الإصحَاحُ
الْعَاشِرُ

 

عظة (8)

تفسير الآيات من:

"صانع الأرض بقوته" (إر 10: 12).

إلى:

"بَلِدَ كل إنسان من معرفته" (إر 10: 14).

فلنأخذ هنا ما يمكننا أن نطلق عليه، ثلاث
صفات من صفات الله، وهى: قوته وحكمته وفهمه. ينسب النبي إلى كل منهما عمل
خاص: للقوة الأرض؛ للحكمة المسكونة؛ للفهم السموات.

يقول "صانع الأرض بقوته، مؤسس
المسكونة بحكمته وبفهمه بسط السموات".

بما أننا أرض أي تراب، لأنه قد
قيل لآدم: "أنت تراب" فإننا نحتاج إلى قوة الله. وبدون
قدرة الله لا نستطيع أن نقوم بأي عمل يفوق قدرات الجسد، لكننا بمجرد أن نميت الأعضاء
الأرضية، نقوم بالأعمال التي توافق إرادة الروح، يقول الرسول: "الروح يميت
أعمال الجسد"
.

إذا طبقت هذا الكلام "صانع الأرض
بقوته
" على الأرض الحقيقية، تجد في سفر أيوب: "أين كنت حين أسست
الأرض… من وضع قياسها… أو من مد عليها مطمارًا. على أي شيء قرت قواعدها أو من
وضع حجر زاويتها"
(أى 38: 4-6). أي أن قوة الله هي التي حافظت على
الأرض في توازن كامل وعجيب.

أنتقل أيضُا إلى المسكونة. أنني
أعرف ما هي النفس المسكونة وما هي النفس الخالية. إذا كانت النفس لا تحمل
الله، إذا كانت لا تحمل السيد المسيح الذي قال: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي
ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً"
(يو 14: 23)، وإذا كانت لا تحمل
الروح القدس، فإنها تكون خالية. لكنها تكون مسكونة حينما تكون ممتلئة من الآب
والابن والروح القدس، توجد أمثلة عديدة في الكتاب المقدس، لوجود الآب والابن
والروح القدس في نفس الإنسان.

يطلب داود النبي في مزمور التوبة من الآب
أن يمنحه هذه الأرواح: "وبروح مدبر عضدني"، "روحًا مستقيمًا في
أحشائي"، "روحك القدوس لا تنزعه منى"
. إذًا فمن هم هؤلاء
الأرواح الثلاثة؟ الروح المدبر هو الآب، الروح المستقيم هو السيد
المسيح الابن، والثالث هو الروح القدس.

قلنا هذا لكي نوضح أن المسكونة لم
تخلق إلا بحكمة الله. وذلك بما أن: "الحكمة تجعل الحكيم أقوي من
عشرة حكام في المدينة"
وأيضًا: "لأن مزدري الحكمة والتأديب شقي.
إنما رجاؤهم باطل وأتعابهم بلا ثمرة وأعمالهم لا فائدة فيها"
(حك 3: 11)،
كما يقول سفر الحكمة لسليمان.

وأيضًا، بما أن المسكونة قد أسست
بحكمة الله
، فليكن لنا نحن أيضًا الاشتياق أن يقيم الرب ويؤسس مسكونتنا
التي ربما تكون قد سقطت.لأن هذه المسكونة التي لنا قد سقطت حينما جئنا في
موضع الفساد[1]،
وسقطت حينما أخطأنا وابتعدنا عن الرحمة والحق، وكانت محتاجة أن تؤسس.

إذًا الله هو الذي "أسس (أعاد
تأسيس) المسكونة".
فإذا كنت تأخذ كلمة المسكونة بمعناها الحرفي
المادي، فابحث إذًا كيف يمكن أن نقول أن الله قد أعاد تأسيس المسكونة، هل
سقطت المسكونة قبل ذلك حتى يعيد الله تأسيسها؟ بينما إذا أخذت كلمة المسكونة
بالمعنى الذي أشرت إليه قبلاً، وهو النفس البشرية، فإن كل من يوجد في هذه المسكونة
لابد أن يحتاج إلى إعادة تأسيس. وإلا لما احتاج أحد إلى إعادة تأسيس لو لم
يكن سقط قبل ذلك.

من المؤكد أن كل الذين في هذه المسكونة
قد سقطوا بسبب الخطية ثم أقامهم الرب وأعاد تأسيسهم. "إذ الجميع ماتوا
في آدم"
هكذا سقطت المسكونة، واحتاجت أن تُؤسس ثانية حتى أنه "في
المسيح الجميع يحيون"
.

وبذلك نكون قد قدمنا تفسيرًا مزدوجًا لـ
المسكونة
. لقد اوضحنا من جهة كيف أن في كل إنسان تكون نفسه إما مسكونة أو
خالية، ومن جهة أخرى أوضحنا معنى إعادة تأسيس المسكونة نفسها.

2. "وبفهمه بسط السموات".
لم يختر إرميا كلمة فهم مع السموات اعتباطًا. تجد بالفعل في سفر الأمثال
هذه العبارة: "الله في حكمته أسس الأرض وهيأ السموات بفهمه".
إذًا يوجد عند الله فهمًا لن تستطيع أن تجده في أي موضع سوى في المسيح
يسوع. فإن كل الصفات الإلهية تتمثل في السيد المسيح: فهو حكمة الله؛ وهو قدرة
الله؛ وهو عدل الله؛ وهو القداسة؛ وهو الخلاص؛ وهو كذلك فهم
الله. فمع كونه واحد مع الآب في الجوهر، إلا أنه يحمل أسماء متعددة تشير إلى أشياء
مختلفة. فإنك لا تستوعب نفس المعنى بخصوص السيد المسيح حينما تنظر إليه بكونه الحكمة
وحينما تنظر إليه بكونه العدل.

عندما تنظر إليه بكونه الحكمة
تفهم من ذلك عِلْمِهِ بالأشياء الإلهية والإنسانية.

وعندما تنظر إليه بكونه العدل
تفهم من ذلك قدرته على إعطاء كل ذي حق حقه.

إذا نظرت إليه بكونه القداسة فإنك
تفهم من ذلك قدرته على تقديس كل المؤمنين بالرب والمكرسين له.

وبنفس الطريقة أيضًا سوف تدركه بكونه الفهم،
فهو العالم بالخير والشر وبما هو ليس خيرًا ولا شرًا.

يوجد هناك انفصال بين الذين يسكنون
السماء أو الذين يلبسون الإنسان السماوي وبين الشر، لأن الله في بسطه للسموات فصل
الأشياء الفاسدة والأشياء الصالحة، حتى لا يتدنس الإنسان البار الذي يُعتَبَر هو
نفسه سماء. فلذلك قيل: "وبفهمه بسط السموات".

كيف إذًا تم بسط السموات؟ الحكمة
هي التي تبسطها. تشير هنا الآية إلى كيفية بسط السموات بواسطة الحكمة: "لقد
بسطت كلامي وأنتم لم تنتبهوا إليه".
فالأمر هنا يتعلق ببسط كلام[2]. بهذه
الطريقة تم بسط السموات. وقد قيل أيضًا في المزمور: "الباسط
السموات كشقة (كخيمة)"
(مز 103 :2). وكذلك نحن أيضًا، فإن نفوسنا التي
كانت قبلاً منكمشة، سوف تُبسَط حتى تستطيع أن تستقبل حكمة الله.

نرجع الآن إلى موضوعنا. فقد قلنا كيف أن السموات
خلقت بالفهم. وأن الذين لبسوا الإنسان السماوي هم أيضًا سموات. في
الواقع بما أنه قيل للخاطئ: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا
يمكننا بالأولي أن نقول للبار: "أنت سماء وإلى السماء تعود"؟ كما
يقال أيضًا للانسان الترابي الذي يحمل صورة الإنسان الترابي: "أنت تراب
وإلى التراب تعود"،
أفلا يقال لك إذا كنت تحمل صورة الإنسان السماوي:
"
أنت سماء وإلى السماء تعود؟". وكل إنسان منا له أعمال سماوية وأخرى
أرضية. الأعمال الأرضية هي التي تؤدي إلى الأرض لأنها تحمل الطبيعة الأرضية، مثل
ذاك الذي يكنز في الأرض بدلاً من أن يكنز في السماء. وعلى العكس، فإن أعمال
الفضيلة تؤدي إلى المواضع التي تحمل نفس طبيعتها أي إلى السموات، فالإنسان الذي يكنز
في السماء
هو الذي يحمل صورة السماوي.

3. "ويُصعِد السحاب من أقاصي
الأرض"
(إر 10: 13).

إننا نتساءل: كيف يصعد الله السحاب
من أقاصي الأرض؟
قلنا قبل ذلك أن القديسين كانوا سحبًا. لأن العبارة: "لقد
بلغت حقوقك إلى السحاب"
لا يمكنها أن تنطبق على السحب التي بلا نفس، ولكن
حقوق الله تبلغ إلى السحب التي تنصت إلى أوامر الرب وتعرف أين تُسقط مطرها وأين
توُقف المطر.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس كينج جيمس إنجليزى KJV عهد قديم سفر الملوك الأول I Kings 18

توجد بالفعل سحب يأمرها الله أن تمطر أو
أن لا تمطر، هي التي كُتب عنها في إشعياء: "سوف آمر السحاب ألا يسقط عليها
مطرًا"
. أما بالنسبة للسحب المادية في هذا العالم، فإذا لم يكن هناك مطر
فإن هذا لا يعني أن الله يأمر السحاب ألا يمطر على تلك البلد، وإنما سبب عدم نزول
المطر هو عدم ظهور أية سحابة، كما هو مكتوب في سفر الملوك. ففي وقت الجفاف لم تظهر
أية سحابة، ولكن حينما كان يجب أن ينزل المطر بحسب كلام إيليا ظهر السحاب في
السماء وأعطي مطرًا.

يوجد سحاب آخر يأخذ الأمر بألا
يمطر حينما تكون النفس غير مستحقة للمطر، وهو ما تقوله عنه الآية: "سوف
آمر السحاب ألا يسقط عليها مطرًا"
. إذًا فكل واحد من القديسين يمثل
سحابة. لقد كان موسى النبي سحابة، وبما أنه سحابة كان يقول: "أنصتي أيتها
السموات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوال فمي. يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندي
كلامي"
(تث 32: 1-2). فلو لم يكن موسى سحابة لما استطاع أن يقول ذلك. وهو
كسحابة يقول أيضًا: "كالطَّل على الكلأ. وكالوابل (الثلج) على العشب. إني
باسم الرب أنادي"
. وبنفس الطريقة يقول إشعياء كسحابةٍ: "اسمعي
أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم"
(إش 1: 2). ولأن إشعياء
كان سحابة وكان يدعو جميع الذين كانوا يتنبأون معه "سحابًا"، قال في
نبوته: "سوف آمر السحاب ألا يسقط عليها مطرًا".

4. فإذا كنا قد فهمنا من هم السحاب،
فلننتقل لنرى كيف أن الله "يصعد السحاب من أقاصي الأرض"؟ كيف "من
أقاصي الأرض"
؟ يقول المخلص: "إذا أراد أحد أن يكون أولاً فيكون
آخر الكل وخادمًا للكل"
(مر 9: 35). فهم بولس الرسول هذه الوصية وأصبح
الأخير في هذا العالم، فيقول: "فإني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل أخرىن
كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صرنا منظرًا للعالم للملائكة والناس"

(1كو 4: 9). فإذا قام أحد بتنفيذ وصية المخلص السابقة ووضع نفسه الأخير في
هذا العالم، يصبح سحابة. الله لا يُصعد السحاب من وسط عظماء هذه الأرض، ولا
يُصعد السحاب من وسط الحكماء والرؤساء، ولا يُصعد السحاب من وسط
الأغنياء، لأنه: "طوبي للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات".
أرأيت الآن كيف أن الله يُصعد السحاب من أقاصي الأرض؟ وبالتالي إذا أردنا
أن نصير سحابًا تبلغ إليه حقوق الرب، فلنصر آخر الكل، ولنقل بأفعالنا واستعدادنا:
"فإني أري أن الله أبرزنا نحن الرسل أخرىن". وحتى إذا لم أكن
رسولاً، فإنه يمكنني أن أجلس في الصف الأخير حتى أن الله الذي يُصعد السحاب من
أقاصي الأرض،
يُصعدني أنا أيضًا.

"صنع بروقا للمطر".
يقول خبراء الطبيعة أن البروق تحدث نتيجة لاحتكاك السحب بعضها ببعض. وهو ما يحدث
على الأرض بالنسبة للأحجار؛ فإذا ضربنا حجرين ببعضهما البعض تتولد نارًا، أيضًا
حينما تصطدم السحب ببعضها أثناء العاصفة يحدث البرق. لذلك أيضًا غالبًا ما تكون
البروق مصحوبة بالرعود التي تمثل صوت التصادم بين السحب: فالرعد يحمل صوتًا،
والبرق يحمل ضوءً ونوراً.

5. إذا كنت قد فهمت هذا تأمل الآن السحاب
الروحي.

كان موسى سحابًا، وكان يشوع بن نون
سحابًا، فماذا حدث؟ تحدثت هذه السحب فيما بينهما، ومن كلماتهم تولد البرق.

كان ارميا سحابًا، وكان باروخ سحابًا، ثم
تحدثا مع بعضهما فجاءت البروق من كلماتهم معًا. يمكنك إذا استطعت أن تستخرج من
الكتاب المقدس أمثلة مشابهة عن كيفية حدوث البروق. ففي العهد الجديد أيضًا: بولس
وسلوانس كانا سحابتين، وعندما تقابلا ظهرت بروق الرسالة[3].

إذًا فإن الله "صنع بروقًا للمطر
وأخرج الريح من خزائنه
".

هل الرياح الأرضية موجودة في خزائن؟ كيف
يمكننا أن نقول ذلك إذا كنا في واقع الأمر لا نعرف ما هي مكونات أو طبيعة هذه
الرياح التي تهب على الأرض؟

ومع ذلك فتوجد خزائن للريح،
أي خزائن للأرواح: "روح الحكمة والفهم، روح الإرشاد والقوة، روح العلم
والرحمة، روح مخافة الرب
"

"روح القوة والمحبة والنصح
ويمكنك أنت أيضًا من خلال الكتاب المقدس أن تُكَوِّن وتُعِد قائمة لهذه الرياح.
وهذه الأرواح موجودة في خزائن (كنوز)، فما هي هذه الكنوز؟ "فيه
توجد الكنوز الخفية للحكمة والمعرفة"

إذًا هذه الخزائن موجودة في السيد
المسيح: ومنه أيضًا تخرج هذه الرياح، هذه الأرواح، لتصنع من الواحد حكيمًا، ومن
الآخر مؤمنًا، ولتعطى ثالث معرفة، ولرابع محبة الله: "فإنه لواحد يعطى
بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد
"
(1كو 12: 8).

6. نحن أيضًا بنعمة الله، لنا رجاء أن
نبلغ إلى هذه الخزائن. حيث توجد خزائن عديدة، فربما يكون هناك أماكن راحة مختلفة
في خزائن الله، تبعًا للصف الذي سوف نوجد فيه في القيامة من الأموات[4]. هذا ما أريد
أن أقوله: أن القيامة من الأموات ستكون بحسب الصفوف، لأن الرسول يقول: "كل
واحد إلى صفه (مكانه) الخاص"
. بما أن هذه الصفوف لا تكون مختلطة بلا
نظام، فإن هذا الصف سيكون في خزينة من خزائن الله، والصف الآخر في خزينة أخرى لله،
وهكذا الثالث والرابع. جميع هذه الخزائن توجد في خزينة واحدة، فلذلك يقول بولس
الرسول: "فيه توجد الخزائن الخفية للحكمة والمعرفة". كما أنه
بامتلاكي اللآلئ الكثيرة استطعت من خلالها (بيعها) أن أحصل على اللؤلؤة الواحدة
الكثيرة الثمن
، هكذا أيضًا يمكنني أن أبلغ إلى خزينة الخزائن، إلى رب الأرباب
وملك الملوك، حينما أصير مستحقًا لنوال الأرواح الخارجة من خزائن الله، لأنه "أخرج
الريح من خزائنه"
.

7. "بَلُدَ كل إنسان من
معرفته" أو (صار كل إنسان غبيًا (جاهلا) من المعرفة
) [14].

إذا كان إنسان قد صار جاهًلا من المعرفة،
وبما أن بولس إنسان، فإنه قد صار جاهًلا من المعرفة لأنه لم يكن يعلم إلا بعض
العلم ويتنبأ بعض التنبؤ
. صار جاهًلا من المعرفة، لأنه لم يكن يرَى إلا في
مرآة، في لغز
(1كو 13: 9، 12). لم يدرك ولم يرَ من الأشياء إلا جزًء صغيرًا
جدًا. إن التناقض سوف يوضح لنا معنى أن كل إنسان قد صار جاهًلا من
المعرفة
. توجد خطايا لأورشليم، وتوجد خطايا لسدوم، ولكن بالنسبة للخطايا
البشعة التي في أورشليم فإن خطايا سدوم تعتبر برًا؛ وقد قيل بالفعل لأورشليم: "إن
سدوم قد تبررت منك (من خلالِك)
". وكما أن خطايا سدوم لم تكن برًا وإنما
كانت ظلمًا وشرًا، وبما أن الشر بالمقارنة مع شر أكبر يصير برًا، فإنه بمثل هذا
التناقض تفهم أيضًا المعرفة: [إن المعرفة التي كانت عند بولس لو قورنت بالمعرفة
الأخرى التي في السموات، أي بالمعرفة الكاملة، تصبح جهًلا. لهذا السبب بَلُدَ
كل إنسان من معرفته
]. ويذكر سفر الجامعة شيئًا مشابهًا حينما يقول: "قلت
أكون حكيمًا. أما هي فبعيدة عنى. بعيدُ ما كان بعيدًا والعميقُ العميقُ من يجده
".

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس ر رأس ابن هاني ي

8. ويعلن الكتاب المقدس: أن الذي أتى إلى
هذا العالم أخلى ذاته لكي يهب الامتلاء للعالم؛ وإذا كان الذي جاء إلى
العالم قد أخلى ذاته فإنه كان أيضًا هو نفسه "الحكمة"، لأن
"جهالة الله أحكم من الناس". لو كنت أنا الذي تكلمت عن جهالة
الله، لكنت قد تلقيت سيًلا من عبارات التأنيب والتوبيخ ممن يحبون النزاع
والشغب. وبالرغم من أنني قلت قبل ذلك آلاف الأشياء التي يعتبرونها هم أنفسهم صحيحة
وصالحة، إلا أنهم كانوا سيوجهون لي العديد من الاتهامات إذا كنت تحدثت عن "جهالة
الله
" لأن هذا التعبير في رأيهم، موضوع في غير محله. ولكن هوذا بولس
الرسول الرجل الحكيم الذي أخذ السلطان الرسولى، هو الذي تجرأ وقال أن كل حكمة
الأرض، التي كانت أيضًا موجودة فيه، والتي كانت موجودة في بطرس وجميع الرسل، كل
حكمة العالم هي "جهالة الله". وبالفعل، فإن بالمقارنة بهذه
الحكمة الأخرى التي لايستطيع أي مكان على الأرض أن يجدها أو أن يستوعبها،
بالمقارنة بهذه الحكمة الأخرى التي تفوق السماء والأرض، فإن الحكمة التي جاءت
إلينا هي جهالة الله. وكن جهالة الله هذه هي أحكم من الناس.
أي ناس؟ إنني لا أتحدث عن المجانيين، وإنما أقصد أن جهالة الله تفوق حكمة
الحكماء أنفسهم.

9. والآن وقد عرفنا أن "حكمة هذا
العالم هي جهالة أمام الله"
وأن الله يُجِّهِل حكمة هذا العالم
(1كو 1: 20). فهل إذًا، أن الله في حكمته يجعل حكمة هذا العالم جهالة؟ أو هل حكمة
الله تقاس بحكمة العالم حتى توضع هذه الأخيرة في مقارنة معها؟ لا، ولكن يكفي
القليل من الأشياء (من الحكمة)، هذا القليل جدًا بما أنه جهالة الله، فإن حكمة
العالم سوف تصبح جهلاً أمام الله. فإن حكمة هذا العالم لم تستطع أن تستوعب حكمة
الله. فالنأخذ مثالاً حتى نفهم كيف أن جهالة الله جعلت حكمة هذا العالم جهلاً.

فلنفترض أنني أقيس نفسي، أنا الذي أبدو
أنني أعرف الكثير من العلم، مع شخص آخر غير ذكي، غير متدين، لا يفهم شيئًا ولا
يتناقش في أي موضوع ولم ينل من التعليم إلا القليل. فهل أكون محتاجًا إلى لهجة
معينة عند حديثي مع مثل هذا الإنسان، أو إلى أفكار عميقة في حين أن أفكاره غبية
وجاهلة؟ ألن أكتفي بكلمة سهلة وبسيطة أقوى قليلاً من كلامه حتى أُسكت (أُفحم)
جهله؟

فهكذا أيضًا، حتى تصير حكمة هذا
العالم جهالة
، ليست هناك حاجة إلى أن تقاس حكمة الله معها، وإنما تكفي
فقط جهالة الله لأن "جهالة الله أحكم من الناس". وضعف الله
أقوى من الناس".

لقد جعلنا الله أقوياء بضعفه (بضعف السيد
المسيح)، جعلنا حكماء بجهالته، حتى إذا ما دخلنا إلى هذا "الضعف"
وإلى هذه "الجهالة" نستطيع أن نصل إلى الحكمة وإلى قوة الله
ويسوع المسيح الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين.

ملحوظة لا يوجد صفحة 50،49

الألوهية السابقة لمجيء المخلص، وبين
الألوهية المعلنة من السيد المسيح، أما نحن فإننا لا نعرف إلا رب واحد، قديمًا
وحاليًا، ومسح واحد، قديمًا وحاليًا.

هذا بالنسبة للآية: "الكلام الذي
صار إلى ارميا من قبل الرب قائًلا". فماذا سنسمع نحن أيضًا من هذا الكلمة؟
"اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم". رجال يهوذا
هم نحن، لأننا مسيحيون، وجاء المسيح من سبط يهوذا. إذا كنت قد أوضحت من خلال
الكتاب المقدس أن كلمة يهوذا يُقصَد بها السيد المسيح، فإن رجال يهوذا في هذه
الحالة لن يكونوا اليهود الذين لا يؤمنون بالسيد المسيح، وإنما نحن كلناَ الذين
نؤمن به.

يخاطب الكلمة "رجال يهوذا"
وسكان أورشليم". يتعلق الأمر هنا بالكنيسة، لأن الكنيسة هي مدينة الله،
ومدينة السلام، وفيها يتراءى ويعظم سلام الله المعطى لنا إذا كنا أيضًا أبناء
سلام. "اسمعوا كلام هذا العهد وكلموا رجال يهوذا وسكان أورشليم. فتقول لهم
هكذا قال الرب إله إسرائيل. ملعون الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد الذي أمرت
به آباءكم". من الذي يسمع أفضل لكلام العهد الذي أمر الله به الآباء؟ أهُم
الذين يؤمنون به، أم الذين- بحسب الأدلة الموجودة عندنا- لا يؤمنون حتى بموسى حيث
إنهم لم يؤمنوا بالرب؟ ويقول لهم المخلص: "لو كنتم أمَنتم بموسى لآمنتم بي
أنا أيضا، لأنه تكلم عنى في كتبه، ولكن إن كنتم لا تؤمنون بكتاباته، فكيف تؤمنون
بكلامي؟. إذًا فهؤلاء الناس لم يؤمنوا بموسى، أما نحن، فبإيماننا بَالسيد المسيح،
ن}من أيضًا بالعهد الذي أقيم بواسطة موسى، أي "العهد الذي أمرت به
آباءكم". إذًا لا تقع هذه اللعنة علينا نحن، وإنما تقع أولئك على أولئك الذين
لم يسمعوا كلام العهد الذي أمر به الآباء، "يوم أخرجتهم من أر مصر كور
الحديد" نحن أيضًا، أخرجنا الله من أرض مصر[5]،
ومن كور الحديد، خاصة إذا فهمنا ما هو مكتوب في سفر الرؤيا، أن الموضوع الذي صلب
فيه الرب يُدعى روحيًا سدوم ومصر (رؤ8:11)، إذًا إن كان يدعى روحيًا مصر، فمن
الواضح أنه لو فهمت ما هو المقصود بالبلد التي تدعى روحيًا مصر والتي كانت تعيش
فيها قبًلا، تكون أنت الذي خرجت من أرض مصر، و يقال لك أيضًا بعد ذلك:
"اسمعوا صوتي واعملوا به حسب كل ما آمرتكم به".

بعد ذلك، يوجد وعد من الرب للذين يسمعون
كلامه، فإذا فعلوا كل ما أمرهم به: "تكونوا لي شعبًا وأنا أكون لكم
إلهًا
". ليس كل شعب يَدّعى شعب الله، يكون بالفعل شعبًا لله. أيضا فإن
ذلك الشعب الذي كان يتظاهر بأنه شعب الله، ألم يقل له الله: "أنكم لستم
شعبي" لأنهم "أغاظوني بإله آخر أغاظوني بأصنامهم، فأنا أيضًا أغيظهم
بأمة أخرى، بأمة غبية"

إذًا أصبحنا نحن الآخرون شعبًا لله، قد
أُعلن بر الله للشعب الذي سيأتي (سيولد)
، أي للشعب القادم من الأمم. في الواقع
أن هذا الشعب قد وُلدِ فجأة، وقد قيل في النِبيَ: "هل يولد شعب مرة واحدة"
نعم فقد ولد شعب مرة واحدة حينما جاء المخلص، وحينما آمن خمسة آلاف رجل في يوم
بالإضافة إلى ثلاثة آلاف نفس في يوم آخر، ويمكننا أن نري شعبًا بأكِمله مولودًا من
كلمة الله يسوع المسيح، فقد وَلَدَت العاقر، هذه التي لم تكن قبًلا تنجب، والتي
قيل عنها: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم أيتها التي لم
تمخض لأن بنى
المستوحشة (المتوحدة أو الوحيدة) اكثر من بنى ذات البعل"
(إش1:54) إنها وحيدة، لأنها كانت محرومة من الشريعة ومن الله، أما الأخرى
ذات البعل، أي الأمة اليهودية، فكانت كما هو معروف تتخذ من الشريعة الإلهية زوجًا
لها.

هل تبحث عن  تفسير الكتاب المقدس القس أنطونيوس فكرى عهد قديم سفر التكوين 20

فبماذا إذًا يعدني الرب؟ "فتكونوا
لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا
". إنه ليس إلهًا للجميع وإنما فقط للذين
يهبهم نفسه مجانًا كإله لهم، كما قال لأحد الآباء "أنا هو إلهك
وقال لآخر: "سأكون إلهك"، وقال أيضًا عن أخرىن: سأكون لهم
إلهًا
". فمتى نصل نحن أيضًا إلى أن يكون الله إلهنا (إلهًا لنا)؟ لو كنت
تريد أن تعرف من هم الناس الذين يكون الرب إلهًا لهم، والذين يعطيهم الرب شرف
إضافة أسمائهم إلى أسمه، انظر إلى قوله: "أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله
يعقوب"
: وقد علق السيد المسيح على هذا بقوله: "ليس هو إله أموات
بل إله
أحياء". من هو الإنسان المائت؟ إنه الخاطئ، أو أي إنسان لا
يحمل في داخله الله القائل "أنا هو الحياة" وكذلك كل من يعمل الأعمال
المائتة
ولم يتب عنها حتى الآن.

إذًا، "بما أن الله ليس إله
أموات بل إله أحياء
" وبما أننا نعرف أن الإنسان الحي هو الذي يحيا بحسب
كلام السيد المسيح ووصاياه ويكون دائمًا ثابتًا فيه، فلو أردنا أن يصير الرب إلهًا
لنا، فلنترك عنا أعمال الموت، حتى يتمم لنا وعده: "فتكونوا لي شعبًا وأنا
أكون لكم إلهًا لأقيم الحلف الذي حلفت لآبائكم أن أعطيهم
أرضًا تفيض لبنًا
وعسًلا
". تأمل هذه الكلمات، فإن الرب يتحدث هنا كما لو يكن قد أعطاهم بعد
هذه الأرض التي تفيض لبنًا وعسًلا. في الواقع أن هذه الأرض التي أخذوها
ليست هي التي كان الله يقصدها حينما قال أرضًا تفيض لبنًا وعسًلا، وإنما الأمر
يتعلق بأرض أخرى قال عنها الرب في تعاليمه: "طوبى للودعاء لأنهم
يرثون الأرض
"

بعد هذا، وإجابة على قول الرب: "ملعون
الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد
"، يقول النبي: "فأجبت وقلت
أمين يا رب
"، ما معنى كلمة آمين يا رب؟ أي : آمين يا رب أن الذي
لا يسمع كلام هذا العهد يصير ملعونًا. "فقال الرب لي: ناد بكل هذا الكلام
في مدن يهوذا وفى شوارع أورشليم
(خارج أورشليم)"- فنحن ننادى
بكلام الرب حتى هم في الخارج لندعوهم إلى الخلاص. "قائًلا. اسمعوا كلام
هذا العهد واعملوا به… فلم يسمعوا… ولم يصنعوه. وقال الرب لي: توجد فتنة بين
رجال يهوذا وسكان أورشليم
". ألا يجب علينا نحن بالأولى أن نتوب عن
خطايانا، بكوننا رجال يهوذا، أي رجال السيد المسيح، كما سبق لنا القول.
وحيث أنه يوجد بيننا أناس خاطئون وأناس يسلكون بحسب الباطل، قال النبي: "توجد
فتنة بين رجال يهوذا وسكان أورشليم" "قد رجعوا إلى آثام آبائهم
الأولين"
رجعوا إلى آثام من؟ إنه لم يقل مجرد "آثام آبائهم"
وإنما أضاف كلمة الأولين. لقد قلنا أن هذا الكلام موجه لنا وللخطاة
الموجودين بيننا. فكيف رجع هؤلاء الخطاة – ليس إلى آثام أبائهم فقط بل- إلى آثام
آبائهم الأولين؟ أليس لأن لنا نوعين من الآباء، منهم نوع فاسد. لأننا قبل أن نقبل
الإيمان كنا أولادًا للشيطان، كما يوضحه الإنجيل "أنتم من أب هو
إبليس"
، ثم عندما آمنًّا صرنا أولاد الله. إذًا ففي كل مرة تخطئ، فإننا نرجع
إلى آثام آبائنا الأولين
. وحتى نوضح أن آبائنا نوعان استعين بالمزمور45، حينما
يقول: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنيك وانسي شعبك وبيت أبيك
بما أنه يقول لها "اسمعي يا ابنتي" إذًا فهو أبوها، فكيف إذًا
يقول أب لابنته "إنسي بيت أبيك"؟ إذًا الآباء نوعان، وانسي بيت أبيك،
أي أبيك الأول؛ إذا عدت للخطايا بعد أن تكوني قد نسيتي بيت أبيك الأول، فإنك بذلك
تكوني بهذه الآية: "قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين".

قلت إن الشيطان كان أبانا، قبل أن يصير
الله أبانا- إذا لم يكن الشيطان أبانا حتى الآن!- هذا نوضحه أيضًا من خلال رسالة
القديس يوحنا: " من يفعل الخطية فهو من إبليس (فهو مولود من إبليس)"
(1يو8:3). وبما أن كل من يفعل الخطية هو مولود من إبليس، كأننا مولودين من
الشيطان عدة مرات حسب كل مرة نخطئ فيها. إذًا، فمسكين الإنسان الذي يولد من
الشيطان بلا توقف، وطوبى لإنسان الذي يولد من الله باستمرار. أنني في الواقع، لا
أقول أن البار يولد من الله مرة واحدة فقط طوال حياته، ولكنه يولد من الله
باستمرار في كل عمل صالح يقوم به.

وعندما أوضح ذلك بخصوص المخلص، كيف أن
الأب لم يلد الابن بطريقة تجعله (أي الابن) يحتاج أن يولد منه مرة أخرى بعد ذلك،
وإنما هو يلده باستمرار، فكهذا أيضًا بالنسبة الإنسان البار. لنرى ما هو مخلصنا:
إنه يشع مجدًا، إن إشعاع المجد لم يحدث (لم يولد) مرة واحدة للأبد، وإنما
طالما يتولد منه النور، فإن مجد الرب يشع باستمرار. أن مخلصنا هو حكمة الله؛
والحكمة هي "إشعاع النور الأبدي". فإذا كان المخلص مولودًا باستمرار من
الأب، فهكذا أنت أيضًا إذا كان عندك روح التبني. فإن الله يلدك باستمرار في المسيح
عند كل عمل من أعمالك وعند كل فكر من أفكارك. وهكذا بميلادك تصير أبنًا لله بلا
توقف، مولودًا في المسيح الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين.



[1]
أي أن موطن
النفس كان في الله، ثم بسقوطها جاءت في جسد الفساد.

[2]
إن "السماء المنبسطة" بين الخير والشر تتمثل في كلمات
الحكمة التي تمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر.

[3]
الرسالة الأولى والثانية إلى أهل تسالونيكى، التى تبدأ كالآتي:
"بولس وسلوانس وتيموثاوس إلى كنيسة التسالونيكيين".

[4]
يرى أوريجانوس أن الحياة السماوية سوف تحمل درجات بحسب استحقاق
كل واحد ومشاركته للسيد المسيح، وسوف يكون هناك تقدم مستمر من درجة إلى أخرى.

[5]
نحن نعلم أن "مصر" تمثل بالنسبة لأوريجانوس "هذا
العالم" أو "الحياة المظلمة في هذا العالم".

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي