الإصحَاحُ
الْعِشْرُونَ

مقاومة
فحشور له

كان يليق بالكاهن فحشور أن يكرم إرميا ويحميه ككاهن زميل له،
ويستشيره كنبى، لأنه ينطق بكلمة الرب، لكنه عوض ذلك جعله فى المقطرة، ليضيق عليه
فلا ينطق بالحق، لكن التهبت كلمة الرب بالأكثر فى قلب إرميا، ولم يستطع الصمت، تمتع
بالمعية مع الله وشهد للحق.

 

(1) إرميا فى المقطرة

" وسمع فشحور بن امّير الكاهن،

وهو ناظر اول في بيت الرب،

ارميا يتنبأ بهذه الكلمات.

 فضرب فشحور ارميا النبي،

 وجعله في المقطرة التي في باب بنيامين الاعلى الذي عند بيت
الرب "
ع 1، 2.

كان فحشور الكاهن هو الناظر الأول للهيكل لفترة مؤقتة، فى سلطانه أن
يسجن بتهمة الإخلال بالأمن العام. قام بضرب إرميا وجعله فى المقطرة وتركه يقضى
ليلة فى السجن أو فى الجب السفلى.

غالبا لم يكن فحشور بين المستمعين لإرميا النبى فى توفة، إنما وردت
إليه أخباره هناك، وعرف بما نطق به إرميا أمام بعض شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة. وإذ
رآه قادما نحو الهيكل توقع أنه يكرر ما قاله هناك أمام خدام الهيكل والشعب، فيحل
الرعب بالشعب، وربما ينحاز البعض إليه فلا يقدر فشحور أن يتصرف بعد ذلك. لذلك أسرع
بضربه ووضعه فى المقطرة علانية أمام الكل حتى متى تكلم لا يسمع له أحد. أراد أن
يسخر به أمام الكل حتى لا يلتفتوا إلى كلماته.

بالنسبة لأسم " فشحور " ذكر إرميا فى الإصحاح التالى شخصا
آخر يحمل ذات الإسم: " فشحور بن ملكيا " 21: 1.

ويرى البعض أن الأسم مصرى الأصل يعنى " ابن حورس ".

 إنجيلنا ليس وسيلة للتمتع بالزمنيات، إنما هو وسيلة للأرتفاع
نحو السمويات، على الجبال العالية يلتقى الله مع رجاله، فعلى جبل سيناء التقى الرب
مع نبيه موسى، مقدما له شريعته المقدسة. وعلى جبل تابور التقى رب المجد مع موسى
وإيليا وبطرس ويعقوب ويوحنا، حيث تجلى أمام تلاميذه، مظهرا لهم بهاء مجده.

 

يسوع يضرب فينا

 يقول العلامة أوريجينوس:

[" فضرب فشحور إرميا النبى ". يبدو أن فشحور كان ممسكا
بعصا فى يده لأنه كان ساحرا. إذا رجعنا إلى سفر الخروج نجد أن سحرة مصر كان عندهم
أيضا عصى، أرادوا بها أن يظهروا أن عصا موسى ليست من الله! لكن عصا الرب غلبت عصى السحرة
وأكلتها.

" فضرب فشحور إرميا النبى ". أكد الكتاب صفة إرميا ورتبته:
" النبى ". إذن الذى ضرب إرميا ضرب نبيا. ويذكر سفر أعمال الرسل أيضا أن
واحدا ضرب بولس الرسول بأمر من حنانيا رئيس الكهنة، لهذا قال له بولس الرسول:
" سيضربك الله أيها الحائط المبيض "، من الخارج له صورة رئيس كهنة عظيم
ومن الداخل حائط مبيض، مملوء عظام أموات وكل نجاسة.

لماذا نتكلم عن بولس وعن إرميا؟ فإن ربى يسوع المسيح هو نفسه يقول:
" أسلمت ظهرى للسياط وخدى أهملتهما للطم، ولم أرد وجهى عن خزى البصاق ".

يظن بعض البسطاء أن ما حدث للسيد المسيح كان فى أيام بيلاطس فقط،
حينما أسلمه ليجلد وحينما اشتكى عليه اليهود، أما أنا فأرى يسوع المسيح يسلم ليجلد
فى كل يوم. ادخل إلى معابد اليهود اليوم وانظر كيف أن السيد المسيح يجلد منهم من
خلال التجاديف، كذلك انظر إلى أبناء الأمم الذين يجتمعون ليشتكوا على المسيحيين،
كيف يقبضون على يسوع المسيح الموجود فى كل مسيحى ويقومون بجلده. تأمل يسوع المسيح
الإبن الكلمة كيف أنه مهان ومرذول ومحكوم عليه من غير المؤمنين.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس الكتاب الشريف عهد قديم سفر التثنية 06

انظر كيف أنه بعدما علمنا وأوصانا قائلا: " من لطمك على خدك
الأيمن فحول له الآخر أيضا " قام هو نفسه بتنفيذ هذه الوصية فأهمل خديه للطم.
يوجد أناس كثيرون يجلدونه ويلطمونه أما هو فلا يفتح فاه. حنى يومنا هذا، لا يرد
يسوع المسيح وجهه عن خزى البصاق: لأن الذى يحتقر تعاليمه يكون كمن ينفض البصاق فى
وجهه].

 

(2) فشحور المرتعب

" وكان في الغد ان فشحور اخرج ارميا من المقطرة.

فقال له ارميا:

 لم يدع الرب اسمك فشحور بل مجور مسّا بيب.

 لانه هكذا قال الرب:

هانذا اجعلك خوفا لنفسك ولكل محبيك،

 فيسقطون بسيف اعدائهم،

 وعيناك تنظران.

 وادفع كل يهوذا ليد ملك بابل فيسبيهم الى بابل ويضربهم بالسيف
"
ع 3، 4.

تحول اسم " فشحور " الذى يعنى " مثمرا من كل جانب
" إلى " مجور مسا بيب " يترجمها البعض " رعب من كل جانب
".

يرى البعض أن الإسم الجديد يعنى " رحيلا "، وكأن فشحور لن
ينعم بالأستقرار بل يرحل إلى بابل مسبيا، هو ومحبوه، عندئذ يرتعبوا.

كان الأمر الإلهى للبشرية: " اثمروا واكثروا
"
تك 1: 28.

أما الآن فنزع الله عن فشحور هذه البركة ليدعوه " ارتعب أنت
ومحبوك من كل جانب "

أولاد الله يعيشون فى فرح داخلى حتى وسط آلامهم، أما أولاد إبليس
فيعيشون فى رعب، حتى إن نالوا كل العالم فى أيديهم.

 

" وادفع كل ثروة هذه المدينة وكل تعبها وكل مثمناتها،

 وكل خزائن ملوك يهوذا ادفعها ليد اعدائهم،

 فيغنمونها وياخذونها ويحضرونها الى بابل " ع 5.

هكذا تمتد الخسارة لا إلى المحبين فحسب بل وإلى كل المدينة بكل
إمكانياتها وخزائنها.

" وانت يا فشحور وكل سكان بيتك تذهبون في السبي وتأتي الى بابل
وهناك تموت وهناك تدفن انت وكل محبيك الذين تنبأت لهم بالكذب "
ع 6..

 كان ينظر إلى الدفن فى أرض غريبة إحدى علامات غضب الله على
الإنسان، وسقوطه تحت اللعنة.

 

(3) نار محرقة فى قلب إرميا

فى لحظات ضعف بشرى وجد إرميا نفسه مضروبا ومهانا من كاهن زميل له،
وملقى فى المقطرة الليلة كلها، وقد صار أضحوكة بين الكهنة والشعب.. كما شعر بفشل
رسالته. ليس من يصغى إليه، ولا من يهتم بكلمات الرب التى ينطق بها.

هذا كله أثار فى نفسه مشاعر مؤقتة، سجلها لنا لكى ندرك أنه ليس أحد
بلا ضعف، مهما بلغت عظم رسالته.

هل تبحث عن  مريم العذراء ألقاب مريم العذراء زهرة البخور ر

فى مرارة مع صراحة تامة تحدث مع الله معاتبا إياه، مقدما اعترافا:

" قد اقنعتني يا رب فاقتنعت،

 وألححت عليّ فغلبت.

صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بي " ع 7.

حقا تكاليف الخدمة باهظة، إذ يشعر الخادم فى بعض اللحظات كأن الوعود
الإلهية لا تتحقق، يرى من حوله يضحكون عليه ويستهزئون به.

شعر إرميا النبى أنه قد خدع!! أين وعود الله له: يحاربونك فلا
يقدرون عليك؟
1: 18، 19.. هوذا الآن مهان ومضروب ومقيد.. ليس من يسمع له، ولا من
يصغى إليه!

لعله
لم يدرك إرميا النبى أنه كان يليق به أن يحمل صورة مخلصه يسوع المسيح الذى صار
أضحوكة كل النهار، استهزأ به اللص، وسخر منه الشعب كما الجند، واجتمعت القيادات
الدينية مع المدنية للخلاص منه!.

هذه هى تكلفة الخدمة والتلمذة للسيد المسيح المصلوب، القائل:

" ليس التلميذ أفضل من المعلم، ولا العبد أفضل من سيده.. إن
كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول، فكم بالحرى أهل بيته؟!
مت 10: 24، 25.

" لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون
باليابس؟!
لو 23: 31.

كانت صرخات إرميا للقيادات كما للشعب هى: ظلم واغتصاب (ع 8)، كاشفا
لهم عن ضعفاتهم، وفاضحا أعماقهم.. فلم يحتملوا.

ربما تردد أحيانا ولو إلى لحظات، متساءلا:

لماذا أخسر الناس؟

لماذا أذكر اسم الله الذى يثيرهم؟

لماذا لا أصمت؟

لأترك الخدمة لآخر غيرى!

لكن صوت الحق كان كنار فى قلبه لا يقدر أن يخمدها

 

" لاني كلما تكلمت صرخت.

ناديت ظلم واغتصاب،

لان كلمة الرب صارت لي للعار وللسخرة كل النهار.

 فقلت لا اذكره ولا انطق بعد باسمه.

فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي،

 فمللت من الامساك ولم استطع " ع 8 – 9.

كانت كلمة الله للتأديب نارا محرقة فى قلبه، محصورة فى عظامه، لكن
بسبب أمانته لله وثقته فيه كمخلص لم يستطع أن يمسك عن الكلمة، ولو كلفه الأمر
حياته كلها.

 

(4) مقاومة الناس ومساندة الرب

" لاني سمعت مذمة من كثيرين.

خوف من كل جانب.

يقولون اشتكوا فنشتكي عليه.

كل اصحابي يراقبون ظلعي قائلين:

 لعله يطغى فنقدر عليه وننتقم منه " ع 10.

يبدو أن إرميا النبى قد دخل فى حالة ارتباك شديد وسط الجو العاصف
الذى حل به. رأى الله يخدعه ولم يقف معه ليسنده ضد مقاوميه، كما صار الأعداء
(الأنبياء الكذبة) أصحابه يسمعون له لكى يتصيدوا له الأخطاء. تارة يهاجمونه
ويسبونه كى لا يصغى الشعب إليه، وتارة أخرى يراقبونه باهتمام كمن يطلبون كلمة منه.

سمعهم يذمونه ويسخرون منه، كلماتهم تحمل سخرية من الخارج مع اضطراب
فى الداخل، فقد حل بهم الخوف، وحاولوا علاج ذلك، لا بالأستماع إلى صوت الرب، بل
بالسخرية به.. إنهم يخدعون أنفسهم!.

" ولكن الرب معي كجبار قدير.

هل تبحث عن  قاموس الكتاب المقدس معجم الكتاب المقدس م مواني حسنة ة

من اجل ذلك يعثر مضطهديّ ولا يقدرون.

خزوا جدا لانهم لم ينجحوا خزيا ابديا لا ينسى " ع 11.

هذه هى صورة السيد المسيح الذى نام على الصليب، فظنه عدو الخير أنه
لا يقوم، لكنه صرخ بقوة كجبار، محطما متاريس الهاوية، وضرب عدو الخير بالصليب ودفع
به إلى عار أبدى! ظن عدو الخير أنه بالصليب يحطم رسالة المسيح، ولم يدرك أنه
بالصليب تمت الغلبة والنصرة لحساب كل مؤمنيه، وأن السهام قد أرتدت على عدو الخير نفسه
لتحطيمه تماما!

 

(5) تسبحة وسط الآلام

إذ يدرك إرميا النبى معية الله وسط الآلام تتحول حياته من الضيق إلى
الفرح، مسبحا الله المنقذ نفس المسكين من يد الأشرار، وذلك كما فعل المرنمون، إذ
غالبا ما تنتهى مزامير الرثاء بعبارات مفرحة تكشف عن الثقة فى الله كمخلص وسند
للمتألمين.

" فيا رب الجنود مختبر الصدّيق،

 ناظر الكلى والقلب،

 دعني ارى نقمتك منهم لاني لك كشفت دعواي.

 رنموا للرب سبحوا الرب،

 لانه قد انقذ نفس المسكين من يد الاشرار " ع 12، 13.

 كلمة الرب تسبب مرارة فى البداية لكن تتحول المرارة إلى عذوبة
فتتحول حياة المؤمن كلها إلى تسبيح داخلى لا ينقطع.

جاءت التسبحة هنا مطابقة لتلك التى وردت فى إر 11: 20، حينما وقف أهل
عناثوث ضده. فمع كل ضيقة ينتهى إرميا إلى ممارسة حياة التسبيح والتمتع بفرح الله
مخلصه.

 

(6) لحظات ضعف بشرى

كانت نفسية إرميا تتمرر من وقت إلى آخر فى لحظات الضعف، إذ كان يشعر
بانسحاق لأعماقه من أجل ما سيحل بشعبه، وفى نفس الوقت يجد مقاومة حتى الموت من
القيادات الفاسدة التى أثرت حتى على الشعب، حتى اشتهى لو لم يولد.

" ملعون اليوم الذي ولدت فيه.

اليوم الذي ولدتني فيه امي لا يكن مباركا.

 ملعون الانسان الذي بشّر ابي قائلا:

قد ولد لك ابن مفرحا اياه فرحا.

 وليكن ذلك الانسان كالمدن التي قلبها الرب ولم يندم،

 فيسمع صياحا في الصباح وجلبة في وقت الظهيرة.

لانه لم يقتلني من الرحم،

فكانت لي امي قبري ورحمها حبلى الى الابد.

 لماذا خرجت من الرحم لارى تعبا وحزنا فتفنى بالخزي
ايامي؟!"
ع 14 – 18.

كان يشتهى لو لم يولد، وكان يود لو أن أحشاء أمه صارت مقبرة له.

صورة للضعف البشرى الذى يسقط فيه حتى الأنبياء والرسل.. كبشر يحتاجون
إلى سند إلهى وسط آلامهم حتى لا ينهاروا.

منذ لحظات كان يسبح الله وسط آلامه، إذ كان متأكدا أنه يخلص نفس
المسكين من يد الأشرار.. لكن سرعان ما ضعف وشعر بالفشل مشتهيا لو أن الموت قد حل
به فى لحظات ولادته. وقد سمح له الله بتسجيل هذه المشاعر لكى لا نيأس حين نضعف وسط
آلامنا، متطلعين إلى أن الأنبياء أنفسهم كانوا أحيانا يضعفون.

مع كل هذه الظروف القاسية، ومع مرارة نفسه لم يهرب من الخدمة.. بل
كان يهتم بخلاص الآخرين، حتى المقاومين له.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي