الإصحَاحُ الثَّانِي

 

مخافة
الله فى المحنة

1 يا
بُنَيَّ، إِن أَقبَلتَ لِخِدمَةِ الرَّبِّ فأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلمِحنَة. 2
أَرشِدْ قَلبَكَ واصبِرْ
ولا تَكُنْ قَلِقًا في وَقتِ
الشِّدَّة. 3 تَمَسَّكْ بِه ولاتَحِدْ
لِكَي
يَرتَفعِ شَأنُكَ في أَواخِرِكَ. 4 مَهْما نابَكَ فاْقبَلْه كنْ صابِرًا على
تَقلُباتِ حالِكَ الوَضيع 5 فإِنَّ الذَّهَبَ يُمتَحَنُ في النَّار والمَرضِيِّينَ
مِنَ النَّاسِ في أتّونِ الذُّلّ.

 

قد يبدو للوهلة الأولى
أن المقصود بهذه الأعداد هو تشجيع وتقوية اليهود الذين يتعرضون للضغط العقيدى
الوثنى الذى سببته الحضارة الهيلينية، وبالتالى فإن كل من أراد التخلى عن
الهيلينية والسير بموجب الشريعة كان يعرض نفسه للإضطهاد والآلام من قبل الحكام
الإغريق، ومما لاشك فيه أن الشيطان يعمل بكل وسيلة لإضعاف علاقتنا بالله.

 

و قد عالجت الأسفار
المقدسة هذه الفكرة فى العديد من المواضع لاسيما سفر المزامير، إذ يهيىء الكتاب كل
من يتبع الله لمواجهة محتملة مع أعوان الشيطان. إن ذلك يأتى عن طريق الإلتصاق
بالله والتمسّك بكلمته، ومع ذلك فالصبر على الضيقات – إلى المنتهى – هو شرط ضرورى
للخلاص.

 

إن الله لم يخف عنا هذه
الحقيقة، بل قال لتلاميذه
"اِذْهَبُوا. هَا
أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ.
" (لوقا 10 : 3) وقال كذلك "وَقَبْلَ هَذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ
وَيَطْرُدُونَكُمْ وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ وَتُسَاقُونَ
أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي
فَيَؤُولُ
ذَلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً.. وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ.. وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ.
وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي
" (لوقا 21 : 12، 13، 16، 17)

 

بل علينا أن نفرح فى
الآلام ونسّر بالضيقات برجاء من يصبر حتى ينال المكافأة وإيمان من يحسب أنه خاطىء
مستحق للضربات
" اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ
فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ
صَبْراً.
" (يعقوب 1 : 2, 3) راجع
أيضاً (بطرس الأولى 4 : 12) و(رومية 5 : 3) و(يعقوب 1
: 2 – 4
) وللتجربة التى سمح بها الله محوران : أولهما التأديب الإلهى حيث
يظهر ذلك فى مواضع عدة مثل (أمثال 3 : 11، 12
(أيوب 5 : 17)، (عب
12 : 7 – 11
) وثانيهما الإختبار والتزكية مثلما ورد ذلك فى
(آية
5)،

(أمثال 13 : 7)، (زكريا
13 : 9
) ولكنه وفى كلتا الحالتين فإن كل ما يأتى من يد الله المحبة نقبله
بفرح وصبر " مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ
يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي
فِي عَرْشِهِ.
" (رؤية 3 : 21).

 

و يقول القديس أغسطينوس
تعليقاً
على هذه الفقرة : " كن صبوراً ونحمل المحن التى
تتعرض لها فى طريقك للوصول إلى الله، فإن الذين يصبرون فى الضيق بشكر يقبلهم الله
."

و يكمل قائلاً: " إن نار التجارب والصعوبات إنما تخرج رجالاً أشداء فى الإيمان،
فهى قد تكون مؤلمة ولكنها تولد الأشداء لأنهم يرتكزون على أساس قوى
."
1.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كتاب الحياة عهد قديم سفر المزامير 38

 

6 تَوَكَّلْ
علَيه يَنصُرْكَ وقَوَمْ سُبُلَكَ وأجعَل فيه رَجاءَكَ. 7 أيها المُتَّقونَ
لِلرَّبَ انتَظِروا رَحمَتَه ولا تَحيدوا لِئَلاَّ تَسقُطوا أيها المُتَّقونَ
لِلرَّبِّ آمِنوا به فلا يَضيعَ أَجرُكُم. 9 أيَّها المُتَّقونَ لِلرَّبَ اْرْجوا
الخَيراتِ والفَرَحَ الأَبَدِيَّ والرَّحمَة. 10 إِعتَبِروا الأَجْيالَ القَديمةَ واْنظُروا:
هلِ تَوَكَّلَ أَحَدٌ على الرَّبِّ فخَزِيَ؟ أَو هل ثبت على مَخافَتِه فخُذِلَ؟ أو
هَل دَعاه فاْزدَراه؟ 11 فإِنَّ الرَّبَّ رؤَوفٌ رَحيمٌ يَغفِرُ الخَطايا ويُخَلِّصُ
في يَومِ الضَيق. 12 ويلٌ لِلقُلوبِ الهيَابَةِ وللأَيدي المُتَراخِيَة وللْخاطئ
الَّذي يَمْشي في طَريقَين. 13 وَيلٌ لِلقَلبِ المُتَواني لأَنَّه لا يُؤمِنُ
ولذلِك لا حِمايَةَ لَه. 14 وًيلٌ لَكُم أيُّها الَّذينَ فَقَدوا الصَبرَ فماذا
تَصنَعونَ يَومِ اْفتِقادِ الرَّب؟

 

يمكننا أن نضع لهذه
الفقرة عنواناً هو
"الصبر فى الشدة يعين على
الخلاص منها
" وهو قول لأحد الآباء المذكورين فى بستان الرهبان، فكل من
يثق فى الله يجعل الله من نفسه عائلاً وضامناً له ومسئولاً عنه، حتى لو أحاطت به
التجارب والضيقات من كل جهة، لقد أحاطت النيران بالفتية الثلاثة ولكن الله صار لهم
واقياً وساتراً فعبروا تلك الضيقة بسلام، وغيرهم مثل دانيال وأيوب والرسل، أنظر كيف
صبر نوح على هزء وسخرية جيله ولوط البار كيف كان كمازح فى أعين أصهاره ولكن الله
أنقذه من الخطر المحدق بسدوم وعمورة، هكذا كل من يتكل على الله
"اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْناً فِي الضِّيقَاتِ
وُجِدَ شَدِيداً.
" (مزمور 46 : 1) راجع أيضاً (سيراخ 34 :
11 – 17
)، " تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ
بِكُلِّ قَلْبِكَ وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ. فِي كُلِّ طُرُقِكَ اعْرِفْهُ
وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ.
" (أمثال 3 :
5، 6
)، "اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ
الْخَيْرَ. اسْكُنِ الأَرْضَ وَارْعَ الأَمَانَةَ، سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ
وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي
" (مزمور
37 : 3، 5
).

 

وجدير بالملاحظة أن
الشيطان ينتهز فرصة ضعف الإنسان فى أثناء التجربة ومن ثم يشدّد عليه الحرب علّه
يصطاده باليأس أو صغر النفس، ومن هنا يحذر إبن سيراخ
"انتَظِروا رَحمَتَه… ولا تَحيدوا لِئَلاَّ تَسقُطوا "
ولنا فى ذلك أمثلة لا حصر لها من خلال الكتاب والتاريخ عن عمل الله مع أولاده.

