الإصحَاحُ
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ

 

مؤامرة رؤساء الكهنة

(26 : 1 5)

مسحة الموت المعطِّرة للجسد

(6:26 13)

اتفاق يهوذا مع رؤساء الكهنة

(26: 1416)

الإعداد للفصح

(26: 1719)

العشاء الأخير

اتهام المسيح العلني للخائن (20:2625)

عشاء الرب                   (26:26-30)

محنة التلاميذ: جميعكم تهربون وأولكم ينكرني (31:26-35)

(20:2635)

صلاة جثسيماني وسر الكأس

(36:2646)

التسليم والقبض

(47:2656)

المحاكمة أمام السنهدرين

(57:2668)

إنكار بطرس ثلاث مرَّات

(69:2675)

 

تقسيم إنجيل القديس متى بحسب رؤية
توراتية

وموقع موت المسيح فيه([1])

 

لا
نستطيع أن نعبر على التقسيم الذي صنعه القديس متى في إنجيله كما تكلَّمنا في
المقدِّمة([2])،
دون أن نشير إليه الآن ونحن نختم على القسم الخامس وهو الأخير، إذ قام به ق. متى
جاعلاً من إنجيله مقابلاً بديلاً للتوراة ذات الخمسة أجزاء: التكوين، الخروج،
اللاويين، العدد، التثنية. ليجعل من الإنجيل البديل الليتورجي لخدمة القراءات في
المجمع، الأمر الذي اتخذته الكنيسة الأُولى بالفعل. حيث أن القراءات الليتورجية
تمثِّل الجزء الأول من خدمة الكنيسة، يليها مباشرة خدمة الذبيحة الإفخارستيا
(الفصح قديماً)، هذا الذي نراه واضحاً للغاية في تقسيم ق. متى. على أن ق. متى جعل
الأصحاحين (1،2) قبل بداية التقسيم، وجعل الأصحاحات (26
28) بعد
نهاية التقسيم:

 

القسم الأول

( أ ) الجزء الروائي: (1:325:4)

 

(ب) العظة على الجبل: (1:527:7)

 

ختام القسم الأول: » فلمَّا أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلِّمهم كمن له سلطان
وليس كالكتبة.
«(28:7و29)

القسم الثاني

( أ ) الجزء الروائي: (1:835:9)

 

(ب) حديث عن الإرسالية والاستشهاد: (36:942:10)

 

ختام القسم الثاني: » ولمَّا أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر انصرف من هناك ليعلِّم ويكرز في مدنهم.
«
(1:11)

القسم الثالث

( أ ) الجزء الروائي والمجادلة: (2:1150:12)

 

(ب) تعليم عن ملكوت السموات: (1:1352)

 

ختام القسم الثالث: » ولمَّا أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك. «(53:13)

القسم الرابع

( أ ) الجزء الروائي والمجادلة: (54:1321:17)

 

(ب) حديث لتدبير الكنيسة: (22:1735:18)

 

ختام القسم الرابع: » ولمَّا أكمل يسوع هذا الكلام
انتقل من الجليل، وجاء إلى تخوم اليهودية من عبر الأُردن.
«(1:19)

القسم الخامس

( أ ) الجزء الروائي والمجادلة: (2:19 46:22)

 

(ب) حديث الأُخرويات والوداع: (1:2346:25)

 

ختام
القسم الخامس:
»
ولمَّا
أكمل يسوع هذه الأقوال “كلها”،
قال لتلاميذه: تعلمون أنه بعد
يومين يكون الفصح وابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب.
«(1:26)

 

وهكذا
يرى القارئ أنه بانتهاء القسم الخامس من إنجيل ق. متى المقابل للكتاب الخامس من
التوراة أي سفر التثنية، يأتي بعده مباشرة ختام القسم الخامس الذي يقول: «ولمَّا
أكمل يسوع هذه الأقوال “كلها” قال لتلاميذه: تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح وابن
الإنسان يُسلَّم ليُصلب».
معنى هذا في ترتيب الإنجيل أن بعد إنجيل التعليم
الذي استغرق الخمسة أقسام، يدخل الإنجيل في تسليم المسيح ليُصلب!

فلو
عدنا إلى ترتيب الخمسة أسفار نجد نفس الوضع تماماً، إذ بعد أن أكمل موسى تعليمه
للشعب أمره الرب أن يموت!!

+
» ولمَّا فرغ
موسى من مخاطبة جميع إسرائيل “بكل” هذه الكلمات،

قال لهم وجِّهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد
عليكم بها اليوم لكي توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة
… وكلَّم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلاً: اصعد إلى جبل عباريم هذا جبل نبو
الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل
ملكاً ومُت في الجبل الذي تصعد إليه.
«(تث 32: 4550)

فلو
وضعنا القولين باختصار يكونان هكذا:

في
الإنجيل:
» ولمَّا أكمل
يسوع هذه الأقوال “كلها”
قال لتلاميذه: تعلمون أنه بعد يومين يكون الفصح
وابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب
«

في
التوراة:
» ولمَّا فرغ
موسى من مخاطبة جميع إسرائيل “بكل”
هذه الكلمات، … كلَّم الرب موسى في
نفس ذلك اليوم قائلاً: … مُت في الجبل الذي
تصعد إليه

«

والفارق
بين الوضعين لا يزال كبيراً للغاية، لأن بعد أن أكمل موسى التوراة مات، ولكن موته لم يكن له أي أثر رجعي على التوراة، فلم يدخل موته في
التوراة وانحصر موته في مجرَّد تاريخ إسرائيل.

أمَّا
في الإنجيل فبعد أن أكمل المسيح تعليمه صُلب، فكان موته موتاً كفَّارياً من أجل
العالم كله، فدخل موته في صميم الإنجيل ليحتل موضع القلب للجسد كله. وهكذا تحتَّمت
العودة للتعليم بالصليب والموت والقيامة بأثر رجعي على كل ما علَّم به المسيح،
ومُضافاً إلى التعليم كفعل سرائري لمغفرة الخطايا وحياة أبدية لكل مَنْ يؤمن بموته
وقيامته.

بهذا
التقديم نفهم لماذا قسَّم ق. متى إنجيله إلى جزء تعليمي ليتورجي بالكلمة
ويشمل
الخمسة أقسام من الأصحاح الثالث حتى نهاية الأصحاح الخامس والعشرين
وجزء
سرائري يتضمَّن موت المسيح وقيامته
من الأصحاح
السادس والعشرين حتى الثامن والعشرين. وعلى هذا التقسيم قسَّمت الكنيسة خدمتها إلى
جزء لخدمة الكلمة بالقراءة والوعظ، يتبعه الجزء المكمِّل لخدمة الذبيحة (الإفخارستيا) بالتسبيح والشكر وبالتناول من
السرائر المقدَّسة للشركة وقبول عربون الحياة
الأبدية.

والكنيسة
تستكمل الإنجيل الليتورجي كُلَّه بالكلمة على مدار السنة، وتخصِّص الأسبوع الأخير
قبل الفصح للجزء الخاص بالفصح، أي آلام الرب والصلبوت. أمَّا في كل الأيام التي
تُقام فيها العبادة الرسمية
كيوم الرب مثلاً فإن الخدمة
تبدأ بالجزء التعليمي ثم يليه الجزء السرائري الخاص بالإفخارستيا والشركة.

 

مقدِّمة

مشورة رؤساء الكهنة
أن لا يُقبض على المسيح في العيد خوفاً من الشعب

والله يصمِّم أن
يتم تقديم “حمله الوديع” في ميعاد الفصح تماماً ليكون فصحاً للعالم

 

§
المشورة الإلهية الحتمية
= «تعلمون أنه بعد يومين
يكون الفصح، وابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب.» (2:26)

§
مشورة رؤساء الكهنة
= «وتشاوروا لكي يمسكوا
يسوع بمكر ويقتلوه. ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلاَّ يكون شغب في الشعب.» (4:26)

§ أمَّا هم فقالوا:
ليس في العيد، أمَّا هو فقال: بل في العيد.

§ يسوع “الذبيحة” وافق على الذبح ولكنه حدَّد لنفسه
الميعاد حتى يعلم العالم كله أنه هو الذي تقدَّم إلى الصليب بإرادته وحده. وإذ
تمَّت مشورة المسيح كما قال، أثبت أنه يموت لأجل العالم حقا.

§ لقد سبق ودخل
المسيح أُورشليم في موكبه الملكي أثناء الاحتفال قبل العيد وملايين الحجاج يملأون
المدينة، وهتف له تلاميذه والجموع الذين تقدَّموا والذين تبعوا قائلين أُوصنَّا
لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون أُوصنَّا
لابن داود. ولمَّا طلب منه رؤساء الكهنة أن يسكتهم، تمادى هو وأخبرهم بما معناه أن
الأولاد إنما يتمِّمون “نبوَّة مجيء المسيَّا”، وإن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ لأنه
الابن الوحيد الخالق. وهكذا أحرج السنهدرين بأجمعه ودفعه لكي يعجِّل بمشورته للقبض
والصلب.

§ » فقال الفريسيُّون بعضهم لبعض: انظروا إنكم لا
تنفعون شيئاً هوذا العالم قد ذهب وراءه
«(يو 19:12). وهكذا
نجحت مشورة المسيح أن يدخل أُورشليم كملك.

§ وفي ليل عشاء
الفصح قطع المسيح في الأمر نهائياً وكشف عن التلميذ الخائن وأعطاه اللقمة وتحدَّاه
قائلاً:
» ما أنت
تعمله فاعمله بأكثر سرعة

«
(يو 27:13). وهكذا خرج ذلك
التلميذ في الحال وتمَّم المشورة مع رؤساء الكهنة.

من كل هذه اللمحات ندرك كيف ضغط المسيح على السنهدرين أن
ينفِّذ خطته في العيد. كما
حدَّد المسيح لنفسه زمان ومكان صلبه. وبهذا
يكشف المسيح عن سلطانه على الإنسان والزمان والمكان.

ولقد وصف ق. بطرس بعد أن أفاق من صدمته، بعد القيامة ونَيْل
قوة الروح القدس، وصف مشورة الله هذه رغماً عن أنف رؤساء الكهنة بشجاعة وعلانية
باهرة:
» أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه
الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قِبَل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها
الله بيده، في
وسطكم، كما أنتم أيضاً
تعلمون. هذا أخذتموه مُسلَّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي
أثمة
صلبتموه وقتلتموه. الذي
أقامه الله
«(أع
22:2
24). وهكذا كشف ق. بطرس عن
“مشورة الله الحتمية
كيف أُسلم”، و» مشورة الأثمة كيف صُلب « وهكذا وبهاتين المشورتين المتضادتين: مشورة الله
ومشورة الخطاة، أكمل الله فداء الإنسان وخلاصه. فلولا مشورة الأثمة التي مثَّلها
رؤساء الكهنة بإتقان ما كان قد أُكمل صلب ابن الله وتمَّ الفداء. وهكذا بقوة إلهية
وحكمة فائقة ترك الله الخطية والخطاة يتمِّمون أقصى إثمهم وخطيتهم في صلب ابن
الله، لكي بقيامته يُلْغِي سلطان الخطية والخطاة ويدوس الموت ويحرِّر الإنسان.

ولكن ليهتم القارئ أعظم اهتمام بالقول الذي سجَّله ق. متى
هنا: «ولمَّا أكمل يسوع هذه الأقوال كلها» أي الإنجيل!! قال لتلاميذه ما
معناه قد أتت الساعة!! التي طالما قال عنها إنها لم تأتِ بعد. الآن وبعد أن أكمل
كل ما اشتهى أن يقوله ويعلِّم به، قدَّم نفسه للفدية!! ولاحظ هنا أنه لحظة أن أكمل
الإنجيل طلب أن يُسلِّم نفسه، وقبل هذه اللحظة كان مستحيلاً على أي قوة آثمة أو
شريرة أن تمسّه!
» فطلبوا أن يمسكوه، ولم
يُلقِ أحدٌ يداً عليه لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد
«(يو 30:7). إذن، فصلبه وموته لم
يكن من عمل الناس أو الشيطان أو الظروف. فالمسيح أثبت من أقواله أنه سيد الخليقة
بإنسانها
وبزمانها ومكانها وظروفها: » لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها (أُقيمها) أيضاً!!
«
(يو
18:10)

ولو
نظرنا بعين الرؤيا الفائقة للمسيح وسط تلاميذه ليلة العشاء جالساً هادئاً يتحدَّث
عن بلوغ الساعة زمانها، وهو يشرح لهم منتهى حبه ومنتهى ثقته:
» أمَّا يسوع قبل عيد
الفصح وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحبَّ
خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى.
«(يو
1:13)؛ ثم نظرنا
رؤساء الكهنة مع الخائن وشهود الزور مرتبكين ومملوئين حقداً وغضباً ومرارة،
يتشاورون كيف يمسكونه بمكر وكيف يقتلونه ليس في العيد خوفاً من الشعب:
» فدخل الشيطان في يهوذا
الذي يُدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثني عشر. فمضى وتكلَّم مع رؤساء الكهنة
وقوَّاد الجند كيف يسلِّمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم. وكان
يطلب فرصة ليسلِّمه إليهم خُلواً من جمع.
«(لو
3:22
6)؛ ثم
دقِّق أيها القارئ العزيز وارفع بصرك لتبصر ما حقَّقه الله بحسب هذين المنظرين
والاجتماعين بعد أن انحسر الزمان عن هذا وذاك؛ ألا ترى الملكوت كيف كمل وجهنم كيف
صُنعت؟ والإنسان، الإنسان شريك هذا وصانع تلك!!

 

مؤامرة رؤساء الكهنة

[1:265]                       (مر
1:14و2)، (لو 1:22و2)، (يو 45:11-53)

 

1:26و2
«وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:
تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ، وَابْنُ الإِنْسَانِ
يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ».

هذا الخبر يختم به ق. متى إنجيل التعليم ليبدأ إنجيل السر
الأعظم الذي عليه يقوم كل التعليم، سر الموت الإرادي والقيامة بسلطانه وحده. وقد
أوضح المسيح مضمون إنجيل التعليم بالتبعية أي اتباع الرب بالخضوع والطاعة لتعليمه،
وإنجيل سر الموت والقيامة بحمل الصليب. فالذي يريد أن يكون للمسيح تلميذاً عليه أن
يحمل صليبه (سر الموت والقيامة)، ويتبع كل ما قاله المسيح وعلَّم به. فالذي لا
يشترك في موت المسيح وقيامته عسير عليه أن يتبع تعاليم المسيح. وحينما يحين الوقت
سنشرح بالتفصيل كيف نشترك بل كيف اشتركنا في آلام المسيح وفي صلبه وموته ودفنه
وقيامته وجلوسه عن يمين الآب. ولكن يكفينا الآن أن ندرك أن إيماننا بموت المسيح
وقيامته منحنا هذه النعمة العظمى أن صرنا شركاء موته وقيامته. فالآن نحن داخلون
على السر الأعظم لخلاصنا. لذلك وجب على القارئ أن يهيئ قلبه ليتقبَّل حقائق
الإيمان المسيحي من واقع الحوادث القادمة.

«بعد يومين يكون الفصح»:

معروف
أن المسيح صنع العشاء الأخير يوم الخميس بحسب إنجيل ق. يوحنا بعد الغروب، وحُسب
ذلك عشاءً للفصح، لأن يوم 14 نيسان وقع في تلك السنة يوم جمعة بحسب ق. يوحنا، واليوم
يُحسب من بعد غروب الشمس. لذلك يكون حديث الرب هنا لتلاميذه يوم الثلاثاء([3]).
وهذا هو اليوم الذي عبرنا عليه في أصحاح (20:21) الذي لعن فيه الرب التينة، لأن
بعد لعن التينة استمر الحديث. وهذا هو جزء منه! نرجو من القارئ الرجوع إليه لجمع
شمل المعنى.

«وابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب»:

واضح أن التسليم سيكون يوم الفصح، وتحديداً سيكون من مساء
الخميس ليوم الجمعة. على أن الصلب نفسه كان الجمعة. على أن قول الرب إن
»
ابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب «مقولة تحمل الإرادة الذاتية الحاضرة، لأنه قال: » أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف
«
(يو
11:10)،
» وأنا أضع نفسي عن الخراف
«
(يو
15:10)، لأن سر الفداء والخلاص كله سيتعلَّق
بالموت الإرادي. لهذا
اهتمَّ القديس متى بغاية السرعة والدقة لكي يضع إرادة المسيح أولاً بأنه يُسلَّم
ليُصلب. وبعدها يسجِّل على رؤساء الكهنة مؤامراتهم التي انتهت بالفشل، إذ كانوا قد
خطَّطوا لكي لا يُقبض عليه أو يُحاكم أثناء العيد. ولكن إرادة الله والمسيح هي
التي انتصرت وبإصرار وتمَّ ذبح الحمل الوديع، حمل الله الذي يرفع خطية العالم، في
يوم عيد الفصح، ليُلغي فصحُ المسيح الأبدي والروحي الفصحَ المحدود القديم لخلاص من
عِتْقٍ جسدي:
» اذكروا
الأوليات منذ القديم، لأني أنا الله وليس آخر. الإله وليس مثلي. مُخبِرٌ منذ البدء
بالأخير، ومنذ القديم بما لم يُفعل قائلاً رأيي
يقوم وأفعل كل مسرَّتي
«(إش 9:46و10)، » قد تكلَّمت فأُجريه قضيت فأفعله. «(إش 11:46)

3:26
«حِينَئِذٍ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ
الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ
الَّذِي يُدْعَى قَيَافَا».

«حينئذ»: tÒte

هذه
الكلمة هي ظرف زمان يفتتح بها ق. متى المنظر الدرامي لكل آلام ومؤامرات الفصح. فهو
يعطي بهذه الكلمة حركة البدء الزماني بعملية المؤامرة التي امتدَّت حتى إلى ما بعد
الصليب. وكأنه بهذه الكلمة يكون ق. متى قد خطا أول خطوة داخل المؤامرة الكبرى.
وهنا اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ الذين يكوِّنون معاً السنهدرين في هيئته
المسئولة عن الأمة. ويُلاحِظ القارئ أن الفريسيِّين قد أسقطهم ق. متى منذ هذه
اللحظة فلم يظهروا لا في المؤامرة ولا في المحاكمة ولا الصلب. وواضح جداً أنهم
كانوا متعاطفين مع قضية المسيح. على أن غياب الفريسيِّين من أُورشليم يعني من وجه
آخر طغيان الكهنة في العاصمة ويساعدهم شيوخ الشعب. وقيافا كان مسئولاً من سنة 18م
حتى سنة 36م، ولكن حنَّان حماه كان هو القوة الفعَّالة.

«اجتمع معاً»: sun»cqhsan

والكلمة
اليونانية وترجمتها العربية تذكرنا فوراً بالمزمور الصارخ:
» قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً sun»cqhsan (السبعينية) على الرب وعلى مسيحه (قائلين): لنقطع أغلالهما
ونطرح نيرهما عنَّا

«
(مز 2: 2و3). واضح أن
الحوادث الأخيرة من دخول المسيح كملك إلى أُورشليم والهيكل، بعد إقامة لعازر من
الموت (يو 11: 45
53)، ثم الأمثلة
الموجَّهة لهم، وإعطاء السبعة ويلات ضد الكتبة والفريسيِّين عجَّلت بجمع النفوس
الحاقدة.

4:26و5
«وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوه. وَلكِنَّهُمْ
قَالُوا: لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ».

كان همّهم الأعظم أن يمسكوه أولاً، لأنه تهيَّأ لهم أنهم
بتقييده يوقفون خطره؛ ولكنهم كانوا في وهم، فالمسيح عمل من واقع قيوده كل مشيئة
نفسه، إذ استغل قيوده ووقف أمام الحاكم الروماني بل ورؤساء الكهنة أنفسهم “كخاطئ”.
وهذا كان منتهى مشيئة حرية نفسه إن لم تكن شهوة روحه، إذ أنها غاية تجسُّده ونهاية
إخلائه لذاته، أن يقف ليُحاكم “كخاطئ” ويقبل كل الأحكام بمنتهى الرضى، بل ويموت
كخاطئ، لأنها كانت الفرصة الإلهية الوحيدة ليتحمَّل خطايا كل الخطاة ويموت بها
كعقوبة فيلغيها ويقوم مبرِّراً الإنسانية كُلَّها.

«بمكر»: dÒlJ

تفيد
الخلسة والتلصُّص. وهي تكشف عن أخلاقهم وسلوكهم وكل أدواتهم في هذه القضية. مع أن
المسألة مع ضمير المسيح منتهية ولا تحتاج إلى غش أو مكر أو خداع، فهو قد سلَّم
نفسه.

«قالوا»: œlegon dš

والكلمة
تفيد الإصرار والاستمرار في القول:
» كانوا يقولون … (باستمرار) «
والسبب هو خوفهم وذعرهم من الشعب. وواضح من هذا الحديث والخطة والخوف والفزع من
الشعب، أنهم دبَّروا كيف يمسكونه في جثسيماني بقيادة الخائن يهوذا، وأن يكون ذلك
ليلاً حتى يستفيدوا من الظلام، وبعيداً عن أُورشليم والهيكل، فرتَّبوا أن يكون في
جبل الزيتون مكان راحته. وهكذا وفَّر لهم يهوذا كل قصدهم بعيداً عن أي احتمال لشغب
يحدث بواسطة الشعب. وهكذا دخل تاريخ القبض على المسيح مستوى الدراسة والتكتيك
الحديث بعيداً عن أنظار الشعب ليكشف عن أعظم خيانة حدثت في تاريخ العالم، ليس
للمسيح باعتباره مخلِّص وفادي البشرية، بل وبالنسبة لشعب كان يحبّه وقد تعلَّق به.
فهنا جناية خُلُقِيَّة واجتماعية وسياسية وقضائية معاً. فالغش والمكر والخداع
ونيَّة القتل الباطل بشهود زور رافقت قضية تسليم المسيح من أول خطوة حتى الصلب.
وأشدّها كان أثناء المحاكمة إذ أخفى رؤساء الكهنة صوت القاضي والحاكم ببراءة
المتهم ثلاث مرَّات، وذلك بإثارة جوقة مرتزقة وجنودهم المرتزقة والغوغاء المأجورين
وبأصواتهم هم، بصراخ وضجَّة مفتعلة لإخافة القاضي وبتهديده برفع القضية لقيصر!!
وبرفع الفكر والنظر إلى لحظة واحدة يدرك القارئ قبل المحاكمة وبدونها ماذا سيكون
مصير هذا الشعب وهذه الأُمة وهذا الكهنوت المزيَّف.

 

مسحة الموت المعطِّرة للجسد

[6:2613]                     (مر 3:14-9، يو 12: 18)

 

مسحة الجسد بالرائحة الذكية من أجل تكفينه
حيًّا

 

كان الطيب المسكوب على الجسد الحي من أجل تكفينه في بيت
عنيا أول شركة مقدَّسة صادقة في
موت المسيح.
كانت هذه المسحة الأخيرة أول عبادة مقدَّسة للجسد الإلهي الذي ارتفع إلى السماء
حيًّا
ليحيي جسم البشرية ويبرِّرها.
لقد رد المسيح طيب الناردين مضاعفاً باقياً أبداً لجسد البشرية الذي اتحد

به ومنحه روحه وحياته وبنوَّته، بأن أجلسه عن يمين أبيه. وارتد تذكار هذه المحبة
الخالصة الكثيرة الثمن لصاحبته من دور فدور وفي كل كنيسة وقلب كل عابد في العالم
كله. ولقد صار ناردين البشرية المسكوب على جسد
المسيح مدخلاً بديعاً للآلام ونبوَّة عن قيامة عتيدة تعطِّر تاريخ الإنسانية!

6:26و7
«وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ،
تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيِرِ الثَّمَنِ،
فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ».

كان
ذلك بحسب إنجيل ق. يوحنا (1:12) قبل الفصح بستَّة أيام وبحسب الأيام كان مساء
السبت 8 نيسان.

القديس
متى عاشق للمقارنات، يضع قصة العطر والمسحة في بيت مريض شفاه المسيح، في مقابل بيت
رئيس الكهنة الذي تفوح منه رائحة الدم والنتانة تتصاعد من أفواه وبطون الكبراء
والرؤساء والمرؤوسين والمأجورين.

هنا
يعف ق. متى أن يمس بكلمة تلك المرأة صاحبة المحبة المحفوظة في قارورة الطيب إلى
اليوم الذي ينبغي أن تخرج منه، لتعطي للجسد كرامته بل قداسته، إن لم يكن في أعين
رؤساء الكهنة ففي عين الكنيسة إلى أبد الدهور. فالذي يمسح الجسد المسحة الأخيرة
كاهن هو وأعظم من كاهن، فلمَّا خذل الكهنوت صَنْعَتَهُ واشتغل بالمؤامرات والقتل،
قامت امرأة في إسرائيل كدبُّورة ترفع قرن الكهنوت عالياً وتطرح حقد التلاميذ وجشع
يهوذا أرضاً لتقول قول دبورة:
» دوسي يا نفسي بعزٍ« (قض 21:5)!! وضمَّخت الجسد بالعطر قبل أن يُعرف له قبر!! ودهنت الرأس
ولم تكن تعلم أنها دهنت رأس الكنيسة كلها. ولقد عبَّرت هذه المرأة الملهمة الذكية
عن بهجة القيامة في وسط مؤامرات الموت وحبَّبت إليه القبر لمَّا اشتمَّ من
قارورتها رائحة الصعود!

8:26و9
«فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: لِمَاذَا هذَا
الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ
وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ».

لقد
تضاربت الأقوال على مَنْ صاحب هذا النقد غير الصائب، فالقديس يوحنا قال إنه يهوذا
وهذا كان يليق به لأنه كان حامل الصندوق ويلتقط كل ما يدخل فيه (يو 6:12). والقديس
مرقس قال بعض التلاميذ متحشِّماً، وق. لوقا قال أحد الفريسيِّين حتى يزيح هذه
السبَّة عن جبين التلاميذ. وهنا ق. متى يلقيها على التلاميذ كلهم
لأن ق.
مرقس زاد القول أن التلاميذ
» كانوا يؤنِّبونها « حتى تصيب
الكنيسة فيوعِّيها عن الخطأ والعيب. ولكن لا يفوتنا اتهام التلاميذ هنا عن أن يلقي
الضوء على ضعف وانحراف دور التلاميذ في قصة الآلام الذي قد تنبَّأ عنه المعلِّم
بقلب حزين:
» كلّكم تشكون
فيَّ في هذه الليلة

«
(مت 31:26)، » هوذا تأتي ساعة وقد أتت
الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب
معي
«(يو 32:16). فكانوا يشكِّلون ثقلاً على المسيح، ولكن كشفوا في
المقابل عن مدى سعة صدر المسيح وعفوه وحبّه وتسامحه ونعمته. وصدق ق. يوحنا إذ قال
بصددهم:
» كان قد
أحبَّ خاصته الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى
«(يو
1:13). وألقى ق. لوقا صدى هذا القول بقوله:
» شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن
أتألَّم
«(لو 15:22). كما تنبَّأ المسيح عن بطرس حزيناً: » سمعان سمعان هوذا
الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلك لكي لا ينفى إيمانك
«(لو 22: 31و32). ولكن وفي الحقيقة كان موقف التلاميذ مُخزياً
للغاية!

وهنا
اغتاظ التلاميذ غيظاً بدعوى بيع الطيب وإعطائه للفقراء، لأنه في دهنه الجسد كان
إتلافاً. وهكذا لم يقيِّموا المحبة في سخائها إذ حسبوها إتلافاً، ولم يفرِّقوا بين
مسرَّة الفقير ومسرَّة النفس التي بلغ منها الحزن حتى الموت؟! لم يروا ولم يحسُّوا
ولم يفهموا أن المسيح، ونفسه تواجه الخيانة من أحدهم، وكانت كالغصة في حلقه وأشد
مرارة من علقم الصليب؛ كان في حاجة إلى بهجة هذا العطر الذي يهوِّن عنه ظلمة القبر
القادمة، ويذكِّره بالقيامة في اليوم الثالث أو الصعود في الأربعين. لقد فات على
التلاميذ أن يقدِّموا له كلمة واحدة تسند قلبه، فلمَّا قدَّمت امرأة كل ما عندها
تَرْضِيةً لقلبه المكسور اغتاظوا، فكان غيظهم جحوداً مباشراً لفعل المحبة. أمَّا
قولهم بالإتلاف والثمن الكثير والفقراء فكان ستاراً تواروا خلفه ليخفوا غيظهم. ولكن
هذا على كل حال لم يُرضِ المسيح!

10:26و11
«فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟
فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي
كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».

كَشْفٌ
فاضحٌ وتقريرٌ لاذع وتعقيب على غيظهم يَرُدُّ غيظهم إلى بطونهم. هم قالوا هذا
التصرُّف فيه إتلاف فردّ الرب عليهم وقال هذا الرد فيه إزعاج. هم قالوا أن يُباع
أحسن، والمسيح قال إنها عملت الأحسن. هم قالوا الفقراء أفضل والمسيح ردَّ عليهم بل
أنا الأفضل! فماذا بقي لمشورة التلاميذ؟ لقد استطاع ق. لوقا في إنجيله أن يرى في
تصرُّف التلاميذ هذا عملاً عدائياً للمسيح فاستكثره على التلاميذ فنسبه إلى أحد
الفريسيين!! فكان هذا أفضل تعليق على الوضع بأكمله دون أن يجرح التلاميذ وهو بذاته
أشد من الجرح!!

تبًّا
للمبادئ والأصول وقياس الأفضل مالياً إن كان فيها احتقار للمحبة، ويا ليتها محبة
مقدَّسة لإنسان محتاج ولكن لمسيح قادم على الصليب. إن القلم يكاد يخرج عن طاعتي
حينما أعيد الفكر فيما صنعه التلاميذ، ولكن شكراً للرب فقد قال ما يكفي. آه لو دري
جميع الفقراء بما قاله التلاميذ لتبرعوا بثمن خبزهم شهراً ليقدِّموا نفس قارورة
الطيب وفي نفس وقتها ولنفس الغرض ويبقوا هم جياعاً مسرورين إذ يكونون قد قدَّموا
طيباً لتكفين الجسد الذي حمل عنهم خطاياهم وفتح لهم باب الملكوت! وكم وكم تحمَّل
الفقراء ألوف وملايين من الأموال التي نُهبت على اسمهم وما دروا وما سمعوا عنها
شيئاً!! والقديس متى يصمِّم أن يجعل من قصصه تعليماً للكنيسة طالما بقي لها ضمير!!

على
أن الدرس الأكبر الذي نخرج به من قول المسيح إنها عملت بي عملاً حسناً وإن الفقراء
معكم كل حين، هو أن العبادة لله بالروح أعلى شأناً من إعطاء الحسنات، وتوقير شخص المسيح
بالحب أرفع من خدمة الفقير. لذلك نحن نرى في قول ق. مرقس من أجل ترك العالم
والأسرة أن يكون ذا اتجاهين هكذا:
» من أجلي ومن أجل الإنجيل «
اتجاهاً سريًّا خطيراً لتقنين بيع العالم وما فيه حبًّا للمسيح وحده، وتقديم ذبيحة
النفس طوعاً لعبادته، على نفس المستوى تماماً لتقديم الذبيحة لخدمة الإنجيل
والكرازة باسمه. وعلى القارئ أن يزنها جيداً، فهي سند إنجيلي قوي للذين كرَّسوا
الروح والنفس والجسد لعبادة الرب بالروح والحق!!

لذلك
تجدنا أيها القارئ العزيز أمام لغز هذه المرأة
التي نعرف
بحسب تأكيد إنجيل ق. يوحنا أنها مريم أخت لعازر
التي لفتت
نظر الكنيسة بقوة نحو حياة الجلوس تحت قدمي الرب باعتباره اختيار النصيب الصالح
الذي لن يُنزع منها (لو 42:10)، أفضل مما اختارت مرثا بالارتباك والاهتمام بأمور
الخدمة الكثيرة. ثم تعود هنا وتظهر بقارورة طيبها التي لم تكن إلاَّ حياتها تكسرها
وتدهن بها الجسد لتطيِّبه حبًّا فأراحت نفسه، وردَّ جميلها بأجمل منه إذ جعل
حياتها هذه سواء بجلوسها تحت قدميه تسمع وتتأمَّل فيما تسمع، أو بتحويشة العمر
لتسكبها على رأسه والجسد وتبل رجليه بدموعها كعهد تقوى، وتمسحهما بشعرها لترتد لها
مسحة قداسة، جعل حياتها في الكنيسة عملاً وذكرى وتذكاراً حسناً.

12:26و13
«فَإِنَّهَا إِذْ سَكَبَتْ هذَا الطِّيبَ عَلَى جَسَدِي إِنَّمَا فَعَلَتْ
ذلِكَ لأَجْلِ تَكْفِينِي. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حِيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا
الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ
تَذْكَاراً لَهَا».

لقد
كان المسيح يعيش في موته، وكان التلاميذ يفكِّرون في الطيب الكثير الثمن وثمنه
الكثير اللائق بالفقراء، بينما كان المسيح يفكِّر في دفن الجسد! لذلك كان صعباً
على المسيح أن يفوِّت عليهم خطأ ما قالوه وارتكبوه، وهو يرحِّب بالعمل كجزء كان
ضائعاً في قصة دفنه، إذ علم مُسْبقاً أنه سيسلِّم الجسد في آخر لحظات قبل السبت
وليس من يحنِّط أو يطيِّب، فلمَّا صنعت مريم بالجسد ما صنعت تعجَّب المسيح إذ
بطيبها أكملت قصة الدفن. وهكذا دخلت هذه المرأة دخولاً رسمياً في إنجيل الكرازة
بالصليب والموت والقيامة. وكان المسيح أول مَنْ تكفَّن حيًّا. وكان دَهْن جسده
بالطيب تعبيراً لاهوتياً عن اجتيازه الموت دون أن يُمسك فيه. فالجسد المعطَّر
بالناردين الخالص قام برائحته العطرة كما هو ولم يمسّه الموت مسًّا. أكانت هذه
المرأة نبيَّة؟ بل كانت أكثر من نبيَّة! فالنبي يقول ما هو آت ولكنها فعلت ما
ينبغي أن يأتي!! وكأنها رأت بالرؤيا يوم السبت قد لاح، والجسد معلَّقاً وليس مَنْ
يدفن ولا مَنْ يكفِّن، فأسرعت إلى قارورتها وسبقت وكفَّنت في 8 نيسان ما سوف يكون
في (14) منه.

 

اتفاق يهوذا مع رؤساء الكهنة

[14:2616]                   (مر 10:14و11)، (لو 22: 3 – 6)

 

كان
موفَّقاً للغاية هذا القديس متى في تدوين قصة امرأة العطر الكثير الثمن لتقديم
أغلى مشاعر الأمانة والمحبة والولاء للمسيح وهو يخطو أول خطوة نحو الصليب، قبل أن
يعطينا مضمون خيانة يهوذا واتفاقه مع رؤساء الكهنة، إذ بهذه الخطوة النجسة بدأ مسلسل
القبض والآلام والصلب.

وهكذا
يعطينا القديس متى التقابلات: أولاً بين اجتماع المسيح مع تلاميذه في عشاء بيت
عنيا (13:6)، وكان ميعاده السبت 8 نيسان مقابل اجتماع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ
الشعب في دار رئيس الكهنة (1
5)، وتشاوروا على قتل
المسيح وكان ميعاده بحسب ترتيب الكنيسة لأسبوع الآلام يوم الأربعاء 12 نيسان، الذي
تدعوه الكنيسة: “أربعاء المشورة الرديَّة”.

ثم
يعود هنا ويعطي التقابل بين عمل المرأة صاحبة الطيب والأمانة والعبادة والتقوى،
مقابل يهوذا واحد من الاثني عشر يخطِّط مع رؤساء الكهنة للقبض على المسيح في أشهر
خيانة عُرفت في العالم. امرأة في التاريخ الكنسي تقود العالم بعمل تقوي بالغ
الأمانة، وتلميذ من الاثني عشر يقود الخيانة لدى معدومي الضمير.

14:26 «حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ
عَشَرَ، الَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ
الْكَهَنَةِ».

خبر
مفضوح يرويه الإنجيليُّون على المكشوف، بلا تحفُّظ أو خجل أو تقديم الأعذار! هكذا
كان المسيح يعيش وسط تلاميذه بلا تقييد للحرية، حتى أن أقرب إنسان إليه وهو الذي
كان مكانه في الجلوس على المائدة يأتي دائماً على يمين الرب باعتباره الأكبر سناً
لذلك كان
بينه وبين بطرس منازعة دائماً من أجل هذا الأمر
هكذا خرج
دون أن يعلم بخروجه أحد ولا هو أخذ الإذن بهذا الخروج. ولكن كانت هناك عيون صاحية
تراقبه وتعدّ خطواته، لا نعلم تماماً مَنْ هُم، ولكن الذي يُرجَّح لدينا أنه هو
مرقس، أنه الوحيد الذي كان مواطناً من أُورشليم والاجتماعات تُعمل في بيته في
العلية وفي ضيعته الخاصة في جثسيماني بجبل الزيتون، وكان معروفاً لدى رؤساء الكهنة
وكان يدخل إليهم بلا مانع، لأنه يبدو أن أباه كان ذا حيثية عندهم لأنه كان غنيًّا.
وهو الذي سرَّب لنا أخبار الآلام لأنه حضرها سرًّا دون أن يعلم أحد وبالأخص في
محاكمة بيلاطس. فهو الوحيد بين التلاميذ الذي كان يتكلَّم ويتقن اللاتينية، ومعروف
عند جميع العلماء أن أخبار ق. مرقس عن الآلام هي أدق الأخبار، وقد أخذ عنه
الإنجيليُّون حتى إنجيل ق. يوحنا أخذ من ق. مرقس رواية المحاكمة لدى بيلاطس لأن ق.
يوحنا لم يكن يعرف اللاتينية.

ويقول
العلماء([4])
إن رواية ق. مرقس عن يهوذا هي الأقدم، فهو الذي يُضيف:
» مضى إلى رؤساء الكهنة ليسلِّمه إليهم. ولمَّا
سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة. وكان يطلب كيف يسلِّمه في فرصة موافقة
«(مر 14: 10و11). وهنا تقرير ق. مرقس أن رؤساء الكهنة لمَّا رأوا
يهوذا وسمعوا منه أنه سيسلِّمه إليهم “فرحوا”، لأن دخول أحد التلاميذ
الاثني عشر في قضية التسليم والمحاكمة يقوِّي حجَّة رؤساء الكهنة ضد المسيح، ويرفع
عنهم شدَّة انتقاد وضغط الذين سيعلمون بالقضية. فها هو تلميذ مؤتمن وخاص جداً
للمسيح هو الذي يسلِّمه.

كما يقرِّر تيلور أن رواية ق. مرقس لا يُناقش في صحتها وهو
أصل التقليد الذي كشف أن واحداً من الاثني عشر هو الذي خان. كما يقرِّر أن يهوذا
كان فريسة الشك والحيرة وضياع الرؤية واليأس([5]).

ولكن
يقول العالم الحكيم بيدا إن يهوذا لم يجبره رؤساء الكهنة ولم يكن محتاجاً إلى
المال ولكنه كان مسوقاً بفكر شرير([6]).

15:26و16
«وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟
فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. وَمِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ كَانَ
يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ».

هنا ودون جميع الأناجيل يكشف ق. متى السرّ وراء خيانة يهوذا
أو الدافع الذي سهَّل عليه تسليم معلِّمه:
» ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أُسلِّمه إليكم « يهوذا منحاز بقوة إلى المكسب، أي
مكسب مُغْرٍ،
ولكن
في سبيل أن يسلِّم معلِّمه لأعدائه، هنا السقطة التي أودت به إلى الأبد. بطرس وقف
نفس الوقفة:
» ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا «(مت 27:19). ولكن مطلب بطرس منزَّه عن الخسة والأنانية، بل على
العكس إذ يمكن أن توضع المقايضة بهذا المعنى: “هوذا نحن ضيَّعنا حياتنا وأموالنا وكل ما لنا لنتبعك فماذا يكون لنا؟”، هنا
قطعاً الجزاء يستحيل أن يكون في العالم أو من العالم لأنه ترك العالم. إذ لا بد أن
يكون ما فوق العالم. وهكذا فاز ق. بطرس بالوعد.

ومن
روح إنجيل ق. متى يمكن أن يستشف القارئ أن يهوذا قد باع معلِّمه قبل أن يبيعه،
بمعنى أنه فرَّط في العلاقة معه قبل أن يقطعها بالتسليم. ذلك عن كراهية للتعليم
وطمع في جزاء مادي. هذا الطمع في الدنيا وما فيها مرض وبيل:
» لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه
قومٌ ضلُّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة
«(1تي
10:6). والإضافة التي أضافها ق. مرقس هنا:
» ولمَّا سمعوا فرحوا ووعدوه أن
يعطوه فضة
«(مر 11:14)، تكشف عن تقصِّي ق. مرقس وراء يهوذا ومعرفة دقائق
الصفقة ولذلك حسبوا تقليده الإنجيلي هو الأقدم.

ولكن
خيانة يهوذا كانت حزناً على حزن بالنسبة للمسيح والكنيسة.

«فجعلوا له ثلاثين من الفضة»: œsthsan

كلمة
“جعلوا” تعني في هذا الموضع باليونانية وزنوا([7])
weighed
فالفضة غير المصكوكة توزن بالوزنات. وكان وقتها يتم التعامل بالوسيلتين، لأن الفضة
المصكوكة بالشاقل كان التعامل بها منذ سمعان المكابي سنة 143ق.م. ولكن التعامل
بالوزن كان لا يزال معمولاً به خصوصاً في الكميات الكبيرة التي تصرف من الخزنة.

والكلمة
تفيد أنهم وزنوها وسلَّموها له في الحال. وطبعاً هنا واضح ذكاء رئيس الكهنة، فإذ
قد فرح به وزن له في الحال وسلَّمه، فهي فرصة ذهبية لا ينبغي أن تفلت من يده.
فتسليم الفضة ليهوذا في هذا الوقت كان هاماً جداً لرئيس الكهنة، فالمسألة لا تحتمل
مقايضة. وهنا يرتاح ق. متى لأن المقايضة جاءت محبوكة على نبوَّة زكريا الذي كان
حاضراً بروحه ورأى وعاين وكتب:
» فقلت لهم إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلاَّ فامتنعوا.
فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة، فقال لي الرب ألقها إلى الفخاري الثمن الكريم الذي
ثمَّنوني به. فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب
«(زك 11: 12و13). وهي تساوي ثلاثين شاقل فضة، ثمن “عبد” (خر 32:21).
وإذ قبض يهوذا الثمن أصبح تحت اضطرار أن يبدأ التسليم، وبالفعل بدأ يحسب المواقف
وينتهز الفرص. على أن قوة شريرة بدأت تحرِّكه:
» وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي
أن يُسلِّمه.
«(يو 2:13)

 

الإعداد للفصح

[17:2619]                   (مر 12:1416(لو 22: 713)

 

17:26
«وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ
تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ
نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟».

أي
أول أيام العيد([8]).
وهو 14 نيسان وهو بالنسبة للثلاثة أناجيل يوم الخميس ولكن بحسب إنجيل ق. يوحنا
يكون يوم الجمعة. فهذا الموعد محال بالنسبة لترتيب ق. يوحنا. ولكنه بحسب الثلاثة
أناجيل المتناظرة كان يوم الخميس نهاراً والذي لا يحل أكل الفصح فيه إلاَّ بعد
الغروب بحسب التوراة (خر 18:12)، والمسيح هنا يتصرَّف كأب عائلة التلاميذ بحسب
العالِم بنجل.

وبالنسبة
لتأخُّر ميعاد الإعداد للفصح إلى آخر يوم، يُظن أن المسيح كان قد سبق واتفق مع أحد
أصحاب البيوت الصديقة بترتيب هذا العشاء مسبقاً.

والمعروف
بالنسبة لإنجيل ق. يوحنا أن عشاء الخميس لم يكن هو الفصح ولكن المسيح قُدِّم
للصليب في يوم الفصح بحسب ترتيب ق. يوحنا ليكون هو الفصح الحقيقي.

18:26و19
«فَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ:
الْمُعَلِّمُ يَقُولُ إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ
تَلاَمِيذِي. فَفَعَلَ التَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا
الْفِصْحَ».

في
إنجيل ق. مرقس يضيف حادثتين نبويتين: الأُولى أنه سيقابلهم إنسان حامل جرَّة ماء،
والثانية أن صاحب البيت سيُعِدُّ لهم الفصح. مما يُفهم أنه لم يكن بإعداد سابق
ولكن بروح نبويَّة دلَّهم ورتَّب لهم كل شيء:
» يُريكما عِلِّيَّة كبيرة مفروشة معدَّة «(مر 13:1416). ولكن في إنجيل ق.
متى تظهر هذه الحوادث وكأنها أوامر من المسيح أطاعها التلاميذ دون أي توضيح.
وعندنا أن ق. مرقس هو الأصل في التقليد لأنه هو هو صاحب العلِّية. أمَّا القول هنا
اذهبوا: “إلى فلان” فهو عملية سريَّة لم يفصح فيها المسيح عن اسم صاحب العلِّيَّة
حتى لا يلتقطها يهوذا ويداهم المسيح وقت العشاء، فالذئب بدأ يتربَّص بالخراف. ولكن
يبدو لنا أن كلمة “فلان” هنا هي مقصودة بالذات، وأول من دوَّنها هو ق. مرقس في
إنجيله. وقد حذف كلمة “مرقس” ووضع مكانها “فلان” إمعاناً في إخفاء شخصه من إنجيله كعادته. ولكن باقي الإنجيليين
أخذوها منه “فلان” على علاَّتها دون أن
يفسروها.

كذلك
من المعروف أن ق. مرقس هو صاحب التقليد الذي يذكر علامة الإنسان حامل جرَّة الماء
والآخر صاحب العلِّيَّة اللذَينِ لم يكونا أكثر من مرقس نفسه ووالده إذ كان يعيش
آنئذ. وأخذه عنه ق. لوقا كما هو، ولكن أسقطه ق. متى لأنه لم يجد له معنى عنده.

«وقتي قريب»:

هو
تعبير سرِّي آخر عن مفهوم الصليب. أمَّا قوله عندك أصنع الفصح مع تلاميذي فيتضح
منها أنه لم يكن هناك سبق ترتيب مع هذا الصاحب. يقولها وهو واثق أنه سينفِّذ ما
يقول في أوانه رغماً عن كل ترتيبات يهوذا
ورؤساء الكهنة. ويكشفها ق. لوقا بقول المسيح لتلاميذه:
»
شهوة اشتهيت أن آكل هذا
الفصح معكم قبل أن أتألَّم
«(لو 15:22). ولو جمعنا قول ق. لوقا مع
إنجيل ق. يوحنا يكون المسيح قد أكل الفصح مع تلاميذه، وأكمل بموته على الصليب
الفصح ذاته. وهو كل ما تمنَّاه المسيح.

والمعروف
أن ترتيب هذا العشاء واعتباره فصحاً كان أهم تدبيرات المسيح التي اعتنى أن
يكمِّلها قبل الصليب (لو 15:22) باعتبارها
عشاء الوداع وتأسيس سر الكنيسة الذي ستحيا به حتى
يجيء!

 

العشاء الأخير

[20:2635]

 

أين
كان المسيح وكيف أمضى الأربعاء والخميس صباحاً؟ يقول ق. لوقا:
» وكان في النهار يعلِّم
في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يُدعى جبل الزيتون. وكان كل الشعب
يبكِّرون إليه في الهيكل ليسمعوه
«(لو 21: 37و38).
وواضح لنا أن كلمة:
»
يبيت
في جبل الزيتون
«أن ذلك كان
في جثسيماني في بيت ق. مرقس الريفي في حديقة معصرة الزيت. ويلاحظ أن قول التلاميذ
ليسوع:
» أين تريد أن
نُعدَّ لك لتأكل الفصح

«
لم
يَرِدْ فيه ذكر شراء الخروف كالمعتاد، وكان يتحتَّم إن كان ذبحٌ للخروف أن يتم في
الرواق الخارجي للهيكل مساءً  (خر 6:12)، ولكن يجب إعداد الفطير والأعشاب المرَّة
والخمر وذلك كله منذ صباح الخميس.

 

اتهام يسوع العلني للخائن

[20:2625]                   (مر
17:1421)، (لو 21:2223)، (يو 21:1329)

 

20:26و21
«وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا هُمْ
يَأْكُلُونَ قَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ
يُسَلِّمُنِي».

ولكن
بحسب إنجيل ق. يوحنا، نعرف أن المسيح قام أولاً، وقبل البدء بالعشاء، بغسل أرجل
تلاميذه معطياً درسه الذي لا يُنسى إلى الأبد عن التواضع (يو 13: 1
20)، وقد
أشار هذا السر التواضعي إلى يهوذا باعتباره ليس طاهراً:
» وأنتم طاهرون ولكن ليس كلّكم. لأنه عرف مسلِّمه
لذلك قال لستم كلكم طاهرين
«(يو 13: 10و11).
هكذا ترى الكنيسة أن غسل الأرجل اعتُبر عملاً طقسياً يحمل في مضمونه سر الطهارة
الداخلية. وبعدها ذكر لهم إن واحداً منكم يسلِّمني (يو 13: 21
30).

أمَّا
هنا في إنجيل ق. متى، فنسمع أن المسيح فتح موضوع التلميذ الذي سيسلِّمه أثناء
الأكل:
» وفيما هم
يأكلون
« لقد وقعت على التلاميذ وقع الصاعقة. والمسيح لم يكن غائباً عنه
هذا التسليم قبل ذلك، فلماذا الآن؟ هنا ينكشف لنا تدخُّل المسيح القوي والسريع
للضغط على الخائن لكي يبدأ عمله في الحال دون مراوغة لكي يفوِّت على رؤساء الكهنة
التخطيط لتحاشي القبض عليه أو محاكمته في العيد خوفاً من الشعب. والمسيح
يريدها في العيد وفي ميعاد ذبح الخروف بالذات ليتم عمل فصح الخلاص الأبدي.

22:26و23
«فَحَزِنُوا جِدًّا، وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: هَلْ
أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ: الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي
الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي».

واضح
أن رد الفعل كان على التلاميذ قاسياً فأحزنهم جداً، وفي الحال بدأوا يُبرِّئون
ذمتهم:
» هل أنا يا
رب؟
« وواضح من إنجيل ق. مرقس أنهم بدأوا واحداً واحداً بالدور يسألون
ليبرئ كل واحد نفسه:
»
فابتدأوا
يحزنون ويقولون له واحداً فواحداً هل أنا وآخر هل أنا؟
«(مر
19:14). فانظر عزيزي القارئ التدبير الطقسي والترتيب والنظام والحشمة في التعامل
على المائدة المقدَّسة. وضرورة الاعتراف وتبرئة الذمة واحداً فواحداً. وكذلك يلاحظ
هنا أن السؤال يطلب ردًّا من المسيح الذي يُحسب أنه بمثابة طلب حِلّ وغفران وإعطاء
البراءة. كذلك فإن هذا العمل كان جماعياً وبين التلاميذ، وهذا ما نجده في الكنيسة
بضرورة تقبيل الجماعة بعضها بعضاً بقبلة مقدَّسة رسولية تكون بمثابة الصفح والمحبة
والتسامح العام:

+
» فإن قدَّمت
قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك فاترك هناك قربانك قدَّام
المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك وحينئذ تعال
وقدِّم قربانك.
«(مت 5: 23و24)

+
» اعترفوا
بعضكم لبعض بالزلات وصلُّوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا.
«(يع
16:5)

حيث
الأمر كله يتعلَّق بمدى أمانتنا للمسيح بالنهاية.

وإن
تركيز المسيح الشديد على خيانة يهوذا بين التلاميذ يوقظ ضمائرنا جميعاً إلى خطورة
الاشتراك في جسده والقلب غير أمين له!!

ويضيف
ق. لوقا سؤالاً دار بينهم:
» فابتدأوا يتساءلون فيما بينهم مَنْ ترى منهم هو المزمع أن
يفعل هذا
«(لو 23:22). مما جعل المسيح يردّ أن » الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلِّمني « ولكن جاءت في إنجيل ق. يوحنا بعد محاورة دارت سرًّا فوق الرؤوس
بين ق. بطرس وق. يوحنا. لأن ق. بطرس كان يجلس في الترتيب بعد يهوذا الذي كان عن
يمين المسيح باعتباره الأكبر سنًّا وبعد مشاجرة مع بطرس مَنْ هو الأعظم (لو
24:22)، أمَّا ق. يوحنا فكان على الجانب الآخر على شمال المسيح بصفته الأصغر حسب
ترتيب جلوس الأولاد حول أبيهم، فاضطر ق. بطرس أن يومئ برأسه ويغمز بعينه ليوحنا
حتى يسأل ق. يوحنا المسيح مَنْ هو التلميذ الذي سيسلِّمه:
» فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون
في مَنْ قال عنه. وكان متكئاً في حضن يسوع واحدٌ من تلاميذه (يوحنا) كان يسوع
يحبّه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل مَنْ عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ ذاك
على صدر يسوع وقال له يا سيِّد مَنْ هو (والذي يكتب هذا الكلام هو ق. يوحنا نفسه)
أجاب يسوع هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان
الإسخريوطي. فبعد اللقمة دخله الشيطان، فقال له يسوع ما أنت تعمله فاعمله بأكثر
سرعة
«(يو 13: 22 27). وهذه الحركة التي
عملها المسيح لا تخلو من العجب، لأن بحسب قوانين العشاء في الفصح أن رب الأسرة
يبدأ بأن يغمس لقمة في الصحفة التي بها مزيج الخل بالفواكه ويعطيها إمَّا لأكبر
الضيوف الحاضرين أو للابن الأكبر الجالس عن يمينه مباشرة. فتعجَّب معي أيها القارئ
العزيز كيف أعطى المسيح العلامة لكشف مسلِّمه بل قاتله يهوذا وكانت في مضمونها
تكريماً وبحسب الطقس أيضاً ككبير الأولاد([9])!!

وكان
تعليق الرب نفسه في هذا:
» إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه (إش 53) ولكن ويل لذلك
الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد.
«(مر 21:14)

وعلى
القارئ أن يلاحظ لماذا أثار المسيح موضوع خيانة يهوذا على مائدة الفصح السريَّة
جدًّا، ولماذا ألقى هذا الخبر بصورة عامة:
» واحد منكم يسلِّمني «مع أنه كان قادراً أن يجعله خاصاً مع الخائن
وحده. هنا التقطت الكنيسة المرتشدة بالروح القدس وظيفة سر الإفخارستيا كسر الحياة
الأبدية، ويتحتَّم قبل التقدُّم إلى الشركة في هذا السر الإلهي أن يراجع كل متناول
ذمَّته ويفتِّش ضميره:
»
هل
أنا يا رب؟
«ويدين نفسه
ويعترف بخطئه وخطيته قبل أن يتناول، وإلاَّ يُعتبر أنه يتناول بدون استحقاق الذي عقوبته
المرض والموت:
» ولكن ليمتحن
الإنسان نفسه وهكذا يأكل من الخبز ويشرب من الكأس. لأن الذي يأكل ويشرب بدون
استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه، غير مميِّز جسد الرب. من أجل هذا فيكم كثيرون
ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو كنَّا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا.
«(1كو 11: 2831)

24:26
«إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ
لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً
لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ».

والإشارة عن يهوذا في هذه المناسبة يوضِّحها (مز 9:41): »
أيضاً رجل سلامتي (تلميذ) الذي وثقت به (اختاره ضمن
الاثني عشر) آكل خبزي (خبز السر المقدَّس) رفع عليَّ عقبه (أعلن عليَّ الحرب)
«

هذه
الآية:
» ابن الإنسان
ماضٍ كما هو مكتوب عنه

«
تحمل
مضموناً لاهوتياً عميقاً. فالفداء تحقيق مشيئة إلهية اشترك فيها الآب والابن، ولكن
موت الابن أنشأ مسئولية على الذين اشتركوا في قتله. صحيح أنه تجسَّد ليموت ويعود
بجسده القائم من الأموات ليجلس به، أي بالبشرية التي اتحد بها، مع الآب؛ ولكن
عملية موته بدون حق أو سبب جعلت على الذين اشتركوا فيها دينونة خطيرة. إنهم قتلوا
إنساناً بريئاً فدمه عليهم. وسَبْقُ معرفة وإرادة ومشيئة الله في موت الابن لا
يعفي المسئولين عن الموت من تحمُّل جريمة قتل، ترفع عنهم حق الحياة. لذلك قال كان
خيراً له لو لم يولد من أنه يولد ليُحرم من الحياة الأبدية. والعجيب أن المسيح قال
هذا الكلا م الصعب جداً في وجه يهوذا ولكن لم يقنعه ليعتذر ويتوب.

25:26
«فَأَجَابَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَالَ: هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ قَالَ
لَهُ: أَنْتَ قُلْتَ».

ولكن
الترجمة العربية هنا لا تعطي المعنى كله. فالسؤال استنكاري ومنفي، وصحة الترجمة
تكون كالآتي:
m»ti
™gè e„mi;
ليس هو أنا (طبعاً) يا
سيدي؟ ولكن كانت إجابة المسيح توجب عليه التهمة:
» أنت قلت «
هنا واضح الفارق في المخاطبة، فالتلاميذ قالوا:
» هل أنا يا رب «ويهوذا يحذف يا رب ويجعلها يا سيِّد (رابي)
ويحاول أن ينفي التهمة. وقالها أخيراً وبعد تردُّد، هروباً من الصمت الذي يثبت
جريمته. كذلك فردُّ المسيح عليه لا ينفي عنه التهمة ولا يتهمه ولكن يجعل كلامه هو
الذي يتهمه:
» أنت قلت « ومعناها أنت تعلم مَنْ أنت وماذا عملت!!

ومن
مجرى الحديث بعد ذلك يُعتبر أن ق. متى لم يعترف بأن يهوذا اشترك في عشاء الرب.
ولكن بحسب إنجيل ق. يوحنا، واضح أنه اشترك بالفعل، وقد أعطاه المسيح لقمة الشركة
بيده، ولكن لأنه كان خائناً وغير مستحق نعمة الحياة، إذ هو محسوب أنه قاتل دم
بريء، دخله الشيطان عوض النعمة، وبالنهاية ذهب وخنق نفسه ومات.

 

عشاء الرب

[26:26-30]                  (مر
22:14
26)، (لو 14:2220)، (1كو 23:1125)

 

تأسيس الإفخارستيا لتحل محل الفصح الأخير

«لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا»
(1كو 7:5)

معروف
أن المسيح ليلة العشاء الفصحي الأخير([10])
استخدم كسر الخبز في أول العشاء، وكأس الخمر الرابع آخر العشاء (في نظام الفصح)،
ليؤسِّس بهما الطقس الإفخارستي الذي استلمته الكنيسة لتصنعه باعتباره فصحها
الحقيقي، ولكن ليس كل سنة كتذكار فصح مصر، وإنما كل حين باعتباره يحمل كل قوة وفعل
سر موت المسيح على الصليب وقيامته من بين الأموات لخلاصنا، ليس من عبودية فرعون
مصر بل من عبودية الخطية والموت. فكان “الفصح الأخير” عيداً تذكارياً
لحادثة خروج الشعب من أرض مصر، أمَّا “الإفخارستيا” التي حلَّت محلَّه فهي
أفعال الخلاص السرِّية التي تمَّت في موت المسيح وقيامته، وأكمل بها الفداء
والخلاص. لذلك تحتَّم إقامتها دائماً كجزء حيِّ في العبادة، كفعل خلاص متكرِّر
بالسرّ لتمكين عمل الفداء ولتكميل سر الشركة في جسد المسيح ودمه، بحضوره الإلهي
السرِّي حسب الوعد، وبتقديمه الكأس بيده ليشرب منه كل متناول في كل إفخارستيا، حيث
يقدِّم دمه الذي للعهد الجديد لكل مَنْ يؤمن. ففي كل إفخارستيا يشرب كل
متناولٍ، ومن يد المسيح، دمه الذي للعهد الجديد.

ونحن
نقدِّم هنا صورة كاملة “لعشاء عيد الفصح” بكل إجراءاته الطقسية
في العهد
القديم
التي اختزلها المسيح ليأخذ منها الخبز والخمر فقط،
وذلك بحسب أبحاث العالِم هنرش أوجست
ماير([11])
عن أبحاث جون ليتفوت([12])
(
سنة 1675)، وعن باب الفصح في الترجوم اليهودي([13])،
وقاموس أوتثو للربيين([14])
وانسيكلوبيديا هيرزوج([15]).

أمَّا
خطوات أكل عشاء الفصح التقليدي فهي كالآتي:

1
الكأس
الأولى:
رأس
العائلة في الوسط والأولاد حوله بدءًا من الكبير عن اليمين ونهايةً بالأصغر عن الشمال في حلقة مستديرة والكل متكئ. يبدأ
الفصح بشرب الخمر، ولكن
قبل اقتسامه يُعطي رأس العائلة الشكر لله بكلمات
محفوظة، ذاكراً كيف عاد هذا اليوم المقدَّس (يوم الفصح). وبحسب مدرسة شمَّاي ينبغي
أن يكون الشكر على اليوم ثم على الخمر.

2
– الأعشاب المرَّة: ويُقصد بها تذكار الحياة التي عاناها الآباء في مصر
وقد وُضعت
على المائدة وبعضها منقوع في محلول ملح
وتؤكل وسط
التشكُّرات.

3
– الفطير: وهو الخبز غير المختمر، … وحساء
Charoset مصنوع من التين والبلح، ويكون له اللون الأحمر كالطوب
الأحمر
الذي كانوا
يعملونه في سخرة البناء. والخروف ولحم الشجيجة
Chagiga.

4
– وبعد أن يعطي رأس العائلة البركة =
Benedictus لمن أخرج الثمار من الأرض، فإنه يأخذ من الأعشاب المرَّة، بقدر
حجم الزيتونة ويغمسها في منقوع صحن الثمار ويأكلها. حينئذ يتبعه كل أفراد الأسرة،
كما عمل هو.

5
الكأس الثانية: وفيها يُخلط الخمر بالماء. ثم يبدأ رأس العائلة في شرح كل
ما هو موضوع على المائدة ومعناه، وذلك بناء على رجاء من أحد أبنائه.

6
– في أثناء ذلك يؤتى بالأطعمة الباقية جميعها للمرَّة الثانية على المائدة
ثم يبدأون
بالتسبيح بالجزء الأول من الهالليل
Hallel وهي مزامير (113و114)، ثم يعقبه شكر مختصر من رأس العائلة، ثم
تُشرب الكأس الثانية.

7
– يبدأ رأس العائلة بغسل يديه
بعدها يأخذ كسرتين من
الخبز، يكسر الواحدة ويضع أجزاءها على التي لم
تُكسر، ثم يكرِّر الصلاة بالبركة (للذي أخرج القمح من الأرض)، ثم يمرِّر كسرة خبز
على الأعشاب المرَّة ويغمسها في منقوع التين والبلح ويأكلها بعد أن يكون
قد أكمل الشكر. بعدها يشكر مرَّة أخرى ويأخذ قطعة من
الشجيجة وبالمثل يأخذ من
الخروف.

8
– ويستمر العيد حتى ينتهي المتكئون من أكل آخر جزء من الخروف، بتقطيعه قطعاً صغيرة
بحجم الزيتونة يأكلها كل واحد. ويُختم العيد ويُمنع بعد ذلك الأكل. وكانوا في
الطقس القديم يأكلون الفصح وهم وقوف كأنه باستعداد الخروج.

9
الكأس الثالثة: بعد ذلك يغسل رب الأسرة يديه، ثم يشربون الكأس الثالثة،
وحينئذ يسبِّح الجميع الجزء الثاني من الهالليل (مز 115
118).

10
الكأس الرابعة: ثم يشربون الكأس الرابعة مع التسبيح الأخير (مز 120
137) ولا
يُحسب أن الاحتفال بالعيد قد انتهى إلاَّ بعد كمال ما تمَّ في الخطوة الأخيرة.

وكان
ممنوعاً أن يتحدَّث أحد على مائدة الفصح بأي أمر كان إلاَّ في أمر الفصح. وينتهي
الاحتفال في ساعة متأخرة من الليل كما هو واضح في إنجيل ق. يوحنا (30:13).

26:26
«وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ
وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي».

عندما
أجرى المسيح هذا الإجراء الفصحي انتقل فصح العهد القديم إلى ما يُعرف بعشاء الرب
الأخير. وكان التلاميذ يأكلون بحرية حسب مفهوم الفصح تماماً. ولكن هنا فجأة تحوَّل
المسيح من الإجراء الفصحي إلى الإعلان عن التسليم والموت. وبدأ الحفل يتحوَّل من
البهجة المعتادة للفصح إلى الحزن:
» وفيما هم يأكلون قال: الحق أقول لكم إن واحداً منكم
يسلِّمني، فحزنوا جدًّا …
«(مت 21:26و22).
وهكذا بدأ طقس العشاء الأخير المعبِّر عن الموت الذي جازه المسيح بالجسد مكسوراً
على الصليب وسفك الدم أيضاً.

وهنا
ينتقل العشاء من واقع ذبائح العهد القديم (الفصح) إلى واقع الذبيحة الوحيدة العظمى
(المسيح) التي للخلاص.

ويلزم
أن ندرك أن ذبائح العهد القديم كان أساسها مغفرة الخطايا السهو، أمَّا ذبيحة المسيح
فجاءت لتبطل الخطية نفسها والموت!!
» ولكنه الآن قد أُظهر مرَّة عند انقضاء الدهور
ليُبطِلَ الخطية بذبيحة نفسه.
«(عب 26:9)

كذلك
كان كل ما تصنعه الذبيحة الحيوانية هو إلى تطهير الجسد فقط:
» يقدِّس إلى طهارة الجسد « (عب 13:9)، أمَّا جسد المسيح فهو يقدِّس الإنسان تقديساً: » نحن مقدَّسون بتقديم
جسد يسوع المسيح مرَّة واحدة.
«(عب 10:10)

ثم
غاية ما كانت تعمله الذبيحة الحيوانية عن خطية السهو أن تسمح لمقدّمها أن يدخل
الهيكل ويعبد مع العابدين، أمَّا ما عمله المسيح بتقديم جسده ذبيحة من نحونا فقد
هيَّأ لنا الدخول إلى السماء والترائي قدَّام الله:
» فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس
(العليا) بدم يسوع طريقاً كرَّسه لنا حديثاً حيًّا بالحجاب أي جسده.
«(عب 10: 19و20)

«أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى»: eÙlog»saj œklasen
kaˆ doÚj

هذه
هي الثلاثة أفعال الرئيسية التي للتقديس، والتي فيها يحدث سر الإفخارستيا:

بارك
وكسر وأعطى، ويُكنى عنها في الطقس عموماً “بكسر الخبز”. وهي الجزء الأول من
التأسيس، أمَّا الجزء الثاني فيجيء على الكأس.

يلاحظ
هنا خاصة في إنجيل ق. متى، أنه ذكر اسم يسوع، وليس مجرَّد ضمير مثل ق. مرقس، ليضع
منطوق الآية في وضع عبادي كامل تنطقه الكنيسة في الطقس مدعَّماً بالفاعل. ويلذ لنا
هنا أن نقول: إن ق. متى مغرم بذكر اسم يسوع أكثر من جميعهم، فقد ذكره 154 مرَّة،
بينما ذكره ق. مرقس 80 مرَّة فقط.

«وكسر
œklasen وأعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي»:

toàtÒ ™stin tÕ sîm£ mou

هنا
يتحتَّم أن نضم الفعل “كسر” للمفعول به “هذا هو جسدي”، فيصبح الكسر هنا ينتقل من
واقع الحال من الخبز بالشكل الظاهري إلى الفعل السرِّي للجسد كما حدث على الصليب.
على أن المسيح يستحضر هنا سرًّا كل الأفعال التي جازها الجسد على الصليب من كسر
وموت، يستحضرها في الحاضر كأنها قائمة
وعلينا هنا
أن نوجِّه نظر القارئ إلى أن أفعال المسيح كلها إلهية لا يحدها الزمان، فكل ما
عمله هو قائم الآن، معمول وفعَّال بفعله. وهذا يؤكِّد لنا أن المسيح الآن إنما
يقدِّم بالفعل السرِّي الإلهي وبمقتضى إرادته، جسده المكسور بالفعل. وبمعنى أوضح
فإن المسيح هنا عندما يعطينا جسده المكسور لنأكله يعني أنه يهبنا شركة فعلية في
جسده المائت على الصليب
(فإن كنَّا قد درسنا
وأدركنا سابقاً أن موت المسيح على الصليب هو عمل “كفَّاري”، وأنه “مات بالجسد” أي
حاملاً البشرية، بعد أن
»
حمل
هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة
« (1بط
24:2). يكون مضمون قبوله لعنة الصليب وموت الجسد هو قبول عقوبة اللعنة والموت وهو
حامل بشريتنا الخاطئة، فنكون قد أكملنا معه عقوبة اللعنة والموت كاملاً،
وإذ قام بجسد بشريته أيضاً يكون قد أعطى البشرية الحياة الأبدية التي فيه)
وهكذا
بإعطائنا جسده المكسور على الصليب يكون قد منحنا بالتالي غفران الخطايا.

بهذا
يكون مفهوم “الخبز المكسور” أو كسر الخبز باللغة الليتورجية الطقسية يعني أعلى
مفهوم لموت المسيح على الصليب، ويتضمَّن في الحال غفران الخطايا. وإذ يقدِّمه
ويعطيه بيده يكون أقدس هبة يهبها المسيح لكنيسته لأنها فعل غفران وتقديس.

لذلك
أصبح الخبز بعد أن يُجرى عليه الشكر (البركة) والكسر لا يعود خبزاً، بل جسداً
مكسوراً، أي ميِّتاً بالصليب. فالذي يتناول كِسْرة من هذا الخبز([16])
يتناول جسداً أُجري عليه الصلب والموت أي تمَّ فيه وبه غفران الخطايا.

فإن كنا نأكله بالفم خبزاً مكسوراً، إلاَّ أننا بآن واحد
نأكله بالإيمان جسد المسيح الذي جاز الموت، أي حاملاً غفران الخطايا:
» هذا هو جسدي «

» هذا هو
الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت
«

» أنا هو
الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز
الذي أنا أُعطي هو جسدي (المكسور) الذي أبذله من أجل حياة العالم
«(يو 6: 50و51)

ويخطئ
مَنْ يقول إن المسيح يعطي هنا نفسه وليس جسده، لأن إعطاء الجسد بمفرده والدم
بمفرده يشير إلى الموت الكامل الذي ماته على الصليب، والمكنى عنه في الإنجيل “بالكسر”
وعند القديس يوحنا بكلمة “المبذول”، لذلك يُحتِّم الطقس أن يعطي المسيح
نفسه على مستوى الجسد ثم الدم، لأننا أخذنا المسيح ميتاً ثم حيًّا، كشركة في موته
وشركة في قيامته. وكرَّرها المسيح بتأكيد وانفصال متعمَّد:
» مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة
أبدية
« »
لأن
جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي
يثبت فيَّ وأنا فيه.

«
(يو 6: 5456)

27:26و28
«وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: اشْرَبُوا مِنْهَا
كُلُّكُمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ
مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا».

الصعوبة
التي قابلت الشُّرَّاح منذ ق. جيروم([17])
هي لماذا الجسد وحده والدم وحده؟ وقيل في ذلك ما قيل، ولكن الحقيقة واضحة أنه بفصل
الدم عن الجسد يكون أعظم تعبير عن الموت، لأن الحياة أو “النفس” في الدم. فوجود
الدم وحده في كأس تعبير ليتورجي عن الدم المسفوك. لذلك حينما يؤكل الجسد وحده
ويُشرب الدم وحده يكون ذلك تحقيقاً للإيمان واعترافاً بآن واحد بحقيقة الموت الذي
أكمله الرب على الصليب بحسب تعبير القسمة السريانية:

[هكذا
بالحقيقة تألَّم كلمة الله بالجسد وانحنى على الصليب، وانفصلت نفسه عن جسده، إذ
لاهوته لم ينفصل قط لا عن نفسه ولا عن جسده!]

يقولها
الكاهن وهو يكسر القربانة ويقسِّمها ممثِّلاً كيف تمزَّق الجسد على الصليب ونزف
دمه حتى مات. فتواجُد الدم وحده يعبِّر عن سفكه. وحينما نشربه وحده: نشرب العهد
الجديد بدمه.
كما سبق وقلنا.

ويجيء هنا الانطباق محكماً مع سفك دم خروف الفصح، ليحل طقس
سفك دم المسيح في
العشاء محل سفك دم الخروف الفصحي إلى الأبد، الأمر الذي
تحقَّق بالفعل على الصليب. وبهذا يكون المسيح قد احتفظ بالمفهوم الأساسي من سفك
الدم في الفصح القديم، إنما بالصورة الجديدة الإلهية في الفصح الجديد:
» لأن فصحنا أيضاً المسيح
قد ذُبح لأجلنا
«(1كو 7:5). على أنه لا يفوت على القارئ ودارس اللاهوت أن سفك دم
الخروف وبقية الذبائح في القديم كان مجرَّد طقس نبوي عن سفك دم المسيح الذي سيجيء
في زمانه وقد جاء. ولكن هنا نوعِّي القارئ واللاهوتي بآن واحد أن سفك دم خرافٍ
وتيوسٍ وعجولٍ كان عن خطايا السهو فقط!! لأن خطايا العمد لم يكن لها ذبيحة
كفَّارية بل يموت صاحبها موتاً:
» مَنْ أخطأ إليَّ أمحوه من كتابي «(خر
33:32)، ولكن كمضمون كلِّي فإنه
» بدون سفك دم لا تحصل مغفرة «(عب
22:9)،
» وليس بدم
تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرَّة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً، لأنه إن
كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجَّسين يقدِّس إلى طهارة الجسد، فكم
بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب يطهِّر ضمائركم من
أعمال ميِّتة لتخدموا الله الحيّ.
«(عب 9: 1214)

كان هذا الدم الذي للذبائح الحيوانية يُدعى “دم العهد”: »
قائلاً هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به «(عب 20:9)، أمَّا دم المسيح فقدَّمه بيده لتلاميذه قائلاً: «هذا
هو دمي الذي للعهد الجديد».

«أخذ الكأس وشكر وأعطاهم»:

labën pot»rion kaˆ
eÙcarist»saj œdwken aÙto‹j

وهذه
أيضاً هي كلمات التقديس المحسوبة أنها سر تقديس الكأس: أخذ وشكر وأعطاهم. وهذا كأس
الخمر بعد أن يُجرى عليه الشكر (البركة) لا يعود خمراً بعد بل دماً مسكوباً، ودم
المسيح المسكوب هو دم العهد الجديد.

«اشربوا
منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد»:


aŒm£ mou tÁj kainÁj diaq»khj

وموضع
هذه الكأس الإفخارستية في عشاء الفصح الذي عمله المسيح هي آخر كأس المعروفة بالكأس
الرابعة التي تُشرب مع آخر تسبحة، وهي الجزء الأخير من الهالليل. وهي المنصوص عنها
في خطوات عيد الفصح بالرقم (10). وهي التي لا يُشرب بعدها شيء([18])
وتنتهي بها التسبحة والعيد والبركة الأخيرة على الفصح، لذلك تُسمَّى أيضاً عند
اللاهوتيين وق. بولس: كأس البركة (أي البركة الأخيرة). وقد رفعها المسيح من وضعها
القديم في العهد القديم إلى وضعها الجديد بقوله:
» لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد « على أن دم العهد القديم كما قلنا لم يكن
ليَرْفع إلاَّ خطايا السهو فقط، أمَّا خطايا العمد فلم يكن لها ذبيحة. أمَّا ذبيحة
المسيح فهي لرفع ليس كل الخطايا فحسب بل لإبطال الخطية ذاتها، وهي التي نص عليها
إرميا النبي في نبوَّته:
» ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا
“عهداً جديداً”، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأُخرجهم من
أرض مصر
«(إر 31: 31و32). لذلك أعطى المسيح في دمه الذي سكبه على الصليب
وسقاه لتلاميذه ليلة العشاء “عهداً جديداً”، فصار العشاء وبالتالي الإفخارستيا
في الكنيسة هي قوة العهد الجديد بدم المسيح،
عهداً أقامه الله الآب وابنه
معاً: أن طالما أُقيمت هذه الذبيحة المقدَّسة قام عهد الله والمسيح مجدداً بينه
وبين المؤمنين باسمه، يؤكِّد ذلك ما قاله ق. لوقا (20:22)، وما قاله ق. بولس:
» كذلك الكأس أيضاً بعدما
تعشَّوا قائلاً: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري،
فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء.
«(1كو 11: 25و26)

هنا القصد من » اصنعوا
هذا لذكري
«
أو
» اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري
«
وهي
الأقوى، القصد منها واضح هنا وهو تحقيق وجود الرب بسر الإفخارستيا حضوراً إلهياً
بحالته كمسفوك دمه، أي في حالة كفَّارة وغفران وخلاص دائم. فالتذكار هنا ليس لذكر
إنسان مات وانتهى، حاشا، بل هو ذكر وجودٍ حي بالروح دائم، عوض وجود كان بالجسد.
فالرب غير منظور وليس ميِّتاً، غير منظور بالجسد ولكنه حاضر بالروح وبلاهوته وقوة
دمه الفادي في الإفخارستيا. لذلك يذكرها ق. بولس بصورتها الأقوى:
» اصنعوا هذا كلما شربتم
لذكري
« ولماذا كلما شربتم؟ لأنه موجود في قوله: » هذا هو دمي اشربوا منه كلكم
«
فالرب واقف في كل
إفخارستيا يعطي بيده الخبز المكسور ويسقي بيده الدم المسفوك!! والذي يشك في هذا فليسأل تلميذي عمواس اللذين
عرفاه وقت كسر الخبز، لأنه تواجد بنفسه حسب الوعد لما كسر وأعطى!! فالإفخارستيا
تعويض عن عدم رؤية المسيح بالجسد المنظور بحضوره إلهياً. لذلك حينما يخطئ البعض ويقول: إن الإفخارستيا ليست
سرًّا إلهياً بل مجرَّد ذكرى يكشفون عن عجز
فاضح في فهم حضور الرب في الإفخارستيا حضوراً إلهياً فعَّالاً غافراً ومعطياً

حياة.

وقول
ق. بولس:
» فإنكم كلما
أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب
«
يكشف هنا عن كرازة حيَّة دائمة بسر موت المسيح على الصليب، وهو سرّ الفداء
والكفَّارة. فكيف يمكن وبأي عقل نفهم أننا نقيم سرّ فداء وسرّ كفَّارة بدون المسيح
نفسه قائماً؟

أليس
هذا هو بعينه ما عمله المسيح حينما كان جالساً على مائدة الفصح يكمِّل ما سيعمله
على الصليب قبل أن يُصلب؟؟ فإن كان في قوة المسيح واستطاعته أن يحقِّق بالفعل
الموت في نفسه قبل أن يموت، ويقول لهم خذوا هذا هو دمي المسفوك وهو لم يُصلب بعد،
ألا يحقِّق بالفعل سر موته بعد أن قام حينما نقيم الإفخارستيا باسمه لنحقِّق فعل
موته!؟

ولذلك
أيضاً أضاف المسيح قوله:

«الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة
الخطايا»:

tÕ perˆ pollîn ™kcunnÒmenon e„j ¥fesin
¡martiîn.

هناك
كان دم الخروف لمجرَّد عبور الملاك المهلك خلاصاً للأبكار من الموت، ولكن هنا
لمغفرة خطايا العالم للخروج من عبودية الشيطان والموت.

هناك
كان كأس بركة الفصح الأخيرة، وهنا كأس البركة للعهد الجديد لغفران الخطايا وإعطاء
حياة أبدية لكل مَنْ يتناول منه:
» كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح،
الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح.
«(1كو
16:10)

وقول
المسيح:
» من أجل كثيرين «يقصد به أنه لكل مَنْ
يتناول منه. ويؤكِّد العلماء أن كلمة “كثيرين” هي “الكل” فيأتي المعنى السرِّي
هكذا: الواحد فدى الجميع!! أو أن الكل اشتركوا في الواحد، حيث يصبح الجميع بسبب
الشركة في الدم الواحد في شركة معاً أي كنيسة واحدة:
» فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا
جميعاً نشترك في الخبز الواحد.
«(1كو 17:10)

ولينتبه
القارئ جدًّا للتعبير الذي يقدِّمه بولس الرسول هنا:
» نحن الكثيرين خبز واحد. جسد واحد (ليس بينهما
إضافة
( eŒj ¥rtoj, ›n sîma. «هذا التعبير يكشف
الوجهين: “الخبز والجسد” في وضع تعبيري عن التساوي المطلق الذي ينطق بأن الخبز هو
هو الجسد. والاشتراك في الخبز الواحد هو هو اشتراك في الجسد الواحد.

«الذي يُسفك»: tÕ ™kcunnÒmenon

معروف
في العهد القديم أن
»
النفس
في الدم
«(لا 14:17)، لذلك أصاب إشعياء النبي بقوله: »من أجل أنه سكب للموت نفسه «(إش 12:53)، التي هي بعينها سكب للموت دمه!! وبناءً على ذلك
يقول إشعياء:
» وهو حمل
خطية كثيرين وشفع في المذنبين.
«(نفس الآية).

“وسفك الدم” بحد ذاته هو مضمون فعل الفداء في مفهوم
الذبيحة، الذي هو نفسه لمغفرة الخطايا، أي الخروج من تحت عبودية الخطية والموت:
»
لأن نفس الجسد في الدم، فأنا أعطيتكم إياه (الدم) على
المذبح للتكفير عن نفوسكم (نفس حيوان عوض نفس إنسان)، لأن الدم يكفِّر عن النفس.

«
(لا
11:17)

أمَّا كيف فهمت الكنيسة عشاء الفصح الذي عمله المسيح أنه
فصحها الأبدي، وأن خروفها الوحيد هو المسيح الذي ذُبح مرَّة واحدة من أجل خلاص
العالم كله، فهو يُقرأ بسهولة عند ق. بولس الذي أحيا
هذا الإجراء الكنسي
السرائري وسجَّله للكنيسة حين قال:
» إذن نقُّوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجيناً جديداً كما أنتم فطير، لأن فصحنا
أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا.
«(1كو 7:5)

+ » لأنني
تسلَّمت من الرب ما سلَّمتكم أيضاً: إن الرب يسوع في الليلةِ التي أُسلم فيها، أخذ
خبزاً وشكر فكسَّرَ، وقال: خُذوا كُلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا
لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشَّوا، قائلاً: هذه الكأسُ هي العهد الجديد بدمي.
اصنعوا هذا كلَّما شربتم لذكري. فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس،
تُخبرون بموت الرب إلى أن يجيءَ.
«(1كو 11: 2326)

وعلى
القارئ أن يتأمَّل الصيغة التي سجَّل بها ق. بولس هذا التأسيس الإفخارستي الذي
يُعتبر أقدم صورة للإفخارستيا قبل الأناجيل، باعتباره الطقس الكنسي حسب أقدم
تقليد، وكأنه وديعة يسلِّمها للكنيسة كما تسلَّمها من الرب.

وإذا دقَّق القارئ يجد أن النص يذكر: » هذا هو جسدي المكسور لأجلكم «في
صيغة المضارع الدائم باعتباره فعل المسيح الدائم في المستقبل أيضاً، أي كحقيقة فوق
الزمان، ومضمونه أنه المذبوح على الصليب، والدم مسفوك منه لأجلكم، ثم يكمِّل بعد
ذلك مباشرة:
» اصنعوا هذا لذكري
«
حيث يكون المعنى حقِّقوا هذا الفعل الإفخارستي بحضوري بينكم
مذبوحاً ودمي مسفوكاً كل الأيام إلى أن أجيء. فهنا كلمة “لذكري” تفيد التوقيع
الزمني الدائم لفعل حضور الرب وهو مسفوك الدم ليكون فداءً دائماً كتحقيق لوجوده
الذاتي بيننا. والدليل القاطع على هذا التفسير ما أكمل به الكلام قائلاً:
»
فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون
(تبشِّرون) بموت الرب (أي تحقِّقون عمل الكفَّارة والغفران في حياتكم) إلى أن
أجيء!!
«كما سبق وشرحنا حيث يكون مجيئه ليس
للتكميل بل للحساب النهائي.

بهذا
تُفهم الإفخارستيا أنها فعل تحقيق موت الرب لتكميل قوة الكفَّارة ومغفرة الخطايا
بواسطة المسيح الحاضر في الكسر والسكب كل يوم وإلى مدى الأيام ونهاية الدهر.

من
هنا نفهم لماذا أسَّس المسيح الإفخارستيا بواسطة عشاء الفصح الأخير من جسده ودمه،
وأعطاها سر قوة وفعل الديمومة الإلهية فأصبحت تكميلاً عملياً للوعد:
» ها أنا معكم كل الأيام
إلى انقضاء الدهر.

«
(مت 20:28)

وهكذا
حقَّق لنا المسيح الشركة معه بواسطة الجسد والدم بصورة فائقة للطبيعة، ثم إن هذه
الشركة في الجسد والدم أهَّلتنا أن نكون شركاء حقيقيين في موت المسيح وقيامته من
بين الأموات وصعوده إلى السموات. وهذا ما يؤكِّده بولس الرسول أيضاً:
» كأس البركة التي
نباركها أليست هي شركة دم المسيح، الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد
المسيح
«(1كو 16:10). وهذا هو الذي ظلَّ يتغنَّى به ق. بولس الرسول كيف
صرنا شركاء في آلامه، شركاء في صليبه، شركاء في موته، شركاء في قيامته، شركاء في
صعوده، شركاء في جلوسه عن يمين الآب، شركاء في مجده، شركاء في بنوَّته وحبه للآب،
شركاء في ميراثه:

+
» لأنه إن
كنَّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته.
«(رو
5:6)

+
» فإن كنا قد
مُتنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه.
«(رو
8:6)

+
» وأقامنا
معه، وأجلسنا معه في السماويَّات في المسيح يسوع
«(أف
6:2)

+
» فإن كنَّا
أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح.
«(رو
17:8)

+
» إن كنَّا
نتألَّم معه لكي نتمجَّد أيضاً معه.
«(رو 17:8)

+
» أمين هو
الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا.
«(1كو
9:1)

انظر
عزيزي القارئ، فإن شركتنا معه في الجسد والدم هي شركة في شخص المسيح المبارك ابن
الله الوحيد، وهي بذلك جعلتنا شركاء كاملين في كل ما أكمله المسيح على الأرض وفي
السماء، إذ أعطانا شركة أيضاً في علاقة الابن بالآب، فنلنا بمقتضاها بنوَّة
(تبنِّي) للآب في شخص يسوع المسيح، بل وصرنا شركاء ذات الحب الذي أحبَّ به الآب
الابن:
» وعرَّفتهم
اسمك وسأُعرِّفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.
«(يو 26:17)

وهكذا
أيضاً نرى في الختام أن الذبيحة التي حقَّقها المسيح في نفسه بنفسه في سر
الإفخارستيا أثناء العشاء الفصحي الأخير يوم الخميس بالخبز المكسور والخمر المسكوب
المتحوّلَينْ إلى جسده الأقدس ودمه الكريم:

هي بعينها التي أكملها
المسيح بأيدي صالبيه على الصليب يوم الجمعة،

وهي بعينها التي صعد
بها المسيح إلى الآب ليقدِّم نفسه:
» كخروف قائم كأنه مذبوح «أمام الآب ذبيحة شفاعة دائمة لحسابنا: » وإن أخطأ أحد فلنا شفيع
عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفَّارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل
العالم أيضاً.
«(1يو 2: 1و2)

وهي نفسها التي تركها
للكنيسة لتقيمها باسم الآب والابن والروح القدس لتحقِّق بها الكنيسة حضوره الدائم
وشركتها فيه لتكميل وعده الصادق:
» ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. «(مت 20:28)

w على أن الكنيسة
تؤمن أن المسيح نفسه لا يزال هو الذي يعطي جسده ويسقي دمه بيده سرًّا في
الإفخارستيا لكل متناول من خلال سر كهنوته الفائق والدائم.

w ثم تؤمن الكنيسة
أن الإفخارستيا بحد ذاتها مع كل ما يشمله طقسها من قراءات وتسابيح تعتبر قلب
العبادة النابض بحب المسيح وعبادة الآب بالروح والحق، وأنها عمل تقديسي يتقدَّس به
كل مَنْ يشترك فيه.

29:26و30
«وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ
هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ
أَبِي. ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ».

واضح هنا أن المسيح اشترك في أكل الفصح مع تلاميذه، وأكل
الخبز المكسور وشرب الكأس
المسفوك
معهم، كما نصَّ عليه إنجيل ق. لوقا: «شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل

أن أتألَّم»
(لو 15:22). وقوله هنا:
»
قبل أن أتألَّم « يكشف عن إدراكه لما سيأتي عليه من الآلام والصلب ثم القيامة. كما أنه في هذه الآية: »
أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي «يكشف عن
القيامة التي سيقومها بمجده وذهابه إلى الآب
وبدء ملكوته الأبدي مع قديسيه:
» فأُعطي
سلطاناً ومجداً

وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأُمم
والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض
… أمَّا
قديسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين.
«(دا 7: 14و18)

علماً
بأن قوله:
» أشربه
جديداً
«لا يفيد بعد
شُرباً مادياً، لأنهم لا يأكلون ولا يشربون فوق، ولكنه تعبير عن وليمة الملكوت حيث طعامها هو الحق والحب والفرح، وشرابها هو النور
والبهاء والمجد.

وحدة الخبز والخمر، أي الجسد والدم في
الإفخارستيا:

في الطقس الإفخارستي أثناء القداس، بعد أن يشكر الكاهن
ويبارك الله على الخبز ويقسِّمه، ويشكر ويبارك الله على الدم في الكأس، ويتلو
صلوات القسمة، يعود الكاهن ويأخذ من الجسد قطعة
الذسبوتيكون التي في
الوسط (الاسباذيكون نطق خاطئ) وتعني التي للرب، ويغمسها جيِّداً في الدم داخل الكأس ويرفعها ويمرّ بها على بقية الجسد ليمزج الدم
بالجسد، ويحقِّق قول القسمة السريانية: [إن هذا الجسد لهذا الدم، وهذا الدم لهذا
الجسد]. والمعنى أن النفس في اليوم الثالث اتحدت بالجسد وقام المسيح بالجسد حيًّا
من بين الأموات. وبهذا المعنى يصرخ الكاهن في القسمة السريانية ويقول: [أتت نفسه
واتحدت بجسده … وفي اليوم الثالث قام من القبر]. وهكذا استطاع الطقس الملهم أن
يجمع الدم بالجسد مرَّة أخرى بعد أن صوَّر تمزيق الجسد على الصليب في القسمة،
وسَكْب الدم بصب الخمر
الممزوج بالماء في الكأس. وهذا يفيد أن المتناول
إنما يأخذ الجسد ممزوجاً بالدم أي متحداً به، بمعنى أنه يأكل المسيح حيًّا حسب قوله:
» أنا هو الخبز الحي … مَنْ يأكلني فهو يحيا بي
«
(يو
6: 51و57)

وهكذا
فإن تفريق الجسد عن الدم يفيد الموت وجمعهما معاً يفيد القيامة([19]).

 

محنة التلاميذ

جميعكم تهربون وأوَّلكم ينكرني

[31:26-35]                    (مر
27:14-31)، (لو 31:22-34)، (يو 13: 36-38)

 

31:26
«حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هذِهِ
الَّليْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِي فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ
الرَّعِيَّةِ».

ما
أن أكمل المسيح تسبيحه مع تلاميذه لبقية هالليل الكبير، مودِّعاً الفصح الأخير
العتيق بذكرياته، حتى بدت أمام المسيح بشائر الليلة الثقيلة بهمومها. لأن المسيح
وهو عالم بكل ما سيأتي عليه كان رابط الجأش ولكن أسيف البال، لأن تلاميذه أصبحوا
أكثر ثقلاً عليه في كل الساعات القادمة. فلم يكن خافياً عليه أين يذهب يهوذا وماذا
يعمل، وبقية التلاميذ لم يكونوا على مستوى الحدث الجَلَل القادم، وقالها المسيح في
إنجيل ق. يوحنا بمرارة:
»
هوذا
تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي
«(يو 32:16). لقد شعر المسيح بوحدة مُوحِشَة جداً: الكل الكل الكل:
“وأنا وحدي”:

الكل:
» كلكم تشكُّون
فيَّ في هذه الليلة.

«
(31:26)

الكل: » ولو
اضطررت أن أموت معك لا أنكرك. هكذا قال أيضاً كل (جميع) التلاميذ

«
(35:26)

الكل:
» حينئذ تركه
التلاميذ كلهم وهربوا.
«(56:26)

نظر
المسيح ورأى نفسه وحيداً والتلاميذ تركوه جميعاً وهربوا. فتذكَّر النبوَّة
المحبوكة لهذا القصد عند زكريا النبي:
» اِضرب الراعي فتتشتَّت الغنم وأرُدُّ يدِي على الصغار «(زك 7:13) وواضح أنه هو يهوه الآب نفسه! ليذوق الابن الوحيد مرارة
ضياع الإنسان وفقدانه للسماء وأعوان الأرض معاً، أن يحس بخيانة الكل وضياع المعونة
والأُلفة من الجميع وتخلية السماء أيضاً، تصبح هي بذاتها مرارة العلقم:
» نفسي حزينة جداً حتى
الموت!!
«(38:26) هي صرخة الإنسان الوحيد التائه على وجه الأرض. وحتى الآب؟ » الذي لم يشفق على ابنه. «(رو 32:8)

 

في
نفس الليلة:

«أحب
خاصته الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى» (يو 1:13)

«كلكم
تشكون فيَّ في هذه الليلة»

«شهوة
اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألَّم» (لو 15:22)

«وتتركوني
وحدي» (يو 32:16)

«الذين
أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلاَّ ابن الهلاك» (يو 12:17)

«قبل
أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرَّات» (مت 34:26)

 

وكان
التلاميذ مصدر حزن في الداخل، والخائن ورؤساء الكهنة بسيوف وعصي يتجمَّعون في
الخارج. وتمَّ بالفعل قول زكريا النبي على الذين في الخارج وعلى الذين في الداخل
معاً:
» استيقظ يا
سيف على راعيَّ وعلى رجُل رفقتي يقول رب
الجنود. اِضرب الراعي فتتشتَّت الغنم …
«(زك 7:13).

» أمَّا الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن
«
(إش 10:53). وقد استجاب لها بالفعل: » نفسي حزينة جدًّا حتى الموت « » العار قد كسر قلبي فمرضت،
انتظرت رقَّة فلم تكن ومعزِّين فلم أجد.
«(مز 20:69)

32:26
«وَلكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ».

+
» صوت قائل
ناد. فقال: بماذا أنادي: كل جسدٍ عشب وكل جماله كزهر الحقل، يبس العشب ذبل الزهر
لأن نفخة الرب هبَّت عليه. حقًّا الشعب عشب. يبس العشب ذبل الزهر. وأمَّا كلمة
إلهنا فتثبت إلى الأبد.

«
(إش 40: 68)

وهكذا
نظرة المسيح تتجاوز الزمان وضعف الإنسان وسقوط الهامات وانكسار القوات والقدرات،
وتبقى كلمته باقية لا تعود إليه فارغة. نظرة المسيح هنا تجاوزت كل حدود الشك
والإنكار والخوف والهروب، وبقيت على ما هي عليه من حب وعطف ولطف وافتقاد.
» بعد قيامي أسبقكم إلى
الجليل
«حيث كنَّا
حيث حبُّنا الأول حينما غَرَسْتُ في قلوبكم الشجاعة والإيمان، لتستعيدوا رسالتكم!
وعجيب حقا أنَّ إزاء الشك الذي عمَّ قلوب التلاميذ جميعاً، واستعداد الإنكار الذي
ملأ قلب الشجاع بطرس، يُعلن المسيح ولأول مرَّة عن قيامته الوشيكة والأكيدة!!
وكأنما يردّ على تلاميذه: هكذا وبالرغم من أنكم تشكون في قدراتي هذه الليلة
وتتركونني حيث لا أَمَلَ لكم فيَّ، إلاَّ أني لا أزال أملك قدرات قيامتي في يدي
وفي قلبي. سأقوم، بل وأسبقكم إلى الجليل حيث هناك ترونني كالأول!

لقد
نسي التلاميذ الأحد عشر هذا الوعد في يوم الضيقة هذا ولكن ذكَّرهم الملاك به:
» فأجاب الملاك وقال
للمرأتين … اذهبا سريعاً قولا لتلاميذه (الذين شكُّوا) إنه قد قام من الأموات.
ها هو يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه
«(مت 28: 5و7).
وتمَّ بالفعل هذا اللقاء السعيد:
» وأمَّا الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث
أمرهم يسوع، ولمَّا رأوه سجدوا له (ولكن واحسرتاه) ولكن بعضهم شكُّوا (فالإنسان هو
الإنسان) …
«(مت 28: 16و17). ولم ينقذهم إلاَّ يوم الخمسين.

33:26
«فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ
أَشُكُّ أَبَداً».

كان
المسيح رقيقاً للغاية في اتهامه بسبق علمه أن تلاميذه جميعاً سيعثرون فيه
ويشكُّون، وفي الحال تجاوز عثرتهم وشكَّهم وكأنه لم يكن، لأنه لم يترتَّب على شكهم
خسارة عامة حسب إعلان المسيح، بل وأعلن صَفْحَهُ مقدَّماً بأنه سيراهم مرَّة أخرى
بعد قيامته ويفيض عليهم بمحبَّته هناك في موطنهم. ولكن لم يصغ بطرس باستعجاله
وانفعاله إلى رواية المسيح باعتبارها أمراً مقضيًّا به، وبدلاً من أن يتأسف أو
يطلب المزيد من التوضيح، تمادى في مراجعة تصريح الرب كمَنْ يُخْطِّيءُ مِن
نَظْرَتِه وتقديره، كما فعل في أمر نبوَّة الصلب التي سبق وتنبَّأ بها المسيح عن
نفسه فقال له حاشا! هذا لا يكون، مما جعل المسيح يُرْدِعه بقوله:
» اذهب عني يا شيطان. أنت
معثرة لي
«(مت 22:16). كذلك هنا تأتي مراجعته للرب وتخطئة وجهة نظره فجَّة
غير مقبولة، ثم يأتي استعلاؤه على إخوته بقية التلاميذ أنهم حتى ولو شكُّوا جميعاً
فهو لا يشك، كنوع من الاعتداد بالذات لا يُسْعِفُه خُلُقُه ولا شجاعته الأدبية على
التمادي فيها. ونحن هنا لا نعدِّد أخطاء بطرس بل أخطاءنا نحن. فكلنا بطرس وكلنا
أقل من التلاميذ جميعاً، ولسنا على مستوى أي تجربة إن لم يكن الرب حارساً
ومنجِّياً. فإن كان بطرس قد أثبت بردّه غير المقبول هذا أنه ليس على مستوى التلميذ
في عدم إذعانه لكل ما يشير به معلِّمه، فنحن لا نقول عن أنفسنا إلاَّ أننا على
مستوى أسوأ من بطرس بدون نعمة الرب.

والآن
إذا نظرنا إلى ما صار لبطرس وكيف تحقَّق ما قاله المسيح إذ أنكر ثلاث مرَّات وفي
الميعاد الذي حدَّده المسيح بالضبط أنه لا يعرف هذا الرجل، لأدركنا حقيقة أنفسنا
أمام عين الله الفاحصة. والقديس متى لم يعتنِ أن يذكر هذه القصة حتى تكميلها إلاَّ
لكي يوعِّي الكنيسة وكل المؤمنين فيها من خطر الاعتداد بالذات، وضرورة الاعتراف
بضعفنا وطلب المعونة من النعمة حتى لا نتورَّط في العثرات بسبب سوء تقديرنا
لأنفسنا.

34:26 «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:
إِنَّكَ فِي هذِهِ
الَّليْلَةِ قَبْلَ
أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
».

ردُّ
بطرس بالقطع: “لن وأبداً”، جعل المسيح يراجعه مرَّة أخرى فيما سبق وأنذره به، بأن
أضاف:
» الحق أقول
لك
« وهذا ليعيد له اتزان تفكيره فينتبه أنه يتكلَّم أمام معلِّم يدرك
كل ما بداخل الإنسان. والمسيح لمَّا يتكلَّم يتكلَّم بالحق وليس من يردُّه أو
يراجعه. وكأن بطرس لم يعِ من درس الإفخارستيا كيف أكمل المسيح ما سيأتي عليه لأنه
عالم بكل ما سيأتي عليه. فقدرة المسيح تتجاوز معرفة الآتيات كنبي بل يفعلها كإله!
لذلك فقصور بطرس في معرفة قدرات معلِّمه يُحسب عليه كتلميذ عاش مع معلِّمه ثلاث
سنوات ويزيد، انتهى منها بمعارضة معلِّمه في صميم اختصاص قدراته كمعلِّم فائق
المعرفة والرؤيا. وقول المسيح هنا
» قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرَّات «يكشف سرعة سقوط بطرس، إذ هذا الميعاد لا يتجاوز
ثلاث ساعات من لحظة قطع بطرس باستحالة إنكار معلِّمه. هكذا أكَّد المسيح رده على
بطرس بقوله:
» الحق أقول
لك
«بعد ثلاث
ساعات تنكرني. بطرس استكثر على نفسه أن يشك، فسقط في الإنكار؛
وردًّا على قوله:
»
لن
أشك أبداً

«
قال
له الليلة تنكرني.

واضح
جداً من ردود المسيح شدَّة انفعال نفسه وتأسُّفه وحزنه على ما آل إليه حال تلميذه
الذي ظن فيه المسيح خيراً فإذ هو عصافة تذريها الريح. ولولا قول الرب في هذا
الأمر:
» لكني طلبت
من أجلك لكي لا يفنى إيمانك
«(لو 32:22) لكان
مصيره مصير يهوذا.

ويلاحظ
القارئ أن المسيح لم يُنقذ بطرس من التجربة ولكنه اكتفى بأن طلب حتى لايفنى إيمانه
إن سقط في التجربة. وترى معي أيها القارئ العزيز أن التجربة التي سقط فيها بطرس
بإنكاره الرب ثلاث مرَّات أمام جارية صنعت من بطرس الجبان الرعديد أشجع مدافع عن
الإيمان المسيحي في الكنيسة لأنه بكى فيها بكاءً مرًّا، وعرف من أين سقط وتاب.
وهكذا يسمح الله بالتجارب المرَّة ليصنع منها رجالاً في الإيمان.

ويُؤخَذ
على بطرس ثلاثة مواقف لا تبشِّر إطلاقاً بما صار إليه بعد يوم الخمسين: فسقوطه في
الماء لعدم إيمانه، وعدم قبوله تأليم الرب على الصليب وقوله لمعلِّمه حاشاك،
ومعارضته للمسيح بادعاء القدرة على الدفاع عن المسيح حتى الموت ثم إنكاره ثلاثاً
أمام جارية. وبهذا يكشف لنا الإنجيل ماذا ومَنْ هو الإنسان قبل الامتلاء من الروح
القدس ومَنْ هو بعد الامتلاء!

35:26
«قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوْ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!
هكَذَا قَالَ أَيْضاً جمِيعُ التَّلاَمِيذِ».

يقولها
كل من ق. متى وق. مرقس:
»
أموت
معك
«ولكن يقولها
ق. يوحنا بالصورة الأكثر فدائية: أموت
» من أجلك «(يو 37:13) Øper soà. وهكذا وفي هذا المضمار الخاسر اقتاد بطرس بقية التلاميذ قيادة في
الزلل وتضخُّم الذات والإصرار على الرأي غير الموزون بميزان اللياقة في المخاطبة
والرد على المعلِّم. كل هذا يكشف لماذا تركوه جميعاً وهربوا، والقائد صمد لكي
ينهار فجأة أمام الخادمة لينكر بقسم أنه لا يعرف هذا الرجل الذي يُدعى يسوع! لقد
أمعن المسيح في استدراج بطرس ليكشف له وللتلاميذ والكنيسة ماذا يكون الإنسان الذي
يتفاخر بقدراته، وأنَّ في كنيسة المسيح القدرة والشجاعة والأولوية تقاس بالطاعة
والاتضاع وإنكار الذات. وأن مَنْ تعذَّر عليه أن يُنكر ذاته يسهل عليه أن ينكر
المسيح والله، والذي يُطلق لنفسه العنان ويُصِرّ أنه الأقوى والأقدر والأفضل سيصرّ
بنفس القوة والقدرة على أنه لا يعرف هذا الرجل وإن احتاج الأمر لقسم فهو جاهز،
وليس أمام محاكم بل أمام بوابة!

ويعلِّق
أوريجانوس على كشف رعونة بطرس قائلاً: [لولا أن الكنيسة تحب الحق كان يستحيل أن
تكتب أن بطرس أنكر والتلاميذ هربوا جميعاً]
([20]). ويؤكِّد
العلماء أن ذكر هذه الحادثة يكشف أصالة ودقة وأمانة التاريخ المدوَّن.

أمَّا
رؤيتنا نحن فهي تزداد رسوخاً نحو المسيح الذي عانى من هذا القصور الدائم من جهة
تلاميذه إضافة مرَّة إلى ما عاناه من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيِّين، لأن ما
أحاط المسيح من مقاومات وخيانات وبُغضة من كل مَنْ تعاملوا معه، جعل مسيرته نحو
الصليب من أول يوم لا تقل صعوبة ومرارة عن الصليب ذاته، مما جعله يحكي عن صليبه
النفسي الذي صُلب عليه قبل صلب الجسد بقوله:
» نفسي حزينة جداً حتى الموت!! «(مت 38:26)، هذا هو صلب النفس الذي هو أصعب من صلب الجسد! ثلاثة
صلبان جازها المسيح: ترك التلاميذ له وهروبهم، وتخلِّي الآب، وآلام الموت على
الخشبة. جازها بكل مرارتها ليفوز لنا بالفداء.

 

صلاة جثسيماني وسر الكأس!

[36:26-46]                  (مر
32:14-42)، (لو 22: 39-46)

 

نحن
هنا أمام أصعب مرحلة من مراحل رسالة المسيح.

فالمسيح
قادم إلى جثسيماني ليقدِّم نفسه للصليب. وبالتالي أو بالأَولى يقدِّم نفسه
لصالبيه، بل على وجه الدقة والكشف والوضوح
يقدِّم نفسه للمواجهة الأخيرة مع الشيطان وكل أعوانه من
رياسات وسلاطين غير منظورين، ورياسات وسلاطين
يحرِّكهم الشيطان على الأرض لهذه الساعة
الخطيرة
التي
اجتمعت فيها قوات الشر في السموات
والأرض:
» هذه ساعتكم وسلطان الظلمة
«
(لو 53:22).

واللحظة
الحرجة أو أخطر نقطة في هذه المواجهة هي أن يقبل المسيح أن يسلِّم نفسه لهذه القوى
الشريرة التي يقودها الشيطان. ولكن الذي يهوِّن على المسيح من فظاعة هذا التسليم،
الذي معناه التنكيل به لأشنع ميتة على الصليب، أن هذا يتوافق مع إرادة ومشيئة
الآب. لأن بهذا يتم الفداء الذي نزل من أجله من السماء ولبس جسد الإنسان:
» لأنه هكذا أحب الله
العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة
الأبدية
«(يو 16:3). معنى هذا أن الآب قدَّم ابنه ليموت جسدياً من أجل
البشرية لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به، وهذا هو الفداء.

وبهذا
انتقلت الصعوبة والنقطة الحرجة على نفس المسيح من التسليم لقوى الشر، إلى التسليم
لمشيئة الآب وقبول شرب هذه الكأس من يديه أولاً، والباقي أمره يهون.

ولكن
التسليم لمشيئة الآب وقبول الكأس معناه القبول بأن توضع عليه كل خطايا البشرية([21])
بمعنى أن يُحَاكَم كقاتل وزانٍ ونجس وصانع شر ومجدِّف، ولكن أصعب الخطايا
جميعاً التي يتحتَّم أن يقبلها هي أن يكون مخالفاً وعاصياً لله، ومعناها أن يقبل
لعنة الله التي حلَّت على الإنسان وبالتالي يحتمل غضب الآب وغياب وجهه عنه، الأمر
الذي كان أصعب ما واجهه على الصليب:
» إلهي إلهي لماذا تركتني!! «(مت
46:27). نعم هذا هو الذي عاناه المسيح في صلاته للآب في جثسيماني. إذ لابد أن
يتقرَّر أولاً في جثسيماني ما سيكون على الجلجثة!! إذن، فهيَّا إلى مواجهة الآب!

36:26
«حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقالُ لَهَا
جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أَمْضِيَ
وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ».

«ضيعة يُقال لها جثسيماني»: cwr…on legÒmenon
Geqshman…

هنا
يلزمنا التذكير بما حقَّقناه من أبحاث في إنجيل ق. مرقس وعلمناه من كيف أن عائلة
ق. مرقس كانت من أغنى العائلات من منطقة الرأس الخضراء بليبيا في مدينة كيريني أو
كيرينئوس، وكيف أنهم جمعوا ثروتهم وهاجروا إلى أُورشليم واشتروا البيت الكبير الذي
كان في البداية ملجأً دائماً للمسيح في العلية أعلى السطح، وبعد ذلك صار هو
الكنيسة التي يجتمع فيها التلاميذ دائماً (أع 12:12)، كما اشتروا ضيعة في جبل
الزيتون، وهي عبارة عن حديقة بها أشجار كثيرة من الزيتون ومعصرة لزيت الزيتون وبيت
ريفي للسكنى، وهو الذي قال عنه ق. لوقا:
» وكان في النهار يعلِّم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يُدعى جبل الزيتون
(مع تلاميذه)
«(لو 37:21). معنى هذا أنه
كان بيتاً مُتَّسعاً ومُعَدًّا للمبيت لعدد يزيد عن الاثني عشر. هذه هي حقيقة
جثسيماني.

خرج
المسيح وتلاميذه من الباب الشرقي المواجه لجبل الزيتون، وعبروا وادي قدرون، ووصلوا
إلى البستان:
» قال يسوع
هذا وخرج مع تلاميذه (من أُورشليم) إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان (له باب)
دخله هو وتلاميذه

«
(يو 1:18). وترك المسيح
تلاميذه في البيت وخرج مع الثلاثة المختارين ليصلِّي خارجاً في وسط الشجر.

37:26
«ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ
وَيَكْتَئِبُ».

ولأول
مرَّة يرى التلاميذ المسيح وهو يصلِّي هكذا. وهو أراد ذلك. فالمسيح هنا يسلِّم
تلاميذه وبالتالي الكنيسة وكل المؤمنين أن ليس لنا إلاَّ الصلاة حينما يعصف بنا
العالم وتتَّحد قوى الشر. فالله هو الملجأ الأول والأخير، وسوف نرى ونسمع من كلام
المسيح أنه إن كان ولابد من التجربة
» فلتكن مشيئتك « لأن التسليم ليد
الله يحوِّل التجربة إلى خلاص ومجد.

«يحزن ويكتئب»: to grieve and be distressed = lupe‹sqai kaˆ ¢dhmone‹n

هذا
هو تقرير شاهد عيان، ربما بطرس أو يعقوب أو يوحنا أو مرقس. وقد ذكرها ق. مرقس:
» وابتدأ يَدهَشُ «(مر 33:14) = greatly
astonished =
™kqambe‹sqai وهي الأكثر وضوحاً. فهنا الدَهش البالغ أو الكثير هو حالة من
حالات الصلاة التي يدخل فيها العقل إلى ما فوق المعقول. إذن واضح هنا غاية الوضوح
أن التجربة فوق طاقة الإنسان! إذ اُضطُّرَّ العقل أن يسلِّم النفس لمواجهة غير
المعقول، وبناءً عليه دخلت النفس إلى حالة اكتئاب أي فقدان الوضع الطبيعي لمواجهة
صعاب فوق الطاقة.

وإذ نحن هنا في حالة صلاة، علينا أن نتكلَّم ونفحص على مستوى
حالات الصلاة. فهنا التجربة فوق القدرات البشرية. والسبب في ذلك أن النفس والفكر
والروح والجسد التي للمسيح هي في حالة قداسة وطهارة وبرارة فائقة، والمطلوب من كل
منها أن يتحمَّل كل أوزار وخطايا وأوساخ النفوس والأفكار والأرواح والأجساد التي
للبشرية، لا كتحمُّل وقتي ولكن أن تلبسها لبساً، بأن تقف وتعلن أمام السماء والأرض
أنها كذلك وتُصرُّ على أنها كذلك، حتى
تتحمَّل لعنة
الصليب وغضب وحكم الله فيحدث الموت كعقوبة، وبذلك تتم تبرئة الإنسان كل إنسان.
وهذا بكل
تأكيد ليس في مقدور أي نفس أو فكر أو روح أو جسد لأي إنسان مهما كان.

نعم
لقد رفضت هنا مشيئة المسيح يسوع لأنها لا تقوى على احتمال وضع فادح كهذا، وأبسط
صورة لذلك هي كيف تقبل مشيئة الابن المتجسِّد أن تقف موقف المعاداة للقداسة والبر
والطهارة لله ذاته؟ الابن المتجسِّد جزع من أن يحمل الخطايا الموجَّهة ضد الله
الآب من تجديف وزنا وإنكار، ولكن بالنهاية خضع، كونها مشيئة الآب نفسه:
» أن أفعل مشيئتك يا إلهي
سررت
«(مز 8:40). مع أن الموت كان أهون عليه من حمل خطايا الإنسان. وبهذا
استطاع المسيح في صلاته العنيفة أن يصل إلى حالة التسليم لقبول خطايا البشرية بكل
أنواعها وكل ثقلها وكل عارها. وهكذا قَبِلَ بالتالي الحكم عليها بالصليب والموت
حينما أخضع مشيئته
حاملاً خطايا البشرية
في جسده
إلى مشيئة
الآب. وبتسليم مشيئته للآب والرِّضا بالصليب تخطَّى الرعبة والفزع من مواجهة
الشيطان بكل قوات الشر في السماء والأرض، التي كانت سابقاً تتحكَّم في البشرية
بأن رَضِيَ
أن يتقابل معها، لا كأنه قد سلَّم مشيئته لها، الأمر الذي كان يفزعه، بل لأنه
سلَّم المشيئة للآب فأصبح مقاداً بمشيئة الآب
لتكميل كل ما سيأتي عليه من أعمال الظلمة ممثَّلة في الشيطان وأعوانه من ملائكة

ساقطين معه من السماء وبشرٍ تابعين له على
الأرض، وبسط يديه للقيود مسنوداً بمشيئة أبيه،
لخلاص الإنسان.

38:26
«فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا
ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي».

لقد
صارت نفسه في مواجهة خَيَارٍ لابدَّ منه: أن تَحْمِلَ خطايا وعار البشرية، والأمر
فوق طاقتها. وإلاَّ تأمَّل معي، كيف ترضى وهي النفس الطاهرة النقية أن تصير نفساً
خاطئة بكل مفهوم نجاسات الخطايا من قتل وزنى ونجاسة وطمع وشهوة وشر، كل شر، كيف؟
وذلك ليس بأن تحملها إلى ساعة بل تتحمَّلها كصفة شخصية ترضى بها وتظهر بها وتُصرّ
عليها أمام المحاكم، وتُحاكم بمقتضاها فتوافق وترضى ولا تدافع ولا تتذمَّر، بل
توافق أن يُحكم عليها بالموت بمقتضاها؟! هذه حالة نفس المسيح، وهو حينما قال:
» نفسي حزينة جدًّا حتى
الموت
« فهذا صدق كل الصدق، فنفسه رضيت مختارة بحسب تسليم المشيئة للآب أن
تقبل حزن الموت!! وقوله:
» حزينة جدًّا «لأنه حزن حتى الموت، أي ليس بعده حزن!!

هذا هو واقع الخطية على نفس المسيح لَمَّا أخذها في جسده
وفي نفسه، كما أعلنها ق. بطرس:
» الذي
حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر

«
(1بط
24:2).
وكما
تنبَّأ عنها إشعياء قائلاً:
» والرب وضع عليه إثم جميعنا. «(إش
6:53)

هذا
ثمن فادح جدًّا لخلاصنا من الخطية، فأن تقبل نفس المسيح أن تَحْمِلَ الخطية
حَمْلاً حقيقياً داخلياً تُسأل وتُحاكم بمقتضاه، كان أصعب عليها وأمرّ من حكم
الموت نفسه. وهذا هو معنى قوله بالضبط أو حرفياً:
» نفسي حزينة جدًّا حتى الموت «مع أنه لم يكن قد مات
بعد!

إذن،
فنفس المسيح لَمَّا حملت خطية الإنسان بلغ بها الحزن والأسى والاكتئاب إلى حد
الموت قبل الموت. ثم أليس هذا معناه أن كأس الخطية التي حملها في جسده كان أمرّ من
كأس الآلام على الصليب؟ وهذا هو عبء الفداء الذي يتحتَّم أن يُضاف على آلام
الصليب.

حاول بولس الرسول كثيراً أن يصف كيف أن الخطية خاطئة جدًّا
(رو 13:7)، ولكن قول المسيح هنا
يفوق كل أوصاف القديس بولس
في التعبير عن أثر وعمل الخطية المدمِّر!! انظروا كيف حوَّلت الخطية نفس المسيح
البريئة المضيئة القدوسة الطاهرة الفرحة الشاكرة المجيدة والممجَّدة، كيف تحوَّلت
إلى نفس حزينة حتى الموت بدون موت!! هذا هو أعظم رفع لصورة الخطية على شاشة
التقييم والقياس الإلهي!

ولكن
كل هذا التصوير الواقعي البالغ الدقة في البحث والتحليل النفسي الروحي ليس هو كل شيء،
إنما هو مجرَّد بداية، إذ يقول الإنجيل:
» وابتدأ يحزن ويكتئب « أمَّا ماذا بلغ به الحزن فنحن لا ندرك ولن ندرك عمقه، ولكن كان
مظهره صراخ المسيح بصوت عظيم:
» إلهي إلهي لماذا تركتني؟ «لقد ذاق المسيح تخلية الآب لمَّا قَبِلَ الخطية
في الجسد!!
» لأنه جعل
الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه.
«(2كو
21:5)

39:26
«ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً:
يَا أبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ
كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ».

فلنشرح
هذه الفكرة المركزية التي حيَّرت العلماء في هذه الآية، واستلزمت هذه الصلاة
المنسحقة التي لم يكن ولن يكون لها نظير. ما الذي وقف هكذا عائقاً في طاعة المسيح
المطلقة للآب واستلزم هذه المراجعة الحزينة المرَّة وهذا التوسُّل الذليل الذي رماه
على وجهه إلى الأرض، إذ لم يكن السجود كافياً فانطرح بوجهه ملاصقاً التراب؟ إن هذا
أمر مرعب لنا جدًّا. ماذا حدث في علاقة الآب بالابن المحبوب النازل من حضنه
الأبوي؟ إن هذا أمر خطير جدًّا، ولا بد أنه يمسنا بشدة حتى جعل المسيح هكذا
مكشوفاً بهذا الانهيار والذِلَّة أمام تلاميذه، ماذا حدث؟ ألم يذكر المسيح الصليب
والآلام والجلد والبصاق والموت مرَّات ومرَّات، وكل مرة يُضيف صنفاً من الآلام على
ما سبق وذكره، وكأنه يعدّها ويحصيها؟ فهل تراجع في حساباته؟ هذا أمر مستحيل. هل
لمَّا أتت الساعة تغيَّرت الحسابات؟ أمر مستحيل! هل ظهر أمر في الصليب كان مخفياً
عنه ثم عَرَفَه؟ وهذا أيضاً أمر مستحيل! إذن، ماذا جدَّ واستجد حتى تغيَّرت هذه
العلاقات في الطاعة المذعنة والخضوع الكلِّي المطلق ويأتي بالابن هكذا منكفئاً على
وجهه يطلب الاستعفاء؟ ماذا حدث؟

الأمر
جَلَلٌ حقًّا، والسبب خطير جدًّا كما قلنا، والكأس الذي ظهر بهذه الصورة غير
المحتملة هو الذي أوقف الابن الحبيب المحبوب هذه الوقفة المُذِلَّة! كأس البشرية
الذي ليس له فيه سبب ولا مشاركة، كأس خطايا البشرية وعارها، أراد الآب
وقد أتت
الساعة
أن يحمِّله
على صميم طبيعة الابن تحميلاً، ليحمله في جسده على الخشبة كقول ق. بطرس. هنا فزعت
نفس المسيح فزعاً مريعاً وارتجف الجسد الطاهر ارتجافاً، أن يصبح القدوس الطاهر
الذي لم يعرف خطية ولا صار في فمه غش، قاتلاً زانياً نجساً شريراً محترف الإثم،
كيف؟ كيف يكون أولاً وكيف يرضى ثانياً؟ ثم إن الابن الوديع المتواضع الخاضع
والمطيع يقبل أن يقف أمام أبيه كإنسان متعدٍّ على وصايا الله، متمرِّد معادٍ مبغضٍ
كارهٍ هاربٍ، كيف؟ هذا أمر مفزع زلزل قلب المسيح وأربك فكره ونفسه للغاية.

أمَّا كيف، فهذه حتمية الصليب، فهو لا يمكن أن يُصلب إلاَّ
من واقع تهمة اقتراف هذه الخطايا، وهو قادم لمحاكمة عسيرة معادية باغضة محترفة
الإجرام، وحتماً ستنجح في أن تقدِّمه للحكم وعليه هذه الخطايا جميعاً، فماذا عساه
عامل؟ هل يدافع؟ هل ينفي؟ هل يرفض؟ ولماذا جاء إذن، ولماذا تجسَّد وُولد إلاَّ
ليُصلب ويموت؟! هل يمكن أن تصير المحاكمة صورية، وأن يصدر حكم الموت صورياً، ويكون
الموت تأدية دور تمثيلي؟ أمر مستحيل! لأن صاحب سلطان الموت بالمرصاد ولا يمكن أن
ينزل بمقصلته على رقبة الإنسان إلاَّ وهو ضامن موته وهلاكه. إذن، أصبح الموت ولا
بد أن يكون حقيقة، ولكي يكون حقيقة لابد أن تكون جميع الخطايا الملزمة للموت حقيقة.
إذن، لابد للمسيح أن يتقدَّم إلى الصليب وهو صاحب هذه الخطايا حقا لا شكلاً، وأن
تصير هذه الخطايا حقيقية لابد أن تقبلها نفسه وكأنَّها اقترفتها بإرادتها وحريتها
وسكنت شعورها ولا شعورها، وإلاَّ استحال الموت واستحال الصليب. فالموت بالصلب أو
بغيره هو نصيب الإنسان الشرير أصلاً، وهو حق على كل جسد. ولابد أن يكون وحتماً
يكمَّل، حتى تُرفع الخطية ويُرفع الموت عن الإنسان. وهكذا تمَّ اختيار “ابن إنسان”
ليتمِّم هذه القضية بكل أصولها وفروعها، دون أن يستعفي حتى آخر قطرة في كأس خطايا
البشرية المثقَّل بأبشع صور التعدِّي.

و“ابن الإنسان” هو أصلاً ابن الله بطبيعة الله، تجسَّد وأخذ
هيئة إنسان بطبيعة إنسان أصيلة ليس فيها خطية، وأنفذه أبوه إلى العالم لكي يأخذ
قضية الإنسان ويرفع عنه الخطية التي لصقت بطبيعته فدمَّرت حياته ومستقبله وعلاقته
بالله. وكان المسيح على أتم الاستعداد أن يأخذ على نفسه الأحكام بالموت والغضب
واللعنة التي لصقت بالإنسان. ولكن هذا استلزم عند التنفيذ الأخير أن يحمل المسيح
خطايا الإنسان وإلاَّ استحال أن يموت وهو بريء وطاهر. هنا واجه ابن الإنسان صعوبة
بالغة أشد ما تكون الصعوبة، كيف يقف أمام الآب نفسه حاملاً خطايا الإنسان التي
اقترفها ضد الله من تجديف وبغضة وكراهية وعداوة، كيف يعادي أباه ويبغضه ويجدِّف
عليه، كيف؟ هذا كان يليق بالإنسان فقط ولكن لا يليق بالابن الوحيد المحبوب صاحب
الإرادة والمشيئة الواحدة مع أبيه. هذه الاستحالة المُحكمة هي التي جعلته ينكفيء
على وجهه حتى التراب ساجداً حزيناً متأوِّهاً صارخاً كأحد القتلة أو الزناة أو
المجدِّفين يطلب رحمة، مصلِّياً أن تجوز عنه هذه الكأس، كأس الخطية لو أمكن، إذ
كيف يشربها ليصبح هكذا حاله مجدِّفاً على أبيه قاتلاً زانياً فاجراً شريراً وهو لم
يعرف الخطية ولا درى بالشر؟

هنا يطلب الابن من الآب أن تجوز عنه هذه الكأس إن أمكن،
بمعنى أن لا يقف هكذا أمامه
مجدِّفاً متعدِّياً صانعاً شرًّا. ولكن ما
الحيلة وقد وُضع عليه أن يقف موقف الإنسان ككل، هو لا يحتمل أن يرى نفسه عدواً لأبيه، ولكنه طُلب منه أن يقف موقف الإنسان الذي
صار عدوًّا لله، فلا
مناص.

هكذا
انبرت مشيئة الابن بالنهاية موافقة راضخة لمشيئة الآب، أن يقف المسيح الابن
المتجسِّد موقف الإنسان
معادياً لله حاملاً
خطايا البشرية في جسده، محكوماً عليه بالموت واللعنة من الله قبل أن ينالها على
الصليب من أفواه حكَّامه والصالبين.

بل
يغوص بولس الرسول المستنير بالنعمة ليرى أن المسيح لم يحاكَم ولم يُصلب كخاطئ
فقط!! ليبرِّئ الخطاة ويبرِّرهم، بل اضطلع بأن يجتث الخطية ذاتها ويرفعها من بين
الله والإنسان حتى لا تكون رجعة للموت ثانية، فاحتمل لا أن يكون في ذاته خاطئاً
وحسب بل ويكون هو الخطية ذاتها (2كو 21:5). بمعنى أن يحمل طبيعتها القاتلة فلا
يعود للموت سلطان على الإنسان:
» فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: ابتُلع الموت إلى غلبة. أين
شوكتك يا موت، أين غلبتك يا هاوية، أمَّا شوكة الموت فهي الخطية، وقوة الخطية
هي الناموس
«(1كو 15: 5456). فبموته ألغى
الناموس، وبإلغاء الناموس أُلغيت الخطية، وبإلغاء الخطية أُلغي الموت، وبإلغاء
الموت أُلغيت الهاوية! هكذا يبقى موت المسيح سر الخلاص الأبدي. أمَّا كيف حمل
المسيح بموته طبيعة الخطية ذاتها، فذلك لأنه مات موت الكفَّارة مكفِّراً عن كل
الخطايا!
فلم يعد بعد موته خطية!!

ولكن
هل مجَّاناً أن يصبح المسيح نفسه «خطية» لأجلنا؟؟ اسمع بقية الآية: «لكي
نصير نحن برَّ الله فيه»
(2كو 21:5). ويا للمجد!! فإن كانت القضية الأُولى
صعبة وغير مقبولة أبداً أن يصبح: «المسيح خطية لأجلنا»، فالقضية الثانية
على ذات الصعوبة وغير القبول بالمرَّة أن «نصير نحن بر الله فيه» مَنْ يُصدِّق؟!
ولكن ما العمل إن نفَّذ المسيح الأُولى، فالثانية صارت نافذة لا محالة! مجداً

لله!

40:26:
«ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً، فَقَالَ لِبُطْرُسَ:
أَهكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟».

كان الوقت متأخِّراً في الليل ربما قارب الانتصاف، وبعد
العشاء والحديث الحزين، عزَّ السهر على التلاميذ. ولكن الوقت حَرِج والمعلِّم طلب
السهر وطلب الصلاة. فالأمر بالنسبة للمسيح كان قد بلغ الذروة، ولمَّا أرادهم
ساهرين ومصلِّين كان ليضمن قدرتهم على مواجهة التجربة القاسية الآتية عليهم، وسبق
المسيح ونبَّه أن الشيطان طلب ليغربلهم كالحنطة (لو 31:22). أمَّا المسيح فكانت
الصلاة كمراجعة عظمى لكل حياته وأعماله وهدفه الذي جاء من أجله. وكانت تتركَّز كما
قلنا في كيف سيُسلِّم نفسه لصالبيه وما معنى هذا التسليم وصعوبته المرَّة، ولكن
بالنسبة لتلاميذه فكانت الصلاة لكي
يستطيعوا أن يعبروا المحنة ويفلتوا من
القبض والتحقيق. كان المسيح يحمل همَّ هروبهم بل وساعد عليه إذ جعله شرطاً أساسياً لتسليم نفسه:
» قد قلت لكم إني أنا هو،
فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون. ليتم
القول الذي قاله: إن الذين أعطيتني لم أُهلك منهم أحداً.
«(يو
18: 8و9)

ولكن
عزَّ على نفسه أن بطرس الذي أكَّد بجهالة أنه مستعد أن يموت لأجله ما قدر أن يسهر
معه ساعة واحدة:
»
ثم
جاء ووجدهم نياماً فقال لبطرس: يا سمعان أنت نائم؟ أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟
اسهروا وصلُّوا لئلاَّ تدخلوا في تجربة!
«(مر
14: 37و38)

41:26
«اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ
فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ».

«اسهروا»: grhgore‹te

الفعل
جاء هنا في زمن الحاضر المستمر بمعنى: “ابقوا ساهرين أو استمروا صاحين” لأن المفاجأة
التجربة
القادمة
لا ينبغي
أبداً أن تأتي عليهم وهم نيام. وهذا الزمن يختلف عن الذي جاء في الآية (40)
grhgorÁsai الذي يفيد مجرَّد سهر ساعة بالجسد.
أمَّا ابقوا ساهرين أو استمروا صاحين هنا، فالمطلوب يقظة الروح، وهذه كفيلة أن
تقاوم وتغلب التجربة. لذلك أردف هنا خاصة ليُفهم ضرورة السهر الروحي بقوله:
»
أمَّا الروح فنشيط وأمَّا الجسد فضعيف « والمعنى المختبئ هنا جديد وعظيم، إذ
هو أن الذي صمَّم أن يسهر بالروح، هذا لن يغلبه نعاس، لأن النُعاس يغلب الجسد
الساهر ولكن يستحيل أن يغلب الروح الساهر. وهنا التوجيه لكي لا يُغلبوا للتجربة
الآتية عليهم. وهنا يقصد ق. متى توعية الكنيسة الساهرة أن يكون سهرها
بالروح النشيط وليس بالجسد الضعيف. كما يوعِّي أن السهر الروحي هو القادر
وحده لغلبة التجربة قبل أن تأتي وبعد أن تجيء، إذ يبقى الساهر بالروح أعلى منها
ومسيطراً عليها. حيث نشاط الروح وسهره هنا يفيد العلاقة الواعية المنفتحة على
الله، اليقظة، لكي تتقبَّل منه النعمة في حينها والمَنْفَذ للخلاص من
التجربة.
سهر الروح هو صناعة القديسين القادرة أن توقف الجسد على رجليه مصلِّياً ساهراً طول
الليل دون أن يحس، والقادرة أن تجعل
الفكر مربوطاً بنعمة الله متعمِّقاً بالروح حتى أعماق الله:

+
» اسهروا إذاً
وتضرَّعوا في كل حين لكي تُحسبوا أهلاً للنجاة …
«(لو
36:21)

+
» فاسهروا
إذاً لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة.
«(مت
13:25)

+
» اسهروا.
اثبتوا في الإيمان. كونوا رجالاً. تقوَّوْا.
«(1كو
13:16)

+
» مصلِّين بكل
صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة.
«(أف 18:6)

+
» واظبوا على
الصلاة ساهرين فيها بالشكر.
«(كو 2:4)

+
» كن ساهراً
وشدِّد ما بقي.
«(رؤ 2:3)

42:26
«فَمَضَى أَيْضاً ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ
يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا،
فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ».

لقد
طرح المسيح سؤاله في الصلاة الأُولى:
» يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس «مترجِّياً إن أمكن أن تعبر عنه هذه الكأس سؤال
يقدِّمه من وجهة نظره الخاصة التي فيها استحال عليه أن يحتمل عار الإنسان لأنه
يوقفه أمام أبيه عرياناً مفضوحاً مخالفاً ناقضاً وصاياه متعدِّياً على حبه
وكرامته، كيف يمكن؟ كيف يكون؟! ولكن شفع سؤاله باستجابة منقوصة:
» ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت « أي ومهما كانت وجهة نظري فأنا ليس لي
وجهة نظر خاصة، لأنه يستحيل عليَّ أن أرضى إلاَّ بما تريده أنت. فإن كانت إرادتك
هي في وقوفي عرياناً أمامك مفضوحاً
مخالفاً
ناقضاً وصاياك متعدِّياً على حبك وكرامتك، موقف البشرية التي أردْتَ أن تخلِّصها
من عريها وفضيحتها وترفع
عنها مخالفتها ونقضها لناموسك ووصاياك وتعدِّيها
على حبك وكرامتك، ولم يكن ممكناً أن تعبر عني
هذه الكأس إلاَّ أن أشربها، من يدك، فلتكن مشيئتك
لأني بالنهاية ما جئت إلاَّ لأصنع مشيئتك.

في
الصلاة الأُولى خرج المسيح وقد سلَّم المشيئة وإنما على مضض، فمنظره العاري من
القداسة والفضيلة وهو متسربل بثوب الإنسان الملطَّخ بوسخ الخطية كان كريهاً على
نفسه غاية الكره. ولكن إن كانت هي إرادة الآب فماذا يفعل؟ كان هيِّناً عليه للغاية
أن يُخلي ذاته من مجد الأُلوهة وهو المعادل
لله في المجد، ويأخذ هيئة الإنسان بل ويأخذ شكل العبد ويطيع حتى إلى الموت موت

الصليب (في 6:2
8)، كل هذا كان موضع مسرَّة نفسه: » أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت «(مز 8:40). ولكن أن يقف موقف الإنسان في معاداته
لله كعدوٍّ وندٍّ، كمجدِّفٍ وكاره، ورافضٍ ومتعدٍّ، عرياناً أمامه من كل فضيلة،
مفضوحاً بخزي عريته، لباسه ملطَّخ بوسخ الخطية، وهو الابن الوحيد المحبوب عند
أبيه؟ فهذا هو العار الذي كسر قلبه (مز 20:69)، وهذا هو الحزن الذي سحق نفسه سحقاً حتى الموت:
» نفسي حزينة جدًّا حتى الموت «(مت 38:26)، فكانت قطرات العرق تتصبَّب من جبينه وهو منبطح على الأرض ينزف عرقه كقطرات دم،
كقطرات نزف الصليب (لو 44:22).

43:26
«ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ
ثَقِيلَةً».

عجيب
هو المسيح في افتقاده لتلاميذه بهذه الصورة الملحَّة للسهر والصلاة. فهو كان فعلاً
كالراعي الصالح الذي يفتقد غنماته خوفاً من الذئب المتربِّص، ولكن بقدر سهر المسيح
كان سهر الشيطان الذي رَكِبَ فوق جفون عيونهم ولحسها بريقه حتى إذا انطبقت لا تعود
تنفتح. كريم من ق. مرقس وق. متى أن يعتذرا نيابة عن التلاميذ الذين لم يستطيعوا أن
يرتفعوا إلى مستوى الروح ليصلُّوا بيقظة وانفتاح عين وقلب، ولكن استسلموا للنعاس
تطييباً لخاطر الشيطان، الذي كان ينتظرهم خارج باب جثسيماني ليبدِّدهم حسب
النبوَّة. المسيح لم يتدخَّل بقوة خاصة لكي يجعلهم على مستوى السهر لأن الإرادة
تُجازَى كما تُعاقَبْ فلا يُفوِّت عليهم المجازاة. كل ما استطاعه المسيح لخيرهم أنه طلب من أجلهم أن لا يفقدوا
إيمانهم كما نص القول بخصوص بطرس (لو 32:22)، ولكن الغربلة أصابت الجميع. أمَّا ق.
لوقا فهو يعتذر نيابة عنهم أنهم ناموا من الحزن (لو 45:22).
ولكن
الحزن نفسه هو دواء عدم السهر الذي يكحِّل به الشيطان العقل حتى لا يقوى على السهر
ولا ساعة واحدة كما قال الرب. لقد حُسب النوم للتلاميذ عدم طاعة، فوقعوا في يد
المجرِّب.

44:26
«فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذلِكَ الْكَلاَمَ
بِعَيْنِهِ».

تركهم
يائساً إذ طلب مَنْ يسهر معه فلم يجد قلوباً واعية، لأن استعدادهم لم يكن للمعونة
والسهر مع المعلِّم، إذ رتَّبوا مع ضمائرهم طريق الهرب. كان المسيح يود أن يكون
الرابع وسط الثلاثة المختارين إن هم صلُّوا، ولكن قد ناموا فليس له في وسطهم نصيب
(مت 20:18) والرب لا يتواجد في كنيسة لا تجتمع للصلاة، ولا في بيت لا تجتمع فيه
الأسرة للصلاة. والعجيب أن الرب ألحَّ على بطرس بالصلاة ثلاث مرَّات لكي لا يدخل
التجربة، ولكنه لم يلتفت للدعوة في وقتها، لهذا في وقت لم ينتبه إليه أنكره ثلاث
مرَّات.

أمَّا
عودة الرب ثالث مرَّة للصلاة بعينها فهو لمزيد من تطبيع المشيئة على المشيئة، فأول
مرَّة كانت لتكن إرادتك أنت وليس كما أريد أنا، والثانية انتقلت خطوة أكثر:
» إن لم يمكن أن تعبر عني
هذه الكأس إلاَّ أن أشربها
« بمعنى إن لم يكن
ممكناً أن تكون مشيئتي فلتكن مشيئتك. أمَّا الثالثة فكانت حتماً فلتكن مشيئتك
مسرَّتي! أو
» أن أفعل
مشيئتك يا إلهي سررت

«
(مز 8:40) إذ يكون قد أكمل
النبوَّة بحروفها!! وبها يكون قد انتهى المسيح من قبول القيود. فإلى هناك!

45:26و46
«ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: نَامُوا الآنَ
وَاسْتَرِيحُوا. هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَابْنُ الإِنْسَانِ
يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا نَنْطَلِقْ. هُوَذَا الَّذِي
يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ».

كما
سبق وقلنا في الآية (44) لقد انتهى المسيح من قبول المشيئة الأبوية، أي شُرب
الكأس، كأس خطايا البشرية لتسري الخطايا، كل الخطايا، في عروقه وكل خلية من جسده،
لأنها مشيئة الآب! وبها تكون الصلاة قد بلغت قمة ذروتها وأتت بثمرتها وارتاحت نفسه
أن يكون خاطئاً وأن يكون خطية!! إذن لم يبق لوجود التلاميذ من سبب لا للصلاة ولا
للسهر، فليقوموا أو ليناموا نومهم الطويل ولا مزعج. فقد انتهى الأمر. ويلاحظ
القارئ هنا التحام قول المسيح ناموا الآن واستريحوا وقوموا ننطلق في وقت واحد،
تعبيراً عن عدم قدرتهم على السهر واليقظة في ساعة التجربة، حيث كان نومهم محل
مؤاخذة. والآن فلا لوم عليهم فليناموا ما شاءوا. ولكن الذين لم يذعنوا للسهر في
وقت السهر فإذعانهم للنوم في غير وقت السهر نافلة وهباء.

«هوذا الساعة قد اقتربت»: ½ggiken ¹ éra

وهي مطابقة لقوله: »
لأنه قد اقترب ملكوت السموات ½ggiken ¹ basile…a. «(مت 17:4)

هذه
هي الساعة التي جاء من أجلها ابن الإنسان:
» لكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة «(يو 27:12). وفي باطنها جنين الملكوت بانتظار المخاض لينطلق
الجنين حاملاً مفديِّي الرب. فإن تألَّمنا معه ألم المخاض تمجَّدنا معه بمجد
الملكوت (رو 17:8). هذه ساعة الإنسان وهذا ملكوت الله، وتفصلهما ساعة رؤساء الكهنة
وسلطان الظلمة، لأن من الظلمة سيولد النور.

«وابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الخطاة»:

الفعل
المبني للمجهول: “يُسلَّم”، يشير إلى المشورة العلوية التي اشترك فيها الابن في
جثسيماني لتوِّه ومضى وختم أنه أصبح جاهزاً للتسليم، ولكن حاشا أن يُسلِّم نفسه
إلاَّ لمشيئة الآب التي اتفق عليها وأمضى العهد. أمَّا الناس الخطاة، أمَّا
الحُكَّام، أمَّا بيلاطس، فهؤلاء لا علاقة للمسيح بهم ولا سلطان لهم عليه، إلاَّ
كما حدَّد الآب وأعطى. وهو طائع غاية الطاعة لِمَا أمرهم الآب أن يعملوه:
» لم يكن لك عليَّ سلطان
البتَّة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق! لذلك  الذي أسلمني إليك له خطية أعظم
«(يو 11:19). إذن، فلم تمر عملية التسليم، فالذين اشتركوا فيها،
والذين قيَّدوا والذين ضربوا والذين أهانوا وحكموا وقتلوا، جميعاً لهم خطية أعظم!

ولك
الآن عزيزي القارئ أن ترى في جثسيماني ومن خلال صلواتها الثلاث الدموية المنسحقة
والابن المتجسِّد منكفئ بوجهه إلى التراب وعرقه ينزف كالدم، أقوى فعلين محوريين في
عملية الفداء والخلاص. الأول: قبول شرب كأس خطايا الإنسان من يد الآب
والوقوف أمامه كخاطئ وحامل الخطية، والثاني: القبول بالتسليم ليد الخطاة بعد أن
سلَّم نفسه ليد الآب!

وهكذا
تجهَّز المسيح بصلاة جثسيماني للمحاكمة والصلب.

 

التسليم والقبض

[47:2656]             (مر
14: 43-50)، (لو 22: 47-53)، (يو 18: 3 – 12)

 

47:26
«وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ قَدْ
جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ
الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْبِ».

بينما
كان المسيح يصلِّي وينزف عرقاً يتصبَّب كقطرات الدم، كان رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب
قد جمعوا أكثر ما يمكن من المأجورين. ويكشف لنا أكثر القديس لوقا أن وراء هذه
الجوقة من المأجورين كان يسير في الخلف
» رؤساء الكهنة وقوَّاد جند الهيكل والشيوخ
المقبلين عليه
«(لو 52:22). أمَّا ق. يوحنا فيوضِّح أن يهوذا كان معهم في
المقدِّمة
» فأخذ يهوذا
الجند وخُدَّاماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيِّين وجاءَ إلى هناك بمشاعل ومصابيح
وسلاحٍ.
«(يو 3:18)

واضح
من مجموعة الأشخاص التي ظهرت في التسليم والقبض أن رؤساء الكهنة استعانوا “بقائد”
جند، وهو رئيس ألف ومعه جنوده، وهؤلاء هم الذين كانوا يحملون السيوف والعصي
والمشاعل، على أن هذه هي ليلة استدارة القمر في الرابع عشر والقمر في كامل ضوئه،
ولكن هي إجراءات عسكرية. وهذا يكشف أن البلاغ الذي قُدِّم للضابط الروماني الكبير
يتضمَّن التوسُّل بإرسال عدد كبير من الجنود بحجة القبض على ثائر يقود ثورة ضد
الرومان.

«بسيوف»: لكي تكمل
النبوَّة:
» استيقظ يا
سيف على راعيَّ.
«(زك 7:13)

«وعصيّ»: وكان رد المسيح عليها: » قال يسوع للجموع: كأنه على لصٍّ خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم
كنت أجلس أُعلِّم في الهيكل ولم تمسكوني.
«(مت
55:26)

48:26
«وَالَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: الَّذِي أُقَبِّلُهُ
هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ».

ولكي
يظهر الوضع أكثر نعود إلى وصف ق. يوحنا لأن المسيح خرج لاستقبالهم والتلاميذ
وراءه،
» فخرج يسوع
وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم: مَنْ تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم
يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلِّمه أيضاً واقفاً معهم
«(يو
18: 4و5). فكانت هذه فرصة يهوذا ليزيد لهم التأكيد فتقدَّم ليقبِّله.

49:26و50
«فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: السَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!
وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟ حِينَئِذٍ
تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوُا الأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ».

وهذا
أيضاً ما قاله ق. مرقس، ولكن ق. لوقا يقول إن يهوذا دنا من يسوع فقط فوبَّخه
المسيح:
» فدنا من
يسوع ليقبِّله فقال له يسوع يا يهوذا أبقبلة تسلِّم ابن الإنسان
«(لو 22: 47و48). ونحن حينما نقيِّم يهوذا وما عمله لا نستطيع أن
نقول فيه أكثر مما قاله المسيح:
» ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان، كان خيراً لذلك
الرجل لو لم يولد

«
(مر 21:14). وأعظم وصف
يمكن أن نصفه به هو أنه ذهب في النهاية وشنق نفسه:
» فطرح الفضة في الهيكل وانصرف. ثم مضى وخنق نفسه. «(مت 5:27)

أمَّا
تصرُّف المسيح
الذي جعلنا نحجم عن أن نقيِّم يهوذا بالنسبة
ليهوذا وعملته هذه فيظهر في مخاطبته ليهوذا وهو يقترب ليقبِّله إذ قال له:
» يا صاحب ˜ta‹re = صديق Friend « هكذا استطاع المسيح أن يحتفظ بسلامه ولم ينطق إلاَّ بما يليق
بتلميذ! ثم طرح عليه سؤال الدينونة العتيدة:
» لماذا جئت؟ «وتركه ليرد عليه هناك في اليوم الأخير.

والكنيسة
القبطية تخاطبه في باكر يوم خميس العهد بلحن مؤدَّاه مقطع من المزمور:
» لسانه ألين من الدهن
وهو نصال
« وهذا تعبير مبدع يجمع القبلة والقتل معاً. وأصلها في المزمور: » ألين من الزيت كلماته
وهي سيوف مسلولة

«
(مز 21:55)، ويسبقها في
المزمور نفسه آية تليق بالمقام:
» ألقى يديه على مسالميه. نقض عهده. «(مز
20:55)

«حينئذ تقدَّموا وألقوا الأيادي على
يسوع»:

لم
يستطيعوا أن يلقوا الأيادي عليه إلاَّ بعد أن أعطى الموافقة:
» وقال لهم: مَنْ تطلبون
أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو … فلمَّا قال لهم: “إني أنا هو”
(بنبرة الله) رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. فسألهم أيضاً: مَنْ تطلبون؟
فقالوا: يسوع الناصري أجاب يسوع قد قلت لكم إني أنا هو
«(يو
18: 4
8)، » ثم إن الجند و“القائد” (رئيس ألف)
وخُدَّام
اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه ومضوا به إلى حَنَّان.
«(يو
18: 12و13)

51:26 «وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ
مَدَّ يَدَهُ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَقَطَعَ
أُذْنَهُ».

الواقعة
يوضِّحها ق. يوحنا:
»
وكان
سمعان بطرس والتلميذ الآخر (يوحنا) يتبعان يسوع … ثم إن سمعان بطرس كان معه سيف
فاستله وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أُذنه اليمنى (لشاهد عيان) وكان اسم
العبد ملخس (وهذا القول أيضاً لشاهد عيان وشخص دارس ظروف وعائلة رئيس الكهنة)
«(يو 18: 15و10). ولم يكن هذا سوى دفاع عن الجبن وتغطية موقف مهيَّأ
للهروب.

52:26 «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى
مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ
يَهْلِكُونَ!».

لقد
اعتنى ق. متى فقط أن يسجِّل هذا المبدأ من فم المسيح للكنيسة حتى لا تحمل السيف
أبداً، واليوم الذي ستحمل فيه سيفاً، تكتب على نفسها استحقاق الهلاك. لقد أنهى
المسيح على لفظ “العدو” من الكنيسة لمَّا أعطى الوصية:
» أحبوا أعداءكم «
فكان هذا هو السيف الإلهي الذي اجتثَّ العداوة من القلب. فَسَيْفُنا الذي هو أمضى
من كل سيف هو المحبة التي نستطيع بها أن نغلب العداوة بلا حرب. لقد جُنَّت الكنيسة
الغربية أيام الصليبيين وحملت السيف فكان الخذلان والخسارة بعشرات الألوف من
الأرواح والهزيمة تلو الهزيمة من نصيبها، وكَتَبتْ بدماء المسلمين تاريخ عارها.

53:26و54
«أَتَظُنُّ أنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ
لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ
تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟».

ولكن
يضيف ق. لوقا:
» فأجاب يسوع
وقال: دعوا إلىَّ هذا ولمس أُذنه وأبرأها
«(لو
51:22). والمسيح بقوله عن إمكانية حضور اثنى عشر جيشاً من الملائكة يشير إلى أنه
ليس عن ضعف هو يُسلِّم نفسه، ولا تحت إرغام أي قوة في الوجود، ولكن هي مشيئته
الخاصة التي تقابلت مع مشيئة أبيه لتكميل تدبير الله الأزلي حسب الكتب. فهو إنما
ينفِّذ تدبيراً سبق أن سجَّلته الأنبياء في الكتب عن أمر لا بد أن يكون:
» لأجل هذا أتيت إلى هذه
الساعة!!
«(يو 27:12). وهكذا أعمال الله كلها هي سابقة التدبير، لهذا
فالتنفيذ الذي نقوم به إنما هو بحد ذاته تمكين لصدق الله وتكميل لمشيئته
المقدَّسة. وحتى إن أعوز الإنسان تنفيذ تدبير الله المسبق فالملائكة وكل قوات
السماء جاهزة لتكميل المشيئة. لذلك نحن نصلِّي دائماً معترفين بهذه الحقيقة:
» فلتكن مشيئتك كما في
السماء كذلك على الأرض

«
فهي
مدبَّرة فوق ونافذة على الأرض. وبهذه الصلاة نضع أنفسنا تحت أمر المشيئة المطلق
لتنفيذ التدبير كما يشاءه الله!! وبقدر ما يكون تنفيذنا مطابقاً لمشيئة الله،
الأمر الذي يعتمد على انفتاح البصيرة للمعرفة والإرادة واستعداد الطاعة المذعنة
مهما كلَّفت من جهد وتضحية، تكون المجازاة.
» تمِّموا خلاصكم بخوف ورعدة لأن الله هو العامل
فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة.
«(في
2: 12و13)

55:26و56
«فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَالَ يَسُوعُ لِلْجُمُوعِ: كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ
خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ
مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي. وَأَمَّا هذَا كُلُّهُ
فَقَدْ كَانَ لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ. حِينَئِذٍ تَرَكَهُ
التَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا».

كان
المنظر مفزعاً: رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب قادمين بجند وسلاح ومشاعل ليقبضوا على
المسيح، ولماذا وقد كان بينهم منذ ساعات جالساً ومعلِّماً في الهيكل؟ هنا يكشف
المسيح عن دور الشيطان الذي لعبه في هذه الساعات القليلة حتى أقنعهم وقادهم إلى
هذا الدور القبيح بمركزهم وشيبتهم، والأقبح بمركز المسيح كمعلِّم كان بينهم وديعاً
متواضعاً. وهذا هو الدور الذي يلعبه الشيطان في قلوب وأفكار كثير من الناس دون أن
ينتبهوا ليندفعوا إلى حمل السلاح، ويدفعهم للخروج بالليل والخروج عن وعيهم ويطلقون
النار بلا وعي ولا تروٍّ، وبعدها يندمون ويكتشفون أنها كانت ثورة مفتعلة من
الشيطان داخلهم أركبتهم مركب الجريمة والعار دون ما سبب حقيقي.
» كأنه على لصٍّ خرجتم « لقد لعب الشيطان في صدورهم حتى تصوَّروه عدواً وشحن قلوبهم
بالنقمة عليه بلا سبب، مع أنه جاء يطلب سلامتهم وفرحهم وخلاصهم!!

وحينما يلخِّص ق. متى بلسان المسيح أن »
هذا كله قد كان لكي تكمل كتب الأنبياء «فهنا:
«هذا كله» يلخِّص كل ما جاء: القبض والآلام، لأن الأنبياء انشغلوا جدًّا
بهذا الجزء من رسالة المسيَّا القادم حتى سبغوا عليه لقب:
» العبد المتألِّم «
فأصحاحات برمتها كالتي جاءت في إشعياء ترسم كل حركة من حركات الإهانات والآلام
الأخيرة بصورة واقعية فريدة، حتى حينما يقرأها الإنسان يتعجَّب كأنه تسجيل مُسْبَق
لما تمَّ في الأيام الأخيرة هذه! علماً بأن الآلام بحد ذاتها هي سر الخلاص.

«حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا»:

ها
نحن أمام ليس نبوَّة أنبياء بعيدة، بل نبوَّة المسيح التي قالها في عشاء الخميس
ونحن الآن بعدها بخمس ساعات فقط:

+
» هوذا تأتي
ساعة وقد أتت الآن (عشاء الخميس) تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته (بيته)
وتتركونني وحدي.

«
(يو 32:16)

+
» حينئذ قال
لهم يسوع: كلكم تشكُّون فيَّ في هذه الليلة.
«(مت
31:26)

وهكذا
تظهر توعية المسيح لهم: صلُّوا لكي لا تدخلوا في تجربة، صلُّوا لئلاَّ تدخلوا في
التجربة، أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، فجاء أيضاً ووجدهم نياماً. وهذه هي
نتيجة النوم وعدم الصلاة، والعجز عن السهر. ويُحْزِن نفوسنا أن يسجِّل التلاميذ
هذه النهاية الحزينة على أنفسهم: هربوا؟ لقد هيَّأ لهم الشيطان الهروب أنَّ فيه
النجاة والفلاح والخلاص من ورطة وضعوا أنفسهم فيها، تحت قيادة معلِّم مدَّعى ضعيف
مكروه ومضروب من الله ومذلول (إش 4:53).
» كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد
إلى طريقه
«(إش 6:53). وهمَّ القديس متى أن يؤكِّد أن المسيح بقي فعلاً
“وَحْدَه”، لم يعتمد على تلاميذه، وتلاميذه أثبتوا أنهم لم يكونوا أكفاء قط أن
يُعتمد عليهم:
» دست المعصرة
وحدي
«(إش 3:63)، » وليس بأحد غيره الخلاص «(أع
12:4). إن إشعياء يكمِّل قوله العجيب قائلاً:
» والرب وضع عليه إثم جميعنا «(إش
6:53). والمعنى هنا بالنسبة لهروب التلاميذ مُحكم، إذ أن الرب لم يحمل خطايا (إثم)
تلاميذه ضمن ما حمل فقط، بل وحمل عار هروبهم!! فانظر عزيزي القارئ كيف تُصوِّر
النبوَّة خذلان تلاميذه الذي هو بعينه خذلاننا، فليست الخطية وحدها هي التي تثقل
كاهل المسيح بل وبالأكثر خذلاننا له وعدم تكريمنا له في أعين الناس.

ومن
هنا جاءت آية الدينونة المخيفة:
» مَنْ ينكرني قدَّام الناس أنكره أنا أيضاً قدَّام أبي الذي
في السموات.
«(مت 33:10)

 

المحاكمة أمام السنهدرين

[57:26-68]
(مر 14: 53 65)، (لو 54:22و55و6371)، (يو 13:18و14و1924)

 

يلزم
أن نأخذ فكرة عامة عن المحاكمة حتى نحيط بدقائق كل مرحلة على حدة: والمحاكمة ككل
تشمل من الآية (57-68) في هذا الأصحاح (26) مضافاً إليه كل ما جاء في الأصحاح
السابع والعشرين حتى الآية (26) منه. وهي تنقسم إلى مرحلتين أو محاكمتين: المحاكمة
الأُولى وهي التي سُمِّيت في التاريخ بالمحاكمة الكنسية أو المحاكمة أمام
السنهدرين أو المحاكمة الدينية. والمحاكمة الثانية هي المحاكمة المدنية أمام
القضاء الروماني العالمي.

والمحاكمة الأُولى تنقسم إلى ثلاث مراحل، كذلك المحاكمة الثانية
المدنية تنقسم أيضاً إلى ثلاث مراحل.

فالمحاكمة
الأُولى مراحلها الثلاث هي:

(
أ ) سماع أقوال المسيح المبدأية أمام حنَّان: (يو 18: 12-14و19-23).

(ب)
المحاكمة أمام السنهدرين أمام قيافا والكتبة وشيوخ الشعب ليلاً (مت 57:26-68).

(
ج ) المحاكمة أمام السنهدرين مرَّة ثانية في الصباح (لو 66:22-71).

ويُلاحَظ
أن أقوال المسيح أمام حنَّان لم يروِها أحد إلاَّ ق. يوحنا فقط.

أمَّا
الثلاث مراحل أمام المحاكم المدنية فهي: ( أ ) المحاكمة أمام بيلاطس.

(ب)
المحاكمة أمام هيرودس.

(
ج ) المحاكمة أمام بيلاطس مرَّة ثانية.

فإذا
كانت أقوال المسيح أمام حنَّان رئيس الكهنة قد دوَّنها ق. يوحنا فقط، فكذلك
المحاكمة أمام هيرودس فالذي رواها هو ق. لوقا فقط (لو 6:23-12).

والآن
نبدأ بعد سماع أقوال المسيح أمام رئيس الكهنة حنَّان، بالمحاكمة أمام قيافا: أي
نبدأ بالمرحلة الثانية (ب):

57:26
«وَالَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ
الْكَهَنَةِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ».

وقد
انعقدت هذه المحاكمة في بيت قيافا رئيس الكهنة. ولكن يلزم أن ننبِّه أن البيت هو
أصلاً بيت حنَّان، وبعد أن تزوَّج قيافا ابنة حنَّان سكن معه في الشقة المقابة
لنفس البيت، وكانت بينهما صالة جُعلت لاجتماع السنهدرين([22]).
وذلك بعد أن أُغلق مبنى السنهدرين الخاص الذي كان يقع جنوب منزل حنان وقيافا بأمر
السلطة الرومانية.

علماً
بأن استعراض أقوال المسيح أمام حنَّان في بيته كانت ليلاً، ولم يستدعِ نقل المسيح
من أمام حنَّان إلى أمام قيافا إلاَّ عبور صالة السنهدرين في نفس البيت، وأيضاً
كان ذلك ليلاً. وظلَّ هذا المجمع مجتمعاً حتى الفجر:
» وللوقت في الصباح (الساعة الخامسة) تشاور رؤساء
الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله فأوثقوا يسوع ومضوا به وأسلموه إلى بيلاطس.
«(مر 1:15)

58:26
«وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ،
فَدَخَلَ إِلَى دَاخِلٍ وَجَلَسَ بَيْنَ الْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ النِّهَايَةَ».

ولكن
يعطينا ق. يوحنا شهادة أوضح:
» وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر (يوحنا) يتبعان يسوع، وكان
ذلك التلميذ (يوحنا) معروفاً عند رئيس الكهنة (قيافا)، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس
الكهنة
«(يو 15:18). ومن تسجيل ق. يوحنا نفهم أنه كان هو الشاهد العيان
الذي سجَّل هذه المحاكمة في إنجيله. ولكن وعلى كثير من الظن أن ق. مرقس كان أيضاً
حاضراً هذه المحاكمات حتى في دار الولاية، وهو الذي نقل لنا ما جرى في دار الولاية
لدرايته باللغة اللاتينية التي كان يتكلَّم بها بيلاطس كحاكم وقاضٍ (انظر كتاب:
“شرح إنجيل القديس مرقس” للمؤلِّف).

وأمَّا
بطرس فلم يدخل، وبقي واقفاً أمام الباب الخارجي للدور الأرضي، فنزل ق. يوحنا وأوصى
البوابة بدخوله فدخل إلى الدهليز السفلي المواجه لمكان محاكمة المسيح (انظر كتاب:
“شرح إنجيل القديس يوحنا” للمؤلِّف صفحة 1131).

59:26و60
«وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ
يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا.
وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلكِنْ أَخِيراً
تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ».

«شهود
زور يقومون وعمَّا لم أعلم يسألونني.» (مز 11:35)

الكلام
هنا يفضح المحاكمة والقضاة وكل المجتمعين، لأن التهمة غائبة والآن يطلبون شهود زور
عن تهمة لفَّقوها سابقاً. والكلام مناقض بعضه ويحكم بكذبهم وتلفيقهم لأنهم لم
يجدوا حتى شهود الزور! ثم القول هنا بأنهم يطلبون شهود زور لكي يقتلوه، أصبحوا
قتلة بلا محاكمة ولا تحقيق
وهي مهزلة قضائية تكشف
عن نوعية القضاء في إسرائيل ومستوى رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب، وما آلت
إليه قوانين التوراة أي الناموس الذي يتمسَّكون به ويدافعون عنه، ويريدون أن
يتخلَّصوا من المسيح ليبقى لهم الناموس وتبقى التوراة وتبقى لهم وظائفهم. وهكذا
وبهذه المحاكمة عينها يستطيع القارئ أن يحكم لماذا جاء المسيح ولماذا هو يُحاكم
الآن.

وإليك المخالفات القانونية التي اكتشفها العلماء
المتخصِّصون في الأحكام اليهودية والتوراة في هذه المحاكمة:

(
أ ) لا ينبغي أن تُجرى محاكمة توجب القتل ليلاً.

(ب)
ممنوع أن تُجرى محاكمات وخاصة للقتل أيام العيد.

(
ج ) بحسب تفسير الربيِّين لا يصح سماع أقوال بالنسبة للقضايا الكبرى في عشية
الأعياد.

(
د ) لا يصح النطق بالنتيجة النهائية للمحاكمة إلاَّ بعد مرور يوم كامل على الأقل
من بعد إثبات التهم على المتهم.

(
ه ) ثابت من الأقوال أن القبض على المسيح تمَّ من خلال رشوة، ودعيت “ثمن دم”
استلمها باليد يهوذا من رئيس الكهنة.

(
و ) لقد استُجوب المسيح كمتهم ولكن طُلب منه أن ينطق بما يُجَرِّم نفسه.

(
ز ) لا يصح الوصول إلى نتيجة اتهام بالقتل إذا لم يقتنع المتَّهم بعدالة المحاكمة.

وينتهي
العالِم دالمان من تحقيقاته القانونية في صلب المسيح بقوله: إن السبب الوحيد
والعلَّة التي من أجلها قُدِّم المسيح للمحاكمة هي أنهم أرادوا أن يقتلوه وحسب([23]).

ومن
مُجريات الحوادث اليومية منذ أن بدأ المسيح يعلِّم ويكرز بملكوت الله وظهور إرادة
القتل واضحة لدى رؤساء الكهنة والكتبة، وقد اكتشفها بيلاطس الروماني نفسه،
» أنهم أسلموه حسداً «(18:27)!! ولكن ليجعلوا من القتل عملاً قانونياً أدخلوه المحاكمة.
فهي ليست محاكمة بل مؤامرة للقتل. ولمَّا قتلوه عيَّروه:
» خلَّص آخرين وأمَّا نفسه فما يقدر أن يخلِّصها «(مر 31:15). فكانت قولتهم هذه هي رسالته الحقيقية التي جاء من
أجلها.

61:26
«وَقَالاَ: هذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللهِ، وَفِي
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ».

هذه الشهادة مهزوزة وهي صدى كاذب لما سبق المسيح وقال، كما
أُعلن له في إنجيل ق. يوحنا (2: 18-
21)، حينما تحدَّاه اليهود بعد تطهير
الهيكل وسألوه:
»
أيَّة
آية ترينا حتى تفعل هذا. أجاب يسوع وقال لهم: انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام
أُقيمه. فقال اليهود في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام
تقيمه؟ وأمَّا هو فكان يقول عن هيكل جسده
«
ويلاحَظ هنا أن المسيح لم يقل أنه ينقض الهيكل بل قال: “انقضوا” أنتم هذا
الهيكل أمَّا هو “فيقيمه”. وقد ظلَّت هذه المحاولة للشهادة بالزور أنه قال ذلك،
ركناً أساسياً في الاتهام كأساس أول للقضية، وقد عيَّروه به وهو على الصليب خطأ:
» يا ناقض الهيكل وبانيه
في ثلاثة أيام
«(مر 29:15). مع أنه لم يقل أنه ينقضه. أمَّا الركن الثاني للقضية
الذي اعتمدوا عليه هو أنه قال إنه “المسيح”، وأيضاً عيَّروه بذلك وهو على الصليب:
» لينزل الآن المسيح ملك
إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن
«(مر 32:15). وهذان
الركنان هما اللذان اعتمدت عليهما تحقيقاتهم في طلب حكم الموت، والباقي إضافات
وقتية اخترعوها لإقناع القاضي. وهكذا خرجت القضية قائمة على هذين الركنين:

أولاً: أنه حوكم
في المحكمة اليهودية وخرجوا باتهام أنه يدَّعي أنه سينقض الهيكل وأنه ابن الله.

ثانياً: أنه قُدِّم للمحاكمة الرومانية على أساس أنه يدَّعي أنه “مسيح ملك” ندٌ
لقيصر (لو 2:23).

الأُولى:
حسبوها
تجديفاً على الله.

الثانية: حوَّلوها
إلى تجديف على قيصر.

وقد ظلَّ اليهود يعيشون في تلك الخرافة حتى أيام استفانوس
إذ ألصقوا به هذه التهمة عينها (نقض الهيكل):
» وأقاموا شهوداً كذبة يقولون (عن استفانوس) هذا الرجل لا يفتر عن أن يتكلَّم
كلاماً تجديفاً

ضد هذا الموضع المقدَّس والناموس. لأننا
سمعناه يقول إن يسوع الناصري هذا سينقض هذا الموضع
ويغيِّر العوائد التي
سلَّمنا إياها موسى

«
(أع 6: 13و14). وحتى أيام
بولس الرسول كانت لا تزال هواجس اليهود ضد الهيكل قائمة:
» صارخين يا أيها الرجال الإسرائيليون أعينوا. هذا
هو الرجل الذي يعلِّم الجميع في كل مكان ضدًّا للشعب والناموس وهذا الموضع …
«(أع 28:21). ولقد ورثت الكنيسة القبطية تقديس “الموضع” الذي كان
يدل على الهيكل فأصبح يدل على الكنيسة:

[اذكر
يا رب خلاص هذا الموضع المقدَّس الذي لك وكل المواضع وكل ديارات آبائنا
الأرثوذكسيين.] (أوشية الموضع)

62:26
«فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا
يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟».

هنا
الوعد الذي انتهى إليه المسيح ابن الله مع أبيه في جثسيماني بعد جهاد النفس في
صلاته المريرة المنسحقة والتي بلغ فيها إلى:
» يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس
إلاَّ أن أشربها فلتكن مشيئتك
«(مت 42:26)، والكأس
كما رأينا هي قبول خطايا البشرية جميعاً وكل عارها وصفاتها التي تتعارض مع علاقته
بالآب. وها هو هنا يُتَّهم بأنه ضد الهيكل والعبادة وبالتالي ضد الله. وهكذا وبمقتضى قبول مشيئة الآب أن يحتمل كل خطايا
وعار الإنسان، وقف صامتاً، والصمت بالنسبة للمتهم إزاء اتهامه بالخطية هو تمام
الرِّضا والموافقة. كان يمكن أن يدافع ضد هذا
الاتهام ويشرح الحقيقة، ولكنه لا يطلب البراءة بل يطلب أن يُحسب متهماً
وخاطئاً. فهو هنا يقف موقف البشرية
الممسوكة بخطايا من كل شكل، ويطلب ويلحّ
في الطلب أن يُحاكم بها بكل ما يقرِّره القضاة.

63:26
«وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ
لَهُ: أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ
الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟».

وفي
الحال قطع المسيح صمته تجاه الاتهام، وابتدأ يشهد عن صدق أنه هو المسيح حقا ابن
الله، ولكن لم يكن رئيس الكهنة صادقاً في ضميره وفي استحلافه، فقد سبق وأن قرَّر
ما في ضميره وتدبيره:
»
فقال
لهم واحد منهم وهو قيافا كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً
ولا تفكِّرون. أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأُمة كلها
«(يو 11: 49و50). وكان رد قيافا هذا ردًّا على سؤال مجمع سابق أقامه
قبل ذلك:
» فجمع رؤساء
الكهنة والفريسيُّون مجمعاً وقالوا ماذا نصنع فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة إن
تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا (هيكلنا) وأمتنا.
«(يو 11: 47و48)

إذن،
فالاستحلاف هنا مهزوز ومزوَّر، والمقصود هو أخذ اعتراف من فم المسيح ليمسكوه عليه
ويكون المجمع كله شهوداً. كل هذا لم يَفُتْ المسيح، ولكن المسيح لابد أن يشهد عن
نفسه الشهادة الحسنة مهما كانت النيَّات. وهو هنا بشهادته الحسنة أنه هو المسيح
ابن الله يكون قد أوقع رؤساء الكهنة والمجمع كله ورؤساء الشعب في اقتراف التعذيب
والصلب والقتل في المسيح يسوع ابن الله عن معرفة وشهادة المسيح نفسه. وهي نقطة
هامة تُضاف لحساب البشرية التي اقترفت خطاياها عن عمد ضد الله والحق. فها هو يحتمل
القتل عن عمد كخاطئ مع أنه المسيح ابن الله بِقَسَمٍ!!

64:26
«قَالَ لَهُ يَسُوعُ أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ
تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى
سَحَابِ السَّمَاء».

دون أي تردُّد أو أي تمهُّل ردَّ المسيح ردًّا سريعاً
مباشراً قوياً واضحاً:
» أنتَ
قُلْتَ
«
وهي طريقة المسيح في الرد على أي سؤال بالإيجاب، إذ يجعل الإجابة هي التي نطق بها
محدِّثه. ومعناها تماماً: “هذا حق”. وهو نفس الموقف الذي وقفه أمام بيلاطس:
»
فقال له بيلاطس: أفأنت إذاً ملك؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني
ملك لهذا قد وُلدت أنا
«(يو 37:18)، » ألستَ تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك …، أجاب يسوع لم يكن لك عليَّ سلطان
البتَّة لو لم تكن قد أُعطيتَ من فوق
«(يو 19: 10و11). وعلى القارئ أن يلاحظ هنا أن المسيح
يصمت عند الاتهام بالخطايا لأنه يحملها حقا!! ولكن عندما يُسأل عن
هويَّته يرد
في الحال. الأمر الذي اعتبره بولس الرسول أنها الشهادة الحَسَنَة:
» أوصيك أمام الله الذي
يحيي الكل والمسيح يسوع الذي شَهِدَ لدى بيلاطس البنطي بالاعتراف الحَسَن.
«(1تي 13:6)

«وأيضاً
أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان»
([24]):

قوله
من الآن تعني بعد الصلب والموت مباشرة، “فالآن” هو آخر لحظات ضعف ابن الإنسان،
ولكن الآن أيضاً يبدأ المجد الصاعد، وقد رآه ق. استفانوس فعلاً جالساً عن يمين
العظمة في السموات:
»
وأمَّا
هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله. فقال ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن
الإنسان قائماً عن يمين الله.
«(أع 7: 55و56)

وهنا
يستطرد المسيح بقوة ورأس مرفوعة حينما يذكر مجده العتيد أن يكون حتماً بعد أن
تنقضي محنة اتضاعه وحمله خطايا الإنسان، أنه سيمضي ليجلس عن يمين القوة والعظمة في
السموات، ويأتي على السحاب بقوة ومجد كثير، لقد ألزموه بجهلهم أن يشهد لحقيقة
نفسه.

+
» قال الرب
لربِّي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك.
«(مز
1:110)

+
» كنت أرى في
رؤى الليل وإذا مع سُحُب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام
فقرَّبوه قدَّامه. فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأُمم
والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض.
«(دا 7: 13و14)

65:26
«فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قائِلاً: قَدْ جَدَّفَ!
مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ!».

كان
رئيس الكهنة واثقاً من أن المسيح سيعلن هذه الحقيقة عن نفسه، فاستعد لها بدور
تمثيلي ليسجِّل أول اعتراف للمسيح بلاهوته واستعلانه الشخصي لنفسه أنه هو هو
المسيَّا موضوع رؤى الأنبياء ورجاء الآباء كل الدهور السالفة
وكأنه
تجديف. والسؤال: فماذا كان ينتظر رئيس الكهنة الملهم من رد المسيَّا عن نفسه؟
وبماذا يستطيع رئيس الكهنة أن يفرِّق بين استعلان المسيح الحقيقي لذاته، وبين
ادّعاء مسيح آخر. وهل ما قدَّمه المسيح من مئات المعجزات وهم كلهم شهود وآلاف
الأشفية ومنهم مَنْ أقام ابنته حيَّة، ألا تكفي هذه كمقدِّمة لاعترافه اليوم؟

ولكن
بالرغم من ذلك وقع اعتراف المسيح كالصاعقة على رأس قيافا فأسرع بتمزيق جبَّته
لتسجيل حالة تجديف كما يقرِّر قانون السنهدرين.

أمَّا
كيف استقرأ رئيس الكهنة من قول المسيح إنه ابن الله
وبذلك
اعتبرها حالة تجديف
فدرايته بالمزمور
(1:110) حيث لا يجلس عن يمين الله إلاَّ المسيَّا القادم المعبَّر عنه في المزمور
بالرب. ويعرضها ق. لوقا بوضوح أكثر هكذا:
» منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة
الله، فقال الجميع أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو: فقالوا ما
حاجتنا إلى شهادة لأننا نحن سمعنا من فمه.
«(لو
22: 69
71)

66:26
«مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَأَجَابُوا وَقَالُوا: إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ».

وبعد
أن ورَّط رئيس الكهنة نفسه في الحكم على المسيح أنه مجدِّف بدون عقل ولا حكمة ولا
رويَّة، وبالرغم من اعتراف المسيح الواضح العلني أنه هو مسيَّا ابن الله، أراد أن
يورِّط بقية المجمع خاصة بعد أن مزَّق ثوبه شهادة منه أنه حصل على تأكيد بالتجديف
لا رجعة فيه ولا مزيد. فأفتوا وهم صاغرين بما أملاه عليهم قيافا من واقع الحال.

واحد فقط كان حاضراً ولم يوافق على هذا الرأي وهو المشير
يوسف الرامي، والمشير يعني رجلاً شريفاً
وصاحب
مشورة:
» وإذا رجل اسمه يوسف وكان مشيراً ورجلاً
صالحاً باراً هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم
وهو من الرامة مدينة لليهود وكان هو أيضاً ينتظر ملكوت الله «(لو 23: 50و51). وهو الذي أنزل جسد
المسيح من على الصليب ولفَّه بكتان ودفنه في قبره الخاص الجديد. وهذا هو الغني
الذي ذكره إشعياء النبي منذ 700 سنة مضت:
» وجُعل مع الأشرار قبره ومع غنيٍّ عند موته. «(إش 9:53)

ولكن
أن تجتمع كلمتهم على اتهام معيَّن شيء، وأن يصدر حكم بذلك شيء آخر. وكان بحسب
القوانين المعمول بها لابد أن يمضي يومٌ كاملٌ بين الاتهام والحكم. ولكن كل شيء
كان مقلوباً بداعي العجلة والخوف. وكان لابُدَّ من انعقاد السنهدرين. والآن نحن
بعد منتصف الليل، ولا يزال هنا متَّسع للوقت للتنفيس عن أحقاد قديمة.

67:26و68
«حِينئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ
قَائِلِينَ: تَنَبَّأَ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟».

ألم
نقل إنه جزع من أن يقف هذا الموقف أمام أبيه؟ أليس هو بهاء مجد الآب وصورة جوهره؟
انظروا الآن وقع هذا على نفس المسيح الحامل لمجد أبيه، والذي وجهه الذي بصقوا عليه
هو هو صورة جوهر الآب. المسيح يرضى بهذا لأنه أخذ شكل العبد، ولكن كيف يرضى أن
يعرِّض صورة مجد الله أبيه للإهانة والمهانة والخليقة السماوية كلها تنظر من فوق.
إن صلاة جثسيماني وجزع نفس المسيح من القادم عليه كان صِدْقاً وحقاً، وكان رعباً
مرعباً جعله لمَّا تأمَّله تغشاه قشعريرة الموت:
» نفسي حزينة جدًّا حتى الموت « وتصبب في الحال عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض الملعونة لتشفيها
من لعنتها قبل أن تغسلها قطرات نزف الصليب.

لقد شهد إشعياء عن هذا الخزي المريع الذي اقترفه إسرائيل: »
وجهي لم أستر عن العار والبصق «(إش 6:50). ويضيف إشعياء واصفاً مدى
صعوبة الخجل الذي عاناه المسيح حتى استعان بقوة معونة خاصة وافته من عند الآب
سريعاً فاحتمل:
» والسيد الرب يعينني لذلك
لا أخجل، لذلك جعلت وجهي كالصوان (لاحتمال الضرب واللطم) وعرفت أني لا أخزى. قريب
هو الذي يبرِّرني
«(إش 50: 7و8)

نعم
سينظره الذين لطموه على الوجه والذين بصقوا في وجهه وحينئذ يصرخون
للجبال لتقع عليهم لتغطِّيهم من وجه الجالس على العرش (رؤ 16:6).

«وآخرون لطموه قائلين تنبَّأ لنا أيها
المسيح مَنْ ضربك»:

لقد تنبَّأ، يا صُحبة السوء ورجال الشر، قد تنبَّأ على خراب
مدينتكم وحرق هيكلكم وفظائع ستُجرى
عليكم وعلى أولادكم
ونسائكم لم ترها الأرض سابقاً، وسيذكرها التاريخ أبداً. وستنجو ذرية لكم وتتشتَّت
في
كل أنحاء العالم لتشهد
وتعاين مدى النقمة التي تجوزها أُمتكم حتى يتم المقضي به عليكم:

+
» أَفسَدَ له
الذين ليسوا أولاده عيبهم. جيلٌ أعوج ملتوٍ. ألرَّبَّ تكافئون بهذا يا شعباً غبياً
غير حكيم؟
«(تث 32: 5و6)

+ » إنهم
أُمَّةٌ عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم … لولا أن صخرهم باعهم والرب سلَّمهم.

«
(تث 32: 28و30)

 

إنكار بطرس ثلاث مرَّات

[69:2675]      (مر 14: 6672)، (لو 22: 5662)، (يو 15:1818و2527)

 

69:26
«أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِساً خَارِجاً فِي الدَّارِ، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ
جَارِيَةٌ قَائِلَةً: وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ».

هنا
اختصر ق. متى رواية دخول بطرس في الحوش خارج الدار. والقصة يرويها القديس يوحنا
بالتفصيل هكذا:
»
وأمَّا
بطرس فكان واقفاً عند الباب خارجاً فخرج التلميذ الآخر (ق. يوحنا يتكلَّم عن نفسه)
الذي كان معروفاً عند رئيس الكهنة وكلَّم البوابة فأدخل بطرس
«(يو
16:18). وهكذا ينجلي الموقف أمامنا لماذا دخل ق. يوحنا إلى داخل الدار بينما وقف
بطرس خارجاً، إذ أوضحها ق. يوحنا أنه كان معروفاً عند رئيس الكهنة. والحقيقة أنه
يُظن أن له قرابة برئيس الكهنة وأن ق. يوحنا من عائلة كهنوتية (انظر كتاب: “شرح
إنجيل القديس يوحنا” للمؤلِّف صفحة 1130).

وأخيراً
فتحت البوابة وظهر ق. يوحنا وقد عرفته البوَّابة في الحال ودعا بطرس للدخول، فدخل
في صمت واتجه إلى جماعة الخدم والعبيد واندسَّ بينهم بهدوء، على أنه كان يكفيه أن
يكون متفرِّجاً فقط وكأن الأمر لا يعنيه، ولكن البوَّابة وهي جارية تفرَّست في وجه
بطرس على ضوء مصباحها الخافت وتعرَّفت عليه من شكله وملبسه، وبادرته باتهامها
الهادئ:
» وأنت كنت مع
يسوع الجليلي
« لأن بطرس ظهر بشكله ولبسه ولغته الجليلية. وفي إنجيل ق. يوحنا
أضافت الجارية كلمة “أيضاً” لأنها تعرَّفت على ق. يوحنا أنه تلميذ يسوع، هنا خانت
بطرس شجاعته وارتج عليه الأمر.

70:26
«فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: لَسْتُ أَدْرَِي مَا تَقُولِينَ!».

هنا
يتضح لنا أن بطرس تحاشى ما أمكن الحديث نهائياً عن هذا الموضوع حتى لا يُستدرج إلى
أسئلة خطرة توقعه في المحظور. لأن أخوف ما كان يخافه أن يدركوا أنه هو الذي رفع
السيف على عبد رئيس الكهنة، بالإضافة إلى خوفه الشديد من أن يُحاكم بصفته تلميذ
يسوع. وتبخَّرت التأكيدات:
» لو اضطررت أن أموت معك لا أُنكرك. «(35:26)

والموقف
معروض علينا، لأن الإنجيل لا يهمَّه التاريخ، فهو يدوِّن لنا ماذا يمكن أن يحدث
لنا، وماذا يمكن أن نتصرَّف ونقول. فالذي أوقع بطرس في هذه الورطة: أولاً كبرياؤه
واعتداده بذاته أمام اتهام المسيح له. فلو كان اتضع وطلب من المسيح قوة ومعونة حتى
لا يقف مواقف الإنكار هذه لنجا كما نجا كثيرون، ولكنه تعالى على إنذار المسيح
العام بالنسبة للتلاميذ ككل، ثم تعالى على الإنذار الموجَّه له شخصياً لمَّا كابر
على السلوك كواحد من التلاميذ. وبعد ذلك لمَّا تبع يسوع لم يتبع حاملاً صليبه أي
كمستعد للموت كما ادَّعى لنفسه، تبع واكتفى بأن يقف على الباب أولاً لولا أن ق.
يوحنا أسعفه وترجَّى البوابة أن تُدخله. فلمَّا دخل كمَنْ هو غريب عن جماعة
التلاميذ، وبالتالي عن أي علاقة بالمسيح بنوع
من التستُّر للخوف، ففقد استعداد الشهادة. وأخيراً أخلى ذهنه
نهائياً من أي تفكير في موضوع المسيح استعداداً
للهرب والإنكار. فلمَّا واتت اللحظة الحرجة باح بما في قلبه.

والأمر
من الخطورة بالنسبة لنا فنحن جميعاً وحتماً سنقف موقف السؤال والجواب عن علاقتنا
بالمسيح، إذ يلزم أن نكون مستعدين دائماً لمجاوبة كل مَنْ يسألنا عن سبب الرجاء
الذي فينا (1بط 15:3). بل وأكثر من ذلك يتحتَّم أن يكون لنا تفكير واضح وإيمان قوي
واستعداد داخلي للشهادة للمسيح حتى ولو لم نُسأل، بنوع من الكرازة أو الشهادة
لإيماننا كلما وافتنا الظروف. وإلاَّ إذا أفرغنا الفكر والضمير واللسان من الشهادة
للمسيح كبطرس فنحن سنُنْكِر إذا فوجئنا بالسؤال. كما يلزمنا أن ندرك تماماً أنه في
اللحظة التي نبدأ فيها بالشهادة للمسيح بشجاعة ستأتينا قوة من الأعالي لتخرج
الكلمات قوية ثابتة مؤثِّرة مهما كان الواقف أمامنا ليسائلنا:
» فلا تهتموا كيف أو بما
تتكلَّمون لأنكم تُعْطَوْنَ في تلك الساعة ما تتكلَّمون به، لأن لستم أنتم
المتكلَّمين بل روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم.
«(مت
10: 19و20)

71:26و72
«ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ
هُنَاكَ: وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِريِّ! فَأَنْكَرَ أَيْضاً بِقَسَمٍ:
إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!».

ليس
هذا سوء حظ ولا هو صدفة، إنها عين الله على بطرس الذي أراد أن ينسى واجبه كتلميذ
ويتناسى تعليم معلِّمه. واستقر في أعماقه أن ينكر ويهرب ويأخذ طريق الضلال!!
فحرَّك الجارية الأُولى ثم حرَّك الجارية الثانية وستأتي الثالثة في ميعادها.
أمَّا الإنكار هنا فازداد جراءة وتصميماً باستخدام اسم الله، وكأن الأمر فعلاً
صحيح أنه لا يعرف هذا الرجل!! هذه مصيبة السير في الخطوة الثانية في الابتعاد عن
الله والقداسة. فبعد الإنكار باللسان أصبح إنكاراً بالقلب!! وبعد أن كان إنكاراً
بيني وبين نفسي أصبح إنكاراً أُشهد عليه الله أيضاً!! وبعد أن كانت ورطة يمكن أن
أتراجع عنها وأُخرج رِجْلَيَّ منها بالاعتذار أو التراجع أو التصحيح، أدخل في
الطين بالرجلين وأغوص حتى الرقبة!!

والوحيد
الذي كان يمكن أن ينتشلني من غطسة الهلاك هذه أشهدته على إنكاري بل أنكرته هو
أيضاً!!

73:26و74
«وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: حَقًّا أَنْتَ
أَيْضاً مِنْهُمْ، فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ! فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ
وَيَحْلِفُ: إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ! وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيك».

هنا
فقد بطرس السيطرة على نفسه، فقد تخلَّت النعمة تماماً! مَنْ ينكرني أنكره. فلم يعد
أمامه إلاَّ أن يلعن نفسه ويلعن يومه ويعيد ما قاله وليس مَنْ يسمع ولا مَنْ
يصدِّق. وهكذا يهوذا باع سيِّده بثلاثين من الفضة، أمَّا بطرس فأنكره مجَّاناً،
وكان مستعداً أن يبيعه ولكن ليس مَنْ يشتري. وهنا ينبري وعد المسيح المبارك:
» ولكني طلبت من أجلك لكي
لا يفنى إيمانك
«(لو 32:22) ففي هذه اللحظة أوعز الملاك إلى الديك أن يصيح صيحة
النجاة فتذكَّر بطرس!! وعلى رجاء وعد المسيح الأكيد أنه سيطلب من أجله حتى لا يفنى
إيمانه، استرد عافيته وخرج سريعاً وبكى بكاءه المرّ!

طوبى
لمن طَلَبت من أجله أُمه، طوبى لمن طلب من أجله أبوه، طوبى لمن طلبت الكنيسة من
أجله. صلُّوا صلُّوا كل حين ولا تملُّوا.

+ » اذبح
لله حمداً وأوفِ العليّ نذورك وادعني في يوم الضيق أُنقذك فتمجِّدني.

«
(مز
50: 14و15)

75:26
«فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ الَّذِي قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ
أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ
وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا».

يقول
ق. لوقا إن في لحظة صياح الديك كانوا قد قادوا المسيح من دار قيافا إلى مكان
السنهدرين وبابه مواجه للدهليز، فالتفت المسيح في هذه اللحظة إلى بطرس وتقابلت
العينان!! فقرأ فيها الحنان والعطف المعهود بل والصفح كل الصفح والدعوة إلى
الاغتسال!! (لو 61:22)

لقد
عَثَرَ بطرس على نفسه مغروسة في الطين حتى الرقبة عندما صاح الديك، ولكن عندما لمح
بطرس عَيْنَي المسيح وهي مصوَّبة نحوه في هدوء الحب وجد نفسه على الشاطئ!!

كان
وعد المسيح:
» طلبت من
أجلك لكي لا يفنى إيمانك

«
دخولاً
حقيقياً للمسيح مع بطرس في ضيق الورطة كذراع إله انتشله من الطين!! أمَّا يهوذا
فلم يجد. وهكذا تفترق خطية المُخْلِص من خطية الخائن!!

«بكى بكاءً مرًّا»:

يذكرها
الإنجيليون وكأنها غسيل نفس تلطَّخت بالطين، وهي حقيقة.

كذلك
فهي بحد ذاتها نعمة!! وطوبى للعيون التي تعلَّمت وعرفت متى وكيف يكون البكاء.
فالبكاء صلاة ارتفعت عن حدود الكلام وصارت مشاعر مذبوحة تقطر دماً. فحينما تبلغ
النفس حد اليقين من خطيتها يتوقَّف النطق وتعصر النفس ذاتها عصراً وتنزف منها
الحياة كدموع. ولولا مَنْ يقول لها كُفِّي البكاء لظلَّت تبكي حتى الموت. ومَنْ ذا
يعرف البكاء المرّ؟ قليل للغاية. فهو لا يريح النفس أو يزيح عنها الهمّ بل يزيدها
مرارة ويجعل الحياة كلها علقماً، وله قدرة واقتدار أن ينزح ما ترسَّب في قاع النفس
من أعمال وأفكار ومشاعر الخطية. إنه يغسل، يطهِّر، يحرق. فمثل هذه الدموع على
قلّتها قادرة أن تخلق ضميراً جديداً. وهي هدية ثمينة جدًّا لا تُعطى إلاَّ لمن
أدرك هلاكه المحقَّق ونظر نفسه في قاع الجحيم! تدخلها النفس مَرَّة لتغتسل بها إلى
الأبد!



([1])
Krister Stendahl, The School of St. Matthew and its Use of Old Testament,
p. 25.

([2]) راجع المقدِّمة صفحة 108111.

([3])
W. Hendriksen, op. cit., p. 895.

([4])
V. Taylor, The Gospel According to st. Mark, (1959), p. 534.

([5]) Ibid.

([6])
The Venerable Bede Cited by F. D. Bruner, op. cit., p. 946.

([7])
W. Hendriksen, op. cit., p. 902.

([8]) يقول يوسيفوس المؤرِّخ أن عيد الفصح وعيد الفطير كانا
يُعتبران معاً عيداً واحداً ممتداً لمدة ثمانية أيام
(Josephus,
Ant.
II, 15,1) وكانت هذه الأيام الثمانية تدعى بصفة
إجمالية: “أيام الفطير”. فكان في اللغة الدارجة: “أول أيام الفطير” يعني يوم ذبح
خروف الفصح الذي يسبق أيام الفطير السبعة.                         
(Cf.
A. H. W. Meyer, op. cit., p. 457)
.

([9]) ارجع إلى كتاب: “شرح إنجيل القديس يوحنا الجزء الثاني صفحة 795
للمؤلِّف”.

([10]) وذلك بحسب تقليد الثلاثة أناجيل المتناظرة، وإن كان إنجيل ق. يوحنا يتبع
تقليداً آخر، إلاَّ أن كلاًّ من التقليدين له عمق
لاهوتي لا غنى عنه لفهم معنى الإفخارستيا ومعنى الصليب كفصح العهد الجديد (راجع
كتاب: “شرح إنجيل القديس مرقس” للمؤلِّف صفحة
544
545).

([11])
H.A.W. Meyer, op. cit., pp. 461-463.

([12])
John Lightfoot, Horae Hebraicae et Talmudicae, (1644), pp. 474 ff.

([13])
Tr. Pesach, C. 10.

([14])
Otho, Lex. Rabb., pp. 448 ff.

([15])
Herzog, Encyclo. XI, pp. 141 ff.

([16]) سيأتي الكلام على أن الخبز المكسور سيوضع عليه الدم ليصبح جسداً مات
وقام. ولذلك فالذي يتناول من الخبز المكسور ومن الكأس (الدم) يتناول المسيح ككل،
بسر موته وقيامته بآن واحد (انظر صفحة 762
764).

([17])
F.D. Bruner, op. cit., p. 963.

([18])
Lightfoot, cited by H.A.W. Meyer, op. cit., p. 465.

([19]) وللأسف توجد كنائس فقدت هذا التقليد الطقسي الكنسي المسلَّم منذ البدء،
الذي يؤكِّد أن التناول هو من
“جسد ودم”
جاز الموت وأتى إلى الحياة، والشركة هي في المسيح الحي. فمن الخطأ أن يتناول أحد
الجسد بدون الدم. وهذا أمر يُحسب خطيراً في المفهوم اللاهوتي الإفخارستي. ولذلك
بدأت معظم هذه الكنائس في السنوات الأخيرة تعود إلى التقليد القديم وتُناول الشعب
من الجسد والدم.

([20])
F.D. Bruner, op. cit., p. 976.

([21]) لقد ظنَّ العلماء والشُّرَّاح أن الكأس التي جزع المسيح منها وطلب أن
تجوز عليه، هي الآلام والصلب والموت، وهذا يخالف كل ما سبق وأعلنه المسيح على مدى
الإنجيل أنه سيُسلَّم لأيدي الأُمم ويتألَّم ويُصلب ويموت ويقوم، فهل يمكن أن
يناقض المسيح نفسه؟

([22]) راجع الرسم التوضيحي في كتاب: “شرح إنجيل القديس يوحنا” للمؤلِّف صفحة
1131.

([23])
G. Dalman, Jesus – Jeshua, 1929, pp. 98-100; S. Rosen blatt, “The
Crucifixion of Jesus from the Standpoint of Pharisaic Law”, JBL 75 (Dec.
1956), pp. 315-321.

([24]) راجع المقدِّمة صفحة 63.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس د دساو و

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي