الإصحَاحُ
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ

كأس
خمر السخط

يرى البعض أن هذا الإصحاح يمثل ختاما للدرج الذى أملاه إرميا على
كاتبه باروخ عام 604 ق. م. وأن وضعه الأصلى بعد الإصحاحات العشرين الأولى.

ففى ذلك الحين أقام نبوخذنصر نفسه سيدا على منطقة الشرق الأوسط من
مصر إلى مابين النهرين. وأدرك إرميا أنه قد هبت الريح القادمة من الشمال على يهوذا
وأورشليم فعلا، وهى تحرك الجيش البابلى.

فى هذا الإصحاح يقدم لنا النبى ملخصا لخدمته خلال الثلاث وعشرين عاما
السابقة كنبيا للشعوب، هذه الخدمة التى رفضها الجميع، كما سبقوا فرفضوا خدمة الأنبياء
السابقين له.

 

(1) تاريخ النبوة

كل الأحاديث النبوية التى سبق فألقاها إرميا إما أنها لا تحمل تاريخا
بالمرة أو تحمله بطريقة عامة كالقول:
" فى أيام يوشيا
"
(3: 6)، أو " فى بدء حكم يهوياقيم " (26: 1).

" الكلام الذي صار الى ارميا عن كل شعب يهوذا في السنة الرابعة
ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا.

هي السنة الاولى لنبوخذراصر ملك بابل.

 الذي تكلم به ارميا النبي على كل شعب يهوذا،

 وعلى كل سكان اورشليم قائلا: " ع 1، 2

يرجع تاريخ الفقرة إلى عام 605 ق.م. فى السنة الرابعة لملك يهوياقيم
التى دارت فيها معركة كركميش الفاصلة، ونتيجة هذه المعركة تم طرد المصريين،
واستولت بابل على يهوذا لتصبح جزءا من إمبراطوريتها (ملوك الثانى 24: 1).

وتعتبر هذه السنة نقطة تحول خطيرة فى تاريخ يهوذا بعد هزيمة فرعون
نخو بواسطة البابليين.

" من السنة الثالثة عشر ليوشيا بن آمون ملك يهوذا الى هذا
اليوم هذه الثلاث والعشرين سنة صارت كلمة الرب اليّ فكلمتكم مبكرا ومكلما فلم
تسمعوا "
ع 3

إذ يعتبر إرميا النبى أن خدمته بدأت فى السنة الثالثة عشرة من حكم
يوشيا سنة 627 ق.م. يتساءل البعض إن كان هذا التاريخ هو بداية أول رسالة تسلمها من
الله لإعلانها على الشعب، أم أنه تاريخ ميلاده حيث دعى للخدمة وهو بعد فى بطن أمه.
على أى الأحوال بدأ إرميا خدمته مبكرا جدا.

الفترة من السنة الثالثة عشرة ليوشيا حتى السنة الرابعة من يهوياقيم
تضم 23 عاما، منها 19 عاما فى أيام يوشيا و4 أعوام فى أيام يهوياقيم، بالإضافة إلى
3 شهور ملك يهوآحاز.

 

(2) تأكيد الدمار

" وقد ارسل الرب اليكم كل عبيده الانبياء مبكرا ومرسلا فلم
تسمعوا ولم تميلوا اذنكم للسمع.

 قائلين ارجعوا كل واحد عن طريقه الرديء وعن شر اعمالكم
واسكنوا في الارض التي اعطاكم الرب اياها وآباءكم من الازل والى الابد.

 ولا تسلكوا وراء آلهة اخرى لتعبدوها وتسجدوا لها ولا تغيظوني بعمل
ايديكم فلا اسيء اليكم.

 فلم تسمعوا لي يقول الرب لتغيظوني بعمل ايديكم شرا لكم.

 لذلك هكذا قال رب الجنود:

من اجل انكم لم تسمعوا لكلامي،

 هانذا ارسل فآخذ كل عشائر الشمال يقول الرب والى نبوخذراصر
عبدي ملك بابل وآتي بهم على هذه الارض وعلى كل سكانها وعلى كل هذه الشعوب حواليها
فاحرمهم واجعلهم دهشا وصفيرا وخربا ابدية.

 وابيد منهم صوت الطرب وصوت الفرح صوت العريس وصوت العروس صوت
الارحية ونور السراج "
ع 4 – 10.

 

يلاحظ فى العبارات السابقة الآتى:

هل تبحث عن  مسابقات الكتاب المقدس طرق تكلم الله فى الكتاب المقدس س

أولا: هنا يوجه إرميا التماسه إلى عامة الشعب وليس للطبقة الحاكمة قط.

ثانيا: يؤكد إرميا النبى أن ما نادى به خلال الثلاث وعشرين سنة لم يكن
بالأمر الجديد. فقد سبق وأرسل لهم الله أنبياء منذ وقت مبكر ينذرهم بذات الرسالة.

لقد سبقه إشعياء النبى وغيره، فما هو عذرهم؟ وعوض التوبة استهانوا
بطول أناة الله ولطفه، ظانين أن الله يهدد ولا يؤدب!

ثالثا: بقوله: " عمل أيديكم " ع 6. ربما يشير إلى صنع
التماثيل أو الأوثان التى يصنعونها ثم يتعبدون لها، وقد تشير إلى الشر الذى
يرتكبوه، وكأن شرهم قد تمثل فى عبادتهم للأوثان كما فى تصرفاتهم الشريرة وسلوكهم
الردىء.

رابعا: يقدم الحكم على يهوذا باسم " رب الجنود " ع 8 الذى يستدعى
كل عشائر الشمال وسكانها ضد يهوذا. هنا يقوم الرب كقائد جنود لا للدفاع عن شعبه بل
لتأديبهم، مستخدما نبوخذنصر عبدا له يتمم إرادته. إنه ليس عبدا له لأنه متعبد له،
وإنما بكونه أداة فى يد الرب.. يقيم به حربا مقدسة ضد شعبه!

خامسا: الإشارة لعشائر الشمال (ع 9) هى إشارة للطبيعة المعقدة للأمبراطورية
الأشورية وخليفتها الإمبراطورية البابلية.

سادسا: يؤدب يهوذا وكل الشعوب التى حواليها، ربما لأنها اتكلت عليها وأخذت
بمشورتها عوض الأتكال على الرب واستشارته. يجعلهم فى حالة رعب (دهشا) وخراب تام،
وينزع عنهم كل علامات الحياة، من أفراح وزيجات وصوت طحن الغلة (الأرحية) والنور،
كأنهم يصيرون فى حالة موت.

يرى البابا أثناسيوس الرسولى أن النبوة هنا قد تحققت بالأكثر لا فى
السبى البابلى بل فى سبيهم بجحد الإيمان بالسيد المسيح المحيى.

سابعا: يقول: " آتى بهم على هذه الأرض ".. ماذا يعنى هذا؟

حين يرفض الشعب الألتصاق بالسماوى يتركهم ليلتصقوا بالأرض فيصيرون
أرضا، لا سماء. لهذا عندما جاء مسيحنا السماوى ليردنا من سبينا، فتح بدم ذبيحته
طريق السماء الملوكى، لهذا يتحدث القديس يوحنا الذهبى الفم عن الأفخارستيا كرحلة
إلى السماء قائلا:

[+ كأن الإنسان قد أخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير
مع السيرافيم ويتغنى بالتسبحة المقدسة.

+ أهرق هذا الدم فاتحا طريق السماء!

+ ما دمنا قد صرنا سمائيين، وحصلنا على ذبيحة كهذه، فلنخف! يليق بنا
ألا نستمر فى زحفنا على الأرض، ومن يريد منا ألا يكون بعد على الأرض، فإنه يستطيع
الآن.. إذ نقترب من الله نصير فى السماء، بل ماذا أريد من السماء إن كنت أرى رب
السماء وصرت أنا نفسى سماء؟!.. أقصد لنتمثل ببولس الذى وهو على الأرض يقضى حياته
فى السماء.].

 

(3) مدة الدمار

" وتصير كل هذه الارض خرابا ودهشا وتخدم هذه الشعوب ملك بابل
سبعين سنة ويكون عند تمام السبعين سنة اني اعاقب ملك بابل وتلك الامة يقول الرب
على اثمهم وارض الكلدانيين واجعلها خربا ابدية.

 واجلب على تلك الارض كل كلامي الذي تكلمت به عليها كل ما كتب
في هذا السفر الذي تنبأ به ارميا على كل الشعوب.

 لانه قد استعبدهم ايضا امم كثيرة وملوك عظام فاجازيهم حسب
اعمالهم وحسب عمل اياديهم "
ع 11 – 14.

هذه هى المرة الأولى التى يشار فيها إلى مدة السبى البابلى بكونها
سبعين عاما، يحسبها البعض إما منذ بدأ النبى حديثه عن السبى سنة 604 ق. م. أو
عندما تم ترحيل أول دفعة إلى السبى سنة 597 ق. م.، أو عند ترحيل عدد ضخم سنة 587
ق. م.

هل تبحث عن  كتب أبوكريفا عهد جديد أعمال بطرس س

مع دقة الرقم بحسب حسابات مفسرى الكتاب والمؤرخين، يحمل رقم 70 معنى
رمزيا وهو كمال العمل الإلهى فى حياتنا الزمنية. رقم 7 يشير إلى الكمال، ورقم 10
يشير إلى الحياة الزمنية التى يجب أن تحكمها الوصايا العشرة، لذلك فإننا وإن كنا
كمن فى السبى ننتظر كمال المجد الأبدى لنصير بالحق الملكة السماوية شريكة المجد..
فإننا خلال أعوامنا السبعين ننعم بعمل الله الدائم، حيث يهيئنا بروحه القدوس لنحمل
صورته فنصير العروس الملكة الحرة.

أعوامنا على الأرض يرمز لها برقم 70 حيث نتلمس كمال عمل الله الخلاصى
لأجلنا حتى ننطلق إلى سمواته.

 

(4) ملخص النبوات ضد الأمم

الله ليس إله إسرائيل وحده، بل إله كل الشعوب، يهتم بالجميع، وها هو
يرسل إرميا نبيه " نبيا للشعوب ".. يبدأ هنا بتأديب شعبه بسبب إصرارهم
على عدم التوبة، بهذا تكون البداية لتسقط أمة وراء أمة تحت ذات التأديب، مادام ليس
هناك رجوع إلى الله بالتوبة.. وأخيرا يسقط العالم كله تحت التأديب حتى بابل اليد
المستخدمة للتأديب! هنا إعلان صارخ عن فساد الطبيعة البشرية والحاجة إلى تدخل إلهى
لإقامة طبيعة جديدة تتجاوب مع خالقها!

" لانه هكذا قال لي الرب اله اسرائيل:

خذ كاس خمر هذا السخط من يدي واسق جميع الشعوب الذين ارسلك انا
اليهم اياها. فيشربوا ويترنحوا ويتجننوا من اجل السيف الذي ارسله انا بينهم،

 فأخذت الكاس من يد الرب وسقيت كل الشعوب الذين ارسلني الرب
اليهم.

اورشليم ومدن يهوذا وملوكها ورؤساءها لجعلها خرابا ودهشا وصفيرا
ولعنة كهذا اليوم.

وفرعون ملك مصر وعبيده ورؤساءه وكل شعبه.

 وكل اللفيف وكل ملوك ارض عوص وكل ملوك ارض فلسطين واشقلون وغزة
وعقرون وبقية اشدود وادوم وموآب وبني عمون،

 وكل ملوك صور وكل ملوك صيدون وملوك الجزائر التي في عبر البحر،

 وددان وتيماء وبوز وكل مقصوصي الشعر مستديرا.

 وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية،

 وكل ملوك زمري وكل ملوك عيلام وكل ملوك مادي،

 وكل ملوك الشمال القريبين والبعيدين كل واحد مع اخيه وكل ممالك
الارض التي على وجه الارض.

وملك شيشك يشرب بعدهم.

 وتقول لهم: هكذا قال رب الجنود اله اسرائيل.اشربوا واسكروا وتقيأوا
واسقطوا ولا تقوموا من اجل السيف الذي ارسله انا بينكم.

 ويكون اذا أبوا ان يأخذوا الكاس من يدك ليشربوا انك تقول لهم:

هكذا قال رب الجنود تشربون شربا.

 لاني هانذا ابتدئ اسيء الى المدينة التي دعي اسمي عليها فهل
تتبرأون انتم؟!

لا تتبرأون لاني انا ادعو السيف على كل سكان الارض،

 يقول رب الجنود " ع 15 – 29

الكأس التى يقدمها هنا إرميا النبى للشعوب هو السيف الذى تضرب به هذه
الشعوب فتترنح كالسكارى بلا وعى من هول الحدث، يفقدون عقولهم ويصيرون كالمجانين.
يتساءل البعض: كيف قدم إرميا للملوك كأس غضب الله؟ هل قام برحلة لملوك وشعوب
مختلفة؟ أم قدم الكأس لسفرائهم فى أورشليم؟

إنه كأس غير مادى يحمل غضبا لا تشربه الأجساد. العمل الذى قام به
إرميا هو رسالة تؤكد حقيقة السخط الإلهى على الشر والأشرار المصرين على شرهم،
يعلنها النبى فى أورشليم أمام الملك والشعب، وتبلغ إلى الملوك والشعوب المحيطة.

هل تبحث عن  الكتاب المقدس يسوعية كاثوليكية عهد قديم سفر إرميا 13

ددان: شعب كوشى فى جنوب العربية..

" تيماء " قبيلة عربية تسكن فى المناطق الصحراوية وراء
حاران..

" بوز " قبيلة عربية من نسل ناحور أخو إبراهيم (تك 22:
21) تقطن على الطريق السياحى من دمشق إلى مكة، ما بين تبوق ووادى القرى.

إن كان الله يستخدم بابل للتأديب، فيعطيها أن تسيطر على العالم كله
فى ذلك الحين فإنه يعود فيحاكمها على شرها بعد ذكره كل ممالك الأرض، وقد دعيت هنا
" شيشك " ع 26 وهو اسمها الشفرى (51: 41). ربما لكى لا يثير السلطات
البابلية ضده.

 

(5) قضاء الرب للمسكونة

" وانت فتنبأ عليهم بكل هذا الكلام وقل لهم:

الرب من العلاء يزمجر ومن مسكن قدسه يطلق صوته، يزئر زئيرا على
مسكنه بهتاف كالدائسين يصرخ ضد كل سكان الارض.

 بلغ الضجيج الى اطراف الارض لان للرب خصومة مع الشعوب هو يحاكم كل
ذي جسد.يدفع الاشرار للسيف يقول الرب.

 هكذا قال رب الجنود:

هوذا الشر يخرج من امة الى امة وينهض نوء عظيم من اطراف الارض.

 وتكون قتلى الرب في ذلك اليوم من اقصاء الارض الى اقصاء
الارض.لا يندبون ولا يضمون ولا يدفنون.

يكونون دمنة على وجه الارض.

 ولولوا ايها الرعاة واصرخوا وتمرغوا يا رؤساء الغنم لان
ايامكم قد كملت للذبح وابددكم فتسقطون كاناء شهي.

ويبيد المناص عن الرعاة والنجاة عن رؤساء الغنم.

 صوت صراخ الرعاة وولولة رؤساء الغنم.

لان الرب قد اهلك مرعاهم.

 وبادت مراعي السلام من اجل حمو غضب الرب.

 ترك كشبل عيصه (عرينه) لان ارضهم صارت خرابا من اجل الظالم
ومن اجل حمو غضبه "
ع 30 – 38.

 

1 – فى اسلوب شعرى تتغير الصورة إلى منظر أسد مزمجر (عا 1: 2، هو 11:
10). هنا يختلف التشبيه عن النصوص الأخرى، فإن صوت الزئير لا يخرج من صهيون ولا من
أورشليم بل من الأعالى من مسكنه المقدس فى السموات، لأن التأديب لا يصدر ضد الأمم
الوثنية فحسب، بل ضد شعبه أيضا ومدينته.

2 – يزأر الله ليؤدب البشرية المصرة على العصيان، زئيره يشبه صياح
المحاربين.

3 – يسمع زئيره وسط الرعود (خروج 19: 16)، وفى العاصف (23: 19، عا 1:
2، يوئيل 4: 16).

يحذرهم الرب من التباطوء فالكارثة تنتشر بسرعة من أمة إلى أمة، دون
تحديد لأسماء الأمم، كعاصفة قوية تهب من أقاصى الأرض إلى أقاصيها (ع 32).

4 – يصرخ كالدائسين العنب.

5 – أما الرعاة أو سادة القطيع فيطلب منهم أن يولولوا ويصرخوا
ويتمرغوا فى التراب (ع 34)، فقد صاروا ككباش مشتهاة للذبح خلال التأديب والمرارة.

6 – يدخل الرب فى خصومة قانونية ليحاكم كل البشرية (ع 31). كأنه وهو
الديان لا يحكم على الشعوب، بل يسلمهم إلى القضاء، لكى يعطيهم فرصة للدفاع أو
التوبة.

7 – يحذرهم أيضا من السلام الكاذب، إذ يظنون أنهم فى وسط مراعى
السلام يمارسون سلطانهم كرعاة ورؤساء، ولم يدركوا أن الأسد قادم، ومراعيهم تتحول
إلى خراب، ويسقطون تحت السيف بسبب الغضب الإلهى.

مشاركة عبر التواصل الاجتماعي