 

إن الخبرة الثابتة هى :
هلِ تَوَكَّلَ أَحَدٌ على الرَّبِّ فخَزِيَ؟ لقد
ترك لنا داود النبى على وجه الخصوص هذه الخبرة، وهو الذى جاز آتون التجارب والضيقات
وأحاط به أعداء كثيرون حين قال
"كُنْتُ فَتىً
وَقَدْ شِخْتُ وَلَمْ أَرَ صِدِّيقاً تُخُلِّيَ عَنْهُ
" (مزمور 37 : 25)
وحقيقى أن وعود الله
صادقة وحقيقى أيضاً أن الله يترك لأولاده ثم يحّول كل النتائج للخير، ولكن الأبرار
(متقى الرب) والذين يثقون فى عناية الله يجدون التعزية فى الآلام بسبب الرجاء
"عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ.
إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجُوا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزُوا." (مزمور 22 : 4، 5). راجع أيضاً (أيوب 4 : 7) " اُذْكُرْ
مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ وَأَيْنَ أُبِيدَ الْمُسْتَقِيمُونَ؟
".

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القمص تادرس يعقوب عهد قديم سفر يهوديت 12

 

يقول القديس يوحنا ذهبى
الفم معلقاً
: " لنتعلّم كيف نحتمل دون
تذمر أو إستنكار لما يحدث لنا فإن الله يعرف ما هو خير لنا. وعلينا أن نحتمل
البلية بشكر، وحينئذ ستلحقنا البركات، فلنخضع لكل ما يأتى علينا شاكرين الله على
كل شىء فهو يعلم ما هو الصالح لنا أكثر مما نعرف نحن. وهو يحبنا أكثر من الأب والأم.
ولتكن هذه الإعتبارات أغنية نتغنى بها لأنفسنا فى وقت الضيقة حتى نطرد اليأس ونمجد
الله فى كل شىء
"
2.

 

ثم يوبخ إبن سيراخ
أولئك الذين يسيرون فى طريقين، أى أن لهم الإيمان اليهودى والسلوك الإغريقى، وينصحنا
الآباء بأن يكون لعقلنا إتجاه واحد، إن محاولة الجمع بين الله والعالم ليست
مرفوضة، بمعنى أن الإنسان يشهد لله وهو فى العالم ويعمل كسفير للمسيح بين الناس، ولكن
الخطر فى الإزدواجية. أى إستخدام معيارين، أو السلوك مرة كإنسان العالم وأخرى
كخادم للمسيح، إن هذه الإزدواجية لها نتيجة حتمية ألا وهى التكريس الكامل للعالم
بعد حين، والتخلى عن السير وراء المسيح، فإن الإنسان يميل بطبيعته إلى الفساد، وأما
القلب المؤمن فإنه لا يخاف ويقتنى حياة صالحة وعلاقة حية مع الله،
أما الهيّاب (الشكاك) فإنه لا يجنى سوى الخطية والهلاك" ويلٌ لِلقُلوبِ الهيَابَةِ وللأَيدي المُتَراخِيَة وللْخاطئ
الَّذي يَمْشي في طَريقَين
." راجع (سيراخ 2 : 12).

 

وأخيراً ماذا يصنع
الأشرار فى يوم المواجهة يَومِ الاْفتِقادِ
مع الله، إنه حتماً سيجىء فكيف يثبتون أمام وجهه وإلى أين يختفون؟. أما الأبرار
فإنهم يرجون هذا اليوم وينتظرونه بشوق وفرح، فى أقوال سيراخ هذه فيها ردّ على
القائلين بأنه يركز على المكافأة الزمنية فقط وأنه يفتقد إلى البعد الإسخاطولوجى (الآخروى)
إذ يقول
"
أيَّها المُتَّقونَ لِلرَّبَ اْرْجوا الخَيراتِ
والفَرَحَ الأَبَدِيَّ والرَّحمَة
…". هناك أمران بهما تتقوى الإرادة،
التفكير فى الدينونة والتفكير فى الملكوت فالواحد يردع عن فعل الخطية والآخر يحفز
نحو الجهاد، قال أب " أذكر ملكوت السموات لتتحرك فيك شهوتها. أذكر نار جهنم
لتمقت أعمالها ".

 

هذا وقد أورد القديس
أغسطينوس

هذه الآية فى صدد حديثه عن الصبر وأهميته وخطورة فقدانه والتى قد تؤدى إلى التجديف
على أسم الله
3.

 

15 إٍن
المُتّقينَ لِلرَّبَ لا يَعصونَ أَقْوالَه والمُحِبِّينَ لَه يَحفظونَ طرقَه. 16
إن المُتَقينَ لِلرَّبَ يَبتَغونَ مَرْضاتَه والمُحِبِّينَ لَه يَشبَعونَ مِنَ
الشَّريعَة 17 إِنَ المُتَقينَ لِلرَّبِّ يُهَيِّئونَ قُلوبَهم ويُذِلُونَ
نُفوسَهم أَمامَه. 18 لِنَقع في يَدَيِ الرَّبِّ لا في أَيدي النَّاس لأَن
رَحمَتَه على قَدْرِ عَظَمَتِه.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس تفاسير أخرى عهد قديم سفر الجامعة حشمت كمال 06

 

فى المقابل فإن أولاد
الله يحبونه ويحبون شريعته ويفخرون بها ويحيون بمقتضاها, فتصير لذة "وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي
لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي
" (إرميا
15 : 16
) ومحبة الله مقترنة بحب الوصية والحياة بها، إذ أن تبعية الحياة
ليست شعاراً وليست من نوع القبلية أو التحزب ولكنها إنصهار فيه وتجاوب مع وصاياه "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ… اَلَّذِي
عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي وَالَّذِي
يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي… اَلَّذِي
لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي.
" (يوحنا
14 : 15، 21، 24
) وهكذا محبة المسيح وتبعيته من خلال الوصية. هى إشتراك فى
الثالوث القدوس " شركاء الطبيعة الإلهية فى العمل وقداسة الحق".

 

إن صمام الأمان هنا هو
أن الوقوع فى يد الله خير من الوقوع فى يد الإنسان. لأن الله رحوم ولا يخزى
المتوكلين عليه، وهو خيّر وصالح، ولذلك فقد إختار داود النبى أن يقع فى يد الله
لأن مراحمه كثيرة
" فَلْنَسْقُطْ فِي يَدِ
الرَّبِّ لأَنَّ مَرَاحِمَهُ كَثِيرَةٌ وَلاَ أَسْقُطْ فِي يَدِ إِنْسَانٍ
"
(صموئيل الثانى 24 : 14).

 

هذا وقد إختارت الكنيسة
هذا الإصحاح من السفر لتتلوه على الراهب فى يوم سيامته لكى تنبه ذهنه إلى أن
الطريق ملىء بالتجارب والضيقات، وأنه طريق شاق شاق وطويل طويل، وكما يحسب ترك
الراهب للعالم تجرّد لقتال الشيطان، فإن الشيطان فى المقابل يتجرد لقتاله أضعاف
قتاله فى العالم فيشككه فى الطريق ويحاربه بالملل، ويجاهده كثيراً من حيث الأفكار
والخيالات، ومن هنا تضع الكنيسة العلامة الأولى الواضحة للطريق، ألا وهى بأنه قد
صار هدفاً للشيطان الذى سيتفنن فى إيذائه ومضايقته.

 

و كما تحسب الرهبنة مثل
المعمودية
4،
فإن المعمد بجحده للشيطان يخرج من مملكته (إذ وقعنا فى أسر إبليس بسقطة آدم) فإن
الشيطان يصبح العدو الأول للإنسان، كذلك فى الرهبنة يحدث هذا.

 

من هنا فعلى الراهب
التّمسك بصلاحه وحفظ الوصية والأمانة فى الطريق، ومن ثم فالله لن يتخلى عنه، كما
وقف مع آبائه وأجداده قديماً، وله (أى للراهب) فى ذلك الخبرة المودعة لنا فى تراث
الآباء القديسين.



1 Nicene and post Nicene Fathers, V.3 , P. 531 , 259.

2 N & P. Nicene فى تعليقه على إنجيل متى صفحة 67

3 Ibid, v.3 , p. 530

4 يقول القديس أنطونيوس "
رأيت الروح الحال على المعمودية حالاً على إسكيم الرهبنة " , كما قال أنه سمع
صوتاً يقول لا تحاسبوا الراهب إلا منذ دخوله إلى الرهبنة. إذ تحسب الرهبنة كتوبة
المعمودية.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي