الإصحَاحُ الثَّالِثُ

 

مسئوليتنا
نحو الوالدين

1 يا
بَنِيَّ اسمَعوا لي أَنا أَبوكم واعمَلوا هكذا لِكَي تَخلُصوا 2 فإن الرَبَ
أَكرَمَ الأَبَ في أَولادِه وأًثبَتَ حَق الأمِّ على بَنيها. 3 مَن أكرَمَ أَباه
فإِنَّه يُكَفر خَطاياه 4 ومَن عَظمَ أُمَّهَ فهو كَمُدَّخِرِ الكُنوز. 5 مَن
أَكرَمَ أَباه سر بِأَولادِه وفي يَومَ صَلاتِه يُستَجابُ لَه. 6 مَن عَظَّمَ
أَباه طالَت أيَامُه ومَن أَطاعَ الرَّبَّ أَراح أُمَّه. 7 ويَخدُمُ والِدَيه
كأنهما سَيِّدانِ لَه. 8 في العَمَلِ والقَولِ أكْرِمْ أباكَ لِكَي تَنزِلَ
عَلَيكَ البَرَكةُ مِنه. 9 فانَّ بَرَكَةَ الأَبِ تُوَطِّدُ بُيوتَ البَنين ولَعنَةَ
الأُمِّ تَقلعُ أُسُسَها. 10 لا تَفتَخِرْ بهَوانِ أَبيكَ فإِنَّ هَوانَ أًبيكَ
لَيسَ فَخراً لَكَ 11 بل فَخرَ الإنْسانِ بِكَرامَةِ أَبيه ومَذلَةُ الأمِّ عارٌ
لِلبَنين. 12 يا بُنَىَّ، أَعِنْ أباكَ في شَيخوخَتِه ولا تحزِنْه في حَياتِه. 13
كُنْ مُسامِحاً وإن فَقَدَ رُشدَه ولا تُهِنْه وأَنتَ في كُل قوتكَ. 14 فانَّ
الإحسانَ إلى الأبِ لا يُنْسى وُيعوَضُ به عن خَطاياكَ. 15 في يَومِ ضيقِكَ تُذكَر
وكالجَليدِ في الصًّحْوِ تَذوب خَطاياكَ. 16 مَن خَذَلَ أباه كانَ كالمُجَدّف
ومَن
أَغاظَ أمَّه فلَعنَةُ الرَّبً علَيه.

 

إنها أنشودة رائعة.
خليق بكل بيت مسيحى أن يكتبها على لوح يثبته فى حائط بيته، هذا وقد تحدث الكتاب
المقدس كثيراً عن كرامة الأب والأم وإكرامهما.

 

و يقول الربيين اليهود –
تعليقاً على وصية أكرم أباك وأمك – أنه وقبل السبى البابلى كانت العلاقة قد ساءت
فيما بين الوالدين والأولاد بشكل عام، حتى إستحق إسرائيل لأنه لم يحفظ تلك الوصية
والتى ترتبط بالبقاء طويلاً فى أرض الموعد، وينقل لنا العهد الجديد صورة مؤسفة
لهذا التنكّر من قبل الأبناء، ففى إنجيل معلمنا متى يرد
"مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ الَّذِي
تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلاَ يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ.
" (متى 15 : 5) وفى إنجيل معلمنا مرقس "إِنْ قَالَ إِنْسَانٌ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ أَيْ
هَدِيَّةٌ هُوَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي
فَلاَ
تَدَعُونَهُ فِي مَا بَعْدُ يَفْعَلُ شَيْئاً لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ.
" (مرقس 7 : 11، 12) والمعنى
هنا أنه إذا خصص الإبن ما يجب عليه مساعدة والديه به كهدية للهيكل أو تقدمة، عندئذ
يسقط حق أبويه فى ذلك، وهذا بإيعاز من رؤساء الكهنة، ولكن الكتاب يقول صراحة
"الْمُخَرِّبُ أَبَاهُ وَالطَّارِدُ أُمَّهُ هُوَ
ابْنٌ مُخْزٍ وَمُخْجِلٌ.
" (أمثال 19 :
26
) راجع أيضاً "وَمَنْ شَتَمَ ابَاهُ اوْ امَّهُ يُقْتَلُ قَتْلا."
(خروج 21 : 17) و"اَلْعَيْنُ الْمُسْتَهْزِئَةُ بِأَبِيهَا وَالْمُحْتَقِرَةُ
إِطَاعَةَ أُمِّهَا تُقَوِّرُهَا غِرْبَانُ الْوَادِي وَتَأْكُلُهَا فِرَاخُ
النَّسْرِ.
" (أمثال 30 : 17).

 

إن النص هنا لا يحتاج
إلى شرح، فهو مشروح ومُفصل، وحسبنا هنا فقط بعض التعليقات من أجل اكتمال المعنى وذلك
من خلال ربطه بمواضع أخرى فى الكتاب المقدس.

 

فى الجزء
الأول (1 – 9)
يقدم
سيراخ نصائحه فى صيغة إيجابية، بينما يقدمه فى صورة سلبية فى الأعداد
(10
– 16) و
ليس
لنا حاجة هنا إلى شرح كيف يتخذ الجهاد الروحى عموماً هذين الإتجاهين. الإيجابى
بالنمو فى معرفة ربنا يسوع المسيح وإقتناء الفضائل نتيجة لذلك، والآخر سلبى
بالجهاد ضد الخطية للتخلصّ من العادات الرديئة التى تعوق المسيرة نحو الله، وقد
تسلمنا من الآباء أن التركيز على الجانب الإيجابى أهم وأفضل، إذ من شأنه أن يجعل
الخطية تضمر وتضعف..

 

و فى هذه السيمفونية
الممتعة يصرّ ابن سيراخ على حق الأم مثل الأب، وكأنه يتحدث عن حقوق المرأة
مبكرا
ً !! وذلك فى وقت لم تكن هناك حقوق تذكر للمرأة اليهودية، فلم تكن تحسب
فى التعداد وفى كثير من الأحوال كانت تعتبر كقطعة أثاث ! ويظهر ذلك جلياً فى
التلمود.

 

و من هنا يمثل ابن
سيراخ مرحلة تطور ما بعد السبى، حيث أصبح اليهود أكثر إنفتاحاً وسعة من حيث الأفق
اللاهوتى والروحى، حقيقى أن هناك إشارة إلى ذلك فى سفر اللاويين
" تَهَابُونَ كُلُّ انْسَانٍ امَّهُ وَابَاهُ وَتَحْفَظُونَ
سُبُوتِي.
" (لاويين 19 : 3) راجع
أيضاً"اِسْمَعْ يَا ابْنِي تَأْدِيبَ أَبِيكَ وَلاَ
تَرْفُضْ شَرِيعَةَ أُمِّكَ
" (أمثال 1 :
8
) و"يَا ابْنِي احْفَظْ وَصَايَا أَبِيكَ
وَلاَ تَتْرُكْ شَرِيعَةَ أُمِّكَ.
" (أمثال
6 : 20
) ولكنها هنا بأكثر وضوح مع التشديد مع ربطها بالوعود والبركات من
جهة وبالتحذيرات من مخالفتها من جهة أخرى
مَن أكرَمَ
أَباه فإِنَّه يُكَفر خَطاياه.

 

ليس هنا علاقة ما بين إكرام
الوالدين فقط وغفران الخطايا، أو عمل الصدقة ومغفرة الخطايا كما ورد فى
" شأنَ الَّذينَ يَعمَلونَ بِالبِرّ. تَصَدَّقْ مِن مالِكَ ولا
تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير، فوَجْهُ اللهِ لا يُحوَّلُ عنكَ. تَصَدَّقْ بِما
عِندَكَ وبِحَسَبِ ما يَتَوفَّرُ لَكَ. إِن كانَ لَكَ كَثير فآبذُلْ كَثيراً، وإِن
كانَ لكَ قَليل فآبذُلْ قليلاً، ولكِن لا تَخَفْ أَن تَتَصَدَّق. فإِنَّكَ
تَذَّخِرُ لَكَ كَنْزاً حَسَناً إِلى يَومِ العَوَز. لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنقِذُ
مِنَ المَوت ولا تَدَعُ النَّفْسَ تَصيرُ إِلى الظُّلمَْة. الصَّدَقَةُ تَقدِمةٌ
حَسَنَةٌ لِجَميعِ صانِعيها أَمامَ العَلِيّ
" (طوبيا 4 : 7 – 11) سوى
أن الفضيلة تعبر عن قلب قبل الخلاص كما عبّر عن ذلك القديس يوحنا ذهبى
الفم
عندما قال " إن الصدقة فى حد ذاتها
لا تغفر الخطايا ولكنها تعبر عن قلب قبل الخلاص
" والفضائل
المسيحية عموماً تعبر عن قلب تائب، قلب يسكن فيه الله. وهو من نفس المعنى الذى يعود
إبن سيراخ فيؤكده فى الأعداد
(13، 14) وكذلك فى حديثه عن
الصدقة فى آيتي
(30، 31)، ويمكننا أن نجد صدى
لذلك فى وقت سابق "بِالرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ
يُسْتَرُ الإِثْمُ وَفِي مَخَافَةِ الرَّبِّ الْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ
"
(أمثال 16 : 6) وكذلك
فى سفر دانيال "فَارِقْ خَطَايَاكَ بِالْبِرِّ
وَآثَامَكَ بِالرَّحْمَةِ لِلْمَسَاكِينِ لَعَلَّهُ يُطَالُ اطْمِئْنَانُكَ
"
(دانيال 4 : 27).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ إفريز أفاريز ز

 

و قد حفظ لنا الحق
الكتابى ذلك التوازن ما بين عمل النعمة فى الإنسان ومواهب الله المجانية من جهة، وبين
جهاد الإنسان وأعماله الحسنة من جهة أخرى، يؤكد إبن سيراخ على ضرورة الندم والتوبة
الحقيقية كشرط للغفران
"كذلك الإِنْسانُ
الَّذي يَصومُ عن خَطاياه ثُمَّ يَعود يَرتَكِبُها مَن يَستَجيبُ صَلاتَه وماذا
يَنفَعُه تَواضُعُه؟
(سيراخ 34 : 26)"
راجع أيضاً " لا تَكُنْ واثِقًا مِن نَيلِ
الغُفْران حَتَّى تَزيدَ خَطيئَةً على خَطيئَة. ولا تَقُلْ: ((رَحمَتُه عَظيمة
فيَغفِرُ كَثرَةَ خَطايايَ)) فإِنَّ عِندَه الشَّفَقةَ والغَضَب وسُخطُه يَحِلّ
على الخاطِئين.
(سيراخ 5 : 5، 6) "
و" حينئذ اوصاني خالق الجميع. والذي خلقنى أقّر خيمتى وقال انصبى
خيمتك في يعقوب ورثي في اسرائيل قبل الدهور ومنذ البدء خلقنى وإلى الدهور لا أزول
(سيراخ 35 : 3) "
. وفى العهد الجديد
يؤكد معلمنا بولس الرسول ذلك من خلال رسائله، راجع
" إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ
النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً
بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ
النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا.
"
(غلاطية 2 : 16) و"لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ،
وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ
. لَيْسَ
مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.
" (أفسس 2 : 8، 9).

 

لقد أساء البعض فهم تلك
الفكرة، فإهتموا فقط بتقديم الأموال بطريقة تجلب لهم المديح والشهرة من الآخرين،
إلى أن وصلت إلى أسوأ صورها فى شكل صكوك الغفرانات فى الكنيسة الكاثوليكية فى
العصور الوسطى.

 

أمّا بر الأولاد
بأبائهم فيعكس مخافة الله التى فيهم وعرفانهم بالجميل، لاسيما عندما يشيخ الوالدان
حيث يحتاجون إلى مزيد من العطف والإهتمام، إذ يصبحون مثل الأطفال الذين يحتاجون
إلى التدليل. وعلى الأولاد أن يستحوا من والديهم حتى إذا فقد الأخيرون تركيزهم وذاكرتهم
وبدوا وكأنهم فقدوا رشدهم، أو ألّم بهم واحد من أمراض الشيخوخة مثل ضعف العقل، فمن
جهة نحن لا ننسى كل ما قدموه لنا ومانزال صغاراً، ومن جهة أخرى ندرك أننا بدون
أدنى شك سنمر بما يمرون هم به ولو بعد حين عندما نكبر ونشيخ، ومن الجهة الثالثة
فكما حملونا ونحن صغار ضعفاء، علينا أن نحملهم وهم شيوخ ضعفاء.

 

إننا آسفون لأن الكثير
من الأولاد والبنات الآن يتخلون عن آبائهم وأمهاتهم، حيث لا يجد هؤلاء ملاذاً لهم
سوى فى خادمة طيبة أو بيوت مسنين مكلفة مالياً، حيث يصبح الأم أو الأب العجوز هدفاً
للهواجس والآلام النفسية بسبب تنّكر الأولاد لهم فيسحقهم الفكر وتؤلمهم الوحدة.

 

و على الأباء والأمهات
حين يكبرون أن يحتفظوا بوقارهم وعدم التدخل فى شئون أولادهم محترمين إستقلالهم
مكتفين بحياتهم بينهم قانعين بتلك السكنى وحينئذ تحفظ لهم كرامتهم ولا يضيق بهم
أحد، عليهم كذلك أن يربوا أولادهم على إحترام الجد والجدة وتقديرهما، فإنه يمكن
الإستفادة كثيراً من وجودهما فى المنزل من نصح مخلص إلى أعمال مختلفة يحلو للمسنين
القيام بها مخففين بذلك عن كواهل الأب والأم الشابة حتى يتفرغا هما للأعمال الجسام
سواء فى أعمالهما خارج المنزل أو داخله.

يقول القديس يوحنا ذهبى
الفم
معلقاً
على ذلك : "من له أب أو أم مهما كانت أخطائهما
فليكتمها لأنه مكتوب
لا تَفتَخِرْ بهَوانِ أَبيكَ
كن موقراً له حتى ولو فقد رشده وإن كان هذا قد قيل عن الأباء
الجسديين فكم يكون مع الأباء الروحيين؟
" 1.

 

"وَبَارَكَ يُوسُفَ وَقَالَ: «اللهُ الَّذِي سَارَ امَامَهُ
ابَوَايَ ابْرَاهِيمُ وَاسْحَاقُ – اللهُ الَّذِي رَعَانِي مُنْذُ وُجُودِي الَى
هَذَا الْيَوْمِ – الْمَلاكُ الَّذِي خَلَّصَنِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُبَارِكُ
الْغُلامَيْنِ. وَلْيُدْعَ عَلَيْهِمَا اسْمِي وَاسْمُ ابَوَيَّ ابْرَاهِيمَ
وَاسْحَاقَ. وَلْيَكْثُرَا كَثِيرا فِي الارْضِ»
" (تكوين 18 : 15، 16) أمّا البركة التقليدية التى
يهبها الآباء لأبنائهم عند رقادهم " فَلْيُعْطِكَ
اللهُ مِنْ نَدَى السَّمَاءِ وَمِنْ دَسَمِ الارْضِ وَكَثْرَةَ حِنْطَةٍ
وَخَمْرٍ.لِيُسْتَعْبَدْ لَكَ شُعُوبٌ وَتَسْجُدْ لَكَ قَبَائِلُ. كُنْ سَيِّدا
لاخْوَتِكَ وَلْيَسْجُدْ لَكَ بَنُو امِّكَ. لِيَكُنْ لاعِنُوكَ مَلْعُونِينَ
وَمُبَارِكُوكَ مُبَارَكِينَ».
" (تكوين
27 : 28، 29
) راجع أيضاً الكلمات الأخيرة الموجهة من يعقوب إلى بنيه الإثنى
عشر (تكوين 49) وكذلك بركة موسى لبنى إسرائيل (تثنية 33).

 

و لعل إبن سيراخ قد عاد
ليؤكد ذلك لاعتباره أن إستقرار البيت الجديد من عدمه، سيتوقف على بركة الأب والأم
له أو لعنتهم
(آية 9).

 

الإتضاع

17 يا
بُنَيّ اقْضِ أَعْمالَكَ بِالوَداعة فيُحِبَّكَ الإنْسان المَرضِي عنه. 18 إِزْدَد
تَواضُعًا لما ازدَدتَ عَظَمَةً فتَنالَ حُظوَةً لَدى الرَّب. 20 لأَنَّ قُدرَةَ
الرَّبَ عَظيمة والمُتَواضِعونَ يُمجِّدونَه. 21 لا تَطلُبْ ما يَتعَذَُّر عَليكَ ولا
تَنظُرْ في ما يَتجاوَُز قُدرَتَكَ. 22 بل تأَمَل في ما أُمِرتَ بِه فلا حاجَةَ
لَكَ إلى الأمورِ الخفِيَّة. 23 ما جاوَزَ أَعْمالَكَ لا تُكثِرِ الاْهتمام بِه لأَنَّ
ما كُشِفَ لَكَ يَفوقُ إِدْراكَ الإِنْسان 24 فإِنّ كَثيرينَ قد أَضلَّهم
تَأَمّلهم وزَلَّت أَفكاُرهم بِتَصَوّرِهمِ الفاسِد.

 

إن أقوال هذا السفر خليقة
بأن تحفظ عن ظهر قلب، فكل آية منها هى دّرة وعنوانٌ يحمل فى طياته العديد من
المفاهيم الراقية والتعاليم المسيحية، ويمكننا أن نضع لهذه الفقرة عنواناً هو قول
لأحد القديسين
: "الإتضاع خلص كثيرين بلا تعب"
وليس بمستبعد أن تكون أقوال الأباء عن الإتضاع متأثرة بسفر يشوع إبن سيراخ.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس أ أمفي ي

 

تأتى اللآية (17)
فى
النص العبرى بمعنى " تصرف فى مالك بوداعة. إن ذلك أفضل من أن تعطى الهبات
" بمعنى أن الرجل الثرى المتضع هو أفضل بكثير ممن يعطى الصدقة بافتخار.

 

تأتى الآية (18)
تربط
بين عظمة والإتضاع فهو لا يقصد فقط ضرورة التمسّك بالإتضاع كلما ارتفع الإنسان، وإنما
العظمة الحقيقية تكمن فى الإتضاع، إن الله يهب المتواضعين نعمة بينما يقاوم
المستكبرين
"وَلَكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذَلِكَ يَقُولُ:
«يُقَاوِمُ اللَّهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ
نِعْمَةً».
" (يعقوب 4 : 6) و"كَذَلِكَ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ اخْضَعُوا لِلشُّيُوخِ،
وَكُونُوا جَمِيعاً خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا
بِالتَّوَاضُعِ، لأَنَّ اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا
الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً.
" (بطرس الأولى 5 : 5).

 

لقد تغطرس آريوس بعلمه
فهلك به وفارقته نعمة الله وتشامخ شاول الملك ففارقه روح الرب، وأغنياء كثيرون
أفقهم كبرياءهم غناهم ومجدهم، إن المال ليس مدعاة لتصلّف. فإن كثير من اللصوص
يمتلكون المال !!.

 

"فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ
يَسُوعَ أَيْضاً
: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ
يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ
. لَكِنَّهُ
أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ
.
وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ
وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ.
" (فيليبى 2 : 5 – 8).

 

و يقول القديس أغسطينوس : "إننى أعتقد أن أى أسقف أو شهيد ممن كانوا عظماء متواضعين. قد
وجدوا نعمة (حظوة) لدى الرب مما لا ينطق به أو يخطر على قلب، وعلينا أن ننتظر
المكافأة من المسيح الذى يعطى كل واحد بحسب أعماله
"
2.

 

أما القديس يوحنا فم
الذهب
فيعلق على الفكرة قائلاً
3: " إن قصة غسل أرجل التلاميذ من
قبل الرب هى أروع مثال فى هذا الصدد
".

" فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ لَيْسَ
كَثِيرُونَ حُكَمَاءُ حَسَبَ الْجَسَدِ. لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءُ. لَيْسَ
كَثِيرُونَ شُرَفَاءُ. بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ
الْحُكَمَاءَ وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ
وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ
لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ.
"
(كورنثوس الأولى 1 : 26 – 29).

 

العلم والإتضاع
:

العلم ينفخ ما لم يقرن
بالإتضاع وهو ما يجب أن يتحلى به العلماء حتى لا يهلكوا بعد أن ينفعوا كثيرين، كما
أن الفضيلة عندما تقترن بالعلم (الفهم السليم) تعطيه بعداً أفضل " بعداً
إختبارياً " طوبى لمن عمل وعلم " كما يجب على العلماء ألا يرتئوا فوق ما
ينبغى وإنما إلى التعقل، ومهما وصل الإنسان إلى أسمى درجات العلم فإنه لن يصل إلى
كل ما يريد. فإن الله يعلن لعبيده، ما يريد هو أن يهبه لهم وليس أكثر، فالله هو
مصدر كل معرفة، ومن ذا الذى يستطيع أن يصل إلى أعماق الله!

 

بل على العلماء أن
يتأملوا فى وصايا الله "
تأَمَل في ما أُمِرتَ بِه "
فالعالم هو الذى يعرف كل شىء عن كل شىء، أمّا الله فهو الذى يعرف كل شىء عن كل شىء
"لسَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا وَالمُعْلنَاتُ لنَا
وَلِبَنِينَا إِلى الأَبَدِ لِنَعْمَل بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ
"
(تثنية 29 : 29).

 

و يقول القديس أغسطينوس أنه خليق
بنا ألا نفكّر فى الأمور اللاهوتية التى هى أعلى منا لئلا نتعثر ونخطىء إذ يقول
القديس بولس الرسول "مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ
الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ!
" (رومية 11 : 33)
4.

 

و يضيف قائلاً أنه لا
يوجد حذر من أن تكون هناك بعض الأمور غامضة دون أن يستطيع الإنسان استيعابها أو
القيام بها، ويجب على الإنسان أن يعلم مدى قدرته ويدرك مدى امكانياته
5.

 

و يعلق يقول القديس
يوحنا ذهبى الفم
قائلاً : "لقد حذرنا
إبن سيراخ من ذلك أى البحث فيما يفوق إدراكنا، مثل الإنسان الذى يعانى من الضيقة ويود
معرفة السبب، لأنه وحتى تلك الأمور التى تبدو بديهية فإنها قد تتخطىّ فهمنا والله
هو الذى يكشفها لنا وليس بذكائنا نكتشفها
"
6.

 

و قد أستشهد القديس
أغسطينوس
بهذه الآية كثيراً فى حديثه عن البتولية والإتضاع، فإن الذين وهبوا
حياتهم لله وعاشوا فى البتولية فى هذا العالم سوف يزدادون مجداً كلما ازدادوا
اتضاعاً، وعلى البتوليين أن يتحلوا بالإتضاع وألاّ يعتبروا أنفسهم أعظم من
المتزوجين، فإن المسيح وهو الإله علّم البشرية الإتضاع، حيث مات عنا، وعلى العذراء
التى وهبت حياتها لعريسها، ألا تظن أنها بذلك قد صنعت شيئاً عظيماً بل تتضع
ليرفعها الرب
7.

 

و فى حديث القديس
أنطونيوس
عن الصدقة يقول "لا تعطِ أكثر من
طاقتك ولا تُبق أكثر من حاجتك
" ويقصد هنا الاعتدال على المستويين.

 

و لكن ترى ما هى الأمورِ
الخفِيَّة
التى
يقصدها إبن سيراخ هنا: يرى بعض الشراح أنها قد تكون التخمينات الخاصة بالعقيدة
اليونانية مثل القوى الوسيطة، وإما أسرار الخلق أى ما هو سابق على خلقة العالم (قبل
التكوين 1) ولكن كيف للعقل المحدود أن يسع الحقائق غير المحدودة الخاصة بالله؟!، ويحتمل
أيضاً أن تكون بعض العقائد والحقائق والمفاهيم الخاصة التى كان يتوارثها الآباء
دون أن تدرّس فى مدارس الكتبة أو تنتشر، بل كانت مقصورة على قلة من النجباء فقط، ويرى
البعض أن هذه المعرفة هى ما يخص رؤى حزقيال فى الإصحاحين الأول والعاشر
"يَا رَبُّ لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي وَلَمْ تَسْتَعْلِ
عَيْنَايَ وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي.
"
(مزمور 131 : 1).

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ع عروعير 1

 

يعتبرالإصحاح الأول والعاشر
لسفر حزقيال من الإصحاحات القليلة القراءة والتفسير عند اليهود الأرثوذكس، بل أنهم
وضعوا لهما طقوساً خاصة وسنن معينة لا يتجاوزوها لأن هذان الإصحاحان يتكلمان عن
عرش الله تفصيلاً…

 

الكبرياء

26 القَلبُ
القاسي عاقِبتُه السوء والَّذي يُحِب الخَطَرَ يسقُطُ فيه. 27 القَلبُ القاسي
يُثَقَّلُ بِالمَشَقَّات والخاطِئ يَزيدُ خَطيئَةً على خَطيئَة. 28 داءُ
المُتَكَبِّرِ لا دَواء لَه لأَنَّ نَباتَ الشّرِّ قد تأَصَّلَ فيه. 29 قَلْبُ
العاقِلِ يتأَمَّلُ في المَثَل ومُنيةُ الحَكيمِ أُذُنٌ سامِعة. 30 الماءُ يُطفِئ
النَّارَ المُلتَهِبَة والصَّدَقَةُ تُكَفّرُ الخَطايا. 31 مَن يُقابِلُ
بالإِحْسانات يُفَكِّر ُفي ما هو بَعدَ ذلك وفي يَوِم سُقوطِه يَجِدُ سَنَدًا.

 

الإنسان القاسى سوف
ينال هنا ما يناسب قسوته، لأن ما يزرعه الإنسان أياه يحصد، ويقصد
بالخَطَرَ هنا
المجازفة الناشئة عن الثقة الزائدة بالنفس بمعزل عن الله وهذه هى الكبرياء بعينها،
فإنه يسقط فى الفخ ويجلب على نفسه أوجاعاً كثيرة
" طُوبَى لِلإِنْسَانِ الْمُتَّقِي دَائِماً أَمَّا الْمُقَسِّي
قَلْبَهُ فَيَسْقُطُ فِي الشَّرِّ.
" (أمثال
28 : 14
).

 

يقول القديس
أنطونيوس
معلقاً على عدم المجازفة فى الأخطار : "عندما تغفر لك الخطايا السابقة فاهرب لحياتك القادمة المحتملة، إن من يهرب
ينجو بحياته أمّا من يغامر فهو يكون كمن ينتحر، لماذا يخاطر الذى تعّمد وقام حياً
مع المسيح بقتل نفسه، لماذا من تحرر من مخاطر الحياة يزج بنفسه فيها؟ لماذا ندفع
بأنفسنا فى مخاطر يمكن تجنبها؟
"
8.

 

إن المشكلة فى ظن
الإنسان أنه أفضل من الكّل وبالتالى فهو غير محتاج لأن يسمع من الآخر، أن ذلك
يحرمه من سبل الإصلاح الذى يأتى من مشورة الحكماء، ومثل هذا الإنسان يتصّلف مع
الوقت حتى يتحصن ضد الحق !!.

 

على العكس من ذلك فإن
الحكيم يتأمل أقوال الآخرون ويسعى بشتى الطرق من أجل خلاصه ولو كان سيأتى عمن
يصغره سناً أو مكانة، ونحن نعرف كيف إستفاد القديس مكاريوس الكبير من صبى صغير
يرعى البقر، وكذلك من المرأتين الغريبتى الجنس، والقديس أنطونيوس كذلك قررّ الدخول
إلى البرية الجوانية بعد توبيخ فتاة مستهترة له، كما استفاد الديس موسى الأسود من
راهب صغير السن، هو القديس زكريا ابن قاريون، حين تقابل معه على البئر وسأله كيف
يخلص.

 

الختام :

يختتم ابن سيراخ
الإصحاح بالحثّ على عمل الخير ومقابلةالإساءة بالإحسان حيث سيذخر ذلك للخيرّ
مكافأة أبدية ويهيىء له غفران الخطايا راجع (تثنية 15
: 7 – 11
) " إِنْ كَانَ فِيكَ فَقِيرٌ
أَحَدٌ مِنْ إِخْوَتِكَ فِي أَحَدِ أَبْوَابِكَ فِي أَرْضِكَ التِي يُعْطِيكَ
الرَّبُّ إِلهُكَ فَلا تُقَسِّ قَلبَكَ وَلا تَقْبِضْ يَدَكَ عَنْ أَخِيكَ
الفَقِيرِ
بَلِ
افْتَحْ يَدَكَ لهُ وَأَقْرِضْهُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِليْهِ
.
احْتَرِزْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ قَلبِكَ كَلامٌ لئِيمٌ قَائِلاً:
قَدْ قَرُبَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ سَنَةُ الإِبْرَاءِ وَتَسُوءُ عَيْنُكَ
بِأَخِيكَ الفَقِيرِ وَلا تُعْطِيهِ فَيَصْرُخَ عَليْكَ إِلى الرَّبِّ فَتَكُونُ
عَليْكَ خَطِيَّةٌ
. أَعْطِهِ
وَلا يَسُوءُ قَلبُكَ عِنْدَمَا تُعْطِيهِ لأَنَّهُ بِسَبَبِ هَذَا الأَمْرِ
يُبَارِكُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ أَعْمَالِكَ وَجَمِيعِ مَا تَمْتَدُّ
إِليْهِ يَدُكَ
. لأَنَّهُ لا تُفْقَدُ
الفُقَرَاءُ مِنَ الأَرْضِ. لِذَلِكَ أَنَا أُوصِيكَ قَائِلاً: افْتَحْ يَدَكَ
لأَخِيكَ المِسْكِينِ وَالفَقِيرِ فِي أَرْضِكَ.
" وقد علد إبن
سيراخ للإشارة إلى هذه الفكرة بأكثر وضوح فى (7 : 32
– 36)
، (38 : 8 – 12) ومما هو جدير
بالملاحظة أن كلمة صدقة هنا هى نفس الكلمة العبريةالتى تترجم : " بّر "
هذا والكفارة لغةً هى تغطية الشىء أو ستره أو حجبه بحجاب آخر.

 

يقول القديس كليمندس
فى رسالته الثانية وفى حديثه عن مكانة الصدقة : "إذا لم تكن قد أتيحت لك فرصة للتوبة فاتجه إلى الله الذى دعانا، لأننا إذا
تخلينا عن ملاذ العالم منتصرين على رغباتنا الشريرة فسوف نفوز برحمة المسيح…
الصدقة شىء جيد مثل التوبة عن الخطية. الصوم أفضل من الصلاة لكن الصدقة أفضل من
كليهما
"الْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ
الذُّنُوبِ
" (أمثال 10 : 12) لكن الصدقة بضمير حى تحررّ من الموت. مبارك كل من يوجد مملوء
من هذه لأن الصدقة تزيل عبء الخطية
"
9. ومرة أخرى نكرر أن الصدقة فى حد ذاتها لا
تغفر الخطايا ولكنها تعبر عن قلب تائب قبل الخلاص بحسب تعبير الذهبى الفم.

 

هذا وتعتبر هذه الفقرة
الأخيرة مقدمة للإصحاح التالى.



1 N & P. Nicene , P. 483عظة (5) تفسير رسالتى تيموثاؤس

2 N & P. Nicene.

3 Ibid تفسير إنجيل يوحنا

4 N & P. Nicene F. p. 537

5 Ibid, v.3 , p.550

6 Ibid p. 421

7 Ibid, V.3 , p. 413 , 427, 429, 434.

8 N & P. Nicene , v.2 , p. 18 الكتاب الأول : مدينة
الله
.

9 Anti Nicene. F, V.7 p.5 فصل 16 مكانة الصداقة

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي