا لنكون حيث هو الآن. صحيح أن أولئك أيضاً ينتظرون الرب لكي ينزل
ويبارك الأرض، كما سيفعل بكل تحقيق، ولكن هذا شيء آخر بخلاف انتظارنا، وهو تابع له
أو واقع بعده. قد لا يطول موعده، ولكن هناك مع ذلك فترة قصيرة تفعل بين وجهي مجيئه
– الوجه السماوي والوجه الأرضي.

 

وهنا
الإعلان الخطير بأن الساعة الأخيرة قد أتت. "أيها الأولاد هي الساعة
الأخيرة". كم كان لهذا الصوت من دوي في نفوسهم وكم أثار من اهتمامهم وتعجبهم!
يظن الكثيرون أن مثل هذا الحق ليس هو الطعام المناسب للأطفال على الإطلاق، ألا ليت
المسيحيين يقرأون كتابهم، ولا يقرأونه فقط بل في ملء بساطة الثقة يؤمنون به، فإنهم
لو فعلوا ذلك لوجدوا فيه ما يضع حداً لهذه الأفكار والنظريات البشرية "أيها
الأولاد هي الساعة الأخيرة. وكم سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد
للمسيح كثيرون". هذا هو الطابع الذي يدل على أنها "الساعة الأخيرة"
فما من شر أشنع من ضد المسيح. فهو ينطوي على عداء مباشر شخصي للرب. قد يقلد الرب
يسوع، ولكن ليقاومه، وقد يدعى ما يخص الله، ولكن ليعظم نفسه وينكر الله، ومن هنا
كان ضد المسيح أشنع وأجرأ وأوقح أنواع الشر لأنه ضد السيد نفسه. وماذا نقول وقد
صار الآن أضداد للمسيح كثيرون. ففي هذه المدينة (لندن) أضداد للمسيح كثيرون، كما
في العالم المسيحي أجمع، يكرزون ويعلمون وجماهير تستمع إليه ممن لا يخامرهم شك
أنهم يسمعون المسيحية لا ضد المسيحية. والسبب الذي يجعل المسيحيين الحقيقيين
يستخفون بهذا كله هو قلة تأملهم في الكتاب بعمل روح الله فيهم.

 

والشيطان
لم يعدم وسيلة في أن يخلع المسميات اللامعة على مثل هذه الشرور والمفاسد كأن
يسميها مثلاً "النقد العالمي" مستمداً لها من بطون الفلسفة القديمة ما
يتمشدق بها العلماء الكفار، ومن قشور العلوم الحديثة ما يستعذبه العصريون الأغرار،
متخذا من هذا الخليط الأثيم قلعة ضد الرب يسوع، ومن هذه الوسائط مراكز لنشر الكفر
والإلحاد ولتسميم نفوس الأحداث الذين يتهيأ أكثرهم لأن يصبحوا من رجال الدين
اللاهوتيين أو من الرعاة والقسوس من أي نوع من الأنواع لأنه لا فرق في هذا بين
طائفة وأخرى. فالجميع قد انحدروا إلى هذه الغواية ولو بدرجات متفاوتة. وحتى
المؤمنون نالهم منها ضرر بالغ. لكن يعلم الرب أن ينقذ وهو له المجد يزيل الغشاوة عن
العيون ويجعلها تبصر الشرك فمن الواضح أن التعليم ليس ردعاً أو مانعاً ضد الشر،
ولكن الله يحرس "الأطفال" في نعمته. ولهم في معرفة الآب أساس مبارك لهذه
الحراسة. ولكن ماذا يهم الناقدون من هذا كله؟ هل لهم كلمة الله ثابتة فيهم؟ هل
يعتمدون على روح الله لنوال القوة لاقتبال الحق والسلوك فيه؟ كيف تأتي ذلك لقوم
ينكرون على الكتاب أنه كلمة الله؟؟ نعم، لقد صار أضداد للمسيح كثيرون "ومن
هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة".

 

وأي
مسيحي فطن لا يعرف هذه الحقيقة الآن؟ فكثيرون منا يذكرون الزمن الذي لم تكن فيه
شيوعية الفساد أو ما يقارن بها بالصورة التي نراها اليوم، حيث يتزايد الإلحاد
بسرعة خاطفة. على أن جرثومته – على الأقل – كانت بداية منذ أيام الرسول إذ يقول
"منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا". هذا هو طابع الارتداد. فإن بعضاً من
زعماء ضد المسيحية الحاضر كانوا يوماً ضمن المعترفين بالمسيحية ولكنهم "لم
يكونوا منا لأنهم لم كانوا منا لبقوا معنا. لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم
منا".

 

"أما
أنتم فلكم مسحة من القدوس". هذه هي هبتهم الجديدة من السماء، ويملكها حتى
"الأطفال" الذين أخذ بعض أضداد المسيح يضيقون عليهم الخناق لقد مهرتهم
السماء لنفسها وختمتهم بخاتمها الأبدي. لقد مسحوا بروح الله المعطى لهم، مسحة من
القدوس الذي هو الرب يسوع، لكن ماذا من أمرك أيها القارئ ؟ إنه لمن الخطورة بمكان
عظيم أن تقرر تقريراً قاطعاً هل أنت ممسوح بهذه المسحة أم لا؟ فهذه هي علامة
المسيحي المميزة له، ليس أنه مثبت في المسيح فقط بل ممسوح بالروح كما نقرأ في
رسالة كورنثوس الثانية (2 كو 1: 21) الأمر الذي يصدق على الأطفال في عائلة الله مع
أنهم كما ترى ليسوا بالغين روحانياً. فهل أنت كذلك؟ لا تضيع وقتك بالتفكير في
الآخرين حتى تستقر على أن هذا الامتياز هو لك من القدوس. ويومئذ، وبضمير صالح وقلب
سعيد يكون من حقك أن تطلب لهم الخير فإذا شئنا أن نخدم الآخرين بحكمة وغيرة خدمة
سليمة مضمونة فلنفكر أولاً في حاجتنا وحالتنا قدام الله.

 

وهنا
نلاحظ النبرة المشددة على ضمير المخاطب "أنتم" مع أن الخطاب موجه إلى
أصغر المسيحيين روحياً مما يدل بداهة على أن امتياز جميع أولاد الله. "وأما
أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء". أليست هذه كلمة عجيبة تقال عن
"الأولاد الصغار" أو الأطفال؟ ولكن علام العجب وهم أعضاء في عائلة الله؟
لقد كانوا أولاد الله الذين حصلوا بالمشاركة مع جميع الباقين على بركة اليقين
بغفران خطاياهم. وهذا قد أزال من نفوسهم الإحساس بالذنب والخوف، ذلك الإحساس الذي
يعوق السعادة ويعطل النمو. فإلى أن نعلم علم اليقين أن خطايانا مغفورة كيف يتسنى
لنا أن ندخل إلى كل الحق؟ إننا لا نستطيع ذلك إلا بضمير مطهر. فمن المسلم به حتى
بين أهل العالم أن الضمير الشرير يولد الجبن في حين أن الضمير المطهر تطهيراً
إلهياً يكسب صاحبه الشجاعة والثقة. انظر إلى هذا في بطرس. لقد كان بطرس معروفاً
بأنه التلميذ الذي أنكر سيده ومع ذلك فعندما ردت نفسه واستقرت على الفداء استطاع
أن يتهم اليهود غير المطهرين مواجهاً إياهم بذات التهمة التي سقط هو فيها
"أنتم… أنكرتموه أمام وجه بيلاطس وهو حاكم بإطلاقه" فالنفس حينما تكون
مثقلة بالخطية تنفر من سماع الحق الذي يدينها أكر فأكثر. ولهذا كان لزاماً أن نكون
أمام الله في حالة اليقين المطلق ببرائتا قبل أن يتسنى لنا أن ننمو بمعرفته أو أن تكون
لنا الشجاعة الحقة مع الآخرين.

 

ومن
ثم فقد كتبت الرسالة للجميع لأن خطاياهم قد غفرت من أجل اسمه فهي لم تكتب لهم لكي
تعرفهم أن خطاياهم قد غفرت، بل هم قد عرفوا ذلك مذ آمنوا بالإنجيل. المسيح قد حصل
لهم على ذلك بواسطة دمه، وهكذا قد أصبح الغفران حالة ثابتة ومقررة لمجي القديسين.
أنه من تحصيل الحاصل الكلام عن غفران جميع الخطايا السابقة للتجديد. ولكن ماذا عن
الخطايا التي قد ينزلق إليها المؤمن بعد ذلك؟ لا شك أن الرب لن يتألم مرة أخرى.
وهو لم يتألم عن ذبيحة المسيح لم يقف مفعولها عند نقطة معينة بل تناولت مجموعة
خطايانا التي حملها على الصليب مرة وإلى الأبد. هذا هو مصدر الغبطة المتضمنة في
ذلك الإحسان الأول من احسانات النعمة الإلهية. فهو ليس تعليماً عن جائزة معدة
للذين يجاهدون للحصول عليها. ولا هي حقيقية خارجية ينادي بها من فوق المنابر لتكون
موضع التقدير والإعجاب. بل هو امتياز شخصي من امتيازات الإيمان نحتضنه في ضمائرنا
ونخصصه لنفوسنا ونتقبله من الله كإحسان منه عظيم، به نفتح طريق اعترافنا المسيحي.

 

على
أن الأطفال أو "الأولاد الصغار" كما قلنا كانوا يمتازون بما هو أكثر من
هذا النصيب المشترك بين جميع المسيحيين، فإن الطابع الخاص الذي بدأوا به حياتهم
كان معرفة الآب. فإن الرب يسوع المقام من بين الأموات قد أعلنه كأبيه وأبيهم، وهم
قد عرفوا نه أبوهم وإلههم كما هو أبو ربنا يسوع المسح وإلهه. فكيف يسوغ للمسيحيين
مع كل ذلك أن يتجاهلوا حقيقة كهذه وثيقة الصلة بنفوسهم وتشغل الجانب الأكبر من
العهد الجديد؟ حقيقة هي من أهم خواص المسيحية ومميزاتها الأولية؟ فإن المسيح قد
قضى في صليبه على جميع خطايانا وأصبح المسيحي مهما يكن عدم استحقاقه – يعرف الله
كأبيه من اللحظة التي آمن فيها بالإنجيل. وقد عرف حتى الأطفال أن هذه لم تكن بركة
عابرة وقتية كبركات إسرائيل التي كان يعلقها الناموس على شرط الطاعة. ففي الإنجيل
يعطي الله للإيمان هبة دائمة، بخلاف الناموس الشرطي الذي لسان حاله: إن أطعمتم
ناموس الله تحيوا ولا تموتوا. أما الإنجيل فلا يقول لي أنني إذا أحببت الله فإنه
سيكون أميناً لي – وهو أساس لا يمكن لخاطئ أن يخلص بمقتضاه – بل بالحري ينادي
"هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل
تكون له الحياة الأبدية".

 

هذه
هي الحقيقة الروحية الهائلة التي تواجه الجميع. فإن أنا لم أصدق الله من جهة ابنه.
فإنني أسجل الهلاك على نفسي وغضب الله يستقر علي. أما إذا قبلت تلك الهبة العظمى
التي أنا في مسيس الحاجة إليها، أي محبة الله الواهبة حياة أبدية للمؤمن، وبذلك
أفوز ليس فقط بغفران خطاياي بل بشركة ابنه بالإيمان بالمسيح يسوع، فأنا حينئذ أكون
قائماً على الأساس المسيحي الوحيد الصحيح كطفل في عائلة الله ومع ذلك نهاهم، كأطفال،
يحذرون من الخطر الذي يستهدفون له. فهناك مضلون وأضداد للمسيح كثيرون. وسنرى فيما
بعد شياً من أساليب هؤلاء المضلين. ولكن لنتأمل الآن فيما أعدته لنا النعمة من
وقاية وتسلح قبل أن تطلعنا بأساليبهم المضللة "لم أكتب إليكم أنكم لستم
تعلمون الحق بل لأنكم تعلمونه وأن كل كذب ليس من الحق".ولولا المسحة من
القدوس (أي روح الله من القدوس الذي هو المسيح) لما كان لهم الأهلية لمقاومة مثل
هذه الشراك الماكرة الخطيرة. إن عطية الروح هي أبرز مميزات المسيحي وقد تكلم الرب
عن هذه العطية "كالماء الحي" الذي يعطيه للمؤمن فلم يكتف تبارك اسمه بأن
يعطي نفسه للمؤمن، بل هو يعطي كذلك الروح القدس كالمصدر الدائم للماء الحي الذي
ينبع فينا إلى حياة أبدية.

وبعد
أن أوضح الرسول وجود هذا الامتياز في الوقت الحاضر يتقدم فيخبر
"الأولاد" أو الأطفال إنهم "يعلمون كل شيء" وكيف يمكن أن يقال
عنهم ذلك؟ لأن لهم المسيح كحياتهم، وهو قوة الله وحكمة الله، وكما هو مكتوب
"سيكون الجميع متعلمين من الله". فامتلاك المسيح هو امتلاك المفتاح لكل
شيء. يضاف إلى ذلك أنهم ممسوحون بالروح القدس ليدركوا الحق أي ليخصصوه لأنفسهم بكل
يقين وحرية.

 

"لم
أكتب إليكم لأنكم لستم تعلمون الحق بل لأنكم تعلمون وإن كل كذب ليس من الحق"
يا لها من كلمات حافلة بالتعزية والتشجيع! إن تعليم التقليد غامض أبداً، ويترك
النفس في حالة الشك حتى فيما يتعلق بما نحن في مسيس الحاجة إليه أي اليقين بالسلام
الدائم مع الله. أما الادعاء بإعلان أو حق جديد فإنه يفتح الباب للشرير الذي سرعان
ما يظهر على المسرح هذه علامة يقدمها الرسول للأطفال ليأخذوا حذرهم، لأن كل كذب
ليس على المسرح هذه علامة يقدمها الرسول للأطفال ليأخذوا حذرهم، لأن كل كذب ليس من
الحق وأكذوبة ظاهرة واحدة كفيلة بأن نفضح كذب النظام كله، لأن الحق وحدة متجانسة
متماسكة، وتبارك اسم الله فإنه يعلنه حتى للأطفال من أولاده. أما هؤلاء المبتدعون
المضلون فقد أنكروا على الأطفال مثل هذه المعرفة وراحوا يدعون أنهم وحدهم يعرفون
الحق، وكأن لسان حالهم يقول: "إن عندنا النور الجديد، أما أنتم فلستم تمتلكون
سوى الأركان البدائية التي تركناها وراءنا. إن كل ما حصلتم عليه من معلميكم
القدماء ليس سوى قشور. إنكم لا تمتلكون سوى صرير الموسيقي التمهيدية صرير شد
الأوتار، أما نحن فلدينا الموسيقى ذاتها وفي أيدينا آلاتها وأدوارها الكاملة. لسنا
في حاجة إلى شد الأوتار فيما بعد، ها هي الفرقة بكامل هيئتها والجوقة بكامل
تكوينها". هذه هي روح الاكتفاء الذاتي التي يستشعرها أولئك المستسلمون لخداع
العدو، فلا عجب إن كنا نرى الرسول الغاضب يصيح هنا من أعماق قلبه "من هو
الكذاب"؟ – "من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح"؟ إن
هؤلاء الكذابين المضلين كانوا يحاولون بطريقة أو أخرى أن يهدموا شخص سيدنا الجليل،
وأليس أمراً مرعباً أن أكذوبة شنيعة كهذه تعتبر حقاً جديداً عظيماً بين أولئك
الذين كانوا يوماً يعترفون به له المجد؟ نقول؟ هذا لأن "الكذاب" المقصود
هنا ليس هو الشيطان بل أناس كانوا يوماً في عداد المسيحيين وهم الآن ينكرون أن
يسوع هو المسيح.

 

ولكن
الرسول يتعقب الأكذوبة إلى أبعد من ذلك فيقول "هذا هو ضد المسيح الذي ينكر
الآب والابن" إن المفروض أن ضد المسيح ينكر مجموعة من الحقائق تزيد عما كان
يعرفه اليهود. صحيح أن كلمة "الكذاب" قد تنطبق على اليهودي الذي سمع عن
الرب يسوع ولكنه رفضه، وذلك لأن الناموس والمزامير والأنبياء قد أشارت جميعها إلى
الرب يسوع، ولكن اليهودي رفض مسيحاً بدلاً من أن يقيم مملكته بالقوة تألم عن
الخطايا فوق الصليب، وهكذا فضل ما عرضه إبليس (باراباس) ورفض المسيا الحقيقي.
والمسيحي الزائف قد يكون هو الآخر "الكذاب" بصورة أشد دهاء وخبثاً. يرى
أن "ضد المسيح" ينطوي على ما هو أكثر من ذلك. لقد كان له مكان بين
المسيحيين المعترفين، وقد سمع الحق المتعلق بالآب والابن، والآن يرفضه وينكره. إن
مبدأ المسيحية متضمن في هذا الحق الجليل وبصفة خاصة في الصيغة التي تقال عند
المعمودية المسيحية "باسم الآب والابن والروح القدس". وليس في التمسك
الحرفي بهذه الصيغة الرسمية أي إغفال لاسم الرب يسوع لأن هذه هي الصورة الصحيحة
التي رسمها سيدنا نفسه ومن واجبنا أن نوقر كلماته فلا نزيد عليها أو ننقص.

 

غير
أننا نرى هنا شخصاً ينكر الآب والابن، وليس في نظر الروحانيين علامة أعظم من هذه
على ضد المسيح. والشيء الخطير إنه من وسط المجموعة المسيحية خرج هؤلاء الأضداد
للمسيح. فلا سبب إذاً يحملنا على الدهشة إذا رأينا أن أمثال هؤلاء التائهين
الضالين ليسوا نادرين حتى حيث تجزل النعمة مقدراً كبيراً من الحق وغيرة في إذاعته
وتطبيقه عملياً، طالما أن أصحابه يستسلمون للعقائد والأفكار التي تهدمه فيضلون
ضلالاً مبيناً. وكما يقول المثل المعروف: أن فساد الأحسن أردأ الفساد. فليس هناك
أرهب ولا أروع من السقوط والارتداد عن أسمى وأكمل حق. حق الآب والابن، وهذا
الارتداد هو علامة أضداد المسيح.

 

ولئن
كان لنا التحذير بأن "كل من ينكر الابن ليس له الآب أيضاً" فهنالك
الكلمة المشجعة تتلو ذلك للأطفال "ومن يعترف بالابن فله الآب أيضاً"
ولهذا العدد بشطريه أهمية قصوى في ذاته وبالنسبة للنور الذي يلقيه على مكائد
إبليس. فأصحاب مذهب التوحيد في النصرانية يعترفون بأنهم يكرمون الآب ولكنهم ينكرون
الابن والنتيجة أن اعترافهم بالآب لا قيمة له على الإطلاق بحكم العدد الذي أمامنا
فالآب ليس هو محك الحق بل الابن. ولذلك فكل من يعترف بالابن له الآب أيضاً. لا شك
أن الاعترافين يسيران معاً، غير أن الابن هو المحك الوحيد والوسيط الفريد. فإن
أنكرت الابن فإن الآب يرفض اعترافك به رفضاً باتاً لأنك لا تكرم الابن. إن الآب
حريص على صيانة مجد الابن الذي أخلى نفسه من مجده ووضع نفسه لا لكي يصير إنساناً
وعبداً فحسب بل لكي يطيع حتى الموت موت الصليب. فلا عجب إن كان الآب يحرص على مجده
وتكريمه، وإن كل من يستهين به يفعل ذلك على حساب أبديته مسجلاً على نفسه عقاباً
أبدياً، وقد أعطى الله شهادات عديدة على ذلك الإنسان حتى أنه بلا عذر.

 

والآن
نأتي إلى نقطة لها قدرها من الأهمية، وهي قول الرسول "أما أنتم فما سمعتموه
من البدء فليثبت إذاً فيكم" – وهو ليس "الذي من البدء" ولكن
"ما سمعتموه من البدء" وهذا يعود بنا إلى الكلمات الافتتاحية في الإصحاح
الأول والواقع أن الفرق بين "الذي كان من البدء" و " ما سمعتموه من
البدء" فرق طفيف للغاية وكلاهما قول كامل في محله الخاص. ولكن النبرة في عدد
24 الذي أمامنا هي على التحريض على أن يثبتوا فيما سمعوه من البدء.

 

أجل.
فليس هناك من شيء جديد يمكن أن يضاف على ما سمعوه فإن كان شيء جديد فهو ليس من
المسيحية بل من تطورات عمل الشيطان وكل ما يزيد على إعلان الله في المسيح كذب
وضلال. أن الإنسان يكره أن يكون خاضعاً لكلمة الله ومن هنا كانت جهوده للتخلص من
السلطان الإلهي ليس فقط في العهد القديم بل كذلك في العهد الجديد. فمن "النقد
الأعلى" الهادم للإيمان في الدوائر العلمية إلى ما يقابله من "تعليم
الكنيسة" في الدوائر الدينية ولو أن بعضاً من الناس يجمعون بين الاثنين
فيجعلون منهما مزيجاً هو السم الزعاف بعينه. وإن كنا نترك النقد الأعلى لأهل
العالم فأين نجد في الكتاب سنداً لما يسمونه "تعليم الكنيسة". هل الكيسة
تعلم؟ إن الكنيسة بمقتضى كلمة الله تتقبل التعليم عن طريق الرسل والأنبياء، ثم عن
لسان المعلمين وغيرهم من أصحاب المواهب الذين هم عطايا من المسيح الرأس لهذا
الغرض. فالكنيسة والحالة هذه تتعلم ولا تعلم،ومن شأنها أن تؤمن بالحق وتتمتع به
وعليها مسئولية السلوك والسجود بالحق. فخير لها أن ترى هل هي تؤمن بالحق أم لا في
أيام الشكوك هذه.

 

أما
القول بأن الكنيسة تعلم فهو غرور باطل وخداع خطير. صحيح أننا مطالبون لأن نخضع
للكنيسة من حيث التأديب. لكن التعليم شيء آخر. إن الكنيسة تحتاج إلى الحق، وفكرة
قيامها بالتعليم تحمل الناس على سماع ما ليس معلناً في الكتب المقدسة، فيسلمون
أنفسهم لحركات أذهانهم وخيالاتها التي تستند على النظريات البشرية أو الأساطير
البالية التي تنطوي على إضافات للكتاب، وأحلام وخيالات حول العذراء والقديسين
والملائكة ومن إليهم أو الفروض العقلية التي عليها يعيش اللأدريون أو بالحري
يموتون. أما الله فهو المعلم الوحيد الكامل المعصوم، ولا شك أن أولاده المؤمنين –
كما كتب أنبياؤه – يكونون متعلمين من الله الذي تعلنه الكلمة في غير ما حاجة
لادعاء الكنيسة بالتعليم. من هذا نرى أن ما سمعه الأطفال من البدء يبقى هو هو الحق
دون أن يطرأ عليه تطر أو تعديل. إن نظرية "التطور" التي هي أنشودة
العالم في اليوم الحاضر سواء في الدين أو العلم ما هي إلا أسطورة شريرة وبخاصة من
الناحية الدينية، ذلك لأن الأساطير العلمية يقتل حديثها قديمها فتموت مع الزمن على
أيدي أصحابها، في حين أن الضلالات الدينية لها قوة شيطانية ليس فقط من حيث تأثيرها
الفاسد بل من حيث دوام سلطانها على النفوس.

 

إذاً
فأين الحق، وما هو الحق؟ هو المسيح. والمسيح كما أعلن على الأرض. فكيف يمكن أن
يعتريه تطور، أو كيف يمكن أن يعتريه كلمة الله التي تعلنه تبارك اسمه؟ لا شيء يمكن
أن يضاف إلى الحق ليجعله أكمل مما هو عليه، ذلك لأنه الحق وكفى. ولا شيء يمكن أن
يكون أجلى وضوحاً مما سمعوه يوم كان ربنا على الأرض أو مما كتبه الروح القدس وكان
في إمكانهم أن يسمعوه. فالكل قد نطق به أواني الوحي، لا بأقوال تعلمها حكمة
إنسانية بل بما علمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات (أي أن الحقائق كانت
من الروح كما أن الألفاظ التي صيغت بها كانت كذلك من الروح) وما أبرك النتيجة العملية!
فهي ذات الكلمة بدوت تغيير أو تطور "إن ثبت فيكم ما سمعتموه من البدء فأنتم
أيضاً تثبتون ف الابن وفي الآب" فالحق غير مستقل أو منفصل عن المسيح، ونقول
المسيح كما أعلنه الله في كلمته. "وهذا هو الوعد الذي وعدنا هو به الحياة
الأبدية" – وهي جملة لها من الدلالة وقوة التأثير في هذا المكان نفس ما كان
لها عند استعمالها لأول مرة للتعبير عن شخص المسيح كمصدر الحياة الأبدية في ص 1: 1
و 2.

 

"كتبت
لكم هذا عن الذين يضلونكم" فالأطفال بحاجة إلى التحذير والوقاية ضد المبتدعين
الذين يقبلون الحق بمواعيد كاذبة بعكس وعد الله الصادق. فقد بذل أولئك المضلون
جهدهم لإقناع أنفسهم وآخرين معهم أنه بدلاً من حصولهم الآن (والآن فعلاً) عن
الحياة الأبدية في الابن فإنهم سيحصلون عليها عند القيامة. ولكن هذا معناه نسيان
ما سمعناه من البدء، وحيث أنه مخالف لما سمعناه فهو كذب، وكل كذب ليسمن الحق. والعبارة
التي أمامنا ترينا أن هذه الأفكار وغيرها من الأفكار المستحدثة عن موضوع الحياة
الأبدية هي أفكار خاطئة. وإن كلمة الرب تكشف ضلالها وتبرهن على كذبها لأن هذا هو
"ما سمعناه (نحن الشهود الملهمين) من البدء". وهل يمكن أن يكون هناك ما
هو أكر ثباتاً ويقيناً من ذلك؟ إذن فالمضلون لم يموتوا ولم يتلاشوا من المشهد بل
لازالوا يواصلون ضلالهم سواء دعوا بالخلافة الرسولية أو لم يدعوا (رؤ 2: 2).

 

"وأما
أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم". والنبرة هنا مشددة على ضمير
المخاطب "أنت" كما في عددي 20، 24. لقد قال أن الكلمة التي سمعوها تثبت
فيهم – وهي قياس الحق، القياس الوحيد المكتوب. والآن هو يكرر الحقيقة الأخرى
المباركة، وهي أن المسحة المقدسة، الروح المعطى لهم. ثابتة فيهم. أي نعم أيها
"الأطفال" إن مسحته ثابتة فيكم باستمرار. والغاية من مسحة الروح هي
إدراك حق الله في المسيح والتمتع به قوة.

 

"ولا
حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد". لقد قبلوا المسيح الذي هو الحق كما هو الطريق
والحياة. عرفوا ذلك من الله الآب بالروح القدس. "بل كما تعلمكم هذه المسحة
عينها عن كل شيء هي حق وليست كذباً. كما علمتكم تثبتون فيه": فلم يكن الأمر
قاصراً على ما قبلوه وتعلموه فقط بل ها هو الروح القدس ثابت فيهم ليعلمهم كل ما
احتوته الكلمة تفصيلاً وتطبيقاً وذلك بعناية الله العطوفة على الأطفال أو الأولاد
الصغار. إذن فما بهم من حاجة لأن يعبأوا أو يخافوا من المخادعين المضللين لأن
سندهم الذي يعتمدون عليه لم يكن الناس الذين يكرزون بأنفسهم لا بالرب يسوع. فيا له
من ضمان، ويا لها من بركة حتى لأصغر أعضاء عائلة الله روحياً! فما عليهم إلا أن
يثبتوا في المسيح كما علمهم من البدء.

 

الخطاب
الثامن

1 يو
2: 28 – 3: 6

"والآن
أيها الأولاد (الأحباء) اثبتوا فيه حتى إذا أظهر يكون لنا ثقة ولا نخجل منه في
مجيئه. إن علمتم أنه بار هو، فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه"

 

"انظروا
أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا
يعرفه. أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه
إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو. وكل من عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما
هو طاهر".

 

"كل
من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضاً. والخطية هي التعدي. وتعلمون أن ذاك أظهر لكي
يرفع خطايانا وليس فيه خطية. كل من يثبت فيه لا يخطئ. كل من يخطئ لم يبصره ولا
عرفه"

 

نعود
الآن إلى موضوع الرسالة الرئيسي. فبعد الجزء العرضي الهام. الذي هو بمثابة جملة
معترضة يمكن وضعها بين قوسين، والتي تناولت درجات الاختلاف الروحي بين أولاد الله.
نأتي إلى ما يخص أولاده كمجموعة كما كان الحال قبل الفقرة المعرضة التي بدأن
بالعدد الثاني عشر، وكما هو الآن في العدد 28 الذي أمامنا والذي يعود بنا إلى
موضوع الرسالة العام. فالكلمة الآن موجهة إلى الجميع "والآن أيها الأولاد
(الأحباء) اثبتوا فيه".

 

هذا
هو الاختبار المسيحي الصحيح. الإيمان بشخص الرب الذي يقود إلى الثبات فيه. ليس فقط
الثبات في الحق، أو في العمل والتعليم، بل في شخص المسيح الإلهي الحي، فمما يجعله
له المجد أكثر جاذبية ومغنطيسية (إن جاز هذا التعبير)هو أنه إنسان وإله في وقت
واحد في اتحاد عجيب بين اللاهوت والناسوت ليس كما يميل البعض إلى النظر الأمر
أحياناً، وهو أنه عندما يتكلمون عنه كإنسان فذلك بالانفصال عن اللاهوت وعند الكلام
عنه كالله فذلك بالانفصال عن الناسوت. كلا فهو في الحق شخص واحد. طبيعتان متحدتان
في شخصه العجيب الواحد، وهنا السر الهائل العجيب الذي يجعل شخصيته له المجد فريدة
لا مثيل لها، فوق كل بحث أو استقصاء ومما يجعله مستحيلاً على الإنسان أن يسبر
غورها أو يدرك عمقها، كما يخبرنا هو نفسه بفمه الكريم "ليس أحد يعرف الابن
(على حقيقته) إلا الآب". ولنلاحظ أن الرب لم يقل هذا عن الآب، مع أن الآب لم
يصر إنساناً كما صار الابن. على أن الابن يعلن الآب، ولكن لا يقال أن الآب يعلن
الابن. قارن مت 11: 27 لوقا 10: 22. فشخصية الرب يسوع فوق متناول البشر وفيه السر
العظيم الذي لا يستقصى. وهنا اخطر على ذهن الإنسان الذي من طبعه الكبرياء
والتجاسر، وبخاصة في أمور الله – تلك المنطقة التي لا مكان فيها على الإطلاق
للإنسان الأول المجرد من البر والصلاح والفهم، فضلاً عن كونه لا يطلب الله.ولذلك
فإن الإنسان، وهذا وصفه، يتخبط من خطأ إلى ما هو أفظع منه "لأن مَن من الناس
يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد
إلا روح الله" (1 كو 2: 11). وها هو الروح القدس قد أعطى لنا كمؤمنين بالمسيح
لكي يمجده. لأن الرب يسوع هو الحق وهو الحق في طبيعته المزدوجة، كالله وإنسان في
شخص واحد. فإذا كان مؤمنين، فإن حكمتنا وسعادتنا وقوتنا للخدمة والعبادة، بل ذات
أمننا وسلامتنا، هي جميعاً في "الثبات فيه".

 

حينما
كون الله إسرائيل كشعب لا نرى أقنوماً إلهياً قد أعلن، بل كانت هناك أوامر ووصايا
صدرت من جلال الله بما يتفق والرعب الذي أوحاه الله في شعب أرضي لم يكن الجانب
الأكبر منهم متجدداً ومع ذلك فقد كان الناموس لكل واحد منهم، ولكن الناموس كما
قلنا لم يعلن شخصاً أو أقنوماً. صحيح كانت الوصايا العادلة تصدر عن الر وكان هو له
المجد مؤسس الفرائض – طقوس وممارسات هامة وخطيرة، تنطق كلها باسم ربنا يسوع وتشير
وظائفه وعمله. إلا أنه لم يكن هناك إعلان صريح بعد عن شخص إلهي. كان الناموس
قائماً على سلطان الله الساكن في الضباب، في حين أن حق المسيحية الجوهري يقوم على
مجيء ابن الله للإنسان من عند الآب. ونحن نعرف الأمور الموهوبة لنا من الله في ذاك
الذي هو نفسه إله وإنسان وهو له المجد كذلك لكي يمثل الإنسان كما ينبغي أن يكون
أمام الله، ويعلن الله كما هو للإنسان، ثم لكي يتسنى له، بعد إتمام الفداء، أن
يرسل الروح القدس. أليست هذه نعمة سامية لا حد لها؟

 

تلك
هي البركة التي لا تقدر، المرتكزة على الرب يسوع. لم تكن هي الناموس ولو أن سيدنا
جاء مولوداً تحته. ولم تكن الوعد ولو انه المجد متمم الوعد ومكمله. بل هي شخصه، هي
نفسه كالابن، الابن المتنازل لكي يصير إنساناً حقيقياً،مع فارق خطير واحد، كما
سنقرأ فيما بعد في هذه الرسالة، وهو أنه "ليس فيه خطية" – ليس فقط أنه
لم يفعل خطية، أو أنه لم يعرف خطية، كما نقرأ في 2 كو5: 21، بل لم تكن فيه خطية.
طبيعته قدوسة لم يمسسها الخطأ. لهذا كانت ولادته فريدة لا مثيل لها على الإطلاق.
لا شك انه ولد من العذراء ولكن ليس هذا هو الذي جعله بلا خطية، لأن العذراء
المطلوبة كانت في ذاتها خاطئة كغيرها من البشر. كانت مؤمنة عظيمة امتازت ببساطة
عجيبة وطهارة فائقة. ولكنها كانت محتاجة إلى مخلص، وقد وجدت نفس هذا المخلص كما
وجدناه نحن في الابن المولود منها. ولكنها عرفت جيداً أن هذا الابن العجيب جاء
مغايراً لكل ابن آخر في الطريقة التي صار بها جسداً. فقد كان ذلك بقوة الروح
القدس. لهذا كان هو – وليست هي – بلا دنس. إنه من الحسن التمسك بالحق بلا زيادة
ولا نقص، لأن الجرأة على إضافة شيء إلى الحق المعلن تفتح الباب للخرافة لابتكار
ضلالة تأخذ مركز المسيح الفريد وتعطيه لآخر.وهذا تجديف لاشك أن الله يدينه ويقضي
عليه.

 

لقد
كان في تجسد سيدنا معجزة هائلة، كما كان في موته وقيامته. فليس هناك ما ينسجم مع
البشرية أكثر من الولادة والموت، لأن هذا هو الإنسان في حالته الراهنة. وقد عرف
الرب هاتين الحالتين (الولادة والموت)، ولكن في كلتيهما – كما في سائر الحالات –
كان الله معلناً متجلياً. فعلى الصليب رضي أن يبذل حياته. لم يكن لأحد أن يأخذها
منه، لولا أنه أراد وأرتضى أن يضعها من ذاته. وضع حياته، الأمر الذي يكن في
استطاعة سواه أن يفعله. إن حاولت أنت أو أنا أن نضع حياتنا فذلك خطية شنيعة وجرم جسيم.
أما في الرب يسوع فقد كان فضلاً كبيراً ونعمة ثمينة في طريق تبرير الله من جهة
الخطية كلها. وهكذا في الأمرين اللذين شابه الإنسان فيهما أكثر من غيرهما – أي
الولادة والموت. كان له المجد أسمى من الإنسان بما لا يقاس. كما يليق بأقنوم إلهي.
وهنا يقصر عقل الإنسان ويتجلى فشله المطلق لأن الثقة بالذات والجهل بالله يجعلانه
يتردد في الاعتراف بأن هناك أي سر يدق عليه فهمه. فهو يزعم في نفسه الكفاية لكل
صعوبة والقدرة على حل كل مشكلة، ومن ورائه العدو الأكبر يشد إزره وينفخ في أوداجه
ويهيب به أن يثق في ذاته دون الثقة بالله الذي يريد أن يضعه في التراب كخاطئ
ويدعوه لأن ينظر إلى الرب يسوع وحده، لأن كل بركة تصدر للإيمان عن طريقه. غير أن
هذا مع الأسف الشديد هو عين ما تنفر منه كبرياء الإنسان وبذلك يرفض نعمة الله في
المسيح فالإيمان هو عطية الله.

 

فهنا
إذاً، بعد أن عرفنا الرسول من هو هذا الشخص العجيب، الذي كان من البدء، الذي جمع
الله والإنسان في شخص واحد، يقول لنا "اثبتوا فيه" والواقع أننا لا نعرف
أحداً يليق بأناس مثلنا أن يثبتوا فيه سوى ذاك الذي هو الحق أي المسيح. إن روح
الله ساكن فينا ليمنحنا القوة. لكن غرض الإيمان المعلن في مراحل الطريق كلها إنما
هو نفس الشخص الذي بدأنا به طريقنا ومن هنا كانت للأطفال كما رأينا المسحة من
القدوس، وليس فقط أنهم تجددوا. فالمسيحي هو أكثر جداً من مجرد شخص تجدد ورجع إلى
الله. ذلك كان شأن القديس في العهد القديم. كان شخصاً متجدداً ولكنه غير حاصل على
الروح القدس، فإن هذه الهبة المسيحية الخاصة تتبع الفداء معروفاً ومتيقناً لدى
النفس، المسيح وحده هو الذي كان له الروح القدس بغير فداء وبغير كفارة، لنه هو
وحده كان كفارة، لأنه هو وحده كان قدوس الله، البار بالإنجيل فنحتاج للفداء، غفران
الخطايا ومن أجل ذلك فإننا بعد التجديد والإيمان بالإنجيل مباشرة ننال الروح
القدس، نصبح مسيحيين (قارن أع 11: 17) فإن عطية الروح القدس هي العلامة الحقيقية
المميزة لا كمسيحيين – "المسحة من القدوس" – كما هو مكتوب إذا آمنتم
ختمتم. ومن أجل هذا يقول الرسول وأما أنتم (وليس أولئك المضللون أضداد المسيح)
فلكم هذه العطية العظمى من القدوس وحيث أن المسيح هو الذي منه جاءت هذه المسحة،
إذن "فاثبتوا فيه".

 

هل
كان للإسرائيلي شيء ثابت تحت الناموس؟ كلا، فلم يكن لهم أقنوم إلهي معلن. كانت
غاية الناموس انتظار الفداء (إلا في الرموز) فلم يحصل الإسرائيليون على المسيح،
ولا على كفارته. أما إرسالية الرب يسوع فكان الغرض منها إعلان الله والآب لمؤمن في
الابن، ولم ينزل الروح القدس لم تكن قبل ذلك حتى بالنسبة للناس المتجددين. وغنى عن
البيان أن الديانات الزائفة لا تعرف شيئاً من هذا ولا تدعيه، ومهما كانت الشهوات
والانفعالات التي تعبث بها هذه الديانات – مع ما تنطوي عليه كتبها من سخافات فوق
سخافات – فإنها لا تتحدث عن إعلان الله نفسه، لا فرق فيها بين ديانة الهندوس بكتب
حكمتهم ومعارفهم، أو ديانة البوذيين والبراهمة الذين ينكرون وجود الله لاعتقادهم
بتعدد الآلهة.

 

أما
جوهر المسيحية فهو الله معلناً في ابنه باعتباره (أي الابن) إنساناً سالكاً في
قداسة المحبة على الأرض، فوق كل الشر والضلال الذي كان محيطاً به، وذلك لكي لا
يكون إعلانه لله بمجرد الكلام بل بالعمل والحق. فكل أعماله وكل أقواله أعلنت الله
الآب. وكل معجزاته أظهرته بكيفية تفوق الآخرين مهما كانوا.لقد وجدت آيات وقوات
أجراها موسى وإيليا وأليشع وآخرون، ولكنها جميعاً كانت من نوع آخر. أما هنا
فأمامنا شخص المسيح يسوع الفريد الوسيط الوحيد بين الناس والله، ولذلك قيل لنا بحق
"اثبتوا فيه". هناك وهناك فقط، الأمن والسلامة والبركة، وهناك فقط نور الله
ومحبة الله، ويقين الحياة الأبدية التي يهبها الله للمؤمنين به. فالكل فيه ولا شيء
مستقل عنه.

 

لقد
قام البعض مؤخراً يقولون أننا نحن المؤمنين ليس لنا حياة في أنفسنا ونصيحتنا إلى
أمثال هؤلاء أن يتدبروا الأمر لأنهم بذلك يتحدون الكتاب في أفكارهم أو في القليل يتعدونه.
فهم يقولون ويؤكدون أن الحياة هي في الابن، وفي ذلك هم محقون إلى أقصى حدود الحق،
فمن خواص الحياة الأبدية الثمينة أنها في الابن وأنها لحقيقة مباركة أن تكون
الحياة الأبدية في شخصه العزيز، الأمر الذي يحملنا على تقديم الشكر القلبي لله من
أجله، لأن وجود الحياة الأبدية في الابن ضمان لوجودها ثابتة طاهرة غي مدنسة وغير
متغيرة. فهي فيه وتبقى فيه مضمونة ومؤكدة إلى الأبد، ولكنها أيضاً قد أعطيت لكل
مؤمن لتكون حياته الجديدة. لو أننا أخذناها بالاستقلال عنه، أفما كنا نفقدها
سراعاً أو نحولها إلى نفس المصير المحزن كما فعلنا بسائر الهبات الأخرى التي منحنا
إياها الله؟ أما المحقق فهو إنها لنا، وإنها لنا فيه. كلاهما حق، ولو أن الحق
الثاني يعظم الأول ويمجده. فهو حياتنا. وليس بعد ذلك من مزيد. شكراً لله.

 

"والآن
أيها الأولاد اثبتوا فيه" – جميع عائلة الله – "حتى إذا أظهر يكون لنا
ثقة ولا نخل منه في مجيئه". هذه عبارة جديرة بانتباهنا لأنها طالما أسيء
فهمها، لأن الذين يستخدمون هذا العدد يظنون أن ضمير الجمع المتكلم في القول
"لا نخجل" ينطبق علينا أو على المسيحيين الذين كتبت الرسالة إليهم، في
حين أن الرسول يفرق في استعمال الضمائر فهو يقول "اثبتوا فيه" موجهاً
الكلام إلى أشخاص المخاطبين حتى "لا نخجل" نحن أي الأشخاص الذين كانوا
المخاطبون ثمرة خدمتهم في الرب. فإنها تكون إهانة كبيرة للحق، وألماً بالغاً
للخادم، لو أن أحداً مما بدا عليهم بأنهم قبلوا الحق يتركه ويتخلى عنه. ولذلك فإن
الرسول يضع الأمر في صيغة تمس عواطفهم، وتناشدها. فإذا كان الرسول شخصياً قد فعل
ذلك فهو لا يزال الرسول المبارك الأمين، ولكنه في ذاته أمر مخجل للعامل أن الأشخاص
المفروض أنهم قبلوا الحق يتركونه.

 

وهنا
نرجو القارئ أن يلاحظ أن هذا الانحراف لم يكن جديداً فقد بدأ بيهوذا، وأن لم يكن
بيهوذا على وجه التحقيق، فبكثيرين من تلاميذه الذين رجعوا إلى الوراء ولم يعودوا
يمشون معه من الوقت الذي تحدث فيه عن تجسده وموته كطعام الإيمان الذي لا غناء عنه.
كذلك كان بين الرؤساء كثيرين آمنوا به ولكن بسبب الفريسيين لم يعترفوا به، لأنهم
أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله.

 

آه
أيها القارئ العزيز، احذر من هذا. اعترف به إن كان قلبك قد استراح عليه للحياة
الأبدية. ولا تعترف به فقط بل اثبت فيه مهما كان الضغط قاسياً وشديد من الخارج، إن
الرسول يسوق النصيحة هنا في قالب غاية في الرقة والعطف إذ يقول "حتى إذا أظهر……….
لا تخجل منه في مجيئه". وكأنه يريد أن يقول أن ارتداد الضالين سيكون بلا شك
سبب خجل لنا في ذلك اليوم.

 

غير
أن هناك ملاحقات أخرى غنية بالتعليم يمكن أن تستفاد من هذا العدد فهناك تعبيران
مستعملان يختلف أحدهم عن لآخر. الأول "حتى إذا أظهر" والثاني "في
مجيئه". وكلمة "مجيء" المستعملة هنا ليست ذات الكلمة المستعملة
للتعبير عن المجيء أو الإتيان كما في (يو 14: 3، 1كو 11: 26) وسفر الرؤيا يتكرر
القول "ها أنا آتي سريعاً". هذا معناه عملية المجيء. خذ مثلاً لذلك
القديسين الذين يقتلون في أوائل وأواخر أزمنة سفر الرؤيا، فهم جماعتان من القديسين
يقاومون بعد ظهور الرب قضائياً في مجده (رؤ 20: 4) ومع ذلك فإنه يقال عنهم أنهم
"جزء من الذين للمسيح" الذين يقامون في مجيئه (1كو 15: 23) ولاشك أن
عبارة "في مجيئه" هنا لا يمكن أن تعني المجيء بالذات بل حالة حضور الر
بعد المجيء بالمقابلة مع حالة غيابه في الوقت الحاضر.

 

وهناك
فارق آخر في استعمال التعبير. فإن كلوم "مجيء" بمعنى "حضور"
قد يقصد بها الحضور للشعب السماوي أو الشعب الأرضي. ففي رسالة يعقوب مثلاً نقرأ
القول "إن مجيء الرب قد اقترب" والمقصود كما نعلم هو الجانب الأرض من
المجيء. ومن هذا القبيل قول سيدنا "ابن الإنسان في مجيئه" فإن العلاقة
بين "ابن الإنسان" وحضوره تحدد هذا الجانب تحديداً واضحاً في أناجيل متى
ومرقس ولوقا وكلك الحال في رسالة يعقوب حيث يقال "هوذا الديان واقف قدام
الباب" فإن صفة الرب كالديان مرتبطة بطبيعة الحال بيومه أو ظهوره. وهكذا نجد
أن "ظهوره" أثر من آثار حضوره، وكذلك "استعلانه".

 

غير
أن "الحضور" يتناول أيضاً مجيئه لأذنا لنفسه إلى بيت الآب قبل ظهوره أو
استعلانه. وبعبارة أخرى إذ لم تقترن كلمة "مجيء" بما يشير إلى الظهور
فإنه يقصد بها حينئذ اجتماعنا إلى الرب في الأعالي بواسطة حضوره كما في (1 تس 4:
15، 2 تس 2: 1)، فهذا هو الحضور بالنعمة المطلقة التي لا شأن لمسئولية لإنسان
فيها. أما عندما يأتي ذكر مسئولتنا فعندئذ يكون المقصود ليس مجرد المجيء بل
الظهور، وهذا هو الحال فيما يتعلق بالعدد الذي أمامنا ولو أنه يضم اللفظين معاً
(الظهور والمجيء) لأن الظهور يفترض الحضور في حين أن الحضور لا يفترض الظهور.

 

ثم
لاحظ شيئاً آخر. فهو لا يقول "متى" أظهر بل "إذا" أظهر كما لو
كان في الأمر بعض الشك بحسب الظاهر. هذه الصيغة قد تبدو غريبة لدى الذين لم
يتعودوا قراءة الكتاب كما وضعه الله ولكن مهما يكن من أمر، فمن المؤكد أن طريقة
الله هي دائماً أحسن الطرق، وأن ما يقوله الله لنا قد قاله في أضبط وأكمل صورة كان
يمكن أن تقال لنا والواقع أن كلمة "إذا" لا تشير إلى وقت الظهور أي
"متى" بل إلى حقيقته مهما كان الوقت الذي يظهر فيه المسيح. فليس المقصود
أن ظهوره مسألة معلقة قد تتم أو لا تتم، ولكن المقصود هو أن الرسول يريد من
القديسين أن يثبتوا في الرب عوض أن يتحولوا عن حتى إذا أظهر – ومن المؤكد أنه
سيظهر – تكون لنا ثقة ولا نخجل منه في مجيئه. هذا هو شعور الرسول من جهة الأمر،
وهو شعور نبيل ينم عن مبلغ حبه لأولئك الذين يحملون اسم يسوع وبالتالي عن ألمه إذا
ما انحرف أحدهم عن الحق. فمهما كان حبه حتى لأولاده في الإيمان. فإنه يحب اسم
المسيح أكثر بكثير من حبه للقديسين ولذلك ه يسعى ويطب حتى لا يكون واحد منهم مصدر
خجل له في ذك الوقت السعيد.

 

"إن
علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه" – فالبر نظير الطاعة
– يصدر عن الحياة، وكما أنه بار هو كذلك كل من يصنع البر قد ولد منه. إذن فالطبيعة
الجديدة هي علة وصول البر إلينا وسريانه في عروقنا. وهنا نأتي إلى مسألة البر
العملي الذي سيعالجه الرسول في الأعداد التالية، أي الأعداد الأولى من الصحاح
الثالث، كما عالج أمر الطاعة في الإصحاح الثاني مع فارق بسيط سنشير إليه فيما بعد.
أن الكلام هنا ليس عن المحبة، ولا عن الطاعة كطاعة، الأمران اللذان عالجهما الرسول
في الإصحاح الثاني (ع 3 – 6، 7 – 7). ومع ذلك ففي الجزء الأخير من الإصحاح الثالث،
بعد الكلام عن البر، فيعود الرسول فيحدثنا مرة أخرى عن المحبة، تماماً كما فعل في
الإصحاح الثاني إذ حدثنا أولاً عن الطاعة ثم بعد ذلك عن المحبة. ومن هذا نرى أنه
هناك حلقة اتصال هامة بين كل من الطاعة والرب وهي المحبة التي هي في الواقع رباط
الكمال كما نقرأ في (كو 3: 14).

 

وجميل
بنا أن نتساءل عن الفرق بين طاعتنا وبرنا. ومع ذلك فالجواب جلي واضح فمع أن البر
دائماً مطيع إلا أنه في ذاته عنوان أو برهان ليس فقط على الخضوع للسلطان الإلهي
(كما هو حال الطاعة) بل على الانسجام مع المقام أو بعبارة أدق مع النسبة أو
العلاقة. هذا على ما يبدو، هو التعريف الصحيح للبر حتى فيما يتعلق ببر الله الذي
معناه انسجام الله مع علاقته أو نسبته، وهكذا الحال فيما يتعلق ببر المسيح أو بر
الإنسان، مع ما بين الاثنين من فارق عظيم فيما عدا ذلك. فمن ناحية المسيح نرى فيه
المطابقة المطلقة بينه وبين نسبته، أما من ناحيتنا فما أحرانا أن نندب قصورنا وعدم
المطابقة بيننا وبين نسبتنا كمسيحيين.

 

وأليس
في هذا صوت خطير لكل منا؟ ومع ذلك فإن نعمة الله في المسيح لم تترك لنا أي سبب
لليأس أو عدم الثقة بل على بالعكس فإن غرض الرسول الأساسي من هذه الرسالة هو أن
يثبت القديسين تثبيتاً كاملاً في المسيح وما من كلمة واحدة قد وردت في أي مكان من
شأنها أن تثير الصعاب أو الشكوك. إن إثارة الشكوك عمل المضللين الذين ينشرون
أضاليلهم الخاصة ويخدعون البسطاء المتمتعين حق الله، وقد رأينا أن هدفاً عظيماً من
أهداف هذه الرسالة هو تسليح المؤمنين، بل أصغر المؤمنين، ضد أضاليلهم وابتكاراتهم
الشريرة الخطرة، لاسيما وأنه من بين الوسائل التي كان يتبعها أولئك القوم تشكيك
غير البالغين في أنهم قد حصلوا على الحق الكامل، فإن أضداد المسيح كانوا ينادون
بوجود حق أسمى مما عرفه القديسون من قبل وإن هذا النور الجديد الذي يبشرون به كان
بحسب ادعائهم هو الجعالة العليا بحيث أن عدم الحصول عليه كان من شأنه أن يشكك
الإنسان فيما إذا كان مسيحياً على الإطلاق.

 

وعلى
الضد من هذا كانت غاية الرسول أن يؤكد للقديسين الأحداث أنهم هم أنفسهم ممسوحون
بالروح وأنه من امتيازهم أن يثبت فيهم ما سمعوه من البدء وأن يحكموا على كل نور
جديد – رغم كونهم أحداثاً – بمقتضى ما لديهم من حق قديم وعلى ذلك فكل كلام عن نور
جديد يجب أن يعتبر إشارة خطر لكل قديس، وبخاصة لأحداث لأنهم معرضون أكثر من غيرهم
لأن يصدقوا الوعد بشيء جذاب وعظيم لم يحصل عليه بعد الناس الآخرون. ولكن هب هذا
الوعد انقلب إلى أكذوبة: فماذا يكون العمل؟ والواقع أن هذا هو عين ما يجب أن
نتوقعه – أكذوبة من العدو – لأنه ليس عند اله من شيء جديد يقوله لنا عن ابنه. فقد
أخبرنا بكل شيء، وقد قبلنا الحق في ابنه من البدء. فهو الحق، وبالتبعية كان الحق
كاملاً فيه. فكل وعد بحق جديد مهما كان إنما هو خديعة من الشيطان.

 

إذن
فالرسول يشدد هنا على موضوع البر العملي كأمر بالغ الأهمية لكونه مؤسس على النسبة
أو العلاقة الجديدة التي أوجدتنا فيها النعمة. وأليس في هذا درساً عظيماً للغاية
يجدر بنا أن نتعلمه؟ أن المسيحيين بصفة عامة ضعاف في هذه الناحية، فهم لا يقدرون
التقدير الكافي خطورة العلاقات الجديدة التي وضعتنا فيها النعمة وبمن تتصل هذه
العلاقات من ناحيتها العليا؟ إنها تتصل بشخصه المحبوب وبالآب، وقد جاء الروح القدس
كالقوة الإلهية لتوثيق هذه العلاقات وتحقيقها بواسطة سكناه فينا نحن المؤمنين.
وسنرى أن هذه الناحية الأخيرة المتعلقة بسكنى الروح القدس فينا لهذا الغرض
يتناولها الرسول ابتداء من آخر الإصحاح الثالث ثم يتجاوزه إلى الإصحاح الذي يليه،
الأمر الذي يدل على أن الرسالة مقسمة تقسيماً منظماً ودقيقاً للغاية رغم أنها
مصاغة في أبسط لغة وأن دروسها تتلو بعضها بعضاً في نظام بديع وفي عمق هائل من
الفكر والشعور طبقاً لنعمة الله وحقه.

 

وعلى
ذكر النظام والترتيب يجدر بنا أن نسوق الملاحظة الآتية. إن بعضاً منا لا ينسون
العهد الذي كان فيه "النظام" موضع إدانة ونقد شديد بين القديسين والحق
أن مرجع ذلك كان المناقضة الملحوظة بين المستحدثات الطائفية الجامدة وحرية الروح
المقدسة كما نراها في كنيسة الكتاب المقدس. وربما كان هناك بعض التطرف في استنكار
"النظام" بوجه عام إذ قد يشتم منه أن الوضع الصحيح الوحيد هو أن لا يكون
هناك نظام. وما من شك في أن الذين بلا نظام أو ترتيب هم قوم يرثي لهم إن كانوا
فعلاً بلا نظام. ولكن السؤال الحقيقي الذي كان ولا زال يعترض الباحث في هذا الأمر
هو: ما هو نظام الله؟ إن نظام الإنسان خاطئ ومقضي عليه من أساسه، أما نظام الله
فحشا لنا أن لا نخضع له خضوعاً مطلقاً. ليس من المهم نوع النظام أو تفاصيله. فالله
له دائماً نظامه الخاص كما يشاء من أسف الإنسان دائماً يفوته هذا النظام فيخسر
التمتع بما فيه من بركات. إن كلمة الله وحدها هي التي تستطيع أن تعلن هذا النظام
وروح الله وحده هو الذي يستطيع أن يعيننا على تنفيذه، وهنا لا يسعنا إلا الشعور العميق
والاعتراف القلبي الصادق أن لا شيء سوى نعمته الغنية مكنتنا بقوة عمل الروح القدس
في الكلمة من معرفة طريقه الآمنة المستقيمة واكتشافها من بين منعطفات متاهة الخطأ
والأضاليل، قديمها وحديثها، فخرجنا بنعمة الله خارج تقاليد الإنسان واختراعات. أما
الذين لا تزال هذه القيود تربطهم وتغل أيديهم فيرون طريق الله شاقة غير معبدة،
غامضة غير مضمونة، ضيقة، فريسية، وغير ذلك من أوصاف لا حد لها. ولكن كم من سعة قلب
ننال، وكم من حرية وقداسة واتضاع قدامه، وكم من بهجة وشبع وسرور عندما نحكم بإخلاص
على أنظمة الإنسان في نور نظام الله كما نجده معلناً في الكلمة! أن نظاماً مباركاً
يجري في كل سفر وفي كل إصحاح في الكتاب المقدس، وهو نظام تتميز به هذه الرسالة
بصورة عجيبة سيما وأنه لا يبدو على السطح بل هو متغلغل في أنسجتها، وهو لحمتها
وسداها. وللروح القدس غاية في ذلك كما في كل رسالة أو سفر آخر، وغايته هنا تتركز
وتدور حول أعماق وسمو الحق في حياة سيدنا بصورة يندر توفرها في أي رسالة أو سفر
آخر ولو في العهد الجديد.

 

"إن
علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه". إن المسلك البار
يبرن على مصدر الحياة الجديدة التي هذا مسلكها. وقد نسأل: من المقصود هنا بالقول
"هو"؟ طبيعي أنه ما من مسيحي إلا ويقول أن المقصود هو المسيح، وهو قول
صائب بكل تحقيق. على أنه يوجد عدد غير قليل من المسيحيين يرى أن "الله"
هو المقصود بكل "بار" لأن الولادة منه مشار إليها في نفس القرينة والولادة
هي من الله بطبيعة الحال. لسنا ننكر وجاهة هذا السبب في الحالات العادية سيما وأنه
ليس هناك من ينكر أن الله بار. ولكن من يقول هذا قد فاته إدراك الخاصية العجيبة
التي تمتاز بها هذه الرسالة وهي أنه في حالات كثيرة لا يمكن البت بصورة قاطعة إذا
كان المقصود هو الله أو المسيح، وأساس ذلك ثمين للغاية، وهو أن المسيح هو الله.
وليس في ذلك أي استبعاد للآب، لأن الآب والابن متشاركان في الطبيعة الإلهية، الأمر
الذي لا ينكره أي مسيحي، ومن أجل ذلك نرى الرسول، الذي يحلو له أكثر من غيره أن
يلهج ويتأمل في طبيعة الله، يسير متنقلاً (إن جاز لنا استعمال هذا التعبير بكل
وقار واحترام) وفي تلك الدائرة الجديرة بتعبدنا، متنقلاً من المسيح إلى الله، ومن
الله إلى المسيح، ثم يعود إلى الله، مكتفياً بالضمير "هو" من أول
الرسالة إلى آخرها. رأينا هذا في مطلع الإصحاح الثاني وها نحن نراه مرة ثانية في
ختام الإصحاح، وسنراه مرة أخرى في مستهل الإصحاح الثالث، وهكذا حتى نهاية الرسالة
حتى لا يتردد الرسول في أن يقول عن المسيح هذا هو الإله الحق والحياة
الأبدية" ولئن كان العلّامة اللوذعي غير المتجدد يرى في هذا الأسلوب نوعاً من
الخلط والاضطراب، فإن المؤمن البسيط يرى في جمال الحق وروعته لأنه يعلم أن هذا هو
الأسلوب الوحيد اللائق لأن المسيح هو الابن المساوي للآب في الجوهر. من أجل هذا
رأينا الرب نفسه يشير في (يو 5: 23) إلى ما يفعله الآب في طريق تكريم ابنه
"لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب". فلهذا السبب بالذات، أي لأن
اللاهوت صفة الأقنومين، كان من المستحيل وضع أي حد فاصل بينهما. وما دام كلاهما
أقنومين في اللاهوت وعاملين معاً في المحبة، فإن الرسول يتنقل هكذا قصداً من
الواحد إلى الآخر بطريقة غير محسوسة "إن علمتم أنه بار هو فعلموا أن كل من
يصنع البر مولود منه". ولئن كنا نميل بكل بساطة لأن نقول أن الضمير في الشق
الأول من العدد يشير إلى المسيح، فبنفس البساطة نقول أن الضمير في الشق الثاني
يشير إلى الله.

 

وما
من شك أن الكتب الملهم كان يستعمل هذا الأسلوب الكتابي غير المألوف مدفوعاً بباعث
إلهي، والذي يحملنا على استخلاص هذه الحقيقة أنه لم يستعمله مرة عارضة بل هي عادته
خلال الرسالة بأجمعها مما يدل على أنه كان يستعمل هذا الأسلوب عن قصد وعمد وفي غير
أدنى ترد. نحن نعرف أن أي كاتب مدقق في الموضوعات العادية يحرص على مجانبة مثل هذا
الأسلوب، فإن الكاتب الأديب يفاخر كمبدأ عام بأن أسلوبه من اليسر والبساطة والوضوح
بحيث لا يمكن لأقل الناس علماً أن يفوته المقصود من أي ضمير. ولا شك أن الرسول لم
يكن من أولئك الذين يصيغون كتاباتهم في أقوال غامضة لكي يظهروا للناس بأن تفكيرهم
من النوع العميق، ولكن مما لا ريب فيه أن أساسه الذي أقام عليه أسلوبه الخاص في
هذا العدد وأمثاله من الرسالة هو اللاهوت الذي يتعادل فيه الآب والابن. وفي هذا
الميدان، أين الحكيم، أين الكاتب، أين مباحث هذا الدهر؟ إن يوحنا ما كان ليرضى أن
يضع الابن الوحيد في مستوى الإنسان العادي الذي يخضع لمقتضيات أساليب الكتابة
البشرية، والسبب بسيط هو أنه الله. صحيح أن يوحنا يعلم أنه له المجد قد صار
إنساناً في نعمته التي لا حد لها، ولكنه في ذلك يأبى أن يضع حداً فاصلاً بين
ناسوته ولاهوته، بل هو يقصد بأسلوبه المتعارض في ظاهره، المتناسق في حقيقته، أن
يقودنا لأن نرى، في هذا الخلط الظاهري كيف كان يجب أن يقدم الله المسيح هكذا متحدين
بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفصلهما عن بعضهما بلغته البشرية مقتضياتها.

 

"إن
علمتم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه". كيف استطاع أن
يتكلم بهذه الصورة؟ ذلك لأن القديس مولود من الله وله حياة المسيح. ها هو الحق
الأساسي الذي يخلل الرسالة كلها، وقد ترتب على إعطاء المسيح حياته لنا أن صار
"المسيح حياتنا" ومن أبرز مميزات حياة المسيح، كما تجلت في كل خطواته،
البر المطلق الكامل. وهو الحياة التي صارت حياتنا، الحياة الوحيدة التي نجرؤ أنة
نفتخر بها. وهي حياة إلهية لأنها من الله الذي في نعمته الثانية أعطانا أفضل وأسمى
وأشرف وأعز وأكمل حياة وجدت. هذه الحياة كانت في الابن منذ الأزل، وهو يعطيها لنا
الآن حتى كما أنه بار هو، هكذا كل من يصنع البر يظهر ويبرهن أنه مصدر هذا البر في
شخصه المحبوب.

 

ومن
أسف أن قوماً يرتابون في هذا الأمر وقد فاتهم أن ريبتهم هذه هي في الحقيقة ريبة في
المسيحية ذاتها. هذا هو في الواقع معناها، ولا يخفف من واقعها ما قد يتعللون به من
مبررات ومعاذير لأن الخطأ واضح وأساسي وخطير بحيث لا يمك ن التخلص منه بالاستناد
على غموض في الأسلوب أو بأنه جانب من الحق أساء فهمه الآخرون. أنه خطأ قاتل يقتضي
استنكاراً ودحضاً ويتطلب جهوداً مخلصة متواصلة لإنقاذ كل من سقط في شرك مهلك كهذا
فهنا نرى بكل جلاء ووضوح بأن السلوك البار هو الدليل القوي على أن الحياة مستمدة
من مشاركتنا في الطبيعة الأدبية مع المسيح، حتى كما أن المسيح بار يقال عن الذين
يسلكون بالبر أنهم مولودون من الله فمن الواضح للجميع أن هذا العدد لا يتعرض
للتبرير بل يتناول البر العملي. صحيح أنه بفضل ما عمله الله بالمسيح إذ جعله خطية
لأحلنا كفارياً قد صرنا بالإيمان بر الله في المسيح. هذا حق لا شك فيه، هذا هو
مقامنا بالنعمة، غير أن العدد الذي أمامنا يتناول سلوكنا ونحن متبررون، والرسول
يشدد على إبراز هذه الحقيقة البالغة الأهمية والخطورة وهي أن البر العملي هو
الانسجام والتوافق مع نسبتنا للمسيح وغير منفصل عن ولادتنا من الله.

 

تلك
هي صفة وطبيعة النسبة أو العلاقة الجديدة المعروضة أمامنا، نحن مولودون من الله،
ونحن أولاده. وهل يخطر ببالنا وجود ذرة واحدة من عدم البر في الله أو المسيح فكما
أن كل من يصنع البر مولود من الله، كذلك يسوغ لنا أن نقول أن كل من ولد من الله
يصنع البر. والأمر هنا ليس مجرد كلام أو ادعاء، بل عمل ليس وظيفة أو مركز تدل عليه
شارة ظاهرية أو طقس من الطقوس بل حياة عملية تحققها النعمة بطبيعة جديدة تظهر
آثارها في سلوكنا الذي يدل على أن مصدرها تلك الطبيعة الجديدة وليس شيئاً آخر.
والحق أنه لا يوجد ما يؤثر على الضمير أكثر من هذه العبارات حينما تكون النفس
حاصلة على حياة جديدة من الله. وقد كتبت للإيمان وليس للتشكيك، ولو أنه قصد بها
بكل يقين أن تؤثر على الضمير تأثيراً قوياً، فإن البر معناه الانسجام لا تسمح بأقل
عبث أو استخفاف بالخطية.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي